أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - قيثارة مَدْيَن رواية















المزيد.....



قيثارة مَدْيَن رواية


صبري هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 5107 - 2016 / 3 / 18 - 05:45
المحور: الادب والفن
    


قيثارة مَدْيَن

رواية

صبري هاشم

***

المؤلف : صبري هاشم
الجنس الأدبي : رواية
اسم الكتاب : قيثارةُ مَدْيَن
الطبعة الأولى : 2009
الناشر: دار كنعان
للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية


***
وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ 20 فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 21 وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَني سَوَآءَ الْسَّبِيِل 22 وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُوِنِهمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَاخَطْبُكُمَا قَالَتَا لانَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ 23 فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24


من سورةِ القصصِ ـ القُرآن الكريم








***


على النافذةِ المنطفئةِ قمرٌ بلا أجنحةٍ حطَّ صغيراً . قمرٌ حطَّ ضاحكاً ، جميلاً ، به انشغلت ثريا قبل أنْ تدخلَ شوقَ الوسادةِ . القمرُ من وراء الزجاج راح عَبْرَ الغيم يسافرُ . من المكان إلى المكان ظلَّ يرتحلُ . يا للدهشة كيف لقمرٍ جميلٍ كالحالمِ في المكانِ يرتجلُ ؟
ثريا المغرمة بالسكونِ لم تَنَم . لم تستجبْ لنداءِ الوسادةِ . ظلّت تُحاكي قمراً آثرَ الصمتَ .. حاولتْ دون جدوى أنْ تستنطقه . إذن ستهذي الليلَ كلَّه طالما انشغلَ مسعدُ بالقمر الذي به انشغلتْ بينما بالغيم المسافرِ انشغل القمرُ . مرَّ الوقتُ وعلى زجاجِ النافذةِ الغارقةِ في السكونِ تمرأى القمرُ .
تَعَجّبٌ من فيه انطلق :
ـ ما أجمله !
أجملتْ وفتورٌ في مبسمِها :
ـ بديعُ الهالةِ .
إلى جوار مسعد المشدودِ إلى قمرِ النافذةِ تركتْ رخاءً جسدياً يُنعشُ روحَ سريرٍ مُتلهّفٍ لمعانقةِ حُبَيْبةِ عرقٍ مُعطّرةٍ . على بطنِها الضامرِ تمددت وتحت حَنَكِها الصغيرِ جمعتْ قبضةً بها رفعتْ رأساً يحملُ بدراً ، والرأس بثقلِ شعرٍ فاحمٍ كثيفٍ ينوءُ. بقبضتِها أسندتْ وجهاً تجهشُ فيه عينان زرقاوان تستدعيان إلى بحريْهما قمراً ربما يظلّ الطريقَ . هي جسدٌ يتشمسُ في لوحةٍ ، أغرتْ مسعداً أنْ يمررَ يدَه فوق المؤخرةِ المندفعةِ باشتهاء لكي يتأكدَ من نقاوةِ الزيتِ السماويّ الذي مُسحَ به الجسدُ المقدسُ .
هَمَسَ :
ـ لقد أعطاني الكوثرَ .
لم تلتفت إليه إنما دمدمتْ :
ـ الكوثرُ من الكثرةِ ونحن ما بين امتلاءِ ونحافةٍ .. قُلْ نحن للامتلاءِ الجميلِ أقرب .
ضَحكَ وصحح القولَ :
ـ بل قصدتُ نهراً في الجنةِ .
على ظهرِها انقلبتْ .. مدّتْ إليه ذراعين عاجيتين .. استجاب لها . حين غادر القمرُ وانطفأتِ النافذةُ ثانيةً ، أشرقَ فوق السريرِ قمران مبتلاّن بالسوسنِ .
انبعثت دهشتُها :
ـ في قلبِ العراء أيّ بيتٍ شيدتَ كأنه للمجرّاتِ أقرب ؟
ـ هو بيتٌ أقمتُه بعد أن أنهكتني المنافي ولوّعتني المغترباتُ هو بيتي الذي لم تدخلْه أنفاسٌ غريبةٌ إنما بطلِّ العاشقاتِ تعطّر فضاؤه .. هو بيتي الذي من همّةٍ تحت الشموسِ زرعتُه شجرةً شجرة وتحت سحرِ النجمِ ليلاً رعيتُه ومضةً ومضة .. هو بيتي الذي فوق ماءٍ نصبتُه .. على ضفّةِ نهرٍ ابتنيتُه لكي يسبحَ في غفلةِ الجنانِ .
ـ والليلة أ بوجودي تحتفي فاستدعيتَ قمراً ؟
ـ أجل لكي نغرقَ بروحِ الياسمينِ ومن نبيذٍ مقدسٍ نرتشف .
ـ به سأُغرقُك قبل أنْ ترتشفَ قطرةً .
قبّلها .. قبّلته .. أبحرا ليلاً في لذّةِ الجسدِ . سويةً غرقا وانطفأ المكانُ .

* * *

ـ صباحٌ جميل لمَنْ هبّت على أنفاسي نسيماً وعلى جسدي عاصفةً .
قال مسعد وأبحر في عينيها عميقاً ثم تساءل :
ـ أراكِ مُرهقةً ، لماذا ؟
ـ لم أنم كما يجب .
ـ مَنْ سلبك النومَ ؟
ـ رؤيا أرّقتني .
ـ ماذا رأيتِ فيها ؟
ـ رأيتُ جسدَ الفراتِ منشطراً .
ـ ومنه لم تترعي كأساً ؟
ـ كأنَ في روحِه حلّ سرابٌ .. وكأننا في مكانٍ اسمه مَدْيَن . هذا ما رأيتُ.
ـ مَدْيَن .. مَدْيَن .. مَدْيَن . إنها ، كما تقولُ كتبُ التفسيرِ ، على مسافةِ ثمانية أيامٍ عن مصر ونحن نقيمُ على بقعةٍ لا اسم لها من أرضِ السوادِ وعلى مقربةٍ من ذي قار ، فإنْ شئتِ أسميناها مَدْيَن وإنْ شئتِ أطلقنا عليها اسماً آخر .. لا فرق عندي مادمنا في عزلةٍ مبجّلةٍ ما بين باديةٍ وماءِ .. هنا نعتزلُ الدهماءَ .. لا فرق عندي فمَدْيَن من ولدِ إبراهيم وهذا من ذي قار .
ـ فلنُحققْ مِن الرؤيا شطراً ولنتركْ شطراً .. لنسكنْ مَدْيَن ، على ضفّةِ نهرٍ انشطر في الرؤيا جسدُهُ ، ومَدْيَن عن البصرةِ ثلاث ساعات وثلاث أخرى عن بغداد . بنا سيزدهرُ المكانُ وبأقمارِ ليلهِ في السماء سيزهو ، ومَدْيَن على الأرضِ جنّتُنا .. في العراء تنتصبُ ومِن بردِ الفراتِ تنتفضُ .
ـ كما تريدين وستكون أرضُنا أرضَ مَدْيَن وسماؤنا سماءَ مَدْيَن وماؤنا ماءَ مَدْيَن .. سيزورنا الأنبياءُ وبنا تمرُّ القوافلُ .. سيقولُ العابرون : بأهلِ مَدْيَن في أرضِ العراق مررنا ، فأكلنا من لذيذِ طعامِهم وشربنا من طيبِ خمورِهم ومِنْ عذوبةِ مياهِهم ارتوينا ثم تَزودْنا من رحيقِهم طاقةً للطريقِ وللذكرى من عبيرِهم أخذنا ، فهل حققنا شطرَ الرؤيا ؟
ـ أجل ، حققنا شطراً إنما انشطارُ جسدِ الفرات يخيفني .
ـ لا تخافي فالفراتُ على حاله لم يتغير هو هكذا منذ الأزل .. نُفينا أعواماً واغتربنا أعواماً وعدنا وهو يجري آمناً . هل قلتُ عُدنا ؟ أجل عُدنا لكي ننبتَ إلى جوار الأسطورة التي امتدت جذورُها إلى أعماقِ الأرضِ .. عدنا لنسكنَ كما سكن التاريخُ في أكواخِه الأولى .. عدنا لنسكنَ إلى جوارِ التاريخِ .. في هذا الفضاء النقيِّ المسالمِ الذي يمتدُّ غرباً ليحاذيَ أجنحةَ البادية التي بالكتاب زودتنا ومن الناحيةِ الأخرى يمتدُّ ليرتشفَ كاسَ الرواء .. عُدنا بعد أنْ أنهكتنا المنافي ولوعتنا المُغْتَرَباتُ .. عُدنا لنحلَّ في الجسدِ الذي فارقناه عقوداً ولننضمَّ إلى الأرواح النابضةِ فيه ، إنما بخطوتِنا بعيداً عن الرعاعِ نفترق وفوق زمن الغوغاء نرتفعُ ، فنقيم هنا ، ننسج أحلاماً في مأوى ونسبح في شطآنِ اللذّةِ .. ننصب للرؤيا فخاخاً من عبير وللجسدِ المُشعِّ نُطفئ الليلَ حتى من ثُريّاه تنزلَ نحوي ثريا امرأة من نور ، فتقيم معبداً للصلاةِ على هذه البقعةِ المتطرفةِ من أرضِ العراق التي انتزعْناها من سياقِ التاريخ واستولينا على هشاشةِ الجغرافيا فأسميناها مَدْيَن. فعليَّ شِعِّي وتدللي يا ثريا وأقيمي في بيتي هذا ما شئتِ من الوقتِ وبين بغداد ومَدْيَن لا تستهولي المسافةَ فنحن معها متواصلون وللبصرة متاخمون والطريق فيما بيننا سويعات والسرعة زمن ولجناه. إليهما نتوجه كلما استبدّ الحنينُ بنا أو لننقل إلى مَدْيَن كلاً من بغداد والبصرة !
ـ ماذا لو جلبنا إلى أرضِ مَدْيَن بغداد ثم إليها نقلنا البصرة ؟ كيف سنكون ؟
ـ في مركزِ الكونِ نكون .
ـ إذن دعي الموسيقى في هذا العراء الجميل تصدح وفي فناء البيتِ المزدحم بنا تعبث .. دعي المحبةَ تنتشر في المدى أمواجُها .. لقد سئمنا كراهيةَ العراقي في المنافي وضغينتَهُ في المُغْتَرَبات.
ـ هل سكنت المنافي كراهةٌ وبين الغرباء دبّت ضغينةٌ ؟
ـ أجل ، مَنْ لم يعش المنفى ويعرف أهوالَ الغربةِ لا يعرف حقيقةَ البشرِ من أبناءِ العراق على مختلفِ قومياتهم وطوائفهم . في المنفى تتكشف الحقائقُ حين تتكشف النفوسُ وتخرج نتانةُ ريحِهم كأقوامٍ وطوائفَ ضئيلة لا تكنُّ للعراق غيرَ العداوةِ والبغضاء . لقد خلّفتُ المنافي ورائي حين تضاعفت وحشتُها وصارت الغربةُ عليَّ مركّبةَ الألمِ .. صارت وبالاً بعد أنْ فقدت صاحباً . لا أريدُ أنْ أدخلَكِ في زمنِ الأنينِ ولا في دائرةِ النواحِ .. لا أُريدُ .. لا أريدُ . أطلقي الموسيقى إلى أقصاها فنحن أطبقنا على سُرّةِ أرضِ السواد التي أُريقت عليها مياهُ الغزاةِ العابرين مع الرياح .. أطلقي الموسيقى لتغسلَ المدى من الكراهةِ أينما وِجدت ومعها أطلقي عذوبةَ صوتِك فهذا البيتُ شيّدته لك وللجميلات اللاهبات مثلك .. على ضفّةِ نهرٍ أقمته لكي يحتدمَ في ظلالِهِ العبيرُ .. على مفترقاتِ الطرقِ أقمته للعائدين من خيباتِ الليالي الحالكةِ .. للعائدين من الضياعِ .. فاطلقي في فضائه الرياحَ لكي تطاردَ الحكايا وحين تتعب ، الحكايا ، وتحطّ منهكةً أسمعيها .. مع الرياحِ أطلقي شَعْرَك المجنونَ .. وفي بيتي من ينابيعِ الشِّعْرِ أنهلي ومن آبارِ الرغباتِ أغرفي .. أطلقي يا أنثى الكروان جسدَ الموسيقى ، فبعدي لا مخيلة تنسج الحكايا وبعدي يكفّ عن المجيء شِعرٌ .. أطلقي يا ثريا ما يثري النفسَ ويغمر بالسكينةِ روحاً وإلى كتفي أسندي رأسَك فبعدي لا كتف تسندي رأساً إليها .. أطلقي يا درّتي فرحاً أو شجناً ومن الرغباتِ حققي ماشئتِ ، ومن بيتي اكتنزي فأنا بئر الحكايا وأنا إله الرغبةِ وأنا سيد الشِّعرِ ، فاصدحي في سمائي بلبلاً ومن فوقي تألقي قمراً فأنا ما نصبتُ بيتاً في هذا العراءِ إلاّ لأكتبَ تاريخاً غريباً على أرضٍ من أبنائها أكرم.. في فضاء مجهول من أرضِ السوادِ بعد أنْ رفضني ، حين مررتُ ببغداد وزرتُ البصرةَ ، أهلُ العراقِ .. فهم ينبذون الضحايا ويرفضون مَنْ أُجْبِرَ على المنافي وسكن المُغْتَرَبات . إنهم يستكثرون وجودَ مَنْ كانوا سبباً في آلامِه . سأكتبُ تاريخاً مغايراً لا كما يكتب الأقوياءُ المنتصرون .
ـ عن ذكر أهل العراق توقّف وحدثْني عن صاحبك الذي فقدتَ .
ـ مِنّا سلبَ المنفى دفءَ النفوسِ وفينا دقَّ عظماً في جسدٍ وصارت لنا مع الغربةِ وقفةٌ لا نعتبُ فيها على مُغْتَرَبٍ إنما على حالِنا صرنا عاتبين . فنحن أدركنا الخطيئةَ ولم نجتنبْ وعلمنا أنّ مَنْ لا وطن له لا منفى له .. و ليس للغريب منفى فيأويَ ولا مُغْتَرَبٌ فيضمنَ . تلك مقولة أطلقتُها منذ رحيلي وتلك صارت ترنيمةَ الغرباء المنفيين . عمّاذا أُحدثُك ؟ أعن حمدان الخصيبي ؟ عن روائيٍّ تفتّحَ في الغربةِ فأجادَ وتميّزَ عن سواه ؟ عن شاعرٍ أطلق العنانَ لروحِهِ فتدفقت حكماً ورؤىً إنسانيةً فذّةً ؟ عن غريبٍ هدّه الترحالُ فحطّ في برلين رحالَه وفاض بحرُ حنينه ؟ عن قلبٍ ظلَّ معلقاً بنشوى التي سلبت لبَّه وأكلت حشاشته فصبَّ من أجلِها أجملَ الصورِ في قوالبَ شعريةٍ ؟ تلك نشوى الجميلةُ ، الهادئةُ التي لم تفارقْه لحظةً مثلما لم تبرحْ خيالَه فتنةُ أحياء البصرة وطيبة ناسِها وجمال بساتينها التي ظلّ بها يلهج على امتداد المنافي ، أينما حلّ وأينما ارتحل . عمّاذا أحدثك ؟ عن فتوته وصباه ؟ أجل ، سأحدثك عن أحوالِ الفتى حمدان .. ساقصُّ تاريخاً مشرقاً عن سيرةِ الفتى حمدان ، الذي رأى النورَ وفي عينيه تسبحُ المدينةُ ، ومن سيرةِ حياتهِ سأستخلصُ العبرَ .. سنرى كيف ازدهى في ليلٍ وعانقَ نجمةً وكيف عجن عطرَ الوفاءِ بجمّار نخلِ البصرة ثم وزّعه أقراصاً على مرضى القلوبِ .. شفي المرضى وحمدان لم يشف ، ثم صنع أقراطاً لصبايا يأتين في الحلمِ .. حمدان هذا أدمن السهرَ على أسيجةِ المدينةِ .. قيل إنه صار فناراً فغلّفه اللهُ بالنورِ وألبسه العامةُ ثوبَ النقاءِ .. حمدان هذا فتى طيب ، شهم ، شجاع ، غيور ، عفيف ، عزيز ، لا يحمل صفةً واحدةً ولا اسماً واحداً ولم يعمده شيطانُ ولو تزوج كلَّ نساء الأديان ، إنما انتزع جميعَ الصفاتِ وجميعَ الأسماء .. وحمدان خَبَرَهُ العامةُ والخاصةُ فهو لا يُشترى أو يُباع ومعلوم أنّ الذي يُشترى ليس كمثل الذي يُباع . سأقصُّ عليكِ كيف ولِدَ على جرفِ الشطِّ فعلقت بروحهِ رائحةُ الطينِ وفي ذاكرتهِ نَهَرَ الماءُ .. شوهدَ مرّةً وكان غرّاً يحتلبُ الشمسَ بزجاجاتِ الخمرِ ويرشقُ ببتلاتِ الجوري وجوهَ الفاتناتِ ، وعلى السابلةِ يوزِّعُ طقساً للنطفةِ فيهتف السابلةُ : ها قد أعيانا كرمُ ابن البناء . حمدان هذا من صلبِ رجالٍ ما خانوا يوماً ولا باعوا وطناً على مأدُبةِ مُحتلٍّ أو سلطان .. وحمدان ظلّ على الشبهاتِ عصياً .. يصرخُ ليلاً لكي يُسمعَ صوتَه إلى أقصى بيوتِ الحيّ : أنا الفتى حمدان لم أرَ أرضاً أكرم من أبنائها كأرضِ السوادِ ولم أعرف بشراً أكثر جحوداً لأرضِهم كأهلِ العراق .
وهنا في أرضِ مَدْيَن .. في بقعةٍ مجهولةٍ من أرضِ السوادِ سنسردُ تاريخاً آخر :
ذات ليلةٍ هاتفتني نشوى وكنتُ ما بين صحوةٍ ومنامٍ . قالت أسرع هو في اهتياجهِ العظيم .. في الذروةِ . إليه انطلقتُ في ليلٍ باردٍ وحين وصلتُ بعد مدّةٍ وجدته مثقلاً بدمعةٍ تحجّرت فوق رمشهِ . في نفسي قلتُ : تبدد اهتياجُه وغادره صخبٌ .. ملأتُ كأسين بِلَوْعَتين وقرّبتُ أحداهما منه .. نظرَ إليَّ طويلاً .. أخذَ الكأسَ وأشار عليَّ بالجلوس فإلى جواره جلستُ .
قال :
ـ لم تدرِ نشوى أنّ طاقتي على الحنينِ نضبت قبل حينٍ .. نزفتُها على امتدادِ ربعِ قرنٍ من الزمانِ في منفىً يتبعُ منفى ، وزادَ جحودُ أبناءِ جلدتنا لأرضِ العراق من نفادها ، فأعدتُ النظرَ في قسوتي على النفسِ .. كنتُ أمنحُ للآخرين الفرحَ وأحجبه عن نفسي .. الآن اكتشفتُ العراقَ على حقيقته .. الآن علمتُ أنَّ العراق بلا بشرٍ تدافع عنه .. كيف فاتني هذا والتاريخ لم يحدثنا يوماً عن دفاعِ سكانِ العراق عن أرضِ العراق ؟ أُنظرْ في التاريخِ طويلاً .. دقق مليّاً .. في كلّ الغزواتِ والاجتياحاتِ والاحتلالاتِ وعَبْر كلّ العصورِ ، سوف لن تجدَ مأثرةً للعراقيين في الدفاعِ عن وطنِهم ، أللهمّ إلاّ قلة قليلة من أشرافٍ دافعت عنه .. وستجد ثمّة خيانة دائماً .

توقّف عن الكلام برهةً .. احتسى ما في كأسِه .. حدّقَ في السقفِ وقال شيئاً جميلاً لا نسمعه دائماً بحكم ضلاله الطويل : ذات نزهةٍ والناس في أتمِّ زينتِها إنفلت علينا الطقسُ بسوْءةٍ ولم نكن نعرف للفرقةِ سبيلاً . كنّا ، ظلّي وأنا ، ننشدُ خَلوةً حين درجنا نحو سقيفةٍ ، حانةٍ ، أو نحو بيتٍ شُيِّد من زهرِ التّفاح ترعاه فاتنةٌ صُبّت من عذوبةِ الأكوانِ وأُطلقت في سفرِ الماءِ . كنّا كالنسيمِ طلقاءَ لولا حيرةُ الطقسِ من فوقنا ونشوى .. نشوى .. نشوى لم تكن معي .
التفتَ صوبَ نشوى .. تساءل :
ـ أين كنتِ يا نشوى ؟
ـ لا أدري . تقول نشوى .
وراح يُكمل الكلامَ :
ـ دخلْنا في جسدِ المساء وتوحدنا .. أضاءنا مصباحٌ من عفّةِ الكلام، هطل علينا من رحيقِ كرومٍ تدلّت من السقوفِ التي انغلقت في تلك الساعة أمام غرابةِ الطقس الذي تَرَكَنا في الخَلوةِ .. كنّا نرسمُ على جدرانِ المساء حيرةَ الرافدين .. قَتَلَنا شوقُ البلادِ مثلما قتلَ ساكنوها أشواقَها لنا .. لا تصغِ إليَّ كالحائرِ أيّها العزيز مسعد . قال فجأةً وعاودَ الكلامَ المُدهش :
لم نكن ندري عن غيابٍ يطولُ
ولم ندركْ أنّ على رؤوسِنا سيتساقط النجمُ
ولم نعِ بعثرةَ الأشياءِ في صمتِ المساءِ
ولم نحرثْ إلاّ بعد فواتِ الأوانِ ذاكرةَ البلاد
ولم نحفظْ في الروحِ اسمَ العراق
ولم نسجدْ له سجدةَ الوفاءِ أو نطلق الدعاءَ
وحين تمرّ بالقربِ منّي فاتنةٌ ، أسمعُ فوق ثوبِها يتفتقُ الزمانُ وتزهرُ في كلِّ ثنيةٍ من ثنايا الثوبِ زهرةُ البراري المتوحشةُ . ناديتُها .. في أُذنِها نطقَ فمي .. همستُ : أنا حمدان الخصيبي فاحتفي بضيفِك الليلةَ وارعي لذيذَ المعشرِ .
ونشوى !
يسألُ فجأةً :
ـ أين كنتِ يا نشوى ؟
تطرق نشوى وللكلامِ الرقيقِ يعود :
ـ صرتُ اختزلُ الحديثَ وأُكثّفُ نحوها الرؤيةَ .. نحو نحرِها .. نحو صدرِها . صرتُ أُطلقُ الرؤيةَ حزماً من نارٍ وأرمي ، حين تلتفّ حولي ، الحسراتِ .. إنما أنا كنتُ ، في صدرٍ من قلقٍ ، مُتشكلاً. أريحيني يا هذه من لوعةٍ خرقتْ سكوني واغسلي بنظرةٍ روحي. تمرُّ الفاتنةُ وفي رأسي يصرخُ دهرٌ من حرمان .

في تلك الساعة بعد هدْأةِ المناجاةِ هل رأيتَ في بلادِ ما بين نهرين بشراً يُصَلّون صلاةَ الإستسقاء ؟ أسأل نفسي . وأسأل ثانيةً : هل رأيتَ في بلادِ النفط والغاز والقار مَن يبحث عن لترٍ يستضئ به ؟ هل رأيتَ في بلادٍ علّمت البشريةَ الحرفَ من لا يحلّ حروفَ الكلامِ ؟ إذن كيف سنكتبُ لأهلِنا أسفارَنا وأسرارَ المنافي ؟ .. تسألني حين تمرّ بي الفاتنةُ :
ـ أيُّ سيلٍ حذفك صوبي أيها الأجنبيُّ البهيُّ ؟
ـ هو الطوفانُ مَنْ ألقى بي نحوك أيتها الفاتنةُ ، العذبةُ المنطقِ .. لقد مررتُ بعشرين سقيفةً فما ظللتني واحدةٌ إنما جميعها أضلتني حتى اهتديتَ إليك وتذكري أنّ لا حاجة لي غير أسعافِ نفسي المضطربة .. جئتُ أبحثُ عن هدوءٍ لروحي المُشتعل ، هذا الذي رأى البلادَ طولاً وعرضاً تنفلقُ . غادرتني فاتنةٌ وأزف وقتُ الرحيلِ .. حان موعدُ العودةِ ، فالنزهةُ منّا سُرِقت والناسُ فقدت زينتَها .
صمتَ حمدان زمناً .
قلتُ :
ـ أكمل !
قال :
ـ لا شيء .. لا شيء .. أسعفتُ نفسي وهدأ روحي .
ثم صمتَ طويلاً !
قلتُ :
ـ بصمتِك أيها الخصيبيّ لا تصدمْني .. قُل ما شئت واسكبْ على حريرِ الليلِ جائشةً .. أدلقْ إنْ أردتَ مرارةَ الحزنِ إنما بالصمتِ لا تعاقبْني ، فبالصمتِ ما تعلمتُ الحوارَ .. أكملْ ما بدأتَ به فنحن أعددنا أنفسَنا للسماع وسنغرق في السكونِ الجميل .. لا عزلة معي بها تغور.. قل ولتسمع نشوى ما غاب عنها .. قُلْ ولتسمع البلادُ التي لا تحتضنُ أبناءَها .
نحوي رفع رأسَه .. حدّق في عينيّ .. إبتسم ثم قال :
ـ تركتُ السقيفةَ ، الحانةَ ، البيتَ ، والكلامَ الذي قيل في جموحِ الخيال ، فلم تعد فاتنةٌ تغويني ولا جاريةٌ تهزُّ جانباً منِّي فنشوى بنبلِها أغرقتني والشتاء أخذَ بُردَه وراح يزحف خلف الأجمةِ الزرقاء .. الشتاء تنحّى خلف تلال الفصول وقبل حين حلّت روحٌ ربيعية .. وَمَضَتْ ذاكرةُ الزمنِ في رأسي أنا المُشرقُ في كلِّ مكانٍ ، حمدان الخصيبيّ لا أدري ما أصابني في بلادِ الغربةِ فتكدّرت نفسي وصرتُ في دوحةٍ من رماد .. لا أظن أني كَبوتُ كبوةً قاتلةً ولم أسقط سقطةً أخيرة إنما تراكمت فوقي السنون ففصلتني عن الحُلُمِ . تركتُ السقيفةَ المنصوبةَ من خشبِ الصندل وشيءٍ من ديكورٍ ساحرِ المظهر .. تركتها خوفاً من استحضارِ التاريخِ البعيدِ وذكرى السقائف التي مازلنا حطباً لنارِها .. مازالت تُخوصرنا . يا إلهي إلى متى نظلّ ندفع ضريبةَ ما اختلف عليه الأسلافُ ؟ وإلى متى نظلّ نأخذ بعضَنا بجريرةِ أسلافٍ ربما ما ارتكبوا الكبائرَ وكأننا ما قرأنا " ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى " ؟ هكذا نحن ندفع أثمانَ ما أقترفه الأجدادُ من إثمٍ. تركتُ السقيفةَ .. تركتُ الفاتنةَ التي ما أزهر بمثلها خيالي على الأقل في ساعاتِ الوجومِ التي رسف تحت ثقلها وجودي في الغربةِ .. تلك الغربةُ التي حتى في الشرفةِ انزرعت فابتزّ جمالَ وردِها بردُ
الشتاءِ . تركتُ السقيفةَ ، المقهى ، لأنّ الفاتنةَ ما أرخت حتى المساءِ لجامَها وراحت تحتطبُ ، في خيلاء ، المسافةَ . ظلّت تعبقُ في المكانِ .. تزهو في المكان الذي اعتبرتْه فردوسَها الأزليّ . تزدهيني فكرةٌ : لمَ لا أفقأ عينَ الذاكرةِ ربما تدمع دمعةً واحدةً أو دمعتين ، فأنا منذ هجرتي لم أخفق بين جنبات برلين التي ظلّت تساومني الدخول إليها وأرفض .. أعيشها ولم أدخلها .. أنا داخل برلين خارجها .. هي تريدني مسخاً وأنا أريدني كما أريدني .. هي تريدني مولوداً جديداً .. طينةَ البدايةِ التي تصيرها كما تريد ومن روحِها تنفخ بي .. هي لا تعرف شيخوختي وحين تعرف ستبصق عليّ وتركلني في الختام . لا مقام عندي هنا أو هناك أو في أيّ أرضٍ مررتُ بها كأنني من طحلبٍ مذمومٍ جُبِلتُ .. أنا هنا بلا جذورٍ ، معلق في الهواء .. أنا هنا مثل زهرة اللوتس طافية فوق أديم الماء . أنا حمدان الخصيبيّ أنبتتني السماءُ في تربةٍ أخرى .. في طينةٍ كريمةٍ لم أحفظ طيبَها ولم أحافظ عليها كأيِّ عراقيّ بلا ولاءٍ للعراق .
خائنٌ أنا من هامتي البيضاء حتى أخمص قدميّ الواهنتين . أنا مَن خان بلادَه وحذف نفسَه صوب هذه المجاهيل التي لا يعرفها من قبل الكرماءُ . تلك صعقةُ الإذلالِ بها إكتوينا .. نحن الغيارى ، أهل المروءةِ ، أعزاء النفوسِ ، لم يبقَ منّا سوى دفءِ الذاكرةِ التي تدمعُ بين الحين والحين دمعتين لتذكرني ، أنا حمدان الخصيبيّ ، بلمّةٍ صغيرةٍ من فتيةٍ عبروا كابوسَ الظلام في ليلةٍ فتكت بها الشجونُ . كنّا جماعةً متقاربي الأعمار والأطوال والسمرة ، نحطّ في الميدان ، نتعلم الكلامَ .. خلاصةَ الحكمةِ .. أقوالَ فلاسفةٍ ومن عيونِ الآداب ننهلُ علماً كثيراً . كنّا نتنفس نسيماً منعشاً يهبُّ علينا من بريّةٍ صافيةٍ ، نقيةٍ ، وبأجنحةِ الغوايةِ لم نتعلم الطيرانَ ، إنما في الأعالي تعلمّنا أحوالَ الريحِ وعاداتِ الطيرِ ولم نتزود أكثر فالكراهة بعدئذٍ فرّقتنا .. الكراهة جعلتنا أباديدَ . تركتُ السقيفةَ ، الحانةَ ، راضياً .. السقيفة ، الحانة ، التي دخلتها مضطراً بسبب اهتياجِ طقسٍ ربما أرادَ أنْ يمزحَ معنا مزحةً ثقيلةً أو ربما بسبب تقلّبٍ في مزاجهِ ، تركتها .. السقيفة ، الحانة ، المُشيدة من روح الصندلِ لم تؤسرْني رغم أُبّهةِ المكان وفتنةِ مَنْ تديرُ المكانَ . تركتُ السقيفةَ بعد لوعتين .. بعد رشفتين ، وبرحتُ المكانَ على إثرِ نداءٍ خفيٍّ أو على إثرِ هاتفٍ روحيٍّ .. تركتُ السقيفةَ وكنتُ بلا ظلٍّ أنطوي على جسدٍ معتمٍ .. منهزماً تركتُ المكانَ .
هل وزعتِ الرّيحُ أمواجَ دجلة على شبقِ البحارِ فتعثرت خطواتُه ؟ ربما يجنُّ النهرُ حين تسكن الرّيحُ . ظننتُ النداءَ ضرباً من عبثٍ .. ظننته لغزاً سيحيرني لفترةٍ ما ، لكنه صار يلاحقني .. في الطريقِ يركبُ عويلَ الرياحِ ويرتقي من ورائي المسافةَ عالياً : يا حمدان الخصيبيّ .. يا حمدان الخصيبيّ . ذُهِلتُ .. التفتُّ إلى الوراء .. لم أرَ أحداً .. لم أرَ الرّيحَ .. تعجبتُ .. على جسرٍ فضضت ملامحَه الأنوارُ وهاجمته العاصفةُ ، رأيتُ جسدين يرقصان .. رأيتُ وجهين يتلاصقان .. رأيتُ روحين يتعانقان .. رأيتُ حُبّين يتقاتلان .. رأيتُ قلبين يرتعشان .. على جسرٍ في برلين ضيّعتُ النداءَ . أنا حمدانُ الخصيبيّ عن الجماعة ، اللمّة ، افترقتُ وتحت السقيفةِ ، الحانة ، البيت ، نسيتُ ظلّي وعلى الجسرِ ضيعّتُ النداءَ .
سكتَ حمدان برهةً ثم استأنف الكلامَ :
بعدئذ لم أنم ليلةً .. سكنتني المدنُ النائية وسكنتها .. سكنتني الطفولةُ وسكنتها .. انتظرتُ طويلاً حين جاءت ذاكرةٌ مسالمةٌ . جاءت كبواتُ فتوّةٍ لم تكن مكتوبةً على جبين القدر .
الليلُ يصرعني .. يستحضر الغيابَ .. كلَّ الغيابِ : أنا حمدان الخصيبيّ بن البراري العاكفات على استقبالِ القوافل القادمة وحزنَ الرّيح . أنا ابن فرحِ الماء لم أحلُم بشمسٍ في عزّها منطفئة ولم آنس مطراً مهما بالغ في إيقاعه .. مهما أطلق من مشاعرِ الحزنِ .
هل أخذتني البدايةُ ؟
أجل ، فبنوافذي عصفت رقصةُ وطنٍ ما نسيته وهبّت عليّ نسمةُ بلادٍ في أنفي ما تغيرت وعلى بابي في الهزيعِ الأخيرِ مِن الليلِ هتفت مدينةٌ كانت قد وصلت توّاً في قطار منتصفِ الليلِ .. نضت أرديةً ، من ماءِ الفراتين ، ما خُلعت على سواها من قبل .. طرقتْ بابي .. طرقتني .. بعباءةٍ بيضاء استقبلتها .. دثّرتُها .. وبين ذراعيّ احتويتها فالتهبَ جسدي . قالت : أنا جحيم المسافةِ . لم تسمعْ نشوى ما قالت المدينةُ في تلك الساعةِ من عطرِ الليلِ .
* * *
في نشوةِ الليلِ كانت الحربُ على أبوابِ العراقِ تتنهدُ ، وكان العراقُ قد أوعز لأبوابه أنْ تبرحَ المكانَ وظلّ مشرعاً .. رفع الأستارَ و ظلّ عارياً يستعرض جسدَهُ أمام غلمان الفرسِ وجواري الرومِ . قُلْ نختزل لبَّ الكلام : غادر العراقُ معطفَ الحياء ولم تعد حشمةٌ تنفع .. للحرب عارياً خرج العراقُ .. للحربِ خرج العراقُ وحيداً .. هو هكذا منذ الأزلِ تعلّم أنْ يخرجَ للحربِ وحيداً .. منذُ تشكيلهِ من طينِ البدايةِ يخرجُ لملاقاتِ قدره وحيداً . هل سمعتم يوماً عن حلفِ حربٍ عُقد بين العراق وبين بلدٍ آخر ؟ وحيداً كان ووحيداً سيظلّ .. منه أخذتُ صورتي الأولى ومنه تشكلّت صورتي الأخيرة .. وحيداً عشتُ وكلّ حروبي مع الحياةِ وحيداً خضتُها .. وحين غادرته كنتُ وحيداً .. أنا مثله في وحدتِه .. هو مثلي في وحدتي .
استقبلتُ المدينةَ وكنّا في السَّحرِ ندخل
سأهدي المدينةَ قمراً من كهربٍ نادرٍ
سأهديها قمراً مغسولاً بالحبِّ
وأُخيّرُها أيّ الأقمارِ تنمو في سماءِ دهشتِها ؟
قمرٌ ليمونيٌّ لسماء البصرة الزرقاء
قمرٌ من فضّةٍ لسماء برلين
قمرٌ برتقاليٌّ على وجنتي نشوى ، يتصيّدُ في بَحْرَيْ عينيها عُريَ الحورياتِ
قمرٌ أرجوانيٌّ لمغناجٍ مسرفة الفتنة
يا هذي المُبْتَلّة بندى الخُزامى
دعي الزغبَ المجنونَ على صدركِ يجهش
وعلى الترائب اُتركي حَيْرَةَ الحائرِ
يا هذي التي حين بنا تشرقُ ، من نفوسِنا يزولُ الظلامُ
أطلقي أقمارَك الشقراء
فأنا على أبوابِ العواصم مسحورٌ
وأنا في مدينةٍ بماء السماءِ مغسولة وفيها لا أعرفُ ظلّي
قمرٌ لمدينةٍ مُعمّدة بزيتِ الوفاءِ
مُعمّدة بماء العشقِ
قمرٌ لمدينةٍ تزورني قبل المنامِ
في المنامِ
بعد المنامِ
قمرٌ لمدينةٍ تُداهمها في كلِّ العصورِ حروبٌ
قمرٌ لمدينةٍ تبحثُ عن ضحكةٍ بوجه السلامِ
وعلى أبوابِها ينتحرُ مثلَ الورودِ أبناؤها

نحن في السَّحرِ ندخلُ .. وزّعتُ أقماري على بهجةِ المُدنِ ووراء نافذتي المسكونة بوحشةِ الغريبِ وقفتُ .. وفي تلك الساعةِ لم يخفقْ جنحٌ أو تصدر نأمةٌ .. قلتُ سأترك لنشوى أنْ تحتفيَ بالمدينةِ كما يجب .. سأترك لنشوى ضيافةَ ضيفتنا المدينة .. سأهتفُ بنشوى : يا نشوى بالبصرة احتفي وبها اعتني وبسحرِها وطيبِها تغنّي .. ثم تراجعتُ .. أنا المخبول بطيفِ البصرةِ تراجعتُ .. أنا المجبول من طينِها تراجعتُ .. أنا المهووس بذكرِها تراجعتُ .. ثم تساءلتُ : مَن قال إنها البصرةُ ؟ ربما كانت مدينةً أخرى ! هل كانت مدينةً أخرى؟ وفي عنادي مضيتُ : ومِن المدنِ مَنْ تجرؤ على طرقِ بابي سواها ؟ مَنْ تتجشم عناءَ المجيء ؟
على حافّةِ الفجرِ جسدٌ مُبتلى يرقدُ هو جسدي .. على آفاقٍ غريبةٍ ذاكرةٌ تتفجرُ دوماً هي ذاكرتي .. صوتٌ يهدرُ في داخلي يكتسحُ كلَّ الصمتِ المتشبثِ بسماء برلين .
جاء الفجرُ متقمصاً دورَ مسرحٍ في الهواء الطلقِ ، ليعرضَ فصلاً من الكوميديا السوداء أو فصلاً مرّاً ما استساغته ذائقةٌ . جاء الفجرُ . إنتبهتُ :
ـ ماذا فعلتِ بضيفتِنا المدينة يا نشوى ؟
ـ هَدْهَدْتُها وراحت في رقادٍ عميقٍ .
اقتربتُ منها . قبّلتُها . قبّلتني . قالت :
ـ حبيبان غريبان نحن .
ـ لا ، قلتُ ، لم نَعُد غريبين يا نشوى فالمدينة إلينا كلّها جاءت ، على الأقل الآن .. إليها عُدْنا وإلينا عادت .
إلى جوارِ البصرةِ تمددنا .. في رقادٍ طويلٍ مضينا .. من شاطيءٍ تغفو عليه المدينةُ ، في الحُلُمِ ، أسْرينا .. صرنا نجوب البلادَ.. نُطلقُ النداءَ :
يا أهلَ البلادِ .. يا أهلَ البلادِ
لم تتعرفْ علينا البلادُ
أنْكَرَنا أهلُ البلادِ
هل أنْكَرتْنا البلادُ وأنْكَرَنا أهلُ البلادِ ؟
قبل انبلاجِ الشعاعِ صحونا .. لم نجد المدينةَ ولا رائحة من إسرائنا الكابوس .. لم تقل المدينةُ إنها عائدة ولم تقل أتبعوني .
سألتُ نشوى :
ـ أين المدينةُ يا حبيبتي ؟
ـ لا علمَ لي .. كنّا نياماً حين غادرتْنا ولم تتركْ وصيةً .
احتضنتُها .. أبحرتُ في عبيرٍ صباحيٍّ .. إلى المنامِ عُدنا .
سكتَ حمدانُ برهةً ، ثم واصل الكلامَ :
قبيل الظهيرةِ أَفِقْنا .. إنبعثنا في المنفى مجدداً .. هكذا نحن في دورةٍ قاهرةٍ تمرُّ علينا كلَّ يومٍ مرّتين : نموتُ ونحيا ثم نموتُ ونحيا .. أحدٌ لم يطرقْ علينا باباً .. بنا لم يتصلْ أحدٌ وإلى ضجيجٍ ما ، لم ننصرفْ، إنما بشيءٍ من العزلةِ نتسلّى . برلين بكلِّ أُبهتِها .. بكلِّ عظمتِها ، إليها ما استطاعت استدراجَنا والجنّةُ تبدأ من بهجةِ النّفْسِ والنّفس ليست مُضاءةً .. برلين بكلِّ عنفوانِها لم تستطع احتواءَ نفوسِنا المتطلعةِ ، الحالمةِ بالعودةِ إلى كينونتها الأولى . برلين بكلّ إصرارِها لم تستطع تدجينَ أرواحِنا اللائبة .. والعراقيون ، المهاجرون ، المنفيون ، اللاجئون ، الذين بهم ضاقت البحارُ وازدحم بأجسادِهم الموجُ واكتظت بأحلامِهم المطاراتُ وبرؤاهم المحطاتُ ، هؤلاء على كثرتهم ، وهم بالآلاف ، لم يبقَ منهم في غربالِ التجربةِ غيرُ نفرٍ ، بضعة أشخاصٍ . عراقيو الغربةِ ، المهجرِ ـ في معظمِهم ـ أفّاقون .. كذّابون .. نصّابون بهيئاتٍ محنّطةٍ .. محتالون بتعالٍ .. فيما بينهم مختلفون .. متخالفون .. متناحرون على أشياء لا قيمة لها . عراقيو المهجرِ ، الغربةِ ـ في معظمِهم ـ بلا قيمٍ أصيلةٍ . هنا ، ربما ، تجرّدوا من مرجعياتٍ أخلاقيةٍ وسلوكيةٍ . عراقيو الغربةِ الذين فقدوا بوصلةَ الطريقِ تخلقوا بأخلاقٍ غريبةٍ ومنهم ـ من أبناءِ الأقلياتِ القوميةِ الذين كانوا أشدّ عنصرية وأكثر عدائية تجاه العراق ـ رأينا العجبَ . العراقيون ، أبناء الخصبِ .. أبناء حضارةٍ عمقها التاريخي سبعة آلاف عام كما يزعمون في كلّ حين ليسوا متحضرين .. العراقيون ، أبناء الأديانِ الصغيرةِ والطوائف الضئيلة ، متعصبون ، منغلقون ، عدوانيون ، ناكرو الوطنِ والأخوةِ ، انقلبوا على انتمائهم الوطني كأنهم ليسوا من وادي الرافدين ولا مِن بلاد ما بين نهرين .. كأنهم ليسوا من أرضِ السوادِ ولا مِن أبناءِ العراق وصارت لكلِّ منهم تقيةٌ ما .. باطنيون . ساقطون .. غير متسامحين فنحن لم نلمسْ منهم هذه الكراهيةَ داخل الوطن . فمَنْ غيّر في بنائهم النفسي والأخلاقي ؟ هل نفخ البغضاءَ في أفئدتِهم روحٌ خارجيٌّ أم بانَ حين وِضِعَ على المحكِّ معدنُهم الرديء ؟
إنفعل حمدان في كلماتِه الأخيرةِ فكظمَ غيظاً ولاذ بالصمتِ .
* * *
أطرقتْ ثُريّا .. إلى وجهِ مسعد رفعتْ عينيها .. تحسّرتْ ثم علّقتْ :
ـ أيُّ شعورٍ هذا ، بالمرارةِ مترع !. إنّها خيبةُ آمالِ الرجال .
قال مسعد :
ـ فجَعَهُ انقلابٌ في نفوسِ القومِ . نفوس قوم غيّرتها الحروبُ وطحنتها المحنُ .
ـ وماذا حصل بعدئذٍ ؟
ـ إعتزل الناسَ وفي بيته إعتكفَ وصار لا يستقبل إلاّ الخاصّة من صحبِه .
ـ عاش غربةً مركّبةً إذن ؟
ـ أجل ، حاولتُ أنْ أثنيه عن قرارِه .. أنْ أُخرجَه عمّا هو عليه دون فائدةٍ فكما تعلمين هو مزاجُ الشاعرِ والروائيِّ الذي لا يستقرّ على حالٍ .
ـ ما دورُ نشوى في هذا ؟
ـ تركتْ له الخيارَ ، فنشوى تبحثُ عن راحتِه وتتجنبُ استثارتَه .
ـ أكملْ وماذا بعد ؟
ـ أ نهذي النهارَ عن حمدان .. أ نهدرُ الوقتَ في ذكراه ؟
ـ أجل ، أجل .. لِمَ لا ، فنحن لا نعلمُ عن رجالٍ تحصّنوا بالطهرِ . نحن لم نرَ ما رأوا ومع هذا على طهرِهم رحلوا .
ـ في تلك الليلةِ تركته حين لاذَ بصمتهِ . ودعتهما ، هو ونشوى ، وخرجتُ . كان الفجرُ يترنمُ بهدوءٍ في سماء برلين .
لم أنم ما تبقّى من الوقتِ .. لم أنم ساعةً .. لم أنم لحظةً .. شجنٌ تلبّسني بعد العودةِ من بيتِ حمدان .. أسفٌ عصف بي ومدّ مخالبَه إلى صدري .. أسفٌ على ما بلغتْ حالُ صاحبي من عذابٍ .. كيف يمكن لرجلٍ مثلِه أفنى عمرَه في حبِّ الناس ، قضى دهراً يدافعُ عن حقوقِ شعوبٍ صغيرةٍ ظلّت تتظلم وتستصرخُ كلَّ نفسٍ شريفةٍ فدخل السجونَ وتنقّل من أجلِها بين المعتقلات ، أنْ يواجه جحودَها وجحودَ أبناء جلدتِه فتتضاعف غربتُه ؟ كيف يمكن لقومٍ أنْ يتنكروا لمَنْ ألبسته المدنُ ثوبَ النقاء وكسته أرديةَ العفّةِ ؟ إنها المُغْتَرَباتُ الكافرةُ . إنه سلوكُ بعض أبناء المهجرِ . إنها المنافي التي لا وقت لديها لكي تفرّقَ بين التبرِ والترابِ بين الهجينِ والأصيلِ أو تُميّزَ بين عفيفٍ ، كريمٍ ، نفسه بالطيباتِ ممتلئة وبين نفّاجٍ ، دعيٍّ ، أفّاقٍ ونهّازِ فرصٍ خبيث . لم أنم .. تركتُ الذاكرةَ تذرفُ من الدمعِ ما تشاء .. تركتها تتسكع في الطرقاتِ المنسيةِ وتتفتحُ أمامَ أبوابٍ مشرعةٍ على دهشةِ البريّةِ إلى مالانهاية .. تركتها تسكنُ آفاقاً ما رامتها لحظةً وتجوبُ سماواتٍ تُرقِّص أقماراً مازالت فتيةً .. تركتها تجهش على أرضِ برلين كما تريد ، فوق جليدِ الصباحِ المتصلبِ . بها أهتفُ : أجهشي ما رغبتِ يا وردة الثلجِ .. أرقصي ما اشتهيتِ فأنا عامر الصحوةِ ، متيقظٌ في كلِّ حين .
لكنني ومن خللٍ في جدارِ الصحوةِ غفوتُ .. أخذتني الرؤيا بعيداً .. رأيتُ الحربَ على أبوابِ العراقِ تتمطّى .. في صالوناتِ الجيرانِ من أبناءِ عمومتِنا نزعتْ ثيابَ السفرِ وارتدتْ حلّةً جديدةً .. الحربُ في غرفِ نومِ أخوتنا الخليجيين تتراهزُ وإياهم في حالةٍ من انسجامٍ إنسانيٍّ بالودِّ مزهر .. وصالٌ تجريبيٌّ شبقيُّ النزعةِ يُسهّلُ رؤيةَ المأتى. الحربُ على أبوابِ العراق ، والعراق يتصدى لها ـ كما يقول حمدانُ الخصيبي ـ وحيداً . الحربُ أمام درع الجزيرةِ تتعهرُ وهذا يتمطّقُ شهوةً .
أفقتُ .. كان الصباحُ رصاصياً غامضَ المعنى.. تحسستُ وحدتي .. تحسستُ وحشتي .. تذكرتُ الرؤيا .. بكيتُ على وطنٍ لم يخرج من طاحونةِ الموتِ : لا أظنُّ أنّ هناك بلداً على سطحِ الكوكبِ تعرّض أبناؤه للإبادةِ البشريةِ كالعراق .. لا أظنُّ أنّ أرضاً على سطحِ الكوكبِ تعرضت للإنتهاكِ مثل أرضِ العراقِ . حروبٌ طاحنةٌ عَبْرَ التاريخِ .. ما أكثرها ! لم تتوقفْ منذ غزوةِ جدِّنا جلجامش لغاباتِ الأرزِ وقتله لحارس الغابةِ خمبابا لا من أجلِ ما يفتخرُ به الأحفادُ ، وهم للأسف يفتخرون ، إنما من أجلِ عشبةِ الخلودِ . جلجامش هذا كان طامعاً بالخلودِ . إنه مَنْ فتحَ أبوابَ الغزوِ في التاريخ . لم تتوقف الحروبُ منذ صراعِ المتوحشِ أنكيدو والثور السماويّ . غزوةُ الأرزِ هذه فتحتْ على العراقِ أبوابَ الجحيمِ .. عراق ظلّ يتهدم كلّما ابتنيته.. بلدٌ يتحطّمُ .. يتكسرُ مثلَ كأسٍ زجاجيةٍ .. بلدٌ يتخلّى عنه أبناؤه في كلِّ حَوْلٍ ليقدموه لغازٍ أو محتلٍّ على طبقٍ من رماد .. لم أسمعْ من قبل عن شعبٍ لا ينتمي لأرضهِ كالشعوبِ العراقية .. أيّ وطنٍ هذا يتربص به العدوُ والصديقُ كما يتربص به الأبناءُ !؟ .

فكّرتُ بالخروجِ من البيتِ وأفكاري مسالمةٌ ما لم تؤخذ بجريرةِ فكرةٍ أخرى . فكّرتُ أنْ أمنحَ نفسي نفحةَ فرحٍ .. مِنْ أين يأتي الفرحُ؟ .. يا إلهي ! هل يحقُّ لغريبٍ أنْ يبحثَ عن بهجةِ النّفْسِ ؟ كيف وقد علّمتنا المهاجرُ ما يشيبُ له رأسُ الوليدِ ؟ رنّ جرسُ الهاتفِ .. صوتٌ يحتطبُ في غابةٍ قصيةٍ .. صوتٌ يتقطعُ .. يتقطّرُ كالمسرّةِ إنْ زفّتها إليّ المصادفةُ .. صوتٌ يتبتّلُ .. يتعففُ في الطرفِ الآخر من الخطِّ .. صوتٌ ينمو فوق وجهِ الضحى .. يزهر على جسدِ النهارِ .. صوتٌ يتفتح في بريّةٍ .. يا هذا الصوت القادم عَبْرَ طبقاتِ الريحِ داعبْ زهرةَ روحي . صوتُ سلوى العراقية عن فكرةِ الخروج يُعطلني .
قاطعتهُ ثُريا بقوّة :
ـ مَنْ سلوى العراقية هذه التي تغزّلتَ بصوتِها ؟
ـ هي فاتنةٌ من أصلٍ عراقيٍّ ، جميلة الروحِ والجسدِ .
ـ ماذا أرادت في تلك الساعة ؟
ـ طلبتْ منّي أنْ أقنعَ حمدانَ الخصيبيّ بأنْ يلقيَ محاضرةً عن الحربِ وربما عن الغزوِ وحددتْ لهذا الغرضِ شهراً من الزمانِ .
ـ وبماذا أجبتَ ؟
ـ قلتُ لها سأفعلُ .
ـ أكملْ .
ـ سأكملُ .
مع نفسي تساءلتُ : في وضعٍ نفسيٍّ مُتردٍّ وفي ظروفٍ بالغةِ التعقيد هل يتمكن حمدانُ من إلقاء محاضرةٍ عن الحربِ ؟ سأحاولُ إقناعَه .

إلى الشارعِ خرجتُ .. أنعشتني نسمةٌ باردةٌ .. عانقتني واحدةٌ أخرى عبثت بوجهي وغادرت. كأنما أُوعزَ للربيعِ أنْ يتأخرَ هذا العام وطُلبَ من الشتاء أنْ يجثمَ على صدورِنا وقتاً أطول . بعض الاستثناءاتِ في قوانين الطبيعة علينا أنْ نتعوّدَ عليها إنْ حصلت . مرّت الحافلةُ .. لم أنتبه إلى مرورِها ، إنشغلتُ بتأملِ بقيةٍ من بقعةِ جليدٍ جاثمةٍ فوق وجهِ الأرضِ ، تشكّلت على هيئة خارطةِ العراق . كانت آخذةً بالتخلخلِ والذوبانِ فتقطعتْ من الداخلِ أوصالُها وظلّت حدودُها الخارجيةُ شبه سليمة .. مرّت الحافلةُ .. عليَّ أنْ انتظرَ وقتاً آخر . سأقنع حمدان الخصيبيّ أنْ يلقيَ محاضرةً عن الحربِ وربما عن الغزوِ كما قالت سلوى العراقية .. مع نفسي تساءلتُ : عمّاذا سيتحدثُ هذا الماركسي الجميل ؟ لا أدري كيف انزلقت قدماه مبكراً نحو الشيوعيةِ وهو المُحبّ للرئيس القومي العربي جمال عبدالناصر. سألتُه مرّةً وكنتُ مناكداً :
ـ كيف أصبحتَ شيوعياً وأنتَ تتغنّى بأفعالِ عبدالناصر ؟
أجابني بودٍّ :
ـ جمال عبدالناصر يمثل حالةَ النقاء في الفكر القومي العربي . فكرُ عبدالناصر ليس فكراً شوفينياً إنما هو فكرٌ إنسانيٌّ خالصٌ . إنه يُريد أنْ ينهضَ بهذه الأمةِ التي دخلت في سباتٍ قاتلٍ منذ انهيارِ الدولة العبّاسية .. يُريد أنْ يُحرّكَ جسدَ الأمةِ الساكنَ .. كان عبدالناصر صادق النوايا، أصيلَ الفكرةِ ولهذه الأسبابِ تكالب عليه أعداؤه في الداخلِ أكثر من الخارجِ . ولهذه الأسباب أحببناه .
" والآن يا حمدان وبعد خيباتِ الأحزابِ الشيوعيةِ وانتكاساتِها ، وبعد اعتزالك العمل السياسي ماذا أبقت لك الفكرةُ في زمنِ الشيخوخةِ ؟ هل العيبُ في التطبيقاتِ الخاطئة ؟ تغيّر حمدانُ الخصيبي فلم تعُد تلك الجماهيرُ الهادرةُ النابحةُ الكادحةُ ، في رأيه ، سوى أصواتِ غوغاء وحشودِ رعاع لا قيمة لها .. تغيّر حمدان ."

الحافلةُ أخذتني بعيداً .. الحافلةُ تُريدني معها .. الحافلةُ تشيحُ بوجهِها كلّما حاولتُ طلبَ النزولِ .. الحافلةُ تجلس أمامي كأيِّ كائنٍ يخالفني الرأيَ .. تتجاوزني حين أهمُّ بالكلامِ فتعلن عن شيءٍ آخر لا علاقة له بمبتغاي . الحافلةُ تلهيني عن النزولِ .. تصادرني. لعبةٌ مسليةٌ تلك التي صرتُ إليها في الحافلةِ التي تأبى فراقي .
بعد أخذٍ وردٍّ اقتنعتْ الحافلةُ فأنزلتني .. تعاطفتْ مع حيرتي وأنزلتني .. بالقربِ من شجرةِ كستناء تقفُ مثلي وحيدةً ، أنزلتني . أين ؟ إلى أين ذاهبٌ أنا ؟ من أين قادمٌ أنا ؟ أنا نبتة النارِ التي تلهبُ الطريقَ .. أنا قرنفلة المنافي التي يُطلقها الجليدُ .. أنا مسعد بن عامر الكناني المشطوب من ذاكرةِ المُدنِ .. أنا نغمة المسافةِ التي أجزلتْ عليها برلين شيئاً من ندى حين انبثقت في التضاريس . أُسكبي قليلاً من شهدِ الأمانِ على نفسي المعذبة أيتها المدينةُ المنتفضة بالرفضِ لكلِّ نوعٍ من أنواعِ الحروبِ .. أنتِ مَنْ جرّب آلامَ الحروبِ ودمارَها وجرّب أوجاعَها.. إلى أين يا برلين التي لا تحايد وأنتِ أعرفُ بقسوةِ رعاةِ البقرِ ؟ وبرلين ترتدي جلبابَ الحكمةِ .. لباسَ الأنفةِ وتُطلقُ صفّاراتِ الأنذارِ .. تخرجُ عن بكرةِ أبيها في مظاهراتٍ عارمةٍ تعلنُ صراحةً " لا للحربِ على العراق " ، وأمام بوّابة مبنى جامعة هامبولدت في شارعِ تحت أشجارِ الزيزفون يتجمهر الألمانُ كلَّ مساء من يوم الأثنين ثم ينطلقون بحشودِهم الرافضة للحربِ حتى بوّابةِ براندنبورغ . برلين سيدة الطقوسِ فرضتْ طقساً جديداً لم يشاركْ فيه مِن أصلِ عشرةِ آلاف عراقي في برلين سوى ثلاثةِ عراقيين ليسوا مِن الشيعةِ ولا مِن السنةِ ولا مِن الأكراد ولا مِن الشيوعيين ولا مِن البعثيين . هؤلاء البعثيون الذين حلبوا ضرعَ العراق حتى القطرةِ الأخيرةِ لم يشاركوا في رفضِ الحربِ على بلدِهم ولم يدافعوا عن نظامِهم ولم يذودوا عن فروجِ نسائهم . هؤلاء الخنازير أقرب إلى شيوعيي الإتحاد السوفيتي في الضعةِ والسقوطِ حيث لم يخرجْ شيوعيٌّ واحدٌ ، من أصلِ أكثر من عشرين مليون عضو حزب ، مُحْتَجّاً على سقوطِ بلادهِ .

أنزلتني الحافلةُ .. ألقتْ عليَّ تحيةَ الوداعِ وغادرتني . الحافلةُ الأليفةُ لا تقصد إيذائي إنما رامتْ ملاطفتي ، مداعبتي ، مناكدتي .. ستعودُ في نفسِ الطريقِ .. هي لا تملُّ من مسامرةِ الطرقاتِ ، نفس الطرقاتِ ، ولا مِن أُلفةِ الأشياء ، ربما نفس الأشياء .
إلى سوقٍ في " أوروبا سنتر " مضيتُ . تسرّني رؤيةُ معمارِ السوقِ وتدهشني هندسةُ السقوفِ .. يسحرني مقهىً بين النافوراتِ .. كم يعجبني إرتياده !.. مِن هناك اتصلتُ بحمدان . عن حالهِ سألتُه وأخبرتُه برغبةِ سلوى العراقية في أنْ يلقيَ محاضرةً عن الحربِ . لم يتردد حمدان وأدهشتني سرعةُ موافقته . قال :
ـ سألقي محاضرةً عن الحربِ وعن الغزوِ .
ـ ولكن الغزوَ ربما لم يحصلْ .
ـ سيحصل يا مسعد .
ـ إذن أخبرْها بموافقتِكَ .
ـ أجل ، سأخبرُها ، أعطِني رقمَ هاتفِها المحمول .
أعطيته رقمَ هاتفِ سلوى المحمول وأخبرتُه أنني سأستنشقُ في السوقِ بعضاً من روائح الجميلاتِ .. أتصيّدُ ضحكاتِ النسوةِ ودفءَ المعاطفِ . قلتُ له : تُجنني النهودُ المختبئةُ وراء البلوزات وتُغريني الصدورُ المتفجرةُ تحت الشالات ، وأضفتُ : إنْ رغبتَ في المجيءِ فسأنتظرُك بين النافوراتِ . اعتذر عن المجيء حمدان وقال : إنْ بقيَ لديك وقتٌ فعرّج صوبي في المساء .

لم تسألْ ثُريا .. لم تعترضْ على جملةٍ أو عبارةٍ . ظلّت تُحملقُ في عينيه. كانت تنتظرُ المزيدَ وحين سكتَ طالبتْه بالاستمرارِ .
قالت : أكملْ .
سأكملُ :
تجاوزنا منتصفَ آذار ـ مارس ، ولم ترفّ في سمائنا جنحٌ ربيعية.. لم يتنفس المدى شذى زهرةٍ .. لم تعبثْ بالرّيحِ حبوبُ لقاحٍ .. لم نتنسمْ عطراً في شرفةٍ أو شارعٍ وفينا لم تتفتحْ نظرةٌ وعلى أسطحِنا لم يطربْ طيرٌ .. لم يتبرعمْ غصنٌ ولم تتسيدْ هامَ الشجرِ يمامةٌ فيما الشرُّ المُتربصُ بالعراق يغذُّ السيرَ والقاتلُ دولٌ كبرى .
اقتربَ المساءُ وسأتعللُ لو ناسبني الوقتُ في هيروديا الحانةِ . كان عليَّ أنْ أسكرَ .. أنْ أرى عَبْرَ ظلالِ المكرِ صدرَ الرغبةِ وجسدَ سالومي المتفجرَ شهوةً .. أنْ أتبخّرَ من نهرٍ فاتنٍ بعطرٍ فاجرٍ . أعلني عليَّ حرباً هيروديا واتركي الحانةَ تبتل .. اتركيها أنْ تحتفيَ بقدومِ قادةٍ خسروا الحروبَ وبالقائدِ المقدامِ تتلهى ندلٌ فاتناتٌ . أعلني هيروديا عن رأسٍ سيأتي .. في صينيةٍ مِن فضّةٍ سيأتي رأسُ الجدِّ يوحنا المعمدان وأوعزي لبنتِ سفاحِك سالومي أنْ ترقصَ في الحفلِ ، تتفتقَ بالرقصِ ، تتفتحَ بالأحضانِ .. أرقصي بشبقٍ عاتٍ .. بتهتكٍ قاتلٍ .
اصلبْه .. اصلبْه
ولترقص حتى الفجرِ سالومي
ليبتهج بوجهِ الحانةِ صدرٌ
وليسموَ نهدٌ
لتحترق الدُّنيا مِن برقٍ يجهش في فخذٍ
اصلبْه
هذا ملكٌ نفّاجٌ
تهتفُ العامةُ وتستغرقُ :
يا بيلاطُس .. يا حاكم الملوك
اصلبْه
اصلبْ ملكَ اليهود هذا واطلقْ حبيبنا باراباس
لكن لم يأتِ شرّاً
يا كبار الكهنة الأنذال .. يا كهّان المعبد
ما عمل شرّاً
وقاتلٌ هو الحسدُ
اقتلْه .. اقتلْه
فهذا الجاني نعرف
وتحت وهجِ الشمسِ اضربْ عنقَه
يقولُ الحاكمُ :
ماذا أفعلُ بمَن أتى شرّاً ورامَ قتلَ الإله ؟
اقتلْهُ مولاي
فعبدالله هذا نعرفه :
أفّاقٌ .. زنديقٌ .. زانٍ
اقطعْ بنصلِ السيف أصلَه
وعبدالله يُطلقُ حسرةً حين يتدلّى رأسُه :
لا خير في شعبٍ أردتُ له الحياةَ فأرادَ لي الموتَ
وسالومي
تتأوه .. تتنهدُ .. تتغنجُ .. تتهتكُ
تفحشُ في الميدانِ
وسالومي تُطلقُ شوقَ النهدين
في حضرةِ حاكمٍ يسكر
وتترك بطناً يتفجّر
سيأتي رأسُ يوحنّا
سالومي
على طبقٍ من شهوةٍ
سالومي
على جسدٍ من بلوى
سالومي
ويأتي الحكمُ وتأتي الشهرةُ
سيأتي رأسُ الربِّ
وتبتهجُ هيروديا
سالومي
أيتها البغيُّ ارقصي
ارقصي
تلوّي كأفعى
افحشي
حتى يدخلَ ماناي
ممسكاً رأساً من شعْرٍ
افحشي حتى تحينَ الساعةُ
افحشي
افحشي
حتى تحينَ الساعةُ
دخلتُ الحانةَ والمساءُ في أولِ زيارته . على شبحِ هيروديا أطلقتُ التحيةَ وكانت النادلُ تشعُّ .. تصرخُ فتنةً . اقتربتْ .
ـ اُتركي ريحَك العاتيةَ تقتلعني .
أمرتُها . ضحكتْ بدلالٍ وجُنَّ في مبسمِها اللؤلؤُ .
ـ ما اسمك يا طيب الليالي الحالمات ؟
ـ نيكول أنا .
حين هجستْ ، صوّتُّ :
ـ يا ربِّ احفظْ خلقَك الطيبين ويا أرض أحفظي ما عليك .
ـ ماذا تشرب ؟ سألتْ .
ـ خمرُ الهديلِ .
ـ لم أسمعْ به .
ـ أجلبي مما يتقطّر في فمِك حين تهدلين .
ـ أنتَ تمازحني .
ـ لا أمزحُ وحقّك و وحقّ مَنْ سوّاك وأغدقَ على صورتِك .. أهدلي وأجلبي ندى الهديلِ .. ماءَ الهديلِ .
لم تقتنعْ نيكول بهذا الهذيانِ الجميلِ .. بعد حينٍ جلبتْ كأساً عجيبةَ الطعمِ .
ـ ما هذه يا قرّة عيني ؟
ـ روحُ الهديلِ .
أجابتْ .. ضحكتْ .. هدلتْ ومضتْ .
احتسيتُ ما في الكأسِ من روحِ الهديلِ .. احتسيتُ رضاباً مطعماً بالنبيذِ .. احتسيتُ شراباً لم تتفتقْ عليه مخيلتي ولم تعرفْه شهيتي وحين بالقربِ منّي مرّت ثانيةً طالبتُها بكأسٍ أخرى . قالت :
ـ إني أمنحُ لمَنْ أُحبُّ مرّةً واحدةً .
عجبتُ للأمرِ .. ثملتُ . تقدمتْ سالومي ميدانَ الرقصِ .. تثنّت .. اهتزّت .. أدلقتْ فوق الجلوسِ فجورَها . كان القادةُ على جسدٍ ناريٍّ يتصبرون ومنها لمسة يتوسلون . صحتُ :
ـ نيكول الليلةَ أطيعيني فأنا منطفئٌ وقمرُك شاهقٌ ومشرقٌ .. أطيعيني نيكول فأنا عصيٌّ على لغةِ الحانةِ وعن جسدِ هيروديا غريبٌ ، ومِن صبرٍ تجرّدتُ فأطيعيني .
عصفت نيكول :
ـ اشربْ .. اشربْ وسنعود بريحٍ تقلبُ المائدةَ .
ـ لم أفهم يا حمامة قلبي .. لم أعرفْ طبعَ الريحِ .. أنا أُحدثُكِ عن ليلةٍ نطيرُ فيها فوقَ أشواقِ الحانةِ .. أنا أُحدثُكِ عن شيءٍ يعصفُ في جوفي مثلما تعصفُ سالومي بميدانِ الحانةِ .. لم أفهم يا نادل هيروديا حين تثنين عليَّ بكأسٍ أخرى أو بما يشبه الرغيفَ في طبقِ الجنونِ .. أطيعيني نيكول ولا تنتظري الريحَ التي ستعصفُ بالمائدةِ أو ستوقفُ هيروديا بين المفترقاتِ ، وسالومي تغوي الجندَ والرهبانَ أو تدعو الربَّ إلى حفلةِ ذبحٍ ، فالقاتلُ دولٌ كبرى تُعلنُ مِن جُزرِ الآزور عن جَزْرِ الشاةِ وجزِّ الرأسِ . أطيعيني نيكول فبيني وبين بغدادَ سوادُ الليلةِ وبيني وبينك نهرٌ من وردٍ أسود وبكاء .. وبيني وبينك موتٌ في بلادي لا يتوقف .. وبيني وبينك أرضٌ ستخربُها التوراةُ ويدمرُها النصُّ .. آه بابل صرنا ندفعُ بلا حدودٍ .. آه بابل شيّدي الهيكلَ وأعيدي إلى أرضِه السبيَّ وإلاّ سنُخرّبُ مليونَ عامٍ .. آه بابل سيمرُّ من فوقك ألفُ قورش ولا ينصفُك دانيالُ واحد .. أطيعيني نيكول ، ونيكول تستغربُ طرحي وتستعجم فكري ، ونيكول معي صارت لا تأخذ ولا تعطي .
كم مضى من الوقتِ يا سيدتي ؟ فالليلة قالوا انكسر في بغداد الأعرابُ وشاعت أخبارٌ عن خسوفٍ كُلّيٍّ أزليٍّ لا نرى بعده الضوءَ. كم مضى مِن الوقتِ نيكول وأنتِ تتزهدين وتتمنعين فيما أنا وفّرتُ لك الغصنَ والعصفورَ ونثرتُ سوسنَ المتعةِ في ثنايا الطريقِ ؟ كم مضى من الوقتِ حين صرنا نتورّقُ تحت ندى الكلامِ أو تحت روحِ الهديلِ ؟ ثنّي عليّ بكأسٍ أخرى وحققي لي عودةً لما قبل الفطامِ .. حققي فيّ الدهشةَ .
لم تُعلّق ثُريّا على أيةِ جملةٍ وظلّت للحديثِ منصتةً .
ما قبل العاشرة ليلاً من هيروديا الحانةِ خرجتُ .. كنتُ أتصببُ فجوراً وسيفي معلّقٌ في الريحِ .. لم أتملّ وجه هيروديا .. لم أدخلْ ميدان سالومي .. لم أشاركْ قادةً خاسئين .. لم أطلبْ سوى جسدٍ مشبوبٍ رافضٍ .. وداعاً نيكول قُلتُ ومن بعدي أرسلتْ هديلاً .
بالحافلةِ التي تتهجّى المسافةَ وصلتُ إلى شقّةِ حمدان الخصيبي . كان بالكتابةِ منشغلاً ونشوى تحصدُ الأخبارَ من قناةٍ تلفزيونيةٍ لأخرى. بوجهي أشرقا رغم السحبِ التي تغطي سماءَ العراق . سألني على الفور :
ـ أين أمسيتَ ؟
ـ في هيروديا الحانة .
ـ أنتَ لا تبحث إلاّ في جمالِ الأساطير .
ـ وعن شجرةِ آدم في عرضِ اليمِّ .
ـ وعن حمامةِ الروحِ وتفّاحةِ القلبِ وعن أشياءٍ في مكنونِ الحانةِ .
ـ رقصتْ أفعى الماء في باحةِ الحانةِ تخيلتُها سالومي في رقصتِها الانجيليةِ المتخيّلةِ الشهيرةِ من أجلِ حزِّ رأسِ يوحنّا المعمدان .. كانت باهرةً بجنونٍ وماهرةً باشتهاء .
ـ وهل هناك أبهر وأمهر مِن النادلِ نيكول .
ـ أنتَ تعرفُها ؟
ـ قطعاً . دخلنا مصادفةً في ليلةِ عيد ، نشوى وأنا ، إلى حانةِ هيروديا.
ـ ورقصتْ ؟
ـ قطّعتْ أوصالَ الحانةِ .
عقّبتْ نشوى بإعجاب :
ـ كانت غصناً في ريحٍ . كانت هبوباً . إنها أجمل أفاعي الماء ، وأجمل الدلافين حين تكون في أعتى زهوٍ لها . أنا مُعجبةٌ بأدائها حين تُصبح أجملَ الرياحِ .
قلتُ مُتعجباً :
ـ الله .. الله . أيُّ تصويرٍ باذخٍ هذا .. لقد حدثتني هي الأخرى عن ريحٍ تقلبُ الموائدَ .
قال حمدانُ مغيّراً مجرى الحديثِ :
ـ اتصلتُ بسلوى العراقية واتفقتُ معها على زمانِ ومكانِ المحاضرة.
ـ لكنك لم تطلبْ مقابلتَها ؟
ـ سأتركُ أمرَ التعارفِ لك .
ـ سأفعل .
ـ غداً ستبدأ الحربُ .. سيُغزى العراقُ وسيُحتلُّ العراقُ .
ـ وما أدراك ؟
ـ أهدافُ الحلفاء شبه معلنةٍ وأسبابُهم واهيةٌ وسيكون هذا الكلامُ في صميمِ محاضرتي .
ـ إذن سيُمزّقُ العراقُ .
ـ سيُدمّرُ أولاً ثم تتقطّعُ أوصالَه .. ليس هناك مَنْ يدافع عنه وليس هناك مَن يعلن الولاءَ له .. اقرأ التاريخَ ، ستجدُ هناك ثمّة خيانة دائماً وسيسقطُ بدون قتالٍ يُذكر .. بابل على عهدِ نبونيد أسقطتها الخيانةُ . إنها لعنةُ السبيّ . إتفق المسبيون مع قورش فأسقطوها ، وأُسقطت بغدادُ في أواخر أيامِ الدولةِ العباسيةِ بنفسِ السلاحِ ، وما أشبه اليوم بالبارحةِ حيث نجدُ نفسَ الطوائفِ ونفسَ الأقلياتِ . الخائنون بعدئذ يخلعون على أنفسِهم ثوباً آخر لا يليقُ بهم .. ثوباً بطولياً .. يركبون موجةَ التحريرِ ويعلنون أنهم كانوا المدافعين عن العراقِ وسيادتِه . سيسجّلُ لهم التاريخُ مآثرَ باطلة . دائماً هي الحالُ هكذا . هولاكو دخلَ بغدادَ بدون قتالٍ تقريباً كما دخل قورشُ بابلَ. كتبغا النسطوري قائدُ حملة هولاكو على بغداد كان يحملُ فرمانَ السيدةِ النسطورية دوقوس خاتون زوجة هولاكو : أعملْ سيفَك بكلِّ مَن هو غيرُ مسيحيٍّ إلاّ إذا كان متعاوناً . حكّامُ الشامِ الأيوبيون ، والسلطان الملك الناصر يوسف على رأسِهم ، خانوا الخليفةَ القابعَ في بغداد ولم ينجدوه أو يهبّوا لنصرتِه وعلى جبنِهم كانوا مِن الشامتين . لكنهم ومع هذه الجفوةِ للخليفةِ ومحاولات الإبقاء على رؤوسِهم لم يسلموا من غضبِ هولاكو . استباحَ دمشقَ وتحوّلت المساجدُ ودورُ العبادةِ إلى مراحيض للسكارى والضالين من المسيحين الشامتين بالخلافة والمنتشين من عذوبةِ كأسٍ نسطوريةٍ ، والذين راحوا يحصدون ثمارَ النصرِ النسطوري بإيذاء المسلمين .. تنفسوا نسائمَ دولةٍ مسيحيةٍ ظنّوها دائمةً لهم فراحوا ينتقمون من أخوتِهم في الوطن بالإعلانِ الصريحِ عن شربِ الخمورِ والإفطارِ العلني في شهر رمضان . كان عليهم أن يتركوا خطّاً للرجعةِ ولا يقطّعوا جميعَ السبلِ . طلّقوا كلَّ شئٍ في لحظةٍ من نشوةِ النصرِ المغولي .. أبناء الأقليات في العراق دائماً يفضّلون الغزاةَ على أبناءِ جلدتِهم .. دائماً .. دائماً يمدّون يدَ المساعدةِ للغزاةِ .. دائماً .. دائماً ، وهم يعلمون أنّ الغزاةَ والمحتلين عائدون من حيث أتوا .. يؤسفني هذا الطرح فمَنْ يسوسنا من خارجِنا يأت .. نبحثُ عن الحكمةِ في رأسِ الغريبِ والبعيدِ .. في عقلِ الآخر . العراقيون ضد بعضِهم مستخدمون مِن قبل الغرباء ، فباستطاعةِ أيِّ جاهلٍ أن يدقَّ أسفينَ الفرقةِ بينهم ، أنْ يخلقَ فتنةً طائفيةً أو يثيرَ نزعةً قوميةً ، عنصريةً على وجهِ الدقّةِ .. لم يحدثنا التاريخُ عن وحدةِ أهلِ العراق منذُ الأزلِ ، ولسنا استثناء بين الأممِ إنما في أعلى زهوِ العصرِ والتحضر لا بدّ من الوحدةِ .. لابدّ من دخولِ العصرِ بوجهٍ إنسانيٍّ مشرقٍ .. ما نتناحر من أجلهِ يجب أنْ يكونَ مصدرَ وحدةٍ لا فرقة .. ما نختلف عليه يجب أنْ يكونَ مصدراً للقوّةِ لا للضعفِ .. دوقوس خاتون لم تضاجعْ كتبغا ، امتناناً له على تحريرِ بغدادَ مِن بُناتِها ، إلاّ مرّة واحدةً ربما وجدوهما في سريرِ الخليفةِ المقتولِ عراةً .. مَنْ رأى ؟ هذا الكلام مجرد يوتوبيا .. محض مخيلة ، بينما ضاجع الجنرالُ مود وجنودُه نصفَ نساءِ مدينة العمارة في العراءِ ، في عمقِ البريّةِ وبرضىً تام من أهلِ المدينةِ وشيوخِها فأنتجَ لنا جيلاً ملوناً ، مختلفاً . خيّم مود في العمارةِ قليلاً من الوقتِ فجعلنا نتغزّلُ ببعضِ العيونِ الزرقاء من بناتِ المدينةِ .. هذا ما فعله الفرسُ بنساءِ ورجالِ النجف وكربلاء كضمانةٍ أكيدةٍ لاستمرارِ حبِّ آل البيتِ .. واقعوا النساءَ في أكثرِ الأماكنِ قداسةً .. مع مرورِ الوقتِ صرنا لا نُميّزُ بين الفارسي والعربي .. شوّهوا العراق .. شوّهوا وجهَ العراق العربي . أسرحدون ، خائنُ أبيه سنحاريب العظيم الذي حاصر أورشليم ودمّر بابلَ ، صاهرَ القبائلَ العربيةَ المحيطةَ به لكي يضمنَ أمنَ المملكة ولم يصاهرْهم امتناناً لهم على خيانةٍ ما . سأقدّم محاضرةً تناسبُ الحدثَ وسوف تشاركان ، أنتَ ونشوى ، في موضوعِها .. لابدّ من مجموعةِ آراء .. لابدّ من مساعدتي . ثم صمتَ وقتاً .
تصوّري يا ثُريّا أيّ رجلٍ عظيمٍ حمدان هذا ؟ أيّ تواضعٍ جمٍّ يمتلك الرجلُ ؟ إنه ينوي اشراكَنا في خطابِه . هل تصدقين هذا يا ثُريا ؟
ردّت ثُريا :
ـ ومِن السهلِ أنْ نفرّطَ برجال مثل حمدان الخصيبي .
ـ هكذا هي الشعوبُ دائماً ، لا تشعرُ بالخساراتِ إلاّ حينما يرحلُ عظماؤها عندئذٍ تبحثُ عن مثّالٍ يصنعُ لها ذاكرةً .. الشعوبُ بالعظماء من أبنائها تبني أمجادَها وبعطائهم تتباهى وبهم يتمكن عزُّها وعليهم في حياتِهم تصبُّ اللعناتِ وتنبذهم وتفعل بهم ما لا يقبله العقلُ ويدعمه ضمير ، من إقصاء وإبعاد ومحوٍ.
سكتَ مسعد قليلاً .
حدّقتْ ثريا في عينيه الدامعتين وقالت :
ـ أكملْ حبيبي ولا تحزنْ .
قال مسعد بعد تنهيدةٍ :
ـ أشار حمدان إلى الحربِ . قال : إنها تتلهّى بحصباء الربع الخالي وببعضِ جنودٍ خرجوا من أكبادِنا ومِن الخوفِ فقدوا الرشدَ .. هذه حربٌ حملتْ معها كلَّ بحارِ الدنيا وصحاريها وأمامها انفتحت سمواتٌ ملوّنةٌ ، قوس قزحية .. هذه حربٌ دمثةُ الأخلاقِ .. حربٌ أخرى لا تقتلُ بشراً أو تجرحُ جرذاً .. إنها بردٌ وسلامٌ .. قالوا عنها إنها حربٌ إنسانيةٌ تلقي مِنْ أعلى طبقاتِ الهواء لأطفالِ البصرةِ حلوى وفي سماء بغداد ستنشرُ سلوى .. هذه حربٌ أخرى تُدخلُ في الناسِ المسرّةَ .. حربٌ تتوضأ في مكةَ وتصلّي في حضرةِ عليٍّ ويغدقُ عليها البابا أوربان الثاني صلواتِه وبركاتِه .. حربٌ يزفُّها علينا أبناءُ عمومتِنا المتنطعون خلف كثبانِ الرملِ وهم رجالٌ معمدون برائحةِ القهوةِ العربيةِ المُهيّلة في حصونِ درعِ الجزيرةِ المتلمظِ بعد ارتشافِ نهودِ الآسيويات وما تبقّى من جمهورياتِ شرقِ أوربا بعد انهيار حلف وارشو .. حربٌ يتأهّبُ فيها درعُ الجزيرةِ لصدِّ عدوانٍ محتملٍ من بغداد ، وبغداد لا تملك جورباً لقدميها الحافيتين ولم ترتدِ سروالاً لسترِ عورتها .. تساءل حمدانُ بسخريةٍ : لكن أين يتأهّبُ درعُ الجزيرة ؟ وأضاف : هذه حربٌ يزفّها الكونُ مِن صحارينا وخلجاننا وبمشاركةٍ من شيوخنا الأجلاّء المتواطئين الذين يسهمون في تحرير العراق من أبنائه . غداً تأتي الحربُ . سنرى دموعاً ودماءً غزيرةً .


سنرى خوفاً في كلِّ عينٍ ورعباً يسدُّ وجهَ المدى .. سنرى موتاً لن يرى جيلٌ آخر مثيلاً له .

سكتَ حمدان .. أتعبه المضيُّ في أرضٍ يبابٍ .. انتصف الليلُ .. استأذنتهما .. خرجتُ إلى شارعٍ متمردٍ على الصحوةِ في تلك الساعةِ العابثةِ المتهورةِ من ليلٍ آذاريٍّ من عام 2003 .. لم يبقَ من كأسِ نيكول الذهبيةِ الممتلئةِ بروحِ الهديلِ سوى خبرٍ بلا يقينٍ . لم يبقَ سوى طعمٍ لذيذٍ أما السكرةُ فخطتْ واستدارتْ ثم انحنتْ محييةً جلالتي وغادرتني منذ جملةِ حمدان الأولى .
صرتُ أتحسسُ صحوتي .. هذا عالمٌ لا يجب أنْ تعاشرَهُ إلاّ إذا كنتَ ثملاً .. هذا عالمٌ لا يجب أنْ تسايرَهُ وهو يمضي بالمقلوبِ .. هل أعودُ إلى هيروديا الحانةِ ؟ وهناك هل أستطيع أنْ أستجمعَ قواي وأهتفَ : نيكول الطقسُ باردُ والشوقُ إلى جنّتِك يشدُّني فألقي عليّ الدثارَ أو اسحقيني .. أو للأبد بين فخذيكِ أعطبيني .. صرتُ أُخيّرُ نفسي: هل أعودُ إلى البيتِ أم إلى نيكول ؟ هناك متسعٌ من الوقتِ ، والحانةُ مازالت تتشدقُ بالأجسادِ وأنا أزعمُ في الليلِ الأبيض أنَّ العمرَ المذعورَ خلف ضبابِ الدنيا يحتطبُ زهرةَ هذا العام .. حسمتُ أمري حين وقفتُ على بابِ الحانةِ .. مازال الضوءُ يبحرُ على بعضِ وجوهٍ ثملةٍ . مازال باذخاً على طاولاتٍ عامرةٍ .. مازال الضوءُ على
حزنِه تتشجّرُ الظلالُ .. مازالت نيكول في اللؤلؤِ تسبحُ .. مازالت تطيرُ بجسدِها الملتهبِ على سوسنةِ القلبِ .. مازالت ضحكتُها تتفجرُ ، تعانقُ السماءَ .. مازالت نيكول تهدلُ في جسدِ هيروديا الحانةِ . أعصفي نيكول وخُذيني إلى أقاصي الجنون .. أعصفي ولتمطرْ برلين هذه الليلةَ شهداً سحرياً .. أعصفي وتهيّجي واقذفي بي إلى جوفٍ مشرقِ اللذةِ . هنا أبيحُ لنفسي الهذيانَ .. هنا في هيروديا أتجنّحُ فأطير.. هنا يتعطّلُ هوسي الجميلُ حين أدخلُ في الذهولِ .. امنحيني لؤلؤةَ المكانِ .. أمنحيني لؤلؤةً واحدةً من هذا السائلِ المراقِ على جسدِك .. اقرئي عليه آياتٍ بيّناتٍ من كتابِ الليلِ وإليَّ قدّميه بشيءٍ من دهشٍ فاجعٍ ثم ادخليني في الحقلِ ، وفي الحقلِ أرتعي قبلي .. ارتعي واشبعي ثم بعثري ما تبقّى لنا من عصمةِ الليلِ .. نيكول اشهدي : نحن في المطلقِ .. في الصدمةِ . انتظرتُها .. غادر الروّادُ .. أُغلقت الحانةُ .. أخذتها للعاصفةِ .. أخذتني للعاصفةِ .. بعيداً عن هيروديا نعبثُ بالريحِ .. بعيداً عن سالومي وحزِّ الرقابِ .. بعيداً عن النبوءاتِ والثاراتِ . لهبٌ في عروقِنا شبَّ .. جمرٌ في أجسادنا اتقدَ .. نهمٌ ألمّ بنا .. أبْحَرْنا في سرابٍ جميلٍ .. في موجٍ لا يتبدد على ساحلٍ وقبل أول الموانئ أرست زوارقُنا لتستريحَ . لم يبقَ من نيكول سوى أنينٍ .. لم يبقَ منّي سوى لهاثٍ متسارعٍ . قلتُ في غمرةِ اللهاثِ : " يقيمُ إلهُ السمواتِ مملكةً لن تنقرضَ أبداً ومِلكُها لا يُتركُ لشعبٍ آخر وتسحقُ وتُفني كلّ هذه الممالك وهي تثبتُ إلى الأبد " . لم تفهم فاتنتي ما رميتُ إليه . ظلّت تحملقُ بعينين دهشتين . قلتُ :
أعذريني .. أعذري هواي .. أعذري فجوري وتلاعبي بأمزجةِ الخلقِ فأنا مغلوبٌ على أمري مقلوبٌ على رأسي .. الليلةَ سيُدمرُنا النصُّ حين تفنى ممالكُنا وتُقامُ مملكةُ الربِّ . لم تفهم قطّتي الصغيرةُ ما عنيتُ . أضفتُ : الليلةَ سيُدّقُ عنقُ التاريخِ على أرضِ السوادِ .. لم تفهم غانيتي الجميلةُ وأنا متلألئ كالعرقِ المتفصدِ فوق زغبٍ ملائكيٍّ ، سحريٍّ ، فردوسيٍّ .
أنتِ .. يا أنتِ .. هززتُها . أترقصين ؟
ابتسمتْ . أجابتْ : نعم وإنْ طلبتني للرقصِ سأُفجِّرُ ليلَك .
أنتِ يا أنتِ يا عذوبةَ النعناعِ أترقصين ؟
نهضتْ نيكول .. في منتصفِ الصالةِ وقفتْ .. تمددتْ .. تقلّصتْ .. تلوّتْ .. لمعتْ كتفاها .. أشرقتْ زنداها .. برقتْ ساعداها .. فجّرتْ بطنَها .. نضحتْ فخذاها .. عصفت وطارتْ إلى ساعديّ .. شممتُ باشتهاء نحرَها .. لثمتُ بعنفٍ ثغرَها .. قلتُ بصوتِ مَنْ هالتهُ الدهشةُ: أنتِ امرأةٌ للرؤيةِ لا للمسِ .. أنتِ مجبولةٌ من خليطِ أطيابِ الجنّةِ ولستِ مِن ماءٍ وطينٍ .
استغرقتْ في الضحكِ .
أنتِ كائنٌ صُبَّ فيه كلُّ جمالِ المعمورةِ .
جمحتْ .
سنخرجُ من الجنّةِ .. سنتركُ لكم قصرَ الحمراء وما ابتنته أيادينا ونخرجُ .. لكم سنعتذرُ ونخرجُ. لم تفهمْ مليكتي . بنا ضاق المكانُ والليلةَ ستُدقُّ بقسوةٍ أرضُ العراق .
قالتْ : نعم سمعتُ ، يحزنني هذا .
الربُّ القابعُ في مكانٍ ما اختار له شعباً فما حاجته بنا . سيبني مملكتَه على أنقاضِ ممالكِنا .
هزّتْ رأسَها .. صارت تفهم .. نيكول تعرفُ في الألغازِ .. في حلِّ الألغازِ وإبطالِ السحرِ . هم سيرثون الأرضَ وما عليها . عادتْ إلى الحَيْرةِ . قلتُ : لا تحتاري يا عزيزتي فإنّ أشهرَ النصوصِ تلك التي لا تُفك طلاسمُها بعد ، وأجملَ النصوص تلك التي مازالت تستدرجُنا إلى خبلِها الكامنِ في فجٍّ عميقٍ .. في غورٍ من العقلِ .. سلي حمدان عن هذا يا جميلتي . ضحكتْ .. هدلتْ ورحنا في زمنٍ فاجرِ الحمرةِ .. نديِّ الخضرةِ .. رحنا في غيابٍ جميل .

* * *


هذه مَدْيَن أرضُ سخاءٍ ، أطعموها وحدتَهم وأَطعمتْهم ثمراً مقدساً . هذه مَدْيَن قيثارةٌ في البريّةِ حيثُ عزفتْها في الرؤيا ثُريّا وباركها في الصحوِ مسعد . هذه مَدْيَن في باديةٍ حيث لا بئر منها تستقي امرأتان ولا شيخ ، وحيث لا نبيّ يَقْتِلُ ومِن القصاصِ يهربُ ثم بها يلوذُ . هذه مَدْيَن التي على أرضِها يتعطّلُ حُلُمُ العراق . في الليلِ أعراسٌ لسماء وكواكب ونجومٍ . في الليلِ بيتٌ فيه يشتدُّ العويلُ وتنبجسُ من موضعِ النشوةِ ورودٌ وفي الأصباحِ يهطلُ على الورودِ ندىً . مَدْيَن قارورةُ الزقّوم على ضفّةِ الفراتِ فاملأها بالفراتِ أو املأ بها الفراتَ . يا مسعد يقولُ الطيفُ : طهّرْ أركانَ البيتِ بطينِ الفراتِ واسقِ من مائه أفراحَ الخميلةِ .. يا مسعد ابتنِ برجاً من آثامِ اللذّةِ وعليه اطلعْ لترى البلدانَ والمدنَ الجميلةَ نحوك تزحف .. هذه مَدْيَن على ماء ومِن ماء ولا يجتمعُ حول مائها الباكون ولا يندبُ تحت أفيائها النادبون .. هنا مَدْيَن لا بابل ، فعنها أبعدوا المسبيين ولا تأخذوها بجريرةِ مَنْ ابتنى على أكتافِكم سوراً .. هذه مَدْيَن أرضُ الخيالِ على أرضِ السوادِ .
قالتْ ثُريّا متحسرةً :
ـ ونحنُ متى سنغرقُ في الزمنِ الفاجرِ أو الطاهر ومتى نرحلُ في غيابٍ أثيرٍ؟
ـ حين تزهرُ ياسمينةُ البيتِ وتُطلقُ شذاها .
ـ هل فقدْتَ حاسةَ الشمِّ ؟
ضحكا ، تمازحا ، تلاصقا ، تعرّقا ، اختمرا ، ثملا ، تراشقا ، دخلا في زمنِ البرقِ ثم الرعدِ ثم انشقتْ سماؤهما عن سيلٍ عرمٍ ، وتشرّبت الأرضُ مقداراً ملأ آبارَ مَدْيَن ، فانتعشت أرضُ السوادِ وفاضَ الفراتُ واعشوشبت حقولٌ ومراع ونمتْ على ظهرِ البريّةِ مدينةٌ من خيالٍ.
ـ أَثْرَت مَدْيَن ثُريّا فحطَّ على الوجوهِ بهاءُ .
قال مسعد وأضاف :
هي بك بهيةٌ وهي بك ثريةٌ فأنتِ البهاء وأنتِ الثراء وأنتِ مَنْ يُحدد جهاتِها : هنا مدخلٌ للريحِ التي تطيبُ لها النفوسُ .. هنا تتلاقحُ الهبوبُ حين تشتاقُ بعضَها .. هنا امتدادُ البوادي الرشيقُ .. هنا المسيرُ إنْ نوينا الرحيلَ .. مِنْ هنا بغداد حين ندمنُها .. وحين نعشقُها وحين علينا تصبُّ جحيمَ السماء .. ومن هنا ننزعُ نحوها حين نشتاقها وحين تسلبنا هياجَنا الجميلَ . آه بغداد حرثتك الصعابُ وبين أضلاعك غرستْ نشّابَها المسمومَ .. أدمتك أقوامٌ ما كنّا نعرفُها ، عليك اجتمعت كاجتماعِ الضباعِ على الغزالِ . مِنْ هنا بصرة الرّوح إنْ كنّا نوصلها .. لنا تفتحُ أبوابَ السماء حين نطلبها ولها نسري إنْ أردنا المودةَ .. هي البصرةُ تُغرينا لإعتناقِها ولشمِّ عطرِها الفوّاح والنحرِ .. هي المدينةُ المذبوحةُ على امتدادِ الزمانِ لا ظلّها يخطبُ ودّاً ولا شمسها تُغري العزيزَ .. هي الأفقُ بكلِّ عنفوانِ المدى .. هي البحرُ بكلِّ هديرِ الموجِ .. هي النهرُ بكلِّ حنين النهرين وهي النخلُ وعذوبةُ الفيءِ برائحةِ الطينِ . هنا مدخلُ التاريخِ .. مِن هنا ذي قار ، اسم مُمجد خلّدته الغانياتُ وفاض بالكيلِ فنٌّ .. موقفةُ السحاب عند حدّهِ وكاسرةُ الأكاسرة .. فيها ابتنى الأجدادُ حُلمَ دويلةٍ وغاظهم حين لم ينصرهم أبناءُ عمومةٍ . هي ذي قار إليها نحثُّ الخطى إنْ أرِدْنا بغيةً ومنها نسرحُ حين يدبُّ الظلامُ . فأيّ الجهاتِ اخترتِ يا ثُريتي لنقضيَ وقتاً بين بشرٍ وناسِ ؟
استقامتْ في جلستِها ثُريّا .. تطلّعتْ عَبْرَ النافذةِ في المدى البعيدِ وقالت :
ـ بغداد قِبلتنا إن نويتَ الصلاةَ .
ـ سنقومُ بزيارةٍ خاطفةٍ لها في الغدِ .. يا تُرى هل نستطيع البقاءَ فيها وقتاً مفيداً فبغداد فتكتْ بها الفاتكاتُ .. وبغدادُ جحيمُ الله في أرضهِ .. شرّعوا أبوابَ العراقِ وبها بطشوا : فرسٌ ، أكرادٌ ، مستعربون ، تركمانُ ، آشوريون ، كلدانيون ، يزيديون ، شيعةٌ ، سنّةٌ ، تكفيريون، خائنون ، أصوليون ، علمانيون ، شيوعيون ، أمريكانيون ، بريطانيون ، جيوشٌ من كلِّ بغاءِ الدُّنيا ، مخابرات من كلِّ حدبٍ وصوبٍ .. عربٌ حاقدون : كويتيون ، سعوديون ، وكثرةٌ من عملاء، شرّعوا أبوابَ العراق ومِن كرامتِه انتهكوا ، والغوغاء مِن أبناءِ العراقِ كانت أرضاً خصبةً لمآرب الدّنيا التي سخّرتها ضد بلادِهم فيالغباء الدهماء . إلى بغدادَ سنتوجه حيث يقيمُ الزمنُ السفّاح وحيث يطيرُ الحبُّ بعبوّةِ فاجرٍ فيتفجّر وحيثُ يصيرُ الأطفالُ أشلاءً في مدرسةٍ أو شارعٍ وحيث تطوفُ حلماتُ صبايا متطايرةً فوق بيوتِ الله وحيث يموتُ الإنسانُ مِنْ حيثُ لا يدري مِنْ أيِّ صوبٍ يأتي ربُّ الموتِ وحيث تديرُ الدنيا في بغداد عمائمُ تحكمُ باسمِ الله وباسم الدينِ وفي الجوهرِ منها تقيّة . سنتوجهُ غداً إلى بغدادَ ، إلى أرضٍ كانت سلاماً وكانت قبلةَ الدنيا وكانت عاصمةَ الخلافةِ لأكبر امبراطورية عرفها التاريخُ في الإسلام . غداً سنزورُ بغدادَ .. سنرى الشارعَ يغصُّ بالدبابات والجندِ الأمريكان وسنرى بشراً من بلادِنا يُقبّلون حذاءَ جنديِّ المارينز الذي ينشرُ الرعبَ والهلعَ بين الناسِ . آه بغداد موتٌ حلَّ بك تقولُ الأخبارُ ، والفتيةُ ماعادوا نحو دورِ العلمِ يذهبون.. الفتيةُ ، الفتياتُ صاروا طعماً للأحقاد . آه .. آه بغداد . سنذهبُ يا ثُريا غداً نحو بغداد نحن الذين اعتزلْنا العامةَ والخاصةَ والغوغاءَ فاخترْنا مِن بين بقاعِ الأرضِ مَدْيَن وقلنا هنا بأرضِ السوادِ ننعمُ ونقولُ : هي بلادُنا تلك البلادُ التي فارقْنا .. تلك بلادُنا التي خنّا .. تلك بلادُنا التي طردتْنا وعصتْنا ثم عصيناها .. تلك بلادٌ رتعتْ في حقولِها الشاسعةِ شعوبٌ ومرّت بين شعابها أقوامٌ وسكنها الأبناءُ والغزاةُ والمطرودون إنما لها لم يعلن أحدٌ الإنتماءَ .. تلك بلادُنا التي تتقاذفها الويلاتُ وعلى مرمى حجرٍ من أبصارنا تستغرقُ في العجزِ.. لا نحولُ بينها وبين العذابِ .. لم نوقفْ آلامَها . آه بغداد .. آه مَدْيَن في أرض السوادِ ونحن نرى الطائراتِ مِن فوقنا تمرُّ بروقاً ونسمعها تهدرُ رعوداً ونرى العابراتِ من فوقنا تذهبُ فلا تعودُ وأخرى تعودُ ولا تذهبُ ونرى أبقاراً طائرةً وصلبانَ ونرى النجومَ نجمةً واحدةً زرعها التلمودُ في عيوننا هي نجمةُ داوود .. ونرى الفضاءَ من حولنا مزدحماً بآلياتٍ وعجلاتٍ ولغاتٍ وبزّاتٍ وألبسةٍ غريبةٍ وأخرى لأبناءِ وطننا اللفيفِ ممَنْ سكنَ أرضَ السوادِ ومَنْ لم يسكن . أيّ عداءٍ يكنّه المرءُ لبلادهِ هذا الذي يدفعه لخيانتِها ؟ ليس من الأرضِ مَنْ خانَ العراق .. ليس مِن بلادِ الرافدين مَنْ شربَ من الرافدين وخان أرضَ السوادِ . تلك بلادُنا يا ثُريّا التي جئنا فرفضنا من أبنائها مَنْ رفضَ كأننا المنفيّون العائدون إلى أرضِ أورشليم بعد سقوطِ بابل على يد قورش حين لم يستقبلْهم أحدٌ وفي الأحضانِ لم يؤخذوا . تلك بلادُنا التي لم تنظرْ في وجوهنا حتى اعتزلنا في مَدْيَن الدهماءَ وتنكبْنا زمنَ الغوغاء . آه بغداد .. آه .. آه يا عراق.
بذراعيها طوّقته ثريا وقالت :
ـ لا تحزن يا حبيبي ستعودُ وجوهُ المدنِ مشرقةً .. ستعودُ بغدادُ بهيةً.
وأضافت :
ـ هل تشرب شيئاً يطيّبُ مزاجَك ؟
التفتَ نحوها . قال :
ـ نبيذٌ أبيض مِنْ كرومِ مَدْيَن يوضعُ في كأسٍ زاهيةٍ كحاملتها .
ـ مازلنا في مَدْيَن حديثي العهد فلا كروم بيضاء لدينا ولا حمراء ولا نبيذ معتقاً فخُذْ شيئاً آخر.
ـ بريقاً من عينيك مثلاً .. ريقاً من فمِك .. ماذا ؟ أُريدُ أنْ أسكرَ .. سويةً نسكر.. نعم .. نعم يا ثُريّا فلنسكرْ .. هذا عالمٌ بدون السكرِ لا يُطاق .. هنا في هذا البيتِ المفروضِ على جغرافيا وادي الرافدين ، المخطوف من فمِ التاريخ .. في بيتٍ على ضفّةِ الفراتِ نرصدُ الخرابَ الذي حلَّ بأهلِنا وحلَّ بتأريخِنا وحلَّ بموروثنا وأجهزَ على جمالِ الأساطيرِ .. في بيتٍ يتنسمُ عطرَك ويتعطّرُ بأنفاسِك ويزهو بجمالِ روحك .. في بيتٍ أنتِ نَفَسه لابدّ مِنْ مَسَرّةٍ .. فلنأخُذْ وطراً من هذا المُتاحِ .. فلنقطفْ سحرَ اللحظةِ .. فأجلبي كأساً مِنْ نعناعِ الصحراء أو مِن شهدِ ليلِ البريّةِ .. أجلبي غصناً يتقطّر في كأسٍ غسقاً أبيض .. أجلبي ليمونةَ الشوقِ وفوق جسدينا أعصريها .
قالت ثريّا :
ـ أسمعُ دويّاً .
ـ لا تخافي هذا قصفٌ أمريكيٌّ ، إنسانيُّ النزعةِ .. ظنّوا بيتنا في العراء قصراً لمحمدٍ نبيّ الإسلام .. لا تخافي لسنا المقصودين من القصفِ حتى لو سقطت فوق رؤوسِنا الصواريخُ .. لا تخافي فهي لا تقتلُ فهذا قصفٌ إنسانيٌّ ، رحمانيٌّ ، صلبانيٌّ ، تلموديٌّ ، يأتي مِن أقربِ نجمةٍ لقلبِ الله .. لا تخافي فهم قصدوا محمداً وقصدوا العربَ والإسلام وليس نحن ما قصدوا . نحن علمانيون ، زنادقةٌ ، ملحدون، شيوعيون لا نؤمن بدينٍ ولا ننتمي لأمّةِ العربِ .. لا تخافي .. هذا قصفٌ آخر ممتعٌ والموتُ فيه أكثر متعةً فالجسدُ لن يبقى أو يتفحّمَ إنما الجسدُ يتبخّر .
ـ هل تقصدُ نحن في بيتِ المتعةِ وفي زمنِ المتعةِ ؟
ـ تماماً كالشروقِ من الصبحِ .. كالغسقِ من الليلِ .
ـ إذن سأجلبُ عَرَقاً من ريّانِ الشامِ .. سأجلبُ بهجةً .. سنثملُ يا مسعد وفوقَ هضابي ستصعد ، لترى بأمِّ عينك المشهد .. سترى ليلَ البصرةِ ومِن فوقِ غاباتِ نخيلِ البصرةِ سترى خرابَ المعبد .. سترى كلَّ همومِ الوطنِ المغلوبِ وترى الكونَ .. آه مسعد أثملْ حبيبي وفوق تلالي فلتطلعْ .. بصحّتِك أيها الزاهدُ في هذا الجزءِ الغائبِ المستغرقِ نوماً في التاريخ .. اشربْ حبيبي وتعبّدْ .. في صحتك .
ـ بصحّتِك أيتها الثُّريّا الجميلةُ .. صحّة .. اشربي حتى نخاع الكأسِ ولون الكأسِ وشغاف الكأسِ .. أشربي يا حبيبتي حتى الأنفاس الباردة في هذي الكأسِ والحارقة في لبِّ الكأسِ .. لقد مللنا مِنْ تسميةِ ما يتبقّى في الكأسِ بالثمالةِ .. آه ثُريّا نسيتُ أنْ أُشذِّبَ ورداتِ الحديقة ونسيتُ أنْ أسقيَ شجيراتِ الحديقةِ ونسيتُ أنْ أضمَّكِ إلى صدري لكي نلتهبَ معاً .. ونغرقَ في بِركةِ عطر .
ـ أنتَ عصفورٌ لا يشبع .
ضحكتْ ، اقتربتْ ، لمستْ ، شدّتْ ، عبثتْ ، نضتْ ثياباً ، تعرّقتْ ، سبحتْ ، صهلتْ ، بوّقتْ ، أبحرتْ ، وفوق ظهرِ سفينةٍ سعيدةٍ لعوبٍ أبحرَ مسعد .
" آه يا امرأة مَدْيَن مِن الثُّريّا نزلتِ .. مِن الفراتِ خرجتِ .. مِن الحروبِ هربتِ .. آه يا امرأة الماء والسماء وامرأة الحروب والصحراء .. مِن أينَ أتيتِ ؟ أشياء فيك شهية بل كلّ الأشياء وأشياء فيك بهية بل كلّ الأشياء ، وعبيرٌ منك يصعدُ للنجمةِ و ريقٌ منك يشفي العلّةَ وبسمة تهطل فوق عذاباتِ القوم فتزول . يا ثريّا يا أجمل أمل في أعلى الكوكبِ يا نبعَ ليلِ الصيفِ يا جدول في أعلى خمولِ الصحوةِ ."
ـ أسمعُ دويّاً يا مسعد .
ـ أسمعي .. هذا اصطدامُ مراكبِنا .. صوتُ عناقِها الشهّي .. هذه زفراتٌ تخرجُ من غيرِ عهودٍ وصلواتٌ من غير وعودٍ .. هذا نطاحٌ في ليلٍ مخبولٍ ليس فيه غير كائنين .. فليبرقْ هذا الزمنُ القاحل ولتهطلْ ثانيةً أمطارُ الجنّةِ . أسمعي ثانيةً .. لا طبل يطرق فجرَ العفّةِ .. لا فجر فينهض .
ـ أسمعُ ثانيةً دويّاً .
ـ قلتُ قصفاً إنسانياً لكننا لا نعرف .. نحن همجيون يا ثريا كيف نسمّي القصفَ سلاحاً ؟ هذا موتُ الرحمةِ يا حبيبتي .. اتركي الدويَّ وفوقي أبرقي وارهزي وجففي العرقَ بمنديلِ الوضوءِ واسقيني ثانيةً .. وثالثةً مِن بحورِ الشامِ أسقيني .. ورابعةً مِن صدورِ الشامِ وعاشرةً مِن ينابيع الشامِ ارويني .
" نهضتْ ثريا عاريةً . كانت نوراً وردياً .. كانت شهيةً ."
ندهتْ نفسُ مسعد :
ـ يا ربّ بماذا أوصفها ؟ فلم أرَ قامةً ممشوقةً كقامتِها في كلِّ البلدانِ .. لم أرَ وجهاً كوجهِها في كلِّ البلدان .. لم أرَ شعراً كشعرِها في كلّ البلدانِ .. لم أرَ عيوناً كعينيها في كلِّ البلدانِ .. لم أرَ ثغراً مبتلاً بالسوسنِ كثغرِها في كلِّ البلدانِ .. يا ربّ بماذا أوصفها ؟ ثريا يا أرض السوادِ يا مَنْ سبي العبادَ أغيثيني بكأسٍ ليس ككأسِ نيكول وما فيها من روحِ الهديلِ .. نيكول تقدّم الكأسَ لمَنْ تُحبُّ بمعنى أنّ آخرين في حياتها .. أما أنتِ فاسقيني كأساً لم يشربْ منها أحدٌ قبلي ولن يشربَ منها أحدٌ بعدي . اسقيني ثُريا خمراً غير موجودٍ على سطحِ الكوكبِ . جلبت كأسين شفافتين كأنهما ، لاستغراقهما في اللونِ ، فارغتان . مدّتْ يدَها . قالتْ :
ـ اشربْ حبيبي ، في صحّتِك .
" تناولَ الكأسَ ملهوفاً وقال " :
ـ في صحتِك . مِن أيِّ نبعٍ جلبتِ هذه ؟
ـ مِن عرقِ اللذّةِ فاشربْ هنيئاً .
ـ وإنْ فقدتُ ميزاني ؟
ـ عليّ ستميلُ وبك أجنحُ في عرضِ اليمِّ .
ـ سنغرقُ يا ثريتي .
ـ إنْ كنّا معاً فلا أخشى الغرقَ .
ـ ستأكلنا الحيتانُ والأقراشُ يا ثريتي .
ـ هي موجودةٌ يا مسعدي على سطحِ البريّةِ وهي موجودةٌ في سمائنا وفي صحرائنا وفي كلِّ مكانٍ .. بل هي في نفوسِ بعضنا .
ـ أنهلي مِن هذه الكأسِ واشرقي .. أريدُك أنْ تشرقي فأمامنا وقتٌ لكي تشرقَ شمسُ الصباحِ ولا أُريدها إنْ صار شروقُك قدري فأنا لا أُحبُّ من الشموسِ إلاّ الخجول .. لا أحبُّ إلاّ ذابلة العينين .
" في ذلك الوقتِ لم يبقَ منهما سوى أنين فقد طحنوا كلَّ قمحِهم في ليلِ الرحى . في ذلك الوقتِ انطفأت مشاعلُ مَدْيَن ."
* * *

عَبْرَ طريقٍ حرثتْها الدروعُ والدباباتُ خرجا ضحىً مِنْ مَدْيَن نحو بغداد بحافلةٍ صغيرةٍ زرقاء . يقولُ مسعدُ : لم نرَ ، ونحن نسيرُ بسرعةٍ متوسطةٍ ، بشراً على الطريقِ من أهلِ العراقِ إلاّ بعد أن قطعْنا شوطاً ناهزَ الخمسين كيلو متراً ، فاكتشفنا أننا على تخومِ السماوةِ حيث فاجأتنا بعضُ الحيواناتِ .. قطعت أمامنا الطريقَ عرضاً .. كان فتية يرعونها .. رعاةٌ أقوياء .. تسبقنا أحياناً دروعٌ لقوّاتِ الاحتلال متهورة بلا حدودٍ فهي لا تراعي دابةً أو عجلةً صغيرةً أو صبياً قفزَ ليعبرَ الطريقَ . نحن على تخومِ السماوةِ أو في السماوةِ المدينة التي لم تُطلَقْ منها طلقةٌ واحدةٌ ضد غزاةِ العراق في العام 2003 فسُمّيت بالمدينةِ الآمنةِ التي يتباهى أهلُها عادةً بأنّ شيخاً لهم اسمه شعلان أبو الجون قاوم الاحتلالَ البريطاني مع بعضٍ من أفرادِ عشيرتِه إبان الحربِ العالمية الأولى . ربما كان هذا صحيحاً لكن مقاومةَ جماعةٍ بعينِها للمحتلِّ مأثرةٌ لصالح الجماعةِ وليست للمدينةِ التي أفرد لها التاريخُ المريبُ سجلاً حافلاً بالبطولةِ .
نحن على طريقِ بغدادَ ماضون . سرعتنا تتباطأ خوفاً من زرعِ الشّكِّ في نفوسِ هؤلاء المارينز الذين يُطوّقون العراقَ بجيوشِ أربعين دولةً . نحن على الطريقِ محاصرون بالسؤالِ والطائراتِ والدبابات . حُرِثتْ أرضُ العراق .
قالت ثريا :
ـ لا تسرعْ لكي لا تعطيَ لهؤلاء الأوغادِ مبرراً لقتلِنا .
ـ نحن لا نسابقهم إنما الطريقُ بهم مزدحمة .
ـ حاول أنْ تجدَ مكاناً لنستريحَ .
ـ سأبحثُ عن موقعٍ أطمئن له .
" على مسافةٍ قصيرةٍ من جهةِ النهرِ رأى خميلةً صغيرةً وخضرةً مُدهشةً . كانت أرضاً منقطعةً ."
قالت ثريا :
ـ أنزلْنا هنا على كفّةِ النهرِ ، فهذا الطقسُ جميل وهذا الخلاءُ الباهرُ يشرحُ الصدرَ ويبهجُ النفوسَ .. في أيِّ بقعةٍ نحن ؟
ـ لا أدري يا ثُريتي لقد ضيّعتُ الأمكنةَ ونسيتُ الخرائطَ فسنواتُ المنفى كفيلة بإمحاءِ شطرٍ من الذاكرةِ .
ـ هل سيشفى العراقُ من جراحهِ ؟ ما أكثر طعنات العراق ؟
أوقفَ الحافلةَ تحت شجرةِ سدرٍ ثم ترجّلا .. فرشا بساطاً مِن نسيجٍ قطنيٍّ وأخرجا بعضاً من متاعِهما .. تابعا مجرى الماء وزرقةَ السماء.. على بساطهما تمددا .. أخذهما الخلاءُ والبريّةُ . قالت ثُريّا :
ـ حدّثني عن مغامراتك في المنفى .. عن حمدان الخصيبي ونشوى وعن نيكول وسلوى .
ـ سأحدثك حين إلى مَدْيَن نعودُ .. الآن دعينا نستغرقْ في هذا الجمالِ الخلاّبِ وبه نستمتع .
ثم أضاف متسائلاً :
ـ ماذا لو حاصرنا جيشٌ محتلٌّ وصادرنا ؟ ماذا لوهبط علينا نفرٌ مِن غلمانِ دعاةِ الغيبِ وقطعوا رؤوسَنا ؟
ـ اسمعْ لا تبحثْ في المجهولِ .. دعْنا نحصدْ لحظتَنا .
اقتربتْ منه .. التصقتْ به .. ذابتْ بين يديه . قالت :
ـ في هذا الخلاءِ خُذني .
ـ هنا ! في هذا العراء المخيفِ ؟ أيُّ رغبةٍ مجنونةٍ ألحّت عليكِ ؟
ـ أجمل لحظة أنْ تأخذَني في هذا الخلاءِ المطلقِ . أمام السماء والماء والبريّةِ . إنها لحظةٌ لن تتكرر في العمرِ يا مسعد .
نزل تحت رغبتها . كانت عاصفةً في خميلةٍ . تنهّدتْ :
ـ أُحبك مسعد .
ـ أُحبكِ ثُريّا .
لم يمضِ من الوقتِ زمنٌ عندما أفاقا مِنْ لذّةِ الجسدِ .. لم يمضِ وقتٌ على استعادتِهما زمام الصحوةِ .. حملا ما تبقّى من متاعِهما وغادرا المكانَ . قالت ثُريّا :
ـ حاولْ أنْ تدخلنا إلى النجف لكي نرى القبابَ المذهّبةَ .
ـ هيهات .. هذه المدينة لن أدخلَها . هذه المدينة تواطأ معمموها مع القوّاتِ الغازيةِ المحتلةِ للعراق وأصدروا فتواهم بعدمِ التصدّي للغزاةِ. هذه مدينةٌ تآمرت على العراقِ ومرشدها الأعلى الذي هو إمام الشيعة أصدر أمراً لأتباعه بعدم محاربةِ الأمريكان ثم معهم تواطأ . هذه مدينةٌ لم يهتز ضميرُ أبنائها ولم ينبروا للدفاعِ عن وطنِهم .. فحين دخل الأمريكانُ المدينةَ خرجَ آلافُ الرجالِ ، قطعوا شارعَ الطوسي مانعين المارينزَ من دخولِ الحضرة .. أنا سمعتُ ، ومعي العالم بأسرهِ، مفاوضَهم يصرخُ باللغةِ الأنجليزيةِ :THE CITY YES THE IMAM NO المدينة نعم خذوها أما الإمام فلا . إنه الإمام الذي لو كان حاضراً لبصق في وجوهِهم ولخطبَ فيهم واحدةً من خطبهِ الشهيرةِ ولقال لهم : أيها الأوغادُ كيف تختزلون وطناً عظيماً بقبتي ؟ آه لو كان عليٌّ حاضراً لطردهم من الفردوسِ الذي به يحلمون .. لطردهم من أبواب الجنةِ التي إليها يسعون .. أعذريني يا ثريا أنا لا أمدّ يداً لخائنٍ وهذه مدينةٌ خائنةٌ .. وسوف لن يُكتبَ لأهلِها سوى الذُّلةِ .. لن أدخلَ مُدناً لا تحفظُ عفّتَها ولن أُكحِّلَ عيني برؤيةِ مَنْ خانَ الأرضَ .. أعذريني ثُريّا وإلى بغدادَ سنمضي وفي العودةِ سنأتي عَبْرَ طريقٍ أخرى .
ـ كما تُريد حبيبي فأنا معك في الرؤيا ومعك في الرأي .. لا ندخل مدناً لا تحفظُ ماءَ الوجهِ وفي الذّلِّ تعوم بل هي تريقُ ماءَ الوجهِ وتسمّى مدناً مقدسةً .. لا ندخلُ مدناً يختزلُ أبناؤها الأوطانَ بجبّةٍ وتعبدُ كلَّ مَنْ لبسَ العمامةَ .. لا نريدُ قباباً تفرّقنا فأصحابها إنْ نهضوا بعد موتٍ وعرفوا ما تصنع بالناسِ قبابُهم لتركوا الدينَ وفضحوا المذهبَ . آه مسعد . أين الحكمةُ ؟ قالوا مرّةً : مِن أرضِ بلادِ ما بين النهرين تأتي الحكمةُ . أين الحكمةُ ؟
ـ الحكمةُ ؟ أين الحكمةُ في وادي الرافدين ؟ هل حدّثنا التاريخُ عن حكمةٍ ما ؟ هنا في العراقِ مِنْ أين تأتي الحكمةُ ؟ أ مِنْ جلجامش الملك الذي عَبَرَ البلادَ مِن أجلِ عشبةٍ يخلدُ منها أو مِن صاحبه المتوحّش أنكيدو ؟ أ مِنْ عشتار البغيّ التي ضاجعت في المخيّلةِ الفراتَ فأنجبتْ منه غصناً زرعتْه فصار شجرتَها المعروفةَ ؟ مِنْ أين تأتي الحكمةُ ؟ أ مِن نبوخذنصر الثاني وما قبله وما بعده حين سبى اليهودَ وجعلنا ندفعُ ثمناً غالياً لأكثر مِن ألفين وخمسمائة عام هو ثمنُ الثأرِ ؟ مِن أين تأتي الحكمةُ ؟ أ مِن الطاغيةِ آشورناصربال أم مِن سنحاريب أو مِن سرجون الأكدي أو مِن أسرحدون ؟ مِن أين تأتي الحكمةُ وكلّ هؤلاء ملوك طغاة ؟ أنا قرأتُ عن الحكمةِ في وادي الرافدين لكنني لم أجدْ لها رأساً فالحكمةُ في أرضِها الأصل في اليمنِ السعيد .. أجل ، الحكمةُ في بيتِ أمِّها .. الحكمةُ في رأسِ اليمني .
ـ اُنظر مسعد لعلنا إلى تخومِ بغداد وصلنا ؟
ـ ربما فهذه القرى والبساتين المتناثرة توحي إلى هذا .. ربما .. ربما.
ـ اُنظر .. اُنظر إلى ذاك الرجل كيف يجلدُ صبياً مازال دون العاشرةِ .. أيّ قسوةٍ نمتلكُ نحن العراقيين ؟
ـ هذا رأسُ الحكمةِ الذي عنه تبحثين .. لا يخجلُ من كوفيتِه التي يعتمرها ولا مِن عقالِه الذي على رأسِه يضعه لكي يزيدَهُ وقاراً وهيبةً متناسياً أنّ الوقارَ من الحكمةِ .
ـ لماذا يا ربّ وهبْتَنا هذه القسوة ؟ لماذا جعلتَ شريانَ العنفِ في قلوبنا ينبضُ ؟ حمقى نحن يا مسعد .. لم نحصدْ خيرَ الأرضِ التي منحتْنا بلا حدودٍ .. بلا مِنّةٍ . لم نحفظْ هذا العطاءَ وهذه النعمةَ . الأرض كانت سخيةً معنا بذلتْ لنا دون شروطٍ تُذكر .. شرطُها الوحيد كان أنْ نُحبَّ الأرضَ ولا نفرّط بها ونُحبّ بعضَنا البعض . هل هذا كثير ؟
ـ أنتِ تقولين كلاماً لا يمشي في طرقاتِ العراق ، ولا يدخل بيوتَ الناسِ .. أنتِ تقولين كلاماً لا يستأنس به الناسُ . أظنُّ أننا وصلْنا مدينةً مهدمةً . هل هذه بغداد ؟ فلنسألْ أحداً .
ـ توقّفْ مسعد دعْني أسألْ .
من خلال فتحةِ زجاجِ النافذةِ هتفتْ بأحدِهم ثريا :
ـ مرحباً يا سيدي .
ـ مرحباً .
ـ هل هذه بغداد ؟
ـ نعم هي بعينِها . هذا مَدْخلُها .
شكرتْه والتفتتْ صوبَ مسعد . قالتْ بحزنٍ :
ـ كأننا إزاء مدينةٍ عابرةٍ ولسنا أمام مدينة السلام . كأننا لسنا أمام حاضرةِ الحواضر . تؤسفني رؤيتها على هذه الحال .
ـ موحشةٌ بغداد .. موحشٌ نهارُها .. موحشةٌ مداخلُها .. موحشةٌ طلّتها . يا الله ماذا فعلتَ ببغداد البهيةِ ؟ ماذا فعلتَ ببغداد الجميلةِ ؟ ماذا فعلتَ بمدينةِ الصلاةِ .. بمساجدِها ومآذنِها .. ببنائها وبهائها .. بفتنةِ بساتينها ومائها .. بناسِها ودوابِها ؟ ماذا فعلتَ بشوارعِها وحدائقِها ؟ ماذا فعلتَ بحاناتِها ونواديها وفنادقِها ؟ ماذا فعلتَ بمدارسِها ومعاهدِها وكلياتِها ومشافيها ؟ ماذا فعلتَ يا الله بعبادِك الأخيارِ ؟ أم أنّ عبادَك الأشرار مَنْ فعل ؟ ماذا فعلتَ يا الله بهذه المدينةِ التي منظرها يوجعُ القلبَ ؟ آه بغداد قتلتني الرؤيةُ .. ذبحت وريدي . آه بغداد
سببٌ للحنينِ إليكِ شدّني
سببٌ لكي أشهدَ
آه يا سوسنة روحي حزينٌ أنا في هذا النهارِ
حزينٌ كنهارِك يا حُلُمي
وحزني أثقلُ مِنْ كلِّ الرصاصِ الذي مزّقَ صدرَك
آه يا نسمةَ عشقي
ستعودين من أرخبيل الضياعِ بوجعِ الحنينِ
ستقومين من تحت رمادِك
آه يا بغداد
ستعودين ساحرةَ المدنِ والعواصم
ستعودين فاتنةً ، باهرةً ، عظيمةً
إنما نحن فسنجتثُّ كلَّ الأسبابِ التي أدت لتخريبِك
أما نحن فسنقضي على كلِّ الأسماء التي حملتْ سكاكينَ ذبْحِك وجاءتْ لتحضرَ حفلةَ موتِك . عهداً علينا يا بغداد أنْ لا تتكررَ مأساتُك ثلاثاً وأنْ لا نبقيَ على أرضِك خائناً أو غريباً . ستعودين يا مدينةَ السلامِ زاهيةً ولو قُطفَ نصفُ أعناقِنا .. وسوف ترين ونرى :
سنرى كم سيدومُ الظلامُ
وكم عامٍ ستظلُّ منطفئةً أقمارُك
سنرى زحفَ القناديلِ بيدِ الفتيةِ القادمين
مِنْ خلفِ أجماتٍ ساحراتٍ
وسنرى أفراساً تنهبُ البوادي
فوقها يحتفلُ النهارُ وعلى ظهورِها فرسانُ النارِ
يتعاضدون لإقتلاعِ أركان العتمةِ
سنرى أرواحاً تقاتلُ جبابرةً
فتجندلُ جبّاراً إثر جبّار
سنرى سماءَ أخرى لا بارود فيها ولا غبار
وسنرى مياهاً تمرُّ في دجلةَ مشرقةً
سنرى أطفالَ المدارسِ عائدين إلى مدارسهم
سنرى العاملاتِ ورباتِ البيوتِ والناهداتِ منذُ الصبحِ في فرحٍ لاهيات
سنرى شبّانَ البلدِ المحروثِ في وطنٍ بهيٍّ يسرحون
سنرى نسوةً فقدنَ في الأمومةِ الأملَ يخصبُ بطونَهن الأملُ
سنرى الصبايا بالعزِّ سابحات
سنرى شيوخاً تواروا ذات محنةٍ يرفعون الهاماتِ
سنرى أطيافاً تحملُ مشاعلَ العزّةِ
وأخرى تتصدّى فتحملُ راياتِ الأملِ
سنرى يا بغداد الجميلة على أرضِك تُرفرفُ رايةُ المحبةِ
قالت ثُريّا :
ـ فجعتني الرؤيةُ فلنعد أدراجَنا .. لم أصدّقْ ما تمرُّ به مدينةُ السلامِ. إنها غيبةٌ يا مسعد .
ـ أجل هي غيبةٌ .. صدمتني الرؤيةُ فلنعُدْ يا ثُريّا .
بعد وقتٍ قصيرٍ طافا سريعاً في بعضِ نواح من بغداد وعادا مصدومين .
قالت ثُريّا :
ـ لم نأكلْ شيئاً .. لم نشربْ شيئاً .. سُدّت شهيتُنا .
أكملَ مسعد :
ـ ألمَّ بنا حزنٌ .
ـ أرجو أنْ يكونَ طريقُ العودةِ أيسرَ .
ـ أرجو ذلك لكي نصلَ في وقتٍ أقصر .. في الأيامِ القادمةِ ربما اخترنا البصرةَ فهي أكثر هدوءاً كما تقولُ الأخبار .
ـ ربما كان ذلك صحيحاً .. ربما كان ذلك أفضل .
في الطريقِ إلى مَدْيَن تفتّحت قريحةُ مسعد وتفتّقت ذاكرتُه :
" في بدايةِ ستينات القرن العشرين كان حمدان يلهثُ خلفَ الأسرارِ وخلفَ الألغازِ وخلفَ الدرسِ كصبيانِ البصرةِ في تلك الأيامِ. يقولُ ذات بهجةٍ حين انشرحتْ إلى آخرِها أساريرُهُ :
في المساء ، وكنّا نستجيرُ بالسطوحِ من حرِّ الصيفِ ، نحاكي اللقالقَ التي من وراءِ البحارِ تأتي أسراباً . تشكيلات تأتي بالمئاتِ تمخرُ سماءَ الجنوبِ وتمضي . في البدءِ لا نعلمُ إلى أين تعطي وجهتَها .. قيل لنا فيما بعد إنها تنتجعُ الأهوارَ عَبْرَ رحلةٍ طويلةٍ . لكن المُدهشَ في هذه الرحلةِ هي ، ما اعتقدناه نحن الصبيان ، استجابتُها المطلقة لنداءاتنا حين نصرخُ بها : طوّل حبلَك .. قصّر حبلَك . فتصير خطّاً مستقيماً حال سماعها " طوّل " وتلتفّ على شكلِ نصف دائرةٍ عند سماعها " قصّر " . طبعاً هي تقومُ برقصتِها أثناء الرحلةِ الطويلةِ وأنّ تأديتَها هي نوعٌ من الإستراحةِ ولا علاقة لها بأصواتِنا التي لا تصلها .. لكن السؤالَ الذي ظلَّ عالقاً في أذهاننا طويلاً هو لِمَ تتوافقُ حركاتُها مع صيحاتِنا ؟ هل كانت تسمعنا وتفهمنا فتستجيب ؟ نعلمُ متى تأتي اللقالقُ في رحلةٍ شاقّةٍ وطويلةٍ إنما لا نعلمُ متى تعود . إننا لم نرَها مرّةً واحدةً عائدةً.. ربما غيّرت طريقَها وعادت من سماءٍ أخرى .. ربما لكنني مازلتُ أتساءلُ : إلى أين تذهبُ اللقالقُ ولا تعودُ ؟ الحال هذه متشابهة مع هجراتٍ لطيورٍ أخرى .. تأتي منها أسرابٌ عظيمةٌ ولا تعود . أين تذهبُ يا ترى ؟ هل هي رحلةُ اللاعودةِ كرحلتِنا هذه ؟
مرّات ، في الهزيعِ الأخير من الليلِ ، نسمعُ دويَّ صوت الذئابِ فتخيفنا الأمهاتُ بأصواتِها ثم تَطرقُ على الحديدِ لإبعادها بعد حين تتقهقر تلك الأصواتُ كأنها تستجيبُ لذعرِ الأمهاتِ فتتركهن بسلام ، وحين يأتي الصبحُ لا نرى أثراً لذئبٍ ولو لمرّةٍ واحدةٍ ، فنتعجبُ ونتساءلُ : إلى أين تذهبُ الذئابُ في الصباحِ ولاتوجد في مدينتِنا جبالٌ ومغاراتٌ أو كهوفٌ وأجمات والصحراءُ عنّا بعيدة ، بعيدة ؟
ثم التفتَ نحوي حمدان وقال : أنتَ عشتَ مثلي هذه الحال ومثلي تعبقُ في ذاكرتِك رائحةُ تلك الأيام إنما سؤالي : أ مازالت تمرُّ في سمائنا اللقالقُ ولنداء المخيّلةِ تستجيب ؟ هل بقيَ ذئبٌ يتجاوبُ ، بغريزةِ حيوانٍ ، مع ذعرِ الأمهاتِ أو يرتدّ مذعوراً أم أنَّ البشرَ عندنا صارت كواسرَ . لم نرثْ تلك الأيامَ كأنها من الذاكرةِ انطفأت . لم نتعلّم الشكَّ الذي أشعلناه ، منذُ طفولةٍ آفلةٍ ، في دائرةِ اليقينِ فاحترقتْ بنارِ الشكِّ تلك الدائرةُ التي ظلَّ أهلُ المدينةِ فيها يسرحون .. ياليتهم في الضلالةِ ظلّوا إلى أبدِ الآبدين يمرحون ."
قالت ثُريا :
ـ آلياتُ المحتلين لا تسمحُ لي بالإصغاء جيداً . إنها تنرفزني وتقطع عليّ متعةَ الإستماعِ . إنها تستفزني وحين نصلُ إلى مَدْيَن عن حالهِ في برلين تحدّثْ وعن نشوى التي رافقته طويلاً أخبرني .
ـ سأفعلُ يا ثُريتي إنما بهؤلاء المحتلين لا تشغلي بالك . إنهم خارجون لا محال ، هم ومَنْ جاء بهم أو جاءوا به .. مَنْ حماهم أو احتمى بهم . ستقطع الأيدي التي عاونتهم والألسنُ التي دافعت عنهم.. إنها كثيرةٌ يا عزيزتي وكثيرة هي الرؤوسُ التي رغّبتهم وزوّقت لهم الصورةَ . إنهم مؤقتون وسوف يستفيقُ العراقيون من الصدمةِ حتماً ليجهزوا على هؤلاء الأغرابِ .. سوف يأتي جيلٌ آخر يضعُ الاشياءَ في نصابِها .. في مكانِها الصحيح .. سيطردُ الغريبَ ويُعاقبُ القريبَ على ما اقترفت يداه من إثمٍ ويغيثُ الدخيلَ .. حتماً سيأتي جيلٌ في الزمنِ القادمِ لا يرحمُ إماماً دجّالاً أو شيخاً محتالاً أونفراً أُسبغت عليه السيادةُ ظلماً .. سيأتي جيلٌ يهدُّ الكونَ فيُطيحُ بالعمائم المنافقةِ وأربطةِ العنقِ العميلةِ والشراويلِ القذرةِ .. سيأتي جيلٌ يُنظّفُ العراقَ من كلِّ القاذوراتِ .. مِنْ كلِّ دنيءٍ وذليلٍ ووضيعٍ ورخيصٍ .. سيأتي جيلٌ آخر لا يقبلُ في هذا الوطنِ إلاّ النفيس والطاهر والعفيف .. سيأتي جيلٌ آخر بالتأكيدِ .. سيرحلُ هؤلاء يا ثريا فهم مؤقتون وعلى العراق طارئون وسيعودُ العراقُ كما عهدناهُ وأجمل .. سيعود العراقُ أعظم .
ـ أنا مؤمنةٌ بهذا إنما حجمُ الخيانةِ بيننا أكبر مما كنّا نتوقع . كنّا نظنها من شيمِ السياسيين وحسب وليس من شيم رجالِ الفكرِ والعلمِ والأدبِ والدين . لقد صدمتنا العمائمُ السوداءُ لبعض الشيعةِ بخيانتِها . هؤلاء المعممون سيجبرون التاريخَ على تسجيلِ مأثرةٍ ما لصالحهم . هذه العمائمُ العفنةُ سينطقُ لها التاريخُ شيئاً آخر ، وطنياً ونضالياً مزيّفاً . إنّ المعممين درجوا على تشويهِ التواريخِ وتحريفها طالما وجدوا أتباعاً غوغاء . لكننا سنسجلُ مشاهداتِنا على عصرٍ عشناهُ في ظلِّ ثورةٍ إعلاميةٍ لا يخفى عنها شئٌ ، لنقول : إنّ أهمَّ المرجعيات الشيعية طالبت مِن أتباعِها الشيعة عدم مقاتلةِ الغزاةِ والمحتلين من الأمريكان والبريطانيين وسواهم بل ودعمتْ الأحزابَ الشيعيةَ التي دخلتْ على ظهورِ الدبابات وتناقلتْ وكالاتُ الأنباءِ الخبرَ في بدايةِ شهرِ نيسان من عام 2003 . نحن نوثّقُ يا مسعد لأجلِ أنْ لا تشوّه التواريخُ .
توّقفتْ عن الكلامِ ثُريا قليلاً ثم أضافت :
ـ يبدو أننا مِنْ مَدْيَن اقتربنا .. هل اقتربنا مِن مَدْيَن لقد انحنى الفراتُ ؟
ـ هي قريبةٌ .. لم يبقَ سوى بضعةِ أميالٍ .. هل تريدين أنْ نتوقّفَ للراحةِ ؟
ـ لا .. لستُ مطمئنةً مِن قوافلِ جنودِ الاحتلالِ ومِن طيرانِهم الذي يملأ السماءَ .. دعْنا نواصلْ باتجاهِ مَدْيَن .. لقد سئمنا رؤيتَهم .. كيف لنفوسِ الخونةِ أنْ تطاوعَهم ويحيوا في ظلِّ حمايةِ هؤلاء ؟
ـ لأنهم خونةٌ والخائنُ لا حرج عليه .
حدّقتْ في عينيه ملياً وقالتْ :
ـ أتدري يا مسعد .. منذ ساعاتٍ طويلةٍ ونحن لا نتحدّث إلاّ عن الاحتلالِ والخيانةِ وما عدا هذا نسيناه .
ـ لأنّ الوضعَ يجبرنا على هذا .. ألا ترين حالَ العراق ؟ ألا يستحقُ الحديثَ ؟ البلدُ الوحيدُ في العالمِ المحتلّ في مطلعِ القرنِ الواحدِ والعشرينِ والذي يُحْرَقُ ويُدَمّرُ علناً وليس هناك مَن هو قادرٌ على وقفِ نزيفِ الدم .
ـ هل نتحدّث عن الحبِّ قليلاً ؟
ـ سنصلُ ونتحدّث .
ـ لا .. تحت هاتين النخلتين الباسقتين ألا تراهما في نهايةِ منحنى النهرِ .
ـ و إنْ أسقطتْ علينا طائرةٌ حمولتَها من الصواريخِ ومتنا ؟
ـ سنُصبح شهداءَ الحبِّ .
ـ ومَنْ سيلصقُ بنا تهمةَ الشهادةِ ؟
ـ هو مَنْ سيواري جثمانينا الثرى .
ـ ومَنْ هو ؟ فهنا السماء والطارق ولا شبح يخطرُ . ستأكلُنا العقبانُ.
ـ فلتأكلْ حتّى تشبعَ !
إلى نهايةِ المنحنى أدارَ مقودَ السيارةِ وترجّلا مع بساطِهما وبعض الأمتعةِ .
قال مسعد :
ـ هنا سأستفزّ السماءَ وأنعشُ الهواءَ وأُطهِّرُ الماء .. هنا سأجعلُ شبّوطَ الفرات يتلوّى شهوةً .. سأمنحُهُ نفساً شبقياً .. هنا ونحن على مشارفِ الأصيلِ ، سنهزُّ وجدانَ البراري .. أنا مسعد المنفيّ على مرِّ الزمانِ وهي ثُريّا الطيفُ التي تنتقي مِنْ الزمنِ لحظاتٍ لن تتكررَ ومِن المكانِ مواقعَ لا يعرفُها أحدٌ .. وهي امرأةٌ مجبولةٌ مِن اللذّةِ .. وهي ليست طعاماً فمنها أشبع وليستْ ماءً ومنها أرتوي وليست عطراً فأتنفسه وأعتاد عليه .. وهي ليست لوناً يُكرر نفسَه . إنها ثُريّا وكفى. امرأةٌ من نسيمٍ عليلٍ ومِن متعةٍ أزليةٍ و ورودٍ وندى .. امرأةٌ تخافُ منها إنْ نظرتَ فتُبْهَر وعليها إنْ وقعتَ فتُكسر . ما بيننا وبين الأصيلِ عَبْرَةُ طيرٍ والفراتُ يمضي زاهياً في أرضِ السوادِ . على ثيّلٍ منسيٍّ في هذه البقعةِ مِن أرضِ العراقِ فرشتُ بساطاً .. نظرتُ في عينيها رأيتهما تبرقان شهوةً . قلتُ : تعرّي . قالت : كيف ؟ قلتُ: تعرّي . قالت : ربما خرجَ مِن البريّةِ جنيٌّ . قلتُ : تعرّي فلا جنيّ هنا سواك . تعرّت .. نضتْ كلّ ثيابِها .. مثلها تعريتُ .. بين يدي حملتها إلى النهرِ .. إلى الفراتِ .
قالت :
ـ ماذا ستفعلُ ؟
ـ سنذهبُ إلى النهرِ لنتطهّرَ .. بالماء نتطهّر .. بالموجِ نتطهر .. ننفض كلَّ ذنوبِ الأيام .. ننزع ما علقَ بنا من رجسٍ .. هنا في الفراتِ سنلبطُ قليلاً .. سنغوي الشبّوطَ والبُنيّ والشانك .. سنغري عرائسَ النهرِ إنْ وِجدت وإلى مخدعِنا المائيّ نستدرجها .. وبها نهتفُ : مثلنا يا عرائسَ النهرِ تفاعلي وتلوّي ورغّبي وتعرّقي ثم انفري شهوةً ثم تداخلي وتشابكي وتوالجي .
" بين ذراعيها احتوت ثريا رقبتَهُ وعلى خصرهِ شبكت ساقيها وفي ضفّةِ النهرِ راحا في عناقٍ طويلٍ " .
آه ثُريّا مَن سوّى هاتين الثمرتين الوحشيتين اللتين تقطران شهداً؟. مَنْ صنعَ هذا الكنزَ في النهدين ؟ أيّ جيلاتين ربانيّ هذا يصرخُ فيهما رجرجةً ؟ أيّ برعمين عزيزين يفتكان بهذا المساء ؟ أيّ كائنين يزقزقان تحت ناظريّ ؟ آه ثُريّا فلنغتسلْ بالماء .. لنطهّرْ الماءَ بجسدينا وبنا يغتسل .
"غارَ في أجمةٍ بالنرجسِ مضيئة .. ارتشفَ من ماءِ ثمارِ الجنّةِ حتى الإرتواءِ .. تنهدتْ ثريا بعد إغماءةٍ سعيدةٍ .. لم يبقَ منهما سوى الأنينِ .. سوى اللهاثِ .. كانا على أطرافِ الماء . بعد حينٍ استجمعا قواهما وواصلا الطريقَ . "
قال مسعد :
ـ وصلْنا مَدْيَن !
" ترجّلتْ ثريا .. كانت بفستان مفتوحِ الأزرار .. كانت متعبةً . البيتُ يسبحُ في الظلالِ وينبتُ في وحشةٍ قاتلةٍ .. في عزلةٍ . مَدْيَن أرضٌ لا ناس فيها ولا دواب وغير الطيرِ البرّيِّ لا يزورُ حدائقَها أحدٌ .. لكن ما يعزّي النفْسَ كثرة الطير ، حيث مِن كلِّ حدبٍ وصوبٍ تأتي الطيورُ ، وتأتي زواحفُ بالأكلِ والماء طامعة ، وأحياناً أحياناً بدوٌ يمرّون وعلى مقربةٍ من البيتِ وإلى الشمالِ قليلاً يستريحون فيقولون : مررنا بقصرِ مَدْيَنَ .
فصار البيتُ قصرَ مَدْيَن .. وبعدما سألوا مسعد عن اسم المكانِ واسمِ ساكني البيتِ ، صار البيتُ شيئاً فشيئاً قصرَ مسعد وثريا .
دخلا البيتَ القابعَ في البريّةِ .. استقبلتهم روائحُ زهرٍ نديٍّ ورفرفةُ كنارٍ في قفصٍ كبيرٍ ."
قالت ثريا :
ـ أتعبتنا الرحلةُ .
قال مسعد :
ـ أتعبتني ثُريّا .
عانقها .. اعتنقته . صرّحَ :
ـ يا إلهي كم أنتِ شهيةٌ !
ـ مثل ماذا ؟
ـ لا تُقارني بشيءٍ مهما كان .. لا مِن الأنسِ ولا مِن الجانِ ، لا مِن النباتِ ولا مِن الحيوانِ . أنتِ كائنٌ فردوسيٌّ آخر .
ـ هل تمزح ؟
ـ لا ، لا أمزحُ .. إنما سعادتي معك جعلتني أتخيّلُ أشياءَ غيرَ موجودةٍ على سطحِ الكوكبِ .
ـ أتمنّى أنْ تدومَ عليكَ هذه السعادةُ .
ـ وعليكِ .
ـ وعليّ .
ـ وعلى الناسِ .
ـ وعلى الناسِ .
ضحك مسعد وقال ملمحاً إلى احتلالِ العراق :
ـ وفي الناسِ المسرّة وعلى الدنيا السلام .
ـ صرنا نجترُّ النصوصَ العاطلةَ .
ـ لا نجترُّها إنما للمزاحِ سقناها فأهلها يرفعون الصلبانَ ويغزون مَنْ ينعم في المسرّةِ ومَن ينعم في السلام .
ـ هو هكذا تاريخُ الأديانِ ، فإنّ ثمانين في المائة مِن الحروبِ أسبابها دينية معلنة أو مخفيّة وما تبقّى يعودُ لأسبابٍ قوميةٍ وتهديدِ مصالح .. ما تبقّى يدخلُ ضمنَ تصديرِ الشعارات البرّاقة للحريةِ والديمقراطيةِ وحقوقِ الإنسان .. ما تبقّى يحدث باسم إزاحةِ الديكتاتوريات فتُخرّب البلدانُ وتمزّقُ الشعوبُ . افتحْ التلفازَ لنرى ما في الأخبارِ مِن جديد .
ـ ماذا ستحمل لنا الأخبارُ غيرَ الأسوأ .
ـ إذن حدثني عن حمدان الخصيبي ونشوى وإنْ شئتَ عن نيكول وسلوى .
ضحك مسعد وداعبَ حنكَها .. قبّلها ، ومِن بين فرحِه بها أصدرَ همساً :
ـ سأفعلُ يا ثريا . سأفعل .

* * *

وقعت الحربُ ، يقولُ مسعد ، جاءت الضربةُ في الساعةِ الثالثةِ وثلاثين دقيقة صباحاً حسب توقيتِ برلين أي في الخامسة وثلاثين دقيقة صباحاً حسب توقيت بغداد كان ذلك في فجرِ العشرين من آذار من عام ألفين وثلاثة . كان صوتُه عند الفجرِ هادراً ، عصبياً عبْرَ الهاتف :
ـ مزّقوا وجهَها الجميلَ .
ـ مَنْ ؟
ـ بغداد .. قصفوها .
ـ متى ؟
ـ قبلَ دقائق .. هل تستطيع المجئ ؟
ـ نعم سآتي حالاً .
ارتديتُ ثيابي .. مازلتُ ثملاً . نيكول في السرير . على حركتي أفاقت . تساءلتْ :
ـ ماذا هناك ؟
ـ بدأت الحربُ .. قصفوا بغداد .. أنا خارجٌ من البيت أوصدي الأبوابَ بعد خروجك في الصباح . عادت إلى نومِها وخرجتُ .

في فجرٍ آذاريٍّ كان الطقسُ في برلين شديدَ القسوة .. كان بارداً صقيعياً ، ففي تلك الأيام تنكّر لنا الربيعُ وغادر أشجارَهُ التي لم تحتضن برعماً واحداً يتمطّقُ على غصنٍ مُخضرٍّ . زعل الربيعُ وانتبذ زاويةً ما في هذا الكوكبِ .. سألنا عنه مراراً . قالوا سيتأخّر . لا ندري هل حطَّ رحالَهُ في باديةٍ ما أم اعتنقَ قمّةَ جبلٍ أم أخذته غفوةٌ طويلةٌ في مغارةٍ قصيّةٍ ؟ لكن الربيعَ سيأتي حتماً .. سيطرق الأبوابَ متأخراً .. خرجتُ من البيتِ .. أخذتُ مترو الأنفاقِ .. كانت الساعةُ تشير إلى الرابعة والنصف صباحاً .. لم يكن عددٌ كبيرٌ من الركّاب في القاطرة فالوقتُ مازال باكراً حتى على أصحابِ الأعمالِ .. بعد أقل من نصف ساعة طرقتُ البابَ . فتحت نشوى .. دخلتُ .. كان حزيناً.. فاجأني :
ـ إنْ لم يدخلوا سيدخلون اليومَ . كلُّ مَنْ يحيط بالعراق قدّم أرضَه لهؤلاء الغزاةِ .. سيصبحُ العراقُ بلداً آخر يا مسعد .. سوف تتناهبه أطماعُ الأقوامِ والطوائف .
ـ نحن لا حول لنا ولا قوّة يا عزيزي حمدان ولا نستطيع القيامَ بأيِّ فعلٍ مهم.
أحضرتْ نشوى إبريقَ الشاي وكان الصبحُ يتفتّحُ أمام نوافذ صالةٍ تتنفسُ آلامَ أصحابها .. كان الصبحُ يتنهّد . قالت نشوى :
ـ غداً سنشارك في مظاهرةٍ منددةٍ بالحربِ .
قلتُ :
ـ سوف نشارك لكن ما نفع التظاهر وقد أهانوا العالم ؟
ساد صمتٌ .. ساد حزنٌ وزفراتٌ حارقةٌ . قرّبت نشوى فنجان الشاي . شكرتها . بعد لحظاتٍ نطق حمدان :
ـ أيّ بلدٍ يكثرُ فيه الخائنون يسهل غزوهُ واحتلاله وهذا في العادةِ يحصل في البلدانِ المتعددةِ الطوائف والقوميات والمذاهب حيث تتعددُ الولاءاتُ وتضعفُ المنعةُ . أُنظر في أحداثِ يوغسلافيا السابقة وسرعة تفكك الإتحاد السوفيتي بدون غزوٍ إنما بخيانةٍ فقط . العراق ليس استثناءً . سيحدثُ إنهيارٌ شاملٌ في كلِّ البُنى .. سيُجرُّ ربما إلى حربٍ أهليةٍ وهذا هدف امريكيّ استراتيجيّ لكنه سينهضُ من جديد لسببٍ بسيطٍ هو أنّ الأكثريةَ في العراق هم من عربِ العراق ونسبتهم عالية تتجاوز الثمانين في المائةِ وهذه النسبة كفيلة بإعادةِ التوازن إنما بعد دماء كثيرة . سنعيشُ وسنرى .. أتمنى ذلك . هولاكو لم يبقِ شيئاً قائماً في وادي الرافدين ثم الصراعات الصفوية العثمانية التالية ، خرّبتِ النسيجَ الاجتماعيَّ للعراق لكنها لم تنل من الإنسجام القومي بين عرب العراق . أنا لستُ خائفاً من تقسيم العراق .. أنا مع بناء الدولة القومية وهذه الدولة لن تقومَ ما لم نعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقّه . العالمُ ما بعد الاتحاد السوفيتي صار دولاً قوميةً .. العالم يسيرُ بهذا الاتجاه بماذا نختلفُ نحن ؟ .. التعددُ القوميّ والطائفيّ في أيِّ بلدٍ هو إضعافٌ للبلد المعني .. الأقوام الأخرى التي تعيش بيننا تكون سبباً في ضعفنا الدائم . لعلكم تقولون إنني سأستبقُ الأحداثَ . لا ، أنا الآن وبعد ما رأيتُ من خياناتِ الأقوام الأخرى أعلنُ صراحةً عن انتمائي القومي . أنا لستُ شيوعياً . ماركس قبل فوكو ياما تحدّث عن نهاية التاريخِ . أنا أقولُ لا نهايةَ للتأريخِ .. ربما تكون عودة لتواريخ سابقة أو كما يُقال فإنَّ التاريخَ يعيد نفسَه مرّةً كمأساةٍ وأخرى كملهاةٍ .. التاريخ يعيدُ نفسَه مزدوجاً مرّة واحدة نسميها الفكاهةَ المرّةَ أو الكوميديا الفاجرة . أنا عربيٌّ ومن حقّي أنْ أعيشَ في دولةٍ قوميةٍ سكّانها من العرب كما يحقُّ للأقوامِ الأخرى أن تعيشَ مثلما تريد سواء بدولةٍ قوميةٍ أو بدونها .. يحقّ لها أنْ تضمّ أقواماً أخرى إنْ شاءت .. هذا حقّ مشروع لها في اختيار الدولة التي تريد .
قلتُ :
ـ عليك أنْ تتماسك يا عزيزي حمدان فنحن أمام مصابٍ جللٍ .
ـ غزوُ البلدانِ ليس مبعثاً للسرورِ .. لا يمنحُ الدعةَ والهدوءَ . لقد ألقوا بنا إلى الجحيم .. الديكتاتور وأعوانُه والخونةُ على حدٍّ سواء ألقوا بكلِّ البلادِ إلى أُتون حربٍ ، نهايتها معروفة والأهداف من ورائها معلنة والمشاريع الأمريكية لم تخفَ على أحدٍ .
ـ سأودعك الآن لكي تأخذَ قسطاً من النومِ .
ـ أيّ نومٍ هذا الذي سيأتي !؟
ـ لابدّ من ساعةٍ للراحةِ أو ساعتين .

ودعتهما وخرجتُ .. كانت الساعةُ السابعة صباحاً .. عُدتُ إلى البيتِ .. وجدتُ نيكول عاريةً في الفراشِ .. مازالت تغطُّ في نومٍ عميقٍ .. التصقتُ بها .. شعرتُ بدفءٍ سحريٍّ . تحرّكتْ قليلاً .. تمطّتْ .. قبّلتها .. داعبتها ، ودخلنا في التفاصيل المثيرةِ حتى أشرفنا على اللحظةِ الأجملِ والأكثر إشراقاً . إلى جوارها نمتُ ساعتين ممتلئتين . حينما صحونا قالت :
ـ أين ذهبتَ فجراً ؟
ـ إلى بيتِ صديقي الروائي والشاعر حمدان الخصيبي .
ـ أ هو عراقيّ ؟
ـ نعم هو عراقيّ ومِن مدينةٍ لا يشربُ أهلُها من نهرٍ واحدٍ إنما من ماء النهرين يشربون ماءً زعاقاً .
ـ لماذا يشربون مِن ماء نهرين هل ماء نهرٍ لا يكفي ؟
ـ يكفي بالتأكيد إنما قدرهم هكذا .
ـ وهل أهلُها ناسٌ طيبون ؟
ـ نعم طيبون جداً حدّ الهبل .
ـ ربما بسببِ الشربِ من ماء النهرين !
ـ ربما ، مَنْ يعلم ؟ وإلاّ ما معنى هذا الإفراط بالطيبةِ والإستغراق في الإفراطِ بالمشاعر ؟
ـ ما اسم هذه المدينة ؟
ـ البصرة .. ألم تسمعي بها .. مدينةٌ في جنوبي العراق . إنها الميناءُ الوحيدُ في العراق .
ـ أجل قرأتُ عنها كثيراً ، وفي الدراسةِ الجامعية أخذنا فصلاً مهماً عن العراق وحضارتِه وعن آثارِه .
ـ ماذا تدرسين ؟
ـ علم الآثار .
ـ وما هذا العمل في هيروديا الحانةِ ؟
ـ لكي أكملَ تحصيلي العلمي .
ـ سيحترقُ العراق بآثارِه يا عزيزتي نيكول .
ـ أتمنّى أنْ لا يحدثَ ذلك .
ـ قالوا عنك إنك تجيدين الرقصَ .. يقولون ذات مرّةٍ كنتِ غصناً في ريحٍ .. كنتِ هبوباً .. وقالوا إنكِ أجمل الأفاعي حين تلتفين وأجمل الدلافين حين تهبّين ، بل أنتِ أجمل الرياح حين تعصفين .
ـ مَن قال هذا الكلام البديع ؟
ـ نشوى زوجةُ حمدان .
ـ وأين رأتني في حلبةِ الرقصِ ؟
ـ مرّةً زاروا الحانةَ هي وحمدان .
ضحكتْ نيكول .. دنت منّي .. قبّلتني .. قبّلتها .. احتضنتها . عُدنا ثانيةً للفردوس . همستُ :
فلندخلْ في طقسِ السوسنِ
نتعبّد فيه ونغرق
فلندخلْ في تيّار الجسدِ الحارق
نتكهرب فيه ونُحرق
فلنركبْ نيكول أُتونَ اليمِّ
وبه نستغرق حتى ينطفئَ الموجُ
فلنركبْ تياراتِ الريح
بنا تعصف ونهدأ
آه نيكول آه
هذا الجسدُ شطرٌ من كوكب
هذا الجسدُ عمودُ نار
هذا الفمُ منه أحدٌ لن يشبعَ
اسقيني حليباً
أرويني ماءً
وبماء الزهرِ أغرقيني
آه نيكول
هذا العالمُ لا يعلم أنّ للدهشةِ أسناناً
كأسنانِ الفأرِِ
تقرض .. تقرض .. رويداً ، رويداً تفتكُ
آه نيكول آه
لم نكملْ درساً عن مأرب
فالسدُّ إنهار وغرقت مأرب
لم نأخذْ درساً عن عشتار
فأور إنفتحتْ وانغلقت حانةُ سيدوري
لم نأخذْ طقساً أُسطورياً
إنما أنتِ طائرٌ أزليٌّ
آه نيكول آه
هل يجب أنْ تسقيَ روّادَ الحانةِ
وللديوثِ تبسمي وللعاهرِ ؟
هل يجبُ أنْ تخدمي في ليل هيروديا أبناءَ سفاحٍ
وتخدمي كلَّ الأشرارِ وكلَّ الأخيارِ ؟
هل يجب نيكول أنْ تجاري العالمَ والجاهلَ
آه نيكول آه
فلنسكنْ هذا الفردوسَ فالعالم زائل
إنّ العالمَ زائلٌ
ودعتني نيكول .. أنعستْ عينيها وقالت :
ـ سنلتقي في الحانةِ إنْ رغبتَ وإنْ أردتَ ففي البيتِ أزورك .

خرجت نيكول وفي البيتِ بقيتُ وحيداً أتابعُ الأخبارَ الواردةَ عَبْرَ القنواتِ الفضائية .. خرجت نيكول ونسيتُ أنْ أخبرَها عن مظاهرةٍ عارمةٍ ستنطلقُ ضد الحربِ هذا اليوم .. نسيتُ أنْ أقولَ إننا سنكون هناك على ميدان الكسندر وإننا سنرفعُ شعاراتٍ بالغزاةِ منددة .. نسيتُ أنْ أقولَ يا نيكول إننا ثلاثةُ عراقيين من أصلِ عشرة آلاف عراقيّ في برلين ودفاعنا عن العراق وحضارةِ وادي الرافدين وبلاد ما بين نهرين وعن أرضِ السواد وليس دفاعاً عن الدكتاتور الذي قتل وشرّد الناسَ وصادرَ الحريات وأفقر الوطنَ والمواطنَ وأنه لا يساوي شيئاً .. والديكتاتور لا يساوي وطناً .. نسيتُ أنْ أقولَ يا نيكول إننا لم نكن نتوقع ضخامةَ الخيانةِ وإنّ شعوباً كشعوبنا العراقية لا تستحقُّ رثاءً .. لا تستحق العراق .
بقيَ الفراشُ بنيكول ممتلئاً ولرائحتِها الزكيةِ رقصَ البيتُ فانتشت الصالةُ وتمايلت زهورُ الظلِّ من فرحٍ .. خرجت نيكول وبقي فضاءُ البيتِ ندياً .. ما أشهى امرأة تجعلُ الحياةَ ندىً !.. ما أجمل نيكول !.. قالت هي مِن أبٍ اسبانيٍّ ومِن أُمٍّ إيطالية وبالولادةِ فهي ألمانية . ما أجمل نيكول حين تكونُ بسحرِ الخمرةِ وبطيبِ الندِّ . بقيتْ في الفراشِ نيكولُ أو بها ظلَّ الفراشُ ممتلئاً .. ظلَّ البيتُ برائحةِ جسدِها مشتعلاً . أيُّ كائنٍ اجتياحيّ النزعةِ نيكول .. رغم هدوئها لكنها متقدةٌ جمراً. ما أدفأها !؟ التحفتُ ما تبقّى من الدفءِ ساعةً ، ثم ، ثم رنَّ جرسُ الهاتفِ :
ـ مَنْ ؟
ـ حمدان .. كيف أنتَ ؟
ـ بخيرٍ .. وأنتَ هل أخذتَ قسطاً من النومِ ؟
ـ لا ، لم أستطع .
ـ حاول ساعةً .
ـ حاولتُ دون جدوى .. تابعتُ الأخبارَ .. الأجواء ملبّدةٌ بالمجهول .
ـ سنرى ما سيحدثُ في الساعاتِ القادمةِ . أنا أتابعُ بدوري كلَّ الفضائياتِ التلفزيونية .. آمل أنْ نلتقيَ عصراً .
ـ سنلتقي .

بعد ساعةٍ خرجتُ من البيتِ .. ليست لديّ وجهةٌ محددةٌ .. لا حرب في الشارعِ .. برلين هادئةٌ منذ انطفاء نيران الحربِ العالمية الثانية .. لا حرب في الطريق .. لا حرب في السماء .. لا يعرفُ الألمانُ غيرَ وجودهم على أرضهم بسلام .. تعلّموا درساً في الحربِ ودرساً في صناعةِ السلامِ . الطريقُ رغم تأخّرِ الربيع بالناسِ مزهرة .. مَن يُخصِّبُ طرقاتنا لكي تنزرعَ بالحياةِ ؟ مَنْ يا إله العزّةِ في هذا البلدِ المذبوحِ على امتدادِ العصورِ والمسمّى ببلاد ما بين نهرين ؟
أمام المتحف التاريخي " البيرغمون " في برلين وقفتُ .. هنا في الداخل باب عشتار .. هنا تجثم في الداخل بكلّ أبهةِ التاريخِ البابلي .. هنا مأثرةُ العراقيين الخالدة .. على النهر تطلُّ . خاطبتُ من وراء البناء الضخمِ بابَ عشتار التي ترقد في الداخل بسلام : هنا أُرقدي بسلام ، محفوظةً ، مصانةً من التدميرِ والتشويه والتحريفِ .. أُرقد هنا أيها التاريخُ البابليُّ المجيدُ يا عزّة الكوكبِ ، مكرماً من قبلِ هؤلاء الألمان الذين انتهبوك وقطّعوك وجلبوك وشيّدوك على جدران المبنى / المتحف ويبدو ليس في نيّتهم إعادتك إلى أرضِك الأولى . هنا تقفُ خلف أبوابِ المتحف المحميةِ بالإسمنتِ والأقفالِ الكثيرةِ .. لكن مَنْ يعرفك في هذا المنتأى ؟ الألماني لا يدري ما باب عشتار ومن أين جلبوها .. الألماني الإنسان غير المعني بالتاريخ والثقافة والحضارة لا يدري عن بوّابة التاريخ . أُرقدي أيتها البوّابةُ بسلام وليقفْ إلى جواركِ ثيرانُ مجنحةٌ من آشور وأسودٌ من آكاد وبابل وآثارٌ أخرى . مضيتُ في طريقي .. شيءٌ ما في داخلي يهزّني بعنف.. يحثّني على الصراخِ : اصرخ .. اصرخ .. يا ربّ الصراخ منذ ربع قرنٍ وأنا من أجلِ هذا الوطن أصرخُ وأبكي وألطم وأمزقُ الثيابَ .. كلُّ البشرِ تسكن أوطانَها إلاّ أنا وطني يسكنُ فيَّ .. إلاّ نحن يسكننا الوطنُ لا نسكنه .. إلاّ نحن نجترُّ المنفى ومِن منفىً لمنفىً على وجوهنا نهيم . البعض مِن أبناء العراق لا يعرفون هذا الألم ، ألم المنفى وآلام المنفيّ . العراقيون إنْ ماتوا في الوطن فإنهم يموتون مرّةً واحدةً بينما العراقيّ المنفيّ ، وهذا ليس إطلاقاً ، يموتُ مع كلّ مَنْ يموت في الوطن بمعنى أنه يموتُ في اليوم عشراتِ المرّات .

في مقهىً على ميدان الكسندر جلستُ .. هنا أطلُّ على حكاياتِ أخرى .. على ضياعٍ آخر .. هنا توقّفَ قطارُ حمدان الخصيبي ذات يومٍ . قال : كنتُ قادماً من بودابست وكنتُ على موعدٍ مسبقٍ مع نشوى تحت الساعة العالمية .. بقيتُ أدورُ في الميدانِ ساعتين ولم أعثر على الساعة العالمية .. أخيراً رأيتُ نشوى تبحثُ عنّي في الميدان بعد أنْ فقدت الرجاءَ و مرّ الموعدُ . صاحت بي : أين أنتَ أ لم يكن موعدُنا تحت الساعةِ ؟ قلتُ لها بحثتُ دون جدوى فلا توجدُ ساعةٌ . ضحك حمدان . قال : الساعةُ لا تشبه الساعةَ فضعتُ . إنها مجرد عمود من الإسمنت فوقه شبكة .

في المقهى بقيتُ وقتاً مكفهرّاً عاصفاً . أنا بانتظار المظاهرة وساعة مِن الزمنِ تفصلني عنها .. عن انطلاقها . في المقهى بحارٌ ومحيطاتٌ .. جبالٌ وغاباتٌ .. أنهارٌ وجداولُ . في المقهى قطعانُ تنطلق في البريّةِ بلا حساب . في المقهى يحتدم الحديثُ ويتلاشى الصمتُ ، وفي المقهى مطاراتٌ قصيّةٌ على مدارجها تحطُّ طائراتٌ وتقلعُ أخرى .. قارّاتٌ تزحفُ على بعضها البعض .. تتصادم أو تتناطح .. تندلعُ براكينُ ويعمُّ الطوفانُ . في المقهى حروبٌ وقتالٌ وملاحمُ يُسجّلها أبطالٌ وهميون.. ضياعٌ ووجودٌ .. بشرٌ يتطايرون رذاذاً في مهبِّ الريح . أعاصير وعالم يجفُّ . في المقهى أثداءٌ تقصف العيونَ وأفئدةٌ تتقطّع ، وأنا في ساعةِ الانتظارِ أرى طلائعَ من شبّان يفتحون في الأفقِ لافتاتهم ، وأرى حمدان الخصيبي ونشوى يحثّان الخطى باتجاه الطلائع الغاضبة مِن فعل الإعتداء الآثم الذي أقدمتْ عليه دولتان عظيمتان هما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية على بلد الحضارات العراق العربي الأبي . خرجتُ لملاقاتهما . دخلنا بين صفوفٍ بدأت تتشكّل رويداً رويداً . لمحتُ من البعيد نيكول تحمل لافتةً صغيرةً . طلبتُ من حمدان ونشوى أنْ نذهبَ باتجاهِها .. فرحتْ لوجودِنا .. عرّفتها عليهما .. صرنا أربعةً فتوقفنا أمام صفٍّ من الصفوفِ وبدأ الهديرُ الرافضُ للحربِ .

لم أكن أتوقع وجودَ نيكول ، فهي مضغوطةُ الوقتِ وأنا لم أبلغْها بالأمرِ إنما وجودها أبهجني حقّاً وأبهجتني أكثر هذه الحشود التي قدمت من أنحاء شتّى . رجال ونساء من كلِّ الأعمار ، فنحن إذن لسنا منعزلين ولسنا في غابةٍ وهناك مَنْ يُدافع عن حقوقنا في الحياةِ ، هذا من ناحيةٍ ومن ناحيةٍ أخرى حزنتُ لغيابِ العراقيين الذي يكاد أنْ يكون شاملاً كأنّ القوى والأحزابَ السياسية والقومية ، من غير العربية ، والدينية على اتفاقٍ تامٍّ فيما بينها فلم يحضرْ منها أحدٌ ولم يشارك أحدٌ.. بل لم يشترك أفرادٌ مستقلّون خوفاً على أنفسِهم من غضب القوى المعارضة للنظام والمؤيدة للحرب . عجيبٌ أمر هذا العراقي ، يُريد أنْ ينتميَ لوطنه فقط في زمنِ الخيرِ .. فقط في زمنِ الأخذِ والفرهود يتشبث بعراقيته . لم أرَ علماً عراقياً واحداً يُرفع في المظاهرة .
قال حمدان :
ـ بصقتْ أمريكا في أفواهِهم طرّاً .. بصقتْ حتى في أفواه البعثيين الذين حلبوا ضرعَ الوطنِ حتى القطرةِ الأخيرة .
قلتُ :
ـ هذا زمنٌ أغبر يا حمدان فأنا لستُ سعيداً أنْ أكونَ فيه .
قالت نشوى :
ـ خرجتْ كلُّ الأقوام والجاليّات إلاّ نحن العراقيين . خزيٌ وعارٌ علينا هذا الغياب .
قال حمدان :
ـ وصمةُ عارٍ في جبين كلِّ عراقيٍّ في المهجرِ أو في المنفى . لكن لا تنسي يا نشوى فإنّ كلَّ الأحزابِ الشيعيةِ والكرديةِ مع الحربِ والغزوِ وحتى مع احتلالِ العراق وأنّ الشيوعيين يرطنون بلسانين فهم مع الحربِ وضدِّها في نفسِ الوقتِ . هؤلاء جميعاً هم مَن أغرى أمريكا وبرر حربَها .
نيكول تستمع لأحاديثنا باللغة العربية . نيكول تضحكُ تارةً وتارةً تردد هتافاً . نيكول منّي تقترب وتقول :
" الليلة زرني في الحانةِ وأني أوجه الدعوةَ لصاحبيك أيضاً . "
قلتُ : "سأفاتحهما بالأمر فإنْ رغبا جاءا ."
دنوتُ من أذنِ حمدان . قلتُ : " نيكول تدعوكما الليلةَ إلى حانةِ هيروديا فهل ترغبان في المجئ ؟ "
اعتذر حمدان متعللاً بانشغالاته .. ثم شكر نيكول على دعوتِها ، وحين يعتذرُ حمدان تعتذر نشوى .. هذا أمرٌ في غاية البساطةِ .. ثم واصلنا المسيرةَ حتى شارفت على نهايتها .
تساءلت ثُريّا :
ـ هل حدثت مشّاداتٌ وشجاراتٌ وتدخلاتٌ من قبل الشرطةِ ؟
ـ لا .. لم يحدث شيءٌ مِن هذا القبيل لأنّ المظاهرةَ موجهةٌ ضد دولةٍ أخرى وليست ضد النظامِ الألماني الرافضِ للحربِ .
ـ فهمتُ واصلْ الكلامَ .
ـ سأواصلُ بشرط أنْ تسقيني كأساً من رضابِ العاشقة .
ـ سأفعل .
نهضت ثُريا .. اختفت مدّةً .. جلبتْ كأساً من الفودكا الروسية الممزوجةِ بالليمونِ وقفت ومدّت لسانَها في الكأسِ .. قالتْ :
ـ خُذْ اشربْ من رضابِ العاشقةِ .
أخَذَها من يدِها .. قبّلها في فمِها وقال :
ـ سأُكمل :
بعد أنْ افترقنا عن نيكول ذهبتُ مع حمدان ونشوى إلى شقتِهما حتى حلولِ الظلامِ عندئذٍ ودعتهما وخرجتُ .. كانت هيروديا الحانة قد فتحت أبوابَها ونيكول في وسطِها تزهو . كانت تنتظرني وسطَ عددٍ قليلٍ من الزبائنِ .
قلتُ :
ـ ها قد جاء المور الذي شُنّت عليه حربٌ رؤيويةٌ .
ـ سيخسرون حربَهم في المطافِ الأخير .
ـ هل يخسرون حربَهم معنا نحن " الوثنين " كما وصفنا توما الإقويني ؟
ـ نعم معكم أيها الموريون .
ذهبتْ قليلاً ثم عادت تحملُ كأسين ليستا من روحِ الهديلِ هذه المرّة إنما من شرابِ " هافانا " الباردِ . قالت :
ـ سنسهرُ سويةً ومعك أذهبُ إلى شقّتِك الدافئةِ .
ـ هي بانتظارِك كتحفةٍ أثريةٍ .
ـ سأدرسُ آثارَ العراق بعنايةٍ وسأكونُ هناك مهما كانت الظروفُ قاسيةً .
ـ أتمنى ذلك . ابحثي في جنوبي سهل شنعار فمازالت هناك آثارٌ لم تُكتشف بعد وحضاراتٌ لم يُعرف عنها شيء .
ـ هل لك معرفة بعلم الآثار .
ـ لم أدرسْ علمَ الآثارِ إنما أنا ابن تلك البلاد فلا يصعب عليّ سترٌ مثلما لا تصعب عليّ معرفةُ المكانِ .
ـ عذراً مسعد فروّاد الحانة قادمون .
ـ هل تأتي هيروديا ؟ هل ترقص سالومي ؟ هل يؤتى برأسِ يوحنّا؟
بعينيها الجميلتين النهمتين نظرت إليّ تودداً ومضت إلى عملِها . كثرَ الروّادُ واحتدمَ الكلامُ . صخبت هيروديا وعلى بغداد اشتدّ القصفُ وأنا مطروحٌ في العتمةِ أسترقُ النظرَ ما بين الفينةِ والأخرى لنهدٍ يتخبّط في ضحكةٍ أو لكتفٍ عاريةٍ خرجت من تحت المستورِ . وأنا أنتهزُ غيابَ نيكول خلف البارِ لأقصّ بنظرةٍ نحرَ امرأةٍ أعلنت تهتكها الليلةَ على نظامِ الحانةِ . صخبٌ في هيروديا والدرسُ الذي تعلمناه في المنفى بليغ : لا تسترْ عورةً فالعورةُ جزء من حريةِ الإنسان .. والدرس الذي في المهجر تلقّناه أنْ لا ننقلَ على ظهورِنا عفّةً فالعفةُ معنىً والمعنى وَهْمٌ في هذا الميدان .. فهنا تؤخذُ الأشياءُ بالملموسِ : هذه زندٌ .. تلك شفّةٌ .. وذاك ظلٌّ منحوس . صخبت هيروديا الحانة وانشلختْ في الليلِ عفّةُ بغداد . يا ربّ ماذا فعلتْ كي تهويَ صواريخُ الدّنيا فوق الجسدِ الطاهر . آه بغداد آه . صخبٌ في الحانةِ وهيروديا سمرٌ في تلك الزاويةِ وعطرٌ يتأرّجُ بين الطاولات .
أنرقصُ ؟ سألتْ نيكول .
الليلة ؟ نعم من أجلِ عينيك سنرقصُ لكن حين يتبرعمُ زغبٌ في جسدِ سالومي المسحور وحين تتهيّجُ مثلَ القطّةِ وحين تتوحّشُ وتنصبُ في الغابةِ فخاخاً وحين تجنُّ الدنيا بوسطِ النهرِ الماضي تحت الأبراج في بابل .. سنرقصُ حين تأتي الرهبانُ والحاخاماتُ والنّساك وتأتي الاسفارُ وأحلامٌ في التشريعِ .. يأتي سفرُ التثنيةِ وأحابيل سليمان في نشيد الإنشاد .. سنرقصُ آه .. صخبٌ في هيروديا قصفٌ على بغداد . فلتأتِ مملكةُ الربِّ التي سيقيمها على أنقاضنا الربُّ ولتأتِ ناهدةٌ في عزِّ الليلِ تستصرخُ فتىً موغلاً في ندى العشبِ .. تهتفُ : أرجوك انقض على جيلاتين صدري . انهلْ من حليبي .. سأرقصُ فاتنتي الليلةَ كطيرٍ مذبوحٍ .. سأتلوّى كبغداد الليلة تحت القصفِ وتحت الذبحِ .. آه نيكول ، نسيتُ أنْ أوصيك حين يحتدمُ الدرسُ أنَّ الآثارَ بلا طينٍ ليست آثاراً وأنّ بلداً ربّى الدنيا ، لا يعرفُ كثيراً عن تقنياتِ العصرِ ولا يعرفُ سوى الطينِ ، هو بلدي . آه نيكول نسيتُ أنْ أقولَ لك إنّي أسمع دويّاً في بغداد .. صخبٌ في هيروديا فليبدأْ رقصٌ ولتلتهمْ سالومي الأرضَ .
في تلك الليلةِ رقصنا كثيراً .. كثيراً .. كثيراً .. حتى الفجرِ . وعند الفجرِ إلى البيتِ عدنا نحملُ كلَّ عطورِ الحانةِ والصخبِ الدائر. نحملُ وجعَ الدنيا ورائحةَ البارود في بغداد . أمامي وقفت نيكول .. ابتسمتْ .. أشرقتْ .. فاض بالحبِّ مُحيّاها .. طوّقتني .. طوّقتها .. قبّلتني .. قبّلتها.. ارتشفتني .. ارتشفتها .. هيّجتني .. هيجتها .. عرّقتني .. عرّقتها .. أغرقتني .. أغرقتها .. وعلى جسدِ الهواء سبحنا .. وعلى جسدِ الغيابِ سبحنا .. وعلى السريرِ انطحنّا . لم نَفِق ما تبقّى من الليلِ .. كنّا مشتبكين في حربِ سلام .
" ثُريّا مصغية .. عيناها تبرقان . نظر في عينيها " . قال :
ـ المسافةُ ما بين مَدْيَن وذي قار قصيرة فما رأيك لو قمنا بزيارةٍ خاطفةٍ للمدينةِ وفي طريقنا نقفُ على آثارِ الماضي ونستقرئُ التاريخَ؟
ـ إلى ذي قار لن أذهبَ فهذه المدينةُ زادت من أسفي أثناء الحرب وفيها اجتمع القادةُ الخونةُ ، الذين دخلوا مع الدباباتِ ، مع المستر جي غارنر . فهل لهذا الاجتماع ، وفي هذا المكانِ ، مِن مغزى ؟ . ومن المدينة ظهر رجالٌ كثيرون ساندوا الغزاةَ ودعموا احتلالَ بلدِهم .. ذكّرني هذا الموقفُ بالموقفِ الداعمِ من بعضِ شيوخِ عشائرِ المدينة للاحتلال الإنجليزي في العراق إبّان الحرب العالمية الأولى . يؤسفني أنْ أذكر هذا ، فإنْ رغبتَ في زيارةِ مدينةٍ ما ففكِّر بالبصرةِ .. ففي البصرةِ ناسٌ من طينةٍ أخرى طيبة في الغالبِ ومنها ظهر مقاتلون ضد الغزاةِ ، أم نسيتَ قتالَ الرجالِ في أمِّ قصرٍ ، المدينة الصغيرة التي تقعُ على فمِ الخليجِ والتي قاتلتْ أكبر قوّة في العالمِ لأكثر من اسبوعين .
ـ لم أنسَ طيبةَ أهلِ البصرة أو أهل أيّ مدينة أخرى إنما أردتُ أنْ أصححَ معلومةً ربما استقيتها من أحاديث حمدان الخصيبي تقول إنّ مَنْ قاتلَ الغزاةَ في أمِّ قصرٍ هو بقيةُ ضميرِ جنديٍّ عراقيٍّ غاظه الغزوُ وحجمُ الخيانةِ وأذكى نارَ الكرامةِ في صدرهِ الذّلُّ والهوان الذي لحقَ بالعراق فقاتلَ الضميرُ بشراسةٍ وليس البصريّون مَن قاتل . لم أنسَ يا ثُريّا والأحداث الجسام مازالت تُذكرنا والأحداث مازالت طريّةً ومازالت تداعياتُها مستمرّة . سوف نزورُ البصرةَ التي لم تخلُ من وجهِ الخائنِ فهذه الوجوه موجودةٌ من أقصى نقطة في الشمال إلى أدنى نقطة في الجنوب .. ولكن لماذا نزورُ البصرةَ ؟ ماذا لوجاء بعضُ البصرةِ إلى مَدْيَن ؟ ماذا لو زارتنا كلّها أو بعضها ؟ فلتأتِ إلى زيارتِنا مدنٌ أخرى ولتأتِ البصرة ، ولتأتِ دولٌ أفلتْ وامبراطورياتٌ أُهيلَ عليها الثرى . فلتأتِ حضاراتٌ سادت ثم انطفأت مثل زنابق لم يبقَ لها أثرٌ . فلتأتِ فراديسُ بادت ولها لم يُحددُ المكانُ . فلتأتِ عادُ ، ثمودُ ، سبأُ ، تدمرُ، حيرةُ ، آكادُ ، سومرُ ، بابلُ ، آشورُ ، فليأتِ الهُدهُدُ بالخبر اليقين .. فلتأتِ البصرةُ يا حبيبتي ولتأتِ إلى صدري ثُريّا ، وشيئاً من الدفءِ تمنحني ، وشيئاً من الحنينِ تزقّني ، وشيئاً من الشهدِ تسقيني ومن الخمرةِ ترويني .. فلتأتِ ثُريّا من الثريا تنيرُ الليلَ وتُطلقُ عصفورَ روحي .
" به التصقت ثريا . همستْ في أذنِه : أُحبكَ . نزلتْ إلى شفتيه . ارتشفَ مِن ثغرها ومِن ثغرِه ارتشفتْ .. نزلَ إلى نحرِها .. إلى صدرِها . قال : أطلقي عصفوريك الأسيرين منذ الولادة . قالت : أخافُ من صيّادِ الليلِ . قال : أطلقيهما واتركي له الخيارَ . فتحت أزرارَها .. انفتح الكونُ كأنه لم يكن قبل ساعاتٍ .. كأنه لم يكن قبل لحظاتٍ .. كأنه قارّة أخرى لم تطأها قدمُ إنسان . تنهدتْ .. تلوّت .. تزغّبت .. تعرّقت .. هدلت .. أنّت .. تعرّت . لم يبق من الليلِ سوى خفقةِ جنحِ فراشة .. سوى ومضةِ برقٍ لم يأتِ من رعدٍ أو سحاب . تعانقا في صلاةٍ أزليةٍ. قال : حين يأتي الصبحُ سنأتي البصرةَ أو تأتي البصرةُ.
عندما أفاقا صباحاً كانت الشمسُ مُتلجلجةً خلف غابةِ نخيلٍ .
سألتْ ثُريا ومازالت في دفء الفراشِ : "
ـ ما بال الشمس تتلجلج مِن وراء غابةٍ ونحن في بريّةٍ وعراء ، ونحن في خلاء مُطلقٍ ؟
أجاب مسعد :
ـ لعل غيوماً شغلتها عن الشروقِ التام .
ـ إنما أسمع أصواتَ سياراتٍ وجلبةَ بشرٍ وعربات .
نهضا مفزوعين فرأيا مدينةً منصوبةً في البريّة . تساءلت ثريا :
ـ ما هذه المدينة ؟
ـ لا أدري .. ربما البصرة !
ـ كيف عرفتَ ؟
ـ لم أجزم . إني خمّنتُ ، فلنخرج ونسأل .
" على عجلٍ ارتديا ثيابهما وخرجا مبهورين . في طريقهما سألا أولَ مَنْ صادفهما وكان رجلاً شيخاً " :
ـ أين نحن يا عم ؟ أيّ مدينةٍ هذه ؟
ـ أنتما في بعضِ مدينةِ البصرة .
ـ وكيف انتقلَ هذا البعض منها إلى أرضِ مَدْيَن ؟
ـ لا أدري .. سؤالكما غامض .. ماذا عنيتما بأرضِ مَدْيَن ؟
" نظر مسعد في عيني ثريا رأى دهشةً . نظرتْ ثريا في عيني مسعد رأتْ دهشةً " .
قالتْ :
ـ نسألُ شخصاً آخر .
" سألا أشخاصاً .. ذكوراً وإناثاً . لم يحصلا على جوابٍ شافٍ . دارا في أنحاء بعضِ المدينة ."
قال مسعد :
ـ هذه الأماكنُ أعرفُها . هذه الأماكنُ مرّت بي ذات حضورٍ وبها مررتُ ذات طفولةٍ إنما لا أحد أعرفه أو يعرفني وبعض الملامح أتى عليها الزمانُ .
" تحوّلا إلى ناحيةٍ أخرى "
قال مسعد :
ـ أظنُّ هنا سكن حمدان الخصيبي .. لستُ متأكداً فذاكرتي تضببت الآن وفقدتُ القدرةَ على تحديدِ الأماكن إنما في تلك الطرقاتِ مررنا سويةً .
" ثم مضيا ذاهلين في أنحاء شتّى حتى صاحت ثريّا : هنا داهمنا ذات خصوبةٍ بللٌ فأقمنا سرادقَ الحنينِ الذي لا أرى أحداً يخرج منه ولا أرى أحداً يدخلُ إليه ."
قال مسعد :
ـ على مجيء البصرة إلى مَدْيَن فلنشهدْ .
" مضيا نهاراً كاملاً يدوران في أنحاء وطرقات البصرة لكن لم يتعرّفا على شخص واحدٍ ولم يتعرّف عليهما أحدٌ . بقيا يلفّان أزقةَ المدينة حتى كلّت أقدامُهما في المساء فعادا إلى قصر مَدْيَن.
عند الأصيل اختفت البصرة . ذُهلا إنما لم يحزنْ مسعد .. لم تحزنْ ثريا على اختفاء المدينة .. مِن النافذة نظرا في المدى البعيد. قالا بصوتٍ واحدٍ : لم يعرفنا منها أحدٌ ولم نعرفْ أحداً .
ساد صمتٌ قبل أنْ تنطقَ ثريا ومازال ذهولٌ في وجهها " : حدثني عن حمدان ونشوى وعن نيكول وسلوى . حدثني عن هذا الروائيّ والشاعرِ الغاضبِ .. عن حمدان العراقي الأصيل .
ضحك مسعد وقال :
ـ أتدرين يا ثريا أنّ حمدان لا يحبُّ أنْ يُعرّفَ شاعراً . إنه يقول إنّ العراقَ بلدُ الشعرِ فالنساء حين يُهدْهدْنَ صغارَهنّ يرسلْنَ الشعرَ بدون عناء وحين يغني العراقيُّ في الريفِ أو في المدينة فإنه يرتجلُ الكلماتِ ويطلقُ الشعرَ بدون عناء وحين يحزنُ العراقيُّ تُرسلُ قريحتُه شعراً حزيناً بدون عناء ، وحين تمطر السماءُ يتذكر العراقيُّ أعزاءَ له تحت الثرى فيبكي ويُطلقُ الشعرَ بدون عناء ، فلا فضل لشاعرٍ مهما كان على أهلِ عربِ العراق . فهناك أكثر من عشرين مليون شاعر ، والشعر ينهله العراقيون كالماء ، حتى النخل حين يعمُّ الظلامُ يقولُ شعراً .
ـ أيُّ إنسان هذا حمدان الخصيبي !. بوسعي أنْ أستمعَ لكلِّ ذكرى تخصّه .
ـ غُزيَ العراق واحتلّ ودُمّرَ البلد ونُهبَ ميراثُه واحترقت مؤسساته وسُرقت محتوياتها وعُمّقت الفوضى وصار القتلُ شريعةَ غابٍ ، وصار الموتُ المجّانيُّ طريقةً جديدةً لأهلِ العراق ، فلم تبقَ حجرةٌ على حجرةٍ ولا شجرة في طريق ولم يبقَ سوى الخراب والدمار الذي عمَّ كلَّ شيءٍ . بعد غزو العراق واحتلاله في التاسع من نيسان من العام ألفين وثلاثة وسقوط بغداد تحت دبابات الغزو أُجِّلت محاضرةُ حمدان إلى شهرٍ آخر .. اتصلت سلوى العراقية وطلبت تأجيلها بسبب مستجدات ظروف الاحتلال .. في تلك الفترة مرضَ حمدان الخصيبي . نُقلَ إلى المستشفى وبقيَ فيه أياماً وعندما خرج منه ظلَّ عليلاً .. مرضَ قلبُه وكانت نشوى مُرابطةً عنده وأنا الآخر مَنْ يزورهُ في كلِّ يومٍ تقريباً حتى جاء موعدُ المحاضرةِ التي أُجّلت فاتصلت بي نشوى ليلاً تقول :
ـ غداً في الساعةِ السادسةِ مساءً موعد المحاضرة .
قلتُ :
ـ سأكونُ حاضراً بل أول الحضور . دعيه يحافظ على صحته .
ـ سأفعلُ لكنه منفعلٌ باستمرار .
ـ هنا مكمنُ الخطر يا عزيزتي نشوى .
ودعتها واتصلتُ بنيكول . كان المساءُ في يونيو جميلاً . قلتُ لها سآتي إليك انتظريني .
خرجتُ مسرعاً أخذتُ الحافلةَ باتجاه هيروديا الحانة . كانت متأنقةً نيكول .. شهيّةً كانت نيكول .. مثيرةً كانت نيكول .. يا إلهي كيف يتسنّى لي مضاجعة نيكول في قلبِ الحانةِ ؟
قلتُ لها :
ـ كيف اختطفك مِن قلبِ الحانة ؟
ضحكت بدلالٍ وقالت :
ـ تقدر ، فالروّاد ما عادوا يأتون باكراً .
ـ أين ؟
جذبتني إليها .. قبّلتها .. التصقنا .. تفوّرنا .. أخذتني خلف ستارةٍ في ظهرِ البارِ .. اختفينا .. اشتدّ بيننا الشوقُ .. رفعتُ تنورتَها ، كأنها لم تلبس شيئاً .. تهنا في طريقِ الوجدِ .. لم نعلمْ مَنْ دخل الحانةَ لكننا نعلمُ أنّا تهنا . لم أصحُ إلاّ على نهدٍ يرتجفُ بيدي وفي فمي تتخدّرُ حلمةٌ . قالت :
ـ وصلْنا !
ـ إلى أين ؟
ـ إلى أطرافِ برلين !
أخبرتها عن زمنِ المحاضرةِ وتمنيتُ حضورَها .
قالت :
ـ سأحاولُ .
ـ ستكون المحاضرةُ أثراً من الآثار .
ـ سآتي .
ودّعتها وخرجتُ .
قالت ثُريّا :
ـ يبدو أنك قضيتَ زمناً جميلاً مع نيكول ؟
ـ نعم . كانت عذبةً في الجنس وفي المنطق ، لكن إياك وأن تقارني.
صمتتْ ثُريّا .
* * *
قال مسعد :
ـ سأظللُ نفسي بالمعرفةِ وأُحيطُها بشيءٍ مِنْ الأمانة وأنقلُ عَبْرَ ذاكرةٍ خصبةٍ تلك المحاضرة التي ألقاها الروائي ، الشاعر حمدانُ الخصيبي أمام حشدٍ من أبناء الجاليّاتِ العربيةِ وبعضِ الألمان في برلين وبغيابٍ يكاد يكونُ مطلقاً للهويةِ العراقيةِ . أطربتني المحاضرةُ في حينِها ، فحفظتها غيباً. حين دخلَ حمدان ، بعد احتلال العراق بشهرين ، قاعةَ المحاضراتِ كان التعبُ بادياً عليه وإلى جوارهِ وقفتْ نشوى التي لا تفارقه أبداً . حيّا الحضورَ وبدأ الكلامَ :
قرأتُ فيما قرأتُ من عسيرِ الكلامِ في التاريخِ القريبِ والبعيدِ ، أنّ الطغاةَ يتناسخون كلَّ ألفِ عام وأنَّ الشعوبَ تعتذرُ وتترحّمُ للأبعدِ حين تُصبحُ تحت ظلمِ الأقربِ فتأسف على ما فات وتتذكر محاسنَ الأبعد . فنحن نترحّمُ للظالمِ جلجامش ، وإنْ لم نعاصرْهُ ، ونترحم للأكثر ظلماً حمورابي ونقتدي بمسلّته ونغفر لنبوخذنصر وسرجون الآكدي وآشوربانيبال وآشورناصربال وسنحاريب وأسرحدون والقائمةُ تطولُ علماً أنّ كلَّ هؤلاء من الطغاةِ وسوف نتدرجُ حتى نصلَ برحمتِنا ومغفرتِنا إلى آخر الطغاةِ الذي عشنا زمانَه وتهنا في عصرِ ظلمته لنشملَه برحمتِنا وأعني صدام حسين لأننا سنرى ، من الغزاةِ المحتلين ومَنْ جاء معهم ، طغياناً أكبر .
على يدي الملك الفارسي قورش ، أداة يهوة وقوته الضاربة ، سقطت في العام " 539 ق . م " الإمبراطورية البابلية العظيمة في عهدِ آخر ملوكِها الضعفاء نبونيد . التاريخُ يقولُ إنّ بابلَ العظيمة أسقطتها الخيانةُ بدون قتالٍ . فقد أتفقَ الملكُ الفارسيُّ ، المتحضّرُ بالنسبةِ إلى ملوكِ زمانِه ، مع يهودِ السبيّ البابلي على إشاعةِ الذعرِ والفوضى بين الناسِ وزرعِ بذورِ الفرقةِ ، كما قام كبارُ التجار اليهود ورجالُ الدين بشراء ذمم رجالِ الدولةِ المهمين بالمال وإغراء البعض الآخر واستمالته إلى جانبهم وتحييد بعض الوجهاء والمقاتلين في القتال الذي سيدور بين الملك البابلي والفرس القادمين من الشرقِ والمدججين بالثقةِ في النصر المؤزر فحليفهم الداخلي " يهود السبي " هو عدو الإمبراطورية البابلية الرئيسي . جرى الإتفاقُ مقابل تعهّد قورش بإعادة المسبيين من اليهودِ إلى بلادِهم محملين بالهدايا والضمائمِ والأرزاق وأدواتِ الهيكلِ وتعهّد قورشُ كذلك ببناء هيكلِ أورشليم على حسابِ الدولة وهذا ما حدثَ فعلاً فلقد انكسرتْ بابلُ وعاد اليهودُ المسبيون بكلِّ الحلمِ اليهودي بعدما قضوا ستين عاماً في البكاء والشكوى عند مياه بابل .
في العام ( 536 ق . م ) أمرَ الحاكمُ الفارسيُّ المُنتصر على البابليين بحفرِ أساساتِ الهيكل الجديد ، هيكل سليمان في أورشليم الجديدة وجرى هذا تنفيذاً للعهد الذي قطعه قورش على نفسه . لكن بقي في بابل ولم يَعُد إلى أورشليم مَن هو طاعنٌ في السنِّ والمريض الذي لا يقوى على قطعِ الطريقِ في أيامٍ طويلةٍ وبقي أبناؤهم معهم وعوائلهم ، كذلك بقي عددٌ كبيرٌ من التجّارِ من أصحابِ المصالح والذين تأقلموا وتزوجوا من بابليات أو اللاتي تزوجْنَ من بابليين ، بمعنى آخر بقيت بذرةٌ أخرى للخيانة . بقيت خميرةٌ للعنةٍ قادمةٍ .
لم يحدثنا التاريخُ عن سقوطِ بلادٍ بدون قتالٍ ما لم تكن هناك رائحةٌ للخيانةِ ، خاصّة إذا كانت تلك البلادُ عظيمةً مثل بابل أو الاتحاد السوفيتي بسقوطهِ المدوي الفجائي وسقوط بغداد العباسية الفجائعي على يد هولاكو ثم بغداد ثانيةً في الزمنِ الذي نحن فيه . استنجد الخليفةُ العباسيُّ بالملك ، السلطان الأيوبي الكردي الناصر يوسف القابع في دمشق فلم ينجدْه بل تشفّى به . في تلك الأيام دخلت جحافلُ هولاكو بغداد بقيادة النسطوري كتبغا وأوعزت دوقوس خاتون زوجة هولاكو النسطورية إلى قائد الجيش بعدم الإساءة أو المساس بالمسيحين وطالبته ، ما عدا ذلك ، بقتلِ كلّ مَنْ صادفه من المسلمين وتدمير كلّ شيء يعترض سبيله . هذا الإيعاز المدروس يُفسَّر الآن على أنه سياسة " فرّق تسد " الغربية في العصر الحديث .. ومن المفيدِ أنْ نعرفَ أنَّ المرجعَ الشيعيّ الأعلى في ذلك الزمان نصير الدين الطوسي والوزير مؤيد الدين بن العلقمي كانا ضالعين في الخيانة . اتفقا مع هولاكو سرّاً على أنْ يقنعا الخليفة العباسي بتسريح نصف الجيش بحجةِ أنّ خزينة الدولة فارغة ولا يمكن تسديد مرتبات الجند فتمّ ما تمّ مِن انقضاضٍ على الامبرطورية . قُتل الخليفة بعد أنْ لُفَّ بسجّادة ومرّت عليه كلُّ الحوافرِ والأقدام القذرة . قتلَ الخليفةُ واستبيحت بغداد وفاز برأسه مَن خان . الآن التأريخ يعيدُ نفسَه مأساةً وملهاةً . الآن سقطت بغداد بدبابتين وقفتا على جسرِ الجمهورية . أيّ دهشةٍ هذه تنزرعُ في عيوننا وأيّ محنةٍ تشحذُ سكاكينَ الموتِ في صدورنا وأيّ مشهدٍ يثيرُ استغرابَنا لا بل يفجعنا. أيّ حزنٍ يشلُّ إرادتنا حين كانوا يتحدثون عن رابعِ جيشٍ في العالم . لم يدافع عن بغداد أحدٌ حتى الحزب الحاكم الذي احتلبَ ضرعَ الوطنِ وظلّ يحتلبُ حتى اللحظاتِ الأخيرة لم يدافع عن وجودهِ على الأقل بل لم يدافع أعضاؤه عن فروج نسائهم . بطغيانه الكبير ، وهذا الطغيان سمة عامة لحكّام بلاد ما بين نهرين ، أعطى الحاكم صدام حسين مبرراً للتدخل الخارجي في شؤون بلادنا ، بسبب شرورِه وحروبِه الكثيرة التي خاضها إبان حكمه . استفاد المتدخلُ الخارجيُّ من وجودِ معارضةٍ لم تنتمِ روحياً للعراق وإنْ ادعت عكس ذلك فإنَّ انتماءها يبقى انتماءً غير جذريٍّ بمعنى أنها لا توالي الوطنَ فلها ولاءاتٌ أخرى كردية وفارسية وتركية ولبعضها أطماعٌ سلطويةٌ ومآربُ لا نعلمها ، ربما حتى ثأرية .
حُوربنا وغُزينا واحتللنا وسقطت بغداد بمباركةٍ دوليةٍ هذه المرّة وبدعمٍ كاملٍ وإسنادٍ من دولِ جوارٍ إسلامية وعربية أرادت تدميرَنا والإقتصاصَ من وطنٍ وحضارةٍ أُخِذت بجريرةِ حاكمٍ متعالٍ ، فاجرٍ ، لا تعرف الرحمةُ إلى قلبهِ سبيلاً . سقطت عاصمةُ الخلافة دون أنْ يرفَّ رمشُ أحدٍ ولم تدمعْ عينُ أحدٍ ولم يعترضْ أحدٌ كأننا في غابةٍ فأُخذنا . سيندمون ، سيقولون قريباً : أُكلنا يومَ أُكل الثورُ الأبيض . ولهم في الملكِ الأيوبي الناصر يوسف في دمشق أسوة فهو لم يسلم من غضبةِ هولاكو .
عندما أُحتلت بغداد لم يبقَ من ماء دجلة سوى الطينِ .. غضبَ النهرُ وسرّح ماءه وغطّ الكونُ في صمتٍ مطبقٍ . لم نسمع محتجّاً رفعَ صوتَه . بغداد أُغتصبت في غابةٍ والعالمُ مِن حولِنا هو الغابةُ . بغداد أُغتصبت بدعمٍ كونيٍّ .. بصمتٍ كونيٍّ . أُحتِلّت بلادُنا . جاءوا يهدمون مملكتنا ليبنوا مملكةَ السماء التي لا تُقهر . جفّت بغداد واقفةً وليس هناك مِن ناصرٍ أو معينٍ فالغزاةُ لم يُعمّدوا بصلاةِ الكاهن وليام دوناي الذي استنزل بركات ِالربِّ على بعثةِ هيروشيما واستجابَ له ربُّ العزّةِ وحسب ، إنما بمباركةِ كلِّ كهّان الدنيا ومطارنتها وكلّ علماء الأديان بمَن فيهم علماء السنة والشيعة .
سقطت بغدادُ ذاك السقوط المُريع . كانت معارضتُنا للنظام معارضةً لسياسته الهمجية لم نكن نفكِّر يوماً أنّ معارضةً في العالم سترغّب الأجنبيّ باحتلالِ بلادِها إلاّ ما صرنا عليه نحن العراقيين . أيّد ألمانُ القضاء على هتلر ، مع الفارق ، لكنهم لم يغروا الأجنبيّ باحتلالِ بلادِهم . غادر ألمانُ كثيرون ألمانيا بسببِ القمعِ النازيّ لكنهم لم يعودوا على ظهورِ الدباباتِ .
قبل أبي جعفر المنصور لا أظنّ أنّ بغداد كانت أرضاً جرداء واسمها لم يرد إلاّ لماماً في كتبِ التاريخِ على أنها قرية على ضفاف دجلة وفيها سوقٌ اسبوعية كل ثلاثاء تسمى سوق الثلاثاء وقديماً كانت ضمن حياضِ الامبراطورية البابلية ثم استنجعها الفرسُ بعد احتلالِ بابل . ولا أظنّ أنها كانت جزءاً من مملكةِ أوروك ولا أعتقد أنها كانت معروفةً لدى جلجامش الملك من قبل على حدِّ معرفتنا فهذا المتوحش يحكم مملكةً أخرى في مكانٍ آخر .. وإذا كان الأمرُ غير ذلك لبحثنا عمّن يروي لنا الحقائق التاريخية لكن الطائرَ الراوي ظلَّ في منأىً . على غصنٍ مبتلٍّ يروي ظمأً .. ظلَّ الطائرُ يصلّي صلاةَ الإستسقاء في صبحٍ جافٍّ في أرضٍ عطشى .. يخيفه ، كصبيٍّ يبحرُ في العتمةِ ، صوتُ صفيرِ الريحِ . ظلَّ االطائرُ يا ربّي يستمع لامرأةٍ تُهَدْهِدُ في العزلةِ بجرسٍ مكتومٍ . لماذا ؟
آه بغداد آه . نَم يا ولدي لقد سحقتنا أحذيةُ الجندِ الغزاةِ وطحنتنا أسنانُ الزمنِ الكافرِ . ظلّ الطائرُ في منأىً يروي آخرَ أيامهِ ويقضمُ آخرَ أيامه .. ظلَّ الصبحُ إلى أرضٍ عطشى يأتي والطائرُ فوقَ الغصنِ يروي ظمأً ويصلّي صلاةَ الإستسقاء .
إلى بغداد لم يبحرْ أو يصحرْ أو ينهرْ جلجامش فبغداد في زمن الخلافة أصبحت عاصمةَ الدولةِ العباسيةِ ومدينةَ السلامِ ولا ينبغي أنْ ينازعَنا أحدٌ . نريدُ تأريخاً مُحايداً يكتب بأمانةٍ عن كلِّ الطوائف والأقوامِ ، لا نُريدُ زيفاً . كلّ هذا التاريخ المكتوب والمنقول شفاهاً والذي توارثناه نطعن فيه .. لا يكفي لقصيدةِ شاعرٍ أنْ نركنَ إليها ونقول هنا كان الملكُ والآلهةُ والحضاراتُ، لا يجب أنْ نركنَ لمخيلةِ مجنون ، علينا التثبّت من الوقائع التاريخية . نُريدُ مؤرخاً شريفاً نزيهاً لكي لا يقال بعدئذٍ ، على سبيلِ المثالِ ، إنّ المرجعيةَ الشيعيةَ في النجف قاتلت الغزاةَ الأمريكان بفتوى منها والفتوى تنصُّ على عدمِ مقاتلتهم . لا نريدُ أنْ يكون للخائنِ في الزمنِ الصعبِ وجهٌ مشرقٌ . الآن أو في المستقبل . حصل في الماضي أنْ تعاونَ شيوخُ عشائر وعلماءُ دينٍ مع الاحتلال البريطاني وسجّلَ التاريخُ شيئاً ما لصالحهم . نحن لا نُريدُ هذه اللعبةَ القذرة . لم تكن بغدادُ عاصمةً لدولةٍ بابلية وليست مدينةً لأيِّ طاغيةٍ في وادي الرافدين . بغداد عربية عبّاسية وستظلّ إلى أبد الآبدين . قرأتُ قبل أيامٍ أنَّ هناك مَن يربط بين بغداد وجلجامش ويحملّنا غزوتَه ويأخذنا بجريرته . هذا الكلامُ يجسّدُ لونَ الفكاهةِ المرّةِ بكامل أطقمها الفجائعية إذ ما الذي يربط بين جلجامش وبغداد ميثولوجياً ؟ ما الذي يربط بين أوروك القرية المتخلفة وهي مملكة جلجامش وبين بغداد المتحضرة أو قل هي حاضرة الحواضر ؟ ألا ترون خيطاً أسود قد تجلّى في سماء غريبةٍ . هذا الهذيانُ المتلفعُ بطهارةٍ دموية يحيلنا إلى الهوان ِ . فجلجامش لم يخفِ سرّاً فهو مَن أخبرنا بغزوته الأولى وهو أول مَن ركب الأهوالَ ليقتحمَ غاباتِ الأرزِ . أين ؟ وليقتل حارس الغابة خمبابا لا مِن أجلِ النفطِ بل مِن أجلِ عشبةِ الخلودِ .. وجلجامش هذا أول طاغية يتمثّل لنا أسطورياً في ما يسمّى بوادي الرافدين الذي أنجب آلافَ الطغاة والمتجبرين فيما بعد ، وجلجامش هذا كما تثبتُ الوقائعُ التاريخيةُ لم ينتمِ إلى كهلان أو قيس وهو ليس نزارياً أو جرهمياً ولا هو بعد هذا وذاك من خزاعة أو كنانة وليس بكرياً أو ربيعياً وليس لخمياً وليس حفيداً لأيِّ عربيِّ ولا جدّاً لعربي . قلتُ لم تثبت الوقائعُ لكي لا تكون مناسبة لموتورٍ من أيِّ عرقٍ أومذهبٍ أو دين لكي يشتمَ العربَ والعروبةَ وهذه الأمة الكريمة التي أنجبت عدداً ضخماً من العظماء طيلة تأريخها . فمَن منكم أيها العربُ كان حفيداً لجلجامش وهو خليلٌ لصاحب أعظم صيحة في البريّة المتوحش أنكيدو ، وعشيق البغيّ عشتار ؟ سقطت بغدادُ واستباحت الغوغاءُ كلّ الذاكرةِ العراقية وشُتم العربُ في العراق وأهينوا واتهموا . نحن أمة نُتهم بما ليس فينا وهي العنصرية ، يتهموننا بها لكي يصرفوا النظرَ عن عنصريةٍ فيهم . نحن أمة منفتحة على الأقوامِ وليست مستغلقةً على ذاتها محصورةً بين جبالٍ و وديان أو منعزلة في صحراء ، فنحن مَن صاهر الفرسَ رغم كثرةِ الحروب معهم ، والأحباشَ والرومَ وكانت لنا تجارةٌ واسعةٌ مع الإمبراطوريات البعيدة وفينا نزلت الآيُ ، ونحن أهل الرحلتين : رحلة الشتاء ورحلة الصيف .. ونحن أول مَن تصاهر مع الآخر فاختار من نسائنا الملكُ الآشوري أسر حدون امرأةً له ثم أخذنا من الأممِ الأخرى وأخذت منّا .. ونحن مَنْ استجلبَ من بلادِ فارس وبلاد الرومِ والترك الرجالَ والنساءَ.. الغلمانَ والجواري لكي تسرحَ وتمرحَ في دولنا المعظمة الأموية ثم العبّاسية وفوق كلِّ هذا ورغم ضيقِ المجتمع الغابر الحاضر كان يعيش بين ظهرانينا وبأمان من قام بقتلِ خلفائنا العظام من الفاروق عمر إلى الإمام علي، وكان كلُّ القتلةِ من الأعاجم ، وأسماء بلداننا لا تدلُّ على عنصريةٍ فينا فانظر فيها : سوريا ، مصر ، العراق ، لبنان ، اليمن ، فلسطين، المغرب ، الجزائر ، تونس ، وغيرها من البلدان التي لا تنطقُ بعروبتِها ولا تعلنُ عن عنصرِها الذي يجب أنْ تباهيَ به الأممَ فيما أمم الأرض جميعها تقرنُ أسماءَ بلدانها باسم أعراقها كروسيا للروس وألمانيا للألمان وفرنسا للفرنسيين واسبانيا للاسبان وتركيا للأتراك مع وجود أعراقٍ أخرى بينها ليست بالهينةِ في كثرتِها . نحن أمة أزاحت امبراطورياتٍ ودولاً وأنشأت أخرى بديلةً عنها .
نحن أمة سيّدْنا علينا العبيدَ وقطّاعَ الطرقِ من الطامحين إلى الخلافةِ والطامعين بالسلطان وأسبغنا عليهم ألقاباً لا يستحقونها فصاروا علينا ملوكاً وسلاطين مثل صلاح الدين الأيوبي وأخوانه وأبناء أخوانه وأشرف الأيوبي وبدرالدين لؤلؤ وسواهم حتى تصلَ السلسلةُ إلى آخر حلقاتها عند غلامٍ لبني فارس . وفوقنا طلعت باسم الإسلامِ أممٌ وتحكّمت بنا الجواري والغلمانُ والمماليكُ وأمّت بخلافتِنا فروجُ الفرسِ والروم والترك وعاث بحضارتنا الغرباءُ فساداً ، فأين نحن من العنصريةِ المزعومةِ حين كنّا وما زلنا هدفاً لنابل وغرضاً لمبغضِ ؟ فتحكمت بنا العمائمُ السوداء والبيضاء والطرابيشُ وشراويلُ الغجرِ وساطتنا تحت الشمسِ شذّاذُ الرومِ والديلم .
نحن أمة كرّمها اللهُ وأذلها حكّامٌ فاسدون مرّغوا هام أعزتهم بوحل مَنْ كان دونهم في الشرفِ والرفعةِ . العرب أمة صنعت مجداً وحضارةً افتقدت لها بعض الأمم إلاّ أنها انحدرت بإرادةِ حكّامٍ خونة. العرب أمة لا بدّ لها من كنس ضيمها والقذف به خارج دائرة الزمن.
العرب كرماء الأرض فيجب أن لا يطأطئوا هاماتهم ولا يدنوا من الأرضِ أنوفَهم وأن ينزعوا الخائبين منهم ويتساموا على ضعفهم الذي استغله الغيرُ . عليهم أنْ يتوحدوا بكثرةِ المالِ وحدّ السيف وقوّةِ الحجّةِ وصدقِ المنطقِ . عليهم أن ينهضوا ويبنوا وطناً واحداً موحداً فبين ظهرانيهم تعيش أقوامٌ أخرى لا تُريدُ لهم الوحدةَ وهي تحول دون وحدتهم وتسعى إلى إبقائهم مفتتين مشتتين حيث ليس من مصلحتها أنْ يتوحّدَ العربُ وتقوى شوكتُهم إنما تريدهم ضعفاء مفككين لكي يسهل نخرهم ومن ثم التسلط عليهم في اللحظة المناسبة. فلا يجوز إبقاء هذه الأقوام تسرح وتمرح وتتربص بهم ولا يجوز أنْ يسلطوها عليهم . يجب عليهم أنْ يجدوا الحلولَ المناسبةَ للحدِّ من تدخلها بحيث لا يؤذونها بل يساعدونها على الخروج مما هي فيه ، فهي الأخرى باحثة عن عزتها إنما لا ينبغي لها الحياة مقابل موت أمة العرب . أما إذا كان الحلُّ بمنحها دولاً فلا غضاضة في هذا ولكن بشروط . نحن أمة يجب أنْ لا نكون سبباً في انحطاطنا ولا سبباً في غيبتنا وعلينا أنْ نستدلّ على الكرامِ من أبنائنا وأنْ لا ننقادَ لغريب . ولنا في أرضِ العراقِ تأريخٌ سابقٌ على جميعِ الأقوامِ ألسنا نحن سكان تل العُبَيد ؟ ألسنا الآكاديين الذين ضجّ بهم سهلُ شنعار؟ ألسنا الأموريين ؟ ألسنا الكنعانيين ؟ ألسنا نحن من ولدِ إبراهيم وهذا من ذي قار ؟ ألم يُسأل نبيُّنا في عرضِ الصحراء عن أصولهِ فيجيب: نحن من ماء . فيُجاب : ليس من ماء سوى العراق . ألم يكن صادقاً حين ينتسب لإبراهيم أبي الأنبياء ؟
سقطت بغداد وأثبتَ العراقيون أنهم بلا عمقٍ حضاريٍّ حين انتهز الرعاعُ هذا السقوط وأتوا على موروثها العظيم . طبعاً هناك مَن كان يدفع إلى التدميرِ والخرابِ في السرّ والعلنِ . سقطت بغداد العظيمة وصار الحكّامُ أباديد .. صاروا في الفتنةِ كإبن اللبونِ لا ظهرٌ فيُركبَ ولا ضرعٌ فيُحلبَ .. سقطت بغداد العظيمة .
على الطريقِ تعطلّت طلائعُ آشور
وانتهبَ الإعصارُ خيلَ فارسٍ
فلا بغداد في أسيافِهم علقت
و لا حاشها النشّابُ عن كثبٍ
فلتأتِ يا طير البريّةِ سابحاً وتقضم هذا الشبكَ الأسطوريَّ الكامن
وإننا إزاء بغداد صرنا الدريئةَ
ذاك يقولُ هذه أرض فارس
وذاك يواريها الترابَ
هي سوسنةُ القلبِ وصوتُ المصير الأخير
هي منتجعُ الدنيا وقطرةُ الخلود العظيم
وهي الناموسُ الذي به يكون السادةُ
هي عزّةُ مَن لاعزّة له ومجدُ مَن لا مجدَ له
هي دفءُ الجذورِ
هي سفينةُ العشّاق يأخذها الموجُ
وهي عطرُ الأميراتِ في أعلى احتدام الشبقِ تعبقُ
هي آسرةُ النفوسِ وفرحةُ الملتاعِ
هي همسُ حبيبةٍ لحبيب
أيُّ المدنِ هي ؟
خطابُ الرجال هي
وشموعُ الأبناء التي لا تنطفئ
حين جاء حمدان على نهايةِ محاضرته بدا متعباً ، منهكاً ، مصفرّاً أكثر من ذي قبل . وضعته في سيارة نيكول ونقلناه إلى البيتِ . طلبتُ من نشوى أنْ لا تدعه ينفعل أكثر مما فعل أثناء المحاضرة .
قالت نيكول :
ـ لمَ لا ننقله إلى المستشفى فهو منهكٌ ؟
رفض حمدان وقال :
ـ شكراً نيكول إنما هو شيءٌ عارضٌ .
شددتُ على يديه . تمنيتُ له السلامةَ ثم ودعناهما وخرجنا نيكول وأنا . في الطريقِ انحرفت سيارتها باتجاه شقتي . قلتُ :
ـ ألا تذهبين إلى الحانةِ ؟
ـ الليلة أنا في إجازة وسأتعرّق حتى أجفَّ .
" بعد مسافة قليلة توقفت السيارة وترجّلا متعانقين ."
قالتْ ثريا ألا تشبع هذه الفتاة ؟
ضحك مسعد وغمز طرفها :
ـ وهل يشبعُ غيرُها ؟
قالت ثريا مؤكدة :
ـ أكملْ .
قال مسعد : قلتُ لها :
ـ سأسبحُ في عرقِ الفاتناتِ .. في عطرهنّ الجسدي .. في غمارِ موجِهنّ .. سأبحرُ بلا توقّف أنا السبّاح الماهر وسأجدُ نفسي في ضفافٍ أخرى .
ـ لن أدعك تصل ضفّةً أخرى إنما في ضفتي السّحرية سأغرقك .
ـ أُدخلي نيكول . أُدخلي الشقَّ المسحورَ فالوقت في أتمِّ زينته والحجرة مهيأة لهمس المساء ، لزقزقةِ الجسدِ وأنينِ الكؤوسِ . أُدخلي في أبهةٍ السريرِ .. في رائحةِ الوسادةِ .. في أُلفةِ النفسِ .. في اشتياقِ المكان . أُدخلي طاهرةً تُريد من لوعتي لوعةً . أُدخلي وبشذا الزهرةِ اعبري بحار روحي إلى آخر الغيابِ . ادخلي يا حبيبتي فالريح مؤاتية والقمرُ وعدني أنْ يسهرَ الليلةَ على آخرِ القبلاتِ . أُدخلي نيكول ولتشتعلْ حجرةٌ في أطراف برلين . لتتمرد أرواح وليضاء بصهيلها الليل . ادخلي ولتبتهج برلين مِن شرقِها حتى غربِها .. مِن أقصاها إلى أدناها . لتبتهج نفسٌ في الغربة . أدخُلي .. أُدخلي بكلِّ علانية الدخول .. بكلِّ فضائحيةِ الرغبة . أُدخلي نيكول.
" في تلك الليلةِ الباهرةِ ، المقمرةِ ، الساكنةِ ، الهادئةِ ، صهلت غرفةٌ في أطرافِ برلين واهتزت شهوةً . في تلك الليلة ازدهر الياسمينُ في الشرفات واختلط على الأقوامِ الأمرُ . فأيّ الروائح الزكية هذه التي فتكت بسماء برلين ؟ "
" ثُريّا تُحملقُ في عينيه وتبتسمُ . قبّلها مسعد وقال " :
ـ سأثني عليك يا حبيبتي وأدعوك للدخولِ فادخلي .
أُدخلي
وبي تلطّفي يا ثُريا
فإن كنتِ بي راغبةً فعليّ اهطلي
على رمالي الناشفة
أثّليها ونديةً اجعليها
ثم إلى قراري اسكني يا ثُريّا
أُدخلي بلا أذنٍ يا ثريّا
ومن حملك تخففي
ففي جنّتي
تترشقُ الفاتناتُ
قالت ثريا :
ـ أكملْ . ما الذي حلَّ بحمدان بعدئذٍ ؟
ـ بعد يومين من إلقاء المحاضرة اتصل بي حمدان الخصيبي قال إنه يُريدني في أمرٍ ما . عندما ذهبتُ إليه وجدتُ أمراً غريباً .. شممتُ رائحةً للرحيل . تساءلتُ :
ـ ما الأمر ؟
قالت نشوى :
ـ نوينا الرحيلَ .
ـ إلى أين ؟
ـ إلى العراق .
ـ وفي هذه الظروفِ الغامضةِ وحمدان عليل القلب ؟
قال حمدان :
ـ قتلتني الغربةُ .. أكثر من ربعِ قرنٍ وأنا لم أستطع التكيّف مع أيِّ مكانٍ .. أثبتت السنواتُ والأعوامُ الطويلةُ أنني لستُ قادراً على العيشِ بدون العراق .
أكدت نشوى :
ـ عشنا أكثر من ربعِ قرنٍ في المنافي مؤقتين . لم نفكرْ بالإستقرارِ أبداً . عشنا كأننا مقبلون على الرحيلِ .
بعد أقل من اسبوعٍ ودعتهما وعادا إلى أرضِ السوادِ ثم عنّي إنقطعت أخبارُهما .. منذ عامين انقطعت أخبارُهما .. لا أدري في أيِّ مكانٍ هما .. لكنهما عادا بعد هجرةٍ طويلةٍ لا تشبه هجرةَ اللقالق أو الطيور التي تضيّع طريقَ العودةِ أو التي لا تعود .
قالت ثُريّا :
ـ أ لا تبحث عنهما ؟
ـ سأبحثُ .. لكن حينما زارتنا البصرةُ إلى أرضِ مَدْيَن لم أسمعْ عنهما ولم ألتقِ بهما .
ـ زارنا بعضٌ من البصرة ولعلهما في البعضِ الآخر .
ـ ربما ... ربما يا ثُريّا . سأظلُّ أبحثُ عنهما .

انتهت
27 ـ 2 ـ 2007
***

عن المؤلف
ـــــــ
صبري هاشم روائي وشاعر من العراق
ولد بمدينة البصرة ـ جنوب العراق في 15 ـ 2 ـ 1952
أصدر الكتب التالية :
1 ـ ليلة ترخم صوت المغني ـ مجموعة قصصية ـ صدرت عن دار المدى ـ دمشق 1995
2 ـ رقصة التماثيل ـ رواية ـ صدرت عن دار المدى ـ دمشق 1995
3 ـ خليج الفيل ـ رواية ـ صدرت عن دار المدى ـ دمشق 1997
4 ـ الخلاسيون ـ رواية ـ صدرت عن دار الكنوز الأدبية / بيروت 2000
5 ـ أطياف الندى ـ شعر ـ دار كنعان / دمشق ـ 2002
6 ـ جزيرة الهدهد ـ شعر ـ دار كنعان / دمشق ـ 2002
7 ـ حديث الكمأة ـ رواية ـ دار كنعان / دمشق ـ 2005
8 ـ هوركي .. أرض آشور ـ رواية ـ دار كنعان / دمشق 2007
9 ـ قيثارة مدين ـ رواية ـ دار كنعان / دمشق 2009
10 ـ قبيلة الوهم ـ رواية ـ دار كنعان / دمشق 2012
11 ـ لنشوى معبد في الريح ـ دار كنعان / دمشق 2012
12 ـ لعنة التأويل ـ رواية ـ دار تموز / دمشق 2015






















#صبري_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يأتي الصباح
- خُذِي وردةً وأَبْحِري بِها
- آخر المُشاكَسَات
- إلى هُنالكَ يا زرقاءُ نرتحِلُ
- سأحتفي بكَ أيُّها القمر
- مِن أجلِها لا تنم أيُّها الليلك
- الرّبابنة
- مشهدٌ للرحيلِ الأخير
- الطارئون
- حين استبدَّ بكَ الوهنُ
- أنتِ مَن يقود البحرَ
- كرستينا جميلة منذ الأزل
- نصوص مُتنافرة
- التشكيل الشعري
- نصوص الشارتيه
- غوايةُ المُضارع
- البكاء على وطنٍ خذلناه
- نصوص لم تقل شيئاً
- الأُمنيّةُ الأخيرةُ للنورسِ وقصائد أخرى
- الرحيل الأبدي / لستُ في ضلال


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صبري هاشم - قيثارة مَدْيَن رواية