أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - عجايب















المزيد.....



عجايب


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 5108 - 2016 / 3 / 19 - 01:28
المحور: الادب والفن
    


 
في صدر الزاوية الرائعة من جزيرة الزمالك الواقعة بقلب النيل، كان يقبع المقهى الأنيق الذي اعتدتُ أن ألتقي فيه بأصدقائي بشكل شبه أسبوعي، فنختار يوماً بعد عملنا ونأتي إليه، نتناول المخبوزات الطازجة والأطعمة الشهية والقهوة الأمريكية مشروبنا المفضل، نحتسيها مع أحاديثنا وضحكاتنا التي لا تنتهي.
اتفقنا أن نلتقي الأربعاء  في العاشرة صباحاً على سبيل الاستثناء، إذ كان موافقاً لعيد الغطاس  يوم الإجازة الرسمية التي تمنحها الدولة للمسيحيين . فكانت فرصة أن نذهب إلى هناك لنستمتع بدفء الشمس في نهار شتوي من شهر يناير . كنت أول الواصلين وكما توقعت بدأت أتلقى مكالمات الاعتذار عن التأخير ؛ فالعاشرة صباحاً موعدٌ اعتبره البعض مبكراً جداً.
تعودت المجيء إلى هذا المكان وحدي . أجلس أمام صفحة النيل الخلابة لساعات، لذا لم  أنزعج من تأخرهم، وتركت نفسي للتأمل والإنصات لصوت رقرقات المياه الشجية، والحفيف المحبب الذي يصدره الشجر كلما داعبه الهواء . أخرجت اللابتوب من حقيبتي وبدأت في كتابة مقالي الأسبوعي للصحيفة التي أعمل بها، حتى يصل الأصدقاء.
على مقربة من طاولتي تجلس أسرة مكونة من زوجين شابين، قدّرتُ أنهما في مثل سني تقريباً في منتصف الثلاثينيات، وطفلهما الذي يبدو أنه تعلم المشي لتوّه، فكان يتجول هنا وهناك، محاولاً اكتشاف كل شيء بأصابعه الدقيقة مما تسبب في بكائه عدة مرات.
أخيراً .. وبضجرٍ حمله أبوه الذي كان عليه مهمة تتبعه طوال الوقت عائداً به إلى طاولتهم، وإذ به يعرج متجهاً نحوي، كما لو كان قد لمح شيئاً بشكل مفاجئ، وهو يشير إلى ظهر أحد المقاعد المرصوصة حولي ! لم أدرك مراد الأب للوهلة الأولى إلا عندما حاول الطفل الإمساك به، فإذا بفراشة من ذوات الأجنحة الضخمة المزركشة لمحتُها حين هربتْ منه واقتربت مني، فاصطحب الأب طفله وانصرف مبتسماً.
بعد لحظات شعرت بوخزات خفيفة في رأسي، تحسّست مكان الوخز، فطارت الفراشة ثم حطّتْ على ظهر يدي . داعبت جناحيها الناعمين شديدي الجمال باليد الثانية، فتوقفتْ لحظة عن الحركة كما لو كانت تنتظر شيئاً ما، تناولت تليفوني من فوق الطاولة، والتقطت لها صورة، فسارعت بالطيران  عندما سمعت صوت تكة الكاميرا.
لم أكن طوال حياتي ممن يؤمنون بالعلامات، كأن يقال : إذا ارتجفت عينك اليسرى فسوف يحدث لك مكروه، أو إذا هرشت كفك الأيمن فستحصل على المال، أو مثلما حدث اليوم عندما حطت الفراشة فوق رأسي، فلا بدّ أن أقع في الحب، أو أجد شيئاً كان ضائعاً مني منذ فترة طويلة.
مثل هذه الأمور كانت تجعلني أضحك ممن يعتقدون بصحتها، لذا لم أعتبر أن هناك أي دلالة لوقوف الفراشة عندي بأمان وسكينة، اعتبرت فقط أنها مجرد صدفة أن يتوقف عندي كائن لطيف برقة الفراشة.
طلبت قطعة كرواسان وكوباً من القهوة أحضرهما الجرسون بعد برهة قصيرة، وبينما كنت أشرب القهوة وأرقب المدخل من حين لآخر، لمحت امرأة تتجادل مع رجل الأمن، ترتدي السواد مع طرحة نصف شفافة تخفي بها فمها على طريقة البدو، يتدلّى على جانب رأسها فردة حلق على شكل مخرطة ذهبية معلق فيها ملاليم ذهبية، وتحمل قُفة فوق رأسها بتوازن تحسد عليه.
لاحظت أن الجدال بينهما تحول  إلى شجار مكتوم، هو يرفض دخولها ويزجرها لترحل، وهي تحاول إقناعه بصوت منخفض لكن لحوح.
أشفقتُ عليها، نهضت واتجهت نحوهما وبيدي خمسة جنيهات لأمنحها إياها، فكرت بيني وبين نفسي :
ــ  الناس دول غلابة أوي، أكيد عاوزة تدخل تبيع بضاعتها للزباين وتطلع لها بقرشين، وبتاع الأمن أكيد عاوز يطلع منها بحاجة قبل ما يدخلها.
حين اقتربتُ وتبينتْ ملامحي، لاحتْ في عينيها المكحلتين - الشيء الوحيد الذي يظهر من وجهها - ابتسامة ودودة كما لو كان هناك سابق معرفة، وحين مددت يدي لها بالنقود، تراجعتْ ودفعتْ يدي بعيداً عنها برفق وهي تتأمل وجهي بابتهاج وقالت:
ــ   ما شا الله !! سبحان الخلاج، أنا جيت اليوم لجلك يا ضي العين.
تجاهلت ما قالته ومددت يدي في إصرار بالنقود، لكنها لم تقبلها ثم قالت:
ــ   دخليني، معي شي يهمك ياست نور ؟
اتسعت عيناي دهشة إذ أن اسمي " نورا "، وكثير من أقاربي ينادوني " نور" ، مِن أين لها المعرفة باسمي ؟ وتقول إنها جاءت من أجلي ؟؟ أهي نصابة تريد ابتزازي ؟ فسألتها:
ــ  انتي تعرفيني منين؟
ــ   جاية من بعيد أحكي لك سر وها الحارس ما هو راضي يدخلني.
نظر لها رجل الأمن باستنكار، فتابعت توجيه السؤال لها:
ــ  برضه ما قولتيش تعرفيني منين؟
ــ  خليه يدخلني وأحكي لك.
ــ  انتي بتضربي الودع .. ؟؟
ــ  وأجرا الكف.. وجاية أجرالك الطالع .
لم يزدني كلامها إلا قلقاً، فلم أطلب منها الدخول، ولا من رجل الأمن الذي يعرفني جيداً أن يسمح لها بالدخول، وقلت وأنا أمد يدي بالنقود:
ــ  ربنا يسهلك يا حاجة (رغم أن عيونها تظهر أنها شابة)
أخيراً تقبلت النقود وقالت بلوم وهي في طريقها للانصراف:
ــ  والله تندمي يا بنية أنك ما تركتيني أحكي لك حكاية الغايب.
لم أعرْها اهتماماً، ودخلت لأجلس مكاني ثانية بصحبة سارة التي وصلت في هذه الأثناء ووجدتني على البوابة، فسألتني:
ــ  إيه الحكاية؟
ــ  ولا حاجة شوية تخاريف ما تاخديش في بالك..اتاخرتي كده ليه؟
ــ  راحت عليا نومة.. ما هو عشرة ده ميعاد سيريالي بالنسبة للأجازة.
بدأ توافد الأصدقاء . قضينا يوما لطيفاً . لم أتطرق إلى موضوع البدوية قارئة الكف، أو أحكي عنها أي شيء، فقط حكيت لهم عن الفراشة اللطيفة وأريتهم صورتها، فتحدث مجدي كما لو كان يقلد فيلماً من الخمسينيات:
ــ  إنه الحب
وصاحت سارة:
ــ  ياترى مين ابن المحظوظة اللي هيطلع عين أهله اللي مصدّر الفراشة دي!!
أسقطت نيفين النظارة على أرنبة أنفها وقالت كجدة محنكة:
ــ  عندكم واحدة حامل في العيلة؟ قوليلها هتجيب بنت، كده وش.
رد رفيق زميلي الصحفي وهو يرفع حاجبه الأيمن كأنه مخبر:
ــ  يمكن عمك الحاج بكر باعتها عشان يعرف هتكتبي ايه الأسبوع ده.
ــ  بطلوا كلام عبيط وبعدين فين الحب ده ؟ عطلان فين قولوا لي؟ والا هي تلاكيك!
عند الغروب بدأت نسمات باردة تهب، فقررنا العودة إلى منازلنا .
كان الظلام قد حلّ . حين بدأت أتحرك بسيارتي خيل إلي كأني رأيتها .. البدوية ! تجلس على رصيف بجوار المقهى وتضع القفة إلى جوارها . تابعتني بعيونها وأنا أتفحّصها لأتأكد أنها هي نفسها. لا أعرف لماذا ضاقت نفسي وشعرت ببعض التوجس ؟
 
لم أنم بسهولة هذه الليلة فقد أحاطتني الهواجس بشأن هذه السيدة الغريبة، كيف تعرفني ؟ هل سبق أن رأيتها من قبل ونسيت !! هل هي صدفة أن تخمّن اسمي بشكل صحيح ؟!  ثم من هو الغايب ؟ حدثت نفسي:
ــ  الغايب !! يوووه هو أنا اتجننت والا إيه !! من إمتى وأنا بهتم بالمخرفين دول؟ دي مجرد ست بتشوف البخت وتضحك عالناس بكلمتين علشان تاخد فلوسهم .. نامي يا نورا نامي ربنا يهديكي.
دخلت أمي إلى الغرفة ولاحظت شرودي، والقلق يبدو على وجهي فقالت:
ــ  مالك يا نور؟ في حاجة مضايقاكي يا حبيبتي ؟
ــ  أبدا يا ماما أنا كويسة، بس مرهقة والنهاردة كان يوم طويل، كمان لازم أصحى بدري بكرة علشان أسلم المقال وعندي كذا ميعاد.
ردت أمي بتعاطف :
ــ  مش عاوزة تاكلي حاجة قبل ما تنامي ؟
ــ  لا يا ماما شبعانة خالص.. عاوزة أنام وبس.
ــ  تصبحي على خير.
أطفأت أمي ضوء الغرفة وخرجت وأغلقت الباب، فانزلقت في فراشي أحاول أن أطرد الأفكار من ذهني وأنام.
 
في الصباح مارست كل الطقوس المعتادة دون تركيز . كان ذهني شارداً، وصداع عنيف يضرب رأسي بقوة، في الغالب لم أنم جيداً.
ــ  باي ياماما أشوفك بالليل، عندي مواعيد كتير بوسيلي بابا ونادر لما يصحوا.
وصلت إلى الجريدة، التقيت برفيق على البوابة وصعدنا سوياً إلى مكاتبنا، ألقيت تحية الصباح على من في الغرفة، جاء الساعي، طلبت منه كوباً من النسكافيه، ذهب فأحضره وقال وهو يضعه على المكتب:
ــ  في واحدة ست منقبة جت سألت عن حضرتك من شوية فقلت لها إنك على وصول.
ثم بابتسامة بلهاء:
ــ  ما كانوش راضيين يدخلوها من عالبوابة، قعدت تشتكي لي.. بس قلت مادام من طرف حضرتك يبقى أكيد ست طيبة، ما رضيتش تشرب غير كوباية مية وسابت لحضرتك معايا صرة في البوفيه هاروح أجيبها.
جن جنوني من كلامه، فخفض صوته مع تعبيرات وجهي التي كانت تتحول إلى الغضب تدريجياً، إلى أن نطق بآخر كلمة وكانت بالكاد مسموعة، قلت له بتوتر شديد:
ــ  ودي مين دي بقى إن شاء الله اللي تديلك صرة تديها لي .. ثم بدأ صوتي يرتفع..مش يمكن فيها مخدرات ؟ والا قنبلة ؟
التفت الزملاء نحوي مع نطقي للكلمة الأخيرة، وارتبك الرجل وقال بتردد بعد أن ذهب وأحضر الصرة ووضعها على مكتبي:
ــ  متأسف يا أستاذة نورا أنا افتكرتك تعرفيها.. هي قالت كده.
ازدادت دهشتي وندمت اني أشفقت على حالها فأعطيتها نقوداً، لم أكن أتصور أنها جريئة إلى هذه الدرجة وسوف تطاردني إلى محل عمــ... 
كيف عرفت مكان عملي ؟ من هذه السيدة الغامضة ..هي على الأغلب قارئة الكف التي جاءت إلى المقهى بالأمس، لم أرتَح لكل الموضوع، نظرت إلى الصرة الموضوعة على المكتب، وكانت عبارة عن منديل حريري أخضر معقود ومحشو بشيء ما.
قال أحدهم :
ــ  هي مين الست دي أصلا ؟ انتي تعرفيها؟ أنا شفتها الصبح برضه.. هي شكلها زي البدو ولهجتها كمان .. كانت بتتخانق مع بتوع الأمن عشان مش عايزين يدخلوها.
زعقت زميلة أخرى:
ــ  ما تفتحيهاش بعدين يكون فيها مصيبة.
مددت يدي ألتقط الصرة بتردد، أتأملها شاردة الذهن والأفكار تتزاحم داخلي وتتصارع.. التفَّ جميع من في صالة التحرير حول مكتبي، وعيونهم مسلطة نحو الصرة، فككت العقدة الأولى بسهولة لأن القماش حريري .. وفي الحقيقة كان نظيفاً ذو بريق.
بدأت في فك العقدة الثانية ببطء وقلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي، بسطت الصرة على المكتب، وإذا بداخلها حصوة من الزلط مربوطة بسلك صدئ، وجناح فراشة ملون يشبه جناح الفراشة التي حطتْ فوق يدي بالأمس، وحفنة من الرمال !!
تراجعت إحدى الزميلات وهي تستعيذ بالله، وأخرى شهقت خوفاً وبسمل أحدهم وتمتم آخر :
ــ  الله يخرب بيتك.
موجِّهاً كلامه للساعي المسكين الذي وقف يرقب المشهد من بعيد، وعلى وجهه علامات ترقب وذعر، ثم بصوت مسموع :
ــ  مش هترتاح غير لما تتسبب في مصيبة.
وهمست سارة بصوت مسموع :
ــ  بسم الصليب.
نظرتُ نحوهم بابتسامة مفتعلة على وجهي لأخفي توتري وسألت ساخرة :
ــ   تفتكروا دي عكوسات.
رد رفيق بهدوء:
ــ  إرمي الحاجات دي في الزبالة وما تشغليش بالك، ممكن يكون حد بيهزر هزار سخيف.
ــ  عندك حق بس أصوّرهم الأول، مش عارفة ليه حاسة ان الموضوع ما انتهاش على كده.
التقطت صورة لمحتويات الصرة بتليفوني، ثم لملمت كل شيء وألقيت به في سلة المهملات، شربت قهوتي وذهبت لرئيسي أسلمه المقال، حكيت له باختصار عن السيدة الغامضة حين استفسر مني عن " اللمة " حول مكتبي، ثم استطرد:
ــ  تلاقي حد من زمايلك بيستظرف .. بقولك ايه ما تكتبي حاجة عن الناس اللي بتصدق الكلام ده.
فرددت مبتسمة:
ــ  كنت بفكر فعلا أكتب حوالين الموضوع ده بس كتير تطرقوا له، عشان كده مستنية أفكر فيه من زاوية غير تقليدية.
- طيب ياللا شدي حيلك.
- قريب هتقرا حاجة كويسة.. باي.
الأستاذ بكر محمود صابر، صحفي كبير في الجريدة وهو رئيس مجموعتنا، يشرف على كتاباتنا، ويسدي لنا النصائح ،وهو قليل التوجيهات، مؤمن بأن الكاتب لابد أن يـُـترَك حراً، على الأقل عند البداية حتى تتفجّر طاقاته الإبداعية، ثم يمكن تدريجياً ومع التدريب والوقت أن يفهم ما يطلق عليه اسم : سياسات الجريدة، منهج العمل .. إلى آخره من قيود تحت عناوين براقة.
 
أنهيت المتبقي من عمل وحملت حقيبتي وخرجت من الجريدة، لا أعرف لماذا أخذتني قدماي إلى المقهى، ربما أحتاج أن أخلو إلى نفسي وأعيد تأمل ما حدث.
قمت بإلغاء كل مواعيدي وذهبت، كان قلبي يحدثني أني سوف أجدها هناك في انتظاري، وكأنها وضعت لي جهاز تتبع ترصد به مكان وجودي، صرت أشعر أنها تعرف أين أنا وماذا أفعل !! ترى ماذا تريد مني ؟ لا اعرف.
وكما توقعت، وجدتها .. تجلس على الرصيف المقابل لبوابة المقهى، مجرد أن لمحتني أتت نحوي مسرعة دون أن أناديها، وهي مدركة أني أراها.. أبطأت خطاي ثم وقفت مكاني أنظر إليها محاولة اكتشاف أي سر من مظهرها الذي أراه أمامي.
وقفت قبالتي وهي تغطي فمها وتحدق بي بعيونها المكحلة لدرجة أثارت القلق في نفسي .. قلت محاولة إظهار الثبات حريصة ألا يظهر في نبرة صوتي أي خوف:
ــ   نعم ؟؟ عاوزة إيه ؟ معاكي صرة تانية عاوزة تديهالي؟
ــ  أيوة يا بنية، صرة مليانة أسرار.
حدّثتُ نفسي :
ــ  أنا خايفة ليه ؟وإيه الأسرار اللي الست دي ممكن تكون عارفاها !! هي ما تعرفنيش ولا تعرف عيلتي وأول مرة أشوفها كان إمبارح.. الغريبة بس أنها وصلت لشغلي وده الشيء اللي نفسي أفهم إزاي حصل، وإيه الهدف؟ أنا مش عاوزة اسألها مباشرة علشان ما تحسش اني مهتمة بحركاتها دي.
مش هاسمح لها تتكلم معايا .. وإلا يبقى إيه الفرق بيني وبين الناس المتخلفين، أنا عارفة إنها نجحت في إنها تستفز الفضول اللي جوايا وهي أكيد عارفة ده وبتعمله بحرفية.. بس برضه مش عارفة ليه عندي شعور بالخطر، لأ لأ أنا لازم أرفض كل الكلام الفارغ ده.
دارت هذه الأفكار في رأسي للحظات ثم شرعت في إكمال طريقي متجهة نحو باب المقهى، وهي تسير إلى جواري مصرة أن أصحبها معي إلى الداخل . حين اقتربنا من البوابة رفض رجل الأمن دخولها تماماً، وأصرّ أن عنده تعليمات واضحة بعدم دخول الباعة الجائلين والمتسولين، أو من هم مثل هذه السيدة ( من المتطفلين )، ثم نظر إليها بريبة وقال: 
ــ  آسف أستاذة، حضرتك اتفضلي لكن الست دي لا يمكن.
نظرت نحوها ثم فتحت حقيبة يدي لكي أبحث عن بعض الفكة لأعطيها لها، لا أعرف لماذا شعرت بالذنب أنه لم يسمح لها بالدخول هذه المرة، وكأني لم أستطع حمايتها ..وحين مددت يدي بالنقود رفضت أن تأخذها، ثم وضعت بيدي صرة جديدة تشبه تلك التي تركتها لي مع الساعي.
وسط اندهاش رجل الأمن الذي يعرفني، ويعرف مدى صرامتي  في عدم رفع الحواجز أو التبسّط مع الناس، قلت لها :
ــ  إيه ده ؟ صرة تانية ؟
ــ  لسة ياما في الدنيا.. افتحيها لوحدك.
ــ  ما تاخديش حاجة منها يا أستاذة.
قالها رجل الأمن بهلع وهو يوجه نظره نحو يدي الممسكة بالصرة وكأني أمسك بثعبان، فقلت له لأطمئنه:
ــ  ما تخافش دي مش أول مرة.
التفتُّ نحوها فلم أجدها، اختفت في لمح البصر ! وكأنها كانت مكلفة بمهمة إما أن تتحدث معي أو أن تعطيني الصرة المعبأة بأسرار غير مفهومة.
تابعت السير ودخلت لأجلس أمام صفحة المياه، وأعطي نفسي الفرصة لأتمعن بهدوء في مغزى تلك المطاردة الغريبة، التي لم أعرف هدفها حتى الآن.
غريب هذا المكان .. له سحر خاص في نفسي ! مجرد الدخول إليه واستنشاق رائحة البن المختلطة بنسمات الهواء الرقيقة، ينتابني شعور عميق بالألفة، وأتمنى ان أبقى فيه إلى الأبد.
المرة الأولى التي زرته فيها كانت مع " وليد " صديقي، هذا الانسان الذي لن أنساه ما حييت، أحببته من كل قلبي، لازمني في معظم المواقف الصعبة التي مررت بها منذ بداية عملي في الجريدة . وحتى يوم وفاة أخي كان يقف كتفاً بكتف بجوار أبي الذي كان منهاراً تماماً، ولم يقتصر وجوده فقط في الكنيسة وإنما أيضا شاركنا مراسم الدفن وتلقى العزاء، فقد كان نادر أخي يومها صغيراً لم يتعد الخامسة عشرة.
كان هذا المكان من اختياره، علمني شرب القهوة، وأفخر أني جعلته يتوقف عن التدخين.. كنا نجلس هنا لساعات لا نتوقف عن الكلام .. هيه كانت أيام .. أين هو الآن !! لا أحد يعرف.
تعرفت بوليد عندما التحقت بالعمل في الجريدة، وكان يكبرني ببضع سنوات أربع أو خمس على الأكثر، لكنه كان يتصرف كما لو كان أبي ومسؤولاً عني.. وكان ذلك يستفزني بشدة، فقد تربيت على الاستقلالية والاعتماد على النفس.. طبعاً كنت أجد نفسي أحياناً متورطة في مشاكل أعجز عن حلّها، لم أضطرب أو ألجأ لمساعدة من أحد، فقد كان يظهر دائماً في الوقت المناسب، وبطريقة شديدة البساطة وبأسلوب لين وهادئ للغاية كان يحل المشكلة !
في أحد الأيام طلب من المدير أن أساعده في تقرير صحفي خارج القاهرة، فسافرنا معه، أنا وزميل لي وقضينا عدة أيام، كنا نعمل ليل نهار، لم يكن يترك لنا فرصة كي نستريح، وكان يتحداني بالقول:
ــ  مش عاملة نفسك زي الرجالة !! استحملي بقى.
وكنت أرد :
ــ  هو أنا اشتكيت ؟
ــ  لا بس باين عليكي هتموتي من التعب. ثم يضحك ملء قلبه.
النقاش المستمر أثناء العمل كفريق، والتعامل مع الناس أصحاب المشاكل، والجهات الرسمية المسؤولة التي كنا نلجأ إليها في مواقف كثيرة، كل ذلك أتاح لي أن أرى جوانب رائعة في شخصية وليد، إلى جانب كونه حنوناً رومانسياً، شجاعاً لا يخاف أبداً، ولا يحجب رأيه لأي سبب من الأسباب، صريحاً وغير مجامل.
اكتشفت مع استمرار التعامل معه والتقارب الذي كانت تفرضه علينا أحياناً ظروف العمل، أنه جذاب جداً للنساء، وأيضا متعدد العلاقات النسائية، يتلقى مكالمات ورسائل طوال اليوم، إلى جانب ذلك كتوم لا يفشي أسراراً، شهم لا يخذل صديقاً أو غريباً وثق فيه، ويتعامل بشرف ولا يكذب أبداً.
يعمل بكثرة ويشرب الكحول بلا هوادة.. ولا أعرف لماذا كنت أشعر بالفضول كي أعرف أكثر عن حياته. 
كان مسلماً .. ومن غير الممكن بالتأكيد أن تنشأ بيننا علاقة حب، لكني أحببته بقوة ولم أستطع مقاومة هذه المشاعر أو ضبط تعلقي الشديد به، مما كان له أثر سلبي على علاقتي بزملائي المسيحيين، الذين أخفوا مشاعر الغيرة علي وخاصة رفيق، لكني لم أهتم سوى بوليد.
كان يقول لي :
ــ   لو كنتي مسلمة كنت اتجوزتك فورا وبلا تردد، أصلك أكتر واحدة في الدنيا دي بتفهميني، بس للأسف.
وكنت أضحك قائلة في محاولة مني لكشف أي سر من أسراره:
ــ  والمنافسة الحادة مع نص ستات الكرة الأرضية دي أعمل فيها إيه !! ده انا كنت أروح في الرجلين ياعم.
فينظر لي نظرة من وصلته الرسالة ويضحك بخبث قائلاً :
ــ  على فكرة الظلم حرام.. ده أنا غلبان.
على الجانب الآخر كانت صداماته مع رئيس التحرير لا تنتهي، بسبب ما يصلح للنشر وما لا يصلح، وذلك لعلاقة رئيس التحرير الوثيقة والمفضوحة بالأمن، والتي لا ينكرها ! بل كثيراً ما كان يتشدق ويهدد بفخر أنه مسنود من جهات عليا وناس كبار.
 لم يكن يقف إلى جوار وليد أو يسانده في مثل هذه المواقف غير الأستاذ بكر صديقه الصدوق، والذي تولى رئاسة القسم إلى جانب عمله الأساسي بالجريدة، بعد اختفاء وليد الغامض، والذي لم يستطع أحد أن يفك طلاسمه إلى الآن.
جاءت القهوة فعبــِق المكان برائحتها ومن ثم بدأت الذكريات تتداعى أمام ناظري بمشاهد واقعة اختفاء وليد والغموض الذي اكتنفها، الواحد تلو الآخر.
فمنذ حوالي العامين وتحديداً في صباح يوم الثلاثاء الموافق 27 أبريل ، كنت على موعد مع وليد أنا وزميلي حسن بمحطة مصر، للسفر إلى إحدى قرى محافظة الدقهلية، لتغطية موضوع قيام أهالي القرية بقطع خطوط السكك الحديدية، احتجاجاً على انقطاع المياه المتكرر . وعلمنا من مصادر حصل عليها وليد بمعرفته أن وراء الموضوع قضية فساد كبرى، وإهدار مال عام.
انتظرنا وليد ولم يأت !!
ولم يكن من عادته ان يخلف موعداً دون اعتذار، في الليلة السابقة كنت أجلس معه هنا في هذا المكان نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة دق جرس تليفونه المحمول، فاستأذن أن يرد، ونهض ووقف على بُعد أمتار، مما أعطاني انطباعاً أنها واحدة من مكالماته النسائية التي كان يحرص على ألا يصل حديثه فيها إلى مسامعي، خاصة وأنه لاحظ ضيقي وغيرتي التي لم أكن أستطيع إخفاءها.
عاد إلى المائدة بادياً عليه الإحباط المختلط بالغضب، و يتمتم بسباب مكتوم ثم قال:
ــ  الراجل ابن الكلب اللى كان هيديني المستندات اعتذر، غالبا خاف.
ــ  مستندات إيه ؟
ــ   محطات المية
ــ   وإيه يعني هو الاستدلال عالفساد محتاج مستندات !! في النهاية لن يصح إلا الصحيح وممكن نلجأ للجنة من نقابة المهندسين أو كليات الهندسة يساعدونا في الأمور الفنية واللي بالتأكيد هتوصلنا للحقيقة، أهم حاجة نروح بكرة لأن أهالي كتير منتظرينا علشان نوصل صوتهم للمسؤولين.
رد وليد بعد أن أنصت إلى كلماتي بمنتهى الجدية:
ــ  أحسن حاجة فيكي هدوء أعصابك وكأنك تملكي كل حكمة العالم.. مع أن اللي يدور عليكي يلاقيكي حتة بت مفعوصة لا راحت ولا جت... ثم انفجر ضاحكاً.
ــ   مفعوصة !! ماشي الحق عليا أنا غلطانة أني باساعدك.. شوف بقى مين اللي هيسافر معاك بكرة.
 
انتبهت بعد فترة أني مازلت أقبض على الصرة بيدي منذ أخذتها من قارئة الكف، وانتبهت أيضاً أني لم أفتحها حتى هذه اللحظة، يبدو أن حدسي يمنعني وينبئني بالخطر:
ــ  ساعات الواحد مهما بلغ فضوله بيخاف يفتح صندوق " باندورا " .. يمكن خايفة أعرف أو فاكرة نفسي عارفة، أو ما عنديش رغبة أعرف.. أصل أحيانا بالمعرفة ينفتح باب جهنم....... أوووف مش عارفة.
تركت الصرة على المائدة وعدت إلى أفكاري وتأملاتي.
وليد كان ممن لهم القدرة على إدخالي في عالم من الجنون، لا يحب النوم مبكراً ويعتبره مضيعة للعمر.. يحب الحياة والفنون ويعشق السينما:
ــ  في فيلم جديد نزل ياللا نروح .. على فكرة قبل ما تقولي لأ الفيلم واخد مليون جايزة.
ــ  ما أقدرش أتأخر
ــ  هاوصلك.. ما تبقيش بايخة الفيلم مهم لازم تشوفيه.
ــ  وفين الجيش الجرار من الوظاويظ اللي بيحبوك وطول النهار يطاردوك؟ ما تروح مع واحدة منهم.
ــ  تاني ؟ تاني يا لمبة ( اللقب الذي كان يطلقه علي)، أصل انتي الوحيدة اللي بتفهمي فيهم.. فقلت أحبهم هم وانتي أروح معاكي السينما.
كان أيضاً ممن لهم القدرة على إغاظتي، فأتحول إلى آلة تأكل بلا توقف لأيام، مما ساهم بعض الأحيان في زيادة وزني بشكل ملحوظ فيقول:
ــ  مالك ضربتي كده ليه يا لمبة .. إيه التخن ده كله ؟
ــ  البركة فيك .. بتعرف تنكد عليا كويس أوي.
لم أكن أريد أن أقترب منه للدرجة التي تجعل له تأثيراً على حالتي النفسية، لكن مرت أيام كنت ألتقيه في الصباح ولا أتركه إلا قبيل منتصف الليل ! لم يكن ممكناً الهروب من تأثيره على حياتي برمتها، كان يحرص على حضور معرض الكتاب وتناول الغداء مع الأصدقاء، ثم حضور ندوة ثقافية، ينهي كل هذا بقوله:
ــ  في حفلة ذكر في وكالة الغوري، إيه رأيكم نحضرها وبعدين أعزمكم على رز بلبن من عند المالكي بعد ما نقرا الفاتحة للحسين.. ويلتفت نحوي ثم يقول:
ــ  انتي هاعزمك على " حلبسة " ( حمص شامي ) لكن لازم تقري الفاتحة للحسين.. ثم يغمزني بعينه.
ثم  ينفجر ضاحكاً ويوافقه الجميع، ومن يرفض ينعته بالكسل والنوم، ولا ينتهي اليوم بعد كل هذا، بل يقوم بتوصيل الفتيات لمنازلهن والاطمئنان أنهن بخير، ثم يبدأ سهرة أخرى مع مجموعة أصدقاء آخرين لا نعرفهم ليشربوا معاً. رغم هذا كان يحضر في الصباح باكراً، وكنت أسأله :
ــ  نفسي أعرف بتنام كام ساعة في اليوم؟ وإزاي بتواصل بعد الهلاك ده كله.
 علمني الكثير ودربني أن أبدأ بقول " لأ " وبعدها نبدأ التفاهم.. كان يرى أن الاعتراض واجب، لأنه يكشف جوانب كثيرة ويسلط عليها الضوء، وأننا لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه من حقائق لولا النقاش والجدل والأخذ والرد.
هذه المشاكسة كادت تتسبب في دخوله السجن، ففي أحد الأيام كتب مقالا بعنوان " قل لأ للحاكم "، وكان رئيس التحرير وقتئذ في مهمة خارج البلاد.. فنـُـشِرَ المقال دون علمه، وقامت الدنيا بعدها ولم تقعد سوى بعد عودته من السفر، ولجوئه إلى شخصيات نافذة كي يتوسطوا لدى أمن الدولة لإطلاق سراحه بعد أن  قاموا باحتجازه.. خرج بعدها في قمة الغضب وأعلن الحرب، وأقسم ألا يوقفها إلا بعد أن تنصلح الحال.
 
شردت لدقائق أتأمل حركة المياه الهادئة التي خرجت عن وقارها، وظلت تصفق مداعبة الشاطئ عندما مرت إحدى المراكب الضخمة لنقل البضائع، وكأنها سمعت أفكاري فأصدرت هذا الصخب. نظرت نحو الصرة التي وضعتها على المائدة دون أن أفتحها، ثم صرفتُ نظري عنها لأرنو ببصري إلى إحدى العوامات القديمة الرابضة على الضفة المقابلة من النهر بمنطقة " الكيت كات " .. تذكرت حين سألته مرة عن هذه العوامات وما تثيره داخلي من ريبة، من الجائز أن سببها الأفلام السينمائية، فغالباً ما ارتبطت في الأذهان بأفعال إجرامية كالقتل أو الاغتصاب، أو مسكونة بالأشباح ومهجورة، فكان يضحك من قلبه قائلاً :
ــ  انتي كلك تناقضات، منين لا تؤمني بالغيبيات ومنين خيالك بيصور لك العوامة المسكونة بالأشباح وهذه الأشياء!! العوامات دي كانت مملوكة لناس من علية القوم، وفي مقولة شهيرة بتقول لو صحفي قاعد في مركب طول الليل جنبها في الزمن القديم كان يقدر يعرف أسرار مصر وأحوالها السياسية والاجتماعية لأنها كانت تضم سهرات الباشوات والناس الكبار..بيقولو كمان إن نجيب محفوظ عاش 25 سنة في عوامة حسين دياب باشا، لكن بعد حادثة غرق طفلة في النيل عزّل منها، وبعدها بيقولوا كتب روايته المشهورة  "ثرثرة فوق النيل".
تذكرت كل هذا وابتسمت دون إرادة مني وحدثت نفسي:
ــ  ياترى انت فين ياوليد !! الحياة ملهاش طعم من غيرك.. لا احنا عارفين انت عايش والا ميّت محبوس والا حر!! يا ترى شايفنا عارف عننا حاسس بينا؟ والا انت خلاص عند ربك.. جوايا إحساس بيقول انك عايش .. جوايا يقين بيقول انك مش من السهل تستسلم أو يقدر عليك حد.. لكن فين!!
 
في ذاك اليوم، بعد انتظارنا الطويل لوليد في محطة مصر، عدنا أنا وحسن إلى الجريدة ننوي الاتصال ببيته الذي يعيش فيه مع والدته، والاطمئنان عن سبب عدم مجيئه في الموعد المحدد، ولكن حين وصلنا علمنا أن والدته هي التي بادرت بالاتصال، لتبلغ عن عدم عودته إلى البيت بالأمس منذ أن خرج في الصباح.
سألني الأستاذ بكر عنه لأنه يعلم أننا أصدقاء، وقد لاحظ على الأغلب أني أكنّ له مشاعر حب غير معلنة، أبلغته أننا كنا معاً في المقهى، وأوصلني إلى بيتي قبل عودته إلى منزله، ولم يقل أن لديه أي لقاءات أخرى في هذه الليلة.
أبلغنا أقسام الشرطة وبحثنا في المستشفيات، وسأل الأستاذ بكر جميع الأصدقاء المشتركين بينهما وآخرين عنه لعله في رفقة أحدهم.. وظللنا على هذا الحال نسأل هنا وهناك ونبحث ويبحث الزملاء وحتى رئيس التحرير لعدة أسابيع لكن .. بلا فائدة، حتى أصابنا اليأس.
مرت علي فترة عصيبة وطويلة، لا أتوقف فيها عن البكاء ولم أستطع العمل كما كنت من قبل، وسافرت عند خالتي في سوهاج هرباً من أجواء القاهرة الكئيبة حيث رأت أمي أن حالتي تتراجع بشدة ولا أستطيع النوم. 
كانت أيام تمضي، أقضي فيها اليوم بالكامل في المقهى، لا أكتب أو أتحدث مع أحد، شاردة أتأمل النيل والعوامة على الضفة المقابلة ثم أعود عند الغروب إلى البيت، أدخل غرفتي وأغلق بابها دون كلام، وأنام حتى اليوم التالي نوماً سيئاً متقطعاً، وحين أستيقظ أفعل الشيء نفسه، فأذهب لأجلس في نفس المكان.
بعد فترة انقطاع عن العمل اتصل بي الأستاذ بكر الذي حزن حزناً كبيراً للاختفاء الغريب لصديقه، وقال لي:
ــ  وبعدين يا نورا !! هترجعي شغلك إمتى؟ تفتكري لو وليد موجود بيننا دلوقتي كان هيرضيه حالتك دي ؟
ــ  مش قادرة يا أستاذ بكر.. انا مش مركزة ولا عارفة أفكر ولا عارفة أعيش من أساسه، تعرف لو حد قال لنا أنه مات كنت ارتحت.. لكن ده احنا ما نعرفش عنه حاجة.. وبصراحة الموقف ده عامل لي شلل في تفكيري ومخليني دايما في حالة انتظار لشيء ما، يمكن خبر يمكن معلومة يمكن هو .. مش عارفة.
جاوبني وصوته حزين وإن كان يحاول أن يبدو متماسكاً :
ــ  كلنا عندنا نفس الشعور بالحيرة والعجز والغضب من العجز ده، لكن مافيش طريقة غير اننا نواصل حياتنا ونستمر لحين ما يجدْ في الأمور أمور.. أرجوك إرجعي شغلك يا نورا ومع بعض نفكر أفضل بكل تأكيد.
بعد تردد ولحظات صمت زفرت باستسلام وقلت:
ــ  حاضر يا أستاذ بكر، بكرة ان شاء الله.
ــ  شكرا يانورا أيوة كده هي دي نورا الشابة الجدعة اللي كان وليد بيعتمد عليها.
طفرت الدموع من عيني واختنق صوتي بعد أن سمعت كلماته الأخيرة..  " كان " !! يعني وليد خلاص انتهى؟ وجدت أمي بجواري تلقفتني بين ذراعيها فأجهشت بالبكاء.
 
مددت يدي نحو الصرة الموضوعة على المنضدة أمامي، وفتحتها دون أن أحركها من مكانها، فقد تكون ممتلئة بالرمال كالسابقة، وكما توقعت كانت تحتوي حفنة من الرمال وجناح فراشة بالإضافة إلى ورقة صغيرة مطوية على شكل مثلث، حين فتحتها وجدت مرسوماً فيها خريطة متناهية الصغر، وكلمات مكتوبة بخط صغير جداً لم أستطع أن أقرأها أو أفهمها.
شكل جناح الفراشة يشبه كثيراً الجناح في الصرة الأولى، لذا فتحت ألبوم الصور على تليفوني المحمول وقمت بمقارنة شكل الجناح بالصورة فوجدت تطابقاً، وكأنها فراشة واحدة قطع جناحيها، عدت مرة أخرى إلى الورقة، وحين دققت وجدت في أسفل الورقة.. يا إلهي!! هل هذه  كلمة " بكر " !!
عندما لمحت الاسم ارتعدت وأنا جالسة في مكاني، وشعرت أني وقعت في هوة سحيقة.. ترى هل هذه رسالة !!
منْ يمكن أن يكون قد أرسلها ؟ .. وليد ؟! وليد على قيد الحياة ؟ ما هذه الألغاز.. جناح فراشة .. حجر مربوط بسلك صدئ في الصرة الأولى .. ورمال .. ما معنى كل هذا ؟ تقول البدوية :الغائب ! هل تقصد وليد ؟ حتماً .. وإلا ؟ لماذا اسم بكر بالذات مكتوباً في الورقة ؟ واضح أن المرسِل يريدني إيصال رسالة إلى الأستاذ بكر ،  ما هذه الطلاسم ..!

نهضت واتجهت نحو الباب مسرعة أبحث عن قارئة الكف حول المقهى، لعلها تكون جالسة على الرصيف كما فعلت من قبل .. لكني لم أجد لها أثراً.. دخلت مرة أخرى لأدفع الحساب، وحملت حقيبة يدي واتجهت مسرعة نحو سيارتي لأعود إلى الجريدة مرة أخرى، بعد أن اتصلت بالأستاذ بكر وتأكدت أنه مازال موجوداً هناك، قلت له:
ــ  في موضوع مهم جدا يا أستاذ بكر ومتعلق بوليد، أرجوك ما تمشيش أنا في الطريق وعاوزة أتكلم مع حضرتك ضروري.
ــ  أوكي يا نورا مستنيكي.
ولجْت من باب الجريدة وصعدت السلالم قفزاً حتى الدور الخامس.. لم أنتظر المصعد، واندفعت مسرعة من مكتب سكرتارية الأستاذ بكر إلى مكتبه مباشرة دون سلام أو استئذان، وسط اندهاش الموظفين الذين اعتادوا على حرصي الشديد على أصول اللياقة.
كانت أنفاسي تتلاحق حين دخلت المكتب فدعاني إلى الجلوس قائلاً:
ــ  خدي نفسك .. تشربي إيه ؟
ــ  لا مافيش وقت ..عاوزاك تحل لي اللغز ده يا أستاذ بكر
وأخرجت من حقيبتي الصرة الجديدة، وفتحت تليفوني لأريه صور محتويات الصرة الأولى، فقال بهدوء:
ــ  بالراحة بس بالراحة عشان أفهم
ــ  حاضر حاضر .. دلوقتي تفتكر حضرتك دي خريطة إيه ؟ وليه اسم حضرتك مكتوب ؟ وايه معنى الرموز دي كلها؟
صمت لبرهة وهو ينتقل بعينيه بين محتويات الصرة الثانية وصورة محتويات الصرة الأولى، وكأنه يقارن بينهما في محاولة لإيجاد شيء مشترك .. وراح يمعن النظر في الخريطة، محاولاً الربط بينها وبين أي مكان  معروف لديه، ثم رفع سماعة الهاتف وقام بالاتصال بأحد الرسامين المتميزين في الجريدة:
ــ  تعالى لي شوية يا يوسف، وهات معاك الكمبيوتر بتاعك وعدسة مكبرة.
دخل يوسف حاملاً اللابتوب وحيّاني دون ابتسامة حين لمح الجدية على وجهينا، واستشعر أننا نبحث عن أمر خطير، مدّ يده بالعدسة للأستاذ بكر ثم جلس بعد أن أذن له، وبعد أن أمعن النظر من خلال العدسة على الخريطة ناوله إياها قائلاً:
ــ  مش عارف يا نورا إذا كانت دي خريطة من أساسه والا شوية شخابيط.. كمان مش متأكد أن الاسم المكتوب هو كلمة بكر .. ثم وجه كلامه ليوسف عاوزك تبص في الخريطة دي وتحاول تطلع منها بأي حاجة يعني مثلا تفتكر المكان ده في القاهرة والا خارجها !! في أي معالم واضحة بالنسبة لك فيها ؟ ولو ممكن تحاول ترسم خطوطها وتربط بينها وبين أي بقعة على خريطة مصر.
نظر يوسف باندهاش فقد كانت الورقة مربعة لا يزيد بُعْدا ضلعَيها عن عشرة سنتيمترات، وعلامات طيها على شكل مثلث زادت من عدم وضوح المدون بها.
أطرق الأستاذ بكر رأسه ثم قال بهدوء موجهاً كلامه لي :
ــ  متهيألي كمان لازم تلاقي الست البدوية .. قارئة الكف دي.
نظرت نحوه مستفهمة وسألته:
ــ  ليه ؟
ــ  من سردك للحكاية متهيألي معاها مفاتيح الموضوع.. لا مش متهيألي ده أنا شبه متأكد.
 
لم نصل إلى شيء في هذا اليوم، ومحاولات يوسف معرفة المكان فشلتْ . فقررنا أن نفكر بهدوء ثم نلتقي في الغد لعلنا نمسك خيطاً يفسر تلك الرموز إذا ما ظهرتْ البدوية مجدداً.
ــ  خليكي أوصلك يا نورا، بلاش تسوقي،  حاسك مرتبكة كده وأفكارك مشتتة.
ــ   معلش.. محتاجة أمشي لوحدي شوية، متشكرة جدا، أشوف حضرتك بكرة.
 
كان المساء قد حل حين خرجت من مكتبي، وكانت سيارتي في الجراج، فتركتها وذهبت لأمشي في الشارع الطويل الهاديء بحي المعادي، الذي تقع فيه الجريدة ولو لدقائق معدودة، فقد كنت أحتاج أن أفكر بهدوء وأصفي ذهني وأستعيد الأحداث وأعيد ربطها من جديد.
يوم التقيت بأصدقائي في المقهى، الفراشة التي حطت على رأسي ووقفت على ظهر يدي، البدوية قارئة الكف، انتظارها لي خارج المقهى والرسالة التي كانت تود إيصالها لي.. وليد الحاضر بقلبي وعقلي دائما والغائب عن دنياي منذ سنتين تقريباً .. إذا كان وليد المقصود، فما هو الرابط بالضبط بين ما تريد قوله البدوية وغيابه والأستاذ بكر؟ هل وليد هو في مأزق ويريدنا أن نتحرك لإنقاذه ؟ وليد .. أين أنت يا وليد؟
أثناء سيري في الشارع وبينما كنت أحدث نفسي، لمحت السيدة قارئة الكف في نهايته فأشرت إليها أن تقترب، أسرعت نحوي قائلة:
ــ  حاضرة علشانك يا ست الحلوين
ــ   أنا كمان عاوزاكي، بس قولي لي الأول اسمك إيه؟
ــ  عجايب
ــ  وإيه العجيب في السؤال ده؟
ــ  إسمي عجايب ياشابة.
ــ   ياااه معلش مافهمتش .. إسم غريب أوي. طيب يا عجايب أنا محتاجة اتكلم معاكي وأسمع منك تعالي معايا الجريدة في مكتبي نتكلم شوية.
ــ  ماشي لكن الوجت ضيج.. لابد تعملي أي شي بسرعة.
ــ  أعمل أي شيء في إيه؟
ــ   في الراجل اللي عندينا.
ــ  راجل مين ؟ لااااا تعالي نطلع مكتبي ونتكلم بهداوة عشان أفهم.
ــ  وعلى إيه المكتب ما احنا هنا بخاطرنا وما حد راح يستغرب انك منادمة علي وجايباني لمكتبك.
وجدتها محقة فطلبت منها انتظاري وذهبت لأحضر سيارتي من الجراج، وحين عدت حيث تركتها لم أجدها !! ، درت حول المكان عدة دورات بحثاً عنها لكنها تلاشت وكأنها لم تكن موجودة منذ دقائق تحدثني وأحدثها ! كدت أنفجر من الغيظ، وظللت أؤنب نفسي أني لم أصطحبها معي إلى الجراج:
ــ  غبية .. كنت أقرب ما يمكن من حل اللغز .. مين عارف هتظهر تاني إمتى والا مش هتظهر تاني خالص. مافيش قدامي غير الانتظار.
لكن هذا الانتظار امتد حتى يئست من ظهورها مرة أخرى .
لم أتخلص من تأثيرها فكانت تأتيني في الأحلام وتضع أمامي تلال من الصرر الحريرية الخضراء، صغيرة الحجم وكبيرة وتدعوني إلى فتحها .. وحين أقترب لأمسك بها يتحول التل إلى جبل من الرمال الناعمة، أغرس أصابعي فيه فإذا بوخزات ويتحول جبل الرمال إلى جبل من الفراشات الملونة التي تطير محدثة سحابة سوداء تحجب الضوء. كوابيس ونوم قلق.
شحب وجهي ونحل جسدي وظنت أمي أني مريضة، وأصرت أن تعرضني على طبيب لتطمئن، ثم كانت تصطحبني لنوقد الشموع ونقدم القرابين لمار جرجس، وتقف طويلاً تتضرع وتتوسل ألا تفقدني أنا أيضاً بعد أن فقدت أخي من قبل . كنت أطاوعها لأني أشفقت عليها، ولكن هذا لم يغير شعوري بالحيرة والانتظار الذي ارتسم على ملامحي بالذات كلما زرت المقهى.
كنت أتوقع أن أقابلها مرة أخرى، لا لم يكن مجرد توقع لقد تحول إلى أمنية أحلم أن تتحقق، وبت على يقين أن تلك المرأة معها مفتاح سر اختفاء وليد.
مر أسبوعان منذ أن ذهبت . وفجأة في صباح أحد الأيام وجدتها تجلس على رصيف المقهى وبجوارها قفتها !
اتجهت نحوها وأنا أحاول ألا أبدو في لهفة، واصطنعت الهدوء عندما اقتربت منها، فإذا بها ترفع عينيها نحوي ثم تنظر داخل قفتها بلا اهتمام أنها رأتني، فقلت :
ــ  هو لعب عيال !! أنتي رحتي فين؟ أسيبك وأروح أجيب العربية أخرج ألاقيكي مشيتي ؟
ــ  صباحك نور زي وجهك البنور، والله غصب عني، نادموا علي.
ــ  هم مين.
ــ  ما أجول.
حاولتُ السيطرة على غضبي وابتسمت ابتسامة تدل على أني غير مهتمة، وقلت لها :
ــ  في جنينة قريبة من هنا تحبي تيجي تشوفي لي الكف ؟
ــ  أي خدمة يا ست انا خدامتك.
ــ  أنا عاوزاكي تحكي لي حكاية الراجل اللي عندكم.
ــ  راجل ! ..أي راجل ؟ الغايب؟
ــ  أيوة بالظبط.
ــ  الغايب غايب ياست.. ضل الطريق وما يرجع إلا إذا لوّحتي له بمنديلك.
ــ  طب قومي معايا نروح الجنينة مش معقول أفضل واقفة جنبك في الشارع كده.
كنت أشعر أنها تتصرف ببرود متعمد وتحاول ألا تبوح بشيء واضح كما فعلتْ من قبل، لدرجة تصورتُ أنها تراجعت ولن تدلني على شيء، أو أن الموضوع فيه سوء فهم، وأن شدة لهفتي على فك طلاسم اختفاء وليد هي التي تدفعني كي أتمسك بهذه السيدة، لعلها تكون آخر أمل في العثور عليه.
أخيراً نهضتْ بتثاقل وحملت قفتها على رأسها ومشت إلى جواري تعدو، إذ كنت أسرع الخطى خشية أن يراني أي من زملائي أو أصدقائي، الذين طالما سخرتُ من شغفهم بمثل هذه الأمور، كقراءة الطالع والكف وما إلى ذلك.
وصلنا حديقة الأسماك وجلستُ على مقعد خشبي وافترشتْ هي الأرض . أخرجت صرة كبيرة من القفة وفتحتها وفردت فيها الرمال، ثم أعطتني قوقعة وقالت :
ــ  وشوشي الدكر.
تناولت القوقعة بحذر وكنت لا أدري ماذا أفعل بها، لاحظتْ حيرتي فكررت كلامها مرة أخرى أن أهمس لهذا الدكر الذي أعطتني إياه، فطاوعْتُها وقربته من فمي، ثم أزحته وقلت لها :
ــ  أقوله ايه ؟
ــ   أطلبي اللي تتمنيه يا بنية.
همستُ للقوقعة، قلت لها أعيدي لي وليد، قلت لها أتمنى أن يعود الغائب.!!
هل جننتُ ؟ هل هزمني عقلي وأعْجزني ضعفي !! نعم .. الإنسان في ضعفه يؤمن باللامعقول، حتى لو كان أن أتحدث إلى قوقعة وأنتظر من تلك الجاهلة أن تحل مشكلتي وتذلل لي الصعب . مؤكد جننتُ، يا للعار ! ماذا لو عرف الأستاذ بكر ما فعلت ؟ أو رفيق بعد ثقته الكبيرة بي! ماذا لو رجع وليد وعرف أني تهت وضاع مني الطريق إلى هذه الدرجة .. لكني مددت يدي شاردة الذهن إليها بالقوقعة !
ظلت البدوية تلملم القواقع وتهمس لها، ثم ترميها على الرمال المفروشة على قطعة القماش على الأرض.. وأخيراً قالت:
ــ  بكر.. سر الغايب عنده.
ــ   بكر مين ؟ قصدك الأستاذ بكر؟ اللي معانا في الجرنال؟
ــ  أي يا ست نور.. سيدي بكر
نظرت لها مندهشة، ما هذا !! هذه البدوية تعرفنا جميعاً ؟ في البداية ادعتْ أنها أتت من أجلي في المقهى، ها هي تعرف اسم الأستاذ بكر، هي بكل تأكيد تعرف شيئاً عن وليد.. فهو الإنسان الوحيد المشترك بيننا، وهو الغائب عنا منذ عامين، حقيقي أننا يئسنا من محاولات البحث عنه، ولكن ظل بداخلنا جميعاً شعور غامض أنه لم يمت، وأنه على قيد الحياة في مكان ما.
قالت بشرود :
ــ  الغايب مصاب وماهو جادر يوصلك.
فرددتُ بهلع:
ــ  مصاب يعني ايه ؟ مريض والا مجروح ؟
لم تردّ ومرت لحظات ثقيلة إلى أن استدارت نحو قفتها، وأخرجت قميصاً أبيض ملطخاً بدماء جافة تنتشر في أجزاء مختلفة منه، أفزعني منظره، شهقتُ ونهضت من مقعدي .. كدت أن أصرخ، أليس نفس القميص الذي كان يرتديه وليد في اليوم الأخير لنا معاً أي في نفس ليلة اختفائه ؟!! أم أنه مجرد توقع ؟ يُخَيَّل إليكِ اِهدئي .. إنه مجرد قميص رجالي أبيض عادي، متسخ قليلاً، والقمصان تتشابه..ماذا دهاكِ ؟؟ وكيف يخطر لكِ كهذه السذاجة ؟ 
رددتُ عيني بين البدوية وبين القميص، كان قلبي يخفق بشدة، والخوف يعتريني، وفزع من أن تخبرني البدوية بسوء يمسّ وليد، لكنها نظرت نحوي أخيراً وقالت:
 
ــ  حي يرزج ياست نورا بس راجد ماله حول ولا جوة، ينطج لسانه لكنه لا يجدر يمشي من شدة الضعف.
ــ  راقد ؟ يعني مشلول والا مريض؟ أرجوكي فهميني.
ــ   ما عنديش إذن أجول أكتر.. فوتك بعافية يا بنية .. لو تريدي توصلي له شي آني خدامتك.
فتحت حافظة نقودي وأخرجت كل ما فيها من نقود وأعطيتها لها وقلت:
ــ  أرجوكي توصلي له الفلوس دي، والخمسين جنيه دي لك أنتي..إمتى أقدر أشوفك تاني وتعرفيني مكانه ؟
ــ   ما بعرف يا ست نور.. لكن والله اللهفة في عينيكي تلين الحجر.
ظللت ألتقي مع عجايب لأسابيع متصلة دون أن أخبر أحداً، وكانت تحكي لي عن وليد حكايات قصيرة لكنها أراحت قلبي فقد كانت تحمل لي رسائل شفهية منه. كنت أغدق عليها بالنقود كما كنت أعطيها نقوداً لتسلمها له كي يستطيع التغلب على الظروف القاسية التي حكت لي عنها. قالت إنه محروم من الماء ومحبوس في زنزانة حجرية منحوتة في جبل بعيد.
ــ  اللي خطفوه يا ست نور عذبوه وكسروا دراعاته ورموه في الصحرا.
ــ   مين هم اللي خطفوه ؟
ــ  أنا ما بعرف لكنهم ناس كبار وعندهم سلطان، يؤمروا ويطاعوا.
ــ   طيب الحاجات اللي كانت في الصرتين اللي سلمتيهم لي كان مين اللي باعتهم ؟ وليد ؟
ــ   الحاجات اللي في الصرة باعتهم ملك الجبل ليعطيكي إشارة عن الغايب.
ــ   ملك الجبل .. مين هو !!
ــ  ما أجول .
ــ  طيب إيه معنى الحجر المربوط بسلك مصدي ؟ وجناحات الفراشة المقطوعة ؟
ــ  الغايب مربوطة رجليه وعم ينزف وماهو عارف يتحرك، والجناحين ..
صمتت لبرهة ثم أكملت:
ــ   دراعاته مكسورة يا ولداه.
آه يا حبيبي يا وليد يا قلبي عليك..سلك صدئ يدمي ساقيك، لم أتوقع أن يكون لك علاقة بكل هذه العلامات.. كنت أتوجّع، لكنها طمأنتني أن هناك من يعتني به ويداوي جروحه.
 عشت حلم اللقاء بوليد مدة تقرب من الشهرين، كنت ألتقي بها أحياناً بشكل يومي . وكنت أبحث عنها كالمجنونة لو مرّ يومان ولم أعثر عليها لتحدثني عنه. تحققت إذاً نبوءة الفراشة التي حطت على رأسي، و كنت كمن وقع في أسر الحب.. عشت قصة وَلَهي بوليد الغائب عني والقريب مني، بالرسائل التي تحملها عجايب منه إلي، ولكنها لم تسمح لي بأن أعرف مكان هذه الزنزانة، ومن هم الذين يحبسونه ؟ وهل من نهاية لهذا الأسر ! صبرت لعلي أحصل منها فيما بعد على أي معلومة تساعد في الوصول إليه.
كنت حتى ذلك الوقت لم أبلغ أحداً بما عرفت، خشيت ان أذكر مصدر المعلومات فلا أنال إلا السخرية والتشكيك بالأمل الذي بتّ أحلم بتحقيقه، إلى أن غابت البدوية لأسبوع كامل ! أين اختفت ؟ وكيف لم تعد تظهر في أي مكان ؟ لا أعرف . وكانت فترة من أسوأ فترات حياتي، فهل سأفقد وليد ثانية بعد تأكدي أنه حي ؟
الفترة التي غابت فيها عجايب منحتني فرصة لتأمل الوضع برمته، اتضح لي أني أساهم بلا قصد في استمرار غياب وليد دون ان أحرك ساكناً، أو أحاول أن أكتشف أين هو مسجون، واكتفيت بتلقي رسائله من قارئة الكف .. لا أدري لماذا لم أبلغ الشرطة أو حتى الأستاذ بكر.. ربما خشيت أن تعرف البدوية فتخاف وتهرب لأفقد أثره وأثرها كما حدث الآن !
 
عندما طال غيابها، فكرت أنه من الأنسب أن أخبر الأستاذ بكر الذي كان دائم السؤال عن أحوالي مؤخرا،ً فقد لاحظ تغيير حالي وخروجي المستمر في أوقات العمل دون سبب واضح . رفيق أيضاً كان يسألني من حين لآخر:
ــ  نفسي أعرف بتنسحبي في نص النهار كده كل يوم والتاني وتروحي على فين ؟ بتحبي جديد
ــ  طبعاً .. مش باين عليا والا ايه ؟
ــ  لا باين باين أوي.
كان رفيق يغضب حين يرى عمق علاقتي بوليد، المسلم أولاً ولأني كنت أنسى كل الناس في وجوده ثانياً، وكان يغار من أن أولي اهتماماً خارج دائرته، كذلك لم يكن يغيظه أكثر من منافستي له وتقدمي في العمل، لكن هذا لم يمنعه من أن يكنّ لي ما هو أكثر قليلاً من مشاعر الزمالة والصداقة، تجاهلتها مع استحواذ وليد على مشاعري. 
قبل أن أقدم على هذه الخطوة وأخبر الأستاذ بكر، ظهرت عجايب مرة أخرى، ففي أحد الأيام وجدتها في انتظاري بالقرب من جراج الجريدة، فرحت فرحة غامرة كما لو كنت وجدت وليد نفسه، كدت أن أحتضنها، لم أصعد إلى مكتبي، وصحبتها إلى المقهى وقد سمحوا لها أخيراً بالدخول معي، أصرّت هي أن تفترش الأرض، وأبت تماماً أن تجلس على مقعد أمام الطاولة، فسمحت لها بأن تفعل ما تريد برغم اعتراض الجرسون.. قالت لي:
ــ  عندي خبر يفرحك يا ست النور.
ــ  إيه ؟ وليد راجع ؟
ــ  لا ماهو راجع لكنك هتنضريه
ــ  إزاي يعني في الحلم ؟
ــ  عطيني كفك
مددت لها يدي فاتحة كفي كما لو كنت أتلمس أي جديد، فتمعنت فيه لحظات، ثم أشارت بسبابتها نحو خط معين ضمن ملايين الخطوط المحفورة في يدي وقالت:
- أهه .. راح تنضريه هالمسا ساعة المغربية.
حتماً لو صدّقتُها لنالني لقب : مجنونة، نظرت نحوها بريبة، وأنا أبتسم :
- هه وإيه كمان !!
  - ما مصدجاني ؟
- بصراحة لأ .. انتي شايفاني مجنونة ؟ إزاي أصدق كلام زي ده!!
  - الله يسامحك يا ست النور
  - أصله كلام ما يدخلش العقل برضه يا عجايب.
- أنا جلت لك راح تنضريه... سكتت لبرهة ثم أكملت لتلات أيام، لو ساعة المغربية تيجي وما تنضري اللي جلت لك عليه ما تصدجيني بعد اليوم.
أغمضت عينيها، ثم قالت وقد تغيرتْ نبرة صوتها ، تتكلم كما الحكماء:
ــ   أنتي مختارة من بين العباد لجل النور اللي في وجهك وجلبك.. ربك اختارك تعرفي اللي ما يعرفه أحد.
قالت كلماتها هذه وتركتني شاردة الذهن، وذهبت بعد أن أعطيتها مبلغاً كبيراً لأنها أخبرتني بأنه - أي وليد - في أشد الحاجة للمال وقد نفذ كل ما أرسلته إليه في السابق لأنه يشتري خروجه من الزنزانة لدقائق يرى فيها الشمس يومياً، ويشتري الماء، كما أنه يدفع ثمن عدم ضربه بالسياط يومياً.
ولكن .. متى سيتحرر من أسره  يا عجايب ؟ فقالت إن هذا الأمر ليس بيدها، وأن هناك من لا يريدونه أن يتحرر، أناس لهم نفوذ وسلطان كبير !
 
قضيت اليوم بالكامل في المقهى أنظر للنيل والمياه المتدفقة بين ضفتيه، أحرص ألا أترك المشهد أمامي لحظة، وأتأمل العوامة القديمة من حين لآخر، كانت نسمات الهواء الربيعية اللطيفة تداعب وجهي بنعومة فكدت أغفو، وبدأ النهار ينسحب ليخلي المجال لغروب الشمس الذي يتسرب سريعاً في الأفق.
فجأة لمحته !!!
وليد ؟؟ نعم .. هذه هيئته .. ها هو يأتي من بعيد من جهة العوامة وكأنه انبثق منها، قادماً مقترباً نحوي، نهضت ..أمعنت النظر لأتأكد أن ما أراه ليس وهماً، ما للجالسين لا يدهشون من مرآه ؟؟ هل لا يرون ما أرى ؟ هل لي القدرة على استشفاف الأمور وسبرها ليست للآخرين ؟ طالما شعرتُ أن هناك رابطاً غامضاً بيني وبين تلك العوامة، ها ؟؟ إنه يخطو فوق الماء كما لو كانت أرض صلبة تحت قدميه، اقترب أكثر.. آه ~ كم أصبح جسده نحيفاً، وشعره قد طال وأصبح له لحية، كأنه  يرتدي نفس القميص الأبيض الذي كان يرتديه ليلة اختفائه ؟ نعم نفسه .. ولكني لا ألمح بقع الدماء، أراه أبيض ناصعاً..  ولكن لماذا يومئ لي برأسه ولا يحييني كعادته ؟ آه يا إلهي ~ أرى ذراعيه عاجزتان عن الحركة وكأنهما ثابتتان على جانبيه.
اختفى ! أين اختفى فجأة ؟؟ 
مسحتُ بعيني صفحة النيل فلم أجده، دققت النظر في العوامة البعيدة على الضفة المقابلة فوجدت المنظر العادي المألوف لها. مع انسدال ستار الليل زال كل أثر لما رأيت !
انسابت دموعي ولم أصدق نفسي، هل أنا متوهمة؟ هل رأيت وليد منذ دقائق يمشي فوق الماء فعلاً ؟ ماذا أقول لزملائي؟ للأستاذ بكر؟ ألن يقولوا إني فقدت عقلي؟ أنا أشعر بالضياع.. أنا مريضة، أحتاج لمساعدة طبيب، أو هل أذهب لأحد القساوسة لأستشيره في حالتي ؟!
خرجت من المقهى أمشي كالتائهة، لدرجة أني قابلت مجموعة من أصدقائي في طريقهم إلى المقهى، فألقوا علي التحية لكني لم أستطع الرد عليهم . أشعر كمن يمشي بصعوبة في رمال ناعمة تنغرس فيها ساقاه حتى الركبتين.
 
أخيرا وصلت إلى البيت، وذهبت في نوم عميق، فقد كنت مرهقة للغاية وأشعر ببرودة وجسدي كله ينتفض.
لم أستطع الذهاب لعملي في اليوم التالي. جاءت أمي لتوقظني، وجلست بجواري تتأملني بقلق ثم قالت لي:
ــ  مالك يا بنتي ؟ انتي خضتيني عليكي، هو في أخبار عن وليد ؟ انتي طول الليل بتنادي عليه.. دخلت الأوضة كذا مرة بالليل على صوتك..أبوكي قلقان أوي عليكي.
ــ  أيوة يا ماما أنا شفت وليد.
ــ   معقول ؟ رجع ؟
ــ  لا شفته بطريقة تانية.
وحكيت لها بالتفصيل ما حدث معي منذ اليوم الذي قابلت فيه عجايب، وحتى رؤيتي لوليد يمشي فوق الماء بالأمس، ورجوت أمي أن تنتهز الفرصة وتأتي معي لأنه سوف يظهر اليوم أيضاً وفي الغد. 
ظلت أمي تتأملني ذاهلة، تتحسس جبهتي تارة، وتارة أخرى تتحسر علي، ولكني لم ألتفت لكل هذا، وعاودتُ رجاء اصطحابي في عصر هذا اليوم لتراه معي بنفسها، فما كان منها إلا أن طاوعتني مستسلمة أمام إلحاحي . وظلت تحدثني طويلاً عن الكرامات ومعجزات القديسين، فأمي ممن يؤمنون بتلك الأشياء، ولعلها تصورت أني سأحقق معجزة وقد يمكنني شفاء المرضى وحلّ مشكلات الناس. اقترَحَت أمي أن نمر على الكنيسة ونحن في طريقنا إلى المقهى، حتى نأخذ المزيد من البركة من القس الأكبر، ذلك لأنه سيعظ اليوم بمناسبة بدء الصوم الكبير، وأمي معتادة على حضور طقوس هذه المناسبة كل سنة، فوافقتها دون حماس على ألا نتاخر وألا تخبر أحداً من القساوسة..أربكتُ أمي وأعتقد أن معرفتها بالموضوع سوف تزيد من تعقد المشكلة.
انتهينا من الصلاة وخرجت من الكنيسة في عجالة وتوجهنا مباشرة إلى المقهى، أمي في حالة من الشرود، هكذا تكون بعد الخروج من الكنيسة. اتخذنا مكانينا على طاولة في زاوية تسمح لنا برؤية واضحة.
تناولت أمي كوباً من عصير الليمون، وطلبت أنا قهوتي، كان الترقب يملأ أعيننا، اقتربت أمي بمقعدها إلى جواري، طلبت منها أن تنظر بتركيز نحو العوامة القديمة المهجورة على الضفة المقابلة، سألتني عن السبب، فجاوبتها بأن وليد يخرج منها.. فتمتمت:
ــ  إسم الصليب
ــ  ما تخافيش ياماما ده مش شبح .. أو مش عارفة يمكن شبح.
ــ  إيه كلامك ده يانورا !!
ــ  ما تاخديش عليا ياماما وأرجوكي ركزي أنا محتاجة لتأكيدك أو نفيك النهاردة.
سألتني :
ــ  قلتي حاجة للأستاذ بكر ؟
أجبتها بالنفي فقالت أمي بلهجة آمرة:
ــ  لازم تقولي له.. على الأقل يبقى في شيء من الأمان أنا مش مطمنة للبدوية دي.
ــ  حاضر في أقرب فرصة.. ركزي بقى.
جلسنا صامتتين نحملق في العوامة إلى أن بدأ الغروب يتسلل، ووجدتني أنظر في الساعة من وقت إلى آخر حتى أتأكد هل سيظهر في نفس موعد الأمس !
شهقت أمي فجأة وخبطتني بذراعها لتنبهني، وكنت منتبهة تماماً وقالت بهمس:
ــ   شايفة اللي أنا شايفاه ؟
ــ  لأ يا ماما شفتي إيه ..؟
ــ  سرب عصافير جاي من عند العوامة .. جايز ده مقدمة ؟
ابتسمت وربت على كتفها، فهي مستعدة أن تلقي نفسها حتى في جهنم طالما أن هذا يسعدني.
ــ   وليد !!
ردت أمي بلهفة :
ــ  فين ؟
ــ  بصي يا ماما أهو وأشرت في اتجاه العوامة المهجورة.
ــ  آه يا ربنا .. اسم الصليب اسم الصليب
ــ   شايفة يا ماما ماشي إزاي عالميّة
كانت دموعي تنهمر في هذه الأثناء، نظرت نحوها فوجدتها تقرأ آيات من الكتاب المقدس وتبكي .. فقلت:
ــ  بصي عليه يا ماما قبل ما يختفي
لكنها استمرت تقرأ في الانجيل ولم ترفع عينيها، وجسدها يرتجف. خشيت أن يصيبها شيء، فهي في النهاية سيدة مسنة وقد لا تحتمل أعصابها كل هذه الضغوط، وكان وليد قد اختفى بشكل أسرع اليوم.
اصطحبت أمي التي كانت صامتة وكأنها تحمل داخل صدرها قنبلة ستنفجر لو نطقت بكلمة، قدت السيارة إلى المنزل وأنا أنوي ألا أفاتحها في هذا الموضوع ثانية، وأن أخبر الأستاذ بكر في اليوم التالي لنحاول أن نجد حلاً سوياً لاستعادة وليد.
مرت هذه الليلة دون أن يغفو لي جفن، كنت أريد أن أهرب من كل شيء، من أمي وأبي وبيتي من عملي سيارتي حتى من المقهى.. كل مكان وكل حدث يذكرني بوليد، أصبحت لا أرغب في العثور عليه، لا أريد عودته !! فقد تهت من نفسي في رحلة بحثي عنه، بت لا أعرف من أنا وهل ما يدور حولي حقيقة أم أحلام يقظة مفزعة ؟
والآن هل أذهب غداً إلى العمل وأحكي للأستاذ بكر ما رأيت وما رأت أمي ؟ هل أثّرت على أمي وأوحيت لها فتخيلت أنها رأته فعلاً !! وهل سيصدقني الأستاذ بكر لو حكيت له ما حدث؟ كيف سيكون موقفه إذا طلبتُ منه أن يأتي معي غداً ليرقب المشهد الذي رأيته ليومين متتاليين ؟؟ وما قالت البدوية من  أن سر الغائب عنده ؟. ترى هل يعرف شيئاً عن وليد ويخفيه عن الجميع ؟ أو له يد في اختفائه؟ مشكلة اختفاء وليد صارت معضلة حياتي التي سأظل طوال عمري أبحث لها عن حل.   
الإنهاك وصل مني لحدوده القصوى في الصباح، بعد ليلة لم أذق فيها طعم النوم، صداع رهيب يدق رأسي، نهضت من فراشي وأنا أشعر أن جسدي ثقيل كجوال الرمل، ارتديت ملابسي بصعوبة واحتسيت كوباً من القهوة حتى أستطيع أن أفتح عيني، تذكرت فجأة الخريطة المطوية التي أعطاها الأستاذ بكر ليوسف كي يجد لها تفسيراً، فتنبهت أني لم أسأله عما إذا استطاع مضاهاتها بمكان معين أو الوصول لأي نتائج، حدثت نفسي :
ــ  لازم أفتكر أسأل يوسف لما أروح الجرنال.
حين وصلت الجريدة أول شيء فعلته هو السؤال عن الأستاذ بكر ثم عن يوسف، لم أستطع الدخول لمكتب الأستاذ بكر لأن رئيس التحرير كان مجتمعاً معه في مكتبه، أما يوسف فكان موجوداً في استديو الرسم، حدثته تليفونياً ليأتي كي نناقش أمر الخريطة، فجاء على الفور وقال:
ــ  إيه بقى حوار المغامرون الخمسة ده؟ الخريطة دي مش خريطة أصلا دي مجرد شخبطة والاسم المكتوب اللي انتي فاكراه بكر ده مش كده خالص.. لازم تعرفي البدوية دي عاوزة منك إيه بس خليكي حذرة.
استمعت إليه وأنا نصف شاردة وذهني مشتت، هل ليوسف أن يستوعب ما حدث لي بالأمس وأول أمس؟ هل يعلم يوسف أني أحاول التشبث بالوهم، وأني أطارد سراب على أمل أن أجد في نهايته وليد، الذي تحول إلى هاجس منذ اليوم الذي ظهرت فيه قارئة الكف، بعد أن كنا استرحنا للركون إلى اليأس.؟؟
ــ   طيب يا يوسف متشكرة على اهتمامك وطبعا هاكون على حذر ما تقلقش.
ــ   العفو يا نورا لكن ما تتهوريش ولو حبيتي تعملي أي خطوة أنا معاكي، الأستاذ وليد ده معلمي وما أقدرش أنسى تعبه معايا لحد ما فهمني الدنيا ماشية إزاي.
انفتح باب مكتب الأستاذ بكر فجأة وخرج منه رئيس التحرير بوجه يتهلل بالضحك، خلفه الأستاذ بكر ضاحكاً أيضاً، ثم توجه رئيس التحرير لمكتبه  مباشرة، فساد صمت في صالة المحررين لبرهة، حتى اختفى من وراء الحاجز الزجاجي للصالة، لمحني الأستاذ بكر ونادى علي، فتوجهت نحوه مباشرة وقد قررت أن أقصّ عليه كل ماحدث، وأدعوه ليأتي معي إلى المقهى قبيل الغروب لهذا اليوم.
أنصت لي وعلى وجهه دهشة مختلطة بالذعر غير مصدق أن وصلت بي الأمور إلى هذا الحد، سألته:
ــ  هتيجي معايا يا أستاذ بكر ؟
ــ  آجي معاكي فين انتي مجنونة ؟ انتي خلاص فقدتي مخك خالص والموضوع بتاع وليد ده انتهى يا نورا ولو تفتكري اننا بلغنا كل الجهات اللي ممكن تدلنا على شيء والكل أجمع أنهم ما يعرفوش عنه حاجة، تيجي بت بدوية جاهلة تلخبط لك دماغك بالشكل ده ؟ ما تنسيش اننا في القرن الواحد وعشرين، وعيب أوي واحدة مثقفة زيك تمشي ورا الكلام ده. فوقي لنفسك وصحتك وعقلك اللي قربتي تفقديه ده، والست دي لو جتلك تاني أطرديها فوراً.
رددت باستسلام وبصوت هامس مرهق:
ــ  حاضر.
عدت إلى مكتبي أسير كالمنومة مغناطيسياً، أفكر أني لابد أن أحسم هذا الموضوع مع نفسي أولاً، وأكف عن التعلق بأمل كاذب، لكني لسبب ما أردتُ أن أذهب لآخر مرة اليوم إلى المقهى، وقد قررت ألا أتحدث إلى البدوية مرة أخرى.  قبيل العصر لملمت أشيائي وقررت الذهاب إلى المقهى وأجلس انتظاراً لعودة الغائب . حين وصلت كان الأستاذ بكر ينتظرني هناك ومعه يوسف، اندهشت لأنه سخر من كلامي منذ قليل، وأنكر كل شيء فما معنى مجيئه !! هل صدقني أخيراً ؟ أو جاء ليثبت العكس؟
نزلت من سيارتي وتوجهت نحوهما:
ــ   أهلا أستاذ بكر أهلا يوسف، حضرتك اقتنعت ( موجهة كلامي للأستاذ بكر)
- طبعا لأ لكن أنا حاسس انك في محنة، بتحاولي تثبتي لنفسك شيء معين ولو بشوية ضلالات، فجيت علشان أثبت لك انك تعبانة ومحتاجة تستريحي.
كان يوسف يقف حائراً بيننا لا يفهم من الأمر شيئاً، ولكنه في نفس الوقت لم يكن يستطيع أن يرفض المجيء، فقلت للأستاذ بكر:
ــ   هو حضرتك حكيت ليوسف
فرد بعجالة:
ــ  لأ
تساءل يوسف :
ــ  حكى لي ايه ؟
رد الأستاذ بكر:
ــ  ولا حاجة تعالوا ندخل الكافيتيريا دي مش عندهم ساندوتشات برضه!! أنا ما كلتش حاجة مالصبح.
دخلنا معاً واخترنا طاولة في مكان متوسط، وجهت مقعدي نحو العوامة، وأشرت سراً للأستاذ بكر نحوها دون أن يلحظ يوسف، وكأننا اتفقنا ضمنياً ألا نخبره ونجعله حكماً بيننا، فلو أن يوسف استطاع أن يرى وليد وهو يخطو فوق المياه فسوف يتأكد الأستاذ بكر أني لا أمزح وأنها حقيقة.
نظرت للأستاذ بكر وقلت والحزن يغمرني:
ــ  سواء حقيقة أم خيال فكل ما أتمناه هو أن يغفر لي عدم عثوري عليه حتى اليوم وقد علمت بعذابه وأسره.
ــ  انتي عاوزة تلومي نفسك وخلاص ..!
مر الوقت سريعاً وحلت ساعة الغروب، كنت أنتظر في يقظة لا أريد أن تفوت لمحة من المشهد الذي قارب على البدء، طلبت من يوسف أن يركز نظره نحو العوامة، فسألني وما الذي سيحدث فلم أخبره بشيء، فقط طالبته بإمعان النظر في العوامة. لمحت الأستاذ بكر ينظر لي غير مصدق أني جادة فيما أفعل، ثم انصرف عنا بالتدخين وتأملِ المراكب الذاهبة والآتية دون اهتمام.
مرت ساعة الغروب بطيئة ثقيلة، ونحن يوسف وأنا نصوّب نظرنا نحو العوامة، لكن لم يأت وليد أظلمت السماء بحلول المساء ولم يأت وليد.. كان بصدري صراخ يود لو ينفجر، كان الفزع والحيرة يحاصراني، سألت يوسف بصوت بالكاد يُسمَع:
ــ  لمحت أي شيء جاي من الاتجاه ده ؟ وأشرت بيدي جهة العوامة.
فقال:
ــ  لا ما لاحظتش، ولكن إيه اللي انتي متوعة اني أشوفه ؟ مركب معين مثلا ؟
لم أرد وأطرقت برأسي أحاول تجنب مواجهة الأستاذ بكر الذي طلب فنجاناً من القهوة، ثم التفت نحونا قائلاً:
ــ  حد يحب يشرب حاجة ؟
فأجبنا بالنفي، ساد بعدها صمت على غير عادتنا وفجأة تكلم يوسف:
- أنا هاروح اشتري علبة سجاير، أجيب لحضرتك حاجة يا أستاذ بكر؟
رد بكر بالنفي، وبعد أن انصرف يوسف استدار لي قائلاً:
ــ  إيه رأيك بقى ؟
لم أرد ونظرت نحو العوامة كما لو كنت أتوسل إليها أن تبعث بوليد لتدلل على صدق كلامي، ثم قلت بنبرة بحزن واستسلام:
- جايز أكون محتاجة علاج.
فرد مقاطعاً:
ــ  بدون شك الست دي نصابة وعرفت تأثر عليكي
ــ  طيب تنصحني بإيه ؟
ــ  ولا حاجة تجاهلي الموضوع كله لكن لا بد نبلغ الشرطة عشان يراقبوها ويعرفوا حكايتها إيه، ممكن تكون بتلعب على ناس تايين. وأنا رأيي إننا نخلي رئيس التحرير يتوسط عشان يهتموا بالموضوع، وانتي عارفة علاقاته.
ــ طيب اللي تشوفة يا أستاذ بكر.
ــ زي ما فهمت منك انك كنتي بتديلها فلوس.. صح؟
ــ  أيوة ما هي مش معقول تقول لي ان وليد بيدفع فلوس عشان ما ينضربش وأنا أسكت، أنا عاوزة أنقذ ما يمكن إنقاذه.
ــ  ومين قالك بس إن اللي هي بتقوله ده صدق.. على العموم أنا عاوزك لو شفتيها ما تكلميهاش إلا لما أقولك، وفي نفس الوقت بطلي تديها فلوس.
ــ  طيب واللي بقى لي يومين بشوفه !!
ــ  اعقلي يا نورا ما تخلينيش أزعل منك.. انتي مش عارفة ان الانسان لما يبقى عنده رغبة شديدة في شيء ممكن يتخيل حاجات كتير.
ــ  أتخيل !! أنا متاكدة من اللي شفته.
ــ  طيب طيب خلاص كفاية كلام في الموضوع ده، وعموما يوسف رجع ما تخليهوش يضحك عليكي انتي طول عمرك بنت ذكية وعيب يطلع منك الحاجات دي.
انتهت هذه الليلة ولم تتركني الأحداث إلا أكثر توقاً لأقابل عجايب، وأفهم منها ما هي نهاية هذا الموضوع وإلى أين سيأخذني، لكن وعلى مدى عدة أيام تالية كان لدي عمل مكثف، فلم أتفرغ لحظة كي أذهب إلى المقهى لأبحث عنها وأقابلها، وبالرغم من انشغالي إلا أن صورة وليد يمشي فوق الماء متجهاً نحوي لم تفارقني، وكثيراً ما كنت أنتبه فجأة أن زميلاً لي يناديني، بينما أنا غارقة في أفكاري شاردة مع خيالي.
في صباح أحد الأيام استدعاني الأستاذ بكر في مكتبه، وحين دخلت وجدته ينظر لي منشرحاً وعلى وجهه ابتسامة عريضة قائلاً بابتهاج:
ــ  خلاص يا سيتي مش هتشوفيها تاني
ــ  هي مين ؟ عجايب؟
ــ  آه هي ست مصايب دي.
ــ  ليه إيه اللي حصل
أكمل:
ــ مش قلت لك نصابة، اتقبض عليها خلاص.
- ياااه فعلا ؟ طيب يا أستاذ بكر أشكر حضرتك، أد إيه أنا كنت ساذجة. يظهر كان لازم نلجأ لرئيس التحرير من أول ما ظهرت، معلش.
كنت أتحدث مع الأستاذ بكر وأنا جالسة على أريكة خلف باب غرفته، فــُـتِحَ الباب فجأة، وأطل منه رئيس التحرير موجهاً كلامه للأستاذ بكر دون أن يلحظ أنه ليس وحده بالغرفة، وقال بنبرة يغلب عليها الاندهاش :
ــ   تصور.. أفرجوا عن البت بتاعت الودع، ما قعدتش ولا حتى ساعتين!
رد الأستاذ بكر باقتضاب :
ــ    ياااه غريبة.
انصرف بعدها رئيس التحرير وأغلق الباب دون أن يلتفت إلي أو يلحظ وجودي.
تجنب بكر أن تلتقي عيوننا فنهضت وخرجت من مكتبه بهدوء، وقد اتخذت قراراً أن أظل أبحث عن وليد وحدي دون مساعدة من أحد
.أن أبحث عن المسجون في زنزانة منحوتة داخل جبل
عن الظمآن المعذب .
عن الأسير.
مساء هذا اليوم ذهبت إلى بيت وليد لزيارة أمه لأبدأ طريقاً كنت أتصور أني مشيته..وأطرق بابا تخيلت أني طرقته .



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبودة الوحش
- قمصان شفافة
- وضع متميز
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأخير)
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثالث عشر )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني عشر )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الحادي عشر)
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء العاشر )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء التاسع )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء الثامن )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء السابع )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء السادس )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الخامس )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الرابع )
- والقلب يعشق سراً ( الجزء الثالث )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأول )
- مشهد لم يحدث في جنازة عائلية
- الأمنية الأخيرة
- مفكرة صغيرة


المزيد.....




- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - عجايب