وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 5107 - 2016 / 3 / 18 - 08:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تشكلت ملامح الحيز الجماعي في العصر الزراعي , اي قرابة مالايقل عن ثلاثين الف سنة ( د. فالح مهدي :الخضوع السني والاحباط الشيعي : نقد العقل الدائري )- ط1 – 2015 – بيت الياسمين – القاهرة,
قامت الزراعة في العصر الحجري الوسيط في بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين .قام الانسان بالانتقال من الصيد وجمع القوت الى عمليات حرث الارض والزراعة ومعرفة المواسم الزراعية .تطلب ذلك فترة طويلة من الزمن .وقدر من الاستقرار ادت بالتدريج الى بناء القرى ومن ثم بناء المدن وتقسيم العمل والتبادل التجاري .
ان هذا الانتقال حتمته ظروف بيئية حيث اضطر الانسان الى ان يقطع في بعض الاحيان مسافة خمسين كيلومتر للحصول على قوته . وكان من نتيجة الانقلاب في نظام الصيد الى الزراعة الانقلاب في نمط تفكير الانسان .
ان الزراعة هي التي ادت الى دخول الانسان في النمط الجماعي عندما استقر الانسان وقام بتدجين الحيوانات ,الدجاج, الماعز ,الخنازير ,وقبل كل شيء الكلب .
يقول د .فالح مهدي (فليس هنالك من حيوان قدم خدمات للانسان , مثل الكلب , وليس هناك في ثقافات العالم اكثر احتقارا من الكلب . فحتى في الثقافة الغربية لازال شتم انسان بالكلب , من اكبر الشتائم ,مع ان الكلاب كانت تدفن مع ملوك ونبلاء فرنسا ,بل ان الكلاب والقطط من اكثر الحيوانات الاليفة في البيوت الغربية ).
لقد اكد كثير من الباحثين على دور المراة في اكتشاف الزراعة قبل الرجل والذي كان يقضي وقته في صيد الحيوانات . بينما بقاء المراة مع الاطفال مكنها عبر الاف السنين من مراقبة واكتشاف سر الزراعة وتمكنت من معرفة مواسم الزراعة واهمية الماء والمطر في العملية الزراعية .
في تقدير الباحث د . فالح مهدي ان اتهام المراة بالسحر وبالشر , هو ماتلاحظه الاساطير القديمة وفي كل الديانات يتاتى عن سر اكتشاف المراة لسر الزراعة , ولو اعيدت قراءة اسطورة آدم التي وردت في العهد القديم , بوعي ينطوي على حس نقدي ,فسوف نلاحظ انها تتضمن معرفة حواء المسبقة بالتفاحة !
لقد شهد العصر الحجري ليس تدحين الحيوانات فحسب بل تدجين المراة ايضا . ان جميع الاساطير السومرية والاكدية ( البابلية والاشورية )والمصرية والهندية القديمة متقاربة الى حد مذهل في الصور التي قدمتها عن المراة.
لقد ساعدت معرفة الرجل لاحقا باسرار الزراعة على حصوله على فائض في الانتاج اخرجه من لحظات الجوع والعدم .
لقد سمح فائض الانتاج بايجاد فسحة من الوقت للحب والمعاشرة والتناسل . ان فائض الانتاج ادى الى نوع من الرفاهية والاستقرار النفسي حيث اصبح الجنس فيها مباحا للجميع .
ان اقدم عقد عقد للزواج وصلنا عن طريق قوانين حمورابي 1750 ق . م تعطي فكرة عن الايديولوجية القائمة .
اعتبر المشرع ان الممارسة الجنسية خارج عقد الزواج محرمة وتستوجب العقاب الصارم , هو نتيجة لزمن كان فيه الفعل الجنسي مباحا . ولم يكتفي المشرع بعقد الزواج بل قام بتقنين كل العلاقات الاجتماعية مثل الارث , علاقات الاباء بالابناء , الزوج مع الزوجة , الطلاق ..الخ .
الثقافة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية تعطي فكرة عن العلاقات الجنسية السائدة . فعندما تمارس المراة الجنس مع عدة رجال في وقت واحد ( نكاح الرهط وتدعى المراة بالمراهطة )فلها الحق في اختيار من تريد ان يكون ابا للطفل المولود منها .
يؤكد الباحث فالح مهدي ان الزراعة تاخرت في مصر بعد ظهورها في بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين .لقد ساد منذ زمن السومريين نمط بناء البيت ذي الفناء وهو مانطلق عليه ب ( الحوش ) . ان جميع غرف المنزل وفعالياته مفتوحة وتصب للداخل في حوش المنزل ( ويسمى حاليا بالبيت الشرقي او البغدادي )حيث يكون المنزل معزولا عن الشارع , وهي نفس فكرة الاسوار .لقد صممت هذه المنازل للحفاظ على العلاقات الحميمية لافراد العائلة دون ان يسمح ذلك التصميم بان يكون لكل واحد حياته الخاصة . فكل شيء عدا العلاقات الزوجية يكون تحت مراى ومسمع الاخرين . ان بناء البيت السومري والبابلي لم يختلف كثيرا عن بناء البيت في بغداد والموصل والبصرة لاحقا .
بنى السومريون منازلهم بصورة دائرية ثم اكتشفوا عن طريق الممارسة والخبرة المتراكمة الى ان الشكل الدائري يفقد البيت الكثير من امكاناته العملية , وفعالياته الاجتماعية . فاستعاضوا عن الشكل الدائري بالشكل البيضوي فالمستطيل اخيرا .
امتاز المعمار البغدادي في اربعينات القرن العشرين بالشناشيل وهي شرفة مغلقة و جزء من الغرفة وليست منفصلة عنها, تعود الى العمارة السومرية . لقد عثر حديثا في عام 2010 على الواح في فلسطين مكتوبة باللغة الاكدية , وهذا يدل على العلاقات المتبادلة بين الطرفين .
لقد كانت المدن القديمة مثل اور تمثل في الايديولوجية الدينية احد اعمال الالهة العظيمة .
لقد كانت المدينة تمثل رمزية العالم , وانتهى العالم اليوم ان يكون قرية صغيرة .
تميزت القرى والمدن السومرية بطراز بنائها الدائري لاول مرة ثم لاحقا على شكل مستطيل هو لحماية الجماعة من العدو الخارجي . فقد كانت المدن مسورة ولم يتوقف هذا النوع من المدن الا مع الثورةالصناعية في القرن السابع عشر .
يتميز اقتصاد هذه المدن بالزراعة وتربية الحيوانات , والعمل الحرفي والذهني ( رجال المعبد والكتبة ) . لقد ميز المشرع بين ثلاث شرائح اجتماعية مختلفة :العويلم , اي الملك والبلاط وكبار قادة الجيش , كبار رجال الدين ),والمشكينم , والذي يمثل الطبقة الوسطى والفقراء , والوردم , اي العبيد والمساكين والمشردين , حيث عملت اعداد كبيرة منهم في المعابد والقصور الملكية.
لقد بنيت المدن السومرية لكي تكون محمية باسوار وحصون , وبنيت غالبا في مناطق مرتفعة نسبيا كالتلال مثلا .
لازالت الكثير من المفاهيم والقوانين البابلية نجدها في التوراة وفي الاسلام .ان عقد الزواج في القوانين السومريةوالبابلية يمثل ارقى ماتوصل اليه الانسان في ذلك العصر . ففي شريعة حمورابي ورد النص القانوني ( لازواج بدون عقد )وهو ما اخذت به الديانات الابراهيمية الثلاث وغيرها من الديانات .
في العالم القديم تم المزج بين السلطة السياسية والتي تمثل القوة وبين القداسة والتي تمثل السماء , ونتج عنها الايديولوجيا , والتي استمرت حتى القرن الثامن عشر حيث دخلت البشرية في العصر الفردي .
في اسطورةالخلق البابلية نجد ان الاله مردوخ والذي يطلق عليه البابليين لقب ( السيد )دون ذكر اسمه كما فعل اليهود لاحقا , يقوم بقتل تيامات الهة العالم السفلي , وشقها نصفين , حيث صنع من القسم العلوي سماء ومن السفلي ارضا . وقامت هذه الاسطورة ضمنيا برسم معالم الحيز العمودي .
مردوخ هنا هو المهندس الاول لذلك الحيز . السماء مقر الالهة والارض سكن الانسان .ان لحظة ولادة وموت انسان ما مكتوبة في السماء وليس هنالك من كائن لايخضع لقانون الحتمية والاقدار.مازا ل الوعي الاسطوري والديني يلعب دورا مهما في اكثر الاديان تطورا . لقد احتل التناقض بين النور والظلام حيزا مهما في كل الديانات .
المكان في المخيلة الاسطورية ادى بالنتيجة الى فكرة قداسة المركز , ( بيت مردوخ عند البابليين , بيت ياهو عنداليهود , وبيت الله عند المسلمين ) , وتربت عليه نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية . لقد تحولت الاسطورة والادلجة الى اقامة نظام من القداسة حيث تحول عبر العصور الى الحيز الدائري . من الناحية الاجتماعية هو الانظف والانقى , ويلتزم افراده بداخله بنظام صارم يقوم على الربط بين الاخلاق والقانون , بدليل ان الاله او الله اختارها واصطفاها .
فالسرقة عندالبابليين واليهود جريمة نكراء قد تصل عقوبتها الى الموت .في الاسلام قطع يد السارق تعني في المجتمعات البدوية والزراعية الحكم عليه بالموت !
فلسفة المكان الدائري المغلقة قادت الى مفهوم ( نحن ), اي ( شعب الله المختار ), وكل الاخرين يطلق عليهم الاغريق ( برابرة ) والمسلمون ( المشركون ) وتميز الايديولوجية الفرعونية بين المصري المختون وغير المصري غير المختون والقذر !
لذا كان مفهوم القلاع والاسوار من الناحية المعمارية يتماشى كليا مع ثقافة الجماعة وسلوكها , فكل ماهو داخل السور نقي وطاهر وماخرجه يكون (نجس ) و (مدان ).
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟