أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أمين نور - الهوية و الماضي















المزيد.....

الهوية و الماضي


أمين نور

الحوار المتمدن-العدد: 5094 - 2016 / 3 / 5 - 01:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن الماضي الثقافي لشعب ما ليس مجرد وحدة زمنية ذات أحداث و وقائع. إنه ليس مجرد حالة مشتركة بين أفراد ثقافة واحدة, إنه ليس حالة مستقلة حرة, بل يتعدى مفهوم الحرية الشخصية, و يكاد يكون دكتاتورية بحد ذاته تطوق الفرد و المجتمع الحاضر.
إن هذا الطرح خطير أشد الخطورة بذاته. فلست هنا أتحدث عن دكتاتورية المجتمع أو السياسة, أو طغيان الأكثرية, بل أسوء, إنها دكتاتورية قمعت الدكتاتور نفسه و جعلته يرنخ لها. دكتاتورية التاريخ, دكتاتورية الزمن.
أنا إبن جيلي سأم أشد السأم من الماضي و ترديد أمجاده الصمّاء, و ثار على هذه الدكتاتورية الثقافية التاريخية, التي احتكرت حاضرنا و هوية الآن, و هو ما ظنناه متجسداً بشكل نظام حزب البعث السوري الاحتكاري حقاً, احتكاراً مؤقتاً, و الذي لم ينضب قط عن تدويخنا بأمجاد الماضي الإسلامي بالرغم من كونه علمانياً إسمياً.
لم يكن الفخ الذي شعرت به هو الفراغ و الشواش السياسي الحالي في سوريا, كل هذه الدماء و القصف و الدمار و الأسلمة و الإرهاب و و و و لا تبدو شيئاً أمام خطورة اكتشافي هذا.
لقد كان احتواءاً للحقيقة المرّة, هي أننا لا نملك شيئاً كأبناء للحاضر, نحن كائنات زائدة, و يمكن الاستغناء عنا, فلم نحقق شيئاً لليوم أو للغد لا لكي يحمينا ولا لكي نساوم به كورقة لشراء حمايتنا من قوىً أكبر. و بالتأكيد, كان هذا الاكتشاف الكئيب دافعاً للنشاط و ترك الفتور و التقاعس, و تعزيزاً للطقوس المازوخية بالاستمتاع بآلام التعب و السهر و الدراسة و القراءة تحت وطأة كل هذه الظروف من أجل أن نكون مجتمعاً أفضل. مجتمعاً ينبذ تعلقه بالماضي(أي لا يعطه إلا حقه المحدود) و يهتم بمستقبله و حاضره.بهذا استطعت أن أشخّص الماضي و مشتقاته كعقبة أكثر من كونه دافعاً.
و لدي فرضيتين لماذا كنا نتغنى بالماضي, قد يمكن التوفيق بينهما و قد لا يمكن:
1. و هي الفرضية الاعتيادية, أن الضعف الناتج عن القمع, ولّد حاجة للتغني بالقوة و الإنجاز للتعويض, و لهذا لا نملك بين أيدينا سوى ذلك الماضي البعيد, عندما كنا و عندما كنا ... متناسين أننا نعترف بانتهاء صلاحية السلعة و بأننا "خبر كان" . بلغنا درجة من القمع و القهر جعلتنا متجاوزين لمرحلة الانتباه على أننا نصف أنفسنا بلساننا بخبر كان. و هذا القمع هو ما ولد القبول الاجتماعي للماضي و رفض الحاضر.
2. الفرضية الثانية, أننا ولّدنا لاشعورياً توصيفنا لذواتنا كضعاف و صيصان أمام الحاضر و أبناءاً للماضي, و ذلك كرد فعل على القهر و القمع في الحاضر, لكن ليس لتعويض ذواتنا نهماً وراء شعور بالسيادة و الإنجاز, بل إنه محاولة لممارسة السيادة على القامعين و المهيمنين و الديكتاتوريين. كيف هذا؟ و نحن نصنف مع أكثر الشعوب كبتاً و قمعاً؟ الفكرة تكمن هنا تماماً, إننا باستغبائنا و استضاعفنا أمام المستبد, نعطي ما قد يكون ضوءاً أخضر له بالاستمرار بالحكم و السلطة, لكننا لا نعطيه الشرعية أبداً, إننا بإدعائنا الغباء و عدم السويّة نهدي أنفسنا هدية ماكرة, و هي إنكار شرعية المستبد, فلا يمكن للمستبد أن يستمد شرعيته من شعب غير سوّي نفسياً, كما لا يمكن للمحكمة أن تأخذ بشرعية شهادة المجنون, و لا يمكن للمجتمع أن يعاتب أفعال المختلين عقليا, و كذا بالنسبة للحاكم و المحكوم. أما التمسك بالماضي, فلم يكن سوى حجة مقنعة اتخذناها للتغطية على ممارستنا الـ"شاذة" بنظر الديكتاتور. إننا بهذا نحرم الدكتاتور من العظمة, نحرمه من حكم شعب عظيم و نصرخ بوجه العالم أن هذا الدكتاتور يلعب اللعبة السهلة لا لعبة العظام, بحكمه شعباً فاتراً متمسكناً ضعيفاً, حاكماً من الدرجة الثالثة. و هذا ما قصدته بقولي أن دكتاتورية الماضي أخضعت الدكتاتور نفسه, لا باتباعه لمبادئها و نشرها بين أفراد الشعب, فنحن ندرك أن تغني الحاكم بالماضي "أبرة بنج", لكن لأنها آلية دفاعية تسلطية للشعب من أجل إهانة حاكمه. على الأقل قد تكون هكذا بدأت المحاولة مع قدوم موجة الدكتاتوريين في منتصف القرن السابق, التي تحولت لاحقاً بشكل غير محسوب مع مرور الأجيال إلى تأكيد على الماضي, بتناسٍ للدور الأساسي الأصلي الذي ينكر شرعية المستبد. قد يكون هذا التحول الغير مرغوب به قد وقع لخطورة استخدام وسيلة ثقيلة مثل الـ"ماضي" لترويض الدكتاتور. و بهذا تولدت هوية فارغة صمّاء تعتمد بشكل شبه كامل على الماضي.*
ثم ما أن يزول دور الماضي قليلاً(كما وصفت أبناء جيلي في بداية المقال), و يحين الوقت لضرورة اتخاذ هوية حقيقية, حتى ترى العجب العجاب من أبناء الشعب. كل الكوابت التي سببها قمع المستبد -السياسي و الاجتماعي- تخرج بشكل قد يكون إرادي و قد يكون غير إرادي, كما يقول المثل بلهجة فظة أكثر "نشرنا غسيلنا الوسخ قدام العالم". و تبدأ الهوية المعتمدة على الماضي بالتعبيّر بقباحة عن فراغها و خلّبيتها. كل تقيؤ قومي أو ديني أو أيديولوجي مرتبط بالحالة أم غير مرتبط سيخرج و يجد أنصاراً, ليس تعبيراً عن مناصرة القومية أو الدين أو الأيديولوجيا لذاتها, بل اتخاذاً لأي حل محلي مناطقي يعد بالخلاص أو الحل السريع. و أشير هنا إلى المناطقية البحتة الحاصلة بمحض الصدفة, فمثلاً: صادف أن كان هناك بلدة صغيرة بالقرب من الحدود التركية ثارت ضد النظام البعثي و طالبت حرفياً باستبداله بالـ"قرود الزرق" على ألا يبقَ حاكماً, و عندما تمت عسكرة الثورة السورية و أسلَمَتِها, تحولت هذه البلدة بشكل خارج عن سيطرة أهلها إلى عاصمة صغيرة لتنظيم القاعدة السوري(قبل انشقاق داعش عن النصرة), ثم تحول أهلها إلى منتسبين حقيقيين إلى تنظيم القاعدة بالرغم من أن بعض أبناءها قد وصفوا لي أنفسهم ساخرين "و الله ما منعرف الوضوء كيف". و هكذا بالنسبة للمناطق الكردية, و غيرها من المناطق الدمشقية و الحمصية و و و و ..
و أشير بشكل خارج عن الموضوع هنا إلى أن صراع (القوة) في سوريا, يأخذ منحىً غير شاذٍ علمياً, فعندما تتحول اللعبة إلى تنافس للقوى, فإن القوة الأقوى سوف تطغى على غيرها و "تأكل" القوى الأصغر, سواءاً أكان هذا في مناطق الثوار أم في مناطق النظام. أي أن من الطبيعي للقوى الكبيرة نسبياً مثل جبهة النصرة أن تسيطر على مجموعات أصغر, أو كما حصل منذ فترة في حرب العائلات المقربة من الأسد في مدن الساحل. إلا أن الرؤية الأخلاقية للمجتمع ترى في هذا الأمر علة و عيباً و حالة غريبة و شاذة.
متى ما أصبح صراع الهويات مبنياً على قوىً تتمنطق بقانون الغاب, و تبحث عن أي فكرة أو دعامة أيديولوجية ملهمة لـ"صمودها" أمام بعضها, فلم يعد هناك شيء حقيقي يعبر عن هوياتها, بل لا بد أن تنحرف و تسبح وحدها بعيداً عن الشاطئ, بعيداً عن أم غسان الأرملة في المخيم و أبو إحسان في منزله, و أبو ويليم على شرفته و جوان في مزرعته. إنها بهذا تتحول إلى هوية خلّبية مثل سبيقتها. مثل تعلقها في الماضي. تعلقاً ليس بالحقيقي, و إنما بالمحليّ العابر.
إن كون الماضي بالنسبة لأبناء المجتمعات العربية هو لؤلؤة إنجازاتهم و تتويج لثروتهم الثقافية, لهو أكبر إهانة لهم, و بنفس الوقت مواساة أيضاً, و هذه القطبية المتناقضة التي تودي بمخاطر انفصام الشخصية و التي تَعَوّد عليها إبن المجتمع العربي, تذكرني بمصطلح "التفكير المزدوج" الذي طرحه جورج أورويل في روايته 1984 في توصيف المتلازمة الذهنية التي تعطل المحاكمة العقلية لمن يعيش تحت وطأة الدكتاتورية. و غدى الشاب يكبر تحت وطأة دكتاتورية المجتمع الراضخ المحافظ(الأحمق بنظر الشاب الثائر), و دكتاتورية الساسة, و الأفظع دكتاتورية الماضي الذي صدف أن كان أساس دكتاتورية الثقافة. كل قرار سيء اتخذه من عاش في الماضي, نتحمل وزره نحن اليوم, أبناء الحاضر, و كل قرار نتخذه اليوم, سوف يتحمله أبناء المستقبل... و سيشتموننا عندما تتفتح عيونهم إلى تلك الحقيقة المرّة الفظيعة, نحن, أبناء ماضيهم, كما نحن نشتم أبناء ماضينا.
لا يبدو أن الربيع العربي سيتحقق بتغيير الحاضر و حسب, و إنما يجب عليه تغيير الماضي أيضاً.


* لربما تتأثر هذه الفرضية بشكل ضحل بمبدأ "الآخر الكبير The Big Other" للمحلل النفسي جاك لاكان.



#أمين_نور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية و ظاهرة خلع الحجاب
- سوريون و لسنا عرباً
- أين أودت الثورة السورية الجيل الأول من شبابها
- أسوء أجيال مرت على سوريا و العرب
- أخلاقيات المصورين الإغاثيين
- اكتئابات شباب بلا شمس
- قصة وجودية قصيرة تنتقد سوريي المهجر بعنوان -عبد القادر السور ...
- الثورة السورية و استحقاق ثوراها للحضارة بشجاعة أو الجبن و خس ...
- نظرة توفيقية بين التيار الإلحادي و الإسلام العربي
- في تسويق الأمثال العربية و الدينية للكسل و الانحطاط و تغييب ...
- في تسويق الأمثال العربية و الدينية للكسل و الانحطاط و تغييب ...
- في تسويق الأمثال العربية و الدينية للكسل و الانحطاط و تغييب ...
- عن -تأملات في الثورة الفاضلة- كتابٌ قصير لشاب صغير


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب بنيويورك
- وزير الدفاع الأميركي يجري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الـ -سي آي إيه-: -داعش- الجهة الوحيدة المسؤولة عن هجوم ...
- البابا تواضروس الثاني يحذر من مخاطر زواج الأقارب ويتحدث عن إ ...
- كوليبا: لا توجد لدينا خطة بديلة في حال غياب المساعدات الأمري ...
- بعد الفيتو الأمريكي.. الجزائر تعلن أنها ستعود بقوة لطرح العض ...
- السلاح النووي الإيراني.. غموض ومخاوف تعود للواجهة بعد الهجوم ...
- وزير الدفاع الأميركي يحري مباحثات مع نظيره الإسرائيلي
- مدير الاستخبارات الأمريكية يحذر: أوكرانيا قد تضطر إلى الاستس ...
- -حماس-: الولايات المتحدة تؤكد باستخدام -الفيتو- وقوفها ضد شع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أمين نور - الهوية و الماضي