أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - كتاب (وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين)













المزيد.....

كتاب (وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين)


أحمد صبحى منصور

الحوار المتمدن-العدد: 5089 - 2016 / 2 / 29 - 07:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    




كتاب (وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين)
( الكتاب كاملا )
تأليف د . أحمد صبحى منصور
الفهرس
مقدمة

الباب الأول التمهيدى
الفصل الأول : وعظ السلاطين فى رؤية بحثية منهجية
الفصل الثانى : أبو جعفر المنصور.. والخضر
الفصل الثالث : ماهية السلاطين
الفصل الرابع : ما هية الوعظ
الفصل الخامس : لماذا تميز تراث المسلمين ـ دون المسيحيين ـ بوعظ السلاطين

الباب الثانى : وعظ السلاطين فى عصر الخلفاء الفاسقين ( من أبى بكر الى معاوية )
الفصل الأول : الخلفاء الفاسقين ( الراشدين )
الفصل الثانى : فى عهد معاوية والتوريث ليزيد
أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح.
ثانيا : ( زياد يعظ ): خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين
ثالثا : زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )

الباب الثالث : وعظ حسنى مبارك ( اللعين ) قبيل الثورة المصرية 2011
الفصل الأول : كارثة التوريث بين معاوية وحسنى مبارك
الفصل الثانى : معاوية وحسنى مبارك بين التجويع والتسقيع
الفصل الثالث : وعظ الرئيس (محنط) حسني مبارك: تغيير المناخ الثقافى بين معاوية ومبارك :
الفصل الرابع : رفع الإصر عن شعب مصر
الفصل الخامس : وعظ المعارضة المصرية الراهنة : لا بد من الاستقواء بالخارج
الفصل السادس : المستبد يصنع شعبه
الفصل السابع : مصر: من القطط السمان الى عصر الحيتان
الخاتمة : كلمتى للساكتين عن الحق :
(عبد الله بن عمر بن الخطاب) الساكت عن قول الحق فى الفتنة الكبرى الثانية:

ملاحظة
عزيزى القارىء
رجاء ألّا تنسى أن هذه المقالات تمت كتابتها ونشرها قبيل الثورة على مبارك . وتم تجميعها فى هذا الكتاب فى فبراير 2016 .

مقدمة :
1 ـ سبق نشر هذا الكتاب مقالات تاريخية فى ( وعظ السلاطين )واكبت أواخر عصر مبارك وهو حائر بين التمديد والتوريث ، يريد توريث إبنه ولكن يخشى من انقلاب عسكره عليه . مشروع التوريث لو تمّ كان سيكون سابقة فى مصر بعد أن حكمها العسكر عام 1952 . ولأن توريث يزيد بن معاوية كان سابقة فى تاريخ المسلمين ولأن مصر وجع يعيش فى قلب المؤلف فإن سعى مبارك لتوريث إبنه جعل المؤلف يقوم بإسقاطات على الذى يجرى فى مصر وقتها ، فتتالت مقالات عن مبارك وفساده ومحاولات توريث ابنه . ورؤى أن يتوقف الجزء الأول من بحث ( وعظ السلاطين ) عند هذا الحد ليكون مقارنة فى ( وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( مبارك ) اللعين )
2 ـ ونعود الى وقت تأليف مقالات هذا الكتاب وصلته بتوريث الحكم :
كان هناك نوع من تداول السلطة بين رءوس العسكر . أتى عبد الناصر بالسادات نائبا له . تصور عبد الناصر أن السادات الذى كان يبالغ فى نفاقه وطاعته لن ينقلب عليه ، السادات كان عميلا للأسرة السعودية وبعد مؤتمر الخرطوم والصلح بين عبد الناصر والسعودية توسطت السعودية لتعيين السادات نائبا لعبد الناصر . بعدها تمت مؤامرة إغتيال عد الناصر بالسُّم ، وتولى السادات مكانه فتحالف مع السعودية وأمريكا ، واحدث تغيرا فى السياسة المصرية لا يزال مستمرا حتى الآن . إلتفت السادات حوله ليعين نائبا له يأمن له ، فإختار ضابطا عديم الطموح هو حسنى مبارك . وتحالف مبارك مع محمد عبد الحليم أبى غزالة الذى كان مدير المخابرات الحربية ( 1979 : 18980 ) فترقى ابو غزالة وأصبح رئيس الأركان القوات المسلحة . وقتها كان الفريق أحمد بدوى وزير الحربية ، وكان معروفا بوطنيته وبسالته . ولم يكن منتظرا أن يحدث تفاهم بين أحمد بدوى ومجموعته وبين أبى غزاله وحسنى مبارك نائب الرئيس السادات ، وكان مبارك كان يتدخل فى شئون الجيش بما يتعدى سلطاته . وتم تدبير مؤامرة أُغتيل فيها وزير الحربية أحمد بدوى ومعه 13 من خيرة قيادات القوات المسلحة فى 2 مارس 1981 ، وإحتل أبو غزالة مكانه وزيرا للدفاع وقائدا للقوات المسلحة عام 1981 . بعدها وفى مشهد درامى وعلى ملأ العالم إغتيل السادات وسط جيشه ، ونجا مبارك ورفيقه وزير الدفاع أبو غزالة ، وتولى مبارك وتقاسم أبو غزالة معه السلطة ، فترقى الى منصب مشير عام 1982 ثم عُين نائبا لرئيس مجلس الوزراء ، واصبح الرجل الثانى بعد مبارك ، وإكتسب شعبية أخافت مبارك منه فعزله مبارك بفضيحة مدبرة عام 1989 . وخلا الجو لمبارك فى السيطرة على الجيش والحكومة معا ، واستمر يحكم ثلاثين عاما بدون أن يعين نائبا للرئيس حتى لا يحدث له ما حدث لعبد الناصر والسادات ، وقام بتعقيم الجيش المصرى من الكفاءات ، وجعل الولاء له اساس الترقية والبقاء فى الجيش ، وكبر إبنه فراودته أحلام توريث إبنه ليأمن على اسرته بعد موته . ولكنه يعرف أن القادة العسكريين لن يكونوا سعداء بأن يكون قائدهم الأعلى ( جمال مبارك ) الذى لم يسبق له الخدمة العسكرية . لذا ظل مبارك حائرا بين التمديد لنفسه والتوريث لابنه . ونشرت وقتهاعدة مقالات فى هذا الموضوع . وبها يكتمل هذا الكتاب : ( وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين )
ودخلت مصر فى صدام مع مبارك ، فنشرنا العديد من المقالات فى التحريض على الثورة ، وسقط مبارك ، ودخلت مصر فى منعطف جديد ، ويتحكم فيها الآن زبانية مبارك من الضباط الفاسدين .
ننشر الآن هذا الجزء الأول من كتاب ( وعظ السلاطين ) ، ونتمنى أن نكمل الجزء الثانى فيما بعد .
والله جل وعلا هو المستعان
أحمد صبحى منصور
4 فبراير 2016















الباب الأول التمهيدى
الفصل الأول : وعظ السلاطين فى رؤية بحثية منهجية
الفصل الثانى : أبو جعفر المنصور.. والخضر
الفصل الثالث : ماهية السلاطين
الفصل الرابع : ما هية الوعظ
الفصل الخامس : لماذا تميز تراث المسلمين ـ دون المسيحيين ـ بوعظ السلاطين

الفصل الأول : وعظ السلاطين فى رؤية بحثية منهجية
تاريخ النشر: 2010-02-24

1 ـ موضوع (وعظ السلاطين) جديد وبكر فى مجال البحث، ولم تيسره أبحاث سابقة للمتخصصين. وعدا هذا فهو يقف فوق المشكلة الهامة التى تواجه أى باحث فى التاريخ الاسلامى، وهى فحص الروايات التاريخية وتمييز الكاذب منها والصادق .
هناك روايات تاريخية حقيقية فى وعظ السلاطين تعبر عن أحداث وعظ حدثت فعلا ، حيث ووجه السلطان المستبد بكلمة حق . وهناك روايات مصنوعة تم ادخالها فيما بعد فى تاريخ الخلفاء ـ أى بأثر رجعى ـ وربما لم تكن موجودة تلك الروايات فى المصادر التاريخية الأولى للخلفاء والسلاطين ، ولكن تم وضعها بعد موتهم بقرون لتحمل وعظا مباشرا للسلطان القائم ومن سيأتى بعده ( لعل وعسى ) يتعظ .التمييز بين الرواية الحقيقية والرواية المصنوعة هو مهمة الباحث التاريخى .
2 ـ ولأن البحث فى وعظ السلاطين يبدأ من تاريخ الخلفاء (الراشدين ) وكبار الصحابة فهو يتعامل مع حقل ألغام ، لأنهم الذين خرجوا بالمسلمين من شريعة الاسلام بارتكابهم الفتوحات و الحروب الأهلية التى قسمت المسلمين و أقامت لهم الأديان الأرضية.وتلك هى الأزمة الكبرى فى البحث التاريخى للمسلمين عموما ، وفى بحث (وعظ السلاطين ) على وجه الخصوص. إذ تبين أن كبار الصحابة والخلفاء الراشدين انفسهم حين أوقعوا المسلمين فى أكبر الكبائر : الفتوحات و الفتنة الكبرى ـ لم يتعظوا بالقرآن الكريم ،مع أنهم هم الذين كانوا يتصدرون الوعظ.
3 ـ ولقد حظر الدين السنى التعرض لتاريخ الصحابة فى الفتنة الكبرى ومنع نقدهم عبر أحاديث كاذبة نسبوها للنبى محمد عليه السلام تنهى صراحة كقولهم (الله الله فى أصحابى ، لا تأخذوهم غرضا بعدى ). وفى نفس الوقت زيفوا أحاديث أخرى ترفعهم وتدعو الى تقديسهم جميعا مثل: (أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وأحاديث تقيم لجماعات منهم حفلات التكريم، مثل (العشرة) المبشرين بالجنة، و(الستة ) الذين توفى عنهم النبى وهو عنهم راض، و(أصحاب بدر ) الذين قيل لهم (إعملوا ماشئتم ) فهم مغفور لهم. أوتعطى أفرادا منهم ألقابا ضخمة، مثل (الصديق) و(الفاروق) و (ذو النورين) (باب مدينة العلم) (حوارى رسول الله) (أمين هذه الأمة) (حبر هذه الأمة) و (سيف الله المسلول) وحذيفة (الذى يعرف سرائر المنافقين).الخ .
وبالاضافة الى حظر نقد الصحابة الكبار ومنع بحث الفتنة الكبرى فقد ارتفعوا بالفتوحات الى قمة الاسلام ، ليس فقط بتجاهل عرضها على القرآن الكريم ، بل بصناعة أحاديث تسوغها و (تؤسلمها ) مثل حديث ألبخارى ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..).ولم يلتفت أحد الى تناقض هذا الحديث الكاذب مع تشريعات القتال الدفاعى فى القرآن وتشريع عدم الاكراه فى الدين وحرية المعتقد ، أى يتناقض مع أكثر من ألف آية قرآنية فى تقديرنا .
بل وصل الكفر بالقرآن ببعضهم الى أن يجعل حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا..) (ناسخا ) أى مبطلا وملغيا لآيات القرآن الكريم التى تعارضه.
علاوة على تلاعبهم بآيات التشريع الاسلامى باسطورة النسخ التراثى ليؤكدوا على أن الاسلام انتشر بالسيف. والحقيقة المرة أن الذى انتشر بالسيف ليس الاسلام الحق الذى لم تعرفه تلك الأمم المفتوحة ، ولكن الذى انتشر بالسيف والاحتلال هو الأديان الأرضية المشوهة التى نشرها أولئك الذين ناقضوا الاسلام بالغزو والاعتداء والظلم والسلب و النهب والاسترقاق والسبى .
4 ـ وبتوالى القرون والأجيال تحول كبار الصحابة من شخصيات تاريخية بشرية الى آلهة فى أديان المسلمين الأرضية ، فالخلفاء (الراشدون ) مع كبار الصحابة أهم آلهة الدين السنى ، اما الشيعة فقد قسموا الصحابة الى آلهة وشياطين ، جعلوا عليا وذريته آلهة ، وفى المقابل جعلوا آلهة الشر خصوم (على ) السياسيين ، من أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير و عمرو ومعاوية وأبى هريرة ..الخ .وهو نفس الأسس الدينية لعقائد فارس القديمة (آلهة الخير والنور ، وآلهة الشر و الظلام ).وبتوالى الأجيال تأكد فى ( جينات ) أتباع الدين السنى تقديس الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، كما ترسخ فى (جينات) أتباع الدين الشيعى تقديس آل البيت بالمفهوم الشيعى.
5 ـ وتعين علينا أن ندفع الثمن .
فإذا ناقشنا تاريخ الخلفاء الراشدين من داخل التراث السنى ـ فقط ـ ومن خلال ما كتبه المؤمنون بالخلفاء والصحابة وبالاحتكام الى القرآن الكريم جاء الرد بالهجوم البذىء، ولاحقتنا اتهامات التكفير والدعوة للقتل . مع أن الأمر غاية فى البساطة لكل ذى عقل سليم ، فالفتوحات الحروب الأهلية تناقض الاسلام وفق تشريع القرآن، ولكنها (الجينات) التى تشربت الافك السنى والشيعى طيلة 14 قرنا ، وتعلمته وعاشت وماتت عليه .
6 ـ أكثر الردود علينا تهذيبا ـ ليس التكفير ـ ولكن التمنى.
التمنى بأن تكون كل هذه الأحداث التاريخية مزيفة، أى يكون هناك ابوبكر وعمر وعثمان وعلى وعمرو ومعاوية والزبير وطلحة وعائشة..الخ، ولكن بدون الفتنة الكبرى والفتوحات. (إذن ماذا سيتبقى من تاريخهم)؟
لا يمكن لنا أن نفرض أمنياتنا على التاريخ. علينا أن نبحث التاريخ الموجود كما هو، وكل ما نفعله أن نثبت بالبحث التاريخى ان هذه الرواية صحيحة أو كاذبة.
وحتى الرواية الكاذبة لا نتعامل معها بالانكار التام، ولكن نعتبرها كاذبة من وجهة نظرنا، أى قد تكون صحيحة من وجهة نظر أخرى لباحثين آخرين، لهم أدلتهم وحججهم.وحتى لو كان ثمة إجماع على أن تلك الرواية باطلة وليس هناك أى دليل على صحتها فليس لنا أن نتعامل معها بالبتر التام لأنها وإن كانت (كاذبة) فيما تتضمنه من أخبار وأقوال عن تلك الشخصية التاريخية فإنها (صادقة) فى التعبير عن رؤية من سبكها وصنعها لتلك الشخصية التاريخية ، وهى (صادقة) فى التعبير عن ثقافة العصر الى صيغت فيه تلك (الاكذوبة).
وللبحث التاريخى مناهجه وضوابطه وقواعده ، مع أن الكتابة فى التاريخ أصبحت هواية لكثير من العاطلين ، وأدى تردى مستوى التعليم فى الجامعات وسهولة النشر على الانترنت لأتاحة الفرصة لكل من هبّ ودبّ أن يفتى ويهرف بما لا يعرف، بل وأن يتصدى بالهجوم على المتخصصين لمجرد أنه لا يعرف الجديد الذى يكتبونه ، فهو عدو لما يجهل وهو عدو طالما يجهل،وهو فى كل الوقت عدو للعلم ، حريص على جهله ، رضى بجهله ورضى عنه جهله.
أمثال هؤلاء لا توجد صلة رحم بينهم وبين مناهج البحث التاريخى وضوابطه وأصوله ، فهم لا يعرفون البحث التاريخى ولا يعرفهم البحث التاريخى .
وبينما يعترف الباحث التاريخى بأن بحثه مجرد وجهة نظر فإن أولئك الجهلة يعتقدون فى جهلهم أنه الحقيقة المطلقة التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
والواقع بالنسبة للباحث التاريخى أن تظل استنتاجاته وتقييمه للروايات التاريخية فى دائرة الحقائق النسبية والظنية ، لأن روايات التاريخ كله ، تدخل ـ بفرض صحتها ـ فى دائرة الحقائق النسبية التى يترجح فيها الصدق ، ولكن يظل فيها احتمال الكذب .
ومن هنا فلا مجال لمعرفة الحق اليقينى و التاريخ الحقيقى للبشر إلا يوم القيامة عند نشر كتاب الأعمال الفردى لكل فرد وكتاب الأعمال الجماعى لكل مجتمع ومجموعة عاشت مع بعضها فى نفس المكان والزمان . وستكون تلك الكتب مرئية للجميع : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة 18) ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (الزلزلة 16 : 18)
7 ـ بالحقيقة النسبية يختلف التاريخ ـ كعلم بشرى ـ عن الدين .
الدين الالهى الحق يقوم على الحق المطلق الذى يجب وينبغى الايمان به والتسليم به، كما يشعر المؤمن ايمانا حقا بالقرآن الكريم .
الدين الأرضى يقوم على الافتراء والكذب ، ولكنه يتسلل الى عقل المؤمن به يحجبه عن رؤية الحق والتمييز بينه وبين الباطل ،بل يجعله يقلب الحق باطلا والباطل حقا ، وبالتالى تكون أكاذيب الدين الأرضى حقا مطلقا فى قلوب أتباعه، وتتحول الحقائق المخالفة لتلك الأكاذيب باطلا مطلقا .
وفى الحالتين ففى المطلق الدينى لا مجال للتوسط ، فإما أن تؤمن به كله وإما أن تكفر به كله ، ليست هنا منطقة رمادية،أو حقائق نسبية ،أو صواب يحتمل الخطأ وخطأ يحتمل الصواب.
8 ـ ولأن الدين الأرضى يقوم على تقديس وتأليه الأشخاص ، وتحويلهم من شخصيات تاريخية بشرية الى آلهة وكائنات علوية فإن البحث التاريخى فى هذه الشخصيات التاريخية يعتبر تطاولا على الآلهة وعيبا فى ذواتهم المقدسة وتنزيلا لهم من مقام الالوهية الى حضيض البشرية. لذا يتعرض للتكفير ذلك الباحث التاريخى الذى جرؤ على سب تلك الآلهة والعيب فى ذواتهم المقدسة ،أى اتهامه بالكفر بذلك الدين الأرضى والخروج على ملته ، فالمفترض فيه الايمان بتلك الالهة وسموها فوق سمات البشر ، وألاّ يقترب من تاريخهم إلا بالتحميد والتقديس ونفى كل نقيصة بشرية لأنهم ( كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ).
9 ـ فإذا كانت أدلة الباحث قوية ساطعة تأتى من داخل الدين البشرى نفسه ومن خلال أقوال أئمته أنفسهم ، ثم يعرضها على كتاب الله محتكما اليه ، ومعولا على التعقل والمنطق، هنا يأتى الهروب من الحق بالتمنى ، تمنى أن يكون كل ذلك افتراء وكذب حتى لا يشّوه الصورة المقدسة للكائنات العلوية .
وهذا التمنى علاوة على أنه أحلام يقظة مضحكة فإنه يعبر عن عقيدة (المطلق) فى الجينات المتأثرة بالدين الأرضى قرونا طويلة .
فالمطلق هنا هو الالغاء التام للتاريخ لأنه يشوه صورة الكائنات العليا.
فطبقا لقاعدة ( المطلق ): إما وأما، فعليك أن تختار بين واحد من إثنين:
• إما أن تكفر وتتعامل مع تلك الكائنات العلوية على أنها ليست كائنات علوية بل بشر سفليون مثلنا يخطئون ويصيبون، وقد أخطأوا خطأ شنيعا هم مسئولون عليه ، وبالتالى يتم تنزيلهم من سماء التقديس و التبجيل الى أرض التاريخ الذى يتعامل مع بشر .
• وإما أن تؤمن بهم وتلغى التاريخ لهم طالما فيه ما يمس قدسيتهم ، فتظل قدسيتهم مصانة.وفى إلغاء التاريخ لا بد من إلغاء البحث التاريخى ، وأن تتحول الكتابة التاريخية الى التقديس والتبجيل والرد على ( الملحدين ) الذين يتجرأون على مقام اصحاب القداسة.
10 :يزيد من محنة أتباع الدين الأرضى أن الحكم على تلك الآلهة البشرية يأتى أيضا بطريقة إما وإما ،أى إما أن يكونوا أئمة فى الكفر أو آلهة معصومة من الخطأ.
هتلر مثلا لم يتمسح بدين الله جل وعلا حين فتح البلدان واسترق الشعوب وسلبها ونهبها ، لذا يظل فى دائرة الاجرام العادى . أما أن تقتل شخصا بريئا وتسبى زوجته وابنته وتسترق أطفاله وتزعم أن هذا هو ما يأمرك به رب العزة فأنت فى حضيض المعصية وأكبر عدو لله جل وعلا . فكيف إذا قتلت ليس فردا واحدا بل ملايين ؟ وكيف إذا سبيت واستعبدت ملايين من الأطفال والنساء وقمت بتشريد ملايين الأسر المسكينة وقلت إن هذا هو الجهاد الاسلامى؟!..
المخرج للسنيين من هذه المحنة هى استعمال الخيار الآخر (إما: الأخرى) أى باعتبارهم فوق النقد ، وآلهة لا تخطىء لتقطع الطريق على كل من يفكر ويستعمل عقله ويحتكم الى رب العزة فى القرآن الكريم .
11 ـ الذين يعبدون تلك الآلهة السنية لا يهتمون بحق الله جل وعلا ، ولا يهمهم رفع الظلم عن رب العزة ،ولا يأبهون بالتقديس الواجب له.
فما فعله الخلفاء (الراشدون ) من الفتوحات (بالذات ) هو ظلم لرب العزة قبل أن يكون ظلما لملايين البشر فى آسيا وأفريقيا ، لأنهم نسبوا هذا الظلم لله جل وعلا برغم أن الله تعالى أعلن أنه لا يريد ظلما للعالمين وأنه جل وعلا لا يحب المعتدين. ثم إن ما فعله الخلفاء ( الراشدون ) كانوا فيه الأئمة لمن جاء بعدهم من الخلفاء (غير الراشدين )، إذ تأسى بهم الأمويون وغير الأمويين فى الفتوحات وقتل المسلمين فى حروب أهلية تمسكا بالسلطة أو للوصول اليها .
ويتمنى الارهابيون فى عصرنا فعل نفس الشىء ، ولأنهم يعجزون فهم يلجأون الى القتل الجماعى العشوائى للمدنيين . والمثل الأعلى لهم هم الخلفاء ( الراشدون )..
12 ـ ومن هنا يأتى عملنا بالاصلاح السلمى للمسلمين بعرض تاريخهم وتراثهم على القرآن الكريم .وبهذا الاصلاح يتم تدمير التقديس لآلهة المسلمين حيث لا اله الا الله جل وعلا ،فله وحده التقديس والتمجيد والتعظيم . وبهذا الاصلاح تعود ىالشخصيات التاريخية الى حقيقتها شخصيات بشرية ضمن أحداث تاريخ بشرى . وبتكسير الأصنام العقلية والمعنوية لا تكون هناك حجة لتقديس حاكم مستبد يقتدى بالصحابة أو (يقتدى ويهتدى بالنجوم ) فى الظلم والاستبداد والتعدى والبغى.
13 ـ ما نكتبه فى نقد (الصحابة المقدسين ) ليس ترفا فكريا منقطع الصلة بالحاضر لأن الحاضر المؤلم البائس للمسلمين هو تكرار غبى لما بدأه الخلفاء الراشدون من خروج عن الاسلام عبر الفتوحات و الفتنة الكبرى .
والعراق الذى شهد معظم ملاحم الحروب الأهلية بين الصحابة والصراع بين السنة و الشيعة لا يزال ساحة لنفس الصراع السياسى والفكرى والعقيدى والحربى بين الشيعة و السنة. الاختلاف الوحيد هو أسماء القيادات ونوعية الأسلحة ، ولكنه نفس الغباء فى الاقتداء بالصحابة ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .. وياله من هدى ..( ولا هدى سلطان ).!
ونعود الى روايات وعظ ( السلطان ).
14 ـ بدون الاستطراد فى قواعد واصول البحث التاريخى نقول فيما يخص موضوعنا :
*: تدوين التاريخ للسيرة النبوية والخلفاء ( الراشدين) والصحابة بدأ بأثر رجعى تدوينا منظما فى العصر العباسى الأول فى البلاد التى فتحها الخلفاء الراشدون ، وأهمها العراق. والى العراق وغيره هاجر الرواد الأوائل فى تدوين السيرة و التاريخ للخلفاء ، وأهمهم ابن اسحاق (ت 151 ) والواقدى ( ت 207 ). وقد نقل عنهم محمد بن سعد ( كاتب الواقدى ) موسوعته التاريخية ( الطبقات الكبرى ) فى ثمانية أجزاء.وتوفى ابن سعد عام 230 هجرية.
* : أخذ الرواد الأوائل معلوماتهم التاريخية من خلال الروايات الشفهية التى تناقلتها الأجيال التى عاشت فى المدينة ، حين كانت المدينة مركز صنع الاحداث فى القرن الأول الهجرى ، وقاموا بتسجيلها فى العراق وغيره من الأمصار . على أن هذا التدوين المنظم فى العصر العباسى قد سبقه تدوين متفرق لبعض الرواة . وبالتالى فإن القرن الأول الهجرى هوعصر الرواية الشفهية ، ثم تم تدوين أحداثه بدءا من القرن الثانى الهجرى بأثر رجعى بعد موت أبطال الأحداث.وظل اللاحقون من المؤرخين ينقلون تاريخ النبوة و الخلفاء و الصحابة نقلا عن الرواد ، ثم يضيفون اليه الكثير مما لم يذكره أولئك الرواد .
* : وكلما تقارب العهد بين المؤرخ والحدث التاريخى الذى يسجله كان التأريخ أقرب للصدق. والعكس صحيح . وبالتالى فان الباحث فى تاريخ الصحابة و الدولة الأموية والذى تمت كتابته فى العصر العباسى لا بد له أن يقارن بين الروايات التاريخية التى كتبها الرواد أمثال محمد بن سعد فى الطبقات أو الطبرى فى تاريخه (عن ابى بكر وعمر مثلا ) بالروايات الأخرى عنهما فى المؤلفات التاريخية المتأخرة فى العصر العباسى الثانى و العصر المملوكى.وسيجد الباحث كثرة من الروايات لم تكن موجودة من قبل ، وسيجد إضافات للروايات المذكورة من قبل ، وسيجد ميلا أكبر للتقديس والتمجيد تتحول به كتابة التأريخ الى كتابة ( مناقب ).
*: وطبعا هى ( أكاذيب ) من الناحية التاريخية لأنه تم صنعها فى عصور لاحقة ، ولكن تلك الروايات (الكاذبة ) (تاريخيا) هى أيضا ( صادقة ) (ثقافيا) لأنها تعبر بصدق عن رؤية كاتبها ورؤية عصره لأبى بكر وعمر ، فقد صنع لهما العصر صورة خيالية تعكس التقديس وعبادة الابطال ، وليس لها صلة بالحقائق التاريخية المذكورة من قبل عن أبى بكر وعمر. وهناك تفصيلات أكثر فى بحث لنا منشور فى هذا الموقع عن (ابى بكر ) فى الفكر السنى.
* : ولا يقتصر الأمر على الخلفاء الراشدين بل يدخل فيه أئمة الفقه والمكتوب فى تاريخهم ثم فى مناقبهم . وفارق هائل بين هذا وذاك .

15ـ فى تطبيق هذا على موضوعنا ( وعظ السلاطين ) سنجد نوعين من الروايات ، أحدها يبدو صادقا لاتساقه مع العصر الذى يعيش فيه السلطان وطبيعة هذا السلطان ، ويبدو الآخر منتحلا وكاذبا لمناقضته للسياق التاريخى لعصر السلطان وشخصية السلطان ، ولأنه قد يبدو محملا بأوزار المبالغات والكرامات والخوارق ، مما يستحيل حدوثه . ولكن كانت ثقافة العصور الوسطى تؤمن بامكانية حدوثه .وأسس البحث التاريخى هى التى تقرر ما هو الصحيح وما هو الزائف .وما نقرره يبقى وجهات نظر ، أى هو صواب يحتمل الخطأ ، أو خطأ يحتمل الصواب .
والله تعالى هو الأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الثانى : أبو جعفر المنصور.. والخضر

تاريخ النشر: 2010-01-15

* يذكر ابن الجوزي في تاريخه المنتظم هذه القصة عن الخليفة أبى جعفر المنصور، وقد أسندها إلى رواة على طريقة المحدثين، يقول: وجرت للمنصور في حجه قصة مع بعض الصالحين: أخبرنا محمد بن ناصر قال أخبرنا المبارك بن عبدالجبار قال أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال: حدثنا أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري عن ابراهيم بن أحمد الخشاب المقرئ قال: حدثنا أبو على الحسن بن عبدالله الرازي قال: حدثنا المثنى قال حدثنا سلمة بن سلمة القرشي قاضي اليمن قال: سمعت أبا المهاجر المكي يقول:
* قدم المنصور مكة وكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل ويطوف ويصلي ولايعلم به أحد، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد، ثم أرسل إليه فدعاه، فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم على المنصور.
* فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغى والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فأقلقني؟
فقال : يا أمير المؤمنين، إن أمنتني على نفسي أخبرتك بالأمور من أصلها، وإلا احتجبت منك واقتصر على نفسي، ففيها لي شغل شاغل.!
فقال: أنت آمن على نفسك،
فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق واصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض لأنت،
قال: ويحك، كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض في قبضتي؟
قال : هل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص وأبوباً من الحديد وجنوداً معهم السلاح، واتخذت أعواناً فجرة ، إن نسيت لم يذكروك وإن أحسنت لم يعينوك ، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلفتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبهم أحد عنك لما رأوك تجبي المال ولاتقسمه، قالوا: هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه، وهو مسخر لنا، فتآمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولايخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم هم عمالك، اشتروا رضاهم بالهدايا والأموال ليتقوّوْا بها على ظلم رعيتك، فظلموا من هم دونهم من الرعية وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك، وإن أراد رفع شكوى إليك عند ظهورك ، وجدك قد نهيت عن ذلك ، وقد أوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل بشكواه إلى بطانتك سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك فإن صرخ بين يديك ضربوه ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر فلاتنكر ذلك ولا تغيره ، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ، وقد كانت بنو أمية و كانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رفعت مظلمته ، وقد كان الرجل يأتي من أقصى الأرض حتى يبلغ سلطانهم فينادى: يا أهل الإسلام، فيبتدرونه: مالك مالك ؟ فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف له، وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك ، فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لابكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة إذ نزلت بي، ولكن المظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته، وقال: أما إن كان سمعى قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لايلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم ، فكان يركب الفيل في طرفي النهار، ليرى المظلوم فينصفه ، هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله فقد غلبت رأفته بالمشركين .. وأنت مؤمن بالله عزوجل وابن عم نبيه صلى الله عليه وسلم ، ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك ؟؟!! فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث : إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك الله عبراً في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال ، فلايزال الله يلطف بذلك الطفل الصغير حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطى ، بل الله يعطى من يشاء ما يشاء ، وإن قلت أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك الله عزوجل عبراً فيمن كان قبلك، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وما أعدوا من السلاح والعتاد ، وما ضرك أنت وولد أبيك ما كنتم فيه من الضعف حين أراد الله عزوجل بكم ما أراد ، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هى أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ، يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل ؟
قال : لا .
قال : فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ما أنت فيه من ملك الدنيا وهو لايعاقب من عصاه بالقتل ، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك واضمرته جوارحك، فما تقول إذا انتزع ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب ؟ هل يفي عنك ما كنت فيه شيئاً ؟ .
فبكى المنصور بكاء شديداً حتى ارتفع صوته ثم قال يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً ، ثم قال : كيف احتيالي فيما خُوِلْت ولم أر من الناس إلا خائناً .!
قال يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين.
قال : ومن هم ؟
قال: العلماء،
قال : قد فروا مني !،
قال هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك ، ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم وامنع الظالم وخذ الشئ مما حل وطاب واقسمه بالعدل ، وأنا ضامن لك عن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك ..
* فقال المنصور اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل .
* وجاء المؤذنون فسلموا عليه ، وأقيمت الصلاة ، فخرج فصلى بهم، ثم قال للحارث، عليك بالرجل فإن لم تأتني به ضربت عنقك ، واغتاظ عليه غيظاً عظيماً. فخرج الحارث يطلب الرجل ، فبينما هو يطوف إذا هو بالرجل قائم يصلي ، فقعد حتى صلى ، ثم قال : يا هذا الرجل أما تتقي الله ؟
قال : بلى.!.
قال: أما تعرفه ؟ قال: بلى .!
قال : فانطلق معي فقد أقسم أمير المؤمنين أن يقتلني إن لم آته بك.
قال: ليس إلى ذلك سبيل ،
قال : إنه سيقتلني إن لم آت بك .
قال : ولن يقتلك أيضاً.
قال: كيف؟
قال : تحسن أن تقرأ ؟
قال: لا .
فأخرج من مزود كان معه رقاع فيها شئ مكتوب ، فقال : خذه فاجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج ،
قال: وما دعاء الفرج؟
قال: لا يرزقه إلا السعداء.
قال : رحمك الله فقد أحسنت إلىّ فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله.
قال: من دعا به صباحاً ومساءاً هدمت ذنوبه،ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه، وأُعطى أمله وأُعين على عدوه وكُتِبَ عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً ، تقول : " اللهم كما لطفت فيّ بعظمتك دون اللطفاء ، وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت وساوس الصدر كالعلانية عنك، وعلانية القول كالسر في علمك ، فانقاد كل شئ لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل همّ أمسيتُ فيه فرجاً ومخرجاً، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك علىّ قبيح عملي أطمعني أن أسألك مالا أستوجبه منك، فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلىّ وإني المسئ إلى نفسي ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فعُد بفضلك عليّ، إنك أنت التواب الرحيم " .
قال الحارس : فأخذته فوضعته في جيبي ، ثم لم يكن لي همٌ غير أمير المؤمنين، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه ينظر إلىّ ويبتسم، ثم قال لي: ويلك، تحسن السحر؟
فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين. ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ، فقال: هات الورق. ثم جعل يبكي، ثم قال: به نجوت، وأمر بنسخه، وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثم قال: أتعرفه؟ قلت لا: قال: ذاك الخضر"!!

"التعليق"
* الإعتقاد في وجود "الخضر" على قيد الحياة لم يكن موجوداً في عصر الخليفة المنصور العباسي. إذ أن الصوفية هم الذين أشاعوا الاعتقاد في الحياة الخالدة لخضر ، وأنه يتراءى لهم ويحادثهم وجعلوه رأساً في المملكة الوهمية التي زعموا أنها تتحكم في العالم، وقد سادت المعتقدات عن الخضر وتلك المملكة الصوفية الباطنية بعد عصر المنصور ببضعة قرون خصوصاً في العصر المملوكي، وشهد ابن الجوزي في أواخر القرن السادس الهجري تأكيد الاعتقاد في حياة الخضر، وبدأ اسمه يظهر في الأقاصيص الصوفية والوعظية وأساطير الكرامات ولقد انتقد الجوزي سلوك الصوفية في عصره في كتاب "تلبيس إبليس". وقد توفى ابن الجوزي سنة 597 هـ .
* أما الخليفة أبوجعفر المنصور فقد توفي سنة 158 هـ . ولم يكن في عهده صوفية أو كلام عن الخضر وكان أول رائد صوفي في تاريخ المسلمين هو معروف الكرخي الذي مات سنة 200 هـ وتلقى عنه التصوف تلميذه سري السقطي وهو استاذ أبي القاسم الجيد المعروف بسيد الصوفية، ـ والقشيري ـ المحقق الصوفي صاحب الرسالة القشيرية هو أول من تحدث عن أقاصيص الصوفية مع الخضر في الرسالة القشيرية، وقد مات القشيري بعد أبى جعفر المنصور بثلاثة قرون أي سنة 465 هـ .
* وجدير بالذكر أن الأساطير التي تتحدث عن حياة الخضر قد شاعت في القرن السادس الهجري وما تلاه وبعضها ارتدى ثوب الحديث النبوي مما دعا الإمام السلفى ابن قيم الجوزية إلى أن يؤكد في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" أن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب، ولايصح في حياته حديث واحد (المنار المنيف تحقيق طه عبدالرءوف سعد :128).
* وقد حملت الأقاصيص التي حكيت حول حياة الخضر وأقواله وعظاته الكثير من الأفكار والرؤى الدينية والثقافية للعصر العباسي، كما تضمنت بين ثناياها الكثير من النقد السياسي والإجتماعي والكثير من الأحلام المحبطة والآمال المحطمة لمؤلفين مغمورين أحلامهم عريضة وبطونهم جائعة..!!
وأولئك المؤلفون المجهولون عبروا عن أحاسيسهم على لسان الخضر، واستطاعوا من خلاله أن يقولوا ما شاءوا دون خوف من سيف السلطة ، وقد ضمنوا إلى جانب ذلك أن تنتشر أراؤهم وأن تجد طريقها للتدوين في مجتمع كان يحتفل بالأقاصيص خصوصاً ما دار منها حول الزهاد والورعين والشخصية الغامضة الأسطورية للخضر الذي يعتقدون حياته وأنه قريب منهم يجئ في لحظة لينقذ المساكين في محنتهم ثم يختفي في نفس اللحظة كما تقول الاساطير.. ولاشك أن الناس في عصور القهر يحتاجون إلى اختراع هذه الشخصية ليعيشوا في ظلالها لحظات من الراحة وأحلام اليقظة الوردية لتخفف عنهم الواقع البغيض .
* والقصة السابقة التي رواها ابن الجوزي وشاعت فى عصره حيكت حول الخضر الذي تصدى لوعظ أبي جعفر المنصور ثم اختفى ، وقبل أن يختفي قام بتعليم الحارس دعاء يستطيع به أن ينجو من غضب أبي جعفر المنصور، وبالتالي يستطيع به أي مظلوم أن يعيش في أمن من الحاكم الظالم..
* وابن الجوزي يروي تلك القصة وهو مصدق لها بدليل أنه يذكرها في تاريخه ضمن أحداث 148 هـ . بعد أن ذكر ما وقع من أبي جعفر المنصور من مظالم ، قتله لبني أعمامه الطالبين الثائرين عليه ، ثم حج إلى مكة في نفس العام بعد إخماد ثورة محمد النفس الزكية، ويروي ابن الجوزي أن المنصور في تلك الحجة قد قابل الخضر وجرى بينهم ما سبق . هذا مع أن سياق القصة لايبدو منه تحديد واضح ــ أو حتى ضمني ــ للعام الذي حج فيه أبو جعفر ، ومع أن ابن الجوزي حرص على أن يبدأ القصة بذكر الرواة بالترتيب حسب منهج المحدثين في السند والعنعنة (أخبرنا فلان عن فلان..) . إلا أن الراوي الأخير وهو أبو المهاجر المكي لم يكن من أصحاب المنصور والمحيطين به حتى يستحق أن يشاهد تلك الواقعة ويرويها ، بل إن القصة في بدايتها تتحدث عن المنصور وهو يخلو بنفسه بعيداً عن الناس فكيف يتثنى للراوي أبي المهاجر أن يقترب منه ، ثم هو يعترف بوجود حراس وحجاب للمنصور يجعل من الإقتراب منه شيئاً عسيراً، فكيف يتسنى له أن يقتحم خلوة المنصور ويسجل ما دار بينه وبين ذلك الواعظ الذي ظهر أخيراً أنه الخضر، والراوي لم يقل أنه تسلل إلى المنصور، ولم يدع ذلك، وإنما حكى الواقعة فقط،، مما يدل على أنه حكاها من الذاكرة ولا شأن للمنصور أو اُلحِضر بها، وإنما هى قصة رائعة من نسج الخيال .
* وإذا تعاملنا معها على أنها قصة "كاذبة" من نسج الخيال وجدناها "أصدق" في التعبير عن مشاعر الناس في العصر العباسي الثانى ، خصوصاً عصر ابن الجوزي في القرن السادس الهجري . إذا كانت الشكوى عامة من "ظهور البغي والفساد والظلم والطمع" فجعلوا تلك الشكوى على لسان الخضر يجأر بها أمام الكعبة ليسمعه المنصور في هدأة من الليل، ودار بينهما ذلك الحوار الطويل الذي وضع فيه المؤلف رأيه في صراحة مذهلة، عن مسئولية الحاكم إذا انتشر الظلم والبغي والفساد في الأرض، وهو تطور هام في التفكير السياسي يسبق التفكير العادي للعصور الوسطى الذي يحاول دائماً تبرئة الحاكم وتحميل الأتباع للمسئولية من دونه، ولكن المؤلف هنا يضع المسئولية مباشرة فوق رأس الخليفة أو الحاكم ويرتب هذه القضية ترتيباً منطقياً، فالخليفة ينشغل عن مهمته في رعاية الناس ويتفرغ لأكل أموال الناس ثم ينفصل عن الناس ليعيش في برج عاجي تحيطه الأسوار والحصون والحراس ، ولا يحيط به إلا أعونه الذين يكونون سمعه وبصره وقنوات الإتصال بينه وبين الناس، ولكنهم لا يطلعونه إلا على ما يزيده عتواً وطغياناً. ويقوم أولئك الأعوان بمطاردة العناصر الشريفة فلا تبقى إلا العملة الرديئة فينتشر الظلم ويحال بين المظلوم وبين الشكوى، وحينئذ يظهر البغي والفساد والظلم والطمع..
ولا يكتفي المؤلف بذلك بل يضرب على وتر حساس لدى الخليفة العباسي حين يزعم أن بني أمية كانوا أكثر عدلاً منه وكانوا يسرعون لنصرة المظلوم، بل يضرب له مثل آخر اخترعه اختراعاً عن عدل ملك الصين. وكيف أنه ينبغي أن يكون هو الأولى من أولئك بالانحياز للعدل، ثم يلجأ في النهاية إلى تخويفه من غضب الله وعذاب الآخرة الأبدي..
* ولابد أن يسأل الخليفة ـ في تلك القصة ـ عن الحل، وتأتيه النصيحة بأن يستبدل بأعوان السوء الخونة صنفاً آخر هم العلماء الذين فروا منه ومن ظلمه ،فإذا أراد أن يسير بالعدل فعليه أن يبدأ بنفسه بالاتصال بالشعب وإزالة الحواجز بينه وبين الناس ومنع الظلم وأكل الحلال والحكم بالعدل، وحينئذ يأتى إلى بابه العلماء والمصلحون.
* إذن هى ليست مجرد قصة ولكنها وثيقة في الإصلاح السياسى صيغت في أسلوب قصصى جذاب وفي شكل (حديث ) له سنده ورواته، وكانت البطولة فيه لشخصية احتلت مكانة مقدسة في قلوب العوام والخواص أيضاً.
وهذه الوثيقة الداعية للإصلاح تشير في وضوح شديد إلى أساس المرض وهو بغى الحاكم واستئثاره بالأموال من دون الناس وحكمه بالظلم والقهر ، ثم تضع العلاج وهو يبدأ أيضاً بالرأس ، أى الحاكم ، فحين يتطهر الحاكم من الظلم والأثرة لن يكون إلى جانبه إلا المصلحون بينما يبتعد عنه المفسدون والمنافقون ، وبين التشخيص والعلاج يأتى أسلوب الوعظ لحث الحاكم بشتى الطرق على الرجوع للحق والعدل.
ولأنها وثيقة إصلاح سياسى ضد الظلم فإن الخوف من الظالم وظلمه تظهر واضحة بين السطور، فالخضر لا يتكلم بصراحة أمام الخليفة إلا بعد أن يأخذ منه الأمان لنفسه خشية القتل ، هذا مع أن الخضر فى اعتقادهم محصن ضد الموت والقتل ، ولكنه الخوف الشديد من مواجهة الخليفة ، والخليفة بعد أن أخذته نوبة الورع والتوبة ما لبس أن عاد لطبيعته وقسوته فهدد الحارس بالقتل إن لم يعثر له على الخضر ، والخضر يعلم الحارس طريقة ينجو بها من ظلم الخليفة ، وهى تميمة أو دعاء ويستطيع الحارس بهذا الدعاء أن ينجوا من القتل ..
ولأن المؤلف كان يعيش في العصر العباسى فقد دفعه خوفه إلى تملق العباسيين ، فهو يجعل الخليفة المنصور يبكى مع شدة قسوته ومع انه فضح ظلمه ومسئوليته المباشرة عن الفساد، وتأتى النهاية السعيدة ببكاء الخليفة وعفوه عن الحارس وإعطاءه مكافأة سخية ثم يقول للحارس إن ذلك الرجل كان الخضر، أى أن الخليفة عرف الشخصية الحقيقية للواعظ المجهول.
* وبذلك يقترب المؤلف لتلك القصة من معتقدات القرن السادس التى كانت تعطى قداسة للخليفة العباسى مهما كان ظالماً ، وكانت تعكس أملا مستحيلا كان يعيش فى ضمير المسلمين فى القرون الوسطى ، وهو العثور على المستبد العادل ، فالخضر ـ بزعمهم يقول للمنصور (إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين وأموالهم) وهنا ترديد وتأكيد على أن الخليفة يستمد سلطته من الله جل وعلا ، وهذا يخالف الاسلام و القرآن الكريم حيث تكون الأمة و الناس و المواطنون جميعا هم مصدر السلطة ، ولقد قال جل وعلا لخاتم المرسلين فى المدينة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران 159)، أى أمره الله جل وعلا أن يكون لينا سهلا فى التعامل مع الناس لأنه لو كان فظا غليظ القلب لإنفضوا من حوله، ولو إنفضوا من حوله فلن يكون له جاه أو ملك أو سلطة أو دولة، أى فهم باجتماعهم حوله صنعوا له الدولة وأعطوه السلطة، ولو إنفضوا عنه وتركوه زالت عنه السلطة ورجع الى معاناة الاضطهاد من قريش، إذن فهم مصدر السلطة، وليس مصدر السلطة هو النبى محمد عليه السلام لأن الله جل وعلا هو ـ ذاته ـ الذى يأمر النبى بأن يكون لينا مع الناس، وأن يعفو عنهم إذا أساءوا اليه، وأن يستغفر لهم لو أذنبوا فى حقه، وأن يشاورهم فى الأمر لأنهم اصحاب الأمر ومصدر السلطة السياسية.
ويختلف الأمر مع المستبد الذى لا بد أن يكون فظا غليظ القلب ليفرض هيبته على الناس، لذلك يعتمد التعذيب و القهر و الأمر المباشر بقتل من يشاء دون معقب على أمره. ولو كان هذا المستبد علمانيا فهو يحكم بصفته مجسدا للوطن أو القوم أو الشعب، وهو يقتل من يعترض عليه متهما إياه بخيانة الوطن أو الأمة أو الشعب. ولو كان المستبد متدينا بدين أرضى فهو يحكم زاعما أن الله جل وعلا قد أعطاه التفويض الالهى بحكم الناس، ومن يخرج عن طاعته فهو كافر وزنديق ومرتد ، ولهذا شهد عصر أبى جعفر المنصور وابنه الخليفة المهدى اختراع ما يعرف بحدّ الردة، وقتل الكثيرين بتهمة الزندقة، وكان المنصور يعلن فى خطبه أنه ( خليفة الله فى أرضه وأمينه على ماله ) ، وهذا ما كان سائدا فى القرون الوسطى فيما يعرف بالحق الملكى المقدس ( The Divine right of Kings) .
وواضح فى القصة سمات الحكم الثيوقراطى الاستبدادى، وتحاول القصة علاج الأمر بأن يستعين المستبد الدينى بالعلماء المخلصين، وهذا علاج فاسد لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولا يمكن أن تعطى سلطة مطلقة لعالم او حاكم يمارسها بدون مساءلة أمام الناس ثم تنتظر منه العدل، لأنك أقصيت مبدأ العدل من البداية حين أعطيت كل حقوق الأمة وثرواتها لشخص واحد وجعلته يحتكر القوة والجند والثروة و السلطة والأمر والنهى، ثم يتعاظم الظلم حين تزعم أن الله جل وعلا هو الذى أعطى هذا الظالم الحق فى الاستحواذ على السلطة والثروة، وليس الله جل وعلا ظالما للعباد .
وطالما جعلت الناس ـ وهم مصدر السلطة فى التشريع الاسلامى ـ رعية مملوكة للمستبد فلا يمكن لهذا المستبد أن يكون عادلا ، بل لا بد أن يكون كما جاء فى القصة وصفا لما كان يفعله الخلفاء : ( فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص وأبوباً من الحديد وجنوداً معهم السلاح، واتخذت أعواناً فجرة ، إن نسيت لم يذكروك وإن أحسنت لم يعينوك ، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح ، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلفتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبهم أحد عنك لما رأوك تجبي المال ولاتقسمه، قالوا: هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه، وهو مسخر لنا، فتآمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولايخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم هم عمالك ، اشتروا رضاهم بالهدايا والأموال ليتقوّوْا بها على ظلم رعيتك، فظلموا من هم دونهم من الرعية وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك،....)
ولأنه مستبد ظالم لا لمجال حتى لوعظه ونصحه مباشرة ومواجهة فقد لجأ القصّاص ( جمع قاصّ) الى تأليف الحكايات ونشرها لتصل الى من يهمه الأمر، لعلّ وعسى . وخوفا من سيف السلطة وقهرها وجبروتها فإن الرواة مجهولون أو ماتوا فى عصور سبقت .
*والواقع أن وظيفة القصص كانت خطيرة، كان هناك قصاصون رسميون تعينهم الدولة، ينشرون دعايتها، وكان هناك قصاص شعبيون يعبرون عن اتجاهاتهم الدينية و السياسية، واختلط القصص بالحديث والتفسير، حيث دار القصص فى أروقة المساجد وتزعمه أحيانا كبار العلماء فى كل عصر، من الحسن البصرى فى العصر الأموى الى الغزالى وابن الجوزى فى العصر العباسى، وكلاهما ( الغزالى و ابن الجوزى) أورد تلك القصة عن ذلك الواعظ وابى جعفر المنصور. أوردها الغزالى فى (إحياء علوم الدين ) وأوردها ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم. وأكثر من الغزالى ( ت 505 ) كان ابن الجوزى ( 597 ) مشهوراً في مهنة الوعظ والقصص، وكان مستمعوه بالآلاف، ولأنه كان يعرف تأثير القصص على أفئدة الناس فقد كان انعكاس القصص كبيرا فى مؤلفاته، وهى بالعشرات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الثالث : ماهية السلاطين

تاريخ النشر: 2010-01-27

أولا : بين السلطان وزعيم العصابة
1 ـ على رأى القول المصرى الشائع ( هات م الآخر ) أو على حد القول التراثى ( إرم الغرض الأقصى ) نبدأ بسؤال: ما هو الفارق بين الحاكم المستبد وزعيم العصابة؟
2 ـ تخيل قرية تحكمها عصابة من اللصوص، ويقوم زعيم العصابة بارهاب أهل القرية وفرض الاتاوات عليهم، ومن يرفض دفع الاتاوة يتعرض للقتل أو حرق منزله أو تسميم بهائمه أو خطف أولاده أو إهانة زوجته، أو سحله وضربه على رءوس الأشهاد. ومن يدفع ويسمع ويطيع ويقدم الولاء لزعيم العصابة يعيش آمنا، بل ربما يعينه جاسوسا على أهل القرية، ويأخذ بعض الفتات من المنهوب من أهل قريته. وطالما ينشغل أهل القرية بدفع الاتاوة فزعيم العصابة يتركهم يعملون لأنهم طالما يعملون وينتجون فهو الذى يكسب من عرقهم، ومن هنا يتعين عليه أن يحمى ( قريته ) التى يمتص دم وعرق أهلها، ولا بد أن يدافع عن هذه القرية إذا هاجمها زعيم عصابة آخر لأن هذا الزعيم المنافس ليس فى الحقيقة عدوا للقرية، بل هو عدو منافس لزعيم العصابة الذى انفرد بالسيطرة عليها، وهو يريد تحريرها منه، ليس لتحرير اهل القرية ولكن ليكونوا عبيدا له هو بدلا من ذلك الزعيم الذى يملكها ويحكمها .
3 ـ يبدو الفارق ضئيلا بين زعيم العصابة هنا والحاكم المستبد فى العالم العربى ،ولكن النظرة المتفحصة تظهر فارقا كبيرا بين زعيم العصابة المجرم البسيط والمستبد العربى المجرم العريق.
زعيم العصابة العادى يمتاز عن المستبد العربى بشرف الصراحة ، فهو مجرم صريح ، ويعرف هذا وقد يعلنه دون خجل ، وهو لا يتوارى خلف شعارات وطنية او قومية او دينية ، ولا يفرض شعاراته على أهل القرية، ولا يتدخل فى حرياتهم الخاصة ولا فى حريتهم الفكرية أو الدينية ، فكل الذى يعنيه هو الاتاوة ، ودوام سلطانه .
والأهم من هذا كله أنه لا يستخدم فريقا من أهل القرية يجندهم لحمايته كما يفعل المستبد الشرقى الذى يقوم بتكوين جيش من الشعب يحميه من غضب الشعب ويقوم بتسليحه من عرق الشعب ليسفك به دماء الشعب إذا حدث وثار عليه الشعب، وهذا المستبد يجبر فريقا من الشعب أن يكونوا (الأمن المركزى) ليضرب بهم إخوانهم من بقية الشعب ، ويقوم بتعيين أرذل وأحقر صنف من أفراد من الشعب ليقوموا بتعذيب و قهر الشعب تحت نفس الشعارات المزيفة وطنية أو قومية أو دينية .
زعيم العصابة لا تزال فيه بقية من شرف يستحى معها أن يفعل ذلك ، وربما لا يقدر على ذلك،ولكن هذا ما يفعله المستبد المصرى والعربى والمسلم والشرقى ـ وبكل بجاحة، ودون أدنى شعور بالخجل.
ضحايا زعيم العصابة أقلية مهما تضاعف عددهم. أكبر مجرم فى العراق طيلة التاريخ العراقى لم يقتل العدد الذى قتله صدام حسين من العراقيين وغيرهم، ومع ذلك كان صدام ـ ولا يزال ـ عند بعضهم بطلا.!! نفس الحال مع كل المستبدين من هتلر الى ستالين الى عبد الناصر وعبد العزيز آل سعود وحتى حسنى مبارك.
ثم إن ما يأخذه زعيم العصابة قليل مهما كثر ، بعكس المستبد (زعيم الأمة وقائد الوطن و حامى حمى الدين) الذى ينهب كل ما يقدر عليه، ويدخره للمستقبل خارج بلده تحسبا للظروف وعملا بالمثل القائل (القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود)، جعل الله تعالى أيامهم القادمة أسود من قرن الخروب..!!
4 ـ (م الآخر) كل الحكام المستبدين هم أسوأ أنواع اللصوص وأبشع أصناف المجرمين. فليس الذى يقتل فردا مثل الذى يقتل شعبا، وهم أحقر البشر على الاطلاق لأنهم يضعون تحت أحذيتهم أشرف المعانى فى قاموس الانسانية: الوطن والدين والقومية والعدل والحرية.
(م الآخر ) ينطبق هذا على كل حاكم مستبد، سواء كان خليفة من الراشدين أو غير الراشدين، أو كان من العلمانيين أو المتدينين، بل أسوأ المستبدين هو من يستخدم الدين فى خداع العوام المساكين.
5 ـ هذا الفارق بين زعيم العصابة والحاكم المستبد يجعل الحاكم المستبد محتاجا لملامح تجميل تجعله محترما فى الظاهر بحيث يبدو مختلفا عن طائفة اللصوص و المجرمين.
زعيم العصابة البسيط المسكين لا يمكن ولا يستطيع ولا يحتاج لأن يحيط نفسه ببطانة تخدع له أهل القرية وتصوره لهم ممثلا للوطن أو زعيما للأمة أو مختارا من رب العزة لحكم أهل القرية . ولكن الحاكم المستبد محتاج لهذا الماكياج ليخدع الناس، لذا تجد أجهزة الاعلام وأجهزة الثقافة ـ وقبلهم رجال الدين ــ تحت السيطرة المباشرة للمستبد كى يسيطر على عقول الناس فلا تراه زعيم عصابة ولكن زعيم أمة ورمز الوطن وخليفة رب العالمين.
6 ـ زعيم العصابة العادى يحتاج فقط أن يرهبه الناس ليدفعوا له الاتاوة، أما الزعيم المستبد فيحتاج الى أن يرهبه الناس والى ان يحبه الناس والى ان يقدسه الناس ، والى أن يعبده الناس ، إما بزعم أنه (الحاكم الملهم ) ـ علمانيا، أو بادعاء أنه (ظل الله على الأرض ) دينيا. ولهذا يصل المستبد فى النهاية الى إدعاء الالوهية صراحة مثل فرعون موسى أو ضمنا مثل معظم الفراعين من المسلمين وغير المسلمين .
ثانيا: بين (نظام) حكم المستبد و(تنظيم) العصابة
وأوجه التشابه والتداخل بين (تنظيم العصابة) و(نظام الحكم المستبد) كثيرة ومتشعبة، وليس هنا موضع التفصيل والتقعيد فيها، ولكن نعطى بعض لمحات للتوضيح:
1 ـ تنظيم العصابة بسيط لأنه سيطرته لا تتعدى منطقة فى مدينة أو قرية يفرض عليها نفوذه وإتاواته، أما نظام المستبد فهو نظام كامل للحكم يحمل لقب الدولة، والمستبد هو كل الدولة ومصدر السلطات، وكلمته هى القانون، بكلمة منه يقتل من يشاء، ومع كل السلطات الممنوحة له فليس مساءلا أمام أحد، أى يجعل نفسه مثل رب العالمين (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء 23)، وهذا هو فحوى الدستور المصرى الذى يجعل من الرئيس مبارك الاها يملك كل شىء، ويظل رئيسا مدى الحياة دون مساءلة. وهذا مستمد من الشريعة السنية التى تحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا، وفحوى هذه الشريعة الشيطانية أن المستبد هو (الراعى) وأن الشعب هو(الرعية) أى الأغنام والمواشى والأنعام التى يملكها، وهو باعتباره الراعى له حق استغلال تلك الراعية واستثمارها، وقتل منها ما يشاء و استبقاء من يشاء، وهناك فى الدين السنى الأرضى (أحاديث) توجب على الرعية طاعة الراعى ، وهناك فتوى فقهية سنية تجعل من حق الراعى (الامام) أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين. فأين لزعيم العصابة العادى بكل هذه السلطات، وكل تلك القوانين (الشرعية)؟
بل إن نفس الفقه السّنى يعتبر زعيم العصابة هذا مجرما قاطع طريق مستحقا لعقوبة الحرابة، أى القتل والصلب ..فإذا قفز زعيم العصابة على السلطة اعترف به الفقه السّنى حاكما ( متغلبا )، وأوجب على الناس طاعته . وهذا ما كان يحدث ـ ولا يزال ـ فى تاريخ المسلمين.
2 ـ بعض العصابات استطاعت تكوين دولة ثابتة أو متحركة أو مؤقتة.
ونعطى أمثلة:
2 / 1 : فالدولة البويهية التى حكمت الخلافة العباسية ومعظم املاكها فى الشرق بدأت عصابة يقودها أبو شجاع بويه وأبناؤه الثلاثة، ثم فى فترة اضطراب دخلوا فى الصراع المسلح، وتحالفوا مع قائد اسمه مرادويج ، ثم انقلبوا عليه، وأقاموا دولتهم: (334 : 447 هجرية) (934 : 1055)م.
2 / 2 : واشتهرت منطقة ( نجد ) جنوب الشام و العراق بانتاج دول متحركة ومؤقتة ، فالأعراب فيها إحترفوا قطع الطريق، ثم تحت شعار دينى تتحول العصابات الى حركة مسلحة قد لا تنجح فى إقامة دولة مثل الخوارج، وقد تقيم دولة متحركة لا تلبث أن تسقط كحركة الزنج والقرامطة، وقد تقيم دولا مؤقتة مثل الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة الراهنة.
وكلها تحت شعارات دينية مثل ( لا حكم إلا لله ) عند الخوارج، والذى تطور الى (الحاكمية ) الوهابية السنية، ومثل التشيع القرمطى، أما حركة الزنج فقد جمعت بين شعارات الخوارج والشيعة. أى تتحول العصابة الى حركة دينية يمارس فيها قطع الطريق والقتل والسلب والنهب والسبى تحت شعار الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وبه يقيم (التنظيم) العصابى دولة و(نظام حكم) مستبد. ونفس الحال تقريبا فى شمال أفريقيا.
3 : حين يضعف ( نظام الحكم ) بسبب ضعف المستبد تظهر عليه بوضوح ملامح العصابات و سلوكياتها ، أى يتحول من (نظام حكم) الى (تنظيمات) من العصابات المسلحة ، فى العاصمة أو فى أطراف الدولة، وقد يطلق عليها من باب الأدب مصطلح (مراكز القوى)، وتدخل الدولة أو (نظام الحكم) المستبد الى عصور من الفوضى والصراع الداخلى ، وتزدهر فيه تكوين عصابات من الأهالى، وتتحول مراكز القوى الى عصابات حقيقية تسلب الناس وتسبى نساءهم وتقتلهم بسبب وبدون سبب.
ونعطى أمثلة:
3 / 1 :ـ فالخليفة المتوكل العباسى فى القرن الثالث الهجرى حين قطع العرب من الجندية تحول الجنود العرب فى مصر الى قطع الطريق، واستمروا يعيثون فى أطراف مصر فسادا، وهم المسئولون عن تخريب الساحل الشمالى من غزة الى طبرق، وبسببهم تخربت مدن مصرية تاريخية كانت ذات شأن ، مثل تنيس ومريوط وغيرها، وكان الساحل الشمالى المصرى حدائق خضراء تأمن المرأة أن تسافر فيه وحدها من الاسكندرية الى طبرق كما كان يقال، انتهى ذلك كله طيلة العصر العباسى الثانى، حتى إذا جاء العصر المملوكى أصبحت غارات الأعراب تهدد العمران المصرى فى الدلتا و القاهرة، بل وتحكم بعضهم فى مناطق الصعيد.
3 / 2 ـ والخليفة المتوكل نفسه حين قطع العرب و الفرس من الجندية أحلّ محلهم الجنود والقواد الأتراك الذين استقدمهم من أواسط آسيا ، وقد تغلب أولئك الأتراك على الخلافة العباسية ، وتقاسموا أملاكها ، حتى إذا جاء عصر الخليفة الراضى أصبح نفوذه لا يتعدى بغداد وضواحيها.وفى أواخر تحكمهم الذى استمر فيما بين (232 : 334) تحول قوادهم الى زعماء عصابات متناحرة متقاتلة ، تتحارب فيما بينها وتحترف سلب ونهب الناس، وانتهى الأمر بأن حلّ البويهيون محل أولئك الأتراك ، وسبقت الاشارة الى أن البويهيين كانوا فى الأصل عصابة لصوص.
3 / 3 ـ وفى فترة الفوضى و الضعف فى (نظام) المستبد العباسى كانت تنشط (تنظيمات) العصابات، ومنها عصابات دينية سياسية مثل تنظيمات العصابات الحنبلية التى حكمت الشارع العراقى بعد اختراع الحنابلة حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره) وقد جعلوه شعارهم الدينى، يفرضون به سلطانهم ، ولا يزال ذلك الحديث الملعون شعارا للحنابلة الوهابيين حتى اليوم .
وفى تاريخ أبى الفدا يقول عن عام 323 تحت عنوان (فتنة الحنابلة ببغداد) : (وفيها عظم أمر الحنابلة على الناس وصاروا يكبسون دور القواد والعامة فإن وجدوا نبيـذاً أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء وفي مشي الرجال مع الصبيان ونحو ذلك).
وباضمحلال تلك العصابات الدينية السنية الحنبلية حل محلهم عصابات من العوام كان لقبهم (العيارون)، وقد فرضوا أنفسهم على تاريخ العراق فى القرنين الرابع والخامس من الهجرة، حسبما يظهر فى تاريخ ابن الجوزى (المنتظم).
ثم انتشرت تنظيمات عصابية أخرى كالفتوة والفتيان منذ القرن السادس الهجرى، وانضم اليها الخليفة الناصر العباسى، وقد عرضنا له فى مبحث سابق.
وفى عهد المستعصم آخر خليفة عباسى سيطرت العصابات على بغداد، وانضم بعضها للجيش العباسى، وكان قائد الجيش منهم، وبعضهم كانوا الندماء والمستشارين المحيطين بالخليفة المستعصم، وأسهموا فى هلاكه وتدمير ملكه أمام المغول . وقد وصف المؤرخ ابن طباطبا الخليفة المستعصم بأن (أصحابه كانوا مستولين عليه، وكلهم جهال من أراذل العوام) (الفخرى 266).
3 / 4 : فالمستبد حين يعجز عن كبح جماح العصابات يستعين بها لحراسة الأمن، وقبل المستعصم فعلها الخليفة الراضى العباسى المتوفى عام 329 حين ضم اليه جنودا من القرامطة السفاحين، بعد القضاء على حركتهم.
ونفس الحال مع الدولة المملوكية التى كانت تضطر الى استمالة بعض شيوخ الأعراب لحفظ الأمن حين تعجز عن إخضاعهم لسلطتها ،أى تعطيهم مشروعية نهب القرى المصرية مقابل المشاركة فى غنائم النهب .
3 / 5 :ـ وفى الصراع بين مراكز القوى فى نظام المستبد قد يستعين بعضهم ضد بعض بالعصابات أو يتصرف كالعصابات ، فالأمير أقطاى قائد المماليك البحرية حين تولى السلطنة المملوكية مكانه السلطان عز الدين أيبك ارسل فرقة من أتباعه تغير على القرى المصرية ليثبت عجز السلطان الجديد عن حفظ الأمن.
وصارت سنّة مرعية أن يتصرف المماليك الناقمون على السلطان بالاغارة على الناس فى منازلهم وحوانيتهم وأسواقهم ، ينهبون ويغتصبون ويقتلون حتى يخضع لهم السلطان ويعطيهم أرزاقهم. هم يرون أنه يسلب أموال الناس ويحتكرها لنفسه ، ويستعين بهم فى قهر الناس وسلب أموالهم ، ثم لا يعطيهم أجورهم ، لذا يتجهون للناس يأخذون عنوة لأنفسهم ما بخل به السلطان عليهم .
وهو تصرف عصابات محض ظل ساريا حتى بعد سقوط الدولة المملوكية ، وتحول المماليك الى قوة عسكرية تحكم مصر فى ظل الدولة العثمانية . وفى أواخر الدولة العثمانية وضعفها أصبحت القاهرة والمدن المصرية رهينة للصراع بين الأجنحة العسكرية للمماليك فيما بينهم من ناحية ، وميدان صراع بين طوائف الجيش العثمانى من ناحية أخرى، وفى كل الأحوال يقع السلب و النهب على المصريين لأن الحكم تحول الى فوضى وصراع بين عصابات . وتلمح هذا فى تاريخ ابن اياس الذى عاصر نهاية الدولة المملوكية ، ويمتلىء به تاريخ الجبرتى الذى عاصر نهاية المماليك و نهاية التبعية للسلطان العثمانى وقيام دولة محمد على .
أى أن ( النظام ) المستبد حين يهتز ويترنح يعود الى أصله الأول ، وطبيعته الأولى ، يتفكك الى (تنظيمات ) من العصابات المتنازعة المتحاربة داخل وخارج (النظام ) ، هذه العصابات تسلب الأهالى ، لا أن تحميهم ، بل تتنافس مع العصابات الاجرامية العادية فى سلب الناس وابتزازهم وفرض الاتاوة عليهم ، خارج الضرائب أو الاتاوات الرسمية التى يجبيها منهم المستبد . وتلك أهم إرهاصات السقوط النهائى (للنظام )، فبعد أن كان (عصابة) كبرى لها (نظام ) سائد يتفكك هذا النظام ويتشقق وينهار الى شذرات وفتات من مراكز القوى أو العصابات المختلفة و المتنازعة .
4 ـ ومصر أقدم دولة وأعرق دولة خضعت ـ ولا تزال تخضع ـ للعصابات ، سواء كانت عصابة واحدة ممثلة فى مستبد يجمع السلطة فى يده ،أو تخضع لمراكز قوى حين يضعف المستبد ، أى يدخل النظام بعد قوته وتماسكه فى مرحلة (الدولة الرخوة ) الى أن ينتهى الى (دولة الفوضى) بنفس ما نقرؤه فى تاريخ الجبرتى .
ـ وكما نقل ابن إياس والجبرتى لنا تلك المراحل فى وقت انحلال الحكم العسكرى المملوكى والعثمانى فإننا هنا نؤكد للقارىء من أحفادنا فى ضمير الغيب ـ أن مصر الآن فى نهاية عهد العسكر المستبد من عام 1952 الميلادى تعيش تحول (النظام ) العسكرى المستبد الى عصر سيطرة العصابات فى ظل ضعف وشيخوخة الرئيس الحالى محمد حسنى مبارك الذى يحكم مستبدا منذ عام 1981.
والمظاهر كثيرة ومتعددة ، تكرر بعض ما سبق فى العصرين العثمانى والمملوكى ، وتتفوق عليه. وربما نتوقف معها فى وقت آخر.
أخيرا:
ـ هذا الحكم الاستبدادى يتناقض مع الدولة الاسلامية الحقيقية التى أقامها خاتم المرسلين فى المدينة، والتى نرى ملامحها فى الديمقراطيات الغربية.
ـ فى الديمقراطية الاسلامية والغربية لا يوجد حاكم للشعب بل خادم للشعب. وبالتالى فإن زعماء العصابات مكانهم فى السجون وليس فى القصور الرئاسية و الملكية .
ـ الآن.. عرفنا ماهية السلطان.. ويبقى أن نعرف ماهية (الوعظ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الرابع : ما هية الوعظ

تاريخ النشر: 2010-02-07

1 ـ كما أن الديمقراطية المباشرة ملمح أساس فى عقيدة الاسلام وتشريعاته وثقافته وقيمه وأخلاقياته كما سبق توضيحه فى مؤلفات لنا ، فإن الوعظ له قواعده وتشريعاته .ونقتصر منها على اللمحات الآتية :
1/ 1 : فالله جل وعلا هو الذى يعظ المؤمنين المتقين يدعوهم الى تطبيق تشريعاته ( 2 / 66، 232، 275 )( 3 / 138 ) ( 4 / 66 ) ( 5 / 46 ) (7 / 145) (11 / 120) (24 / 34) (58 / 3) (65 / 2) .
1 / 2: وخاتم المرسلين عليه وعليهم السلام مأمور بالدعوة القرآنية، أى بالحكمة والموعظة الحسنة (4 / 63) 0 16 / 125) وكذلك كان السابقون من المرسلين (26 / 136).
2 ـ وعظ النبى لمن حوله لا يعنى الإجبار والإكراه فى الدين، لأن الاكراه فى الدين ممنوع، هو مجرد النصح فقط، ولو حدث أن رفض أحدهم وعظ النبى ونصحه وعصاه فليس على النبى إلاّ أن يخلى مسئوليته متبرئا ـ ليس من صاحبه العاصى، ولكن من العمل السيىء الذى ارتكبه صاحبه العاصى (الشعراء 215 : 216). وإذا كان هذا حال النبى فغيره أولى..!
3 ــ مهمة الوعظ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة مستمرة بعد موت خاتم النبيين عليهم جميعا السلام، فالدعوة قائمة بعده عليه السلام، يقوم بها من اتبع خاتم النبيين وتمسك بالقرآن الذى كان يتمسك به خاتم المرسلين ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (يوسف 108) (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف43 : 44)
4 ـ يتداخل الوعظ مع الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، فهما مجرد قول بالحكمة والموعظة الحسنة، دون أدنى إكراه فى الدين، أو تدخل فى الحرية الشخصية، وهو تطوع لا أجر فيه، ولا يختص بهما الرجال دون النساء بل يقوم الرجال والنساء معا بهذه الفريضة فى لطف ودون إكراه (التوبة 71)، وبالتالى ليست وظيفة مقصورة على فرد واحد أو طائفة بل هى لكل فرد بالتساوى بحيث يتواصى الجميع بالحق والصبر كما جاء فى سورة العصر.
4 ـ ويرتبط مفهوم الديمقراطية والأمر بالمعروف بآداب الوعظ. فكل فرد من حقه أن يعظ الآخرين ، ومن حق الآخرين أن يعظوه ، وهذا هو التواصى بالحق والصبر ، وهو أيضا التعاون على البر و التقوى وليس التعاون على الاثم والعدوان (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة 2). وبالتالى ليس من حق أحد أن يغضب إذا تعرض للوعظ والنصح ، كما أنه لا يجوز لأحد أن يعظ الناس بما لا يفعله هو ،أو أن ينهاهم عن شىء يرتكبه هو .
5 ـ وبالتالى فهناك للوعظ ضابطان:
الأول قوله جل وعلا :(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(البقرة 44 ) فلا تأمر الناس بالبر وأنت لا تفعله . وبالتالى ألا تقول ما لا تفعل ، ومن يفعل ذلك يستحق مقت الله عزوجل :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)( الصف 2 ، 3 ).
الثانى :ألا تأخذك العزة بالاثم حين يعظك أحد بتقوى الله جل وعلا، وإلا أصبحت من المفسدين العتاة المستكبرين ، وتلك طائفة من الناس توجد فى كل مجتمع، وصفها رب العزة فى قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة 204 ـ).
6 ـ الآيات الكريمة السابقة ( البقرة 204 ـ ) تتجسد فى أصناف من الناس حولنا وفى كل مجتمع إذ يتصرفون بالضبط كما وصف رب العزة، تراه بليغا فى القول فصيح اللسان يستحوذ على إعجاب المستعين حين يأخذ فى الحديث، ويحرص على الاستشهاد بكلام رب العزة ، وعلى أن يقسم باسمه الكريم يجعل الله جل وعلا شاهدا على حبه للناس. وهو يُبهر المستمعين بكلامه وبيانه وفصاحة لسانه ، ويتصورون مخبره فى مثل تألق مظهره ، بينما هو خبيث القلب سىء النية عديم الضمير اعتاد خداع الناس . وهذا الصنف لا بد أن تظهر حقيقته فلا يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو أن تخدع بعض الناس كل الوقت. ومصير صاحبنا أن ينكشف فساده ويعلم الناس أن الخطيب المفوه و الداعية المصلح هو كذّاب أشر فيستعملون معه اسلوبه فى الوعظ ، يطلبون منه تقوى الله ، وعندها تأخذه العزة بالاثم، إذ كيف يتجرأ أحدهم على وعظه وهو المتخصص فى وعظ الآخرين؟ وبالتالى يظهر على حقيقته وينكشف أمره.
7 ـ وتلك الصورة القرآنية تراها تكاد تنطق على بعض الشخصيات المشهورة فى عالم السياسة وعالم التدين السطحى وحقل محترفى الأمر بالمعروف الذين اعتادوا أن يعظوا دون أن يتعظوا ودون أن يجرؤ أحد على أن يعظهم، فتخيلوا أنهم فوق النصح والوعظ . وحاول أن تجرب أن تقول لبعض الشيوخ من محترفى دعاة الدين الأرضى: (إتق الله)، وستسمع منه ما تكره. وعندها ستجد الآيات الكريمة تنطق على حاله.
وفى أوائل التسعينيات كتبت فى جريدة الأخبار المصرية مقالا عن الربا وفوائد البنوك قلت فيه إن فوائد البنوك حلال ،وأن الربا المحرم فى القرآن الكريم هو ربا الصدقة و ليس ربا التجارة ، وهو منشور فى موقعنا ( أهل القرآن ) تحت عنوان (معركة الربا)، وقد تصدى بالشتائم و الاتهامات بالتكفير أحد شيوخ الأزهر، إسمه عبد المعطى بيومى، وبناء على الحاح من الاستاذ عبد الوارث دسوقى ـ رددت عليه بمقال عنوانه (إتّق الله ياشيخ عبد المعطى) ورددت فيه على كل افتراءاته وجهالاته، فكان أن أخذته العزة بالاثم وردّ يواصل افتراءاته تحت عنوان (بل أنت أتق الله).
8 ـ وبعض المفسدين فى الأرض يستخدم هذه الناحية أسوأ استغلال مع المؤمن الذى يخشى ربه جل وعلا يحاول أن يبتزه ويزايد عليه بأن يقول له (إتق الله) ، وهو يعلم أن ذلك المؤمن يحذر من أن يكون ممن تأخذه العزة بالاثم حين يقال له (إتق الله). ومن تجربة شخصية لى فى موقع (أهل القرآن) احترف بعضهم الافساد فى الموقع واحترف فى كل اعتراض له علينا أن يقول لى (إتق الله)، بينما هو الذى لا يتقى الله جل وعلا فيما يكتب وفيما يقول وفيما يفعل . ولقد قلت فى تعليق عليه (ولقد مللت من بعضهم يأمرنى بالتقوى وهو لا يتقى الله. وأنا أرجو أن أكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأنا بدورى أطلب منه أن يتقى الله جل وعلا فينا).
9 ـ هذه مقدمة طويلة ـ لا نعتذر عنها ـ لأنها تمهيد هام لوعظ السلاطين.
ومفهوم ان السلاطين مستبدون، فهل يسمح المستبد بمن يعظه؟ ولو حدث. فماذا حدث؟ ولماذا توجد قضية وعظ السلاطين أصلا؟ هذا هو موضوع هذه المقالات، وقد سبق ايراد حكاية عن وعظ (الخضر) للخليفة المنصور العباسى، وأثبتنا أنها وهمية مختلقة مصنوعة، وهناك روايات تاريخية حقيقية عن قيام البعض بوعظ بعض السلاطين، ونراها حقيقية بميزان البحث التاريخى، ونستخلص منها قواعد وعظ السلاطين، وكيف تأكدت تلك القواعد بمرور القرون و السنين، ثم لا بد أن نتوقف مع الروايات المصنوعة والمزيفة عن وعظ وهمى قيل لسلاطين سابقين، وعن مؤلفات كتبت فى هذا الشأن ، ثم عن محاولات للوعظ قام بها عقلاء تخفوا فى زى المجانين ليقولوا كلمة حق فى وجه سلطان جائر ويفلتوا من العقاب.
10 ـ أهلا بكم فى هذا الجزء الأول من كتاب وعظ السلاطين . وهو متخصص فى وعظ السلاطين بين الخلفاء الفاسقين ومبارك اللعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الفصل الخامس : لماذا تميز تراث المسلمين ـ دون المسيحيين ـ بوعظ السلاطين:

تاريخ النشر: 2010-02-14

مقدمة :
1 ـ موضوع هذا المقال هو تميز تراث وتاريخ المسلمين عن المسيحيين بوجود الوعظ للسلاطين. أى هو نوع من المقارنة بين المسلمين و المسيحيين فى وعظ السلاطين .
وليست المقارنة إطلاقا بين الاسلام والمسيحية ، لأنه طبقا لاعتقادنا القرآنى فان الاسلام الحق هو دين الله جل وعلا الذى نزلت به كل الرسالات السماوية التى جاء بها كل الأنبياء والرسل المصطفين مع اختلاف اللسان والزمان والمكان ، وكلها تدعو الى تقوى الله جل وعلا و تزكية النفس عقيديا بأنه لا اله الا الله ، وسلوكيا بالعبادات والاخلاق الزكية .
2 ـ بيد أن عادة البشر السيئة هى الانقضاض على الدين الالهى بمجرد موت النبى وتحويله الى أديان أرضية بشرية تختلف فيما بينها ولكن تتّحد وتتّفق كلها فى تقديس البشر والحجر،وأولهم الأنبياء و القديسين والأئمة والسلاطين ، وتسويغ تلك الأديان الأرضية بوحى مزيف وكتب مزيفة مقدسة، مع الاعتداء على الكتاب الالهى بالتحريف والتحوير ومزاعم التعطيل والحذف و(النسخ).
هذا ينطبق على التلاعب الذى حدث فى دين ابراهيم أو ( ملة ابراهيم)، وعلاجا له كانت الأنبياء تترى فى ذرية ابراهيم من فرع يعقوب بن اسحاق (بنو اسرائيل)، وآخرهم المسيح عيسى ابن مريم عليهم جميعا السلام. وحدث نفس التحريف فى ملة ابراهيم فى الفرع العربى من ذرية ابراهيم ( فرع اسماعيل ) مما استلزم التصحيح النهائى نزول القرآن الكريم على خاتم المرسلين محمد عليه وعليهم جميعا السلام.
3 ـ ولأن القرآن الكريم هو الكلمة النهائية من الله تعالى للبشر فقد ضمن الله تعالى حفظه الى يوم القيامة، ليكون حجة على أى تحريف. ولهذا استحال التحريف فى اللفظ القرآنى، بينما نما و تعمق و تشعب التحريف فى مفاهيم ومعانى وتشريعات القرآن الكريم .
4 ـ وكما عرف العالم أديانا بشرية مختلفة تنتسب الى المسيح من الارثوذكسية والكاثولوكية والبروتستانتية والتفريعات المختلفة لكل منها فان المسلمين بعد محمد ـ وفى وجود القرآن الكريم ـ انقسموا بين أديان أرضية متشعبة أهمها السّنة و التشيع والتصوف.
وفى حياته عليه السلام لم يعرف عصر عيسى عليه السلام وجود الكنائس والبابوات والفاتيكان والقسطنطينية ومدرسة الاسكندرية ولاهوتها الكنسى ومصطلحات الكاثولوكية و الارثوذكسية و اليعقوبية والبروتستاتية وتلك الأناجيل التى تتحدث عن سيرته وتلك الكتب المقدسة بألغازها ورموزها وأقانيمها ومصطلحاتها وسائر ما استحدثوه بعد موت المسيح عليه السلام من أديان أرضية .
وفى حياته لم يعرف عصر محمد عليه السلام عقائد تقديس المدينة (المنورة) والحج اليها، والحج الى الصنم الأكبر والرجس المسمى بقبر محمد ، كما أنه عليه السلام لم يعرف تقديس الصحابة و آل البيت والأئمة وأولياء التصوف ، كما أنه عليه السلام لم يعرف مصطلحات التشيع والسنة والتصوف وما يعرف بالتفسير و الحديث والسيرة وما يسمى بعلوم القرآن التى تطعن فى القرآن ، كما لم يكن لديه علم بتقديس كربلاء والنجف و(قم ) والأزهر وموالد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوى والامام الشافعى والامام الرضى والعباس وأبى حنيفة.. الخ.. لأن (المسلمين) قد اصطنعوا كل ذلك فى إطار تلك الأديان الأرضية بعد موته .
وكما أقام المسيحيون باسم المسيح نظم حكم ودولا وفتحوا بلادا و قهروا أمما واستعبدوا شعوبا ـ ولا يزالون ـ فإن المسلمين باسم الاسلام ارتكبوا نفس الجرم ـ ولا يزالون يخلطون السياسة بالدين.
وكما تركز استبداد الملوك والسلاطين باستخدام اسم المسيح فى أوربا العصورالوسطى استخدم الخلفاء المستبدون اسم الاسلام فى تغطية عورة الاستبداد والظلم الذى يأباه الاسلام ، وقد تقلص وانتهى استخدام الدين فى السياسة فى الغرب ولكن لا يزال التلاعب سائدا باسم الاسلام فى دنيا السياسة حتى الآن .
والعجيب أن القانون الطبيعى و الوضعى يعاقب من يزور ويكذب على الناس ويخدعهم ليأكل من أموالهم بعض النقود ، ولكن الذى يفترى على الله جل وعلا كذبا لينهب الناس ويستعبدهم ويقتلهم ويعذبهم يقف له القانون الوضعى يرفع يده بالتحية ويطأطىء له رأسه بالخضوع والخنوع!! 5 ـ الذى يهمنا الآن أن الخلاف الوحيد فى موضوعنا هو أن المسلمين ـ خلافا للمسيحيين ـ قد عرفوا (وعظ السلاطين) أملا فى تخفيف نبرة الاستبداد .
لا توجد فى تراث أو تاريخ المسيحية ـ حسب علمنا ـ هذه الناحية (وعظ السلاطين ) مع إن الاستبداد فى الغرب الأوربى فى العصور الوسطى كان أفظع وأضل سبيلا من بلاد المسلمين.
بل كان العكس هو السائد، وهو تحالف الكنيسة الكاثولوكية بكل صولتها وصولجانها ورجالها وكهنوتها مع الاستبداد السياسى فى قهر الانسان الأوربى، مما أدى فى النهاية الى ثورة التصحيح والاصلاح، أو الحركة البروتستانية التى اخذت اسمها من كلمة (الاحتجاج). وهى التى أدت ليس فقط الى انقسامات هائلة فى الكنيسة الأوربية وتغيير سياسى لاحق وهائل، بل ساعدت أيضا فى إرساء العلمانية وفصل الكنيسة عن الدولة والتمهيد لقيام الدول الحديثة فى الغرب، والخروج من نفق العصور الوسطى وشرها المستطير.
6 ـ السؤال هنا: لماذا؟ لماذا أوجد المسلمون (وعظ السلاطين المستبدين ) ولم يوجد هذا فى تاريخ الأوربيين المسيحيين؟ ونحاول الاجابة، دون قصد على الاطلاق للهجوم على العقائد المسيحية .
أولا: طبيعة الأناجيل المسيحية:
طبقا لما يقوله المتخصصون فى المسيحية فإن:
1/ 1 ـ تؤمن الكنيسة بأن كاتب إنجيل متى هو التلميذ والرسول متى، وكاتب إنجيل مرقس هو مرقس الذي كان ابن أخت القديس برنابا وتلميذاً للقديس بولس، وأما كاتب إنجيل لوقا فهو لوقا الطبيب وهو أحد تلامذة ومساعدي بولس في رحلاته التبشيرية، بينما كتب إنجيل يوحنا التلميذ يوحنا بن زبدي.
غير أن التحقيق التاريخي لنسب كل إنجيل لصاحبه لم يحدث أبدا؛ خاصة وأنه لا يوجد أي إشارة من بعيد أو من قريب في المتون الإنجيلية إلى كاتبيها، وهذا ما دعى بعض الداراسات التاريخية الحديثة أن تنسب تلك الأناجيل إلى مجهول.
1 / 2 ـ يقرر عدد من مؤرخي النصرانية انتقال روايات شفاهية تبلورت فيما بعد بحركة دائبة في كتابة سيرة المسيح لتلبية حاجات الكنيسة المسيحية الناشئة.ونكتفي هنا بنقل ما ذكره يواكيم إرميا في كتابه الذي نشرته الكنيسة المصرية بعنوان "أقوال المسيح غير المدونة في بشائر الأناجيل" فيقول: "ينبغي أن نضع نصب أعيننا حقيقتين أساسيتين عن بشائر الإنجيل وكتابتها: أنه لمدة طويلة، كانت كل التقاليد المعروفة عن المسيح" كلها أقوال شفاهية متناقلة ، واستمرت على هذه الصورة ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً، ولم يتغير الوضع إلا في عهد اضطهاد نيرون للمسيحيين، حينها اجتمع شيوخ الكنيسة وكبارها في خريف عام 64م، ووجدوا أن الكثيرين من أعمدة الكنيسة قد فقدوا، ولم يجد المجتمعون أمامهم إلا يوحنا الملقب مرقص زميل الرسول بطرس في الخدمة ، ليسجل كل ما يستطيع أن يتذكره من أحاديث المسيح وتعاليمه، وكتب مرقص بشارته المختصرة التي تحمل اسمه، وهي أقدم قصة كتبت عن حياة المسيح . إن قصة مرقس عن المسيح وأقواله قد دفعت غيره ليحذوا حذوه، وينسجوا على منواله، وتنشأ بشائر أخرى، حتى كان هناك عدد لا يستهان به من البشائر. ولما رأت الكنيسة أن الأمر جد خطير بدأت في تقصي أسس هذه البشائر الأربعة المعروفة ، واعتبرت ما سواها "بشائر أبو كريفية"، طوردت وجمعت وأحرقت حتى اختفت".
1 / 3 ـ نبه المحققون إلى أمر هام هو أن شيئاً من الأناجيل لم يكن يسمى إنجيلاً في الصدر الأول للنصرانية ، إنما سميت " كاروزوتا " أي موعظة ، وذلك باللغة اليونانية التي وجد بها ما سمي فيما بعد بالأناجيل . وهذه الكتابات أطلق عليها القديس جوستين في منتصف الثاني اسم " مذكرات الرسل " .
1 / 4 ـ بدأت في أواسط القرن الثاني حركة لتكوين كتاب مقدس للنصارى على غرار ما عند اليهود. يقول المدخل الفرنسي للعهد الجديد : ( لم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة تدوين أهم ما عمله الرسل وتولي حفظ ما كتبوه ... ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة 150 تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جداً إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة ، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس ، واستعملوها في حياتهم الكنسية ، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس ..).
1 / 5 ـ وهذا الذي ذكرته مقدمة العهد الجديد نستطيع أن نجمله بأن حركة تدوين الأناجيل بدأت بعد موت التلاميذ ، وأخذت شرعيتها في أواسط القرن الثاني كما ساعد في تكوين قانونية العهد الجديد مرقيون الهرطوقي سنة 160م حيث دعا لنبذ سلطة العهد القديم ، واحتاج لتزويد كنيسته بأسفار مقدسة أخرى ، فساهم أتباعه في نشر هذه الأناجيل فقد جمع في عهده إنجيلاً ، وراجعه مراجعة دقيقة ليتمشى مع أفكاره ، وجمع إليه رسالة بولس إلى أهل غلاطية، وهي رسالة تؤكد إبطال الناموس ونقده ، ثم أضاف رسائل بولس إلى أهل كورنثوس وتسالونيكي وأفسس وفيلبي وفليمون .
1 / 6 ـ المتفق عليه عند مؤرخي الكنيسة أن الأناجيل الأربعة ورسائل بولس قد أقرت في أواخر القرن الثاني ، وكان أول من ذكر الأناجيل الأربعة المؤرخ أرمينيوس سنة 200م تقريباً ، ثم ذكرها كليمنس اسكندريانوس ودافع عنها واعتبرها واجبة التسليم ، فيما بقيت أسفار العهد الجديد موضع نزاع بين الكنائس طوال القرن الثالث ، وقد قبلت بعض الكتب في الكنائس الشرقية كالرسالة إلى العبرانيين ، بينما رفضها أتباع الكنائس الغربية .
1 / 7 ـ وكما وقع الخلاف في إلهامية بعض الأسفار وقع الخلاف في ترتيب هذه الأسفار في العهد الجديد ، وهذا الخلاف مهم، إذ أنّ ترتيب الأسفار تمّ حسب ما يعتقد لها من قيمة وقداسة وأهمية ، فالخلاف في الترتيب خلاف في قيمة الأسفار . وأقدم قائمة رتبت الأسفار كانت في أواسط القرن الرابع وهي قائمة أثناسيوس 367م، وكان ترتيبه كالتالي الأناجيل ثم أعمال الرسل ثم الرسائل الكاثوليكية ثم رسائل بولس ثم سفر الرؤيا. ثم أصدر مجمع روما 382م ترتيباً آخر تلى الأناجيل فيه رسائل بولس ثم رؤيا يوحنا ثم الرسائل الكاثوليكية السبعة ، وأما الترتيب الحالي فكان من قرارات مجمع ترنت 1546م .
1 / 8 : وقد بين لنا المحققون حقيقة هامة من خلال استعراضهم مسيرة الأناجيل ، وتحولها من عمل شخصي إلى عمل قانوني مقدس ، وهي أن تقديس هذه الكتب عمل بشري لا يستند إلى دليل من هذه الكتب ، بل هو قرار اختلفت فيه المجامع حتى أُقرّ ، ولو كان من الوحي لما اختلفت فيه المجامع، ولما احتاج إلى قرار كنسي ليصبح مقدساً ووحياً إلهياً .
1 / 9 : ـ اعترفت الكنيسة بأربعة أناجيل، ورفضت عدداً من الأناجيل والكتب، أوصلها صاحب كتاب اكسيهومو ( 1810م ) إلى أربعة وسبعين كتاباً ، وقد عدّدها ، فذكر أن منها ما هو منسوب لعيسى وأمه . وللحواريين ، ومنها ما هو منسوب للإنجيليين الأربعة ، وأوصلها بعض الباحثين إلى ما يربو على المائة كتاب ، ومنها ما هو منسوب لجماعات مسيحية قديمة كإنجيل المصريين والناصريين. وقد سميت بعض هذه الكتب أناجيل كإنجيل بطرس واندرياه ويعقوب وميتاه (متى) وإنجيل المصريين لمرقس وبرنابا ، وعددت دائرة المعارف الأمريكية أسماء ستة وعشرين إنجيلاً لا تعترف بهم الكنيسة رغم نسبتهم إلى المسيح وكبار حوارييه. وقد كانت بعض هذه الكتابات والأناجيل متداولة لدى عدد من الفرق المسيحية القديمة ، وظلت متداولة إلى القرن الرابع الميلادي . وفي مجمع نيقية 325م أمرت الكنيسة باعتماد الأناجيل الأربعة ورفض ما سواها من غير أن تقدم مبرراً لرفض تلك الأناجيل سوى مخالفتها لما تم الاتفاق عليه في المجمع . وفي ذلك يقول العالم الألماني تولستوي في مقدمة إنجيله الخاص الذي وضع فيه ما يعتقد صحته " لا ندري السر في اختيار الكنيسة هذا العدد من الكتب وتفضيلها إياه على غيره ، واعتباره مقدساً منزلاً دون سواه مع كون جميع الأشخاص الذين كتبوها في نظرها رجال قديسون.... وياليت الكنيسة عند اختيارها لتلك الكتب أوضحت للناس هذا التفضيل... إن الكنيسة أخطأت خطأ لا يغتفر في اختيارها بعض الكتب ورفضها الأخرى واجتهادها...". وأمرت الكنيسة بحرق جميع هذه الأناجيل لما فيها من مخالفات للعقيدة ، وصدر قرار من الامبرطور بقتل كل من عنده نسخة من هذه الكتب .
1 / 10: وهكذا اختفت معظم هذه الأناجيل ولم يصل منها سوى إنجيل برنابا والإنجيل الأغنسطي ، وثلاث قصاصات من إنجيل مريم وبعض شرائح لاتينية وإغريقية وقبطية من إنجيل برثولماوس وإنجيل نيقوديموس ، كما عثر أخيراً في نجع حمادي بمصر على مقتطفات من إنجيل بطرس وكتاب أعمال يوحنا.
ولعل أهم ما وجد في نجع حمادي مائة وأربعة عشر قولاً منسوباً للمسيح في إنجيل توما الذي يختلف أسلوبه عن الأناجيل الأربعة، إذ لم يسرد قصة المسيح ، بل نقل أقواله ، ويرجع المحقق كويستر هذا الإنجيل إلى منتصف القرن الأول الميلادي ، وأرجعه كيسيبل إلى 140م . وعثر أيضاً على إنجيل" الحقيقة "والذي اعتبره ايرينوس (180م ) إنجيلاً مزوراً.
2 : المستفاد مما سبق أنه لا يوجد انجيل واحد رسمى متفق على أنه الكتاب السماوى الذى نزل على عيسى إبن مريم عليه السلام باعتباره رسول الله الداعى الى أنه لا اله الا الله . الموجود عدة أناجيل تم اختيارها لمؤلفين من البشر تحكى حياة المسيح وبعض مواعظه، بنفس ما لدى المسلمين من (السيرة النبوية) عن محمد عليه السلام، وبنفس الترتيب، كلاهما بدأ روايات شفهية، ثم تمت كتابتها عبر مؤلفين مختلفين بعد موت كل نبى بأكثر من قرن.
وتحريم معظم الأناجيل يعكس التنازع بين المسيحيين بعد أن تم اختراع الكنيسة والكهنوت وتداخل الدين مع السياسة ، وهى أهم ملامح صناعة الأديان الأرضية ، التى تصيغ ما تراه ملائما لمصالح أصحابها وتنسبه لله تعالى . والعادة أن تتعارض المصالح بسبب الأطماع السياسية و الطموحات القومية والتراث الثقافى من الثوابت التى يراد لها الاستمرار فى الدين الجديد تحت أسماء وعناوين وأشكال جديدة. ومن تعارض المصالح تتفرق الأديان الأرضية وتتعدد.
وهذا ما حدث فى ( المسيحية ) بعد وفاة المسيح عليه السلام.وحدث مع ( المسلمين ) بعد وفاة النبى محمد عليه السلام.
ثانيا : الانجيل طبقا لما جاء فى القرآن الكريم :
1 ـ هناك انجيل واحد فيه التشريع الالهى ، ومطلوب من المؤمنين به أن يطبقوه فى حياتهم، يقول جل وعلا: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة47)، لم يقل رب العزة ( وليحكم أهل الانجيل بما جاء فى الانجيل ) ولكن جاء الحكم بما أنزل الله تعالى فى الانجيل، ليجعل فارقا بين الدين السماوى الذى أنزله الله تعالى فى الانجيل وما صاغه البشر فى (أناجيلهم ) المختلفة وأديانهم الأرضية.
2 ـ ما أنزله الله تعالى فى الانجيل الذى أوحى به لعيسى ابن مريم جاء مصدقا لما سبقه من التوراة ، وجاء موصوفا بنفس صفات التوراة من الهدى والنور : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(المائدة 46)
3 ـ نزل القرآن الكريم مصدقا لما أنزله الله تعالى فى التوراة والانجيل وغيرهما من الكتب السماوية السابقة ، وجاء مهيمنا عليها باعتباره محفوظا من لدن الله جل وعلا من محاولات التحريف فى لفظه : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة 48 )، لذا كانت الدعوة لأهل الكتاب للايمان بالقرآن الكريم الذى نزل مصدقا لما معهم ، وناصحا لهم بعدم التلاعب بالدين طلبا لمتاع دنيوى حقير (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة 41 : 42 ) كما دعاهم لاتخاذ القرآن الكريم مرجعية لهم عند الاختلاف فيما بينهم : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ( النمل 76 )
4 ـ اختلف وضع أهل الكتاب من بنى اسرائيل والنصارى فى الجزيرة العربية عنه فى الامبراطورية الرومانية البيزنطية .
كانوا فى الجزيرة العربية أحرارا لا يخضعون لدولة أو امبراطورية ، ولم يعرفوا ما عرفه أهل الكتاب فى الامبراطورية البيزنطية من مدارس فكرية وفلسفية تداخلت مع الدين (الأرضى ) وأثرت فيه وتأثرت به ، ولم يعرفوا صراعات سياسية وقومية تخفت وراء الدين ، وتزعمها المصريون ـ أقدم من اعتنق المسيحية وأضفى عليها الطابع المصرى القبطى ـ ضد الرؤية البيزنطية للمسيحية ، وما نتج عن هذا الخلاف من تشعب وعقد عدة مجمعات لرأب الصدع إزداد بها الخلاف تشعبا ،وأدى الى عودة الاضطهاد للمسيحيين المصريين ، أى بعد اضطهادهم على يد الرومان الوثنيين جاء اضطهاد مذهبى على يد الرومان المسيحيين مما جعل الأقباط المصريين يرحبون بفتح العرب المسلمين لمصر.
5 ـ فى فترة الاضطهاد الثانية تلك نزل القرآن الكريم يصحح ملة ابراهيم ويجرى حوارا متصلا مع أهل الكتاب ليصحح عقائدهم التى حرفتها اديانهم الأرضية .
ومن أسف أن من أسلم من أهل الكتاب بعد الفتوحات العربية فى مصر والشام والعراق إتبعوا سنة أسلافهم فى تكوين ديانات أرضية أضاعت الاسلام الحقيقى واتخذت القرآن مهجورا لصالح السنة والأحاديث والتفسير ..الخ ..
6 ـ ومن خلال هذا الحوار القرآنى مع أهل الكتاب نعرف أن التوراة الحقيقية ـ التى ضاع معظم ملامحها فى خضم الاختلاف الدينى فى الامبراطورية البيزنطية ـ كانت موجودة فى الجزيرة العربية ، حيث كان الله جل وعلا يتحدى أهل الكتاب بها داعيا اياهم لقراءتها : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) أى كان هناك تحريف ضئيل يحوم حول التوراة ويأتى بأحكام يخالفها ، فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بالتوراة الأصلية الصحيحة وأن يتلوها ليكشف زيفهم وتحريفهم فى الدين. لذا تقول الآية التالية : ( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أى تحذير لهم من الكذب على الله باختراع أحاديث ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، ثم تدعوهم الآية التالية الى اتباع ملة ابراهيم التى جاء القرآن الكريم بتصحيحها: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران 93 : 95 ).
7 ـ أى كان هناك تحريف بسيط وفردى يتناسب وطبيعة الحياة فى الصحراء العربية ، ويختلف عن عراقة التحريف وتعمقه الذى دار فى الامبراطورية البيزنطية ، حيث الحضارة والمدارس الفلسفية و الكهنوت المتأصل و الخبرة فى اختراع الأديان الأرضية وفى استخدامها فى توطيد السلطة المستبدة أو كغطاء للتحرر القومى من تلك السلطة .
التحريف الذى عرفته الجزيرة العربية لم يكن اختراعا لأناجيل بأكملها وتحريم بعضها وتقرير بعضها مع تضييع كامل للانجيل الأصلى و التوراة ألاصلية كما حدث فى الدولة البيزنطية ، ولكنه كان تحريفا بسيطا يدور حول الانجيل الصحيح الموجود فعلا ، ويدور حول التوراة الصحيحة الموجودة .
8 ـ وكانت لهذا التحريف أنواع :
8/ 1 : منه تحريف بتغيير موضع الكلمات فى التوراة ، وهوموصوف فى القرآن الكريم بأنه (تحريف للكلم عن مواضعه )، أو (تحريف للكلم من بعد موضعه ):( مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء 46 ) ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ )(المائدة 13 )(ْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) ( المائدة 41). وبدون الدخول فى تفصيلات تخرج بنا عن الموضوع الأصلى فالتحريف ليس بالحذف أو الاضافة ولكن بتغيير مواضع الكلمات . وهو أمر هيّن بالنسبة لما كان يحدث وقتها خارج الجزيرة العربية.
8 / 2 : منه ما كان كتابة بشرية خارج التوراة الحقيقية يزعم أصحابها أنها وحى سماوى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة 78 : 79 ) ،
8 / 3 : أو قراءة لتلك الكتب البشرية بنفس طريقة القراءة و التلاوة للتوراة ليتوهم الناس أن ما يسمعون هو التوراة الحقيقية ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(آل عمران 78 )
ثالثا: الانجيل والأناجيل بعد الفتوحات العربية الاسلامية
1/ 1: أدت الفتوحات العربية وما صحبها من تقلبات سياسية وفكرية ودينية الى تغييب او ضياع الانجيل الحقيقى الذى تحدث عنه القرآن الكريم ، بينما ظلت معظم الحقائق الأساسية فى التوراة ، ودخلت فيما يعرف الآن بالعهد القديم . وبدخول ابناء اهل الكتاب فى الاسلام ما لبثوا ان شاركوا فى صنع أديان أرضية للمسلمين، يكررون نفس ما كان القرآن يعيبه على أسلافهم من صنوف التحريف المشار اليها سابقا ومنها الشفاعة و خروج العصاة من النار.
1 / 2: ساعد على هذا الترسيخ طول مدة الصراع المسلم المسيحى بين الشرق المسلم والغرب الأوربى. بدأه المسلمون بالفتوحات فوصلت جيوشهم الى مشارف القسطنطينية وحدود فرنسا الجنوبية وجزر البحر المتوسط و سواحل ايطاليا الجنوبية . ثم قامت أوربا بحركة استرداد فيما بين الاندلس غربا و الامبراطورية البيزنطية فى آسيا الصغرى شرقا ، وتطورت الى سقوط الاندلس و احتلال بعض موانى شمال أفريقيا غربا ، ثم قيام الحروب الصلبيبية لتحتل وتقيم لها ممالك فى عمق المسلمين ، وبعد تدمير الدول الصليبية جاءت دورة جديدة من الحرب بين الجانبين بدأها العثمانيون فى آسيا الصغرى فاستولوا على القسطنطينية وانهوا الوجود البيزنطى فى عهد محمد الفاتح وانساحوا فى شرق أوربا الى أن توقفوا عند أسوار فينا . وبعد التوقف جاءت مسيرة الضعف للعثمانيين لتظهر القوة الأوربية فى حركة استرداد جديدة تحت لقب التعمير أو الاستعمار بعد أن إمتلأت خزائنهم باكتشاف العالم الجديد فى امريكا واستراليا . وهذه الكشوفات الجغرافية نفسها كانت على هامش الصراع المسلم الأوربى ، إذ كانت البرتغال واسبانيا ـ بعد تدمير الاندلس ـ تهدفان للوصول للهند وحرمان المسلمين من التجارة الشرقية و التحالف مع ملك الحبشة المسيحى لتهديد مكة و المدينة .
امتد هذا الصراع من القرن السابع الميلادى وصبغ العصور الوسطى بطابعه ، وبه تدعمت سلطة الكنيسة وتكرست سلطة الاستبداد بأكثر ما كان موجودا عند المسلمين الذين عرفوا نوعا من احلام اليقظة اسمه وعظ السلاطين ـ وقد تحققت بعض هذه الاحلام فى دنيا الواقع وفق شروط السلطان المستبد ، على نحو ما سنعرض له.
1 / 3 وتشابهت أديان المسلمين الأرضية مع أديان المسيحيين الأرضية، وهذا التشابه مع ضياع الانجيل الحقيقى الذى تحدث عنه القرآن الكريم، ومع تحول العالم وقتها الى معسكرين متحاربين (المسلمون و الأوربييون المسيحيون) أدى الى ترسيخ الاعتماد المسيحى على الأناجيل الأربعة المعترف بها كنسيا، والتى تعطى كل السلطات المطلقة وكل الحقوق للسلطان المستبد ورجال الدين الذين يباركون استبداده، تحت شعار: (اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (مت 22 23.) أى يوجب الطاعة لقيصر واعطاء الجزية و الضرائب له، وان يعطى للكنيسة ـ الممثلة للكهنوت الدينى نيابة عن الله ـ ما يجب أن يعطى لله. أما هذا المسيحى الذى يعطى فليست له حقوق، عليه فقط الواجبات. بل ليس من حقه الاعتراض او المعارضة او مجرد (وعظ السلطان). وهنا يكمن الفارق بين تشريعات القرآن ومنهاجه السياسى وبين الاناجيل التى تم صياغتها لتخدم الكنيسة و قيصر . وليس هو الفارق الوحيد على أى حال .
رابعا : بين عيسى ومحمد ، وبين العرب والأمم المفتوحة المقهورة دائما :
1 ـ جاء عيسى عليه السلام رسولا محليا لبنى اسرائيل فقط ، (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) ( آل عمران 49 ) فكان ان تحول الى اله أو الى الله أو جزء من الله ، وأصبحت ( المسيحية ) ـ بهذا التطور الخطير ـ مجموعة من الديانات الأرضية العالمية ، غادرت بنى اسرائيل لتنتشر فى أرجاء الامبراطورية البيزنطية ثم تنتشر بعدها فى العالم .
ساعد على نشرها أنها تحافظ على تقديس التماثيل والصور والأيقونات المقدسة ، اى تعيد إنتاج الديانات الأرضية المحلية بصورة جديدة وتحت ألقاب وأسماء جديدة. وفى نفس الوقت فهى ديانة صديقة للسلاطين ، تضمن لهم تمام التحكم ودوام دفع الجزية دونما اعتراض ، وفى نفس الوقت تضمن (الخلاص) والدخول فى (الملكوت) لكل من أحب المسيح ونعم برضى القسيس وبركات الكنيسة ، و كل ذلك ميسور الشراء ، وليس عليه بعدها مهما فعل من فساد، فالمسيحى المخلص يؤمن أن المسيح ضحى بنفسه على الصليب فداءا لخطايا البشر، أى لكى يدخل المسيحى المخلص الملكوت فليس عليه سوى (ألاعتراف) للقسيس وشراء صكوك الغفران، ثم يرتكب بعدها ما شاء من الجرائم. وهذا ما أحياه أبناء أهل الكتاب بعد اسلامهم فى أساطير الشفاعة والخروج من النار.
2 ـ هذه النوعية من التدين تناسب ثقافة الاستعباد لدى الشعوب النهرية فى النيل و الرافدين و أوربا ، فهى شعوب عاشت واستمرت وتعودت وأدمنت الخضوع و الخنوع للسلطان والاكليروس. ولكنها لا تناسب الشعوب الصحراوية حيث لا توجد دول ثابتة قاهرة ، ولكن قبائل لها سمة الدولة البدائية المتحركة ، والتى تحتكم الى السيف وتلجأ الى القتال لأى سبب تافه حتى لو كان قتل ناقة البسوس التى أشعلت حرب البسوس. هذه الطبيعة المتعدية للعرب الصحراويين جعلت أيامهم سلاسل من الغارات الحربية دفاعا او هجوما ، فى سبيل الحق أو الباطل .
3 ـ وتلك الطبيعة الحربية تأثر بها انتشار الرسالة الاسلامية الأخيرة التى نزلت على قلب خاتم المرسلين للعالم كله . نزلت رحمة للعالمين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء 107 ) . تحولت الرحمة الى عذاب وشقاء للملايين بسبب تعدى العرب وتكوينهم باسم الاسلام امبراطورية تهجر القرآن وتوسع المجال لاختراع أديان أرضية على أنقاضه لتسوغ لها الظلم والفساد . وبدأ هذا التعدى ماديا وعسكريا قاده الخلفاء القرشيون الفاسقون ( الراشدون والأمويون ) ، ثم ما لبث بعد استقرار وتوطيد الامبراطورية العباسية ( القرشية ) أن تحول التعدى المادى الى تعدى معنوى بإقامة وتدوين وتشريع أديان أرضية تقوم مقام الاسلام ، تحت اسماء جديدة كالتشيع و التصوف والسّنة .
4 ـ لقد أسهمت الطبيعة العربية المتعدية القرشية فى طرد المسلمين من مكة فأقاموا فى المدينة أول دولة اسلامية تطبق القيم الاسلامية فى الحرية والديمقراطية والعدل والاحسان . لم يتركهم التعدى القرشى يعيشون فى أمن فاستمرت الحروب القرشية تهاجم المسلمين فى المدينة ، حيث لم يكن الاذن للمسلمين بالقتال قد جاء بعد ، ثم جاءهم الاذن بالقتال ليردوا الهجوم الحربى عليهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) ( الحج 39 : 40 )، ونزل لهم تشريع القتال ليقتصر على الدفاع فقط دون الاعتداء لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ( البقرة 190 ) ، واستمر المسلمون فى دفاعهم ضد الاعتداء .
5 ـ وهذا الصمود ضد قريش وفضح استغلالها للعرب والحج و الكعبة مع روعة القرآن الكريم فى بيانه و محتواه جعل أعراب نجد المسيطرين على طريق التجارة الشرقية ( رحلة الشتاء و الصيف ) يقتنعون بعبث عبادة الأحجار ، فدخلوا فى الاسلام ، وأصبحوا مصدر تهديد لقريش وزعيميها أبى سفيان والعباس بن عبد المطلب . إختارت قريش فى البداية حرب المسلمين حرصا على مصالحها التجارية مع تسليمها بأن الاسلام هو الهدى: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) ( القصص 57 ) (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ )(الواقعة 81 : 82 ) ثم اضطرت فى النهاية الى الدخول فى الاسلام حرصا ـ أيضا ـ على المصالح التجارية والمكانة السياسية .
6 ـ والأمويون الذين حاربوا الاسلام فى بدايته ،لم يلبث أن تحكموا فى المسلمين وأقاموا تحت اسم الاسلام أكبر دولة تمتد من حدود الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا ، وهم الذين تحولت بهم دولة الاسلام الديمقراطية الحقوقية الى دولة استبدادية ظالمة باغية .
ولم يكن هذا التحول سهلا ، فقد أشعل حربا أهلية بين المسلمين ومعارك طاحنة بينهم من الجمل الى صفين والنهروان وكربلاء وغيرها . وأشعل ثورات الخوارج وامتدت بها من الجزيرة العربية الى أواسط أسيا شرقا وشمال أفريقيا غربا ، مما أدى الى سقوط الدولة الأموية فى ريعان شبابها لتحل محلها دولة أشد عتوا هى الدولة العباسية التى خدعت المتشوقين للعدل باسطورة المهدى المنتظر الذى يملأ الارض عدلا بعد أن إمتلأت جورا .
7 ـ وانتصر الأمويون عسكريا على كل أشكال المعارضة المسلحة التى قادها الخوارج والموالى و الشيعة والعلويون من آل البيت ، وتتبعوا بالاضطهاد أى معارضة قولية حادة ، مما أوجد نوعا مهذبا من المعارضة ، أسميناه ( وعظ السلاطين ) .
8 ـ أعتمد ( وعظ السلاطين ) على عدم استفزاز السلطان ، بل الاعتراف به سلطانا ، ووعظه من داخل دينه وهو الاسلام ، مستشهدا بالكتاب الذى يؤمن به السلطان ، وهو القرآن الكريم .
9 ـ وفى القرآن الكريم ذخيرة لا تنتهى للوعظ من مبادىء وقيم للحرية والعدل والمساواة والاحسان ، وفيه تخويف هائل من يوم الحساب ومن العذاب ومسئولية كل فرد عن عمله امام اه ا جل وعلا .
وفى القرآن الكريم ما يشجع الواعظ على الاقدام على وعظ الجبابرة ، فالقرآن الكريم يدعو الي إيجابية التحرك باقامة القسط والعدل ،والبدء بتغيير ما بالنفس من خضوع وخنوع حتى يغير اه ا ما بهم من هذا الخضوع والخنوع ، والوقوف ضد الظلم ولعن المستبدين الفراعنة ، مع التأكيد على أهمية التعاون على البر والتقوى وليس على الاثم والعدوان ، والأهمية القصوى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا فارق بين حاكم او محكوم ، ثم الأساس العقيدى فى عدم تأليه البشر من الحكام وغيرهم ، والايمان باليوم الآخر عمليا بالعمل الايجابى ، وليس بالعزلة والرهبنة ولكن بالنهوض والتفاعل والتواصى بالحق وبالصبر.
10 ـ وجد المثقفون الأحرار زادا لهم أيضا فى أهم معالم السيرة النبوية لخاتم المرسلين ، سواء ما جاء منها فى القرآن الكريم أو فى الروايات الشفهية ، كما أنّ تلك السيرة التى كتبها البشر للنبى محمد لم تستطع أن تغفل كل مظاهر الحكم الديمقراطى للنبى محمد مما يعطى بالتالى تناقضا مع حكم السلاطين الذين يزعمون الايمان بالله تعالى ورسوله.
الايمان القولى بالاسلام من سلاطين الاستبداد وقرابتهم من النبى محمد عليه السلام وتمسكهم بالشعار الاسلامى شجع المثقفين المعارضين على صبغ دعوتهم باسلوب الوعظ ، مستدلين بالقرآن الكريم أساسا ، وبما جاء فيه من آيات الترهيب وعذاب الآخرة و عاقبة الظالمين . وكان أكثرية أولئك المثقفين من الموالى ـ أى غير العرب ، أى ممن دخل آباؤهم الاسلام ، وكانوا من قبل مسيحيين يؤمنون بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر ، فلما أسلموا وقرءوا القرآن تشجعوا على دخول المعارضة القولية من باب الوعظ.
أخيرا :
هذه هى الأرضية التى اختلف بها المسلمون فى القرون الوسطى عن أسلافهم وأقرانهم المسيحيين فى مجال (وعظ السلطان ). والله تعالى اعلم..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الباب الثانى : وعظ السلاطين فى عصر الخلفاء الفاسقين ( من أبى بكر الى معاوية )
الفصل الأول : وعظ الخلفاء الفاسقين ( الراشدين )
الفصل الثانى : فى عهد معاوية والتوريث ليزيد
أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح.
ثانيا : ( زياد يعظ ) : خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين
ثالثا : زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )



الفصل الأول : وعظ الخلفاء الفاسقين ( الراشدين )

تاريخ النشر: 2010-02-18

مقدمة
1 ـ تم غرس بذور الخروج عن الاسلام فى عصر الخلفاء الراشدين ، / لذا نسميهم بالخلفاء الفاسقين . هذه البذور انواع ، أهمها : الفتوحات الظالمة ، وما نشأ عنها من حروب اهلية ( الفتنة الكبرى ) وتغيير نظام الحكم الذى كانت عليه دولة النبى المدنية ( الشورية / نسبة للشورى أو الديمقراطية المباشرة ) الى حاكم فرد ومعه الملأ . الفارق الوحيد هو أن عصر ( الراشدين الفاسقين ) لم يكن فيه توارث للحكم ، ثم جاء معاوية فأسس أول توارث للحكم بالعهد والبيعة لابنه يزيد ، وما ترتب على ذلك من مأساة كربلاء وانتهاك حرمة المدينة وحصار الحرم فى مكة وضرب الكعبة بالمجانيق خلال السنوات الثلاث التى حكم فيها يزيد بن معاوية . وهذا يذكرنا بمبارك فى مصر بعد نصف قرن من حكم العسكر بلا توريث ، وهو يحاول توريث السلطة لابنه جمال مبارك . وهذا هو موضوع هذا الكتاب فى المقارنة ـ فى موضوع وعظ السلاطين ـ بين الخلفاء الفاسقين ومبارك اللعين .
2 ـ فى عصر ( الراشدين ) بدأت معالم الخروج عن الاسلام ونظامه الديمقراطى وشريعته السلمية بتعيين خليفة حاكما خلافا لنظام الديمقراطية المباشرة التى كانت فى عهد النبى محمد عليه السلام، ثم تطور الخروج عن الاسلام بالفتوحات التى أضاعت فى النهاية شريعة الاسلام ودين الاسلام ، وأشعلت الحروب الأهلية بين المسلمين ، والتى بدأت مبكرا فى عهد عثمان ، ولا تزال حتى الآن ، والتى أسفرت عن انقسام لا سبيل لعلاجه بين المسلمين ، لأنه ترتب عليه إقامة أديان أرضية متنازعة من السنة و التشيع والخوارج ..وأخير التصوف فى القرن الثالث الهجرى.
3 ـ هذا التدرج فى الخروج عن الاسلام بدأ مع (خروج ) المسلمين للاعتداء على امم ودول لم تعتد عليهم ، وكل خطوة فى هذا الطريق الضال كانت تبعد بهم عن الاسلام الى أن تم اختراع أديان أرضية تؤله الصحابة وتصنع شخصية إلاهية للنبى محمد تخالف شخصيته الحقيقية فى القرآن الكريم ، كما قامت الأديان الأرضية بتسويغ وتحليل وتشريع هذا الاعتداء . وبهذه الشريعة السنية حدث تناغم بين جرائم الصحابة ومن جاء بعدهم وبين الدين الأرضى ، ولم تعد شريعة القرآن مشكلة إذ تم تحييدها وتعطيلها بمزاعم (النسخ )التراثى ، والتفسير و التأويل وسبك الأحاديث. وقام الدين السنى بالذات بتمجيد الفتوحات وربطها بالاسلام ، مما نتج عنه غسيل مخ لأحفاد الأمم المفتوحة الذين اعتنقوا ذلك الدين السنى على أنه الاسلام ، وتتالى الأجيال منهم وتترى تمجد الفتوحات التى أذلت أسلافهم واحتلت أوطانهم وقتلت الملايين من أجدادهم . وهذا هو الفارق بين الغزو العلمانى غير المرتبط بالدين ،او المرتبط بدين مرفوض والغزو المرتبط بدين اعتنقه أبناء ضحايا الغزو والاحتلال . فالمصريون ـ مثلا ـ يكرهون الاستعمار الغربى من الرومان والصليبيين والفرنسيين والانجليز ،مع أن ضحايا كل تلك الغزوات والاحتلالات لا تقارن بضحايا العرب فى مصر خلال قرون طويلة ممتدة من الاحتلال العربى ومن جاء بعدهم من معتنقى الدين السُّنّى ، بل أصبح المصريون ( عربا ) فى مفارقة هائلة لحقائق التاريخ والجغرافيا .
هذا يستلزم التوقف مع ( قريش ) وما فعلته بالاسلام وبالعالم .
( قريش : أم المصائب )
أولا : قريش أشهر قبيلة فى التاريخ العالمى .
1 ـ فهى التى حكمت معظم العالم فى عصر الخلفاء ( الراشدين والخلفاء الأمويين والخلفاء العباسيين )، هم جميعا من قريش ، وينتسب الى قريش أيضا الخلفاء الأمويون فى الاندلس . وحتى عصرنا هذا ينتسب لقريش ( أو الهاشميين القرشيين ) اسرات مالكة فى المغرب والاردن .
2 ــ وقريش هى التى أسّست أشهر طريق للتجارة العالمية بين آسيا ( الهند والصين ) عبر اليمن ،وأوربا ( أمبراطوية البيزنطية ) عبر سوريا . الطريق البرى الطويل ( طريق الحرير ) من الصين الى شرق أوربا عبر الاستبس الآسيوى كان محفوفا بالمخاطر لأنه تحتله وتسيطر عليه القبائل الآسيوية المتحاربة فى الشرق ( المغول والتتار ) ، والذى كانت تستعمله القبائل الأخرى هربا من تلك الحروب ( الأتراك العثمانيون مثالا ) وهجرة نحو الغرب الى آسيا الصغرى وأوربا .
3 ـ ( قصى بن كلاب ) ( 400 : 480 م ) هو الجد الرابع للنبى محمد عليه السلام . (قصى بن كلاب ) هو الذى أسّس مجد قريش ، فقد سيطر على مكة ، وعلى الحرم ، وهو الذى بدأ فى عهده إستعمال الابل ( الجمال ) فى نقل التجارة بين الشام واليمن . كان قصى قد عاش طفولته فى الشام مع أمه وزوجها ربيعة بن حرام القضاعى ، وعاد الى أهله فى مكة مدركا أهمية البيت الحرام فى تدعيم مكانة قومه قريش ، فأخرج من مكة من كان يعيش فيها من القبائل الأخرى من كنانة وخزاعة وبقايا جُرهم . واسس طريق التجارة العالمية برحلتى الشتاء والصيف .
وبعد ( قصى بن كلاب ) تسيدت قريش العرب بقيامها على البيت الحرام وتحكمها فى شعيرة الحج ، وإستغلت هذا إقتصاديا فى الايلاف ، الذى كان يعنى إلتزام القبائل العربية بحماية القوافل القرشية فى رحلتى الشتاء والصيف العالمية ( وكانت تنقل تجارة الهند القادمة الى اليمن ـ الى سوريا ـ والدولة البييزنطية ـ وتنقل التجارة الأوربية من سوريا الى اليمن لتجد طريقها الى الهند ) وهذا فى مقابل السماح للقبائل العربية أن تقيم أصنامها حول الكعبة ، ثم كان الايلاف يعنى تجميع رأس مال رحلتى الشتاء والصيف من ابناء قريش بتقسيم رأس المال الى أسهم ، وفى نهاية كل رحلة يتم توزيع الأرباح على كل سهم . بالايلاف أصبحت قريش أثرى وأقوى قبيلة.
والى (عبد مناف بن قصى ) تنتمى أقوى عائلتين من قريش ، وهما بنوهاشم بن عبد مناف ، وبنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف . ومن ذريتهما جاء الخلفاء الأمويون والعباسيون الذين حكموا معظم العالم المعروف فى العصور الوسطى . وبنو ( عبد مناف بن قصى ) هم الذين تزعموا قريش عندما ظهر الاسلام .
ثانيا : الانقلاب القرشى بعد موت النبى محمد عليه السلام :
1 ـ قريش عارضت الاسلام حرصا على مصالحها الاقتصادية والسياسية ( القصص 57 ) ( الواقعة 81 : 82 ). واضطهدت المسلمين، وانتهى الأمر بإخراج النبى والمؤمنين من ديارهم وأموالهم الى المدينة. وتابعت قريش المؤمنين فى المدينة بالاغارات الحربية وقت أن كان المؤمنون ممنوعين من القتال الدفاعى ، ثم نزل لهم الإذن بالقتال الدفاعى ( الحج 39 : 40) ، وكانت موقعة بدر للإستيلاء على القافلة القرشية ، والتى تتجر بأموال المسلمين بعد أن طردتهم قريش وصادرت ممتلكاتهم وأموالهم ونصيبهم فى الايلاف .
2 ــ وبانتصار المسلمين فى بدر بدأ تحول جديد ضد قريش ، فقدت فيه مكانتها وفقدت هيبتها حتى لم ينفعها إنتصارها فى غزوة أحد ، إذ اصبح المسلمون فى المدينة ندأ لقريش . ثم وحاولت قريش الانتقام بإستئصال المؤمنين فى غزوة الأحزاب مستعينة بحلفائها العرب ففشلت ، وكان هذا الفشل إيذانا بصعود المسلمين ودولتهم على حساب قريش ومكانتها ، خصوصا وأن القرآن الكريم بعد إنتشاره بين القبائل العربية وإنتشار الايمان به قد أحدث حركة من الجدل ويقظة عقلية بين العرب عرفوا بها أن قريش كانت تستغلهم فى الايلاف ، وانه ليس من حق قريش التحكم فى البيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا للناس كافة فجاءت قريش تستغله لمصلحتها وتصد الناس عنه وفقا لمصالحها .
3 ــ بدخول الكثيرين فى الاسلام من القبائل العربية فى طريق رحلتى الشتاء والصيف انتهت حصانة القوافل القرشية وإنتشرت الاغارات عليها وتهاوت بنفس القدر مكانة قريش السياسية والاقتصادية ، لذا رأى زعماء قريش الدخول فى الاسلام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جاههم وإقتصادهم. أى إن قريش حاربت الاسلام حرصا على مكانتها ثم دخلت فيه حرصا أيضا على مكانتها .
4 ــ ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا على المتطرفين القرشيين ، فقاموا بحرب مسكوت عنها فى السيرة ولكن أشار اليها رب العزة فى سورة التوبة ، ومفهوم منها أن بعض أهل مكة نقضوا العهد وهاجموا المؤمنين فى الحرم وهموا بإخراج الرسول من مكة ، وجاء فى سورة التوبة إعطاؤهم مهلة اربعة أشهر ليتوبوا ، وبعدها إعلان الحرب عليهم ، وفى كل الأحوال فممنوع على المعتدين دخول البيت الحرام . وإن تابوا فهم ( أُخوة فى الدين ) القائم على السلام . وأدركت قريش بعد إخماد تلك الحرب المسلحة أن الأفضل لها أن تنتظر الى موت النبى لتستولى على السلطة بعده عن طريق حلفائها من ذوى المكانة من المهاجرين القرشيين .
5 ـ بعد موته عليه السلام أسفر تحالف المهاجرون مع أهاليهم القرشيين قيامهم معا بحركة إنقلاب على الدولة الاسلامية التى أرساها النبى عليه السلام بالشورى أو الديمقراطية المباشرة ، والتى تعنى أن لا يكون هناك حاكم كالمتعارف عليه ، بل أن يحكم الناس أنفسهم من خلال أصحاب الاختصاص أو الشأن أو الأمر ، ولهذا مات النبى دون أن يعين حاكما .
بدأ الانقلاب بفرض أبى بكر خليفة ، وثارت الأعراب على التسلط القرشى خصوصا حين طالبهم الخليفة الجديد أبو بكر بدفع الزكاة كرها ، وكانت كل قبيلة من قبل تجمعها وتفرقها على المستحقين من داخل القبيلة . كان دفع الزكاة تطوعا حتى إن رب العزة منع قبول الصدقات من المنافقين لأنهم لا يستحقون هذا الشرف : ( قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) التوبة ) . ولكن أبا بكر جعلها إلزاما وأقرب الى الاتاوة والجزية وجعلها رمزا للتسلط والتحكم وتبعية القبائل لدولته القرشية . رفضت القبائل هذا فحاربهم أبو بكر ، وإتسع نطاق حرب الردة بظهور متنبئين قادوا قومهم بُغضا فى قريش وزعامتها .
6 ــ وبعد إخماد حركة الردة كان لا بد من توجيه القوة العسكرية للأعراب الى الخارج ، حتى لا يُعاودوا الثورة على السيادة القرشية وتهديد طريق التجارة لرحلتى الشتاء والصيف ، ثم ما سينجم عن هذا الغزو سيكون لصالح قريش وإن تم بسيوف ودماء الأعراب . اقنعت قريش وقادتها الجُدّد الأعراب أن قتال الفرس والروم وغير العرب هو جهاد فى سبيل الله جل وعلا ، وهو جهاد ينالون به الثروة فى الدنيا والجنة فى الآخرة . وبذلك التأويل الفاسد تم إسباغ المشروعية الدينية على رغبتهم الدنيوية فى الثروة والسلطة تحت شعار النصر والشهادة . وأصبح التفانى فى القتال فى الفتوحات والاستماتة فى معارك الغزو مظهرا يعبر عن قوة الايمان ، وفى نفس الوقت يتماشى ويتماهى مع نزعة العرب العسكرية وثقافتهم فى السلب والنهب. وبهذا تحولت الحروب والغارات المحلية بين القبائل العربية الى حروب عالمية يقاتل فيها العرب بكل حماسة وفدائية أكبر إمبراطوريتين فى العالم وقتها ـ الفرس والروم. وكان سهلا للعرب ـ تحت زعامة قريش ـ أن ينتصروا على إمبراطوريتين دخلتا فى مرحلة الهرم والشيخوخة ، وجنودهما مرتزقة ، ليس لديهم الدافع الحماسى بمثل ما كان للعرب. وهذا إنتصار إستثنائى فى التاريخ ، إذ إستطاع العرب الذين كان لا يُؤبه بهم من ربع قرن ـ وخلال فترة قياسية ــ تدمير الامبراطورية الكسروية وتجاوزها شرقا الى شمال الهند وحدود الصين ، وفى نفس التوسع غربا بالقضاء على معظم أملاك الدولة البينزنطية وحصار عاصمتها القسطنطينية والسيطرة على البحر المتوسط والاستيلاء على اسبانيا وحدودها مع فرنسا . ومقابل هذا الانجاز الحربى غير المسبوق للإنقلاب القرشى تم الانفصال التام مبكرا بين الاسلام ( دين الحرية والعدل والرحمة والسلام ) وبين العرب ، وكانت تلك الفتوحات اساس الشقاق السياسى والحربى والذى تحول الى شقاق دينى وتأسيس أديان أرضية ، لا تزال تتحكم فى العرب والمحمديين حتى يومنا هذا .
7 ــ بإيجاز : بدأ الانقلاب القرشى بإجهاض الشورى الاسلامية وتحويل الدولة الاسلامية الى نظام مستبد يتحكم فيه الملأ القرشى ، وتحويل القتال الدفاعى فى الاسلام وطبيعة الاسلام السلمية الى دولة عسكرية فاتحة غازية محتلة وتكوين إمبراطورية قرشية .
وفى الخطوة التالية تم تحويل النظام المستبد فى عهد ما يسمى بالخلفاء الراشدين الى حكم وراثى وإكثر إستبدادا . كان نظاما عسكريا قبليا ( نسبة للقبيلة ) فى الدولة الأموية ، ثم أصبح دولة دينية فى الدولة الأموية . كان الخلفاء (الراشدون ) مرحلة إنتقالية سرعان ما وصلت فيه القوة الى ذرية قادة قريش الذين ناصبوا الاسلام العداء ، ، وهم الأمويون والعباسيون . كان العباس هو المسئول عن رعاية البيت ، وكان أبوسفيان الأموى هو قائد رحلة الشتاء والصيف ، وكانا معا ضد الاسلام ، ودخلا معا دين الاسلام ، وانتهى الأمر بوصول بنى أمية للحكم ، ثم إنتزعه منهم بنو العباس .
ضحايا الانقلاب القرشى :
1 ـ هذا الانقلاب القرشى كان ضحيته دين الاسلام نفسه ، إذ أن الفتوحات ترتب عليها التنازع بين قريش والأعراب ( الذين كانوا مرتدين من قبل ) وتطور النزاع الى حرب أهلية كبرى أسموها الفتنة الكبرى ، وكانت السلم الذى صعد عليه الأمويون للوصول الى السلطة .
2 ـ كما أدى هذا الانقلاب القرشى مبكرا الى تهميش الأنصار بدءا من بيعة السقيفة التى تم فيها تنصيب أبى بكر . و قتل عمر بن الخطاب زعيم الأنصار سعد بن عبادة ليرهب الأنصار . كان سعد بن عبادة قد إعتزل الناس بعد بيعة السقيفة ولزم بيته مغاضبا رافضا بيعة أبى بكر . تقول الروايات : ( ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياماً، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي.) وصمّم عُمر على أن يجعل أبا بكر يرغمه على البيعة : ( فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع. ) وتدخل ابن سعد بن عبادة : ( فقال بشير بن سعد: إنه قد لجّ وأبى ، ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، فاتركوه ولا يضركم تركه، وإنما هو رجل واحد. فتركوه.) . وآثر سعد بن عبادة السلامة ، ونفى نفسه الى الشام . وتولى عمر الخلافة فبعث الى الشام رجلا قتله . تقول الرواية : ( وأما سعدُ بن عبادة فإنه رحل إلى الشام‏.‏) ( أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال‏:‏ بعث عمرُ رجلاً إلى الشام فقال‏:‏ ادْعه إلى البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه فإن أبيَ فاستعن اللّهَ عليه‏.‏ فقَدم الرجل الشام فلقيه بحُوران في حائطٍ فدَعاه إلى البيعة فقال‏:‏ لا أبايع قُرشياً أبداً‏.‏ قال‏:‏ فإني أقاتلك‏.‏ قال‏:‏ وإن قاتلتَني‏!‏ قال‏:‏ أفخارج أنت مما دخلتْ فيه الأمة ؟ قال‏:‏ أمّا من البَيعة فأنا خارج‏.‏ فرَماه بسَهم فقتله‏.‏ ) ، ( ميمون بن مِهران عن أبيه قال‏:‏ رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام فقُتل‏.‏) ( ‏ رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده‏.‏ ) . وزعموا أن الجنّ هى التى قتلت سعد بن أبى عبادة ، وأنها قالت فى ذلك شعرا : ( فمات ، فبكته الجنّ ، فقالت‏:‏ وقَتلنا سيّد الخَزْ رج سعدَ بن عُبادة ورَميناه بسهمي فلم نُخْطِىء فُؤاده ).
أخيرا :
1 ـ التاريخ ينام دائما فى أحضان الطغاة وأعوانهم .
يوجد اليوم مئات الملايين من الناس الشرفاء النبلاء الطيبين الذين يكدحون بشرف فى إعالة أبنائهم .. هل تسمع بهم ؟ هل يظهرون فى القنوات الفضائية وفى عناوين الأخبار المحلية أو العالمية ؟ من الذى يحتل عناوين الأنباء وشاشات التليفزيون ؟ بالتالى : من الذى سيسجلهم التاريخ ويخلد ذكراهم ؟ هل هم أولئك النبلاء الشرفاء الكادحون الصامتون أم الطغاة البُغاة المجرمون ؟
2 ـ لهذا فقد سجل تاريخ المسلمين أسماء طغاة مجرمى حرب ( أبى بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية وعمرو بن العاص والزبير وعائشة ..الخ ) بينما لا نعرف أسماء من وصفهم رب العزة بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .. العلم بهم عند رب العزة وحده . عاشوا حياتهم لا يريدون عُلوا فى الأرض ولا فسادا ، بينما الذين علوا فى الأرض وعاثوا فيها فسادا وظلما وغزوا وفتحا وإحتلالا ينام التاريخ فى أحضانهم وتحت أقدامهم .
3 ـ فى النهاية فالعبرة بالتاريخ الحقيقى المسجل الذى سيظهر يوم القيامة فى كتاب الأعمال الجماعى والفردى . عندما يقف المجرمون الطغاة يرون بأنفسهم كتاب أعمالهم وقد سجل مخازيهم وجرائمهم ولم يترك منها شيئا ، يقول جل وعلا : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الكهف ). أما النبلاء الشرفاء البسطاء ( ملح الأرض ) الذين لا يريدون علوا فى الأرض والذين يسعون فيها بالحلال والخير فيقول رب العزة جل وعلا عنهم : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص )

عن وعظ الخلفاء ( الراشدين / الفاسقين )
أخطاء أبى بكر التى لم يجد من يعظه بشأنها :
1 ـ بدأ فى عصره القصير إختطاف الحكم وتعيينه خليفة ، ومواجهة المرتدين حربيا ، والفتوحات . قاتل أبو بكر قوما مسالمين له ، لم يبدأوه بعدوان ، ولم يبعثوا بجيوشهم الى المدينة ، بل هو الذى أرسل جيوشه من المدينة لقتالهم ، وأسرف خالد فى قتل الأسرى من المقاتلين الأبطال الذين يدافعون عن أنفسهم وأهاليهم وأرضهم واموالهم ونسائهم . وسبى خالد ذراريهم ونساءهم ، وفرّقهم على جنده ، وبعث بخُمس السلب والسبى الى أبى بكر فى المدينة ، واستمتع الصحابة فى خريف العمر وعلى رأسهم ( على بن أبى طالب ) بهؤلاء النساء . وانجبوا منهن الذرية .

2 ـ العادة أن الخطبة الأولى للخليفة كانت تشير الى ما نعرفه اليوم بالبرنامج السياسى، فكيف كان برنامج أبى بكر السياسى؟ فى خطبته الأولى لما ولي أبو بكر قال :(أما بعد، أيها الناس، قد وليت أمركم ولست بخيركم. اعلموا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور. وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق . أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني).
2 ـ السلطان هنا يعظ الآخرين بالتقوى : (اعلموا أن أكيس الكيس التقوى وأن أحمق الحمق الفجور)، ولكنه يعطى الآخرين نفس الحق، بل أكثر، وهو الوعظ العملى وليس مجرد الوعظ القولى، أى قدرتهم على تقويمه لو زاغ و لم يعدل . ويؤكد على المساواة بينه وبينهم، فحتى لو كان سلطانا حاكما فليس أفضلهم : (قد وليت أمركم ولست بخيركم)، ومقياس الأفضلية هى فى السلوك، وهم مصدر السلطة، وهم مقياس الحكم على صلاحيته إن أحسن أعانوه وإن زاغ أصلحوه.وبالسلطة المخولة له منهم يقوم عنهم بتطبق العدل وإنصاف المظلوم، ولا يأبه بمكانة ونفوذ الظالم (وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق).هذا البرنامج السياسى يتشابه الآن مع نظام الديمقراطية التمثيلية النيابية، ولكنه يفترق عنها فى كلمة واحدة فى قوله(فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني)، فلم يقل (... وإن زغت فاعزلونى). أى جعل نفسه حاكما مدى الحياة.
3 ـ لقد أعلن أنه متبع لما كان فى عهد خاتم المرسلين وليس بمبتدع (متبع ولست بمبتدع)، ولكنه ما لبث أن خالف وخرج عن الاتباع للحق بالوقوع فى أفظع جريمة، وهى الفتوحات.
4 ـ ولم نجد عاقلا واحدا من الصحابة ينبه أبا بكر ويعظه ويخوفه من أن يكون مكروها من رب العالمين حين قال جل وعلا (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ( البقرة 190 )
ثانيا : عمر :
1 ـ أول خطبة خطبها عمر حمد الله أثنى عليه ثم قال : (أما بعد ، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي ، وخلفت فيكم بعد صاحبي ، فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا ومهما غاب عنا، ولينا أهل القوة والأمانة، فمن يحسن نزده حسنا ،ومن يسىء نعاقبه ويغفر الله لنا ولكم .). هنا تبدة شدة عمر ، ولقد اشتهر عمر بالعدل بين العرب فقط ، وفى المقابل عامل الأمم المفتوحة بأبشع أنواع الظلم . وإذاكان ابوبكر فى خلافته القصيرة يتحمل وزر اتخاذ القرار بالغزو والاعتداء بالهجوم على من لم يعتد على المسلمين فى الفتوحات الظالمة فإن عمر هو الذى أكمل المهمة ، وهو الذى أطعم نفسه وآله والصحابة والأعراب المال الحرام المنهوب من الشعوب المفتوحة ، وهو الذى امتص عرق وثروات تلك الشعوب بالجزية و الخراج ، وهو الذى استرق أبناء تلك الشعوب وسبى أطفالهم ونساءهم . وكل المزية فى الموضوع أنه حرص على العدل فى توزيع هذا المال السحت بين الصحابة والعرب والأعراب الفاتحين الموصوفين فى القرآن الكريم بأنهم أشد الناس كفرا ونفاقا...
2 ـ وأيضا لم يجد عمر واعظا يعظه ينبهه الى أن الفتوحات التى قام بها هى تطبيق لشرع الشيطان المخالف لشرع الرحمن ،وأن أفظع الجرم أن ترتكب جرما ثم تنسبه لتشريع الله جل وعلا ،وأن ترتكب المذابح والسبى و النهب لأناس ابرياء كل جريمتهم أنهم يدافعون عن بلادهم وأبنائهم وأعراضهم وحياتهم وكرامتهم ـ وهذا الدفاع هو حقهم المشروع وفق التشريع الاسلامى.
حسب علمنا، لم يرد فى التراث ـ على الاطلاق ـ أن أحدا من الصحابة وعظ عمر بهذا، بل العكس هو الذى حدث، فمن لم يشارك من الصحابة فى الغزو تمتع بثمار من المال والسبايا، وأنجب منهن، لا فارق هنا بين (على بن ابى طالب ) الذى ظل مستشار عمر فى المدينة، مثل رئيس الاركان له، أو (سعد بن أبى وقاص) قائد معركة القادسية، أو (أبى عبيدة بن الجراح) فى اليرموك .
كل الوعظ الذى ووجه به عمر جاء من عرب يصعب ارضاؤهم ، وهم مثل بقية الصحابة لا يرون غير أنفسهم ، ولا يشعرون بأى حقوق لتلك الشعوب المسكينة التى انتهكوا حقوقها ، كما لو أن الله تعالى سخّر لهم تلك الشعوب حيوانات للصيد والقنص والتملك .!
طغت عليهم جميعا طبيعة الجاهلية ، سريعا عادوا اليها وسريعا عادت لهم ، من تسويغ الغارات و السلب والنهب والسبى . الفارق الوحيد أنهم اتحدوا معا كعرب ـ تحت اسم الاسلام ـ يغزون و ينهبون و يسترقون جيرانهم خارج الجزيرة العربية.
ولأن الوعظ انعدم فى هذه الناحية ، ولأنه لم يوجد بين الصحابة رجل واحد يقول كلمة حق فى وجه عمر ولأن المال الحرام أعمى عيونهم جميعا لا فارق بين (على ) أو ( معاوية ) فقد دفعوا الثمن فى ( الفتنة الكبرى ) ، إختلفوا على المال السحت فتقاتلوا بسببه ، كما قاتلوا الأمم المفتوحة من أجله .
3 ـ وبهذا أنهوا حياتهم فى تكذيب عملى للقرآن الكريم ، وتحقق فيهم قوله جل وعلا فى نبوءة صادقة نزلت فى مكة قبل الهجرة تتحدث عن قريش:( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) ثم جاء توكيد النبوءة باسلوب التحدى : (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ( الأنعام 66 : 67).
4 ـ وعلى أى حال فهذا منطقى وطبيعى فى تاريخ الشعوب ومسيرة المجتمعات ، فمن المستحيل بعد أن تعود العرب قرونا وأجيالا على ثقافة السلب والنهب والسبى أن يستأصلوها تماما من أنفسهم بسبب 23 عاما فقط من معايشتهم للقرآن الكريم . أى إن قريش ـ والأمويون فى مقدمتهم ـ كانوا يعبرون عن تلك الثقافة السائدة ليس فقط فى الجزيرة العربية بل فى العالم كله فى تلك العصور الوسطى.
5 ـ المصالحة التى قامت بها قريش ـ بعد أن دخل الأمويون فى الاسلام بعد طول عداء ـ هى أن تتوجه ثقافتهم فى الغزو والسلب والنهب والاعتداء الى غير العرب باسم الجهاد الاسلامى.
ثالثا :عثمان ( الخليفة الواعظ ): الشيطان يعظ
1 ـ فى أول خطبة له ارتج عليه ، فقال معتذرا :( أيها الناس إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أيامًا، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسُيعَلّمنا اللَّه‏)‏ . هذا ما جاء فى الطبقات الكبرى لابن سعد.
فى خطبته التالية أعلن فيها سياسته فقال‏:‏ ‏[‏ص 43‏]‏‏.‏ فقال :(‏"‏إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه فلقد أتيتم صُبّحتهم أو مُسيّتم‏.‏ ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏.‏ اعتبروا بمن مضى‏.‏ ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم‏.‏ أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلًا‏؟‏ ألم تلفظهم‏؟‏ ارموا بالدنيا حيث رمى اللَّه بها، واطلبوا الآخرة فإن اللَّه قد ضرب لها مثلًا والذي هو خير فقال‏:‏ ‏( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏ ‏[‏الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 589‏]‏ ‏
ونلاحظ هنا أن الخليفة الجديد هو الذى يعظ الناس دون أن يشير الى منهج حكمه كما فعل سابقاه ،أى أننا بصدد حاكم مختلف ، إذ يعظ المسلمين فى أول خطبة له يدعوهم الى الزهد واحتقار الدنيا وعدم الركون إليها‏.‏
فهل يا ترى كان يطبق ما يقوله على نفسه أم يأمر الناس بالبر وينسى نفسه ؟ مع ملاحظة أن عثمان فى ذلك الوقت كان قد بلغ أرذل العمر ، وتعين عليه أن يتأهب للموت وأن يعمل للآخرة .
2 ـ الاجابة معروفة سلفا . فقد كان يتصرف فى أموال المسلمين (الأحرى أن نقول الأموال التى نهبها المسلمون)كأنها أمواله الخاصة ، يغترف منها يعطى أقاربه الأمويين .أى يأمر الناس بالبر فى الوعظ وينسى نفسه ، ويقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول مناقضا لقوله جل وعلا :(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )(البقرة 44) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)(الصف 2 : 3 )
وبعد أن توغّل فى الائم تحتم على كبار أصحابه أن يعظوه ، فقد تبين لهم أن (الواعظ ) عثمان بحاجة الى أن يوعظ .!!. هنا دخل الواعظ عثمان فى دور جديد ، هو أنه يعلن توبته على المنبر ، ويستغفر الله ، ثم ينزل من المنبر ليعود الى سيرته الأولى فى الفساد .
وانقسم الناس حول عثمان فى المدينة الى قسمين ، قسم يقوم بوعظ عثمان ونصحه ، منهم على بن ابى طالب وغيره ، وحتى منهم زوجته نائلة الكلبية ، وقسم آخر مفسد سيطر على عثمان وهم أقاربه الأمويون ، وفى مقدمتهم مروان بن الحكم. وسيرة عثمان فى خلافته من بداية انحرافه الى مقتله سلسلة من الوعظ ( يلقيه هو مخالفا لما يفعله ،أو يلقيه الآخرون يعظونه به لينصلح حاله ) وسلسلة مقابلة من افعاله التى تخالف ذلك الوعظ .
3 ـ وقد تطور الوعظ له الى درجة الانكار ، وتطور الانكار الى درجة الاحتجاج الصارخ الذى ما لبث أن تحول الى ثورة وحصار لعثمان فى بيته ،ثم الى مقتله ، وظل حتى قبيل مقتله لا يكف عن التوبة ووعظ الناس ، بينما يسمع لمروان بن الحكم ويطيع ، ومن أجله ينقض وعوده ويتراجع عن توبته ، وظل هكذا الى أن قتله الثوار ونهبوا داره وكانوا على وشك سبى إمرأته .
4 ـ وفى التطور ( العثمانى ) فى التعامل مع بعض كبار الصحابة الذين وعظوا عثمان نرى عثمان قد استعمل معهم العنف والأذى . ومشهور أنه نفى أبا ذر الى الربذة بالصحراء عقابا له لأنه وعظ معاوية بقسوة، وتعرض‏ ‏عمار‏ ‏بن‏ ‏ياسر‏ ‏للضرب‏ ‏حتى ‏فتقت‏ ‏أمعاؤه‏، ‏وضربوا‏ ‏ابن‏ ‏مسعود‏ ‏حتى ‏كسروا‏ ‏أعضاءه‏ ‏ومنعوا‏ ‏عطاءه‏ ‏، ‏وطردوا‏ ‏أبا‏ ‏الدرداء‏ من الشام ليخلو الجو لمعاوية والامويين .
5 ـ وآخر خطبة خطبها قبل قتله كانت خطبة وعظية هائلة ، كان فيها يعظ الناس .!!.قال فيها : ‏"‏إن اللَّه عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها‏.‏ إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى‏.‏ فلا تُبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ‏ما يفنى‏.‏ فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى اللَّه‏.‏ اتقوا اللَّه عز وجل فإن تقواه جُنة من بأسه ووسيلة عنده‏.‏ ")‏‏.‏ (‏الطبري: (تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 672‏]‏‏:‏خطب عثمان هذه الخطبة الوعظية الهائلة وهو يرقد فوق ثروة هائلة جمعها بالفساد وهو فى أرذل العمر يسعى اليه الموت بل يحاصره الموت فى (يوم الدار ).
بعد مقتله أحصوا ثروته فكانت بالبلايين بمعيار عصرنا . يروى ابن سعد فى الطبقات الكبرى:(كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار فانتهبت وذهبت. وترك ألف بعير بالربذة).
أخيرا: لا تعليق.. فقد نشف الريق..
ــــــــــــــــــــــــــــــ






الفصل الثانى : فى عهد معاوية والتوريث ليزيد
أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح.
ثانيا : ( زياد يعظ ) :
خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين
ثالثا : زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )

أولا : زياد ابن أبيه الواعظ السفاح

تاريخ النشر: 2010-02-27

مقدمة
1 ـ هناك محطات رئيسة فى تاريخ المسلمين تشكل علامات فى الهبوط والانحدار والتباعد التدريجى عن الاسلام وما كانت عليه دولة خاتم المرسلين عليهم السلام. بدأت قريش الانحدار ببيعة السقيفة وتعيين أبى بكر حاكما، وهبط أبوبكر خطوة جديدة بالفتوحات، وتأكدت فى عهد عمر، ثم هبط عثمان درجة أسفل بالفساد المالى، فأتاح للآخرين الهبوط الى الوقوع فى حضيض الفتنة الكبرى، والتى أدت بدورها الى السقوط فى مستنقع الديكتاتورية وتوارث الحكم وتكوين النظام الملكى الفج بالدولة الأموية.
2 ـ ولأن معاوية هو أول ملك ، فقد استحدث أشياء كثيرة فى تاريخ المسلمين، ذكرها المؤرخون المسلمون تحت عنوان (أوليات معاوية) يعنى هو (أول) من فعل كذا وكذا . وأهمها على الاطلاق أنه أول من استحدث توريث الحكم لابنه، وهى سبة وسنة سيئة يتحمل معاوية وزرها من وقته وحتى الآن. وبالتوريث يختلف عصر الخلفاء الراشدين عن عصر الخلفاء غير الراشدين. وهذا (التوريث) للحكم ينفى الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة.
ومعظم أوليات معاوية ترجع لتخطيطه للتوريث واعداده له حتى يكون الملك حكرا على اسرته .
3 ـ وبعض أوليات معاوية كان يشاركه فيها بطل حلقتنا اليوم، وهو (زياد بن أبيه). فمعاوية هو أول من استلحق (إبن زنا مجهول الأب) الى نسب أبيه، أى هو الذى ألحق بنسب أبيه ( زياد ابن أبيه) المجهول النسب، الحقه معاوية بأبيه أبى سفيان بعد موت أبى سفيان، فأصبح اسمه رسميا زياد بن أبى سفيان. وتلك (سابقة) لم تحدث فى تاريخ المسلمين.

4 ـ ولأن معاوية من (أصحاب السوابق) فهو أول من فرض (الأحكام العرفية) فى العراق ـ موطن المعارضة للأمويين. وكان زياد بن أبيه هو شريك معاوية فى هذه السابقة. فزياد ابن أبيه هو الذى أعلن (قانون الطوارىء) فى خطبته الشهيرة (البتراء)، وهو الذى تولى تنفيذه بكل حزم.
5 ـ ومن سوابق معاوية قتل صاحب الرأى المعارض الذى لا يخرج فى معارضته عن حدود القول ، فكان قتل حجر بن عدى الكندى لمجرد اعتراضه القولى على ( زياد بن أبيه )، وكان حجر بن عدى أول قتيل بسبب معارضته القولية العلنية ، أو بتعبير عصرنا (أول شهيد لحرية الرأى) فى تاريخ المسلمين ، والبطل فى هذه الكارثة هو زياد بن أبيه .
6 ـ والجريمة السابقة ( قتل حجر بن عدى ) تضمنت خطوة جديدة فى الانحدار، وهى تلفيق التهم ، فكان زياد بن أبيه أول مسئول فى دولة للمسلمين يقوم بتلفيق تهمة سياسية تستوجب القتل، ويستطيع أن يحصل بها على موافقة السلطان الأكبر معاوية على تنفيذ الاعدام بحق المتهم البرىء.
7 ـ واستلزم هذا التلفيق والتزوير الاستعانة بالقضاء الاستثنائى فى الاحكام العرفية ،أى قانون الطوارىء ، ووجد زياد ابن أبيه بغيته فى القاضى (أبو بردة بن موسى الأشعرى) الذى شارك فى التلفيق وجمع الشهود الزور ، ليبعث بالمسكين حجر بن عدى الى معاوية فيأمر معاوية بقطع رأسه مع أصحابه .
8 ـ كل ذلك يجعل زياد ابن أبيه محطة لا يجوز إغفالها فى التأريخ لوعظ السلاطين ،لأن زياد بن أبيه هو نفسه محطة هامة فى مشوار الهبوط والابتعاد عن منهاج الاسلام . وهذا الابتعاد عن منهاج الاسلام استدعى وجود ( وعظ السلاطين ) ، وترتب عليه تصنيع بعض الروايات التاريخية التى تخدم الهدف من وعظ السلاطين .
9 ـ ونتوقف فى مقالات مع بعض التفصيل .
أولا : موجز تاريخ زياد بن ابيه :
1 ـ كانت امه (سمية ) جارية مملوكة للحارث بن كلدة الثقفي ، فزوجها الحارث غلاما روميا له اسمه عبيد ، وكان عبيد يعمل في حانة ، فعملت معه سمية بغيا .
2 ـ وجاء ابو سفيان الي الطائف في الجاهلية فنام معها ، فولدت زيادا وهي لا تزال زوجة عبيد . واقر ابو سفيان أنه ابنه في خلافة عمر ، وذلك عندما اشتهر زياد بالفصاحة والنبوغ . فقد بعث به عمر بن عبد الخطاب لصلاح فساد في اليمن ، فنجح في مسعاه ، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها ، فقال عمرو بن العاص ، لو كان هذا الغلام قرشيا لساق العرب بعصاه ، فقال ابو سفيان : والله اني لأعرف الذي وضعه في رحم امه ، فقال علي ابن ابي طالب : ومن هو يا ابا سفيان ؟ قال : انا ، قال : مهلا يا ابا سفيان ، فقال ابو سفيان شعرا يعبر به عن خوفه من عمر ابن الخطاب لو اقر بان زياد ابنه .
3 ـ وقد ولد زياد في السنة الاولي من الهجرة واسلم في عهد ابي بكر ، وكان قريبا من عمر بن الخطاب في خلافته ، وعمل كاتبا للولاه مثل عبد الله بن عامر و عبد الله بن عباس والمغيرة بن شعبة ، ثم جعله علي ابن ابي طالب في خلافته واليا علي فارس ، فحفظ له ذلك الاقليم ، مما اقلق معاوية في صراعه مع علي.
4 ـ ولاية زياد بن أبيه بلاد فارس عام 39:
كانت فارس وما يليها شرقا ( كرمان ) تتبع ولاية العراق ، وكان واليها حينئذ هو عبد الله بن عباس ـ قبل أن يخون عليا ابن عمه ويهرب ببيت المال ـ وأدت الحروب الأهلية بين على ومعارضيه الى حدوث اضطرابات فى فارس وكرمان بسبب بعدهما عن مركز خلافة (على ) فطمع أهلها فى الاستقلال ، فامتنعوا عن دفع الخراج وأخرجوا الولاة العرب المعينين من قبل (على ) .
واحتاج ( على ) الى رجل شديد البأس يعيد الأمور الى نصابها ، فاستشار أصحابه ، فقال له جارية بن قدامة‏:‏ ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لما ولي ؟ قال‏:‏ من هو ؟ قال‏:‏ زياد‏.‏ فأمر ( علي ) والى العراق (عبد الله بن عباس) أن يولي زيادًا ، فسيره إليها في جمع كثير فوطىء بهم أهل فارس ، وكانت قد اضطرمت ، فلم يزل يبعث إلى رؤوسهم يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عليه ، وضرب بعضهم ببعض ، فدل بعضهم على عورة بعضٍ ،وهربت طائفة وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا ،وصفت له فارس ، ولم يلق منهم جمعًا ولا حربًا، وفعل مثل ذلك بكرمان‏.‏ وسكن الناس واستقامت له ، ونزل مدينة إصطخر، واتخذها عاصمة له ، وبنى له بها قلعة تسمى قلعة زياد ‏.‏
5 ـ وبعد مقتل (علي) ظل زياد معتصما بفارس التي تدين له بالولاء ، رافضا البيعة لمعاوية . فاستدعي معاوية الداهية المغيرة بن شعبة وقال له عن زياد (داهية العرب معه اموال فارس يدير الحيل ، ما يؤمنني ان يبايع لرجل من اهل هذا البيت (بيت علي) فاذا هو اعاد الحرب جذعة) فذهب المغيرة الي زياد ، وبعد مباحثات انضم زياد الي معاوية مقابل ان يلحق معاوية زيادا بنسب ابيه ، ويصير أخا لمعاوية يكون اسمه الرسمي زياد بن ابي سفيان .
6 ـ من أجله عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة وولاها زيادًا، ثم ‏جعله معاوية أمير المصرين (الكوفة والبصرة) أى العراق وما يتبعه شرقا، وكانت ولايته خمس سنين، وتوفي فى عصر معاوية بالكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين. ونتوقف مع المحطات الهامة فى تاريخ زياد:
ثانيا : استلحاق زياد بنسب أبى سفيان:
• الظروف السياسية للاستلحاق :
1 ـ كان (على ) فى العراق يواجه غريمه معاوية فى دمشق ، ومصر كانت تابعة لعلى ، أى حوصر معاوية فى الشام بين العراق شرقا ومصر وشمال أفريقيا غربا .
وعمل معاوية كل الحيل ليفسد الأمر على ( على ) فى مصر ، فاستطاع بالحيلة أن يوقع بين (على ) وواليه القوى على (مصر ) وهو قيس بن سعد بن عبادة ، ونجحت مكيدة معاوية فعزل (على ) الوالى القوى فى مصر ( قيس بن سعد بن عبادة ) عن مصر ، وولى مكانه شابا متهورا هو محمد ابن أبى بكر . وظهر ضعف محمد بن أبى بكر فى مصر وعجزه وسوء تصرفه فعزله (على ) وأرسل واليا عليها ، أحد قواده الكبار وهو الأشتر النخعى بطل معركة صفين .
وعلم معاوية بتعيين الأشتر عن طريق جواسيسه، فأحسّ بالخطر ،فكان لا بد من الحيلولة بين الأشتر والوصول لمصر ، ولذا تمكن معاوية من استمالة صاحب الخراج على مصر التابع لعلى ، واستطاع هذا الرجل ـ وهو فى (القلزم ـ السويس ) أن يستضيف الأشتر ، ويقتله بشرب عسل مسموم . وجاءت الأخبار لمعاوية ، ومعه عمرو بن العاص ، فقالا فى التندر على اغتيال الأشتر (أن لله جنودا من العسل) .اضطر على الى الابقاء على واليه ( محمد بن أبى بكر)، واليا على مصر .
2 ـ وكان محمد هذا ابنا لأبى بكر الصديق ولكن نشأ فى كنف (على ) بعد أن تزوج (على) أمه بعد وفاة أبى بكر . وتعصب محمد بن أبى بكر لزوج أمه (على ) فكان من قادة الثوار على (عثمان ). وهناك روايات تؤكد أنه شارك فى قتل عثمان، وروايات تقول إنه تراجع عن طعنه عندما استرحمه عثمان . ولكن المؤكد فى كل الروايات أن محمدا بن أبى بكر كان من قادة المحاصرين لعثمان فى بيته ومن أوائل من اقتحم بيته ، مما جعله على قائمة المطلوبين للأمويين .وجاء الابقاء على تعيين محمد بن أبى بكر على مصر فرصة نادرة لمعاوية ، ليس فقط لرعونة محمد بن أبى بكر وطيشه وخفته بما يسهل لمعاوية الاستيلاء على مصر وما يتبعها من شمال أفريقيا ، ولكن أيضا لأنها فرصة يشفى غليله من محمد بن أبى بكر بسبب موقفه من عثمان .
وكان معاوية قد عقد اتفاقا مع عمرو بن العاص على أن يستخلص مصر له من قبضة (على ) مقابل أن تكون مصر (طعمة ) خالصة لعمرو ،أى أن يستحوذ عمرو على ايرادات مصر لصالحه ولا يدفع منها شيئا لمعاوية ،لأن كل ما يريده معاوية هو تأمين ظهره باسترداد مصر ليواجه عليا بن أبى طالب فى العراق وفارس. وبهذا أعاد عمرو بن العاص فتح مصر لصالح معاوية ، وانهزم محمد بن أبى بكر وهرب الى خرابة يعانى الجوع و العطش ، فقبضوا عليه ، وبعد قتله وضعوا جثته فى جيفة حمار وأحرقوها.وكان ذلك عام 38 هجرية.
3 ـ بضياع مصر من (على ) لم يعد له إلا العراق وفارس وكرمان ، ولكن كانت الاضطرابات مشتعلة فى فارس وكرمان تهدد مركز (على )،ولم تكن أصابع معاوية بعيدة عن تلك الاضطرابات ، لذا أسرع (على ) بتعيين زياد ابن أبيه ليضبط له فارس وكرمان ، وليحمى ظهره فى العراق .
وبعد مقتل على والتصالح بين معاوية و الحسن بن على ، واعتراف الحسن بخلافة معاوية فيما يسمى بعام الجماعة ،عام 41 ، ظل زياد على موقفه معاندا لمعاوية رافضا الدخول فى طاعته ، وقد تحصن بفارس ومعه العتاد والجنود يسمعون له ويطيعون ، ويستطيع أن يبايع لأى فرد من آل البيت ليكيد لمعاوية. لذلك كان لا بد لمعاوية أن يسترضيه بكل ما يستطيع .
كان مع زياد كل ما يريده اى انسان من الملك والجاه والمال ، ولكن كان يفتقر الى شىء واحد هو النسب ،إذ كان مجهول الأب ، وهذه نقيصة لا شأن له بها . ومن هنا كان الطلب الوحيد الذى يريده هو أن يكون له نسب شرعى رسمى عريق . وبهذا اتفق على استلحاق زياد بأبى سفيان بعد موت أبى سفيان .
مفاوضات الاستلحاق :
1 ـ والروايات متضاربة ومتداخلة فى موضوع المفاوضات بين زياد ومعاوية والتى أنتهت الى استلحاق زياد بأبى سفيان .
والذى يتسق منها مع الأحداث أن معاوية هو الذى بدأ الاتصال السرى بزياد فى حياة وخلافة (على ) حيث كان يرسل اليه الرسائل لافساده على (على ) ، فلما فشل ارسل اليه يعرض عليه أن يلحقه بنسب أبى سفيان ، فأرسل زياد بالرسالة الى على ، فكتب إليه علي‏:‏ ‏"‏ إنما وليتك ما وليتك‏.‏ وأنت أهل لذلك عندي ولن تدرك ما تريد مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين . وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً‏.‏ وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره ثم احذره‏.‏ والسلام ‏"‏‏.‏ وفى هذا الخطاب اعتراف من (على ) بأنه سمع من أبى سفيان أنه والد زياد ، لذا تقول الرواية : ( فلما قرأ زياد الكتاب قال‏:‏ شهد لي أبو الحسن ورب الكعبة‏.‏) ومن وقتها صار الأمل لدى زياد فى الاستلحاق . لهذا بعد مقتل على تمهد الطريق للمفاوضات والتى قادها المغيرة بن أبى شعبة ممثلا لمعاوية .
2 ـ وسبقت المفاوضات حركات عدائية من جانب معاوية لجس النبض ولحث زياد المتحصن فى فارس لكى يلتفت لمعاوية ويتحاور معه . اتخذ معاوية من أقارب زياد فى العراق رهينة يعتقلهم ويعذبهم، وتتبع أموال زياد التى استودعها أصحابه فى العراق ليضغط على زياد .وكان المغيرة بن أبى شعبة هو مخلب معاوية فى هذه السياسة لأنه كان والى العراق وقتها . وأتت تلك السياسة أكلها فمهدت الظروف لمفاوضات الاستلحاق ..
3 ـ جاء المغيرة الى قلعة زياد فى فارس ليفاوضه فى الانضمام الى معاوية . تقول الرواية : (فأتاه المغيرة وقال له‏:‏ إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك، ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع، فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني معاوية عنك‏) أى بدأ المغيرة بالاشادة بزياد بأن معاوية قد بلغ به الخوف من زياد الى درجة أنه بعث بالمغيرة اليه لينضم اليه ، ثم يدخل فى النصيحة لزياد بأنه طالما بايع الحسن بن على لمعاوية فلم يبق لزياد سوى أن يبايع هو الآخر . وبعد النصح يأتى التهديد المبطن لزياد بأن يسرع فى الخضوع لمعاوية قبل ان يوطد معاوية ملكه ولا يصير فى حاجة لزياد ، وبالتالى يكون خصما له بلا مستقبل . ورد عليه زياد : ( أشر علي وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن‏.‏) هنا نرى زيادا يجعل المغيرة مستشارا له ، ويطلب منه الدخول مباشرة فى الموضوع (بلا لف ولا دوران ) يعنى (هات م الآخر )، (فقال له المغيرة‏:‏ أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله‏.‏). (وصل الحبل بالحبل ) جملة مجازية تحتمل الكثير من المعانى ، من بينها الاستلحاق . أى توالت المحادثات لتحدد المطلوب ولتضع النقاط فوق الحروف . وانتهت المفاوضات بالاتفاق ، تقول الرواية :(وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه‏) (واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له فكان المغيرة يكرمه ويعظمه‏).
تنفيذ الاستلحاق :
وفى عام 42 تم الاستلحاق .
وعقد معاوية مجلسا أحضر اليه وجوه الناس ، وأحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي. ..(.. فقال له معاوية‏:‏ بم تشهد يا أبا مريم ؟ فقال‏:‏ أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيًا ، فقلت له‏:‏ ليس عندي إلا سمية، فقال‏:‏ إيتني بها على قذرها ووضرها ، فأتيته بها ، فخلا معها ، ثم خرجت من عنده ، وإن إسكتيها لتقطران منيًا‏ . فقال له زياد‏:‏ مهلًا أبا مريم‏!‏ إنما بعثت شاهدًا ولم تبعث شاتمًا‏.‏ ). وهناك روايات تتفق مع هذا المضمون ولكنها أكثر بذاءة فأعرضنا عنها .
ردود فعل للاستلحاق :
1 ـ احتجاج بنى أمية :
1 / 1 وكان من الطبيعى أن يحتج بنو أمية على معاوية أن يدخل فى نسبهم العريق زيادا . تقول الرواية : (ولما ادعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أمية ، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم ، فقال له‏:‏ يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة ؟!، فأقبل معاوية على مروان وقال‏:‏ أخرج عنا هذا الخليع ‏.‏)
ونسبوا شعرا لعبد الرحمن بن الحكم فى الهجوم على معاوية بسبب ذلك الاستلحاق ، وسنتعرض لهذا فى حينه .
1 / 2 ـ وحين وفد زياد الى معاوية ، أرسل زياد أحد أتباعه ليتحسس رد فعل ابن عامر أحد كبار الأمويين ، ومن ولاة معاوية . وكان رسول زياد صديقا قديما لابن عامر ، لذا انطلق ابن عامر فى سب زياد أمامه فقال : ( هيه هيه‏!‏ ..ابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي‏!‏ لقد هممت أن آتي بقسامةٍ من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية‏.‏) ونقل زياد هذا الحديث لمعاوية ، فقال معاوية لحاجبه‏ :‏ إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب‏.‏ ففعل ذلك به‏.‏ فأتى ابن عامر يزيد بن معاوية فشكا ذلك إليه ، فركب معه حتى أدخله الى مجلس أبيه معاوية ، فلما رآه معاوية قام غاضبا تاركا المجلس ، فاضطرب ابن عامر فهدأه يزيد ، فلما أطالا فى الجلوس خرج عليهما معاوية وهو يتمثل بقول الشاعر ‏:‏
لنا سباقٌ ولكم سباق قد علمت ذلكم الرفاق
ثم قعد فقال‏:‏ يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت ؟ أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزًا، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة ، ولكن عرفت حقًا له فوضعته موضعه‏.‏ فقال‏ ابن عامر :‏ يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد‏.‏قال‏:‏ إذًا نرجع إلى ما تحب‏.‏ فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه‏.‏ ). وهكذا اشتد معاوية على قومه ليرتضوا زيادا فى نسبهم ، دون أن يصرح لهم بالغرض السياسى من هذا الاستلحاق .
وكى يجعل معاويه أهله بنى أميه يعترفون بالأمر الواقع وكى يؤكد استلحاق زياد بالنسب الأموى فقد قام معاوية بتزوج ابنته لابن زياد ، وهو محمد بن زياد .
2 ـ الهجوم بالهجاء الشعرى على الاستلحاق:
2 / 1 ـ أشهر الأبيات التى هاجمت معاوية بسبب الاستلحاق هى :
ألا أبلغ معاوية بن صخر فقد ضاقت بما تأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عف وترضي أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زياداً وصخر من سمية غير دان .
2 / 2 ـ وهناك اختلاف فى قائل هذا الشعر ، منهم من ينسبه لعبد الرحمن ابن الحكم ، ولكن الأشهر هو نسبته ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر ، وكان مشهورا بالعداء لزياد وأسرته .
وهناك اختلاف آخر فى رواية القصيدة نفسها ، فالأبيات المنسوبة لابن مفرغ الحميرى يقول أولها‏:‏
ألا بلغ معاوية بن حرب ** مغلغلة من الرجل اليماني
وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء‏.‏
3 ـ إختراع الشعر فى هجاء الاستلحاق
3 / 1 ـ وهذا الاختلاف فى قصيدة وحيدة مشهورة يعنى أن قصة الاستلحاق استحوذت على اهتمام القصاص فى العصرين الأموى والعباسى فى فترتى الرواية الشفهية و التدوين . ومعروف أن القصاصين ما دخلوا فى حكاية تاريخية إلا أفسدوها وجعلوا الصادق فيها محل شك ، وكذلك يفعلون . 3 / 2 ـ فهناك اشعار أخرى أقل شهرة قيلت فى هجاء الاستلحاق وأصحابه
ومنها :
شهدت بأن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع
ولكن أمراً فيه لبس على وجل شديد وارتياع
ومنها :
إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة عندي من أعجب العجب
هم رجال ثلاثة خلقوا في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا مولى وهذا بزعمه عربي
ومنها :
أزياد ما للؤم عنك محول ولا لك أم في قريش ولا أب
وقل لعبيد الله مالك والد بحق ولا يدري امرؤ كنت تنسب
ومنها :
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ماعاشت وما علمت إن ابنها من قريش في الجماهير
واضح أن هذه الأشعار تم صنعها بعد عصر زياد وابنه عبيد الله بن زياد (قاتل الحسين )، فليس لها قائل محدد ، علاوة على ما فيها من ركاكة بما يدل على أن قائلها ليس شاعرا محترفا بل من اصحاب القصص وأصحاب الأخبار الذين عاشوا بعد زوال سلطان زياد وبنيه، يكيدون لهم بالروايات والأشعار . والعادة أن القصص الجيد وقتها كانت تعززه وترصعه روايات الشعر ، فإن لم يوجد فيه شعر اخترعوا له شعرا . والعادة الأسوأ أن يصبح القصص المخترع المختلق المصنوع روايات تاريخية و( احاديث نبوية ) و ( أحاديث قدسية ) . (وكله عند العرب صابون )..واختراع الشعر هو ( أخ شقيق ) لاختراع الأحاديث ، و( أبوهما ) شيخ كبير شهير هو الافتراء .!. ووجد هذا ( الشيخ ) ( وولداه ) سوقا نافقة فى عصر التدوين الذى قام بتدوين كل الروايات الصحيح منها و المصنوع ، وهنا ندخل على جزئية خطيرة تخص موضوع الاستلحاق .
4 ـ صناعة الأحاديث
4 / 1 : تقول احدى الروايات : ( شهد لزياد رجل من البصرة ، وكان الحسن البصري يذم هذا من فعله ويقول‏:‏ استلحق زيادًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر‏"‏‏.‏ ). الرواية ركيكة ، والحديث المذكور فيها (الولد للفراش وللعاهر الحجر) أكثر ركاكة وسماجة ، وهو يعنى أن ينسب الولد لصاحب الفراش ،أى الزوج . أما الزانى العاهر فله الحجر. بمعنى أن الزوج المخدوع يتم تكريمه بنسبة الطفل له حتى لو كان معروفا والده فى الحرام ، أما هذا الوالد العاهر الزانى فليس له إلا أن يلتقم حجرا .
ومع ركاكة ذلك الحديث وسماجته فهو يخالف القرآن الكريم ، وذلك ما سنعرض له فيما بعد .
ولكن المهم الآن أن حديث ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) تمت صناعته بسبب قصة الاستلحاق ، وتأسست شهرته فى كتب الفقه السنى بعدها ضمن شريعة الدين السّنى. هذا مع أنه فى هذه الرواية منسوب للحسن البصرى ، وهو أحد شيوخ التابعين فى العصر الأموى ، يعنى لم يعش ولم ير النبى محمدا عليه السلام فكيف يروى عنه مباشرة ؟ هذا على فرض أن الحسن البصرى قال ذلك فعلا ، ولم يختلقوا تلك الرواية عنه بعد موته .. وهذا هو الأقرب للتصديق .
ومع ذلك فلم يكن الحديث الوحيد المصنوع فى هذا السياق.
4 / 2 : تقول رواية أخرى : (... وأخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد ابن جعفر قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا هشيم قال‏:‏ حدَّثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان قال‏:‏ لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت‏:‏ ما هذا الذي صنعتم إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام"‏ فقال أبو بكرة‏:‏ وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم). هذه الرواية تمت كتابتها فى العصر العباسى الثانى حسب ترتيب رواتها من ابن جعفر الى ابن احمد بن حنبل ، أى بينها وبين زياد واستلحاق زياد أكثر من مائتى عام. أى ظلت قضية الاستلحاق مشتعلة حتى عصر الحنابلة . لا رضى الله تعالى عنهم .
5 : جدل فقهى فى الاستلحاق
5 / 1 ـ ويقول المؤرخ ابن الأثير صاحب (الكامل ) فى التاريخ بعد تلك الرواية : ( وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانيةً فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك ، فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد‏.‏ وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة وجرى أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها‏.‏ )
وابن الأثير امتاز بأسبقيته كمؤرخ فى نقد الروايات واختيار ما يراه صحيحا منها ، ولذلك قام باختيار ما يراه صحيحا من روايات الطبرى المتعددة فى الحدث التاريخى الواحد .ومع ذلك لم تخل روايات ابن الأثير من التناقض ، علاوة على التقديم والتأخير والاختلاف فى سنوات الأحداث .
وكالطبرى كان ابن الأثير كان من أئمة الحديث والتاريخ معا ، وهو فى روايته السابقة يؤكد على حديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر )، ولكنه يعترف بالتأثير الكبير لموضوع الاستلحاق ، وكيف تجلى هذا التأثير فى صناعة أقاصيص كثيرة يطول بذكرها الكتاب فأضرب عن ذكرها .
5 / 2 ـ وطبقا لمنهجه فى الانتقاء فقد ذكر بعض تلك الأقاصيص ورآها صحيحة ، ومنها عدم اعتراف السيدة عائشة بالاستلحاق : (‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد ) .
وعززها برواية أخرى : (قيل‏:‏ أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية، فسمع أخوه أبو بكرة ، وكان مهاجرًا له ( أى مخاصما لزياد ) من حين خالفه في الشهادة بالزنا على المغيرة بن شعبة ، فلما سمع بحجه (أى بمجيئه ) جاء إلى بيته وأخذ ابنًا له، وقال له‏:‏ يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولابد من قدومك إلى المدينة ولاشك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أذنت لك فأعظم به خزيًا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيبًا لأعدائك‏.‏ فترك زياد الحج وقال‏:‏ جزاك الله خيرًا فقد أبلغت في النصح‏.‏ ).
وهذه الرواية يغلب في وضعها إفتراض فقهى على عادة الفقهاء فى تصور وافتراض صور فقهية يصدرون بشأنها حكما فقهيا .فإن كان معاوية قد الحق زيادا بنسبه فأصبح أخاه من أبى سفيان ،فبالتالى يكون زياد أخا لأم المؤمنين أم حبيبة زوج النبى محمد عليه السلام لأنها بنت أبى سفيان، فهل يصح لزياد بناء على هذا الاستلحاق أن يقابل السيدة أم حبيبة (أخته )؟. وتأتى الاجابة فى قصة تقول إن أخاه من أمه ( أبا بكرة ) قد نصحه ألا يحج حتى لا يتعرض لمأزق مقابلته لها . وهناك صيغ مختلفة لتلك الرواية، وروايات أخرى تزعم أنه قام بالحج وطلب مقابلتها فرفضت.
5 / 3 ـ ولا أعتقد أن أيا منها كان صحيحا . هو فقط تعبير عن جدل فقهى لاحق فى العصر العباسى تم التعبير فيه ــ ليس بالحجة الفقهية ــ ولكن بتأليف الروايات ، لذا تناقضت الروايات تبعا لاختلاف المتجادلين.
فالسياق التاريخى لا يرحج صدق هذه الروايات .
فسرعان ما تولى زياد الحكم وانشغل به ، ولم يكن يهمه أحد فى الحجاز ، كل ما يهمه هو موقف أهله الجدد من الأمويين ، وقد أغلظ لهم معاوية على غير عادته فى الحلم والنفاق حت رضوا بالوافد الجديد، وبذلك لم يكن هناك متسع أمام زياد إلا أن ينفذ سياسة معاوية فى حكم العراق وفارس وكرمان بالحديد والنار. وفى مشاكل العراق ومتاعب المعارضة فيه ما يشغل زياد ، وفعلا فقد انشغل به زياد الى آخر لحظة من حياته. .
5 / 4 ـ على أن الجدل فى موضوع الاستلحاق قد تطور وتطرف الى أن أوجد مدافعين عن معاوية والاستلحاق . يقول مؤرخنا ابن الأثير ينقل وجهة نظرأولئك المدافعين : ( ومن اعتذر لمعاوية قال‏:‏ إنما استلحق معاوية زيادًا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعًا لا حاجة إلى ذكر جميعها ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرق بين شيء منها ، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام).
ويرد ابن الأثير عليهم فيقول : (وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة‏.‏ ).
وقول ابن الأثير يستحق القهقهة بصوت عال ، فهو يقول (وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ) فلو كان المسلمون متفقين على إنكاره فهل أولئك المدافعون عن معاوية من أستراليا أم من نفس المسلمين ؟ ويقول : (ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة ) فهل يكون كل حكم جديد باطلا لمجرد أنه جديد لم يعرفه ولم يطبقه السابقون ؟ .
6 ـ ونأتى لرأينا فى الاستلحاق :
6 / 1 . لو استلحقه ابوسفيان فى حياته ما كانت هناك مشكلة . المشكلة فى أن الاستلحاق حدث بعد موت مرتكب الجريمة أبى سفيان، والقائم بهذا الاستلحاق هو معاوية ابنه ، وقد استشهد فيه بالشهود . وبشهادتهم تم العلم بأن أبا سفيان هو الأب المجهول لزياد ابن ابيه. بعدها اصبح من حق زياد أن ينتسب (لأبيه ) أبى سفيان ، طالما تم العلم بالأب وفق ظروف العصر . وهذا جائز شرعا فى رأينا .
6 / 2 : وهنا نستعير بعضا مما كتبناه فى قضية استلحاق بنت هند الحناوى بابيها احمد الفيشاوى حين رفض الاعتراف بها : قلت :
(الفيصل هنا هو كتاب الله تعالى، يقول تعالى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم فى الدين ومواليكم) ألأحزاب 5"
ونستخلص من الآية الكريمة الأحكام التالية:
ِأ ـ ان المجتمع هو المخاطب فى هذه الآية التى تخاطب جموع المسلمين قائلة ( ادعوهم ) ، وينصب الخطاب بالطبع على المختصين بالتشريع والتقنين والقضاء ، أى أولو ألأمر الذين يمثلون المجتمع. عليهم الحاق الأطفال بنسب الأب اذا كان الأب معروفا . الأب ليس مخاطبا هنا وانما المجتمع.
ب ـ ان لم يكن الأب معروفا فيكون المولود أخا فى الدين وجزءا من المجتمع.
ج ـ اثبات نسب المولود لأبيه هو الأقسط والأعدل عند الله تعالى ، لأن من حق المولود أن يرث والده وان يتمتع بكل حقوق البنوة وكل حنان الأبوة ورعاية الأسرة. وحرمانه من تلك الحقوق ظلم لا يرضاه الله تعالى، وأفظع الظلم أن يكون المظلوم طفلا بريئا لا ذنب له .
3ـ ولكن كيف للمجتمع أن " يعلم " أن هذا الطفل من هذا الرجل ؟
مفهوم الآية الكريمة أنها تخاطب المجتمع بأن ينسب الطفل الى أبيه اذا كان الأب معلوما للمجتمع فان لم يكن الأب معلوما فالطفل أخ فى الدين للجميع.
موضوع " العلم " يستحق وقفة . حين نزلت الآية كان علم المجتمع الصريح والضمنى هو المقياس. وكانت الجاهلية تعرف أنواعا مختلفة من الزواج مثل الجمع بين الأختين وزواج من سبق وتزوجها الأب، وزواج الأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة. وهذه الزيجات حرمها الله تعالى، ولكن أقرّ القرآن ما نتج عن هذه الزيجات من أطفال طبقا لاعتراف المجتمع بهم.
أكثر من ذلك عرفت الجاهلية علاقات غير شرعية مثل السفاح وزواج الأخدان أى العشيقات ، وقد اعتبرهما القرآن زنا ، ولكن أقرّ القرآن الأنساب التى جاءت طبقا لتلك العلاقات غير الشرعية.
والمشهور فى تاريخ المسلمين أن الصحابى عمرو بن العاص جاء ولدا من الزنا ونسب لأحد المترددين على أمه وكانت احدى البغايا . وحمل عمرو نسب أبيه العاص الذى اختارته له أمه من بين عشاقها الكثيرين ، واعترف المجتمع بهذا النسب ، ونزل القرآن فأقرّ كل الأنساب كما هى ومنها نسب عمرو بن العاص.
أكثر من هذا نزل الذكر الحكيم من الله تعالى الذى يعلم الغيوب ليؤكد ان بعض أعداء النبى محمدا هو ولد زنا ، وقد أسلم ابن لهذا الرجل وصار من مشاهير الصحابة ، ولا يزال يحمل نسب والده المزعوم ، لقد قال تعالى عن ذلك العدو الأثيم "( عتل بعد ذلك زنيم ) ( القلم 13 ) جاء فى تفسير الجلالين شرحا لكلمتى (عتل ) ( زنيم ) أى : ّ" غَلِيظ جَافٍ "بَعْد ذَلِكَ زَنِيم" دُعِيَ فِي قُرَيْش وَهُوَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْد ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة ) الوليد بن المغيرة هو والد خالد بن الوليد.
ويرى القرطبى انها نزلت فى الأخنس بن شريق ، يقول القرطبى : (وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَس بْن شَرِيق , لِأَنَّهُ حَلِيف مُلْحَق فِي بَنِي زُهْرَة , فَلِذَلِكَ سُمِّيَ زَنِيمًا . .. . وَقَالَ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ : إِنَّمَا اِدَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْد ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة. ) وكل من خالد والأخنس يحمل سلسلة نسب أبيه الى النهاية.
المهم ان النسب لم يتغير فى تلك الحالة حتى مع وجود نص على ثبوت الزنا، فطالما اعترف المجتمع وعلم بالنسب وأقرّه فيكون النسب معترفا به.
الأهم ان علم المجتمع بصحة النسب لم تكن يقينية ، بل اقترن بعضها بحق الاهى يقينى يثبت أن الأب نفسه كان " زنيما " او كان الطفل ثمرة لعلاقة زنا من امرأة محترفة تنسب الابن لمن تشاء من عشاقها . ومع ذلك أقّرّ المجتمع ذلك النسب ، فأقرّه الاسلام ، والدليل ان جميع كتب التراث التى تتعرض لتاريخ الصحابة تذكر نسب كل صحابى الى أصل قبيلته وفق المتعارف عليه من نسبه الجاهلى . ونعلم عناية العرب بانسابهم ، وتفاخرهم به برغم انها كلها تدخل ضمن الحقائق النسبية التى تحتمل الصدق والكذب. فالحقيقة الأساسية هنا هى ثبوت النسب ضمن المتاح من علم المجتمع مهما لحقه الشك.
نقرأ الآية مرة أخرى ، يقول تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم فى الدين ومواليكم. ) ألأحزاب 5 " تكملة الآية تقول : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما. "
آخر سطر :
نعود الى بداية الموضوع .
لقد شهد هذا العصر ستة أشخاص من كبار دهاة العالم قل أن يجتمع أمثالهم معا ، وهم معاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم وزياد بن أبيه والمغيرة بن أبى شعبة . وهم معا أسس تشييد ملك معاوية . ويضاف اليهم داهية آخر هو عبد الله بن عباس . وقد أسهم بطريق غير مباشر فى تأسيس الاستبداد الأموى .
هؤلاء الستة هم بالفعل ( نصف دستة أشرار ) ، منهم واحد مشهور بالزنا مع زواجه بأربعة نساء وتملكه العديد من الجوارى ، إنه المغيرة بن أبى شعبة . ومنهم إثنان كل منهما أمه عاهرة ،هما زياد بن أبيه وعمرو بن العاص . ما قولكم ؟ دام فضلكم ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثانيا : ( زياد يعظ ) :
خطبة زياد فى إعلان الأحكام العرفية لأول مرة فى تاريخ المسلمين

تاريخ النشر: 2010-03-02

مقدمة :
1 ـ كان والى البصرة لمعاوية هو (ابن عامر) وكان لينًا لا يأخذ على أيدي السفهاء ولا يعاقب، فانتشر الفسق والانحلال فى البصرة مرتبطا بكونها مركز المعارضة السياسية لمعاوية، وزارأحد الصحابة معاوية، وهو ابن الكواء - واسمه عبد الله أبن أبي أوفى ـ فسأله عن الناس فقال‏: ‏"أما البصرة فقد غلب عليها سفهاؤها وعاملها ضعيف" فعزله معاوية، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي‏ واليا مكانه.‏ وكان ذلك فى أوائل عام 45. وبقى الحارث واليا على البصرة عدة أشهر الى أن عزله معاوية ليولى مكانه زياد بعد أن استلحقه ، وكان ذلك فى نفس العام 45.
2 ـ وقتها كان المغيرة بن أبى شعبة واليا على الكوفة. وكان زياد قد جاء من فارس وتوقف فى الكوفة ينتظر قرار معاوية. وتوجس المغيرة من قدوم زياد الى الكوفة بالذات ، وخشى أن يعزله معاوية من ولاية الكوفة ليعيّن زيادا مكانه فيها . فقال المغيرة لصديقه وائل بن حجر الحضرمي‏:‏ إعلم لي علمه، أى أرسله الى زياد ليستطلع منه سبب مجيئه الى الكوفة بالذات ، تقول الرواية (فأتاه فلم يقدر منه على شيء). أى تحوط زياد فى حديثه معه فلم يخبره بشىء. واشتعلت مخاوف المغيرة، فذهب إلى معاوية، وطلب إستعفاءه من ولاية الكوفة وأن يعيش فى منطقة قرقيسيا، فخاف معاوية منه لأنه سيكون هناك بين جماهير قومه من قبائل قيس، أى يصبح بهم خطرا على معاوية، فألزمه بالرجوع الى عمله واليا على الكوفة، وقال له‏:‏(لترجعن إلى عملك)‏.‏ (فأبى، فازداد معاوية تهمةً له،فرده على عمله، فعاد إلى الكوفة ليلًا ).
3 ـ وسرعان ما أرسل معاوية زيادا‏ واليا على البصرة، فقدمها في آخر شهر ربيع الآخر أو غرة جمادى الأولى من هذه السنة 45، وأضاف اليه خراسان وسجستان.
تقول الروايات إن زيادا قدم البصرة (والفسق ظاهر فاشٍ فخطبهم خطبته البتراء، التى لم يحمد الله فيها). وفى تلك الخطبة البتراء الشهيرة عام 45 أعلن زياد الأحكام العرفية ،أو قانون الطوارىء، ليسجل سبقا سيئا فى تاريخ المسلمين. وسميت (الخطبة البتراء) لأنها خلت من تحميد الله سبحانه وتعالى، على غير العادة فى الخطب.وقد جمعت تلك الخطبة بين الانذار والوعظ ، والتهديد والوعيد فى أروع أسلوب.
ونتوقف بالتحليل مع هذه الخطبة التى تعد أحدى عيون الأدب العربى، وأشهر الخطب فيه.
نصّ الخطبة :
(اما بعد فان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغيّ الموفي بأهله علي النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الامور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشي عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول؟ اتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية علي الباقية؟ ولا تذكرون انكم احدثتم في الاسلام الحدث الذي لم تسبقوا اليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، وهذه المواخير المنصوبة ؟ والضعيفة المسلوبة(أى المرأة التى يغتصبونها) في النهار المبصر والعدد غير القليل؟ الم يكن منكم نُهاةٌّ يمنعون الغواة من دلج اليل وغارة النهار؟ قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر وتغضون عن المختلس.! اليس كل امرئ منكم يذب عن سفيهه ؟ صنع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ؟ ما انتم بالحلماء ، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم حتي انتهكوا حرمة الاسلام، ثم اطرقوا وراءكم كنوسا (اشخاص مشبوهين) في مكانس (اماكن) الريب (أي التهم) . حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا.
اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله، لين في غير ضعف، و شدة في غير عنف، واني أقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتي يلقي الرجل منكم اخاه فيقول (انج سعد فقد هلك سعيد)، او تستقيم لي قناتكم. (أي تسيروا علي الطريق المستقيم). ان كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فاذا تعلقتم علي بكذبه فقد حلت لكم معصيتي، واذا سمعتموها فاغتمزوها في، واعلموا ان عندي امثالها، من نقب منكم عليه فانا ضامن لما ذهب منه. فأياي ودلج الليل فاني لا اوتي بمدلج الا سفكت دمه، وقد اجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع اليكم، واياي ودعوي الجاهلية فأني لا اخذ داعيا بها الا قطعت لسانه. وقد احدثتم (اخترعتم) احداثا وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة، من غرّق قوما غرّقناه ، ومن احرق قوما احرقناه ، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، فكفوا عني ايديكم والسنتكم اكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر علي احد منكم ريبة (شبهة) بخلاف ما عليه عامتكم الا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين قوم إحنُّ (كراهية وخصومة) فجعلت ذلك دبر اذني وتحت قدمي ، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا، ومن كان منكم مسيئا فليدع إساءته، اني والله لو علمت ان احدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعا ولم اهتك له سرا حتي يبدي لي صفحته، فاذا فعل ذلك لم اناظره، فاستأنفوا اموركم وارعوا علي انفسكم، فرب مسوء بقدومنا سنسره، ومسرور بقدومنا سنسوؤه.
ايها الناس : انا اصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ونذود عليكم بفئ الله الذي خولنا ، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا ، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا . واعلموا اني مهما قصرت فلن اقصر لثلاث : لست محتجبا عن طلب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن ابانه، ولا مجمرا لكم بعثا (أي لا يبقي الجيش في ارض العدو في غير زمن الغزو). فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فانهم ساستكم المؤدبون لكم ، وكهفكم الذي اليه تأوون ،ومتي يصلحوا تصلحوا ، ولا تشربوا قلوبكم ببغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا به حاجتكم ، مع انه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم .اسأل الله ان يعين كلا علي كل ، واذا رأيتموني انفذ فيكم الامر فانفذوه علي اذلاله ( أي علي حاله ) وايم الله ان لي فيكم لصرعى ( قتلى ) كثيرة فليحذر كل امرئ منكم ان يكون من صرعاي .) .
تحليل الخطبة
الهدف الاعلامي للخطبة :
في فترة الاضطراب السياسي عرفت البصرة التمرد السياسي اضافة الي التمرد الاخلاقي ، خصوصا مع ضعف الولاة عليها من قبل معاوية ، ومنهم ابن عامر والحارث بن عبد الله الازدي الذي ظل واليا اربعة اشهر، وبعد ان انضم زياد الي معاوية اصبح لمعاوية فارس وخراسان ، وهما اهم اقاليم البصرة ، وكان منوطا بزياد ان يتولي البصرة بكل الاقاليم التابعة لها .
وحيث ان مدينة البصرة نفسها كانت عاصمة للانحلال والتمرد وقتها فكان لابد من اصلاحها واخضاعها بالشدة والعنف ، وحيث ان شخصية الوالي تعرف من خلال لقائه الاول بالناس ، ومن خلال خطبته فيهم ، فقد حرص زياد علي ان يقدم نفسه ويعلن سياسته في تلك الخطبة البتراء التي خلت من الحمد والتسبيح ، وكل ذلك لخدمة الهدف الاعلامي للخطبة، وهي تبرير اعلانه الاحكام العرفية علي البصرة وولايتها لاخضاعها للسلطة الاموية سياسيا ، وتأكيد الأمن فيها اجتماعيا.
وسائل تحقيق الهدف الدعائي للخطبة :
تحليل الخطبة من حيث الفصاحة والسياسة :
عبقرية زياد تظهر في فصاحته ودهائه وحُسن سياسته ، وبهذه العبقرية تمكن وهو مجهول النسب من الوصول الي الصف الاول بين الساسة في عصره مع انه لم تكن له عشيرة ولا نسب ولا سابقة في الاسلام ولا تميز في الفتوحات او المعارك الاهلية ، وتتجلي في هذه الخطبة عبقرية زياد من حيث الشكل ومن حيث المضمون .
من حيث الشكل تظهر عبقريته في الفصاحة .
وقد شهد له بهذه الفصاحة في خطبته بعض السامعين من فصحاء العرب ، اذ قام عبد الله بن الاهتم فقال لزياد بعد ان اتم خطبته : اشهد ايها الامير انك اوتيت الحكمة وفصل الخطاب ) وقال له الاحنف ابن قيس ( قد قلت فأحسنت ايها الامير ..) .
ومن مظاهر الفصاحة في لغة الخطبة :
1 ـ بدؤها بدون بسملة او حمد لله ، لأن ذلك يوحي باللين والتسامح والعفو والمغفرة ، وليس هذا هو الهدف الاعلامي من تلك الخطبة البتراء ، وزياد استفاد هذه البلاغة من القرآن الكريم حيث نزلت سورة (براءة ) بدون بسملة وافتتحت بالبراءة من المشركين المعتدين ، وجعلت لهم اجلا مدته اربعة اشهر حتي يتوبوا عن اعتدائهم وعصيانهم ، وربما وجد زياد حال البصرة وسكانها اشبه بحال اولئك المشركين المعتدين ، فنسج خطبته علي منوال افتتاحية سورة براءة ( السورة رقم 9 في القرآن الكريم ).
وزياد هو اول من ابتدع هذه النوعية من الخطب ، أي الخطب البتراء ، ويقول الجاحظ في كتابه البيان والتبيين ( علي ان خطباء السلف الطيب واهل البيان والتابعين لهم باحسان مازالوا يسمون الخطبة التي لم تبدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد : البتراء ، ويسمون الخطبة التي لم توشح بالقرآن وتزين بالصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم : الشوهاء ) .
2 ـ من حيث البلاغة فى الاسلوب ، فقد حفلت الخطبة (بالمحسنات اللفظية) من (الطباق) و(المقابلة) و(الجناس) .
2/ 1 : و(الطباق) هو ايراد لفظين متناقضين في المعني في سياق واحد ، مثل قوله ( ما فيه سفهاؤكم .. ويشتمل عليه حلماؤكم ")( الصغير .. الكبير ) ( اختار الفانية علي الباقية )( دلج الليل وغارة النهار ") ( قربتم القرابة وباعدتم الدين )(ما انتم بالحلماء ، وقد اتبعتم السفهاء )(آخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله )(لآخذن الولي بالمولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم ) .
والأمثلة فى القرآن الكريم كثيرة ( للطباق)، ومنها (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ )(الحديد 3)( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ) ( فاطر 19 ـ ).
2 / 2 : وحين يقع التناقض بين اكثر من لفظ في جملتين متقابلتين يتحول (الطباق) الي (مقابلة)، وذلك كقوله تعالي (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا) (التوبة / 82) فالضحك القليل في الجملة الاولي يقابله البكاء الكثير في الجملة الثانية. ونظير ذلك قوله جل وعلا (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار 13 ـ )
وتكررت المقابلة في خطبة زياد ومنها قوله (ولم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد الله حق الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الاليم لأهل معصيته) فالثواب الكريم لأهل الطاعة ، يقابله العذاب الاليم لأهل المعصية، ومنها قوله (فرب مسوء بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سنسوؤه) فالمقابلة هنا بين المبتئس الذي سيصبح مسرورا والمسرور الذي سيصبح مبتئسا عندما يأتي الامير. وأيضا (فلنا عليكم.. ولكم علينا) (لين في غير ضعف.. وشدة في غير عنف).
3 ـ اما الجناس فهو اشتراك الالفاظ المختلفة في المعني في بعض الحروف، أو كل الحروف.
ويكون الجناس ناقصا كقوله تعالي ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (التكوير:15، 16). ويكون الجناس كاملا تاما اذا اشترك اللفظان المختلفان في المعني في كل الحروف كقوله تعالي (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم 55) .
وتكرر الجناس في خطبة زياد مثل قوله (المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة) ( لين في غير ضعف.. وشدة في غير عنف) (انج سعد فقد هلك سعيد) (من غرق قوما غرقناه) (ومن حرق قوما حرقناه.. ومن نقب بيت.. نقبت عن قلبه) (نهاة تمنع الغواة)
4 ـ وبالإضافة للمحسنات اللفظية هناك البلاغة المعنوية من الاستعارة والتشبيه والكناية.
فيقول عن المرأة التي تتعرض للاختطاف والاغتصاب (الضعيفة المسلوبة) وهي كناية شديدة الوقع.
ويأتي التشبيه بقوله ( أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا). فتشبيههم في غيهم وعماهم بالذي دخل عينيه شئ اعاقها علي الابصار .
وهناك استعارة في قوله (طرفت عينه الدنيا) (وسدت مسامعه الشهوات).
ويأتى في غاية الفصاحة قوله عن الفساق المستترين في المنعطفات المظلمة والطرقات المهجورة (ثم اطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب) والكنوس او الكنس بمعني مستتر، ومنها قوله تعالي عن النجوم المستترة الجارية في الفضاء الكوني (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)، ويقول عن الحكام (كهفكم الذي اليه تأوون).
ومن المبالغة في الاستعارة قوله وقد اجاد فيه (اني لو علمت ان احدكم قد قتله السُّل من بغضي لم اكشف له قناعا).
4 ـ وتلك البلاغة المعنوية وتلك المحسنات اللفظية استخدمها زياد ليوقع التأثير العميق في المستمعين فى عصر الفصاحة العربية، وليقنعهم بهذه الفصاحة اللفظية والمعنوية بصدقه فيما يقول عن إجراءاته المتشددة وعزمه علي تنفيذها .
ويمكن مراجعة قراءة الخطبة ليتبين ان زياد احسن توظيف تلك المحسنات اللفظية والبلاغية خصوصا في الجزء الاول من خطبته الذي حفل بالهجاء لأهل البصرة وبوعظهم في نفس الوقت. ثم احسن ايضا في توظيف فصاحته في الجزء الثاني حين اخذ يهددهم في لغة شديد وفصيحة ، ثم جاء الجزء الثالث اكثر هدوءا فكان الاسلوب اقرب الي الاسلوب التقريري وابتعد عن الاسلوب الادبي والمجازي ليلائم الحال .
هذا عن عبقرية زياد في خطبته من حيث الفصاحة ، او الشكل العام .
ويوازي هذا عبقريتة في خطبته من حيث المضمون .
فالخطبة تنقسم الي ثلاثة اقسام : البداية ، والوسط ، والخاتمة ..
البداية :
1 ـ في البداية بادر بهجاء اهل البصرة والهجوم عليهم وقرن ذلك الهجوم بالوعظ الديني . وهذه النوعية من الوعظ المقترن بالتهديد والوعيد والقتل بسيف السلطان تناسب حال زياد.
2 ـ ويلاحظ انه لم يستخدم في الوعظ ايه قرآنية مع اشارته في معرض هجومه عليهم الي هجرهم كتاب الله ( كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما اعد الله …الخ ).
3 ـ كما انه لم يستشهد بأي حديث منسوب للنبي عليه السلام ، اذ انه في تلك الفترة لم تكن للأحاديث دولة رائجة في الرواية الشفهية، وقد بدأت روايتها الشفهية علي اتساع فيما بعد ، ثم يدأت كتابتها بعد هذا الوقت بقرن من الزمان .
4 ـ كما أن مصطلح (السنة ) بمفهومه الدينى لم يكن بعد معروفا أو مستعملا .لذا لم يرد فى خطبة زياد. كل ما قاله هو الآيات القرآنية و الكتاب (كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرأوا كتاب الله ).
ففى القرن الأول الهجرى لم يحدث أبدا ـ أقول أبدا ـ فى أى خطبة رسمية أن يقال (الكتاب والسّنة ) بل الكتاب فقط . وحتى بعد عصر (زياد ) بنصف قرن تقريبا خطب عمر بن عبد العزيز أول خطبة له بعد توليه الخلافة فذكر فيها الكتاب فقط ونفى وجود شىء معه ، إذ لم يكن فى ثقافة المسلمين وقتها شىء يسمى السنة . يروى ابن سعد فى الطبقات الكبرى فى ترجمة عمر بن عبد العزيز ، أنه عندما تولى الخلافة بعد موت ابن عمه سليمان بن عبد الملك : (خرج الى المسجد فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال :أما بعد ، فانه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد الكتاب الذي انزل عليه كتاب ، الا ان ما احل الله حلال الى يوم القيامة وما حرم الله حرام الى يوم القيامة. الا اني لست بقاض ولكني منفذ. الا اني لست بمبتدع ولكني متبع الا انه ليس لاحد ان يطاع في معصية الهك .الا اني لست بخيركم ولكني رجل منكم غير ان الله جعلني اثقلكم حملا ).
5 ـ والمستفاد من هذا ان زياد في وعظه استخدم اسلوبه الشخصي ، وقرن الوعظ بتوضيح مثالب اهل البصرة من الصغار والسفهاء الي الكبار والزعماء ، حيث فشا فيهم الفسق والظلم في الليل والنهار .
وكان ممكنا ان يستشهد زياد بالقرآن الكريم وفيه اروع ما قيل بالعربية الفصحي في الوعظ والترغيب والترهيب ، الا ان ذلك لن يعطي لزياد فرصته في اظهار فصاحته الشخصية ، وهي احدي مظاهر عبقريته، وبها يستطيع بهذا الاسلوب الدعائي احكام سيطرته السياسية .
وهذه المبادرة الحادة بالهجوم كانت مقدمة لما جاء في وسط الخطبة من اعلانه لسياسته او احكامه العرفية التي لم تكن معروفة قبل زياد .

6ـ لقد قامت سياسة معاوية علي اساس الحلم والمداراة ، وهو القائل ( لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قالوا كيف ؟ قال : اذا شدوها ارخيتها ، واذا ارخوها شددتها ). ولم تكن هذه السياسة لتجدي في البصرة وولاياتها في المشرق ، وهي احد اهم مراكز المعارضة السياسية للحكم الاموي الجديد ، وبسبب انفتاح البصرة علي الخليج والعالم واتساع الولايات التابعة لها ، وكونها مجتمعا متعدد الاعراق فان تمردها السياسي اقترن بانفلات اخلاقي مع ضعف الولاة وكثرة توليهم وعزلهم .وهذه الحالة في رأي زياد لا يجدي معها تطبيق الاحكام الشرعية العادية ، كما لا يجدي معها تطبيق سياسة معاوية في اللين والمداراة ، وانما تحتاج الي نوعية من الاحكام العرفية لا تأخذ المجرم فقط ، وانما تستهدف المحيطين به .
وهذه الاحكام العرفية التي بدأ بها زياد فى تاريخ المسلمين كان لابد من اسلوب خاص في إعلانها ، أي لا يصح ان يبدأ بها خطبته ، وانما يمهد لها بمقدمة هادرة يقرن فيها الهجوم والانتقاد الحاد بالوعظ الجاد، ثم بعدها يدخل في تفصيل احكامه العرفية . وبعد ان وزع هجاءه ووعظه علي الجميع من السفهاء والحلماء والرعاع والزعماء داعيا للاصلاح ومنحازا للفضيلة ، وبعد ان تيقن من إحساس المستمعين بالخجل والعار بدأ في الموضوع الاساسي للخطبة ، وهو وسطها ، او الاحكام العرفية التي فرضها علي اهل البصرة .
الوسط :
وفي هذا الجزء يبدأ بقوله عن اماكن الفجور ( حرام علي الطعام والشراب حتي اسويها بالارض هدما واحراقا ) فهذا ينذر نذرا ويقسم قسما انه لن يأكل ولن يشرب حتي يهدم ويحرق اماكن الفجور تلك .. وبالتالي يكون تنفيذ هذا القسم – وهو سهل ميسور – اصدق دليل علي عزمه في تنفيذ سياسته ..
ثم بعدها بدأ يوضح سياسة واحكامه العرفية :
اهم معالم هذه السياسة :
المظهر الأول :
1 ـ معاقبة المخطئ ومن حوله ، فهو يعاقب الولي بالمولي و المقيم بالظاعن .. الخ .. وهذا يناقض القرآن وتشريع الاسلام القائل (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (فاطر18) (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(الاسراء 15) (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم 38) فليس في الاسلام ان يعاقب البرئ بذنب المجرم، ولهذا فان احد الخوارج وهو ابو بلال مرداس بن ادية قال ليزيد معلقا علي خطبته (انبأنا الله غير ما قلت ، قال الله عز وجل: وابراهيم الذي وفى، الا تزر وازرة وزر اخري، وان ليس للانسان الا ما سعي) فأوعدنا الله خير مما اوعدتنا يا زياد، فقال له زياد: انا لا نبلغ ما نريد فيك وفي اصحابك حتي نخوض اليكم في الباطل خوضا).
اذن يعترف زياد ببطلان هذه الاجراءات التشريعية، الا انها ضرورة في نظره لمواجهة الانفلات الامني الذي اسهب في الهجوم عليه..
ويهمنا هنا أن زيادا قد أسس هذه القاعدة الظالمة ، وهى معاقبة البرىء بجرم المجرم ، وهى أهم إجراءات السياسة القمعية للنظم الاستبدادية العربية حتى الآن .ويستعملها نظام مبارك فى مصر سياسة ثابتة يتعامل بها مع الخصوم السياسيين، بل ويتعامل بها البوليس المصرى فى إرغام البرىء على الاعتراف بما لم يقترفه بتهديده بانتهاك حرمة بيته ، ومن العادات الهمجية للبوليس المصرى فى عهد العسكر اتخاذ الأقارب رهائن والقبض عليهم لارغام المطلوب على تسليم نفسه . هذا القمع وذاك الظلم قننه زياد فى تلك الخطبة (الوعظية )، وسار عليها المستبد الشرقى حتى الآن.
ولم ينفع مع زياد وعظ مرداس له حين ذكّره بالقاعدة القرآنية، بل اعترف بصراحة أنه يخوض فى الباطل خوضا ليواجه الخوارج.
وعلى أى حال فقد كان لزياد شجاعة الاعتراف بأنه على الباطل هنا، ولكن المستبدين من بعده ـ وحتى الآن ـ ليسوا فى مثل شجاعته وليسوا فى مثل فصاحته .
2 ـ وهناك تناقض اخر في خطبة زياد، ليس مع القرآن فقط، ولكن مع فقرات من الخطبة نفسها، اذ انه يقول (اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله، لين في غير ضعف و شدة في غير عنف، واني اقسم بالله لأخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن.. الخ..). وهنا يقع التناقض. فكيف يتأتي اللين مع معاقبة المظلوم البرئ؟ وكيف لا تكون معاقبة البرئ شدة وعنفا ؟
ثم ان زياد يخطئ حين يزعم ان سياسته هذه هي نفس السياسة التي صلح بها حال المسلمين الاوائل في عهد النبي عليه السلام، اذ يقول (اني رأيت اخر هذا الامر لا يصلح الا بما صلح به اوله) فالواقع التاريخي يؤكد ان تلك الاحكام العرفية كان زياد اول من طبقها في تاريخ المسلمين .وفي النهاية فان الباعث لزياد علي هذه السياسة هو ان اهل البصرة كانوا يتعاونون علي الاثم والعدوان، فلابد من اخافة الجميع.. وقد نجح في هذا.
المظهر الثانى من مظاهر سياسته:
1 ـ استحداث عقوبات جديدة لم تكن، والتعليل في قوله (وقد احدثتم احداثا لم تكن وقد احدثنا لكل ذنب عقوبة) أي فالجرائم الجديدة ابتدع لها زياد عقوبات جديدة من جنسها من الاغراق والحرق وشق القلب والدفن حيا وقطع لسان من يتكلم بدعوي الجاهلية.
2 ـ ويلاحظ ان زياد يقرن اعلانه لهذه السياسة بضمان اكيد في ان يقوم بتنفيذها ، وقد اوضح هذا الضمان في صورة علنية اشبه بالتحدي ، ليس فقط في انه اقسم بالله انه لن يأكل ولن يشرب الا بعد احراق اماكن الفساد، ولكن ايضا حين جعلهم شهودا علي انه سيفي بوعيده، واحل لهم العصيان ان لم ينفذ تصريحاته فيقول (ان كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فاذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي)
3 ـ كما ان زياد يقرن تهديده ووعوده وتنفيذ احكامه العرفية بشئ من الرفق والعدل، فلا دخل للعواطف الشخصية في تطبيق تلك الاحكام، فالكارهون لزياد من اهل البصرة والذين يعلم زياد كراهيتهم له لن يبدأهم بسوء حتي يبدأوا هم، أي انه يعفو مقدما عما سلف ويبدأ معهم صفحة جديدة، فمن كان مسيئا فلينزع عن اساءته ومن كان محسنا فليزدد إحسانا.
4 ـ وقد يبدو في الخطبة التركيز علي الجرائم الجنائية دون السياسية التي تعني الخروج علي الدولة، ولو بمجرد الكلام دون الحركة والفعل. والواقع ان دهاء زياد جعله يركز في خطبته علي الجرائم الخلقية ليتخذ منها حجة علي اهل البصرة، ومسوغا لأعلان تلك الاحكام العرفية الاستثنائية..
5 ـ الا انه بين سطور خطيئته جعل عقوبة القتل للمشتبه فيه سياسيا، وصاغ ذلك بأسلوب مطاط يفوق صناعة القوانين الاستثنائية في الدول النامية، اذ يقول (لا يظهر من احد منكم خلاف ما علية عامتكم الا ضربت عنقه) فالعوام مع الدولة، ومن يخالف رأي العوام يكون خارجيا، والخوارج هم اهم اعداء الدولة الاموية في ذلك الوقت.. وليس تعبيرا محددا توصيفه لتلك الجريمة التى تستوجب عنده ضرب العنق، مجرد قوله (لا يظهر من احد منكم خلاف ما علية عامتكم الا ضربت عنقه)
وكانت ثورات الخوارج وغيرهم – ولا تزال – تبدأ بدعوة ومقال ودعاية، ونري زياد لها بالمرصاد فيقول محذرا (واياي ودعوي الجاهلية ، فأني لا أجد أحدا دعا بها الا قطعت لسانه) ودعوي الجاهلية عبارة مطاطة يفسرها الحاكم حسب هواه. أى إنه جعل عقوبة قطع اللسان لمن يتكلم ضد السلطان. وللسلطان وحده تحديد نوعية الكلام الذى يكون مناط العقوبة ،سواء كانت قطع اللسان أو ضرب العنق.
أى إن عبقرية زياد جعلته يستخدم اسلوب الوعظ فى تمرير أحكام استثنائية غاية فى القسوة، تصادر مقدما حرية التعبير التى كفلها معاوية نفسه حين قال قولته الشهيرة (إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). وقد فهم ابو بلال مرداس بن ادية خطورة تلك الخطبة وما تعلنه من سياسة فاعترض، فاعترف زياد بأنها الطريق الوحيد لمواجهة الخوارج، حتي ولو سار في طريق الباطل.
6 ـ ونجح زياد في تطبيق هذه السياسة في البصرة حتي اضاف له معاوية ولاية الكوفة ، وكان للشيعة في الكوفة تأثير في ولاية المغيرة بن شعبة عليها ، وكانوا يهاجمون المغيرة اذا بدأ في الخطبة في شتم علي ابن ابي طالب ، وكان قائد الشيعة في ذلك حجر بن عدي الكندي ، وراح حجر بن عدي ضحية لسياسة زياد في الكوفة هو واصحابه ، فكانوا اول قتلي المعارضة القولية في تاريخ المسلمين ، وهذا هو موضوعنا التالى .
في نهاية الخطبة :
يقرن تقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ببعض النصائح وبعض الود الحذر مع التحذير والتهديد ، ولكن في اسلوب اكثر هدوءا .
وتقعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم هنا ينبع من عقيدة الحق الالهي في الحكم الى سبق بها زياد الخليفة العباسى أبا جعفر المنصور. إذ كرر المنصور العباسى ـ بعد قرن تقريبا ـ ما قاله زياد فى هذه الخطبة من أن الحاكم يستمد سلطته ـ ليس من الناس ـ ولكن من رب الناس ، وأنه صاحب الحق الالهى فى السلطة و فى الثروة ، معتبرا أن مشيئة الله هي التي اعطت الحكم للحاكم ، وبهذا الحق الالهي المقدس يمارس الحاكم سلطاته . يقول زياد في ذلك ( نسوسكم بسلطان الله الذي اعطانا ، ونذود- أي ندافع – عنكم بفئ الله الذي خولنا ) أي ان الله هو الذي اعطاه السلطان والاموال ، ولذلك يطلب منهم الطاعة غير المشروطة ( فلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ) أي ليست الطاعة للحاكم مقيدة بطاعة الله ، بل طبقا لما يريده ويحبه السلطان .
ثم يجعل من حقهم علي الحاكم العدل طالما ينصحون للحاكم ، فالعدل هنا مشروط بالمناصحة أي يكونوا اعوانا ناصحين للحاكم ( ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم ) فالسلطان هو الذى يملك الولاية و السلطة ، وهو الذى يملك العدل ويملك الثروة أو الفىء .
وفي سياق فصاحته يؤكد قاعدة سياسية خطيرة ، وهي الطاعة المطلقة للحاكم في مقابل عدل مقيد بمدي نصحهم للحاكم ، ويربط صلاح الحاكم بصلاح الرعية ( ومتي تصلحوا يصلحوا ) وهى حجة وجيهة لتأجيل الاصلاح حتى تنصلح الأمة .وفى النهاية يمنعهم من بغض الحاكم ويأمرهم بالدعاء له بالصلاح ..
وفي اطار تقعيد هذه العلاقة لصالح الحاكم علي حساب المحكوم اعلن انه لن يقصر عنهم في تحقيق ثلاث : انه لن يجعل حجابا بينه وبين أي طالب لحاجة حتي ولو جاءه بالليل ، ولن يمنع عنهم حقوقهم المالية ، ولن يمنع جيشا في ارض العدو من العودة للوطن .وفي النهاية يذكرهم ويحذرهم من عقوبته فيهم ، فيقسم بالله انه له صرعي كثيرين فيهم فليحذر كل منهم ان يكون من صرعاه..
مدي نجاح الخطبة:
واتت الخطبة ثمارها سريعا، فقال الاحنف بن قيس احد زعماء القبائل واشهرهم علي الاطلاق ( قد قلت فأحسنت ايها الامير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وانا لن نثني حتي نبتلي ) أي يعول علي النتائج والافعال وليس علي الوعود والاقوال، او بمعني اخر يؤيد زياد في دعوته الشديدة للاصلاح ، لذلك قال له زياد: صدقت. بينما قال زياد لابن الاهتم: كذبت. ذلك ان ابن الأهثم قال : (اشهد انك ايها الامير قد اوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال زياد له: ذاك بني الله داود عليه السلام، مشيرا الي ما جاء في القرآن بشأن داود (38 / 20) أي انه لم يتأثر بنفاق ومدح ابن الاهتم له، وبادر بتكذيبه.
النجاح الحقيقى للخطبة هو فى مدى تطبيقها.
علي ان النجاح الحقيقي للخطبة – كما اشار الاحنف – يتجلي في التطبيق، وهذا ما حرص عليه زياد اذ استعمل علي شرطته عبد الله بن حصن، فأمهل الناس – وفق ما جاء في الخطبة – حتي يبلغ الخبر الكوفة وعاد اليه وصول الخبر، واطمأن الي وصول التحذير والتهديد الي الجميع، وبعدها بدأ التنفيذ ، فكأن يؤخر صلاة العشاء حتي يصلي اخر من يصلي ثم يأمر رجلا فيقرأ القرآن ساعة او ساعتين ، ثم ينتظر الي ان يصل رجل الي اطراف البصرة وبعدها يخرج صاحب الشرطة فلا يري انسانا بالطريق الا قتله.
واستمر زياد في سياسته فاسرف في العقوبة وعاقب بالظن والتهمة، حتي خافه الناس خوفا شديدا، وتأكد الأمن بحيث كان الشئ يسقط من صاحبه فيظل في مكانه الي ان يأتي صاحبه ويأخذه، وتبيت المرأة دون ان تغلق عليها بابها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها لأحد من قبله، وجمع الي هذه الشدة فصاحة في الخطب استطاع ان يجعلها خير دعاية لسياسته لذلك قال عنه الشعبي اشهر الرواة وكان يعيش في عهده ( ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن الا احببت ان يسكت خوفا من ان يسئ الا زيادا ، فانه كان كلما تكلم اكثر كان اجود كلاما . .)
آخر السطر
ماذا لو تشجع أحدهم وقام علنا بوعظ زياد، وهو صاحب هذه الخطبة الفصيحة فى الوعظ ؟
الاجابة فى الحلقة القادمة عن زياد ومقتل حجر بن عدى الكندى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثالثا : زياد بن أبيه وقتل حجر بن عدى. ( فى سبيل التوريث )
تاريخ النشر: 2010-03-06

1 ـ المستغرب فى موضوع (قتل حجر بن عدى ) شيئان:
الأول: هو كل تلك الضجة المثارة حول مقتله، مع إن زياد بن أبيه قتل الألوف لأسباب أهون من قتله لحجر بن عدى، ثم بلغ عدد الأبرياء الذين قتلوا فى عهد الحجاج وحده أكثر من مائة ألف مسلم لمجرد الشبهة السياسية.
والتعليل هنا سهل.
• لأن حجر كان أول قتيل بسبب ممارسته السلمية لحرية الرأى ، وجاء قتله فتحا لهذا الباب من أبواب الشّر فى تاريخ المسلمين ، وهو إقدام المستبد على قتل المعارضين المسالمين . وهى عادة فاحشة لا تزال سائدة حتى عصرنا .
• ثم إن حجر بن عدى لم يكن شخصا عاديا. لقد كان صحابيا يتمتع بمستلزمات التكريم فى المعيار السّنى ، فهو من قواد الفتوحات ، شارك فى موقعة القادسية ، وفى فتوحات الشام ، وهوالذى قاد فتح منطقة مرج عذراء فى دمشق التى أصبحت عاصمة لمعاوية والتى تم قتل حجر فيها فيما بعد،(ولم ينتبه أحد الى هذا المغزى).
• ويتمتع حجر أيضا باحترام الشيعة فهو من كبار أنصار على ، وانحاز اليه ضد معاوية، وهو الذى تزعم شيعة الكوفة فى معارضتهم السلمية لمعاوية ، وجاء قتل حجر بسبب تلك المعارضة .
• من هنا اشتد الاستنكار على مقتل حجر ، وربما يكون الشخص الوحيد فى عصره الذى أجمعت الشيعة والسّنة والخوارج على استنكار مقتله ، وهذا لم يحدث مثلا فى إغتيال عمر وعثمان وعلى بن أبى طالب.
الثانى : تفسير موقف معاوية فى قتل حجر بن عدى .
فقتله يتنافى مع المشهور عن ( شعرة معاوية) ، وما اتصف به من حلم ومداراة وإيثار للمسالمة ، كما يتناقض مع سياسة معاوية التى أعلنها بقوله (إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). أى قرر حرية التعبير باللسان طالما تقتصر على المعارضة القولية . وفى هذا الاطار كانت معارضة حجر بن عدى الذى بايع لمعاوية و تمسك ببيعته له الى آخر لحظة. كل ما هنالك أنه مارس حقه فى الاعتراض على سياسة أموية معينة ، وفق المسموح به من المعارضة القولية .
المؤرخون فى العصرين العباسى و المملوكى الذين سجلوا أحداث هذا العصر لم يثيروا هذه القضية ، واكتفوا بالرواية . ونحاول هنا البحث عن الاجابة فى ضوء (وعظ السلاطين ).
2 ـ ففى قصة حجر بن عدى نجد حاكما قدم نفسه واعظا فى خطبته البتراء ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ثم يفعل هو المنكر ، فلما تصدى له أحد الشجعان بالوعظ أخذت ذلك الحاكم العزة بالاثم فقتل الواعظ .
3 ـ نتوقف الآن مع قصة حياة حجر بن عدى والسبب المعلن لمقتله ، ثم أخير السبب الحقيقى للتخلص منه لنجيب على السؤال الثانى فى تعليل التناقض فى سياسة معاوية.
أولا: سيرة حياة حجر وفق ما جاء فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد
1 ـ (هو حجر بن عدى بن جبلة بن عدي بن ربيعة الكندي ولقبه: حجر الخير. وكان حجر بن عدي جاهليا إسلاميا، يقال أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عدي. وشهد حجر القادسية ، وهو الذي افتتح مرج عذرى بدمشق .وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء .وكان من أصحاب علي بن أبي طالب وشهد معه الجمل وصفين) أى كان صحابيا ومن قواد الفتوحات ومن كبار أنصار على.
2 ـ (فلما قدم زياد واليا على الكوفة دعا بحجر بن عدي فقال : تعلم أني أعرفك وقد كنت أنا وإياك على ما قد علمت ـ يعني من حب علي بن أبي طالب ـ وإنه قد جاء غير ذلك ، وإني أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كله، املك عليك لسانك وليسعك منزلك ، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لدي ، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك ، فأنشدك الله يا أبا عبد الرحمن في نفسك. وإياك وهذه السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستزلوك عن رأيك ، فإنك لو هنت علي أو استخففت بحقك لم أخصك بهذا من نفسي . فقال حجر قد فهمت)
أى حين تولى زياد ولاية الكوفة بعد موت واليها المغيرة بن أبى شعبة ـ بادر زياد بنصح حجر بن عدى ، مؤكدا له إنه كان مثله من شيعة (على) ولكن الوضع اختلف الآن ، ويرجوه أن يكف عن معارضته وعن تزعمه لشيعة الكوفة مقابل أن يعلى زياد من مكانته.وخلط زياد هذا الترغيب والرجاء بالتهديد بأنه سيضطر لقتله لو لم يكف عن المعارضة. ولم يعط حجر وعدا لزياد بالكف عن المعارضة .
3 ـ (ثم انصرف ــ أى حجر ــ إلى منزله فأتاه إخوانه من الشيعة، فقالوا: ما قال لك الأمير؟ قال: قال لي كذا وكذا، قالوا : ما نصح لك، فأقام وفيه بعض الإعتراض. وكانت الشيعة يختلفون إليه ( يأتون اليه ) ويقولون إنك شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر. وكان إذا جاء إلى المسجد مشوا معه. فأرسل إليه عمرو بن حريث وهو يومئذ خليفة زياد على الكوفة وقال له: أبا عبد الرحمن ما هذه الجماعة؟ وقد أعطيت الأمير من نفسك ما قد علمت؟ فقال للرسول: تنكرون ما أنتم فيه؟ إليك وراءك أوسع لك. فكتب عمرو بن حريث بذلك إلى زياد، وكتب إليه إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعجل).أى إن كنت تخاف على الكوفة فاقدم بسرعة .
أى بعودة حجر لبيته اجتمع به رفاقه من الشيعة وحرضوه على التمادى فى المعارضة، وكانوا يسيرون معه فيما يشبه المظاهرة تحديا لزياد وعصيانا لأوامره فى أحكامه العرفية. ولأن زياد كان يحكم البصرة والكوفة معا فقد كان يمضى نصف العام هنا ونصفه الآخر هناك. وفى غيبته كان يولى نائبا عنه. وتصادف أن نصح زياد حجرا وحذّره، ثم سافر الى البصرة تاركا فى الكوفة نائبه عمرو بن حريث. وشهد عمرو بن حريث هذا مظاهرة حجر وعصيانه لتحذيرات زياد، فأرسل يعظ حجر ويذكره بلقائه مع زياد، فأعرض حجر عن النصيحة. ولما كان الموضوع أكبر من طاقة نائب زياد على الكوفة فإنه بعث لزياد يستعجل مجيئه ليتصرف بنفسه.
4 ـ ( فأغذ زياد السير حتى قدم الكوفة ، فأرسل إلى رءوس الكوفة :عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله البجلي وخالد بن عرفطة العذري حليف بني زهرة وإلى عدة من أشراف أهل الكوفة ، فأرسلهم إلى حجر بن عدي ليعذر إليه وينهاه عن هذه الجماعة وأن يكف لسانه عما يتكلم به ، فأتوه فلم يجبهم إلى شيء ولم يكلم أحدا منهم ، وجعل يقول : يا غلام اعلف البكر . فقال له عدي بن حاتم : أمجنون أنت ؟ أكلمك بما أكلمك به وأنت تقول يا غلام اعلف البكر؟ فقال عدي لأصحابه : ما كنت أظن هذا البائس بلغ فيه الضعف كل ما أرى .! فتركه القوم وأتوا زيادا فأخبروه ببعض وكتموا بعضا وحسنوا أمره وسألوا زيادا الرفق به، فقال لست إذا لأبي سفيان.! فأرسل إليه الشرط والجنود فقاتلهم حجر بمن معه من أنصاره ثم انفض عنه أنصاره، فقبض عليه الجند وعلى بعض أصحابه، وأتوا بهم الى زياد. فقال له زياد: ويلك ما لك؟ فقال: إني على بيعتي لمعاوية لا أقيلها ولا أستقيلها. فجمع زياد سبعين رجلا من وجوه أهل الكوفة فقال: اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا، ثم بعث بحجر وأصحابه بتلك الشهادات الى معاوية) .
رجع زياد مسرعا للكوفة، وبعث وفدا من زعماء القبائل لنصح حجر، ولكن حجرا لم يأبه بهم أيضا. فرجعوا الى زياد، يطلبون منه الرفق به، فرفض زياد، وأرسل فرقة من الجند قاتلت حجرا واتباعه، وقبضت عليه وعلى بعض أتباعه بينما فرّ الآخرون. وجىء بحجر لزياد موثقا فأقر بأنه على بيعته لمعاوية وليس خارجا (على النظام الحاكم). ولكن زيادا استشهد سبعين رجلا من كبار أهل الكوفة ضد حجر وأصحابه وبعث بهم وبالشهادات الى معاوية فى دمشق.
5 ـ (وبلغ عائشة الخبر فبعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي إلى معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم. فقال عبد الرحمن بن عثمان الثقفي يا أمير المؤمنين جدادها جدادها لا تعن بعد العام أبرا، فقال معاوية لا أحب أن أراهم ولكن اعرضوا علي كتاب زياد ،فقرىء عليه الكتاب وجاء الشهود فشهدوا . فقال معاوية بن أبي سفيان أخرجوهم إلى عذرى فاقتلوهم هنالك. قال فحملوا إليها. فقال حجر : ما هذه القرية؟ قالوا :عذراء .قال: الحمد لله أما والله إني لأول مسلم نبح كلابها في سبيل الله ، ثم أتي بي اليوم إليها مصفودا .ودفع كل رجل منهم إلى رجل من أهل الشام ليقتله ، ودفع حجر إلى رجل من حمير فقدمه ليقتله. فقال: يا هؤلاء دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فتوضأ وصلى ركعتين فطول فيهما، فقيل له: طولت.. أجزعت؟ فقال: ما توضأت قط إلا صليت وما صليت صلاة قط أخف من هذه ، ولئن جزعت لقد رأيت سيفا مشهورا وكفنا منشورا وقبرا محفورا .وكانت عشائرهم جاؤوا بالأكفان وحفروا لهم القبور. ويقال بل معاوية الذي حفر لهم القبور وبعث إليهم بالأكفان. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل لحجر: مد عنقك. فقال إن ذاك لدم ما كنت لأعين عليه . فقدم فضربت عنقه . وكان معاوية قد بعث رجلا من بني سلامان بن سعد يقال له هدبة بن فياض فقتلهم ، وكان أعور ، فنظر إليه رجل منهم من خثعم فقال : إن صدقت الطير قتل نصفنا ونجا نصفنا .فلما قتل سبعة أردف معاوية برسول بعافيتهم جميعا فقتل سبعة ونجا ستة أو قتل ستة ونجا سبعة .قال وكانوا ثلاثة عشر رجلا .وقدم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية برسالة عائشة وقد قتلوا، فقال يا أمير المؤمنين أين عزب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال غيبة مثلك عني من قومي... ولما أتي بحجر فأمر بقتله قال: (ادفنوني في ثيابي فإني أبعث مخاصما).
شاع الخبر حتى بلغ السيدة عائشة فأرسلت رسولا لمعاوية تسأله أن يطلق سراح حجر وأصحابه. ووصل رسول عائشة بعد مقتل حجر وبعض أصحابه، فعفا معاوية عنهم فأطلق سراح الباقين..
6 ـ منهج ابن سعد فى الطبقات أن يدور حول الشخصية التى يترجم لها من حيث النسب والنشأة والعلم، ومروياته ومظهره فى الزى واللحية وصلاته وسلوكياته الى وفاته. مقابل ذلك يهمل ابن سعد التفصيلات التاريخية السياسية ورواياتها. وقد قام الطبرى فى تاريخه فيما بعد بجمع تلك الروايات على اختلافها وتداخلها وربما تناقضها. ثم جاء ابن الأثير ففحص روايات الطبرى وانتقى منها ما يراه صحيحا ، وغالبا كان يكتفى برواية واحدة فى الحدث التاريخى الواحد ، وقلما يروى فيه روايتين مختلفتين.
لذا نستقى بعض التفصيلات المنسية فى تاريخ حجر من تاريخ ( الكامل ) لابن الأثير.
ثانيا: السبب المباشر لقتل حجر وفق ما جاء فى (الكامل) لابن الأثير:
1 ـ السؤال الهام هنا: ما هو فحوى المعارضة القولية لحجر والتى لم يتحملها زياد؟ وهل كان حجر على حق فى التمسك بها الى درجة التضحية بحياته ؟ وبالتالى يكون زياد متجنيا وقاتلا لانسان برىء سياسيا ووفق شرع الاسلام ؟
2 ـ نتعرف على الاجابة من تلك الأحداث التى رواها ابن الأثير نقلا عن الطبرى عن عام 42 هجرية .
يقول ابن الاثير: (فكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادًا وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وشبث بن ربعي وابن الكوا بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلاة‏.‏وإنما ألزمهم بذلك لأنهم كانوا من شيعة علي‏.‏ ). أى إن معاوية يأمر والى الكوفة المغيرة بن أبى شعبة بأن يلزم شيعة على بحضور الصلاة فى المسجد ، وعلى رأسهم حجر بن عدى . فهل كان هذا حرصا من معاوية على أن يكونوا من الأبرار الذين تتعلق قلوبهم بالمساجد أم هو غرض آخر يريد إذلالهم واستفزازهم ؟
3 ـ كان معاوية يريد استفزازهم للتخلص منهم . كيف ؟ لأن حضورهم الصلاة مع الأمير تعنى إجبارهم على الاستماع للعن (على ) وهى سياسة الأمويين الثابتة فى الصلاة. وبذلك يكون محبو (على ) بين أمرين إما أن يتحملوا ويسكتوا ، وإما أن يثوروا ، ويعطوا حجة للتخلص منهم .وبهذه الطريقة تم قتل حجر وارهاب شيعة الكوفة.
يقول ابن الأثير عن سبب قتل حجر: (وسبب ذلك أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين، فلما أمّره عليها دعاه، وقال له‏:‏ .... ولست تاركًا إيصاءك بخصلة‏:‏ لا تترك شتم "علي" وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب "علي" والإقصاء لهم، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم..) أى بدأ معاوية العدوان بجعل لعن (على) على المنابر سياسة يلتزم بها الولاة ، بالاضافة الى تفضيل شيعة عثمان والأمويين واضطهاد شيعة (على). وفى العام التالى لتولية المغيرة تم ألزام حجر وأصحابه بأن يحضروا المسجد لاذلالهم بإسماعهم لعن إمامهم.
4 ـ وتمسك المغيرة فى ولايته على الكوفة بهذه السياسة ، مما استفز شيعة (على ) وزعيمهم حجر فكان يحتج عليه علنا فى المسجد حين يبدأ بلعن عليا . تقول الرواية : ( فأقام المغيرة عاملًا على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة غير أنه لا يدع شتم "علي " والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال‏:‏ بل إياكم ذم الله ولعن‏!‏ ثم قام وقال‏:‏ أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ومن تزكون أولى بالذم‏.‏ فيقول له المغيرة‏:‏ يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكف عنه ويصفح‏.‏) أى كان حجر يرد عليهم بلعنهم وبالشهادة بالفضل لعلى . وكان يستمر المغيرة فى اللعن ويستمر حجر فى الرد عليه، ويستمر المغيرة فى نصح أو وعظ أو تحذير حجر وتخويفه من السلطان معاوية، وحجر لا يسكت، والمغيرة يصفح عنه ويتحمل رده عليه.
5 ـ ولم يكن ممكنا أن يستمر هذا المسلسل. لا بد أن ينفجر أحدهما، إما المغيرة وإما حجر. وحدث الانفجار فى نهاية حكم المغيرة للكوفة، وكان قد بلغ عمره السبعين، وجاء الانفجار من حجر. تقول الرواية عن المغيرة: ( فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله ، فقام حجر فصاح صيحةً بالمغيرة، سمعها كل من بالمسجد، وقال له‏:‏ مُر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك ، وقد أصبحت مولعًا بذم أمير المؤمنين‏.‏ فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون‏:‏ صدق حجر وبرّ ، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعًا‏!‏ وأكثروا من هذا القول وأمثاله‏.‏ فنزل المغيرة). صرخ حجر محتجا ومطالبا بأرزاق الناس أو مرتباتهم، ليسانده من بالمسجد فى التشويش على الوالى ، وفعلا ساندوه فاضطر المغيرة للنزول من على المنبروتركهم .
6 ـ ومن الطبيعى أن يحتج قوم المغيرة وأصحابه على تهاونه مع حجر ، وفعلا وجهوا له اللوم ، ورد عليهم الداهية العريق بالجواب السديد ، تقول الرواية :(فاستأذن عليه قومه ، ودخلوا ، وقالوا‏:‏ علام نترك هذا الرجل يجترىء عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيوهن سلطانك ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية ؟ فقال لهم المغيرة‏:‏ إني قد قتلته . سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي فيصنع به ما ترونه يصنع بي فيأخذه ويقتله‏!‏ . إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى ، ويعز في الدنيا معاوية ويشقى في الآخرة المغيرة‏.‏ ). أى ان المغيرة بحلمه وسكوته شجع حجرا على التطاول على السلطة ، وسيأتى أمير بعد المغيرة فيتصرف حجر معه بنفس الطريقة حين يلعن عليا . وعندها سيقتله ذلك الأمير. والمغيرة يرى أنه قد قرب أجله ولا يريد أن يتحمل تبعة قتل حجر فى سبيل تثبيت ملك معاوية . وتحققت نبوءة المغيرة ، إذ مات المغيرة وتولى زياد الكوفة ، تقول الرواية (ثم توفي المغيرة وولي زياد فقام في الناس فخطبهم عند قدومه ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه‏.‏فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة‏.‏ ). وانتهت القصة كما نعرف.
ثالثا: السبب الحقيقى: (يسألونك عن التوريث)
1 ـ لازلنا نحمل على كاهلنا نفس السؤال: لماذا؟
لماذا يخطط معاوية لقتل حجر بهذه الطريقة ؟ لماذا يرغمه هو وأصحابه على حضور الصلاة جماعة ويستفزهم بالاستماع الى لعن (على بن أبى طالب ) بينما يعلن أنه لا يحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بينه وبين ملكه ؟ لماذ يعطيهم حرية الصراخ و يجعلهم يصرخون ـ وهم على حق ـ ثم يفاجئهم بالقتل ؟
وحتى نفهم أكثر سياسة معاوية نقرأ الرواية التالية . فقد أراد زياد قتل رجل فهرب منه الرجل ولجأ لمعاوية يستجير به ،فأجاره معاوية وأنقذه من زياد . فكتب زياد لمعاوية محتجا على أن فى ذلك تضييع لهيبة الملك والسلطان ، فكتب له معاوية أنه لا ينبغى أن نسوس الناس بسياسة واحدة ، ولكن تكون أنت للشدة وأكون أنا للرفق ، فيستريح بيننا الناس . أى اختار معاوية أن يخبىء مخالبه وأنيابه فى ولاته ، هم يقومون عنه بالقتل والقمع، وهو الذى يبتسم ويصفح ويحلم ويداوى الجراح . وفى النهاية هو الذى يكسب حب الناس ، ويتحمل الولاة عنه الكراهية بدلا منه .
بتطبيق هذه السياسة (المعوية) (نسبة لمعاوية لا للأمراض المعوية) على قتل حجر بن عدى نرى معاوية قد استغل واليه المغيرة ليقوم عنه بقتل حجر وارهاب الشيعة، ولكن المغيرة كان أكثر مكرا من أن يتحمل عن معاوية هذه الجريمة أمام الله تعالى وأمام التاريخ ، خصوصا وهو نهاية العمر. وجاء زياد فوقع فى الجريمة .
نعود للسؤال: لماذا؟ لماذا يخطط معاوية لقتل حجر بن عدى؟
السبب هو التوريث.
قتل حجر يقع ضمن مخطط التوريث، فلا بد من ارهاب الشيعة مقدما لكى يمر توريث معاوية ابنه يزيد الخلافة من بعده .
2 ـ سار معاوية فى خطة مزدوجة ذات خطين متوازيين فى نفس الوقت ، هما التخلص المادى أو المعنوى من أى شخص محتمل أن ينافس ابنه يزيد فى الخلافة ، وإرهاب الشيعة و التخلص من قادتهم تمهيدا للتوريث .
حمل عام 46 هجرية خبر إغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، تقول الرواية : ( وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ، ومالوا إليه ، لما عندهم من آثار أبيه ، ولغنائه في بلاد الروم ، ولشدة بأسه ، فخافه معاوية وخشي على نفسه منه ، وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله ، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يوليه جباية خراج حمص‏.‏ فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها فمات بحمص ، فوفى له معاوية بما ضمن له‏.‏ ).
عاش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد يحمل شهرة أبيه خالد بن الوليد بطل الفتوحات . ولم يكتف بشهرة أبيه إذ أصبح من أبطال القواد فى الحرب المستمرة بين الروم والأمويين ، وكان يعود من غزواته بازدياد مستمر فى شهرته . وبهذه الشهرة يكون منافسا خطيرا ليزيد فى حالة التوريث . لذا كان لا بد من التخلص منه .
وكان السم أفضل وسائل معاوية فى الاغتيال . بالسم قتل الأشتر النخعى قائد (على) قبل أن يتولى حكم مصر من قبل على. وبعدها بالسم تم قتل (الحسن بن على) والذى كان مفروضا أن يلى الخلافة بعد معاوية تنفيذا للاتفاق بينهما فى عام الجماعة . وفى كل حالات الاغتيال يقوم طرف آخر بتلك المهمة القذرة .
3 ـ لم يستعمل معاوية وسيلة القتل ليتخلص من زعماء الأمويين منافسى ابنه يزيد ، والذين هم أحق منه (امويا) بالحكم بما لهم من سوابق سياسية فى وصول البيت الأموى للحكم من عهد عثمان الى عهد معاوية . الى جانب معاوية كان يوجد إثنان من كبار بنى أمية، ومن أعمدة ملك معاوية، وهما سعيد بن العاص ومروان بن الحكم. هما منافسان قويان ليزيد، و(يزيد) بالنسبة لهما لا شىء. ومعاوية لا يستطيع التخلص منهما بالقتل لحاجته لهما وللحفاظ على وحدة البيت الأموى . إذن لا بد من طريقة أخرى لتحييدهما مع الابقاء على حياتهما ، وهى زرع العداوة بينهما . كيف يزرع بينهما العداوة وهما ابناء عم وأقرب لبعضهما من قرابتهما لمعاوية ؟.
إعتاد معاوية بذر الشقاق بينهما بأن يعزل أحدهما ويولى الاخر مكانه، ويأمر أحدهما بالانتقام من الآخر . ففى عام 53: كان عزل سعيد عن المدينة واستعمال مروان مكانه . تقول الرواية ( وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان‏.‏وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافيةً ويقبض منه فدك وكان وهبها له ، فراجعه سعيد بن العاص في ذلك فأعاد معاوية الكتاب بذلك ، فلم يفعل سعيد ووضع الكتابين عنده ، فعزله معاوية وولى مروان ، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره ، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها ، فقال له سعيد‏:‏ يا أبا عبد الملك أتهدم داري ؟ قال‏:‏ نعم ، كتب إلي أمير المؤمنين ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت‏.‏ فقال‏:‏ ما كنت لأفعل‏.‏ قال‏:‏ بلى والله‏.‏ قال‏:‏ كلا‏.‏ وقال لغلامه‏:‏ ايتني بكتاب معاوية ، فجاءه بالكتابين ، فلما رآهما مروان قال‏:‏ كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني ؟ فقال سعيد‏:‏ ما كنت لأمن عليك وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا‏.‏ فقال مروان‏:‏ أنت والله خير مني‏.‏ وعاد ولم يهدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية‏:‏ العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا‏!‏ إنه يضغّن بعضنا على بعض فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره من الأخبثين وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم واجتماع كلمتنا لكان حقًا على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك‏.‏ فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصل وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده).الذى حمل معاوية على هذا السقوط الأخلاقى مع ركنى دولته هو تخطيطه للتوريث . وربما لم يفطن مروان و سعيد بن العاص لما يعده معاوية على مهل .
4 ـ الذى فهم غرض معاوية ولعب به وعليه هو المغيرة بن أبى شعبة.
نحن الآن مع المغيرة قبيل عام 50 تقريبا، وهو العام الذى توفى فيه، على أصح الروايات . ويبدو أن معاوية قد برم بالمغيرة لأنه لم ينجح فى ولايته على الكوفة فى استثارة حجر بن عدى وأصحابه وقتلهم . لذا أراد عزل المغيرة وتولية سعيد بن العاص مكانه . كان المغيرة فى آخر أيامه يريد الاستقرار واليا على الكوفة لا يتركها إلا بالموت . فعلم نية معاوية فى عزله عن الكوفة .قال المغيرة لأصحابه: (الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية‏). لذا بادر المغيرة بالذهاب الى دمشق ليخدع معاوية بآخر سهم فى جعبته . قال المغيرة لأصحابه حين وصل إليه‏:‏ (إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدًا‏). قبل أن يقابل معاوية ذهب المغيرة رأسا ليزيد بن معاوية ، وقال له‏:‏ ( إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيًا، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة‏.‏ قال‏:‏ أوترى ذلك يتم؟ قال‏:‏ نعم‏‏) فوجىء يزيد بأن ما يحلم به وما يخطط له أبوه سرا يأتى المغيرة له ويشجعه عليه : (فدخل يزيد على أبيه ، وأخبره بما قال المغيرة ، فأحضر المغيرة وقال له : ما يقول يزيد ؟ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له ، فإن حدث بك حادثٌ كان كهفًا للناس وخلفًا منك . ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة‏.‏ قال‏:‏ ومن لي بهذا ؟ قال‏:‏ أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زيادٌ أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك‏.‏) المغيرة هنا أدخل نفسه مع معاوية فى التخطيط لتحقيق الحلم ، وبالتالى لم يعد بوسع معاوية التخلى عنه ، لذا : ( قال‏:‏ فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى‏.‏ فودعه ورجع إلى أصحابه‏.‏) رجع منتصرا وهم فى انتظاره فى قلق : ( فقالوا‏:‏ مه ؟ قال‏:‏ لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمه محمد وفتقت عليهم فتقًا لا يرتق أبدًا ). أى إنه فى سبيل أن يبقى واليا على الكوفة عاما أو أكثر شجع معاوية على اتخاذ خطوة يعلم أنها ستزلزل المسلمين . وكله يهون ..فى سبيل الكرسى الملعون ..!
5 ـ ونعود للمغيرة بعد رجوعه للكوفة، فقد جهز وفدا من بنى أمية واتباعهم، وأرسلهم وفدا الى دمشق تحت قيادة ابنه موسى بن المغيرة ليطالبوا معاوية بأن يعهد لابنه بولاية العهد وتوارث الحكم . تقول الرواية : ( وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد ، فأجابوا إلى بيعته ، فأوفد منهم عشرة ويقال أكثر من عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة ، وقدموا على معاوية ، فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها‏.‏ فقال معاوية‏:‏ لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم‏.‏ ) أى أدخلهم معاوية فى مخططه للتوريث ، يتحركون وقت أن يريد . ثم اختلى بموسى بن المغيرة قائد الوفد وسأله : (‏:‏ بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟! .قال‏:‏ بثلاثين ألفًا‏.‏ قال‏:‏ لقد هان عليهم دينهم‏.‏ .!! ).وهناك روايات أخرى تختلف فى التفاصيل ولكن تتفق فى اساسيات الموضوع وهو دور المغيرة فى تشجيع معاوية على التحرك العلنى نحو تحقيق حلمه بتوارث السلطة فى عقبه .
وفى عام 56 هجرية أعلن معاوية البيعة لابنه يزيد ، وأصبح التوريث ممكنا بعد قتل حجر بن عدى وارهاب الشيعة وشراء زعماء القبائل ومن بقى من الصحابة بالمال.
وبالتوريث نفهم ضرورة مقتل حجر .ولكن حجر لم يكن الضحية الوحيدة لتوريث يزيد بن معاوية . اشتعلت معارك و مذابح من كربلاء الى عين الوردة الى موقعة الحرة الى انتهاك حرمة الكعبة ..ولا زلنا ندفع الثمن..
ختاما :
ليس هذا الموضوع منقطع الصلة بالحاضر، خصوصا فى مصر الآن فى عهد حسنى مبارك، حيث يعيش المصريون والمهتمون بمصر فى قضية أو محنة التوريث.
نتحدث عن هذا فى الباب الثالث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



الباب الثالث : وعظ حسنى مبارك ( اللعين ) قبيل الثورة المصرية 2011
الفصل الأول : كارثة التوريث بين معاوية وحسنى مبارك
الفصل الثانى : معاوية وحسنى مبارك بين التجويع والتسقيع
الفصل الثالث : وعظ الرئيس (محنط) حسني مبارك: تغيير المناخ الثقافى بين معاوية ومبارك :
الفصل الرابع : رفع الإصر عن شعب مصر
الفصل الخامس : وعظ المعارضة المصرية الراهنة : لا بد من الاستقواء بالخارج
الفصل السادس : المستبد يصنع شعبه
الفصل السابع : مصر: من القطط السمان الى عصر الحيتان


الفصل الأول : كارثة التوريث بين معاوية وحسنى مبارك

تاريخ النشر: 2010-03-16

موضوع البحث فى وعظ السلاطين أخذنا الى زياد بن أبيه، ومعاوية والمغيرة ومقتل حجر بن عدى ، فتعثرنا فى موضوع التوريث. وكان لا بد أن نتوقف مع كارثة التوريث التى بدأها معاوية فى تاريخ المسلمين، والتى يحاول حسنى مبارك أن يبدأ بها فى تاريخ مصر (الجمهورية). لذا نتوقف مع موضوع التوريث بين معاوية وحسنى مبارك.
وفى كل الأحوال فلا ينبغى أن تمر هذه الحلقات من وعظ السلاطين بدون توجيه وعظ لسلطان مصر وهو يعيش نهاية عصره ، ينصحه الجميع ويعظونه سياسيا ودينيا بأن يرحل فى سلام وهو يأبى إلا أن يظل جاثما على قلب المصريين ما بقى فيه عرق ينبض . وبالتالى فلم يدع للمصريين من فرصة سوى الدعاء عليه بألا يظل فيه عرق ينبض.
وإذا كان موضوع التوريث فى عهد معاوية قد استلزم الكثير من وعظ السلطان فإن التوريث فى عهد مبارك يستلزم أيضا توجيه الوعظ لمبارك، مع التأكيد بأن الوعظ لا يفيد، وأنه حتى لو تنازل مبارك وابنه عن موضوع التوريث فلن يكون ذلك التنازل تقوى أو خوفا من الله جل وعلا المنتقم الجبار، ولكن سيكون خوفا من سلطة أقوى داخلية أو خارجية، حقيقية أو مفترضة.
اولا : أوجه الشبه والتناقض بين معاوية ومبارك ( إجماليا )

1 ـ ليس هناك وجه شبه كبير بين شخصيتى معاوية وحسنى مبارك .
معاوية أحد دهاة العالم . ومن الناحية السياسية ـ وليس الاخلاقية او الاسلامية ـ هو من أعظم من شيدوا الدول ، وصنعوا التاريخ، وغيروا تاريخ العالم محليا واقليميا وعالميا، مع انه أتى من الصحراء (ولم يحصل على الاعدادية).
بعد موت معاوية بحوالى 1350 سنة تقريبا شاءت إرادة المولى عز وجل ـ الذى لا يحمد على مكروه سواه ـ أن يأتى للعالم المواطن المصرى حسنى مبارك فى عصر مختلف عن عصر معاوية ، لذا فقد تعلم مبارك مالم يتعلمه معاوية وركب حسنى مبارك ما لم يتخيل معاوية أن يركبه ، ولكن يظل الفارق هائلا بين عبقرية معاوية وعقلية مبارك المتوسطة ، ويظل الفارق كبيرا بين إنجاز معاوية السياسى وإنجاز مبارك.
هو نفس الفارق بين من يقيم ملكا من لاشىء، ليس مجرد ملك بل امبراطورية واسعة الارجاء تكون أكبر قوة فى عصرها، وبين من تتحفه الحظ بوراثة حكم مصر بلا أى استحقاق ، ثم لا يكتفى الحظ بذلك بل يرث دستورا يخول له أن يتحكم فى كل شىء ولا يكون مسئولا أو مساءلا عما يفعل ، ثم أن يستمر فى السلطة طالما ظل حيا . وبرغم هذا فإن خوفه جعله يفرض قانون الطوارىء ليزيد من تحكمه وتسلطه بدون حدود من قانون سوى قانون الغاب المسمى أدبا بقانون الطوارىء. ثم يستغل هذا القانون فى السرقة وقهر المصريين و الهبوط بمصر ومكانتها الى القاع .
2 ـ مع كل تلك الفوارق بين معاوية العبقرى السياسى وحسنى مبارك فان ما يجمعهما هو ( التوريث ) . معاوية أول من ابتدع التوريث فى تاريخ المسلمين ، وحسنى مبارك أول من طرح توريث الحكم فى مصر الجمهورية.
وحتى فى موضوع التوريث الذى يجمعهما تجد الفارق الكبير بينهما .
2 / 1 : التوريث فى عهد معاوية كان القاعدة فى العالم كله وفق ثقافة العصور الوسطى ، وكان الاسثتناء فى دولة النبى محمد عليه السلام ، والتى تم تدميرها على يد قريش والأمويين .
أما التوريث فى عصرنا الراهن فهو استثناء ، لم يعد يوجد الا فى البلاد المتخلفة من الأنظمة الملكية والجمهورية (الدول العربية وكوريا الشمالية مثلا) أما النظم الملكية فى أوربا (انجلترة و هولنده مثلا) فهى قمة الديمقراطية ، والعائلة الملكية التى تتوارث الملكية ليست سوى رمز للأمة و الشعب دون أى تدخل فى الحكم.
أى إن معاوية حين بدأ بتوريث الحكم لابنه فقد كان يرجع بالثقافة السياسية الى المتعارف عليه فى العصور الوسطى (لاحظ أننا نتكلم بلغة السياسة وليس بلغة الاخلاق والاسلام). أما مبارك (رئيس جمهورية مصر العربية) فهو خارج عن ثقافة العالم المتحضر حاليا والقائمة على الديمقراطية وتداول السلطة و الحرية و العدل وحقوق الانسان وحكم القانون الطبيعى وليس العسكرى والاستثنائى . ثم يتطرف فى الخروج عنها بالتوريث.
2 / 2 : معاوية ـ مع عدائه للاسلام والدولة الاسلامية ـ فقد كان متصالحا مع عصره ووقته، أما حسنى مبارك فمع عدائه للاسلام فهو أيضا فى صف التناقض مع عصره ومع وقته.
2 / 3 : معاوية بما فعله من توارث للحكم وتشييد حكم عائلى اختلف مع من سبقه من الخلفاء ، لذا لم يجعلوا معاوية ضمن الخلفاء (الراشدين) . وبالتالى لا تصح المقارنة بينه وبينهم لأنه ملك من الملوك وليس خليفة جاء بالانتخاب بل عبر حرب اهلية ، ومن ثمارها السامة أن أصبح ملكا ، وبالتالى اعتبر من حقه توريث الحكم .
أما حسنى مبارك فهو رسميا رئيس فى جمهورية مصرية عليه أن يتمسك بأول ملمح من ملامح الجمهورية، وهو عدم التوريث ، خصوصا وأنه ـ مبارك ـ لا يمثل أسرة عريقة قوية شديدة البأس كالأسرة الأموية التى كانت قاعدة لمعاوية فى تأسيس ملكه بل وكانت مبررا سياسيا له فى أحقيته بالحكم .
مبارك صعد للسلطة ممثلا للجيش الحاكم فى مصر منذ حكم العسكر عام 1952 ، وتداول السلطة فيه للعسكر ، وهكذا فعل عبد الناصر باختيار السادات نائبا له ، وكذلك فعل السادات باختيار مبارك نائبا له. وبالتالى فقد خرج مبارك عن قاعدة تداول السلطة ( العسكرية ) التى تجعل الرئيس هو ( القائد الأعلى ) للقوات المسلحة ، ويريد مبارك أن يجعل ابنه بعده رئيسا وبالتالى يكون قائدا أعلى للقوات المسلحة ، فهل يصح أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية إبنا مدللا مترفا ، بل وهاربا من التجنيد ؟
وفى الوقت الذى لم يجرؤ فيه عبد الناصر على جعل ابنه خالد ولى عهد له، ولم يجعل السادات ابنه جمال ولى عهد بعده نرى مبارك يجهز ابنه للتوريث، مع أن الفارق هائل بين عبد الناصر والسادات من جهة ومبارك من جهة. تستطيع أن تختلف مع عبد الناصر كيفما شئت ولكن لا تستطيع إنكار منجزاته. وتستطيع أن تسبّ السادات كيفما شئت ولكن لا تستطيع مقارنته بحسنى مبارك . حسنى مبارك تفوق على الجميع فى الفساد والاستبداد وفى كراهيته للشعب المصرى وكراهية الشعب المصرى له، ولولا ارهاب التعذيب وسلطة قانون الغاب (الطواريء) ما بقى مبارك فى الحكم يوما واحدا . وأعتقد أن ما سيظهر من خفايا بعد رحيله وأن الوثائق التى سيتم نشرها فى نهاية هذا القرن عن حكم مبارك ستجعل من مبارك شخصية تاريخية تتعب المؤرخين فى العثور على أيجابية واحدة فى شخصه أو فى عصره.
هذا بينما هلل ويهلل كثير من المؤرخين لمعاوية.
2 / 4 ـ تعب معاوية وناضل وهو يشارك فى إقامة الامبراطورية العربية القرشية، ثم تعب وناضل وقاتل حتى وصل لحكمها منفردا، وهو يرى من العدل أن يرثها ابنه بعده، خصوصا بعد وفاة كبار الصحابة المنافسين له ولم يعد سوى أبنائهم، وهو يرى إبنه أحق بوراثة الملك من أبناء الصحابة، وهو منطق (سياسى) لا غبار عليه ، حيث تركزت القوة حول معاوية بشخصه وعائلته وتاريخه ونضاله .
بعكس مبارك ، الذى ورث ـ وظيفيا ـ حكم دولة ، لمجرد أن الحاكم العسكرى ـ السادات ـ إختاره ليكون نائبا له فى لحظة مأساوية من لحظات الكوارث التاريخية . بقرار السادات جاءت السلطة لمبارك تسعى له على طبق من ذهب بدون تفكير أو تعب . ثم هو يستخدم موارد الدولة فى خدمة التوريث ، حتى يركب الفتى المدلل أكتاف المصريين ويضع حذاءه فوق شرف العسكرية المصرية .
المهم أن معاوية كان يرى من حقه أن يورث ابنه الامبراطورية التى أقامها وتعب فى أقامتها مع اسرته الأموية وبلغ بهذه الامبراطورية عنان السماء قوة وسلطة بحيث كانت أكبر قوة فى العالم وقتها . بينما مبارك الذى ورث
بالصدفة ملكا لا يستحقه وهبط به الى حضيض الفقر و المذلة والعار يرى أن من حقه توريث هذا الملك لابنه ليكمل إجراءات الدفن لمصر والمصريين.
التناقض بين شخصيتى معاوية وحسنى مبارك يماثل التناقض بين قمة ايفرست فى جبال الهملايا ومنخفض القطارة فى صحراء مصر الغربية.
ولكن الشبه الوحيد بينهما هو فى التوريث . معاوية أول خليفة فى تاريخ المسلمين يقيم التوريث لابنه بعد خلفاء سابقين لم يقم احدهم بتوريث ابنه. وحسنى مبارك رئيس لجمهورية مفهوم انها تختلف عن النظام الملكى المعتمد على التوريث، ولكنه ـ حسنى مبارك ـ خلافا للسادات وعبد الناصر يريد توريث ابنه، مع الفارق الكبير بين انجازات عبد الناصر والسادات ولا انجازات لمبارك سوى فى السرقة والفساد .
أخيرا: وعظ السلطان مبارك
1 ـ تكلف التوريث الأول (معاوية لابنه يزيد ) مقتل آلاف من العرب والزعماء القرشيين وغيرهم، ومن آل البيت وبنى أمية معا، ومن أكبر فرعين للقبائل العربية: ( قيس ) من القبائل العدنانية المضرية و( كلب ) من القبائل اليمنية القحطانية.
تكلف هذا التوريث مذبحة كربلاء واقتحام المدينة فى موقعة الحرة واستباحتها وقتل الالاف من سكانها واغتصاب حرائرها ، وتكلف محاصرة مكة و انتهاك حرمة الكعبة. والكوارث الثلاث حدثت متتابعة خلال السنوات الثلاث التى حكم فيها الوريث يزيد بن معاوية.. تكلف التوريث غصة فى قلوب المسلمين لا تزال حية الى اليوم تتكرر فى ذكرى مقتل الحسين فى عاشوراء.
تكلف التوريث موت الوريث بعد أعوام ثلاث فقط من الحكم، فى فورة الشباب، ثم زوال الحكم من ذرية معاوية لصالح مروان بن الحكم وذريته.
تكلف التوريث قيام الدولة الأموية فعلا ولكن سقوطها فى عزّ شبابها ،إذ كانت تحارب فى الداخل والخارج معا . كانت تواجه ثورات العلويين و الشيعة و الزبيريين و الخوارج والموالى والأقباط والبربر . الى أن أسقطهتا دعوة العباسيين عام 132 هجرية .
تكلف ذلك التوريث حقدا هائلا حمله خصوم بنى أمية لهم ، وظهر هذا فى قيام العباسيين باسئصال كل الأمويين فلم ينج منهم الا من اختفى ، وأشهر من اختفى وطورد كان عبد الرحمن (الداخل) الذى هرب للاندلس وأقام ملكا له هناك . إلا أن أكبر مظهر لكراهية الأمويين تجلى فى نبش قبور خلفائهم والتمثيل برفاتهم ، بدءا بمعاوية الذى لم يعثروا فى قبره إلا على خيط من بقايا عظام وتراب .
حدث كل هذا بسبب توريث معاوية لابنه . مع أن معاوية تميز بشخصيته وقوة اسرته وجيشه الذى صنعه ويدين له بالولاء ويدافع هذا الجيش عن التوريث ويخدم بكل اخلاص انتقال الحكم من مورث الى وريثه .
2 ـ وليس هذا نفس الحال مع مبارك ومشروعه للتوريث .
مبارك لا يملك الجيش المصرى، ولكنه يمثل الجيش المصرى فى ذلك النظام العسكرى المتحكم فى مصر منذ 1952. وبالتالى ليس له الحق ـ عسكريا ـ فى ان يضع ابنه (المدنى) حاكما عسكريا بعده .
صحيح أنه بالقوانين التى استحدثها مبارك جعلت له السيطرة على الجيش بحيث لا يترقى إلا من يضمن مبارك ولاءه، وصحيح أنه هو الذى يتحكم بالعزل و الترقية فى كبار القواد بحيث أن من يتفوه منهم بكلمة ضد التوريث مصيره الى (هناك)، ولكن الصحيح أن هذه السلطة المطلقة على الجيش مرهونة ببقائه حيا مكتمل الصحة و العافية . ولو كانت سلطته مطلقة وكلمته مسموعة ومطاعة فى صحته وفى مرضه وفى حياته وبعد مماته لبادر بتنفيذ التوريث وفرضه مثلما فعل معاوية فى حياته وقبل مماته .
مبارك يعرف أن الطاعة له طالما ظل حيا قادرا على الحكم ، وبموته أو حتى بدخوله فى غيبوبة طويله ستزول تلك الطاعة وسيذوب ذلك الولاء ، ويقبض الجنرالات على السلطة ، وعلى الوريث وآل الوريث . ربما يفكر فى طريقة ما للحيلولة دون ذلك ، ولكنه لم يعثر عليها بعد بدليل أنه حتى الآن لا يزال يقترب ويبتعد من موضوع التوريث بين النفى والاثبات.
3 ـ خوف مبارك الأكبر هو على ابنه الوريث حين ينفض عنه الأنصار و راقصو المواكب ، ويجد الوريث نفسه وحيدا معتقلا فى زنزانة مظلمة ينتظر أن يضحى به الحاكم العسكرى الجديد متقربا لعشرات الملايين من المصريين المطالبين بالانتقام من مبارك ، بعد أن يتم الكشف عن فضائح مبارك.
خوفنا نحن على هذا البلد العريق ( مصر ) من أن يجرها تنفيذ التوريث الى بعض ما حدث للعرب المسلمين بسبب توريث معاوية لابنه. مع الفارق المشار اليه آنفا بين التوريث الراهن و التوريث الماضى .
4 ـ ولهذا نعظ السلطان مبارك .
لا نقول له ( اتق الله ) فلم يحدث أن اتقى الله جل وعلا فينا منذ أن ظهر فى السلطة .
ولكن نقول له : لا تنخدع بعبارات النفاق والولاء التى تتبعثر عند قدميك ، فأصحابها هم أول من سيغمس خنجره فى قلب ابنك لو جعلته وريثا بعدك.
نقول له: تذكر ما فعلته أنت بالسادات وآل السادات بعد موت السادات وزوال سلطانه، مع أن السادات هو صاحب الفضل عليك، وهو الذى رفعك فوق من هم اكبر منك، وهو الذى أوصلك لما أنت فيه. وكل ما فعله السادات أنه أدى الأمانة الى صاحبها وهو الجيش فاختارك انت لتكون نائبا له أى وريثا بعده محترما المؤسسة العسكرية التى ينتمى اليها. ومع ذلك فأنت لم تخلفه بالخير فى اسرته وعائلته. فماذا سيفعل قادة العسكر مع ابنك إذا إئتمنتهم على ابنك الوريث؟ وهل يملك القائم على الأمر من بعدك أن يعادى كل المصريين الكارهين لك حبا فيك؟ وهل يضحى بنفسه أمام غضب الشعب لكى يفرض ابنك بعدك حاكما؟ . من الطبيعى أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ، وطبيعى أن مبارك قد تخلص من القادة الأكفاء أصحاب الرأى ، ولم يسمح بالترقى إلا للمنافقين ، سواء فى الجيش أو فى بقية المؤسسات . وأولئك المنافقون يتحملون الأذى ، يبتسمون عند الاهانة وينتظرون الوقت للانتقام . وسيأتى وقت الانتقام حين ترحل تاركا ابنك رهينة فى ايديهم.
مجنون ذلك الجنرال الذى يتحرر من سلطتك عليه ومن إذلالك له ، ثم يتنازل عن سلطته لابنك ، بل يتطوع بأن يجعل رقبته تحت سيطرة ابنك راضيا لنفسه هذه التضحية ، ليس للوطن ، ليس للشعب ، ليس لمصر ولكن لفتى مدلل مترف ، كل ميزته انه ابن رئيس سابق .. حتى افتراض أن الرئيس السابق كان محبوبا من الشعب .. فماذا إذا كان الرئيس السابق هو حسنى مبارك ؟
5 ـ نحن أحرص على ( حسنى مبارك وعائلته ) من ( حسنى مبارك ) نفسه . ولقد قلتها من قبل فى مؤتمر صحفى فى واشنطن أطالب مبارك بالرحيل سلميا واعداد مصر لحكم ديمقراطى حقيقى مؤكدا ان هذا من واقع الحرص على مبارك واسرته. ليس هذا حبا فى مبارك . بل حبا فى مصر وحرصا على مصر وخوفا من أن تنجر مصرالى حرب أهلية .ارحل يا مبارك حرصا على ابنيك وزوجتك واحفادك. وانس موضوع التوريث. وكفى ما حدث لمصر منذ أن توليت أمرها. وعفا الله جل وعلا عما سلف.!!
آخر سطر:
قالت أم كلثوم: (وكفاية بقى.. تعذيب وشقى)..!!

الفصل الثانى : معاوية وحسنى مبارك بين التجويع والتسقيع
الجزء الأول: التجويع

تاريخ النشر: 2010-03-21

كالعادة لا بد من استكمال موضوع بدأناه، وهو المقارنة بين معاوية وحسنى مبارك ، لنصل الماضى بالحاضر، ولنستفيد من عبر التاريخ، حيث أصبح قدرنا أن نتقدم للخلف ، نعيد إنتاجه ـ ليس الجانب المضىء فيه ولكن ألأشد سوادا ، وتكون الكارثة أن يتفوق علينا الماضى الأصل الذى ننقل عنه ، فيكون الماضى ـ فى مساوئه ـ أكثر بريقا من الحاضر التعس ، وأكثر رحمة بالمظاليم .
فى الحلقة السابقة كانت المقارنة بين معاوية ومبارك فى كارثة التوريث. ووضح فيها الفارق الهائل بين سيئات معاوية فى القرون الوسطى وكوارث مبارك فى العصر الحاضر.
وفى هذا المقال من سلسلة وعظ السلاطين نتوقف مع عناصر الاتفاق والاتفاق بين سياسة معاوية وسياسة مبارك، ليتوجه الوعظ للسلطان القائم (حسنى مبارك) وهو يدرك قرب نهاية عمره، فلعله يراجع نفسه ويفعل خيرا فى هذا الشعب المصرى الذى وقع أسيرا لسياساته حوالى ثلاثين عاما.
أولا: المشترك والمختلف فيه سياسيا بين معاوية ومبارك فى ايجاز
1 ـ هناك عناصر مشتركة فى سياسة معاوية ومبارك فى الاحتفاظ بالسلطة و توريثها ، مثل استعمال الأعوان واستخدامهم ، ثم التخلص منهم لو أصبحوا خطرا على السلطان ، ومثل التخلص من المشاغبين السياسيين الذين يمثلون خطرا، مع السماح بحرية القول بمقدار محسوب للتنفيس عن المكبوت من المشاعر والأحاسيس ، والاغداق على الأنصار واضطهاد الخصوم، وتكوين معارضة مظهرية تجالس السلطان وتعارضه، مع الضرب بقوة على المعارضين المسلحين (الخوارج فى عهد معاوية والجماعات المتطرفة فى عهد مبارك).
2 ـ ولكن يظل الفارق واسعا بين (سماحة معاوية) و (غلظة مبارك) فى تطبيق تلك السياسات.
2 / 1: استعمل زياد ابن أبيه قانون الطوارىء فى العراق باسم معاوية، لأن العراق كان مركز المعارضة السياسية، بينما توسع فيه مبارك ليعم مصر كلها، أى أن مصر فى عهد معاوية لم تعرف تطبيق قانون الطوارىء، بينما تعيش فيه فى عصر مبارك منذ 1981.
2 / 2: وجدير بالذكر أيضا أن معاوية لم تحدث فى عهده سوى حالات تعذيب محدودة ، قام بها زياد بن أبيه، بينما ارهب وقهر وأهلك مبارك المصريين ماديا ومعنويا بالتعذيب.
2 / 3: ولم يحدث فى عهد معاوية قتل لمعارض سياسى إلا لأفراد معدودين بالاسم مثل حجر بن عدى ورفاقه، واستلزم هذا عاصفة من الاحتجاج لا تزال آثارها بين سطور التاريخ، بينما لقى مئات الالوف من المصريين مصرعهم فى حكم مبارك العسكرى البوليسى. وموعدنا فى المستقبل القريب مع اكتشاف مقابر جماعية لضحايا مجهولين لمبارك ممن يطلق عليهم ضحايا (الاختفاء القسرى )
2 / 4: استخدم معاوية (جيشه) فى الفتوحات ، بل وحاصر القسطنطينية نفسها عام 670 ميلادية، محققا مجدا له ولامبراطوريته العربية كأكبر قوة فى العالم تحاصر عاصمة القوة المنافسة لها (الروم). فى المقابل فإن مبارك استخدم جيش (مصر) لقهر أبناء (مصر)، بل وجلب لمصر الهوان فى أحداث قتل متكررة للمصريين جنودا ومدنيين على الحدود مع اسرائيل ، والرد يكون بالكثير من التسامح فى الوقت الذى لا يتسامح فيه الأمن المركزى وأمن الدولة مع أى مصرى يمارس حقه فى التفكير أو فى التظاهر أو فى التعبير.
أى إن معاوية العربى الذى لم يكن (مصريا) كان أرفق بالمصريين من مبارك (المصرى)، ومعاوية العربى كان أرفق بالعراقيين من صدام العراقى، ومعاوية العربى كان أرفق بالسوريين من الأسد السورى..
وهكذا يتضح أن سكان تلك المنطقة (لا نقول العرب) يتقدمون الى الخلف، ويعيشون الآن فى حال أسوأ مما كان عليه أسلافهم فى عهد معاوية، مع المفترض أنهم الآن يعيشون عصر الديمقراطية وحقوق الانسان.
ولو افترضنا أن معاوية قد صحا من قبره وتجول فى مصر ورأى ضحايا مبارك لسقط ميتا ثانية من البكاء والتأثر!!
ثانيا: سياسة معاوية مع الخصوم ومع الأتباع:
الاغداق على الاتباع دون حرمان الخصوم
1 ـ قلنا فى مقال سابق أن معاوية حين عهد للمغيرة بن شعبة بولاية الكوفة أوصاه بعدة وصايا كان منها الاغداق على أنصار الأمويين وتقريبهم والاغضاض من شيعة (على ). كان المعتاد فرض عطاء أو مرتب لكل فرد عربى ضمن قبيلته ، ولم يحدث أن منع معاوية أحدا من عطائه أو مرتبه ، ولكن كان يغدق أموالا وعطايا زائدة (أى علاوات ) على أتباعه بينما يحرم خصومه السياسيين من تلك العلاوات . وهذا ظلم ينافى العدل ، ولكنه ظلم لا يقاس بظلم حسنى مبارك للمعارضة .
2 ـ وبينما كان يعطى معاوية مرتبات وعطايا للعرب كان يفرض الجزية و الخراج على سكان الأمم المفتوحة من الموالى فى العراق وايران وآسيا ، والأقباط فى مصر و البربر فى شمال أفريقيا . وكانت تلك السياسة الظالمة قد سنّها من قبل الخليفة عمر بن الخطاب واستمرت سنّة سيئة مرعية من بعده. وعدا ذلك فلم يحدث تجويع لأهل البلاد الأصليين (المستعمرات). ويبقى ذلك ظلما أكيدا لا يدافع عنه إلا كل ظالم . ولكن هذا الظلم الذى أوقعه معاوية بغير العرب لا يقارن بالظلم الذى يذيقه الحكام العرب الحاليون لشعوبهم .
3 ـ وذكرنا من قبل أن معاوية اتفق مع عمرو بن العاص بأن يعيد فتح مصر واستخلاصها من التبعية لعلى بن أبى طالب مقابل أن تكون مصر (طعمة) لعمرو، أى أن يسـتأثر عمرو بايراداتها المالية من خراج وجزية لنفسه ولا يوردها لبيت المال فى دمشق، وهذا بعد أن يقوم عمرو بالانفاق على الجند وسداد الأعطيات للعرب فى مصر والقيام بالمشروعات. وتضخمت ثروة عمرو بن العاص مما نهبه من مصر ، فترك عند موته سبعين بهارا من الذهب، أي 210 قنطارا او 140 اردبا من الذهب ، واثناء موته عرض هذه الاموال علي اولاده فرفضوا أخذها وقالوا : حتي تعطي كل ذي حق حقه ، أي اعتبروها سحتا ، فلما مات عمرو صادر معاوية هذا المال وقال ( نحن نأخذه بما فيه ) أي بما فيه من سحت وظلم ( خطط المقريزي 1/ 140 ، 564 ).
معاوية اعتبر مصر ضيعة له ، وهبها لعمرو ثم استعادها منه ، وقد تم تقنين ذلك الظلم فى الشريعة السنية على أنه ( حق الفتح عنوة ).
أما الأخ حسنى مبارك فهو مصرى مثل كل مصرى آخر، ولم يقم بفتح مصر عنوة أو سلما، ومع ذلك فهو يعتبر مصر ضيعة و (طعمة) له ولولديه وذريته. وفعل مبارك (المصرى) بمصر والمصريين أفظع مما فعله معاوية وعمرو بمصر والمصريين، مع ان معاوية وعمرا لم يكونا من المصريين .
4 ـ وإذا كان فقهاء الشريعة السّنية قد سوغوا ظلم معاوية وقبله عمر بن الخطاب بحق الفتح عنوة الذى يناقض شرع الله جل وعلا فى القرآن الكريم، فإن شيوخ الأزهر وشيخهم الأكبر كانوا شركاء لمبارك فى كل ما فعله ويفعله بمصر و المصريين، ولديهم من الجرأة الكافية على الله تعالى ودينه بما يمكنهم من الدعوة جهارا لطاعة مبارك والدعاء له على المنابر.
5 ـ وموعدنا ـ جميعا ـ يوم القيامة أمام الواحد القهار: (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) ( غافر16 : 20 )
ثالثا: سياسة مبارك فى تجويع الشعب:
1 ـ الهدف السياسى من إفقار الشعب وإعاشته فى أزمات اقتصادية وحياتية:

إتخذ مبارك من الشعب المصرى عدوا له ، هذا هو التفسير الوحيد الوحيد لمجمل سياساته مع المصريين ، ونحن نتحدث عن الأغلبية الساحقة من المصريين خارج المستفيدين من حكم مبارك وهم بضه مئات من الالوف مقابل ثمانين مليونا من المصريين ، ثلثهم تقريبا ولد وعاش معظم عمره فى عهد مبارك .
بعد الصلح مع اسرائيل وإيثاره سياسة السلم والمهادنة مع الجيران العرب لم يبق عدو أمام مبارك سوى الشعب المصرى ، لذا تحولت مصر الى ( جبهة داخلية ) بعد انتهاء الجبهة الخارجية ، وتم تخصيص جيش مصرى كامل أكبر من الجيش الاسرائيلى ( وهو الأمن المركزى ) لحرب وضرب الشعب المصرى ، بالاضافة الى حوالى مليون شخص يعملون فى البوليس لقمع وتعذيب أفراد الشعب المصرى ،بالاضافة الى تعدد الأجهزة الأمنية السرية، وتعدد ميليشيات الحزب الوطنى من البلطجية والفتوات وفرق الكاراتيه . علاوة على الحرس الجمهورى المزود بالطائرات و المصفحات والمدفعية الثقيلة وأجهزة المخابرات والاستطلاع . كل تلك القوات بكل تلك ألأسلحة تواجه الشعب المصرى.
تضخم هذه القوات المسلحة عددا وعدة وقسوتها فى التعامل مع الشعب المصرى يعطى انطباعا بأن الشعب المصرى هو أكثر شعوب العالم تمردا ووحشية وادمانا للارهاب وسفك الدماء ـ بحيث لا يمكن إخضاعه إلا بالاستعمال المفرط للقوة و الوحشية فى التعذيب. ولكن ـ مع شديد الأسف ـ فهذا الشعب مسالم مكسور الجناح خانع خاضع يجمع مع الصبر على الظلم نبلا فى التعامل مع الظالم إذ يتصرف بعفوية حين يموت المستبد الظالم فيدعو له بالرحمة ، قائلا الكلمة المصرية المأثورة (لا تجوز عليه سوى الرحمة) و (إذكروا محاسن موتاكم)، ويجتهد فى تلمس الأعذار له، وتحميل الحاشية الظلم دونه.
شعب طيب صبور مثل الشعب المصرى ـ لا يمل من التغنى بالصبر وانتظار الفرج الآتى ـ لا ينبغى التعامل معه بكل هذه القسوة . هذا الشعب عاش مستكينا لكل مستبد فى معظم تاريخه ، وهو صاحب أطول تاريخ فى البشرية . وكانت عادة مرعية أن كل حاكم مستبد كان يقابل خضوع الشعب المصرى بالامتنان .
حسب علمى بالتاريخ ـ وأزعم أننى متخصص فيه ـ فإن حسنى مبارك هو المستبد الوحيد الذى قابل خضوع الشعب المصرى بالمزيد من الاذلال و التعذيب الذى تتم ممارسته روتينيا بلا سبب .
ليس فقط فى أنه استخدم الجيش المصرى وقواته المسلحة فى قهر وإذلال الشعب المصرى الخانع الخاضع ، ولكن قبل ذلك وبعد ذلك فإنه رسم سياسة لتجويع الشعب المصرى وإعاشته فى أزمات متتالية ومتتابعة فى الغذاء والوقود وارتفاع الأسعار بحيث يلهث كل مصرى فى سد رمقه ورمق أولاده ، ولا يجد وقتا للمعارضة .
فالمعارضة السياسية تكون ترفا لا يقدر عليه إلا المطمئن على قوته وقوت أولاده حين لا يستطيع الحاكم أن يتحكم فى لقمة عيشه . وهذا مستحيل فى مصر حيث يتحكم أمن الدولة فى تعيينات الموظفين ، وحيث تتدخل الحكومة فى كل شىء فى القطاع الخاص و العام ، أى تمسك بلقمة عيش المواطن ، ثم لا تكتفى بهذه السيطرة غير المسبوقة بل تعتمد سياسة التجويع والا فقار للشعب .
فما بالك لو كان هناك فرد من الشعب تمرد على السلبية و السكون والخنوع و الخضوع ؟ هنا لا يقتصر الأمر على السجن و التشريد بل التجويع والمطاردة فى الرزق ومنع التعيين وارهاب المتعاطفين ، ليظل المعارض على حافة الجوع . وتلك تجربتى مع نظام مبارك من عام 1985 الى أن لجأت هاربا من الظلم الى الولايات المتحدة الأمريكية .ومع ذلك فلا يزال نظام مبارك يستعمل نفس السياسة مع أسرتى ومن يعرفهم من القرآنيين .
2 ـ والأمثلة على سياسة مبارك الثابتة فى تجويع الشعب المصرى كثيرة ، نكتفى منها باثنين : ( رغيف الخبز والثروة السمكية )
2 / 1 : كانت مصر سلة الغذاء للامبراطورية الرومانية و العربية ، كانت اكبر منتج للقمح .وحين حدثت مجاعة عام الرمادة فى عهد عمر استغاث عمر بعمرو واليه على مصر قائلا ( الغوث الغوث ) فرد عليه عمرو بأنه سيرسل له سفنا تحمل له القمح والغذاء ( أولها عندك وآخرها عندى ).
ماذا حدث لمصر فى عهد مبارك حين أصبح المصريون يتقاتلون على رغيف الخبز على مرأى من العالم كله فى منظر يخجل منه كل مصرى غيور ؟
قبل حكم مبارك كانت السعودية تستورد القمح كالعادة فى سكان الجزيرة العربية طيلة قرون ، ثم توسعت السعودية فى زراعة القمح حتى أصبحا تعطى منه صدقة لمصر ، أيضا ـ فى منظر يخجل منه كل مصرى غيور.
الهند كانت تعانى من نقص مستمر فى انتاج القمح كان يصل بها أحيانا الى درجة المجاعة ، خصوصا مع التزايد المستمر فى عدد سكانها . اليوم الهند هى ثانى دولة فى عدد السكان ولكن أصبحت تكتفى ذاتيا من انتاج القمح بل وقد تصدره . لماذا ؟ لأن حكامها وضعوا خطة للتخلص من المشكلة ، وفروا كل السبل لاعاشة وراحة العلماء لكى يتفرغوا لانتاج سلالات من القمح عالية الجودة ، ونجح علماء الهند فى ذلك . ونجح أيضا العلماء المصريون فى انتاج سلالات قمح ممائلة تناسب التربة والمناخ فى مصر . ولكن منذ جاء مبارك اتخذ قرارا بخفض المساحة المزروعة قمحا والاعتماد على استيراد القمح من الخارج خصوصا أمريكا ، لكى يجنى أرباحا من اتفاقيات شراء القمح أو الحصول عليه مساعدات ثم بيعه للشعب المصرى . وبهذا أصبح رغيف الخبز مشكلة ،ولا يزال .وكان يمكن أن تكون مصر من الدول المصدرة للقمح لو كان فيها حاكم وطنى يحب بلده ولا يكرهها الى حد افقارها الى لقمة الخبز.
2 / 2 : ليس لمبارك أى فضل فى بناء السد العالى ، وليس له يد فى ايجابياته أو سلبياته ، ولكن له اليد الطولى فى منع المصريين من الاستفادة باحدى ايجابيات السد العالى وهى بحيرة ناصر ، أكبر بحيرة صناعية فى العالم ، وأكبر مستودع للاسماك فى افريقيا. من الممكن لبحيرة ناصر أن تكفى حاجة المصريين من البروتين السمكى ، ولكن مبارك أصدر قرارا باحتكار احدى مؤسسات حكمه لأسماك بحيرة ناصر ، ومنع المصريين من نقل أسماك البحيرة ، واعتبره جريمة تهريب ، وبالتالى فتلك الهيئة الحكومية التى تتمتع بامتياز الصيد وتسويق سمك بحيرة ناصر يعجز موظفوها عن الصيد والتسويق ، ومرتباتهم منتظمة ومستمرة سواء عملوا أو ناموا ، والسمك فى بحيرة ناصر توحش وتكاثر ، والمصريون يعانون الفقر و الجوع وغلاء المواد البروتينية ، وكل ما يلزمهم هو الغاء قرار مبارك وفتح البحيرة للصيد و التوزيع والتصنيع واقامة مشروعات سياحية ، ولكن مبارك يأبى إلا أن تظل تلك الشركة وهى ( قطاع عام وحكومى ) قائمة تمنع المصريين من أكل السمك الرخيص . ومع أن مبارك يقوم بخصخصة وبيع كل شركات القطاع العام فلا تزال تلك الشركة الحكومية باقية لأنها تمارس عملها فى حماية البوليس فى تجويع الشعب المصرى.إن لم تكن تلك كراهية للشعب وتجويعا له مع سبق الاصرار والترصد فماذا تكون ؟
2 / 3 : مبارك و المترفون حوله لا يأكلون الخبز الذى يتقاتل عليه المصريون، ولا يعرفون مكوناته من الحديد و الشوائب والتراب والحشرات . مبارك والمترفون حوله أيضا لا يحتاجون الى أكل السمك المتوحش من بحيرة ناصر ..هم يعيشون على الوجبات الساخنة التى تأتى رأسا من مطعم ماكسيم فى باريس .
هنا ننتقل الى الجانب الآخر من سياسة مبارك ، وهو تعامله مع شركائه فى البيزنس ، ونطلق عليه اختصارا ( التسقيع) . أى بعد (التجويع ) للشعب نأتى ل ( التسقيع ) للأتباع والشركاء فى الفساد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجزء الثانى: التسقيع:

تاريخ النشر: 2010-03-25

1 ـ فى الجزء السابق تحدثنا عن سياسة مبارك فى تجويع الشعب المصرى واستنزاف حيويته جريا وراء لقمة عيش صعب الحصول عليها حتى لا يجد المصرى وقتا ولا جهدا للاشتغال بالعمل السياسى و العام. هذا.. علاوة على ما يحويه القانون العادى فى العقوبات من عقوبات تقع على كاهل المواطن المصرى لو تجرأ وعارض الحكومة . وقد صيغت هذه القوانين على يد أناس شديدى الكراهية للمصريين بدليل الصياغة المطاطة التى توقع السجن والغرامة بمن ينطبق عليه (تحبيذ) كذا ضد الحكومة. و(تحبيذ) وغيرها هى من الألفاظ واسعة المدلول والتفسير بحيث يمكن تطبيقها بالسجن والغرامة على من يلوح بيديه أو يحرك حاجبيه.
ومن الانصاف لمبارك أنه ليس الذى جرى تقنين تلك القوانين فى عهده ، ولكنه من الانصاف أيضا أن نذكر أنه لم يكتف بتلك القوانين العادية و المرعبة التى تبيح للسلطة القبض على اى انسان يسير فى شارع مصرى ـ بل زاد عليه قانون الطواريء أو اللاقانون.
بالتالى فان المعارضة السلمية وطلب الاصلاح سلميا يحول بينها وبين التأثير فى الجماهير سدّ منيع، وهو سدّ مزدوج، ظاهره القوانين العادية وقانون الطوارىء (الغاب) وهى قوانين تكشر عن أنيابها ترهب المصلحين والمعارضين وبقية الشعب، وتتنافس الأجهزة الأمنية والقضائية فى تطبيقها، وباطنه الخفى هو تجويع الجماهير التى تبتعد عن المعارضة خوفا من الاهانة والسجن وخوفا أيضا من الجوع والمزيد من الفقر. فالفقير لو عمل بالسياسة لن يجد وقتا لاطعام أطفاله، ولو دخل السجن فسيموت أطفاله جوعا، ولن يجد مصاريف المحامى والسجن .
2 ـ السؤال هنا : لماذا كل هذا الضغط بالتجويع والترويع على الشعب المصرى المسكين المتسامح الخانع الصابر الساكن ؟
الاجابة فى هذا الجزء الثانى .
إنه تحييد وترهيب واسكات الشعب المصرى ليزداد خنوعا وخضوعا لأن الفساد سيصل الى أعلى معدلاته ولأن الانحطاط الخلقى سيهبط الى أسوأ دركاته ، وبالتالى لا بد من زيادة جرعة التجويع و الترويع ليزداد صمت الخائفين و ليخلو المسرح لضجيج المفسدين .
3 ـ وهنا نسجل للتاريخ إنها سياسة مرسومة منذ البداية ، وتم تطبيقها خطوة خطوة .
من بداية تعيينه نائبا للرئيس السادات وسفره الى الولايات المتحدة الأمريكية واعداده ليكون الرئيس القادم كان من بنود هذا الاعداد تكوين ثروة للنجم القادم الرئيس القادم . وبعد توليه السلطة بدأ فى اتهام آل السادات بالسرقة واستغلال النفوذ ( قضية عصمت السادات ) وسارت سياسة تشويه آل السادات جنبا الى جنب مع تقديم مبارك نفسه للمصريين على أنه الرئيس النزيه نظيف اليد. وصدقه المصريون لأنهم كانوا فى حاجة لأن يصدّقوه.. وانتهى الحال بهم الى التوريث ،أى أصبحوا مع مصر ضيعة مملوكة للرئيس والوريث.هنا نصل التجويع بالتسقيع..
أولا :
1 ـ التسقيع من الألفاظ التى تولدت فى عصر مبارك لتعكس إحدى حالات الفساد الحكومى الذى أصبح عرفا سائدا لا يستوجب إنكارا. لذا نأخذه لفظا دالا على الفساد المنتشر فى عصر مبارك.
التسقيع يعنى أن تقوم اجهزة الدولة باصلاح وتجهيز قطعة أرض وامدادها بالمرافق على حساب الشعب، ثم تقوم الوزارة المختصة ببيع تلك الأرض بسعر رمزى لأحد المحظوظين المترفين. يشترى الأرض بثمن بخس، وهو حتى لا يدفع الثمن كله، بل يدفع مقدما فقط، وهو أيضا لا يدفع المبلغ من جيبه بل من سلفة من البنك بأوامر من جهات عليا أو سفلى. وبالتالى يملك مجانا مساحة ضخمة من الأرض مفترض ان يقوم ببناء مشروع زراعى أو صناعى عليها يفيد البلد. إلا أنه لا يلبث أن يقوم بتقسيم الأرض وبيعها بالمتر، بسعر المتر الواحد مئات أو آلاف الجنيهات. ويكسب ملايين.
وهو بالطبع مجرد واجهة ، لأن صاحب النفوذ الأكبر الذى اختاره لتلك المهمة لا بد أن يستحوذ على الجانب الأكبر من الربح، ويتم ايداع الربح فى بنوك الخارج ليكون هناك فى الحفظ والصون عند اللزوم.
هذا هو التسقيع فى بيع الأراضى المصرية.
2 ـ من التسقيع نوع سام يمارسه بعض البلطجية من اصحاب النفوذ فى الشرطة و الجيش والقضاء. يتجمع بعض شباب الخريجين ويكونون جمعية وبعد تعب ونصب يحصلون على قطعة من الارض الصحراوية، فيبذلون جهدهم وعرقهم فى استصلاحها، وحين تظهر ملامح الخضرة فيها ويتأهب المساكين لجنى ثمار عرقهم تظهر فجأة تلك العصابات التى تستغل نفوذها فى الاستيلاء على تلك الأرض المستصلحة بالعرق والدموع، وتحت حجة ان الأرض فيها (آثار) أو تحتاجها القوات المسلحة أو أى حجة أخرى، ينزعون ملكية الشباب، ثم تقوم العصابة بتكوين جمعية ، وتتملك تلك الجمعية الأرض وتوزعها على اعضائها .
3 ـ من التسقيع فى الأراضى الى نوع آخر من تسقيع القطاع العام حيث يتم بيع وحدات القطاع العام بأبخس الاسعار وبما يهدر بلايين الدولارات ، لأن الذى يملك القرار هو الشريك الذى يأخذ عمولته .
4 ـ ومن تسقيع القطاع العام الى التسقيع فى السلاح حيث يعتبر مبارك أهم تجار السلاح فى المنطقة من خلال شركائه ، وهذا أمر معروف ومشهور .

5 ـ ومن المضحك المبكى أن ميزانية الجيش و التسليح و ميزانية مؤسسة الرئاسة ليس من حق مجلس الشعب مناقشتها . وهو أمر مضحك الى درجة البكاء لسببين :
الأول لأن المهمة الأولى لأى مجلس شعب ( محترم ) هى الرقابة وصون مال الشعب ، فالمجلس هو الذى يعطى الأموال للحكومة وهو الذى يسائل الحكومة على كيفية انفاقها لذك المال . ولكن مجلس الشعب فى مصر ـ طبقا للدستور المعيب الحالى ـ يجعل مجلس الشعب مجرد سكرتارية للرئيس .
السبب الثانى أنهم يمنعون عرض ميزانية التسليح و الجيش بحجة أنها أسرار عسكرية مع انها أسرارعلى الشعب المصرى وحده لأن اسرائيل أول من يعرف بصفقات السلاح ، سواء كانت من أمريكا او من غيرها ، والعادة ان مجتمع تجارة السلاح لا بد فيه من تبادل المعلومات ، أى يعرف الجميع أسرار السلاح وصفقاته إلا الشعب المصرى . وطبعا المستفيد من هذا هو صاحب القرار .
6 ـ وهذا يفسر ما قيل عن ثروة مبارك وأسرته وانها تبلغ الاربعين بليونا فى بلد يشرب أصحابه مياها ملوثة بالمجارى و يتنفسون هواءا ملوثا بالدخان و فيروس التهاب الكبد الوبائى و هم وحدهم الذين يعيشون فى المقابر ، و يقفون طوابير أم زبالة الطيور المذبوحة ، ويتقاتلون ويموتون فى سبيل الحصول على رغيف.
ثانيا : ماذا أفعل بهذه الاحصائيات والمعلومات ؟
تحت عنوان (قال ثم فعل ) جاءنى هذا المقال عن الرئيس حسنى مبارك ، يقارن بين ما قاله فى أول عهده من كلام عن النزاهة و الشرف ثم كيف انقلب الأمر الى بيع مصر قطعة قطعة للمترفين .أنقل المقال كما هو، واعتبره بلاغا الى الضمير الانسانى و الضمير المصرى.
(قال ثم فعل
انظر ماذا قال :
* لن أرحم أحدا يمد يده إلى المال العام حتى لو كان أقرب الأقرباء ، إننى لا أحب المناصب ولا أقبل الشللية وأكره الظلم ولا أقبل أن يظلم أحد وأكره استغلال علاقات النسب ( 18 أكتوبر 1981 جريدة مايو ) ..
* الكل سواء عندي أمام القانون ونحن لا نريد قانون الطوارئ ( 20 أكتوبر 1981 جريدة نيويورك تايمز ) ..
* لن أقبل الوساطة وسأعاقب لصوص المال العام ( 26 أكتوبر 1981 مجلة أكتوبر ) ..
* مصر ليست ضيعة لحاكمها ( المصور 30 أكتوبر 1981 ) ..
* الكفن مالوش جيوب ، سنعلى من شأن الأيادى الطاهرة ( خطاب له فى فبراير 1982 ) ..
ثم انظر ماذا فعل:
نهب أراضى مصر ( 1- 9 ) :
فى 12 نوفمبر 2007 وقف جمال زهران - نائب مجلس الشعب عن كتلة الإخوان المسلمين - فى البرلمان واتهم الحكومة بإهدار 800 مليار جنيه ، شرح زهران المبلغ بأنه عبارة عن مساحات كثيرة وكبيرة من أراضى مصر وزعت على كبار المسئولين بالدولة ورجال أعمال يدورون فى فلكهم ..
دلل النائب المذكور على كلامه بما أعلنه اللواء مهندس عمر الشوادفى – رئيس جهاز المركز الوطنى لاستخدامات الأراضى – حين قال أن نحو 16 مليون فدان قد تم الاستيلاء عليها من مافيا الأراضى وتقدر قيمتها بنحو 800 مليار جنيه ..
(تمثل المساحة المنهوبة – أى الـ 16 مليون فدان – ما قيمته 67.2 ألف كم مربع وهو ما يزيد عن مساحة الدول الخمس التالية مجتمعة : فلسطين التاريخية 26.6 ألف كم مربع ، الكويت 17.8 ألف كم مربع ، قطر 11.4 ألف كم مربع ، لبنان 10.4 ألف كم مربع ، البحرين 5.67 ألف كم مربع)..
يقع ضمن المبلغ المذكور – أى الـ 800 مليار - مبلغ يقدر بحدود 80 مليار جنيها، وهو عبارة عن الأسعار السوقية للأراضي التى باعتها الدولة بثمن بخس إلى ست جهات فقط وهؤلاء هم : أحمد عز - مجدى راسخ - هشام طلعت مصطفى - محمد فريد خميس - محمد أبو العينين - الشركات الخليجية (الفطيم كابيتال الإماراتية – إعمار الإماراتية – داماك الإماراتية – qec القطرية)..
إننا نضع بين أيدى القراء فى هذه الحلقة الأرقام التالية والتى تدل بوضوح لا لبس فيه على نهب منظم لأراضى مصر ، وهو بهذه المناسبة قليل من كثير نتيجة سياسة الكتمان التى تفرضها أجهزة مبارك الأمنية :
1- خصصت الحكومة 100 كيلو متر (100 مليون متر مربع) شمال غرب خليج السويس وقسمها بين خمس جهات دون الإعلان عن مناقصات أو مزايدات وذلك بواقع خمسة جنيهات عن كل متر مربع ، إلا أن هذه الجهات دفعت جنيهاً واحدا عن كل متر وخصصت المنطقة المذكورة تحت ذريعة تنميتها ..
(أكد المهندس العالمى د. ممدوح حمزة والحاصل على 15 جائزة دولية أن المنطقة المذكورة لم تشهد أى تنمية وما يحدث ما هو إلا تسقيع للأراضى.. قدم د. حمزة إلى رئاسة الجمهورية فى عام 2004 ملفا كاملا عن الفساد فى وزارة الإسكان ، قام نظام مبارك بتلفيق تهمة اغتيال أربع شخصيات سياسية - فتحى سرور وكمال الشاذلى وإبراهيم سليمان وزكريا عزمى – إلى د. حمزة أثناء دخوله قصر برمنجهام فى لندن حيث كان يلبى دعوة للغداء على شرف الملكة فى قصر برمنجهام، أحتجز د. حمزة لمدة عامين فى أحد سجون لندن حتى ثبتت براءته من بلاغ مبارك الكيدى.. يذكر أن الطاغية الفاسد كان أول المهنئين لحمزة عند خروجه من محبسه فى لندن!!)..
وهذه الجهات الخمس التى نهبت المنطقة المذكورة والتى دفع رجال الفرقة 19 بالجيش الثالث الدم الغالى فى استردادها هى كما يلى:
- أحمد عز : تسلم 20 مليون متر مربع ( قيمتها السوقية بمبلغ 2.4 مليار جنيه ) وهو عضو مجلس الشعب عن الحزب الوطنى وأمين التنظيم الحالى.. أنشأ مصنعا للصاج بمساحة 150 ألف متر مربع وباع 150 ألف متر مربع إلى الملياردير الكويتى ناصر الخرافى بمبلغ 1500 جنها للمتر المربع ومازال يحتفظ بالمساحة المتبقية.
- محمد فريد خميس: تسلم 20 مليون متر مربع ( قيمتها السوقية 3.5 مليار جنيه ) وهو أحد كبار رجال الأعمال وعضو مجلس الشورى ورئيس لجنة الصناعة والطاقة ويملك شركة النساجون الشرقيون.. أنشا مصنعا للكيماويات بمساحة 20 ألف متر مربع وباع باقى المساحة فى صفقة ضخمة حققت عدة مليارات، كما تذكر الأنباء أن الوزير سليمان قد خصص أيضا لخميس 1500 فدانا.
- محمد أبو العينين: تسلم 20 مليون متر مربع (قيمتها السوقية 1.3 مليار جنيه) وهو عضو الحزب الوطنى ورجل الأعمال المعروف وصاحب شركة كليوباترا للسيراميك.. أنشأ مصنعا للبورسلين على قطعته بمساحة 150 ألف متر مربع وممرا لهبوط طائراته الخاصة (يملك ثلاث من نوع جولف ستريم ويقودها بنفسه) بمساحة 50 ألف متر مربع وباع كل المساحة الباقية فى صفقة بعدة مليارات..
- نجيب سايروس : تسلم 20 مليون متر مربع ( تقدر قيمتها السوقية بمبلغ 1.3 مليار جنيه ) ...أنشأ مصنعا للأسمنت على قطعته بمساحة 200 ألف متر مربع وباع كل المساحة الباقية فى صفقات بعدة مليارات .
- الشركة الصينية : وكان نصيبها أيضا مثل السابقين 20 مليون متر مربع ولم يتم استغلالها حتى الآن .
2- بجانب ما حصل عليه النائب محمد أبو العينين فى منطقة شمال غرب خليج السويس ، حصل أيضا على القطع التالية :
- تخصيص 5000 فدان فى منطقة شرق العوينات غير معلوم تفاصيلها .
- تخصيص 1520 فدان فى منطقة مرسى علم وقد اشتراها بسعر دولار للمتر وسدد 20 % من المبلغ ثم أعاد بيعها بأسعار فلكية للملياردير الكويتى ناصر الخرافى وقدرت القيمة السوقية لهذه الأرض بمبلغ مليار و 260 ألف جنيه .
- وضع يده على 500 فدان على طريق مصر الإسماعيلية ، وهى أرض ملكا للدولة ممثلة فى شركة مصر للإسكان والتعمير .
- تم تخصيص له 1500 فدان ( 6.3 مليون متر مربع ) بمنطقة الحزام الأخضر بمدينة العاشر من رمضان ..
3- خصصت الحكومة للمدعو مجدى راسخ - والد زوجة علاء مبارك هايدى راسخ – مساحة 2200 فدان ( 9.2 مليون متر مربع ) وذلك فى أفضل أماكن مدينة الشيخ زايد بسعر 30 جنيها للمتر ، لكن راسخ دفع مقدما بسيطا ولم يسدد المبلغ المتبقى .. تردد فى بداية عام 2006 عن وجود عرض من شخصية خليجية كبيرة بشراء تلك المساحة بمبلغ 10 مليار جنيها ( أى بسعر يزيد عن 1000 جنيها للمتر المربع ) ، ويذكر أن مجدى راسخ هو صاحب مشروع بيفرلى هيلز بمدينة الشيخ زايد والذى حقق من ورائه المليارات الكثيرة ، وله مساحات أخرى لم نتمكن من الحصول عليها منتشرة فى عدة أماكن إستراتيجية بمصر ..
4- خصصت الحكومة 9 آلاف فدان ( 37.8 مليون متر مربع ) لهشام طلعت – أحد أركان لجنة السياسات بالحزب الوطنى والموجود الآن فى السجن بتهمة قتل سوازان تميمى بعد أن هددت الإمارات بسحب مدخراتها إذا أطلق سراحه – فى منطقة شرق القاهرة لإنشاء منطقة سكنية باسم مدينتى بسعر يبلغ 5 جنيهات للمتر ، تقدر القيمة السوقية للمتر المربع بها بمبلغ 3500 جنيه مما أهدر على الدولة مبلغا قدره 28 مليار جنيه ..
5- خصصت الحكومة وبطريقة البلطجة ووضع اليد جزيرة نيلية بالأقصر إلى المدعو حسين سالم تسمى جزيرة التمساح وذلك بمبلغ 9 مليون جنيها ، وأنشأ علها شركة التمساح للمشروعات السياحية ..
تضم الجزيرة عشرات الأفدنة وسعرها الحقيقى لا يقدر بمال ، وإن كان قد قدر من قبل المختصين بأكثر من مئة ضعف ليقترب من مليار جنيه .. جزيرة التمساح تعتبر جوهرة لا تقدر بثمن بسبب موقعها الإستراتيجي المطل على مدينة الأقصر والتى تضم وحدها ثلثى آثار العالم ويتقاطر عليها السياح من أرجاء المعمورة ..
كما حصل وبنفس الأسلوب على أراضى شاسعة ومميزة فى شرم الشيخ وسدر ، ويذكر أنه يمتلك خليج نعمة حيث يقيم به حسنى مبارك بصفة شبه دائمة .. كما خصص لحسين سالم قصر ضخم أسطوانى الشكل مقام على مساحة 6000 متر مربع فى التجمع الخامس ، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من المساحات تنتشر فى مختلف الأماكن فى مصر ..
يذكر أن مبارك نزع فى منتصف التسعينات ملكية أحد الأراضى فى سيناء من ماليكيْها خالد فودة ووجيه سياج – صاحب فندق سياج بالهرم – وأعطاهما بأسلوب البلطجة إلى حسين سالم بثمن بخس بناء . أمضى سياج عشر سنوات فى المحاكم المصرية وحصل على أحكام منها كثيرة لتمكينه من أرضه ، رفض مبارك تنفيذها جميعا ولجأ إلى أسلوبه الكيدى الذى أشتهر به فقطع الخدمات عن فندق سياج بالهرم حتى ينهار وجيه سياج . لجأ سياج والحاصل على الجنسية الإيطالية فى 2005 إلى المحاكم الدولية وفى يوليو 2009 حكمت لصالحه بتغريم مصر بمبلغ 134 مليون دولار (حوالى 750 مليون جنيه)، وأذعن مبارك صاغرا إلى تنفيذ الحكم ، لكنه دفع هذه المبالغ سيكون – كما هو الحال دائما – من دماء شعب مصر!
يمثل حسين سالم الرقم اللغز فى حياة حسنى مبارك، هو شريكه فى شركة السلاح التى أنشأها فى باريس باسم "الأجنحة البيضاء" وقد وردت تفاصيل تلك القصة فى كتاب "الحجاب" للصحفى الأكثر شهرة فى العالم بوب وودوارد والذى صدر فى عام 1985.. كما استولى حسين سالم على مبالغ كبيرة من البنك الأهلى فى ثمانينات القرن الماضى وأخرجه مبارك من القضية ومن الأضواء حتى ينسى الناس القضية بعد أن أثارها المرحوم النائب علوى حافظ فى البرلمان فى عام 1986، وعاد سالم فى التسعينات بأقدام ثابتة ليعمل فى السياحة فى سيناء من خلال تخصيص الأراضي له بثمن بخس، وأخيرا يدير بعضا من المال الذى نهبه آل مبارك من خلال شركة شرق المتوسط حيث يقوم بتصدير الغاز إلى إسرائيل، وهى قضية أصبحت معروفة لكل المصريين .
6- خصصت الحكومة 1500 فدان لشركة أرتوك بثمن بخس على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى والتى يمتلكها كل من إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام وحسن حمدى عضو مجلس إدارة الجريدة ورئيس النادى الأهلى ، وقد تمت الصفقة على أن يترك حسن حمدى أرض النادى الأهلى فى مدينة 6 أكتوبر فى مقابل إتمام تلك الصفقة . دفعت الشركة جنيهات قليلة فى ثمن الفدان الواحد ثم قسمت المساحة الكلية إلى قطع متساوية بمساحة 30 فدان مع فيللا لكل قطعة .. تم البيع بسعر 2 مليون جنيها للقطعة وكان من ضمن العملاء المليونير السعودى عبد الرحمن الشربتلى وكذلك السفير أحمد القطان مندوب السعودية فى الجامعة العربية .
7- خصصت الحكومة 2045 فدانا بمبلغ 454 مليون جنيه لأحمد بهجت – أحد أركان الحزب الوطنى – من خلال شركته دريم لاند فى عام 1994 .. كان بهجت قد اقترض عدة مليارات من الجنيهات من البنوك المصرية ولم يتمكن من سدادها ووضع اسمه ضمن قوائم الممنوعين من السفر للخارج ، إلا أن جمال مبارك أخرجه للسفر إلى أمريكا للعلاج .. تفجرت قضية أراضى دريم لاند بصورة سريعة فى 2 يونيه 2008 عندما أعلنت الشركة المذكورة عن بيع 831 فدان وتقدر قيمتها السوقية بمبلغ 12 مليار جنيه وهو جزء قليل إذا ما قورن ببقية الأراضى المذكورة ...
8- خصصت الحكومة 55 فدانا للملياردير الراحل أشرف مروان لتأسيس نادى بالقاهرة الجديدة وفى قلب التجمع الخامس بتاريخ 29 أكتوبر 2000 . مورست الضغوط علي مروان من رجال إبراهيم سليمان وزير الإسكان حينها حتى ترك المشروع ، كانت عصابة الإسكان جاهزة فقد أصدر الوزير قرارا بتكوين مجلس إدارة جديد للنادى برئاسة حسن خالد نائب الوزير للمجتمعات العمرانية الجديدة وعضوية خالد سويلم– الشريك الواجهة فى مكتب الوزير – ومحمد حسنى وداكر عبد اللاه وجاد محمد جاد . قام أعضاء مجلس إدارة النادى بتسليم الأرض المذكورة إلى صديق الوزير عماد الحاذق لإقامة مشروع إستثمارى كبير مكون من فيللات وتم بيع الفيللا فيه بمبلغ 850 ألف جنيها .. قام أولاد حاذق بتعليق لافته كبيرة على المشروع – شارع 90 بالتجمع الخامس – تقول أن المشروع مكون من 100 فدان، وعندما قام مكتب هندسى بقياس المساحة الكلية وجد كارثة أكبر وهى أن مساحته تزيد عن 900 فدان .. أكد المهندس المصيلحى– مسئول المساحة بالقاهرة الجديدة – صحة تلك المساحة الجديدة وقال أن الوزير سليمان يملك الإجابة على ذلك!! يذكر أن أولاد حاذق قد أنشئوا منطقة مميزة داخل تلك المساحة الكبيرة تسمىLake View وهى أجمل مناطق التجمع الخامس ويُباع المتر فيها بمبلغ 8 آلاف جنيها علما أن "الحاذق" قد دفع 280 جنيها للمتر المربع عند تخصيصه.
9- خصصت الحكومة 770 فدانا لشركة المهندسين المصريين فى 27 يوليو 1994 وبسعر 50 جنيها للمتر على أن يسدد المبلغ بالتقسيط المريح (10 % عند التعقد ثم 15 % خلال سنة من التوقيع على العقد ثم فترة سماح مدتها ثلاث سنوات ثم يسدد الباقى على 5 أقساط متساوية).. المساحة المذكورة كانت كما يلى: 450 فدانا بمدينة العبور، 240 فدانا بمدينة الشروق، 80 فدانا بالقاهرة الجديدة. دفعت الشركة المذكورة خمسة جنيهات للمتر على أن يسدد الباقى على خمسة أقساط ، لكن الشركة المذكورة دفعت 16 مليون جنيها فقط وتم إعادة البيع للجمهور بسعر 750 جنيها للمتر المربع رغم أن الشركة المذكورة لم تسدد إلا القسط الأول فقط والمقدر قيمته 10 % .رغم أن الشركة المذكورة قد حققت أرباحا صافية تزيد عن ثلاثة مليار ونصف المليار جنيها إلا أن الكارثة الأكبر كانت أنها اقترضت مليارى جنيه من البنك العقارى العربى – رئيس مجلس إدارته هو فتحى السباعى وهو من رجال إبراهيم سليمان وزير الإسكان حينها- مما عرض أموال المواطنين للضياع ، وهو ما دفع البنك إلى شراء جزءا من الأرض بسعر ألفى جنيه للمتر . ( يذكر أن حوت السكر عاطف سلام كان قد اقترض من البنك المذكور 850 مليون جنيها وفعل المليونير الهارب عمرو النشرتى نفس الشيء – وهما من صبيان النظام وحضر العديد من الوزراء زفاف ابنة النشرتى منذ شهور )..
10- خصصت الحكومة إلى يحيى الكومى - صديق وشريك وزير الإسكان الأسبق إبراهيم سليمان أثناء عمله بالوزارة- قطعتى أرض فى التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة مساحتهما نحو 200 ألف متر بالقرب من الجامعة الأمريكية بالرغم من تخصيصهما كحدائق عامة ، وقد اشتراهما الكومى بثمن بخس وتبلغ قيمتهما السوقية 300 مليون جنيه ..
يذكر أن الكومى كان ضمن طبقة الفقراء وظهرت عليه فجأة علامات الغنى الفاحش وأصبح من رجال أعمال النظام حيث انضم إلى قائمة رجال البترول وأصبح مديرا لنادى الإسماعيلى . وفى ديسمبر 2009 تناولت الصحف تهما متبادلة بين الكومى وأميرة سعودية تدعى خلود بن العنزى، فقد اتهمته السيدة خلود – وهى طليقة الملياردير الوليد بن طلال – باقتحام منزلها وحررت محضرا بذلك فى قسم شرطة الدقى فى يوم 23 ديسمبر 2009 ، بينما اتهمها الكومى فى بلاغ بقسم شرطة الشيخ زايد فى يوم 30 ديسمبر 2009 بسرقة مشغولات ذهبية وساعات مرصعة بالماس تقدر قيمتها بـ 20 مليون جنيها ..
11 - خصصت الدولة إلى سمير زكى الكثير من الأراضى وبأسعار شبه مجانية .. قبل أن نخوض فى بعض تفاصيل تلك الأراضى نود أن نعرف القراء بشخصية هذا الرجل:
يعتبر سمير زكى حامل أسرار العقارات لكل الوزراء وسمسارهم الأوحد، خاصة عند الرغبة فى تحويل ما نهبوه إلى نقد.. بدأ حياته العملية كعامل فى أحد المجمعات الاستهلاكية ثم تركه والتحق بمصنع اللؤلؤة لصناعة الزجاج فى ثمانينات القرن الماضى حيث كان عمله هناك يقتصر على الوقوف أمام كومة من القش يضع بعضا منها بين ألواح الزجاج حتى لا ينكسر ، تعرف زكى على أحد العاملين فى جهاز مدينة 6 أكتوبر ومنه إلى رئيس الجهاز ثم إلى سكرتارية كبار المسئولين بالدولة، ثم انفرج الباب على مصراعيه:
- حصل على ترخيص بإنشاء جمعية تعاونية باسم شركة 6 أكتوبر لاستصلاح الأراضى والتى حصلت علي 17 ألف فدان بسعر 5 ألاف جنيه للفدان ، ثم باعها بـ 2 مليون جنيه للفدان بعد بناء فيلا عليه.. كما حصل على ترخيص بإنشاء جمعية تعاونية تسمى الوادى الأخضر والملفت للنظر أن كبار المؤسسين بتلك الجمعية هم من كبار رجال الدولة ..
- وضع زكى يده على 5 آلاف فدان من هيئة التنمية الزراعية ودفع 200 جنيها ثمنا للفدان الواحد ، قام ببناء 56 فيللا على المساحة المذكورة بواقع خمسة أفدنة لكل فيللا ..
- وضع زكى يده على 35 ألف فدان فى أفضل مواقع مدينة 6 أكتوبر .. كان الغرض المعلن لذلك هو استصلاح الأراضى وأما الواقع فهو وزارة إسكان مصغرة يخصص ريعها لكبار رجال الدولة .. دفع سمير زكى خمسة آلاف جنيه ثمنا للفدان الواحد ثم أعاد بيعه بمبالغ فلكية وصلت فى بعض الحالات إلى مليون ونصف المليون جنيها وخص كبار رجال الدولة بنصيبهم من القيمة الدفترية التى اشترى بها..
- خصص لأحد أبنائه مساحة قدرها 140 فدانا بأرض مدينة 6 أكتوبر وأقام عليها ميناء للبضائع ..
12- خصصت الحكومة 26 ألف فدان من أجود الأراضى لشركة كويتية فى عام 2001 بسعر 200 جنيه للفدان ، لم تقم الشركة باستزراع تلك المساحة مهدرة 54 مليار جنيه ، وهو الثمن الواقعى لتلك الأرض ..
13- خصصت الحكومة 750 فدانا إلى شركة السليمانية على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى التى يملكها سليمان عامر ( أحد الواجهات للنظام الحاكم ) بسعر 50 جنيها للفدان حيث حول تلك الأراضى إلى منتجعات سياحية وأراضى للجولف ..
14- خصصت الحكومة 10 أفدنة فى القاهرة الجديدة لأميرة سعودية لبناء مجموعة من القصور للأميرات ، وقد دفعت 400 جنيها للفدان الواحد وقدرت القيمة السوقية للمتر الواحد بمبلغ 4500 جنيها ، وقد حدث ذلك بقرارات سيادية بالأمر المباشر وتم التنفيذ فى يوم واحد .
16- خصصت الحكومة 547 فدانا إلى أحمد عبد الوهاب صاحب شركة كنوز للأنتيكات على طريق مصر الفيوم .. تقدم النائب كمال أحمد باستجواب فى مجلس الشعب حول الصفقة لكن كمال الشاذلى - زعيم الأغلبية حينها - تصدى له وأوقف الاستجواب ، وهو ما يدل على أن المشترى واجهة لأحد كبار المسئولين بالدولة ..
17- خصصت الحكومة لمعتز رسلان ( سعودى كندى وكان تلميذا لإبراهيم سليمان فى هندسة عين شمس) 63 فدانا فى التجمع الخامس بسعر 150 للمتر المربع .. دفع رسلان 10 % عند التعاقد ثم 15 % بعد عام من التعاقد وبقية المبلغ على عشر سنوات ، علما أن الغرض من ذلك كان إنشاء مدينة للملاهى ..لم يلتزم رسلان بإنشاء مدينة للملاهى ولم تسحب منه الأرض .. فى عام 2008 عرض رسلان الأرض المذكورة للبيع بسعر 4500 جنيها للمتر المربع وهو ما يعنى تحقيق ثروة تقدر بمبلغ 1.2 مليار جنيه ..
18- خصصت الحكومة 52 ألف فدان للملياردير الكويتى ناصر الخرافى – يحتل المرتبة الأربعين فى قائمة أغنى أغنياء العالم – فى منطقة " جرزا " بمركز العياط بالجيزة بسعر 200 جنيها للفدان ، يذكر أن الفدان كان يباع للفلاحين فى المنطقة المذكورة بسعر 15 ألف جنيها ، الكارثة أن المساحة المذكورة عبارة عن منطقة أثرية وبها هرمان منهما هرم " سنوسرت " ..
19- خصصت الحكومة إلى سليمان البدرى - أحد أهم الرجال المقربين إلي وزير الإسكان الأسبق إبراهيم سليمان وذراعه الأيمن فى دائرته الانتخابية – 25 فدانا بالقاهرة الجديدة بثمن بخس .. حصل البدرى على قرض كبير من بنك مصر إكستريور بضمان تلك الأرض بعد إعادة تقييمها بالأسعار الفلكية .. يذكر أن البدرى عين من قبل الوزير المذكور رئيسا لمجلس أمناء مدينة الشروق ، كما يملك مقهى " العقاد " وهو المكان المخصص لشلة الأنس من رجال سليمان ، كما يملك البدرى شركة للاستثمار العقارى تسمى B.D.H ..
22- خصصت الحكومة وبثمن بخس أراضى وفيلات وقصور إلى عدد كبير من المسئولين بها ومنهم ما يلى :
* عاطف عبيد : رئيس الوزراء الأسبق ، خصص له قصر فخم فى مارينا بالإضافة إلى فيللا ضخمة أشبه بالقصر فى قرية رمسيس بالكيلو 44 من طريق مصر الإسكندرية الصحراوى ، كما منح عدة أراضى فى مناطق مختلفة اشتراها جميعها بثمن بخس ..
* اللواء هتلر طنطاوى : رئيس أكبر جهاز رقابى فى مصر لمكافحة الفساد وهو هيئة الرقابة الإدارية ، خصصت له أراضى شاسعة فى عدة مناطق وقصر فخم فى التجمع الخامس تم بناؤه بالمخالفة وقصر ثان لا يقل فخامة فى مارينا وقصر ثالث فى قرية بدر المجاورة لمارينا وفيلتان فى 6 أكتوبر .. كما تسلم أولاد هتلر من ممتلكات الدولة ما يلى :
- تسلمت ابنته سما هتلر وزوجها محمد محمود وأولادهما ندى ونوران أرضا مساحتها 40 فدانا .
- تسلمت ابنته منى هتلر وشقيقتها سما هتلر أرضا مساحتها 10 أفدنة .
- تسلم ابنه وليد هتلر أرضا مساحتها 10 أفدنة .
يذكر أن مبارك كان قد منح هتلر طنطاوى وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عند إحالته إلى المعاش .
* فاروق سيف النصر : وزير العدل الأسبق ، خصص له قصر ضخم فى مارينا .
* سيد طنطاوى : شيخ الأزهر ، خصص له ولولديه - عمرو وأحمد - ثلاثة قصور فخمة وعلى مساحات واسعة بالتجمع الخامس .. كما حصل ولداه المذكوران على 220 ألف متر بالدخيلة بسعر 35 قرشا للمتر ، علما أن الأرض المذكورة قد نزعت ملكيتها من مالكها الأصلي ، لكنه مثل خالد فوده فى الفقرة 5 لا يملك أى جنسية أجنبية - كالتى يتمتع بها وجيه سياج - كى يستعيد حقه ! .. يذكر أن سيد طنطاوى نشأ فى عائلة معدمة فى قرية سليم شرقى بمركز طما بمحافظة سوهاج ..
* الفريق أحمد شفيق : وزير الطيران المدنى ، خصص له قصر فخم بالتجمع الخامس بجوار قصر هتلر طنطاوى .
* سامح فهمى : وزير البترول ، خصص له قصر فخم على ربوة مرتفعة بالتجمع الخامس .
* زكريا عزمى : وزير الديوان ، خصص له قصر فخم على مساحة 3000 متر مربع بالتجمع الخامس .
* كمال الشاذلى: عضو مجلس الشعب وأمين التنظيم السابق بالحزب الوطنى، تسلم فى 23 فبراير 2005 وقبل أيام من خروجه من الوزارة مساحة 40 فدانا بمنطقة الحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر واستثنى من شرط نسبة المبانى، أعاد الشاذلى بيع تلك المساحة بسعر 280 ألف جنيها للفدان (أى أنه حقق ربحا صافيا قدره 10 مليون جنيها) إلى الأمير السعودى مشعل بن عبد العزيز بمساعدة سمير زكى ، كما خصص للشاذلى ولأولاده أيضا منتجع ضخم فى التجمع الخامس يضم ثلاثة قصور يحيط بها سور فخم .
* فتحى سرور : رئيس مجلس الشعب ، تسلم عدة قطع اشتراها بثمن بخس وأعاد بيعها بأسعار عالية بمساعدة سمير زكى وحقق من وراء ذلك ربحا قدره 15 مليون جنيها .. خصصت الحكومة له قصرين بنفس الأسعار فى رويال هيلز وأعاد بيعهما بنفس الطريقة ، كما خصصت الحكومة له قصرين بثمن بخس فى التجمع الخامس ويحتفظ بهما .
* اللواء حبيب العادلى : وزير الداخلية ، تسلم 32 فدانا بثمن بخس وتم إمداد الأرض المذكورة بخط مياه على نفقة الدولة .
* صفوت الشريف : رئيس مجلس الشورى ووزير الإعلام السابق لمدة ربع قرن : تسلم وأولاده 33.5 فدانا على الطريق مباشرة ، كما خصصت الحكومة لأحد أبنائه مساحة من شاطئ مارينا أقام عليه ما يسمى بشاطئ البشمك للمحميات وشاطئ الأبلاج الذى به كانترى كلوب وسباقات خيول وحمامات سباحة .
* محمود محمد على رئيس مصلحة الضرائب : تسلم 40 فدانا بنى فى بعض مساحتها ثلاثة قصور ويقدر قيمة كل قصر بمبلغ 15 مليون جنيه بالإضافة إلى فيلا فى الساحل الشمال قيمتها 17 مليون جنيه .. وزع رئيس المصلحة بعض المساحة على عائلته كما يلى:
- نشوى عبد الغنى محمود : هى زوجة رئيس مصلحة الضرائب وتسلمت خمسة أفدنة وهى موظفة فى البنك المركزى فرع الألفى ومخصص لها سيارة فاخرة BMW سوداء بسائق على نفقة مصلحة الضرائب ..
- محمد محمود محمد على : إبن رئيس مصلحة الضرائب وتسلم 10 أفدنة ويملك سيارة شيروكى بيضاء .
- إكرام رجب محمد جمعة : زوجة شقيق رئيس المصلحة عبد الفتاح محمد على وهو مرشح الحزب الوطنى بدائرة السيدة زينب .
- حسين عبد الفتاح محمد على : إبن شقيق رئيس مصلحة الضرائب .
* إبراهيم سليمان: وزير الإسكان وصاحب قرار البيع فى الأراضى والفيلات التى تبنيها الدولة.. دخل الوزير المذكور الحكومة فى أكتوبر 1994 وكان يعمل قبل ذلك أستاذا فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس بمرتب 585 جنيها.. ينحدر من عائلة فقيرة وكان أبوه يعمل نجارا فى باب الشعرية، خرج سليمان من الوزارة فى ديسمبر 2005، لكنه كان يمتلك عند خروجه ما يلى:
- عدد تسعة من السيارات الفاخرة.
- قصران بمصر الجديدة بجوار قصر الدكتاتور الفاسد حسنى مبارك ( باع إبراهيم سليمان أحدهما فى 2006 إلى شريكه الجديد رجل الأعمال يحيى الكومى بمبلغ 45 مليون جنيه ويسمى قصر النقراشى لأنه شيده على أنقاض قصر النقراشى باشا رئيس وزراء مصر الأسبق بعد هدمه بالمخالفة للقانون ، ويذكر أن يحيى الكومى هو شريك الآن مع الوزير المذكور فى مصنع لإنتاج غاز الميثونول وهو مشروع يحقق أرباحا فلكية).
- قصر فى " أبو سلطان " بمنطقة لسان الوزراء بمدينة فايد بالإسماعيلية.
- قصر فى مارينا يطل على البحر مباشرة.
- قصر بجزيرة الشعير بالقناطر الخيرية.
- قصر بمنطقة الجولف بالتجمع الخامس بالقاهرة الجديدة مقام على مساحة 6000 متر مربع بجوار قصور سيد طنطاوى الثلاثة ..
- قطعة أرض باسم زوجته منى المنيرى بالتجمع الخامس ومساحتها 1393 مترا مربعا بثمن 842 ألف جنيها ويبلغ ثمنها السوقى 10 مليون جنيها .
- قطعة أرض باسم ابنه شريف بالمنطقة المميزة بأرض الجولف بالتجمع الخامس ومساحتها 4458 مترا مربعا بثمن 1.5 مليون جنيها ويبلغ ثمنها السوقى 12 مليون جنيها .
- قطعة أرض بإسم إبنته جودى بالمنطقة المميزة بالتجمع الخامس ومساحتها 733 مترا مربعا بثمن 752 ألف جنيها ويبلغ ثمنها السوقى 5 مليون جنيها .
- قطعه أرض بإسم إبنته دينا بالمنطقة المميزة بالتجمع الخامس ومساحتها 2243 مترا مربعا بثمن 760 ألف جنيها ويبلغ ثمنها السوقى 13 مليون جنيها
- 30 ألف متر مربع فى مرسى علم بجوار قطعة صديقه محمد أبو العينين .
يذكر أن قانون هيئة المجتمعات العمرانية الجديد ينص على أنه لا يجوز للفرد الواحد وزوجته وأبنائهما القصر الحصول على أكثر من شقة واحدة أو قطعة أرض واحدة فى المدن الجديدة عن طريق التخصيص، ولكن الوزير الأسبق منح زوجته وأبنائه القصر 7 قطع وفيلات مساحتها جميعا 10 آلاف متر فى القاهرة الجديدة ومارينا.
وكما منح مبارك المدعو هتلر طنطاوى وسام الجمهورية من الطبقة الأولى ، فإننا نجده هنا أيضا يمنح إبراهيم سليمان نفس الوسام فى فبراير 2006 غير عابئ بمشاعر الرأي العام التى وضعت سليمان على رأس قائمة الوزراء الأكثر فسادا وتخريبا لأراضى مصر !! .. ثم عينه مبارك فى عام 2008 رئيسا لمجلس إدارة شركة الخدمات البحرية براتب شهرى 1.3 مليون جنيها رغم عدم خبرته فى هذا المجال ..
* إبراهيم كامل : أحد أقطاب الحزب الوطنى ، ما أمكن حصره من أراضى مصر التى نهبها هو يلى :
- خصصت له الدولة أرضا فى الساحل الشمالى اشتراها بقروش عديدة ، أنشأ كامل عليها قرية غزالة السياحية وقفز ثمن متر الأرض بها إلى عدة آلاف من الجنيهات .
- منحته الدولة 64 كيلو متر مربع لإنشاء مطار العلمين رغم معرفة الحكومة جيدا أن مساحة المطار لاتزيد عن 10% من المساحة المذكورة ، لكن المخططين لإبراهيم كامل يعلمون أن المساحة المتبقية سيتم بيعها كقرى سياحية بأسعار فلكية .. لم يدفع إبراهيم كامل فى تلك المساحة الكبيرة إلا مليونى جنيه من خلال قرض من أموال المودعين ..
- خصصت له الدولة أرضا فى منطقة سهل حشيش فأنشأ عليها شركة يرأس مجلس إدارتها لتطويرها سياحيا .
لابد أن نذكر هنا أن إبراهيم كامل مدين بثلاثة مليار جنيها تقريبا إلى بنك القاهرة وتحديدا فرع الألفى ورغم ذلك فهو حر طليق لأنه يتمتع بحماية مبارك شخصيا ، وكان رئيس بنك القاهرة السابق أحمد البرادعى - أحد رجال جمال مبارك - قال ما نصه " إبراهيم كامل خط أحمر لا يجرؤ أحد على تخطيه .. خلاص .. لا يأخذ قروضا جديدة ولا نسأله عن القروض القديمة " ! . لاحول ولا قوة الا بالله). انتهى ..!!
أخيرا :وعظ السلطان مبارك
1 ـ يقول جل وعلا: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ )
هنا ارهاص بالاهلاك القادم لمصر لو لم يتم فيها اصلاح عاجل وعادل ، فالاهلاك يحل عندما تتباعد الفجوة بين ساكنى القصور وساكنى العشوائيات و القبور .
القرية فى المصطلح القرآنى تعنى الدولة والمجتمع . والبئر المعطلة ترمز الى المرافق الأساس التى يعيش عليها معظم الشعب ، ومفروض عندما تكون الدولة عادلة أن تكون الأولوية للحاجات الأساسية للأغلبية من الشعب ، ولكن عندما يتعاظم الظلم ويتحكم المترفون تقام القصور الفارهة بينما تتعطل البئر التى يتعيش عليها أغلبية الناس. وهذا مانراه فى مصر التى تترصع بآلاف القصور التى لا يسكنها أصحابها إلاّ قليلا ،وتتحلى بكل أنواع الرفاهية بينما تنقطع المياه عن العشوائيات والريف وحين تصل اليهم تكون محملة بالمجارى . ويعيش الملايين فى المقابر وعلى الأرصفة ، ويتجول آلاف الأطفال فى الشوارع بلا مأوى ، لتصبح ظاهرة ( أطفال الشوارع ) فى مصر حديث العالم .
كل ذلك من ملامح الاهلاك القادم أوانفجار المجتمع المصرى بعد أن ييأس من الصبر . ولهذا تقول الآية التالية تحذر وتعظ من يقرأ القرآن الكريم تدعوه للاعتبار من سيرة السابقين وآثارهم :(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ( الحج 45 : 46 ).
2 ـ نحن نعظ هنا لأداء الواجب فقط ، دون أمل حقيقى فى الاصلاح، نقول ( لعل وعسى ) ونعرف انه لا أمل ولا عسى .!!، فالظالم استمرأ الظلم وقد زين له الشيطان سوء عمله فأصبح يفخر به ويحسبه حسنا . بل أكثر من هذا يندفع الظالم ليتآمر ويمكر بالمصلحين ، وهنا أيضا نجد التوصيف فى القرآن الكريم ، يقول عن الظالمين :(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) أى كان التدمير عقوبة مكرهم وتآمرهم ، وبعدها تبقى بيوتهم خاوية تندب أصحابها ، يقول جل وعلا: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) ويجعلها رب العزة عظة وتذكرة لمن يعقل ويعلم : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) وفى النهاية ينجى الله جل وعلا المتقين المصلحين : (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون ) ( النمل 50 : 53 ).
آخر الكلام :
1 ـ هل نسينا معاوية ؟
2 ـ لو قام معاوية من قبره وسار فى القاهرة وصعد الى برج الجزيرة وتأمل الظلم الذى يسيطر على كل اركان مصر، وسمع صراخ المعذبين وعويل الفقراء والمساكين وأنين المحرومين وقهقهات المفسدين والظالمين .. ماذا كان سيفعل وهو اعلى برج القاهرة ؟
3 ـ إختر واحدة من الاجابات التالية :
• سيلقى بنفسه منتحرا من فوق البرج .
• سيلعن نفسه لأنه هو الذى بدأ بالتوريث فى تاريخ المسلمين .
• سيكشف رأسه ويدعو على الرئيس مبارك وأعوانه وشركائه .
• سينزل مسرعا من برج القاهرة ويتحزّم بحزام ناسف ويفجر نفسه فى أقرب قسم بوليس..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







الفصل الثالث : وعظ الرئيس (محنط) حسني مبارك:
تغيير المناخ الثقافى بين معاوية ومبارك :
الجزء الأول

تاريخ النشر: 2010-04-05
أولا :
1 ـ نقصد به هنا درجة الحيوية أو الموات. الحيوية الايجابية التى تجعل الفرد والمجتمع حيا متفاعلا مستعدا للتضحية والقتال والوقوف دفاعا عما يعتقده أو ما يمتلكه أو ما يريده، أو الموات السلبى والخمول الذى يجعل المجتمع دابة مطيعة يركبها المستبد، وغاية طموح تلك الدابة هو توفير الحاجات الأساس أو الحد الأدنى منها.
2 ـ العادة أن المجتمعات النهرية الزراعية ذات المناخ المعتدل هى الأقرب للدعة و السكون والميل للتسامح والصبر على ظلم الحكام ، تنمو فيها الأمثلة التى تعكس هذه الثقافة مثل (طاطى لها لما تفوت) (الصبر حرق الدكان) (إن كانت لك عند الكلب حاجة قول له يا سيد) (الباب اللى يجى لك منه الريح سده واستريح) (اللى يتجوز أمى أقول له ياعمى). ولهذا تدعو الأم المصرية لابنها قائلة (يكفيك شر الحاكم الظالم) فالحاكم الظالم يترصد الجميع ممثلا فى الخفير وشيخ البلد والعمدة والمأمور، وقديما (المشد) و(الخولى) و (الكاشف).
3 ـ مصر و الهند والصين وايران هى الأمثلة الكلاسيكية لتلك المجتمعات المستقرة ، وهى مستقرة لأنها لا تعرف الثورات إلا قليلا ، وهى مستقرة لأنها هى التى ازدهرت فيها الحضارات القديمة و استمر فيها نظام الدولة الثابتة مهما اختلفت فيها نظم الحكم أو جنسيات الحكام ، وسواء كانت مستقلة أو محتلة .
4ـ الأساس هنا أن البيئة الزراعية تضمن الحد الأدنى من ضروريات الحياة ، من ( العيش والملح ) وما يستر البدن ، هذه الاحتياجات البسيطة تدعو بها الأم المصرية لابنها ( الاهى ما يجوّع لك كبد ولا يعرّى لك جسد) ، وللحصول على الغذاء والكساء فلا بد من (الصبر) الى أن ينبت البذر وينمو الزرع وينتج الحقل . ولأن الحقول تحتاج الى النهر فلا بد من سلطة مركزية تتحكم فى الرى والصرف وتحمى الحقول وأصحابها من غارات البدو وغيرهم من الطامعين فى الثروة الزراعية . وبالتالى لا بد أيضا من ( الصبر ) على ظلم هذه السلطة ، فصاحبها ياتى و يغيب ليأحل محله غيره ، مثل الليل و النهار و الفصول الأربعة ، ومثلما يحمله النهر من بقايا حطام وأكوام زبالة يلقيها فى مصبه. ويبقى الفلاح ملح الأرض ، وتبقى الأرض أو الوطن ، ولذا يتحمل الفلاح الباقى الحاكم الزائل أملا فى أن يأتى بعده من يكون خيرا منه .
5 ـ وإن لم يأت ذلك المنقذ القائم بالعدل على حصانه الأبيض فلتأت به ـ ولو فى آخر الزمان ـ الأحلام الوردية والأديان الأرضية وأساطيرها الدرامية . ومن هنا انتشرت اسطورة ايزيس واوزوريس وابنهما حورس والعم الشرير ست ، وفيها تكون ايزيس الأم والزوجة التى تساند الزوج والابن و تهب الحياة للاسرة ، بينما يموت اوزوريس ليعود آخر الزمان حاملا أمل العدل للمظاليم . أثرت تلك العقيدة الفرعونية فى الديانات الأرضية، وتشكلت منها عقائد المسيا المنتظر ونزول المسيح آخر الزمان (والمسيح الدجال) والمهدى المنتظر.
6 ـ اجتذبت هذه الحالة المصرية انتباه عمرو بن العاص فقال (مصر مطية راكب) يعنى بالمثل المصرى (بلد اللى يركب) سواء كان الراكب فى عظمة صلاح الدين الأيوبى أو شجاعة الظاهر بيبرس، أو كان فى جنون الحاكم بأمر الله الفاطمى ومحمد بن قايتباى، أو عدل احمد بن طولون، أو جشع السلطان برقوق، أو وحشية السلطان أيبك، أو جمال شجرة الدر أو قبح كافور الاخشيدى أو حكمة محمد على، أو حمق عبد الناصر أو عشوائية السادات أو خيبة وحقارة حسنى مبارك.
فى كل الأحوال يسهل على المستبد المصرى أن يفعل ما يشاء دون خشية من الشعب ، بل تهبط به مصر أو تصعد حسب مقدرته وشخصيته، تعلو به مصر إن كان على مثال تحتمس أو رمسيس ، ويهبط بمصر إن كان من الصنف الخسيس. وإذا هبطت مصر هبط معها العرب، وإذا صعدت وعزّت صعد معها وعزّ العرب .!
7 ـ المناخ الثقافى هنا له طابع مستمر ومستقر هو إيثار الصبر على التمرد. ولا يصل التمرد الشعبى إلا أن يكون مجرد هوجة لسبب طارىء يتعلق بأساس الحياة (العيش والملح) أى (إكسير الحياة) أو الضرورى جدا للبقاء حيا، أو بالتعبير الرائع الموجز (لقمة العيش )، والتى بدونها لا تكون هناك حياة أو (عيش)، فرغيف الخبز فى الريف المصرى يقال عنه (عيش) أى حياة وعيش.ويقسم المصرى بالعيش والملح ، ولو وجد كسرة خبز ملقاة على الطريق بادر بحملها فى إعزاز يقترب من التقديس وهو يقول ( بسم الله الرحمن الرحيم). ويصبح أكل العيش والملح رابطة صداقة وأخوة حتى بعد طول خصومة وعداء. (الملح) هنا أرخص الادام، وهو يمثل كل انواع (الغموس) أى ما يغمس فيه الخبز. وكسرة الخبز أو لقمة العيش فى يد الطفل المصرى هى التجسيد المادى لقيمة الصبر ومعنى الأسرة المصرية. كسرة الخبز لها سيرة حياة متجددة، تبدأ ببذرة الحنطة الى محصول القمح والدقيق و تنتهى الى الخبز. وفى كل تلك المراحل تتعاون الزوجة والبنت والأخت مع الرجل فى البيت والحقل ، ويقتسم الجميع موال الصبر والتحمل الى أن يتحول الصبر و القمح الى لقمة ( عيش ) فى يد الطفل ، يسير بها فى الشارع يأكل ، ويطلب طفل آخر منها ( كسرة ) فيعطيها له راضيا بالسليقة ، إذ لا مجال لمنع لقمة العيش عن الآخرين .
إذا وصل سوء الحال الى تهديد ( لقمة العيش ) هذه تنتفض الجماهير ، كما حدث فى انتفاضة الخبز فى عهد السادات ، أومن هنا نفهم تقاتل المصريين حول أفران الخبز فى الحضيض الذى أوصلهم اليه حسنى مبارك .!
8 ـ وخارج هذه الانتفاضات الفجائية الوقتية يكون من الاستثناء قيام الشعب كله بثورة مستمرة مثل ثورة 19 التى لم تأخذ حقها من الدراسة و التحليل برغم كثرة المكتوب عنها .
هذه الثورة الاستثنائية صنعتها عوامل شتى، منها الانفتاح والتحديث الذى أقامه محمد على مع فرنسا والغرب، وأثمر هذا التحديث العسكرى وعيا ثقافيا يطمح للتشبه بأوربا فى عصر الخديوى اسماعيل، وواكب ذلك حركة تعليمية أوصلت الفلاحين المصريين المتعلمين الى قيادة الجيش فكانت ثورة عرابى، وبهزيمتها جاء الاحتلال البريطانى.
الاحتلال البريطانى هو صاحب الفضل فى تطور الفكر المصرى الليبرالى، فلم يكن احتلالا فظا غليظ القلب بل كان يسمح بنمو المعارضة الوطنية الى مدى معين، لذا ظهر واشتهر مصطفى كامل الذى خرج من الطبقة الوسطى وكان يناضل داخل بريطانيا نفسها، وتلاه رفيقه محمد فريد الذى كان يمثل الوطنية لدى الطبقة العليا.
هذه الليبرالية البريطانية ساعدت على نمو حركة الاصلاح الدينى و السياسى للامام محمد عبده ، وفى مدرسته تخرج سعد زعلول ، وقامت حركة ثقافية ليبرالية ارتقت بطموحات المصريين من مجرد ضمان الحصول على (لقمة العيش) الى قيمة أعلى وأكرم، وهى الحرية بمعنى شامل وراق، ليس التحرر من المستعمر الأجنبى فقط، بل التحرر أيضا من الاستبداد المحلى..
9 ـ بعد انهيار الحكم الفرعونى المصرى خضع المصريون لمختلف الغزاة الأجانب حوالى ثلاثين قرنا، من الآشوريين والفرس والأغريق والرومان والعرب والأتراك والفرنسيين، ثم الانجليز.
كان الانجليز هم أرقى مستعمر حكم مصر، وأكثرهم رفقا بأهلها، لم يقم الانجليز بارتكاب جريمة تعذيب لأى مصرى، برغم من شيوع ثقافة التعذيب قبل وبعد الاستعمار البريطانى لمصر وحتى الآن. ولقد استغل مصطفى كامل حادثة دنشواى ضد انجلترة داخل انجلتره نفسها ، مع أن المحكمة فى دنشواى كانت مصرية صميمة ، ومع أن العادة قبل وبعد الاستعمار البريطانى ـ و حتى الآن ـ هو حق الحاكم فى قتل من يشاء بدون محاكمة أصلا.
10 ـ أتاح التعليم مع الليبرالية البريطانية ظهور وعى سياسى أشعل ثورة 19 وكان تمهيدا لتطورالحركة الوطنية التى طالبت بشيئين معا (الجلاء والدستور ) ،اى (الجلاء) لتحرر الوطن من المحتل الأجنبى، و(الدستور) لتحرر المواطن من أى استبداد محلى. وهو تقدم فى الفكر الديمقراطى سبقت به مصر معظم أوربا، ويكفى أن مصر افتتحت ثانى خط سكة حديدية فى العالم، وكانت من أوائل من عرفت صناعة السينما، وسبقت الشرق كله فى تكوين أول مجلس نيابى فى ستينيات القرن 19 فى عهد الخديوى اسماعيل.
كل ذلك قبل أن يقضى عليها الجراد، اى العسكر الذى يحكم مصر من عام 1952.ثورة 19 كانت هاجسا مزعجا للضباط المراهقين الذين قاموا بحركة الجيش عام 1952، ثم حولوها الى انقلاب ثم الى ثورة، فى ظل تهميش لثورة 19 لما فيها من دعوة ليبرالية ودستورية .
11 ـ وبينما تم حرمان المصريين من فهم ثورة 1919 فان هذه الثورة هى التى ألهمت غاندى زعيم الهند، والذى قام بتحرير الهند سلميا. والهند هى الأخرى إحدى أهم البيئات النهرية والحضارية فى العالم.
والواقع أن نجاح غاندى فى ثورته السلمية يرجع الفضل فيه الى التحضر الانجليزى نفسه، إذ تشبه غاندى بمصطفى كامل وخاطب الضمير الانسانى داخل الانجليز واستطاع أن يجذبه الى القيم التى عايشها غاندى نفسه وهو يعيش داخل المجتمع الانجليزى. ولو ظهر غاندى اليوم فى عصر حسنى مبارك يدعو سلميا للحرية والديمقراطية مستخدما العصيان المدنى لكان مصيره التعذيب والاغتصاب فى سجون حسنى مبارك!! وهذا ملمح من ملامح الاختلاف بين الثقافة الشعبية التى انحدرت لها مصر فى عصر مبارك ( المتوحش )، والثقافة الشعبية التى كانت عليها مصر منذ قرن من الزمان ـ وهى تحت الاحتلال الانجليزى (المتحضر).
12 ـ هنا ندخل على التحول الثقافى الخطير الذى حدث فى عصر حسنى مبارك بحيث يؤخر حدوث ثورة شعبية كالتى حدثت فى مصر عام 1919 . وهو تحول يتشابك مع مثيل له حدث مع معاوية وتكوين أول حكم وراثى مستبد فى تاريخ المسلمين . نبدأ بعمنا معاوية.
ثانيا: ننتقل الآن الى الجزيرة العربية حيث نتعامل مع نموذج ثقافى مختلف.
1 ـ هنا صحراء قاحلة ، فيها الماء سلعة تتقاتل فى سبيلها القبائل، ويكون العشب المؤقت المتنقل سبب الاستقرار المؤقت ، فالعشب هو الوطن المتحرك، والقبيلة هى الدولة المتحركة التى تسعى خلفه ولكن حدودها بقدر ما تستطيع سيوف القبيلة الدفاع عنه ، والانتماء هنا ليس للأرض والوطن أو المكان الثابت ولكن للنسب الذى يربط أبناء القبيلة بصلة الدم والقرابة. والقبيلة كدولة متحركة لها زعيم أو شيخ أو (قيل) أو ملك أو أمير. وكل ذكور القبيلة هم جند القبيلة وجيشها المحارب، والرجل هو كل شىء، فهو المسئول عن المعاش وعن الحماية، أما المرأة فهى مجرد متاع وممتلكات للأب أو الأخ أو الزوج، أو حتى الابن. وللقبيلة علاقات متنوعة مع القبائل الأخرى، من الحرب الى الحلف، وهناك من ينزوى وينضم الى القبيلة الكبرى من عشائر تتحالف مع القبيلة الكبرى، وبمرور الزمان قد تكتسب (جنسيتها) أو نسبها، كما يتردد فى مصادر أنساب العرب.
العمل الاقتصادى للقبيلة هو الرعى ( سلميا ) والاغارة على القبائل الأخرى لسلب ممتكاتها، والممتكات هنا ليست مجرد المال والابل والغنم ولكن أيضا النساء والأولاد، لذا يرتبط السلب والنهب بالسبى والاسترقاق .
فى هذه الثقافة البدوية يشترك العرب فى المدن (قريش فى مكة، هوازن فى الطائف، الأوس والخزرج فى يثرب) مع الأعراب فى البوادى، من ربيعة ومضر وقيس (العرب الشماليون) فى نجد شمالا ومن كلب وقضاعة (العرب اليمنيون القحطانيون) فى الشام.
وبينما نعمت قريش بسكنها حول البيت الحرام بالحصول على الأمن والرخاء الاقتصادى برحلة الشتاء و الصيف فان بقية العرب عاشوا فى قتال مستمر، كان اسلوب حياة لهم يقوم على مشروعية اجتماعية هى الاستحلال، أى استحلال ما فى يد الغير طالما تقدر عليه وطالما لا يستطيع الدفاع عنه. وبالاغارة لك الحق فى ملكية ما حصلت عليه بسيفك، وتؤول اليك المرأة السبية وتدخل فى طاعتك وتهبك نفسها لأنها مملوكة لمن يغلب ولمن يستطيع حمايتها .
2 ـ وببعض التأويل والتحريف الدينى ـ بعد الاسلام ـ تحول هذا الاستحلال الاجتماعى فى الجزيرة العربية الى استحلال دينى قامت على اساسه دول متحركة مثل حركتى الزنج والقرامطة، أو دول مؤقتة مثل حكم الهاشميين (الأشراف ) للحجاز، والدولة السعودية الأولى و الثانية و الثالثة الراهنة.
3 ـ الصراع المسلح المستمر هو السبب فى عدم وجود دولة مستمرة مستقرة فى الجزيرة العربية، يستوى فى ذلك إن قامت الدولة على اصول عشائرية قبلية أو على أساس دين أرضى أو سماوى. فى كل الأحوال هناك معارضة مسلحة لا تلبث أن تثور وتقضى على تلك الدولة، وتجعل القاعدة هى وجود دولة مؤقتة أو متحركة وليست مستقرة مستمرة.
ولو افترضنا أن دولة الاسلام العربية ظلت محصورة فى الجزيرة العربية لانتهى عمرها سريعا. وهذا مفهوم من بزوغ حرب الردة بمجرد وفاة النبى محمد عليه السلام. ولو لم تصدّرقريش حيوية العرب العسكرية فى غزو البيئات النهرية خارج الجزيرة العربية ما قامت للعرب المسلمين دولة خارج جزيرتهم العربية. بل إن الجزيرة العربية عادت الى ظلام الجاهلية وغرقت فيه منذ العصر العباسى الثانى، بعد انتقال الأضواء وتركزها فى البيئات النهرية، واستقرار حكم العرب القرشيين فيها، سواء من الأمويين أو العباسيين أو الفاطميين.ولولا البيت الحرام وفريضة الحج لانقطع الاتصال بين الجزيرة العربية والعالم الخارجى بعد منتصف القرن الثانى الهجرى.
4 ـ استفاد العرب من شيوع ثقافة الصبر والخنوع فى البيئات النهرية التى احتلوها فتأكد سلطانهم ، خصوصا وقد تم صبغ ذلك الاحتلال بأديان أرضية تشرع العدوان وتسوغ ظلم السلطان وتوجب طاعته وتحرم الخروج عليه.
ومن هنا تفاعلت ثقافتان متناقضتان فى احتلال العرب للبلاد النهرية، هما ثقافة تلك الشعوب: الخمول والصبر، أى (ثقافة الموات) أى عدم التفاعل إلا قليلا، وثقافة العرب وهى التفاعل والصراع الى درجة القتل أى (ثقافة الموت). بايجاز (تقافة الموات) النهرية وثقافة (الموت) الصحراوية.
وكان الاسلام وسطا بين الثقافتين.
5 ـ نزل القرآن الكريم بثقافة مختلفة تقوم على أساس التفاعل الايجابى ليقوم الناس بالقسط وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. والمعروف هو المتعارف عليه من قيم العدل والحرية والسلام، والمنكر هو الظلم والاعتداء والبغى والفحشاء، مع إعلاء قيمة الصبر (الايجابى) الذى يدفع للهجرة فى سبيل المعتقد عند وقوع الاضطهاد، ويدفع بالمؤمن للصبر على القتال دفاعا وليس عدوانا، مع التمسك بفضائل الرحمة والرأفة والرفق والاحسان.
وتركزت الآيات المكية فى تعليم (لا اله إلا الله) وتعليم الجانب الخلقى، ثم جاءت تفصيلات التشريع فى الآيات المدنية ،خصوصا فى تجريم وتحريم الاعتداء وأن تكون الحرب دفاعية فقط وملجأ أخير لتعزيز السلام وليس للبدء بالعدوان. وأدى عسف قريش بالمسلمين الى الهجرة الى المدينة وتأسيس أول ـ وآخر ـ دولة اسلامية حقيقية فى السنوات العشر الأخيرة فى حياة خاتم المرسلين ـ عليهم جميعا السلام.
وتداخل التشريع القرآنى فى الجهاد مع خطاب قرآنى كان يتوجه بالخطاب المباشر للمسلمين يحثهم على نبذ ثقافة العرب (المسماة بالجاهلية) وأهمها موالاة القبيلة والنسب والمصالح الاقتصادية على حساب الانتماء للقيم العليا التى جاء بها الاسلام . وكان المهاجرون فى المدينة يعانون من الغربة والتردد بين نوعين من الانتماء والولاء: الانتماء الجاهلى لقريش أعظم قبيلة عربية ، هذا الانتماء الذى يوجب نصرة اخيك ظالما أو مظلوما، أى نصرة قريش الظالمة وموالاتها فى حربها العدوانية ضد دولة الاسلام، أو الانتماء الى دولة الاسلام وقيمها العليا المناقضة لقيم الجاهلية.وكثيرة هى الآيات التى تكررت وعاتبت المهاجرين على تذبذبهم فى موضوع الموالاة والانتماء. بدأ هذا مع أول استقرار المهاجرين فى المدينة (سورة الممتحنة 1: 9) (الأنفال 72 ـ) وظل بعدها (المجادلة 22، آل عمران 28) واستمر الى أواخر التنزيل (المائدة 54: 58 التوبة 23 : 24 ).
6 ـ مع التعصب القبلى أو الولاء القبلى كان هناك أيضا الانتماء للمال.
فى الاسلام لا وجود لاحتراف دينى، والداعية لا يسأل الناس أجرا، وكذلك الأنبياء، بل مفروض التضحية فى سبيل الله بالنفس والمال.
ولكن المال مقدم على حياة النفوس فى الجاهلية حيث يتقاتل الناس فى سبيل المال، ويتحول المال الى اله معبود، من أجله كانت قريش تعاند الهدى مع علمها بأن القرآن هدى، ولكن هدى القرآن يعارض مصالحها الاقتصادية (القصص 57) (الواقعة 81 : 82). ولذا قيل عن أحد زعماء القبائل وقتها إنه ( الأحمق المطاع )، لأنه (كان إذا غضب، غضب لغضبه مائة ألف سيف لا يسألونه برهانا ). هذا ما قيل عن (الأقرع بن حابس ).
أى مع انه ( أقرع ) و( ابن حابس ) و( أحمق ) إلا أنه كان مطاعا فى قبيلته مهما قال ومهما فعل، وخلفه مائة ألف سيف فى طاعته وفى الولاء له. لماذا ؟ لأنه فى حمقه كانت لا تستمر صداقاته أو تحالفاته مع القبائل الأخرى ، لأن الهدف الأساس له هو توفير الغنائم لقبيلته من أى طريق وبأى سبيل ، فوصفه العرب من خارج قبيلته بالأحمق المطاع . وهنا يكون التعبير الصادق عن ثقافة الجاهلية التى تناقض الاسلام .
7 ـ ولم يكن الصحابة سواءا فى مدى وعمق تمسكهم بالاسلام ،أو حتى فى حفظهم للقرآن الكريم .وفى القرآن الكريم تقسيمات للمنافقين، وأنواع من المؤمنين منهم السابقون والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ومنهم المرجفون فى المدينة و الذين فى قلوبهم مرض ، والموصوفون بالخيانة.
ومن تاريخ المسلمين نعلم أن من المسلمين من تأخر اسلامه مثل عمرو وخالد وأبى هريرة، ومنهم من كان صبيا عاش فى مكة لم ير النبى إلا وقت فتح مكة، وظل فى موطنه مكة الى أن مات النبى فى المدينة، أى لم ير النبى إلا سويعات ، مثل عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبى سفيان.
وعايش السابقون ـ زمنا ـ الاسلام حوالى 23 عاما فقط . أسلموا كبارا بعد تشرب كامل لثقافة الجاهلية ، ونستثنى منهم من أسلم صغيرا ولازم النبى محمدا عليه السلام مثل على بن أبى طالب . وبعد السابقين زمنا هناك من تأخر اسلامه . وهناك من أسلم مضطرا بعد طول عداء للاسلام ، ليحافظ على مكانته وليركب الموجة الجديدة ، ثم يحيد بها حيث يريد فى الوقت المناسب . وهذا هو حال أبى سفيان وابنه معاوية والحكم بن العاص وابنه مروان , وهو أيضا حال العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، ومنهم جاءت الخلافة الأموية و العباسية، وعادت الثقافة الجاهلية خلال أديان أرضية، أهمها السّنة.
8 ـ ومع العداء بين العباسيين والأمويين إلا إنهم تمسكوا بأسس هذه الثقافة الجاهلية، وهى التعصب و جمع المال بالسحت و العدوان.
فى ميدان التعصب نراهم جميعا قد مارسوا التعصب القبلى لقريش وتفضيلها على سائر العرب، وربطوا ذلك بالدين الأرضى فحصروا فيها الامامة و الحكم، فصنعوا حديثا يقول (الامامة فى قريش). ثم داخل دائرة قريش يضيق التعصب ليكون تعصب الأمويين ضد أبناء عمومتهم الهاشميين ، والعكس ، ثم تضيق الدائرة فيتعصب العباسيون ضد العلويين، ويتعصب الأمويون من ذرية مروان بن الحكم ضد أبناء عمومتهم من أبناء أبى سفيان ، ثم يضيق التعصب أكثر وأكثر فيتعصب الخليفة لابنه ضد أخيه ، فيعزل أخاه ويولى ابنه محله .
وفى جمع المال تجدهم يتشابهون. فابن عباس يخون ابن عمه عليا بن أبى طالب الذى عينه واليا على البصرة، وحين رأى ابن عباس اهتزاز حكم الخليفة ( على ) فإنه لم يقف الى جانبه كما يمليه عليه واجب الولاء الوظيفى باعتباره واليا عند (على ) بل كما يمليه عليه واجب القرابة كونه ابن عم الخليفة. غلب عليه حب المال فهرب وحمل معه فى هربه بيت مال البصرة، وطلب الحماية من أخواله فى الصحراء. خسة ودناءة لا مثيل لها فى ذلك الوقت، ومع ذلك فابن عباس أحد روافد الدين السّنى، وجد الخلفاء العباسيين، وقيلت فى فضله أحاديث..
وفى المقابل جمع الأمويون كل ما يقدرون على جمعه من أموال فى ولايتهم على الشام ومصر، وجاءتهم الفرصة فى خلافة عثمان (الأموى) فتحكموا فيه وفى ايرادات الدولة الى أن تسببوا فى قتله، وتركوه محاصرا دون نصرة لأنهم كانوا يريدون فقط قميصه الملوث بدمائه ليستغلوه فى حرب (على) للوصول الى الحكم، وهذا ما تحقق فعلا. وبوصولهم للحكم أصبحوا يتحكمون فى ثروة معظم العالم المعروف من حدود الهند والصين الى جنوب فرنسا.
وللانصاف نقول إنهم لم يكونوا وحدهم فى جمع المال السحت، فقد فعل مثلهم كبار الصحابة، خصوصا زعماء الحرب الأهلية: الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ، وعمرو بن العاص وآخرون، تركوا ميراثا من الاقطاعات و القصور و أرادب من الذهب. وفى مواجهة عبادة المال السحت هذه وقف الى جانب العدل والعفة والنزاهة قلة من الصحابة تزعمها على بن أبى طالب ومعه أبو الدرداء و أبو ذر. ولكن طغيان الثقافة الجاهلية حملهم الى متحف التاريخ ليفسح الطريق للأمويين ثم العباسيين.
9 ـ بايجاز .. فان ثقافة الاسلام ذات ال 23 ربيعا لم تصمد أمام ثقافة الجاهلية التى أعادتها قريش من خلال الأمويين الذين أقاموا ملكهم باستخدام المال ، وبذلك تم التغيير الثقافى المشار اليه . وبالمال استطاع معاوية استمالة شيوخ القبائل ، يعطيهم بلا حساب أو بحساب حسب ولائهم له ومدى حاجته اليهم .
وبهذه الثقافة برزت نوعية جديدة من زعماء القبائل، ليس مؤهلها السبق فى الاسلام أو الخشية من الرحمن ولكن المقدرة على الحصول على اموال للقبيلة من الخليفة فى دمشق، والخليفة يعطيه بقدر الولاء للخلافة و بقدر ما تقدمه قبيلته من جند للغزو فى الخارج وفى محاربة الخصوم فى الداخل. من هنا نفسر هزيمة (على ) ومقتل ذريته فى كربلاء، حيث كانت قلوب الناس مع الحسين ولكن سيوفهم عليه لأن سيوفهم تبع لجيوبهم .
انتهى عصر الولاء للقيم الأخلاقية التى جاء بها الاسلام، وأصبح الولاء للمنفعة الشخصية للقبيلة و لشيخ القبيلة وأفراد القبيلة.
هذا هو التغيير الذى أحدثه الأمويون وساعد على توريث يزيد خلافة معاوية.
10 ـ نعود الى وجعنا الدائم: مصر. لنرى تغيير المناخ الثقافى فى عهد مبارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

: الجزء الثاني

تاريخ النشر: 2010-04-23

أولا : ثقافة القناعة لدى الفلاح المصري قبل أن يلحقها التغيير..
1 ـ مصر تتجسد فى الفلاح المصري. ما عداه ومن عداه من مستبدين وجند ورجال دين وموظفين وعمال وحرفيين وعاطلين ومطبلين وراقصين وراقصات واراجوزات ـ هم مجرد ( ملحقات) للفلاح المصرى ، يحملهم على كاهله.
معظم هذه الملحقات دينها التكالب على الثروة، لذا وقف لهم الفلاح المصرى بالمرصاد فقال فيهم أمثاله الشعبية التى لا تخلو من حكمة: (إجري جري الوحوش. غير رزقك ما تحوش) (الطمع اقل ما جمع). وفى مواجهة الظالمين المتكالبين على الدنيا ينصح فى أمثاله الشعبية بالابتعاد عنهم: (قالوا دخلنا بيت الظالمين وطلعنا سالمين، قال وايش دخّلكم وايش خرجكم)؟!!
2 ـ كان هناك حاجز ثقافى بفصل بينه وبينهم اسمه (القناعة).
فبينما كانت ( الملحقات ) تتصارع فيما بينها ـ ليس على لقمة العيش وكسرة الخبز ، ولكن على الثروة والسلطة ـ كان الفلاح يعيش قانعا راضيا يردد الحكمة القائلة (القناعة كنز لا يفنى). أورثته القناعة والسماحة راحة البال التى يتمناها المتكالبون على حطام الدنيا، فيقول فى أمثاله عن الدنيا (ما حدش واخد منها حاجة).
كان يكتفى بالموجود ويحمد الله عليه، يأكل الخبز بالبصل ويفرك يديه راضيا قائلا: (اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال) . عاش هانئا ـ رغم المكاره ـ ينشد (السّتر) ويمضغ (الصبر) ويتندر على ما يحدث له من (قهر)، ويتندر مبتسما على الحاكم الظالم فيطلق عليه النكات (جمع نكتة) و (القفشات) فإذا مات الحاكم الظالم إنطلق الفلاح المصرى بأصالة ونبل يترحم عليه، ويستنكر الهجوم عليه قائلا: (أذكروا محاسن موتاكم) و ينسب الظلم للحاشية، مكتفيا بالقول بأن الحاكم الظالم قد لقى ربه (عند رب كريم). وينسى أن ذلك الحاكم الظالم هو المسئول عن الفقر، وأيام (الفقر)، بل ترى الفلاح المصرى يتندر على الفقر نفسه، فهو الذى قام بتقسيم الفقر الى نوعين: الفقر العادى، والفقر الدّكر، وهو الذى أطلق على (الجنيه المصرى) ( الشيخ رفاعى) لأنه كان يرفع مقام صاحبه حتى لو لم يكن ذا مقام. كان هذا طبعا وقت أن كانت للجنيه المصرى قيمة.
هذا ما كان عليه الفلاح المصرى قبل الثورة المصرية؛ قانعا فى الباطن سعيدا فى الظاهر، مبتسما متندرا حتى يحسبه الجاهل أسعد مخلوق فى الدنيا ، لذا استحق أن يحسده محمد عبد الوهاب فغنى له (محلاها عيشة الفلاح. متهنى قلبه ومرتاح. يتمرغ على أرض براح).
3 ـ الذى لم يعرفه المطرب المترف (محمد بن عبد الوهاب) أن سعادة الفلاح المصرى كانت تغلفها حفلات مستمرة ـ ليس للتكريم ولكن للتعذيب، يقيمها له أعوان السلطة ، أشدها فى موسم الحصاد وتوريد المحصول للسلطة . فبسبب حرصه على (لقمة العيش وكسرة الخبز) تركّز كل جهاده فى أن يخفى من السلطات بعض انتاجه من الحبوب و الدواجن، بينما يتبارى المشد والمأمور فى ضربه حتى يقرّ ويعترف بما أخفاه من حبوب أو دقيق لاطعام عياله. وبعد انتهاء السلطة من التعذيب وجمع (الضريبة) يعقد الفلاحون حفلات سمر يفخر كل منهم بما تحمله من ضرب دون أن يقرّ ودون أن يعترف بما أخفى من كده وتعبه لقوت عياله. ويتردد فى الأمثال الشعبية ما يعكس هذه الحالة الفريدة، منها: (ضرب الحاكم شرف)!(من افتكرنى ما احتقرنى ولو بطوبة وزقلنى).!
وواضح أن جهل الفلاح المصرى وقتها أتاح له أن يعايش الظلم متصالحا ومتسامحا معه، يراه قدرا لا فكاك منه، ولا حيلة معه إلا بالصبر: (إصبر على جار السوء حتى ينصلح أو تيجى له داهية تاخده). وعاش الفلاح المصرى مع ذلك الجار السىء من الحكام الظالمين آلاف السنين،من الفراعنة الى العثمانيين .
ثانيا: بداية التغيير من ثورة عرابى الى ثورة 19
1 ـ من مميزات التعليم أنه ينشىء وعيا بالظلم وحرصا على تغييره ، وإحساسا بالفوارق بين المحروم المأزوم والمتخم المترف . فاذا اجتمع مع التعليم والوعى بالظلم الحصول على بعض أسباب القوة تم فرض التغيير بالقوة . وهذا هو الفارق بين الفلاح المصرى أحمد عرابى وأبناء عمومته الفلاحين المساكين فى قرية هرية رزنة فى الشرقية . ظل أبناء عمومته متمسكين بالقناعة و الرضا والصبر ولكنه خرج على هذا (الإجماع ) لأنه تعلم فى الأزهر ودخل الجيش وأصبح ضابطا ، لذا أحدث ثورة داخل الجيش المصرى ، ثم حشد الجيش فى مواجهة القصر يطالب بالحقوق ، فلما قال له الخديوى : لستم إلا عبيد إحساناتنا ، ردّ عرابى بكل أنفة ( والله لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم ).
انتشر التعليم وانتشر معه الوعى بالظلم والرغبة اقامة العدل و تحرير الوطن والمواطن ، فانفجرت ثورة 19 . وبدأ بها التغيير فى ثقافة الفلاح المصرى .

2 ـ أدت ثورة 19 الى تركيبة طبقية جديدة .
كان التعليم قد صعد ببعض أبناء الفلاحين الى طبقة الأفندية وارتقى بكثيرين من طبقة الأفندية والطبقة الوسطى الى الشرائح الدنيا والعليا من الطبقة العليا، وكان أولئك الأفندية والمتعلمون هم مادة وقيادة ثورة 19، وبنجاحها انتقلوا الى الطبقة العليا ، وبهم انتشر التعليم وتكاثرت وطالت صفوف المتعلمين الجدد وانتظم فيها مئات الأوف من أبناء الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطى من الشباب الطامح لمكان تحت الشمس بعد أن ودع قيمة (القناعة) وآثر أن يكافح ويدخل معترك السياسة والحياة الحزبية والصحفية فوجد الباب موصدا فى وجهه ، ولم يعد أمام هذا الجيل التالى لجيل ثورة 19 إلا مجرد الهتاف للباشوات والبهوات ـ القدامى و الجدد ـ الذين احتكروا السلطة و الثروة ، ولم يفسحوا مكانا للجيل القادم ، إذ حجزوه مقدما لأولادهم المدللين الذين أطلق عليهم عبد الناصر فيما بعد ( العاطلون بالوراثة ).
3 ـ هذا الجيل المتعلم القادم من رحم الطبقات الدنيا اصبح الجيل الناقم الذى اعتنق الايدلوجيات الوافدة من الغرب: من علمانية (الاشتراكية و الشيوعية) وعنصرية (مصر الفتاة)، ولكن كانت الايدلوجية الوهابية الدينية هى الأكثر انتشارا وتأثيرا ،خصوصا فى الريف والأقاليم والأحياء الشعبية ، لذا نجح حسن البنا بسهولة وباستغلال اسم الاسلام فى انشاء خمسين ألف شعبة للاخوان المسلمين ، وكان الاخوان هم الأكثر تأثيرا فى الشباب والأكثر حضورا فى الشارع والمظاهرات ، ثم كانوا الأكثر تأثيرا فى العسكر. إذ أنه مثلما حدث فى ثورة عرابى فتحت الكلية الحربية أبوابها فى منتصف الثلاثينيات فى القرن الماضى لدفعات جديدة من هذا الجيل الناقم ، فكان منهم العسكر الذى قام بحركة الجيش عام 1952 .
4 ـ فى تحليل سريع لما حدث بعد ثورة 19 نجد ليبرالية ديمقراطية منقوصة ولكن سابقة لعصرها فى مصر وما حولها ، أسفرت هذه الليبرالية عن دستور 23 الذى لم تشهد مصر مثيلا له حتى اليوم ، والذى نتمنى مثله اليوم . كما أسهمت الليبرالية المصرية ( 1920 : 1952 ) فى تدعيم الحركة الفكرية الأدبية الثقافية الفنية والصحفية . بايجاز قامت بتوفير مناخ من الحرية فى الكلمة والاعتقاد والحركة السياسية استفاد بها الاخوان المسلمون أكثر من غيرهم حيث قدموا أنفسهم كحركة دينية وليست حزبا سياسيا ، مع أنهم فصيل سياسى ، فاستفادوا سياسيا ودعائيا دون آثار جانبية للعمل السياسى .
ولكن هذه الليبرالية السياسية لم تساندها عدالة اجتماعية .
ومشكلة المجتعات والنظم هى التوازن بين الحرية و العدل . وبدون هذه الموازنة تسقط نظم الحكم و تنفجر المجتمعات وتقوم الثورات . وضحايا الظلم الاجتماعى فى مصر بعد ثورة 19 جعلهم التعليم أكثر إحساسا بالحرمان وأكثر حرصا على الحصول على حقوقهم فى المساواة و العدل، فاستخدموا الليبرالية فى الدعوة و الحركة، وتشعبت التنظيمات والحركات السرية، وكان الاخوان أنشطهم، وقد اخترقوا الجيش، وانضم اليهم معظم تنظيم الضباط الأحرار (عدا يوسف صديق و خالد محيى الدين) .
ثالثا : ثورة 52 والتغيير الثقافى للفلاح المصرى
1 ـ كانت حركة عسكرية حوّلها تأييد الأخوان المسلمين الى ثورة شعبية، فقد وقف الفلاح المصرى لأول مرة يؤيد حكما مصريا صميما، والتفت عبد الناصر للفلاحين الأجراء فأقام لهم الاصلاح الزراعى وتحديد الملكية الزراعية، وقام بتوزيع الأرض على الفلاحين. وبهذا دخل الفلاح المصرى الصميم فى (ثورة ثقافية) جديدة . وأصبح أبناؤه المتعلمون جيل الثورة، خلعوا الجلباب الأزرق وارتدوا البنطلون والبدلة،وتكونت منهم ومن غيرهم جيل الثورة، أوطبقة (الأفندية) من حيث المظهر بعد إلغاء الألقاب. وانتشر التعليم بمستوى إنشاء مدرسة كل ثلاثة أيام على امتداد الريف المصرى، بجانب الجامعات الجديدة، ومكتب التنسيق الذى يضمن العدالة القصوى فى دخول الكليات، مما أتاح الفرصة لآبناء الفلاحين والعمال و الفقراء للترقى أجتماعيا.
2 ـ وحين نجحت حركة الجيش سلميا سقطت مصر بين ايدى الضباط غنيمة سهلة، وغادر الملك بسهولة وتقاطر الباشوات وأبناؤهم (العاطلون بالوراثة) يتملقون الضباط الشباب ، فشجعوهم على أن يتركوا الثكنات العسكرية ليحكموا مصر بدلا من حماية مصر، أى حولت حركة الجيش مصر الى معسكر حربى كبير . ترك قادة العسكر ثكناتهم وعملوا بالسياسة وقد ارتدوا الزى المدنى و جلسوا فى المكاتب الوثيرة ، فأصبحوا مخلوقات مشوهة ، ليسوا عسكرا و ليسوا مدنيين، فشلوا فى السياسة وفشلوا فى الحرب .!!
3 ـ وكما رفع نظام الحكم الملكى لواء الليبرالية وأهمل العدالة الاجتماعية ففشل فإن العسكر فعلوا العكس وفشلوا أيضا ، رفعوا لواء العدالة الاجتماعية وصادروا الحرية فأدى الاستبداد الى تدمير البلاد والعباد. نسى العسكر أن الديمقراطية هى ثقافة العصر، وقد عرفتها قبلهم مصر، ونسوا أنه بدون الديمقراطية لا يمكن أن ينجح نظام حكم فى عصرنا مهما بلغت وطنية المستبد.
رابعا : وعبد الناصر هو أبرز مثال .
1 ـ كان عمره 34 عاما حين نجح فى حركته . لم تكن له خلفية ثقافية معرفية عميقة شأن أى ضابط ، تركزت خلفيته فى العمل السرى . ولكن النجاح السهل جاءه مبكرا يسعى وجعله حاكما لمصر بدورها الرائد ، بل جعله أحد ثلاثة من زعماء التيار الثالث فى العالم (الحياد الايجابى وعدم الانحياز)، الى جانب جوزيف بروز تيتو (الذى قاد المقاومة وأسس دولة يوغوسلافيا من شتات متنافر من القوميات والأديان والمذاهب تحت ايدلوجية الشيوعية) والى جانب جواهر لال نهرو الحكيم الهندى المثقف وتلميذ غاندى. لا مجال لمقارنة الشاب عبد الناصر بهما، ولكن بموقع مصر وبموضع مصر صار عبد الناصر الأكثر منهما شهرة ونفوذا فى العالم. هذا الوضع ساعد عبد الناصر على التمادى فى الاستبداد. وطمع فى أن يكون المستبد الأكبر لكل العرب تحت لافتة القومية العربية، وحقق الوحدة مع سوريا عندما بلغ الأربعين من عمره، وهى مرحلة عمرية لا يستطيع الشاب المصرى الآن فيها أن يتزوج أو يجد عملا أو سكنا.
2 ـ وفى تحليل الاستبداد الناصرى نقول إنه ارتكز على عدة محاور :
2 /1 : بعد ان كان الشعار المصرى سابقا هو ( الجلاء والدستور ) لتحرير الوطن من الاستعمار ولتحرير المواطن من الاستبداد المحلى المصرى ، الغى عبد الناصر الدستور مكتفيا بعض الوقت بدساتير مؤقتة او اعلانات دستورية ، وكانت مجرد قصاصات ورق ، فى الوقت الذى تطرف فيه عبد الناصر فى مقاومة الاستعمار ليس فقط فى مصر بل فى العالم العربى و أفريقيا وآسيا . أى أرسى الاستبداد محليا وتطرف فيه وطارد الاستعمار دوليا .وبهذا الاستبداد انطلق يدعو للقومية العربية ليستبد ليس فقط بالمصريين بالعرب أجمعين .
2 / 2 : فى حماية استبداده اعتنق الاشتراكية والمركزية فتحكم فى لقمة العيش للمواطنين ، فالفلاح ليس مالكا لأرضه ولكنه ( حائز ) تحدد له الدولة الدورة الزراعية و تتكفل بالانفاق على المحصول ثم تستولى على المحصول ، أى تقريبا نظام الاقطاع فى عهد الوالى محمد على الذى اعتبر نفسه المالك لكل الأرض الزراعية .والقطاع العام يمتلك الصناعة و التجارة ، وبقية الأعمال الحرة تتحكم فيها البيروقراطية الحكومية ، وتوسع فى التوظيف ، وتدخلت الدولة بموظفيها فى كل مفردات الحياة المصرية ، وبهذه البيروقراطية سيطر عبد الناصر على كل شىء ، كما سيطر على الموظفين ، فلقمة عيشهم فى يده. والرفت من الوظيفة يعنى الجوع إذ لا مجال تقريبا خارج نطاق الحكومة .
2 / 3 : لظروف شتى مرحلية مصرية وعربية وعالمية وشخصية أصبح عبد الناصر الزعيم الأوحد للقومية العربية وصاحب أكبر كارزمية عربية فى القرن العشرين . واستخدم هذه الكارزمية فى تدعيم استبداده .
2/ 4 : كانت لا تأخذه فى ديكتاتوريته واستبداده لومة لائم . ومع أن الأغلبية الساحقة من الشعب كانت تقدسه بالمعنى الحرفى ـ وقد عايشت فى صباى تلك المرحلة ـ ومع أنه حصل بتقديس الشعب له على مشروعية سياسية طاغية بحيث لا يأبه لأى معارضة ،إلا إنه لم يسمح بوجود أى معارضة ولو هامسة .
2 / 5 : ومع أنه وصل بسهولة للسلطة وأطلقوا على ثورة 52 الثورة البيضاء لأنه لم يحدث فيها صراع وسفك دماء فإن الدماء فيما بعد سالت أنهارا من القتلى وضحايا التعذيب التى أقامها عبد الناصر بقسوة متناهية ضد من يفكر فى الاعتراض ، وكانت الأغلبية الساحقة من الضحايا أبرياء ـ ليس لهم نشاط سياسى ، فقد جاءه الخطر من داخل نظامه ، بدليل أنه نفسه قام بمحاكمة جهاز المخابرات الذى تخصص فى تعذيب وقتل المواطنين . ومع كل هذا التعذيب فان القضاء على عبد الناصر وهزيمته عام 67 ومقتله عام 71 جاءت من الدائرة القريبة من عبد الناصر و ليس من الغلابة الذين أهلكهم تعذيب و سطوة عبد الناصر.
3 ـ كان استبداد عبد الناصر غير مبرر.
والاستبداد وحده يكفى سببا للفشل فى القرن العشرين وما بعده حيث ثقافة الديمقراطية وهزيمة الديكتاتوريات منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن فى حالة عبد الناصر نجد سببا آخر يضاف الى الاستبداد ، إنه الحمق .
قد يوجد مستبد حكيم وعظيم سياسيا خصوصا إذا كان فى استبداده متسقا مع ثقافة العصر . وعرفت مصر نوعا راقيا من المستبدين فى عصور الاستبداد ، ارتفعوا بمصر وارتفعت بهم مصر . وعرفت مصر أنواعا شتى من المستبدين الحمقى ، أضاعوا مصر وحجزوا لهم مكانا فى زبالة التاريخ ـ المصرى. وبين هؤلاء وأولئك يقف عبد الناصر .
ارتفع بمصر وارتفعت به مصر عاليا، ثم سقط من أعلا سقوطا مدويا مأساويا. السبب فى سقوطه أنه تطرف فى الاستبداد فى الداخل فى وقت كان يحتم عليه تبنى الليبرالية والديمقراطية التى ترعرعت وتمهدت فى مصر قبله خلال قرن من الزمان، ولأنه أيضا خلط الاستبداد فى الداخل بالحمق مع الخارج .
4 ـ حمق عبد الناصر يرجع لأنه غفل عن مراعاة التوازن بين موقع مصر وموضع مصر. وكل مستبد مصرى حصيف من عهد حتشبسوت الى عهد الخديوى اسماعيل لم يغفل عن هذا التوازن فى سياسته بين موقع مصر وموضع مصر.
موقع مصر يعنى علاقتها بالبحر المتوسط وأوربا وآسيا ، حيث تقع بينهما ، وتتركز نقطة الارتكاز فى الموقع فى قناة السويس ، وما سبقها من محاولات وصل البحرين الأحمر و المتوسط. هذا الموقع يزيد قوة لمصر لو كانت قوية ، ويزيد ضعفها لو كانت ضعيفة. وقوتها وضعفها يرتكز على شخصية الحاكم المصرى . والتفصيل فى هذه النقطة جاء فى كتابنا ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى )، وهو بالمناسبة مختلف تماما عن كتاب العلامة المصرى جمال حمدان الذى لم أقرأه حتى الآن . وسننشر كتابنا هذا فى هذا الموقع . وكان مقررا على طلبة قسم التاريخ بجامعة الأزهر عام 1984 .
موضع مصر هو النيل ، وأفريقيا . هذا الموضع ليس نقطة قوة بل نقطة ضعف لمصر ، فالنيل هو أساس مصر ، وبدونه تكون مجرد صحراء قاحلة . ومصر ليست منبع النيل ولكنها موضع مصب النيل ، ومن منابعه الأصلية فى اثيوبيا و البحيرات الكبرى فى وسط أفريقيا يمر بأقطار عديدة يمكنها أن تهدد مصر فى قصبتها الهوائية التى لا تستطيع التنفس بدونها . كان تهديد مصر بالتحكم فى منابع النيل هو أمنية أعداء مصر ، خصوصا فى الحروب الصليبية ، وكانت سببا فرعيا للكشوف الجغرافية . كما أن تأمين منابع النيل هو الشغل الشاغل للحاكم المصرى الحصيف ، من أجل ذلك قامت حتشبسوت باكتشاف بلاد بونت (الصومال) وقام محمد على بفتح السودان ووصل نفوذ مصر فى عهد الخديوى اسماعيل الى ارتريا وأواسط أفريقيا منافسا للنفوذ الانجليزى والفرنسى هناك.
حين جاء عبد الناصر للحكم كان السودان جزءا من مصر حتى وهى تحت الاحتلال الانجليزى ، وبدلا من تدعيم وحدة مصر والسودان ـ وهو داعية االوحدة والقومية العربية ـ فإن عبد الناصر فرّط بسرعة وسهولة فى السودان فانفصل ، ومن بعدها لم يفلح السودان ولم تفلح مصر.
أهمل عبد الناصر (موضع مصر : النيل والسودان وأفريقيا ) وانهمك فى مشاكل موقع مصر ، (قناة السويس ، سوريا العراق الجزيرة العربية ،والبحر المتوسط وأوربا ) . وبدون استعداد عسكرى واقتصادى اندفع فى حمق هائل ليؤمم قناة السويس قبل ان تعود مجانا لمصر بعدة سنوات . وأدت هزيمة 1956 ـ التى حولوها لانتصار وهمى ـ الى فتح الطريق أمام اسرائيل فى البحر الأحمر ومنابع النيل بعد استيلائها على أم الرشراش ( ايلات ) ، وبذلك جاء التهديد لمصر فى الموضع بعد إهماله والتركيز بحمق وافتعال مشاكل مع الغرب . ثم جاءت القاصمة ، وفقدت مصر الموقع نفسه بهزيمة 67 واحتلال اسرائيل لسيناء ، وهى هزيمة لمصر لم تر مثلها من قبل طيلة تاريخها ، وهو أطول تاريخ فى العالم . ولا تزال سيناء شبه محتلة بعد أن عادت لمصر ناقصة السيادة . كل ذلك بسبب حمق عبد الناصر فى التركيز على الموقع بطريقة خاطئة وإهماله موضع مصر بطريقة متطرفة.وعلى نهج عبد الناصر فى التركيز على موقع مصر واهمال موضع مصر سار السادات ثم مبارك .
5 ـ ولكن كانت لعبد الناصر مزايا نفتقدها فيمن جاء بعده أو فى غيره من مستبدى العرب .
امتاز عبد الناصر عن غيره بالانتماء للفقراء ورعايتهم ،و الكرامة والعفة والنزاهة الشخصية والتعفف عن المال الحرام و تطبيق المساواة والحرص على تكافؤ الفرص ، فنهض بالتعليم والصناعة و تطوير الريف ، وجعل التعليم سلما آمنا يصعد به أبناء الفقراء للطبقة العليا فى السلم الرسمى ،أى يكون ابن البواب وابن الفلاح وزيرا بكفاءته ودرجة الدكتوراه التى حصل عليها من أوربا على نفقة الدولة . وأدى ذلك كله الى تذويب الفوارق بين الطبقات .
باختصار حقق عبد الناصر وعده مع المصريين ، أخذ منهم الحرية مقابل قيامه بتوفير التعليم المجانى و العلاج المجانى و بناء المساكن الشعبية وتوفير الوظائف و الدعم للسلع و توفيرها رخيصة . أخذ منهم الحرية السياسية ومنحهم العدالة الاجتماعية .
6 ـ وبعد سقوط عبد الناصر سار على سنته السيئة فى الاستبداد والتعذيب حكام من الدرجة الثانية ، منهم من لقى حتفه ومنهم من ينتظر . أخذوا منه أسوأ ما فيه ( الاستبداد فى الداخل والحمق فى التعامل مع الخارج)، ولم يأخذوا منه أروع ما فيه ( النزاهة و العدل الاجتماعى والانحياز للفقراء وحب الخير لأغلبية الشعب ).أى إن عبد الناصر حصل على صفر كبير بسبب الاستبداد ، ولكن من أتى بعده وصل ببلده الى ما تحت الصفر .
خامسا : والسادات هو أبرز مثال .
1 ـ عبد الناصر كان ( عقدة ) السادات . حاول السادات تشويه سيرة عبد الناصر فلما فشل فى جعل المصريين يحبونه بدل عبد الناصر أنتقم من المصريين باختيار مبارك خليفة له.
مع مرضه بعقدة عبد الناصر كان السادات مريضا بعقدة الشهرة وحب الظهور، وأن يتصدر نشرات الأخبار. جعله هذا ممثلا رائعا يلعب دور الرئيس وليس رئيسا حقيقيا ـ وسبق تحليل هذه الناحية فى مقال (الرئيس أنور وجدى السادات). حقق السادات أمله فتصدر نشرات الأخبار فى العالم ، حتى فى مقتله، ولكنه انتهى الى ما تحت الصفر. والسبب هو عشوائيته التى ضخمت من أخطائه وأضاعت منجزاته فى الحرب و السلام والانفتاح الاقتصادى والسياسى .
2 ـ فيما عدا الاستبداد والحكم العسكرى سار السادات على نقيض عبد الناصر.
وتميز بسياسته العشوائية التى كان يسميها سياسة الصدمات ، حيث يفاجىء الناس بقرارات مفاجئة ومتناقضة . فاجأ العالم بحرب اكتوبر، وزار اسرائيل فجأة فأعطاها كل شىء بدون مقابل ، ثم أخذ يتسول منها أى مقابل . طرد الخبراء السوفييت ليحقق لأمريكا أكبر أمنية فى الشرق الأوسط بدون مقابل ، ثم أخذ يتسول منها المقابل . حقق لدول الخليج ثروة كبرى فى أسعار النفط بدون مقابل ، ثم أخذ يستجدى منهم المقابل . حتى فى الداخل المصرى فاجأ المصريين بالمنع من ذبح المواشى وعدم أكل اللحوم الحيوانية لمدة شهر أو أكثر على ما أذكر ، وفاجأهم برفع سعر الرغيف ( العيش ) فانفجر الشارع المصرى بثورة الخبز ، وفاجأهم بالانفتاح الاقتصادى دون أن يجهز أرضية قانونية وسياسية يقومك عليها الانفتاح ، وفاجأ المصريين باباحة المنابر السياسية ، ثم فاجأهم بتحويل المنابر الى أحزاب، وانشغل النشطاء المصريون فى العمل السياسى ففاجأهم السادات بوضعهم جميعا فى السجن فى 5 سبتمبر 81. وفى النهاية فوجىء هو بالرصاص يطلقه عليه ( أبناؤه ) فى العرض العسكرى ، على مرأى العالم كله .!!
3 ـ وصلت عشوائية السادات الى قرارت كبرى تتعلق بالحرب و السلام وماهية الدولة وشخصيتها ، فقد أحدث تحولات خطيرة مفاجئة دون أن يجهز لها تشريعيا و ثقافيا.
الاعداد الثقافى للشعب بطىء بطبعه ويستلزم وقتا ، ولكن لا بد له من تغيير فى التشريعات والقوانين . التغييرات من الاشتراكية الى الانفتاح ومن الاتحاد الاشتراكى وتحالف قوى الشعب العامل الى الأحزاب لا بد له من أرضية تشريعية واضحة ومسبقة ، تبدأ بالدستور الذى يرسى انفتاحا سياسيا يقوم على الديمقراطية و تداول السلطة وحقوق المواطنة وحقوق الانسان ، وتقوم بغربلة القوانين السابقة من عهد عبد الناصر وما قبل عبد الناصر لتوفير بيئة صالحة للاستثمار ، مع تدريب البيروقراطية المصرية العتيقة و تقليم أظفارها حتى لا تتدخل فى كل شىء لتتيح حركة وسهولة وسيولة ، وفى نفس الوقت تعطى أجهزة الرقابة سلطة قانونية فى الحساب وحق مجلس الشعب فى الرقابة الفعلية على المال العام ومحاسبة المسئولين .
ولكن الانفتاح الاقتصادى لم يؤيده انفتاح سياسى ديمقراطى، بل جاء تعديل دستور 71 ليجعل السادات ـ ومبارك من بعده ـ رئيسا مدى الحياة ، بالاضافة الى كونه الاها يتحكم فى كل شىء دون أن يكون مساءلا أمام أحد.
4 ـ ثم إن عشوائية السادات حولت الانفتاح الى فساد .
المستثمر يأتى بملايينه ليتعاما مع موظف يمثل الدولة . هذا الموظف مرتبه عدة مئات من الجنيهات ، ولكن تأشيرته على الأوراق تعطى المستمر ربحا بالملايين . وهذا الموظف الجائع معه قوانين وقرارات متضاربة، بعضها يقول للمستثمر أهلا وسهلا ومرحبا ، فقد تمت صياغتها فى عشوائية ساداتية متعجلة ، ولكن لا تزال هناك أقوانين أخرى تقول له لا ،بل تدخله السجن . أى لدى ذلك الموظف سلطات قانونية بالمنح والمنع يتصرف فيها حسب يشاء. وفى نفس الوقت قام السادات بالغاء أجهزة الرقابة فى خطوة أخرى أكثر عشوائية ، أى يقول بصريح العبارة للموظف و المستمر : اسرق وانهب . وأعلنها السادات بلسانه داعيا للفساد : إن من لم يحصل على الثراء فى عهدى لن يرى فرصة أخرى .
5 ـ وقتلوا السادات قبل أن يرى ثمرة فساده بالتفصيل .

سادسا ـ ومبارك هو التجسيد الحىّ لشجرة الفساد التى أنبتتها عشوائية السادات .

1 ـ إذ تمخض جبل ثورة 23 يولية فأنجب ـ أخيرا ـ .. حسنى مبارك .!!
بعد مقتل السادات حاول حسنى مبارك تشويه السادات ، مع أن السادات لم يكن محتاجا لتشويه إضافى فيكفى أنه لم يحضر جنازته سوى بعض المشبوهين من الرؤساء . وكل ما عثر عليه حسنى مبارك هو اتهام عصمت السادات أخ أنور السادات بقضايا فساد لا تزيد عن بضع ملايين من الجنيهات و ليس الدولارات .
الآن وفى حياة حسنى مبارك تتحدث وسائل الاعلام عن اتهامات لآل مبارك بسرقة عشرات البلايين . فماذا سيبلغ الرقم بعد موت مبارك ومجىء رئيس جديد يريد أن يكسب شعبية بفضح مبارك والكشف عن بعض المستور؟
2 ـ نجح مبارك فى الوصول بمصر والمصريين الى الحضيض . وكتبنا فى هذا كثيرا . ولكن نضيف شيئا واحدا : إن عبد الناصر استبد بالمصريين ، أخذ منهم الحرية مقابل كفالة الدولة لمجانية التعليم والتوظيف والسكن ودعم السلع الأساسية وتوفيرها . لم يوجد فى عصر عبد الناصر خريج عاطل عن العمل ، ولم توجد أزمة فى السكن .
جاء مبارك وخلال 29 عاما جمع بين الاستبداد والتعذيب مع حرمان المصريين من العدالة الاجتماعية التى كانت فى عهد عبد الناصر. الآن يعانى المصريون من الاستبداد والتعذيب والفساد والفقر والبطالة و تفشى الأمراض ونقص السلع الأساس حتى الخبز وارتفاع أسعارها. ومع مصادرة كل الحقوق فقد صودر معها الأمل فى التغيير والأمل فى المستقبل ، بين التمديد فى رئاسة مبارك أو توريث مصر لابنه الأصغر .
3 ـ كان ممكنا أن تقلّ معاناة الفلاح المصرى والفقير المصرى لو ظل محتفظا بثقافة الصبر والقناعة التى تمسك بها فى تاريخه القديم والوسيط . ولكن ذلك زمن مضى وانتهى .
3/ 1 . لم تعد حياة الفلاح المصرى صالحة لوصف محمد عبد الوهاب (محلاها عيشة الفلاح) لأنه ببساطة مؤلمة لم يعد هناك فلاح مصرى، ولم تعد هناك قرية مصرية أو أرض زراعية .
الفلاح المصرى الآن له أشكال متعددة وكلها مخزية .
تراه عاطلا عن العمل بعد حصوله على الشهادة المتوسطة أو شهادة عليا من كلية اقليمية . من حيث الظاهر هو حاصل على شهادة ، ولكنه فى الواقع تعلم الجهل فى المدرسة والكلية من أساتذة أجهل منه ، وحصل بالغش والتزوير على نجاح لا يستحقه ، وضاعت قيمة التعليم عنده لأنه لم تعد للعلم قيمة اقتصادية إذ لا وظيفة حكومية ، وحتى لو عثر على وظيفة حكومية فالمرتب لا يكفيه اسبوعا ، فكيف بالزواج والسكن والأولاد . لذا يضطر الى العمل فى الحقل ، وهو يحلم بالسفر للخارج فى الغرب أو حتى لبلاد البترول العربية . وفى سبيل الوصول للغرب يضحى بحياته التى لم يعد لها ثمن .
وترى هذا الفلاح مهاجرا الى دول النفط يتحمل الذل مقابل أن يوفر ما يبنى به بيتا ـ لا يسكنه ـ فى قريته ،أو أن يتزوج زوجة لا يستطيع الحياة معها باستمرار ، أو ينجب أولادا لا يراهم إلا فى الأجازات .
وترى هذا الفلاح جنديا مستعبدا فى الأمن المركزى يذيقه الضباط العذاب ليحمل حقدا هائلا ينفثه فى أحرار المصريين المعارضين لمبارك ونظام حكمه .
وبين هذا وذاك يتوزع بين الانحلال والتطرف لو كان يعيش فى ظل من يتكفل بنفقاته .
القرية المصرية تحولت الى نموذج شائه ، لا هى قرية ولا هى مدينة . والتربة الزراعية تم تجريفها ، والترعة المصرية تحمل المجارى تنقلها من قرية الى أخرى، وكل قرية تصرف مجاريها لتشرب منه القرية التالية، وتنتشر الأوبئة ويظهر الفساد فى البر و فى البحر بما كسبت أيدى الناس. ويسيطر على الجميع حالة من البلاهة والتواكل وانتظار المجهول حتى لو كان موتا!
3 / 2 : انتهت ثقافة الانتماء الى فكرة القناعة المصرية ، بل حتى انتهى الانتماء لفكرة وهمية هى القومية العربية التى حشد وراءها عبد الناصر المصريين والعرب. القومية العربية سقطت فى مؤتمر الصمود و التصدى الذى قاده صدام ليعاقب مصر بعد ان زار السادات اسرائيل عام 1979 ، وتم تشييع جنازتها ودفنها مع احتلال صدام للكويت عام 90 . وبسقوط المشروع القومى الوحدوى أصبح لكل فرد مشروعه الفردى الذى يناضل فيه من أجل نفسه طلبا للثروة ، وطلبا للسلطة إن أمكن . وهو يحمل هذه الفردية الأنانية حتى لو حاول تحقيق حلمه بالانضمام الى حزب أو تيار أو منظمة علنية أو سرية ، لذا لا يمانع فى الانفصال عن رفاقه أو خيانتهم فى أى فرصة تلوح له طالما فيها مكسب .
أصبح المال هو المقصود الأعظم ، والقيمة العليا . ليس مهما كيفية الحصول عليه ، المهم أن تحصل عليه .
لم يكن سهلا تغييب أو غياب ثقافة القناعة المصرية لتحل محلها عند المصريين اليوم عبادة المال الجاهلية و التى من أجلها تقاتل الصحابة وبها فازت بنو أميه و أصبح معاوية ملكا .
3/ 3: كان الفلاح المصرى (القديم) منعزلا عن العالم فى قريته وحقله، لا يغادر القرية إلا لماما، وقد يظل طيلة عمره لا يغادرها.
منذ عصر السادات اضطر الفلاح المصرى بسبب الفقر الى القيام بأكبر هجرة فى تاريخه الممتد سبعين قرنا فى عمق الزمان. هاجر الى دول مستحدثة بعد أن ضاقت عليه أرض مصر بما رحبت، فرأى ما لم يره أسلافه وتعلم ما لم يعرفوه. بذل الفلاح المصرى دماءه فى حرب اكتوبر وتحولت دماؤه الى أرصدة هائلة لدول النفط ، وجاء أبناء النفط الى مصر يغزونها بأموالهم يستبيحون المصريات فى عقود زواج وهمية ويستعبدون الرجال فى عقود عمل احتكارية استعبادية ، وسافر الفلاح الى هناك ، وبين اللقاء هنا وهناك تفتحت عينا الفلاح المصرى على رفاهية ،رآها وتمناها ولم يحصل عليها .
وفى نفس الوقت ظهرت طبقة المترفين المفسدين تفاخر بثرائها تغيظ به المحرومين الذين زادهم التعليم والاعلام و الأفلام و الاعلانات إحساسا أكثر بالحرمان .بالسفر للخارج وبظهور التليفزيون عايش الفلاح المصرى بعينيه وقلبه واحلامه صور الثراء فانتهت ثقافة القناعة وحل محلها الطمع الذى لا يشبع .
وفى الفجوة بين الشعور المؤلم بالحرمان واليأس من تغيير الواقع تنتشر الدعوات المتطرفة، وهى أقوى أنواع المخدرات العقلية، فتتشابكت وتكاثرت التنظيمات السرية، ومهما تنوعت لافتاتها فالأصل هو الحصول على الثروة و الوصول للسلطة .
ونشرت الثقافة الدينية السلفية ثقافة الاستحلال اجتماعيا ودينيا ، نقلتها من بيئاتها الصحراوية البدوية ، وأرساها أيضا الاخوان المسلمون وهم وهابيون فى الثقافة و المنشأ و المنبع . وتعاون الجميع على الاثم والعدوان ، وانتشر بهم التدين السطحى ممثلا فى اللحية والجلباب وتقصير الثياب وارتداء الحجاب و النقاب . وانتشر مع التدين السطحى و الاحتراف الدين كل مساوىء البشر ورذائلهم . وفى المقدمة منها عبادة المال ، وجمعه بالسحت ، سواء بالرشة أو باستغلال الدين ، ( تبرع يا أخى لبناء مسجد نفق شبرا ).!!
4 : هذا التغيير حدث بالتدريج فى عهد السادات ( 1971 : 1981 ) ، ثم تراكم وتلاطم فى عهد حسنى مبارك . تغيرت وفسدت أخلاق الفلاح المصرى ، وأصبحت هذه حقيقة مؤلمة تحظى بالاعتراف .
وزادها إيلاما الحاجة الى الاصلاح . والاصلاح يحتاج الى تضحية ، والمصلحون الذين يضحون بأنفسهم وراحتهم يتعرضون الى اضطهاد المستبد والى التشويه ، والمناخ الفاسد لا وقت لديه لاظهار الحقائق ونصرة المظلوم لأنه تسيطر عليه الثقافة السمعية فما يقوله زبانية المستبد هو الحق والوقت كله للحصول على المكاسب.
وفى هذا المناخ الفاسد تسود الفردية الأنانية المريضة ، فمع رسوخ الاستبداد وطول حكم المستبد الواحد تسود ثقافة العبيد والاستعباد ، ويتحول الأفراد الى مستبدين ، كل منهم يستعبد من دونه و يكون عبدا مطيعا لمن هو أعلا منه ، شأن الحياة فى معسكر حربى ، وهذا هو واقع مصر منذ حكمها العسكر .
آفة هذه الحالة تتمثل فى عدم نجاح أى عمل جماعى ـ فى ميدان اصلاحى ـ لأن كل فرد يرى نفسه مركز الكون ، ولسهولة إغواء الأفراد حيث يصبح المال و النفوذ المقصود الأعظم . ومن هنا تضخم عدد العاملين فى دولة مبارك البوليسية العسكرية ، وانتشر التعذيب و الفساد جنبا الى جنب مع مظاهر التدين السطحى وزيادة عدد المساجد وزيادة صفوف المصلين الذين يخادعون الله جل وعلا وهو خادعهم.
5 ـ من أسف أن اختلف الحال فى مصر الآن عنها منذ مائة عام تقريبا .
فى ثورة 19 كان الفلاح المصرى بخيره وأخلاقه وأصالته وشهامته، لذا هبّ يشارك فى الثورة ، واحتضن من قبلها عبد الله النديم وهو يهرب من الاحتلال، وكان البوليس المصرى أكثر وعيا ووطنية من البوليس المصرى اليوم الذى تخصص فى تعذيب الضعفاء و المصلحين وحماية المفسدين .
ونفس الفارق بين الأفندية قواد ثورة 19 الذين أحاطوا بسعد زغلول ، وبين أفندية اليوم المحيطين بالبرادعى . وهو نفس الفارق بين البرادعى وسعد زغلول .
سعد زغلول كان قد تخطى الستين من عمره ، أى يقترب من عمر البرادعى اليوم ، وفى نفس التخصص القانونى ، وله أيضا سيرة حياة وظيفية فى خدمة السلطان القائم . ولكن الاختلاف الواضح حتى الآن ، هو الاستعداد الذى ابداه سعد زغلول للتضحية فى شيخوخته ، ولقد تحمل النفى مرتين ، بينما يتردد حتى الآن ـ وقت كتابة هذا المقال د. محمد البرادعى فى النزول للشارع وقيادة المظاهرات ، مع علمه بأن وجوده الى جانب الشباب فى المتظاهرات سيحميهم من ضرب العسكر وسيشد من أزرهم .
6 ـ أخشى أن طريق الاصلاح طويل لأن الفساد وصل للنخاع، ووصل للنخبة المطالبة بالاصلاح. والأمل فى شباب الانترنت والمظاهرات .

أخيرا :
1 ـ ونأتى لعظة السلطان . أضحى معروفا أن مبارك يقترب من النهاية ، لا زلنا نطالبه ونعظه بالاصلاح ، وهو حتى الآن مستمر فى الطغيان والاستبداد والفساد.
2 ـ خلق مبارك مجموعة من (رجال الأعمال) جعلهم واجهة لحكمه ، واستطاع بهم تكوين ثروة لم يحصل عليها مستبد مصرى من قبل .
فهل يثق مبارك فى ( رجال الأعمال ) العاملين فى خدمته ؟
3 ـ رجل الأعمال الحقيقى مهما بلغت أمانته وحصافته فهو جبان لذا يقال إن رأس المال جبان ـ يقصدون أصحاب المال و ليس المال نفسه . وعليه فلو افترضنا أن المحيطين بالرئيس مبارك هم رجال أعمال حقيقيون وفى غاية الأمانة والاستقامة فهم بالسليقة جبناء ، ولن يتحملوا مخاطر من أجل مبارك أو غير مبارك ،أى أنهم عند أى مخاطرة سينفضون من حول مبارك ، وسيكون بقاؤهم حوله مرهونا ببقائه قويا مهابا متسلطا . فإذا لمحوا أى بادرة ضعف سيطيرون . وهذا لا يعيبهم فى شىء لأن عذرهم مقبول مقدما وهو إن راس المال جبان .
فما بالك إذا كان أولئك مجرد لصوص ومفسدين فى الأرض ، يرون مكسبهم الحقيقى فى الافلات بما سرقوه ، ولن يستطيعوا الافلات بما سرقوه إلا حين يضعف أو يغيب زعيمهم الذى يخيفهم بسلطانه وصولجانه، فيأخذ منهم معظم ما يسرقون .
هذه الطغمة من الحاشية المفسدة ستعمل على إبقاء مبارك بين الحياة والموت، ليظل تحت رحمتهم ـ يسلبون باسمه ما يستطيعون، فإذا جاءت اللحظة الحاسمة هربوا بما جمعوا لأنهم ليسوا رجال أعمال ولكن فئران سفينة غارقة.
والعظة الأخيرة لمبارك : بقى لك وقت ضئيل تنقذ فيه نفسك وعائلتك وتصلح فيها ما فات من أمرك . وإلا فستدفع الثمن حيا وميتا ، فى الدنيا والآخرة.
4 ـ وبعد هذه الوقفات مع مبارك ومعاوية نعود لوعظ السلاطين فيما مضى من القرون والسنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الفصل الرابع : رفع الإصر عن شعب مصر
تاريخ النشر: 2010-04-25

قال: مع أن ظهور البرادعى قلّل من احتمال التوريث فلا يزال هناك من يراهن على امكانية توريث جمال مبارك حكم مصر بعد أبيه مثلما حدث فى سوريا بنفس السيناريو بتأييد من قادة الجيش، فقائد الجيش السورى (مصطفى طلاس أو م. ط) هو الذى قام بتأمين انتقال السلطة لبشار بعد أبيه حافظ الأسد، ومن أجل هذا كان أطول من تولى وزارة الدفاع فى سوريا. ونفس الحال فى مصر، فالمشير محمد طنطاوى (م . ط أيضا) هو أيضا أقدم وأطول وزير دفاع فى مصر، وقد كان قائدا للحرس الجمهورى، وعرف مبارك ولاءه له فجعله وزيرا للدفاع منذ عام 1991، على أمل أن يضمن تأمين انتقال السلطة لجمال كما حدث فى سوريا لبشار.
قلت:
التشبيه فى سوريا ليس فى محله، إن بشار الأسد لا يمثل الجيش السورى وإنما يمثل الطائفة العلوية النصيرية التى تشكل حوالى 20% من الشعب السورى، وهذه الفئة هى التى تتحكم فى سوريا سياسيا وإداريا وإقتصاديا ، ولذلك جرى توريث السلطة من عميد الطائفة العلوية الحاكمة ( حافظ الأسد ) إلى ابنه ( بشار) وكان ينافسه عمه (رفعت الأسد)، ليس مهما هنا أن سوريا جمهورية لا توارث فيها للسلطة، لأن الأهم أنه حكم طائفة وأقلية مذهبية لشعب بأكمله تحت زعامة حزب يرفع لافتة القومية العربية..
الى جانب حكم الطائفة الأقلية للأكثرية كما فى سوريا فهناك سلالات من الأسر الملكية الحاكمة ( السعودية، الأردن، المغرب) ثم هناك حكم عسكرى يقوم فيه الرئيس بالحكم باسم الجيش مثل مبارك فى مصر وزين العابدين فى تونس والقذافى فى ليبيا والبشير فى السودان وصالح فى اليمن. وعلى ذلك فإن الأمر الحاسم فى توريث مصر يقع فى يد الجيش المصرى الذى يحكم مصر، والذى يجعل مبارك فى السلطة حتى الأن.
قال: ولكن الجيش تمثله قياداته العليا، ومبارك هو القائد الأعلى لهم، وبيده عزل وترقيته من يشاء منهم، ووفقا لقانون جديد اصبح بيده ابقاء الموالين للتوريث فى الرتب العليا، أى بامكانه توريث السلطة لابنه.
قلت:
هناك حقائق تاريخية واساسية فى فهم العقلية العسكرية حين تحكم.
هى نفس العقلية التى سادت فى الحكم المملوكى العسكرى والحكم العسكرى المصرى الذى استأثر بمصر منذ عام 1952.
أساس هذه العقلية العسكرية ان كبار القادة يتفانون فى نفاق السلطان العسكرى الحاكم طالما ظل فى السلطة، وقد يوافقونه وينافقونه فى حياته اذا اراد توريث السلطة لابنه ولكن بعد موت السلطان يبادرون بعزل الابن ويتنكرون لعهودهم السابقه لأبيه لاعتقادهم فى أحقيتهم دون ابن السلطان لأنهم الورثة الحقيقيون للسلطة وليس ابن الرئيس. وحتى لو كان هذا الأبن ضابطا فى الجيش فلا يصلح لأنه اقل من الرتبة والخبرة من اولئك القادة.
لايمكن ان يتنازل قادة القوات المسلحه المصريه عن سلطانهم وقوتهم لابن مبارك ـ المدلل الهارب من التجنيد ـ بعد موت مبارك لأنهم ليسوا عبيدا لمبارك، بل هم الذين يحمون مبارك و يمكنونه من البقاء بالسلطة، ولأن مبارك يحكم باسمهم هم وليس باسم عائلة ملكية أو اسرة هاشمية عريقة. الأساس انهم يعتقدون أنهم أصحاب السلطة والقوة و البأس الشديد، ولا بد أن تعود اليهم ليضعوا فيها عسكريا آخر بعد موت هذا العسكرى القائم.
تلك هى عقلية العسكر حين يحكمون بلدا.
لقد تحول عبد الناصر من مجرد حاكم عسكرى الى زعيم عربى و قائد لدول عدم الانحياز وحاز شهرة لم يصل اليها حاكم عربى فى العصر الحديث، ومع ذلك لم يفكر فى توريث السلطة لابنه ، بل اختار نائبا له من العسكر لأنه كان يعلم أنه مهما بلغت شهرته وزعامته و كاريزميته وحب الشعب له فهو فى النهاية يحكم باسم الجيش ، وصل الى الحكم بدبابة ، وظل يحكم راكبا الدبابة ، وبدن انتخابات حقيقية أو حتى مزيفة. فاذا كان هذا حال عبد الناصر صاحب الثورة فكيف بمبارك ؟
قال: ربما يلجأ مبارك الى تعيين ابنه نائبا له ؛ وبذلك يكون من حقه دستوريا ان يصل الى السلطة :
قلت :
الحكم العسكرى لايحترم الدستورأوالقانون وانما يحترم القوة، وطالما انه يحتكر القوة فلن يتنازل عنها بسبب الدستور او القانون. ان مبارك كان نائبا للرئيس السادات؛ ويشاع أن مبارك تآمر مع صديقه أبى غزاله فى قتل السادات ، ولكن المهم أنه بمصرع السادات اصبح من حق النائب مبارك تولى الرئاسة ؛ ولكن الجيش امعانا فى امساك السلطه بيده ؛ قام بتولية رئاسة الجمهورة مؤقتا لرئيس مجلس الشعب وقتها الدكتور صوفى ابو طالب ؛وظل رئيسا رسميا وشبه مسجون الى ان تم تعيين مبارك رئيسا فعلا بالاستفتاء المزور اياه ؛ وفى تلك الفترة كان الجيش ممثلا فى الفريق ابو غزاله هو الذى يشارك مبارك فى السلطة . وكان المنتظر ان يكون ابو غزاله هو النائب للرئيس والوارث للسلطة بعده كما حدث بعد عبد الناصر وبعد السادات ولكن تخلص منه مبارك بفضيحة خلقية ؛ وعزله ؛ وامتنع من تعيين نائب للرئيس من وقتها حتى الان ؛ حتى يضمن ألا يشاركه احد فى السلطة ؛ وألا يتآمر عليه احد .
ولكنه لن يستطيع ان يجعل ابنه نائبا للرئيس بحيث يسهل له الوصول للسلطه دستوريا من بعده ؛ والسبب غاية فى البساطه ؛ فليست لمبارك شعبية فى الداخل والخارج ؛ والجميع اعداؤه ؛ وهو فى امس الحاجه الى الجيش ؛ ولذلك لايمكنه اغضابهم بتعيين ابنه نائبا له فى حياته .
لو فعل ذلك فانه يعلنها حربا عليهم ؛ اذ انه يحكم باسمهم ؛ وسيكون بذلك قد اغتصب منهم السلطة واعطاها لأبنه وجعل اعناقهم بيد ابنه المدلل؛ ومستحيل ان يوافقوا علي ذلك .
ولذلك جعلها مبارك مشكلة غامضة بين التوريث و التمديد ليكسب الوقت وليظل متفردا بالسلطة طالما ظل حيا يسعى . ولن يقوم بتعيين نائب له إلا إذا تعرض لضغط شديد من قادة الجيش ، وتبين لهم أن الباقى من حياته قصير وفق تقديرات الأطباء ، بعد تلك العملية الجراحية الخطيرة التى أضطر لإجرائها فى أرذل العمر فى ألمانيا .ولذلك فإن الحالة الصحية لمبارك تعتبر من أسرار الدولة العليا ، لأنها الخريطة التى يمكن بها تحديد ساعة الصفر للمترقبين للوثوب على السلطة .
قال: قد يوليه رئاسة الوزاره.. ليمهد له..
قلت:
إن فعل ذلك فقد حرقه سياسيا . ان الدكتور نظيف هو الذى يتلقى اللعنات
بالنيابة عن جمال مبارك ؛ ينفذ تعليمات جمال مبارك ويتحمل عنه المسئولية ، والاحوال تزداد سوءا كل يوم ؛ ولابد من كبش فداء كل حين ؛ بتغيير الوزارة او بعض الوزراء كل الوقت ؛ وتغيير الوزارة يعنى حرق رئيسها و أعضائها ليكونوا كبش الفداء لمبارك الأب والابن . وليس معقولا ان يكون كبش الفداء هو جمال مبارك .
قال: قد يتنازل مبارك لابنه عن الحكم وهو حى؛ ويضمن ولاء الجيش له.
قلت:
بمجرد تنازل مبارك عن الرئاسة سيفقد سلطاته وسلطانه، ويصبح مصيره ومصير عائلته فى يد قادة الجيش . وحتى لو افترضنا عقد صفقة ما تتيح توريث الابن فى حياة أبيه فلن يستمر جمال فى الرئاسة بعد ابيه..
مشكلة مبارك الأب أوالابن أنه ليس مقبولا شعبيا ؛ وليس هناك من يحميه من غضب الشعب سوى الجيش ؛ ولذا فعليه ارضاء الجيش بكل ما يستطيع ليظل باقيا فى السلطة .
قال :. ولكنه يظل مبارك هو الذى يمسك بيده مفاتيح عزل كبار القاده وترقية بعضهم بحسب ولائهم له. ان الامر هنا يختلف عن الجيش التركى الذى يحكم تركيا من وراء ستار؛ حيث لايتدخل الرئيس التركى او رئيس الوزراء فى تعيينات الجيش وكبار القادة؛ اما فى مصر فان مبارك هو القائد الاعلى للقوات المسلحة وهى تأخذ منه الامر المباشر.. وقد استغل هذه السلطة فى عزل القيادات العليا من الجيش من العناصر المستقلة وغير المواليه له؛ وابقى على اكثرها ولاء له خصوصا طنطاوى القائد العام للقوات المسلحه ووزير الحربيه.
قلت :
اولا : . الذين يظهرون لمبارك الولاء ويتفانون فى خدمة ابنه جمال هم اول من سيتحرك ضد جمال مبارك بمجرد موت ابيه إن لم يسارع بالهرب من مصر. وهم اول من سيتحرك ضد مبارك اذا قام بخطوة اساسيه تدعم من وصول جمال مبارك للرئاسة .
ثانيا : مبارك يدرك تماما حدود سلطته فى الجيش ؛ ومبارك بطبيعته أبعد ما يكون عن اتخاذ قرارت مصيرية ، وهو يؤجل أختيارها طالما يتيح له الزمن ذلك ، وحين تجبره الظروف على اتخاذ موقف ما فإنه يختار دائما أن يمسك العصا من منتصفها ليكون فى الوضع الآمن فى تصوره ، وهذا يفسر حيرته بين التمديد والتوريث .
يضاف الى ذلك خوفه من المحيطين به القائمين على تأمين عرشه من قادة الجيش ، وهم الطامعون فى وراثته حيا أو ميتا ، لذا يتحرك بحذر شديد فى قرارت الترقيه والعزل ؛ وبنفس الحذر يقدم رجلآ ويؤخر اخرى فى موضوع التوريث .بل بنفس الحذر يمنع من تلميع قادة الجيش اعلاميا وجماهيريأ .
الوحيد الذى سمح بتلميعه هو رئيس المخابرات العامة عمر سليمان ؛ وذلك بسبب ولائه لمبارك من ناحية ، ولأن موقعه فى المخابرات العامه لايجعل له سلطه على اى قوة مسلحة ؛ ثم انه يعهد اليه باكبر مهمه بغيضة شعبيا ؛ وهى التعامل مع اسرائيل ؛ وكل هذه مميزات تقلل من خطورة عمر سليمان فى الوثوب على مقعد مبارك فى حياة مبارك، بل وتجهض من احلام عمر سليمان فى رئاسة مصر لمدة طويلة لو جعله مبارك نائبا له .
ثم ان اختيار عمر سليمان لهذه المهمة وتلميعه يصادف رضى للجيش لأنه فى النهاية رجل عسكرى ؛ وهو بتدخله فى الامور الخارجية يعطى للقوات المسلحة سيطرة على جزء هام من ميادين العمل (المدنى) ، وفى نفس الوقت فان عمر سليمان لايمكن ان يكون منافسا لكبار القادة فى الصراع على السلطة بعد مبارك لأنه ليست له قوة عسكرية تأتمر بامره ..
قال : اذ انت ترى ان كبار القادة يتصارعون على السلطة الآن ؟
قلت : ليس الآن ، لأنهم فى ترقب وانتظار .
قال : انتظار لماذا ؟ هل هو انتظار لتدخل امريكى ؟.
قلت : كلا ثم كلا .
أمريكا الأن فى مأزق افغانستان والعراق ومأزق التعامل مع ايران وتحتاج لمبارك. لذا فهى ورطة ورثها الرئيس أوباما وجعلته لا ينفذ وعوده التى أعلنها فى القاهرة ، بل نفهم من تصريحات وزيرة الخارجية تأييدا لاستبداد مبارك ، فهل ينتظر من اوباما أن يفتح جبهه اخرى فى مصر ؟
ثم ان التدخل الامريكى له حدود ,
وفى بلد مثل مصر لايمكن للتدخل الامريكى الا ان يتعامل مع القوة المؤثرة أو الحاكمة . اى ليس له دور فى التغيير ولكن فى التعامل مع الطرف القوى القادر على إحداث التغيير؛ والاستفادة منه بما يخدم المصالح الامريكية . ولذلك يعاب على السياسة الامريكية فى الشرق الاوسط انها تتعامل مع الديكتاتوريات بما يخالف مبادئها فى الديموقراطية.
أمريكا الآن لاتستطيع خلق (وضع جديد) بل فقط هى تتعامل مع الوضع القائم محليا واقليميا .وحينما بادرت بالتدخل لتغيير وضع قائم وجدت نفسها فى مستنقع لبنان ؛ ثم مستنقع افغانستان ثم فى مستنقع العراق . وليست مستعدة لمستنقعات جديدة فى الشرق الأوسط .
قال: اذا أعيد نفس السؤال: كبار القادة فى القوات المسلحة المصرية يترقبون وينتظرون ماذا قبل صراعهم على السلطة؟
قلت:
هم يلعبون مع مبارك لعبة شطرنج قاسية اساسها الانتظار ؛ حيث يحول ضعف مبارك امامهم من ان يتخذ قرارا حاسما بالتوريث ؛ وهم فى نفس الوقت يلجاون للانتظار الى ان يموت مبارك وينقضى الامر ببساطة وهدوء . لقد اختارهم مبارك ليكونوا رفاقا متشاكسين ولا يوجد منهم شخصيه كارزميه او قيادية يدين لها الاخرون بالولاء ، فقد تخلص مبارك من كل شخصية قيادية فاعلة.
وبالتالى فهم معا مع مبارك وضده فى نفس الوقت ؛ معه يتفانون مظهريا فى نفاقه وتاييده؛ وهم معا ضده اذا اتخذ قرارا بالتوريث.
لايمكن لأحدهم ان يتحرك ضد مبارك منفردا خوف ان ينقلب عليه الاخرون وينفرد به مبارك فيجعله عبره للآخرين. أى ان الحل هو الانتظار. انتظار عزرائيل..
وربما يتولى بعضهم نصح مبارك بتعيين نائب له من بين العسكر يكون مكسور الجناح حتى يصبح مجرد فترة انتقالية فى الرئاسة الى أن يظهر قائد قوى يسيطر على مقاليد الأمور.
قال: فماذا اذا جاء عزرائيل –اخيرا- ورحل مبارك ؟
قلت:
دستوريا يتولى رئيس مجلس الشعب رئاسة الجمهورية الى ان يتم اختيار رئيس جديد للجمهورية.
قال: وهنا هل يمكن ترشيح جمال مبارك باسم الحزب الوطنى ؛ ويتولى الرئاسة ؟
فقلت:
مستحيل أن يرضى قادة الجيش ـ وهم اصحاب السلطة ـ أن يتنازلوا عن السلطة لهذا الفتى المدلل ليتحكم فيهم ويصبح قائدهم الأعلى حسب الدستور.
ولذلك فلابد ان يتصرفوا فى حل لهذ الاشكال فى حضور او غيبة مجلس الشعب بحيث يتمكن احد القادة من ترشيح نفسه للرئاسة . وكل ذلك فى فترة الرئاسة الصورية لرئيس مجلس الشعب ..وغالبا سيختارون عسكريا أو مدنيا مكسور الجناح حتى يصبح مجرد فترة انتقالية فى الرئاسة الى أن يظهر القائد العسكرى القوى الذى يسيطر على مقاليد الأمور.
قال: ولكن كيف سيختارون واحدا منهم .؟
قلت: هذا هو الصراع المؤجل الذى تحدثت عنه .
وهوصراع مؤجل ومؤدلج، ستدور رحاه داخل الجيش وعلى مستوى القادة الكبار.. وربما تتحول لحرب أهلية يشارك فيها الاخوان المسلمون بتنظيماتهم العلنية وميليشياتهم السرية.
قال : كيف ؟
قلت :
الاختراق هو الكلمة الذهبية هنا .
وهذا يستلزم شرحا :
مبارك استخدم الدين السنى الوهابى وجعله مرجعيته الدينية والممثل للاسلام ليؤكد استبداده، ومع أنه عدو للأخوان كتنظيم سياسى إلا إنه يحتاجهم كمبرر لبقائه فى السلطة ، لذا اضطهد ويضطهد القرآنيين الذين يثبتون تناقض الوهابية السنية مع الاسلام .
يدافع مبارك عن الايدلوجية الدينية للاخوان بل يفرضها على المصريين فى المساجد و التعليم والثقافة والاعلام ، ويسمح بوجود مقراتهم و تشكيلهم القيادى وتحركهم وتغلغلهم فى النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، ولكن فى إطار محدود ومرصود، لو تعدوه أطلق عليهم أمن الدولة ونيابة أمن الدولة تعتقل و تتهم بالانتماء الى جماعة محظورة!! فإذا كانت محظورة فلماذا السماح العلنى بوجودها؟ ولماذا يفرض ايدلوجيتها على المصريين. ولماذا يضطهد من أجلهم الأقباط والشيعة و البهائيين والقرآنيين والمفكرين والمبدعين؟
وفى إطار المتابعة الأمنية للاخوان وتنظيماتهم العلنية و السرية تقوم أجهزة مبارك الأمنية باختراق الاخوان وتنظيماتهم ،ويصل الاختراق الأمنى الى درجة إنشاء تنظيمات وتجهيز زعامات وقيادات زرعها النظام نفسه .
ولكن الاختراق عملة ذات وجهين ، فالاخوان أيضا يخترقون أجهزة مبارك السرية و العلنية ، بل و الجيش وقياداته العليا . ولأن لعبة الاختراق هنا تقوم على الايدبلوجية الدينية التى ترفع اسم الاسلام وتدافع عن السنة فالذى يكسب فى النهاية ليس النظام العسكرى مهما زايد على الجميع باسلامه وتدينه ، ولكن الفائز سيكون هو الأصل ، وهم الاخوان . أضف الى ذلك سوء سمعة مبارك فى الفساد و التعذيب وتردى الأحوال ، وكراهية المصريين له .
مع ملاحظة أساسية وفارقة هنا وهى أننا نتحدث عن الاخوان ليس كتنظيم وأشخاص ولكن كثقافة ومرجعية دينية . وتلك المرجعية هى التى اخترقت أجهزة مبارك . كلها على اختلاف فى الدرجة مؤمنة بالايدلوجية السنية الحنبلية الوهابية الاخوانية ، شأنهم فى ذلك شأن الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى ، والدليل هو انتشار الحجاب و الخمار وسائر ملامح التدين السنى فى عائلات و أسر الضباط فى الأمن و الجيش ، بل ربما تكون مشاركة بعضهم فى حماية مبارك واستبداده وفساده ، وفى التعذيب وقهر الشعب عاملا يدفعهم للتكفير عن هذا بالتمسك أكثر بالدين السّنى و ثقافة الاخوان الدينية .
والمحصلة النهائية أن التمسك بثقافة الاخوان الدينية السنية ستكون من مؤهلات الرئيس القادم ، حتى لو لم يتولى الحكم أحد كهنة الأخوان أنفسهم ، ولو سارت الأمور بنفس رتابتها سينجح الأخوان ، وسيحصلون على ما يعتبرونه حقا لهم فى مصر. فقد أعانوا العسكر فى انقلابهم عام 1952 وحولوا الانقلاب العسكرى الى ثورة شعبية ، ولما طالبوا بحقهم فى الغنيمة أطاح بهم عبد الناصر.وعانوا الكثير ـ خصوصا فى عهد مبارك الطويل البغيض ، واعتنق معظم المصريين ايدلوجيتهم ،أى فالعصر القادم هو لهم. وسيفوزون بالأصالة أوبالوكالة (عبر قائد عسكرى سنى وهابى).
وحين يفوزون ستخسر مصر وسنخسر مصر.
قال: وما هو الحل؟
قلت: فى يد الشعب المصرى الذى يتصارع على ركوبه العسكر والاخوان.
هنا اتوجه بالوعظ للشعب المصرى لينهض ويأخذ حقه بيده بحيث لا يظل مركوبا من العسكر ثم من الاخوان.
واتوجه بالوعظ للقوى المدنية الحية التى تحمل طموحات الشعب المصرى فى الحرية والعدالة وحقوق الانسان. أرجوها الصمود و التصدى والتضحية..
لو وقف الشعب العراقى منذ ربع قرن ضد صدام حسين وتحمل التظاهر المستمر اسبوعا كاملا فانه كان سيفقد بضع ألوف من الافراد ؛ ولكن كان الجيش فى النهاية سيشعر بالخجل ؛ ويسقط الطاغية بسهولة .. ولان الشعب العراقى اضاع تلك الفرصة الذهبية فقد قتل منه صدام الملايين ؛ وهو الان يفقد المئات كل شهر .
ونفس الحال فى مصر .
هى فرصة امامهم الان للتغيير؛ وعليهم ان يقوموا بمظاهرات عارمة ومستمرة فى كل أنحاء مصر، تطالب بعزل مبارك وعودة الجيش الى ثكناته كما هو الحال فى أى نظام ديمقراطى وإقامة حكم مدنى ديمقراطى حقوقى .
وكالعادة سيستخدم مبارك الشرطه والجيش ، فعلى الشعب ان يتحمل سقوط بضعة الاف من الشهداء مقابل الحريه .
الحرية لاتمنح ولكن تؤخذ عنوة بالدم والحديد. وكلها معاناه بضعة ايام بعدها يكف الامن المركزى عن ضرب الناس؛ ويكف الجيش عن قتل المصريين الغلابة المقهورين. وسيسال كل جندى وكل ضابط نفسه لماذا افعل ذلك؟ هل بسبب مبارك وابنه؟ وماذا فعل لى مبارك وابنه سوى الاستعباد والمعاناة؟ واحتقار الناس وكراهيتهم؟
سيكف الجيش ويرجع الى ثكناته وسيهرب مبارك من مطار شرم الشيخ راسا الى الخارج ومعه (تحويشة العمر)..
ان لم يتحرك الشعب المصرى الان.. فسيظل تحت العسكر وصراعهم الداخلى والخارجى بضعة عقود اخرى؛ و تتحول مصر الى ساحة حرب أهلية تقضى على الأخضر و اليابس.
لابد من عملية جراحيه لازالة السرطان من جسد مصر لانقاذ مصر..
قال: هل تعنى ان مبارك هو السرطان الذى يدمر الجسد المصرى؟
قلت: أنت الذى قلت هذا..
قال : هى فعلا فاجعة العصر فى احوال مصر..
قلت: بل هو أمل فى رفع الإصر عن شعب مصر..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الخامس : وعظ المعارضة المصرية الراهنة : لا بد من الاستقواء بالخارج

تاريخ النشر: 2010-06-06

أولا : وصمة الاستقواء بالخارج فى ثقافة العبيد..

1 ـ ثقافة الاخوان المسلمين توجب الوقوف مع الحاكم المسلم الظالم مهما بلغ عداؤهم له ومهما بلغ ظلمه ومهما بلغ جهادهم ضده. وفى كل الأحوال فلا يجوز الاستعانة عليه بأجنبى (أى غير مسلم). وتعتنق التيارات القومية والناصرية نفس المبدأ، مع تغيير طفيف هو وضع كلمة (عربى) مكان كلمة مسلم. أى فهم مع كل حاكم عربى مهما بلغ عتوه وظلمه، ولا يجيزون الاستعانة عليه بغير العربي.
2 ـ يجمع الفريقين-;- أنها معا ثقافة استبداد لا تؤمن بالديمقراطية وحق الشعب فى أن يحكم نفسه بنفسه، بل تؤمن بحق المستبد فى استعباد الشعب، وبالتالى هى ثقافة الاستعباد ( من أعلى ) وثقافة العبيد (من أسفل )..
ويجمعهما أنهما معا ضد المعسكر الديمقراطى الذى تتزعمه أمريكا. وبالتالى فإن الاستقواء بالخارج (اى أمريكا والغرب) هو خيانة للوطن لأن الوطن عندهم هو الحاكم المستبد .
لا يؤرقهم أن يستطيل المستبد عليهم وعلى الشعب قهرا وبغيا و عدوانا ، فهى عندهم مسألة وقت تنتهى بموت المستبد ليأتى مستبد آخر يأملون أن يكون عروبيا أو اخوانيا ، أى إن الذى يؤرقهم فى الحقيقة أن يتم تدمير ثقافة الاستبداد وتوابعها مثل تجريم الاستقواء بالخارج، لأن لهم أملا فى الوصول للسلطة، وأن يحكموا مستبدين وفق ثقافة الاستبداد والاستعباد.
يجمع الفريقين معا أنهم نشأوا على تلك الثقافة وأنهم نشروا تلك الثقافة منذ ظهر الاخوان المسلمون عام 1928 ومنذ أن أسهموا فى قيام انقلاب العسكر عام 1952 ..وحتى الآن . ومع وجود عداء تاريخى بين الاخوان و الناصريين إلا إن ما يجمع الاخوان و الناصريين و القوميين أكثر مما يفرقهما ، وبالتالى جرت وتجرى محاولات لتصفية الأجواء واعتبار النزاع بين الاخوان وعبد الناصر مرحلة تاريخية انتهت ، ولا بد من طى صفحتها للوقوف معا ضد أمريكا والغرب ( أى معسكر الشر لدى القوميين و الناصريين ) و( دار الحرب لدى الاخوان والسلفيين ). التيار القومى الناصرى هو الساعى أكثر للتآلف مع الاخوان لأنه بدا واضحا أن الاخوان هم البديل الواضح لحكم العسكر . بينما يمارس الاخوان كعادتهم اللعب على الحبال السياسية لتحقيق مصلحتهم ولتأكيد زعامتهم على الجميع من وفد وناصريين وهامشيين .
ثانيا : البرادعى ( المنتظر )
1 ـ بظهور البرادعى تبلور حلم العثور على البديل الثالث بعيدا عن العسكر و الاخوان . ومن هنا التف الناصريون والقوميون حول البرادعى ، وأيده الاخوان مع الاحتفاظ بمسافة بينه وبينهم انتظارا لما تسفر عنه الظروف. استغل الناصريون حاجة البرادعى الى أرضية مصرية وهو الذى هبط بالبراشوت على أرضية السياسية المصرية يحمل معه (وصمة) أنه من (الخارج) وما تعنيه هذه الوصمة من وصمة أكبر وهى احتمال الاستقواء بالخارج .
2 ـ كون البرادعى موظفا دوليا محترما على مستوى العالم وحائزا على جائزة نوبل لا يكفى لانجاحه فى التربة المصرية السياسية التى جرى تسميمها خلال ثلاثة ارباع القرن، ومن أعراض هذا التسمم الفكرى أن المصرى الذى يعيش فى الغرب هو عميل للغرب الى أن تثبت براءته. ليس مهما إن كان موظفا دوليا محترما كالبرادعى أو كان مصلحا سياسيا ومناضلا فى سبيل الديمقراطية والاصلاح السلمى، وعانى من السجن والتشرد مثل سعد الدين ابراهيم أو أحمد صبحى منصور.
3 ـ ممنوع هنا أن تفكر أو تقارن بين تبعية مبارك وخدمته لأمريكا و المساعدات التى تلقاها من أمريكا وتبلغ نحو مائة بليون دولار وبين حياة أحمد صبحى منصور فى أمريكا منذ عشر سنوات تقريبا بدون عمل خلال أكثر من سبع سنين . ممنوع ان تقارن بين غضب امريكا على البرادعى وهو غضب موثق ومعروف ومنشور وبين رضا امريكا عن حسنى مبارك واهمالها نصرة دعاة الديمقراطية المصريين المقهورين امثال سعد الدين ابراهيم مراعاة لخاطر مبارك .
4 ـ لسنا حسنى مبارك الذى قهر وسرق وعذّب وأذل وقتل وسجن ملايين المصريين ، بل نحن الذين وقفنا ضد حسنى مبارك بسبب فساده واستبداده وعجزه وخيبته وكراهيته لمصر والمصريين ولأنه الذى هبط بمصر الى مكانة اقل من مكانة موزمبيق .
ومع ذلك فان الشعب الذى صنعه حسنى مبارك خلال ثلاثين عاما يعتبرنا عملاء للغرب متناسيا أن العميل الأول للغرب وأمريكا واسرائيل هو حسنى مبارك ، ومتناسيا أن السياسة الأمريكية تفضل التعامل مع من يملك القوة على أرض الواقع ـ وهو حسنى مبارك ـ أما أمثالنا من ضحايا حسنى مبارك فلا نستحق أكثر من الشفقة وقبولنا لاجئين سياسيين نمارس حريتنا فى المعارضة .
5 ـ الأهم هو ذلك الذى نطالب نحن به والذى نقدمه لمصر دون مقابل .
نحن نطالب بما يطالب به المصريون فى الداخل، نطالب بالغاء قانون الطوارىء والافراج عن المسجونين ظلما و وإقرار حرية القضاء واستقلاليته ، واصدار قانون العبادة الموحد واصلاح الدستور ..الخ ، وكلها مطالب مصرية سبق أن وعد مبارك من قبل بتحقيقها ثم حنث بوعده كالعادة. ولما طولب بها ثانية أرسل جيشه يضرب المتظاهرين .هى مطالب أولية لتأكيد أسس الاصلاح السياسى فى مصر. الفارق بيننا وبين الداخل المصرى أننا نتمتع بالحرية فى القول وفى الحركة وفى التظاهر ، ومعنا الامكانات التى تجعل الصوت الوطنى المصرى يصل الى العالم من داخل عاصمة العالم (واشنطن).
لو كان هناك أمل بنسبة واحد فى المائة فى ان يستجيب مبارك للمعارضة فى الداخل لسكتنا ووفرنا وقتنا الغالى لما ينفعنا فى غربتنا ، ولكن يعلم من فى الداخل المصرى أنه لا أمل فى مبارك، وأنه قام باغلاق كل الطرق السلمية المؤدية للاصلاح فى مصر، وأنه يتعامل مع المعارضة فى الداخل بلغة البطش والجبروت.. لذا كان حتما علينا وعلى وطنيتنا المصرية أن نرفع صوت من لا صوت لهم من المعذبين والمقهورين فى مصر.
ولا يجوز لنا أن نستأذن أحدا فى الداخل أو الخارج ، خصوصا وأن منا من وهب حياته للنضال فى سبيل الاصلاح و عانى السجن والقهر فى مصر الى ان أنجاه الله تعالى من القوم الظالمين فأصبح حرا طليقا فى الخارج ، وضميره الوطنى يرفض الراحة فى أجمل بلاد العالم لأنه يحمل مصر وجعا فى قلبه أينما سار ، وهو بما يفعل من أجل مصر متطوعا لا يريد جزاءا ولا شكورا ، وبينما تطمح المعارضة فى الداخل للحكم ، ومن أجل الحكم تناور و تحاور و تتغير مواقفها فإننا نعانى ونجاهد بسواعدنا العارية وبدون أى طموح سياسى على الاطلاق . أقول هذا عنه نفسى و من أعرفهم من أشراف المصريين فى الخارج.
هذه حقائق تنفى الشائع عنا، من أن من يتعاون معنا يكون مستقويا بالخارج. ومع ذلك فان الناصريين والقوميين يرتعشون خوفا ورعبا من أى تعاون محتمل معنا لأننا نستقوى بالخارج .
ثالثا :(الاستقواء بالخارج ) هو الحل الوطنى الوحيد للأزمة المصرية.
1 ـ نحن لا نستقوى بالخارج ضد مصر، ولكن ضد العدو الأكبر لمصر، وهو حسنى مبارك.
هل يستطيع أحد أن ينكر مسئولية حسنى مبارك عن كل ما حدث للمصريين ومصر منذ تولى السلطة مستبدا معاندا للاصلاح من عام 1981 وحتى الآن؟ أحوال المصريين فى الفقر والجوع و التعذيب و الفساد أصبحت حديث العالم واستهجان واستنكار منظمات حقوق الانسان، وكلما ارتفعت الصرخات تطلب الرحمة والعدل والحرية إزداد حسنى مبارك عنادا وتعنتا وبطشا وتجبرا. لا أمل فى اصلاح يأتى على يديه لأنه منبع الفساد والاستبداد، ولأن الاصلاح لا يمكن أن يبدأ أو أن ينجح فى وجوده، لا بد أن يرحل ليبدأ الاصلاح.
ولكى يرحل سلميا لا بد من تدخل المجتمع الدولى ممثلا فى الأمم المتحدة وامريكا والغرب. بدون وساطة هؤلاء لا يمكن حل الأزمة المصرية. وهذا يعنى حتمية التدخل السلمى السياسى من الخارج ليسد عجز الداخل.
2 ـ أكره أن أكرر ما أقول، ولكن التكرار هنا دليل على عناد الرئيس وعلى جمود الوضع المصرى مع تفاقم الأحوال الاقتصادية باضطراد بحيث أصبح التخوف من انفجار الوضع يتردد هنا وهناك. ولذلك كانت ـ ولا تزال دعوتى المتكررة لوساطة خارجية تنهى حكم مبارك سلميا وتتيح للمصريين تداولا سهلا وسلميا للسلطة يوفر سنوات من الحرب الآهلية والتدمير والخراب وحمامات الدم، ودرس العراق والصومال وافغانستان ليس عنكم ببعيد.
هل يكون الاستقواء بالخارج تهمة وهو الذى يهدف الى حقن الدماء وارساء اصلاح تشريعى سياسى وديمقراطى ودينى وحقوقى. ؟
وفى اول كتاب بالانجليزية قدمته أثناء عملى للوقفية الأمريكية عن (جذور الديمقراطية فى الاسلام) عام 2002 اقترحت فى دمقرطة مصر سلميا عدة مقترحات منها ما يجب أن تقوم به أمريكا وما يجب أن تقوم به الأمم المتحدة فى سبيل التحول الديمقراطى السلمى فى مصر . والبحث منشور فى موقع الوقفية الأمريكية وفى موقعنا:
http://ahl-alquran.com/English/show_article.php?main_id=4145

وتكررت مقالاتى بالعربية والانجليزية فى دعوة المجتمع الدولى الى تدخل سلمى فى مصر لصالح مصر ولانقاذها مهاجما فكرة (هيبة الدولة) لأنها هيبة المستبد وارهابه للشعب، ولأن مقولة (عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول) أصبح ركيزة لاستبداد وانفراد شخص واحد بالتحكم فى شعبه، يتخذ من الشعب رهينة وأسيرا يقتل من يشاء ويعذب من يشاء ويسرق وينهب كيف شاء، مستعملا كل القوة ضد الشعب . وفى النهاية يدفع المجتمع الدولى الثمن فى صورة ارهاب . فالاستبداد يصنع الارهاب و يصدر الارهاب . تكرر هذا فى مقالات عديدة و فى ندوات فى واشنطن أؤكد فيها ان اصلاح الشرق الأوسط يبدأ باصلاح السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط لتكون مع شعوب الشرق الأوسط وليس مع مستبدى الشرق الأوسط.
2 ـ وقلت ولا أزال أقول إن الاستقواء بالخارج هو الحل الوحيد والمتاح للأسباب الآتية:
2 / 1 : إننا أمام حالة فريدة: شخص واحد هو حسنى مبارك يعطيه الدستور المصرى كل السلطات بدون أن يكون مساءلا أمام الشعب، ويجعله القائد الأعلى للقوات المسلحة و للبوليس و المجلس العلى للقضاء، أى يحتكر السلاح كله لنفسه، ثم يجعل مجلس الشعب ومجلس الوزراء مجرد سكرتارية له، تشرع له ما يريد وتنفذ له ما يريد، ثم يقوم بالتجارة فى السلاح وابناؤه معه ويصبح الفساد فى مصر سياسة عليا مرفوعة الرأس، لا يتوقف الحديث عنه فى مصر وخارجها، فاذا تحرك عشرة أفراد فى مظاهرة أنزل لهم مبارك آلاف الجنود بعرباتهم المصفحة، أى يستخدم معظم الجيش وقواته المسلحة والبوليس فى ارهاب الشعب وحماية نفسه واسرته تاركا الجرائم تسود الشارع المصرى، بل يتم الاستعانة بالمجرمين و البلطجية فى ضرب المتظاهرين المطالبين بالحرية، أى أن الشعب المصرى أسير فى يد مبارك داخل مصر. أفلا يحق لهذا الشعب الأسير المقهور أن يستنجد بالخارج؟ خصوصا إذا كان مبارك تابعا وخادما لذلك الخارج؟ وخصوصا إذا كان ذلك الخارج يملك ـ لو أراد ـ أن يضغط على مبارك ليرحل فى سلام متمتعا بما سرق ونهب مقابل أن يترك المصريين فى حالهم يصلحون ما أفسده مبارك فى سنوات عمره؟
2 / 2: الخوف من تكرار تجربة العراق لا مكان لها هنا، بل العكس، فإن تجربة العراق وافغانستان هى التى تحتم التدخل الخارجى السلمى. كنا قد حذرنا من التدخل العسكرى فى العراق وتنبانا بأنه سيكون فشلا يتضاءل أمامه فشل أمريكا فى فيتنام، كل ذلك مسجل فى ندوات أمريكية عامى 2002، 2003. أمريكا الآن لا يمكن أن تعيد نفس الخطأ بالتدخل العسكرى فى مصر مهما حدث. بل أنها من قسوة الدرس العراقى عازفة أيضا عن التدخل السياسى لحل الأزمة المصرية. وهو موقف أمريكى خاطىء ولكن يظل دليلا على أن التدخل الأمريكى المسلح فى مصر مستحيل.
2 / 3: تحول العالم الآن الى قرية كونية واحدة، وظهرت العولمة وبدأ تطور فى دور الأمم المتحدة و المجتمع الدولى اهتزت معه مقولة عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول المستقلة ، بعد أن اتضح ان تلك الدول التى تحررت من الاستعمار الأجنبى قد وقعت تحت استعباد واستبداد عسكرى محلى أفظع من الحكم الأجنبى ، ويتذرع هذا الاحتلال المحلى بمبدأ عدم التدخل فى استبداده معتبرا أن الحاكم الفرد المستبد هو الوطن وهو الشعب.
شهدنا تدخل الأمم المتحدة والولايات المتحدة فى البلقان وقيام المحاكم الجنائية الدولية بمحاكمة مستبدين سابقين من الصرب والارجنتين ، وتدخلها فى محاكمة قتلة الحريرى فى لبنان وتدخلها لانقاذ أهل دارفور من المذابح و طلبها القبض على البشير . ولا ننسى الملاحقات الدولية لبعض القادة الاسرائيليين فى أوربا . أى إن الاستقواء بالخارج أصبحت له شرعية دولية وقانونية وواقعية ، وفيها تم تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، ولأن مصر وغيرها من البلاد العربية قد وقّعت ـ بل أسهم علماؤها ـ فى صياغة ميثاق الأمم المتحدة فمن حق الشعب المصرى أن يستقوى بالعدالة الدولية وهو يعانى التعذيب والاذلال والاستعباد من شخص واحد هو حسنى مبارك.
2 / 4: الاستقواء بالخارج له مشروعية تاريخية ، مصطفى كامل استقوى بأحرار بريطانيا ضد بريطانيا ، واستعان بفرنسا ضد انجلترة ، ومحمد فريد مات غريبا فقيرا فى أوربا حيث قضى أواخر عمره يستعين بأوربا ضد الاحتلال الانجليزى . ولقد تأكد لنا الآن ان المستبد المحلى العسكرى أسوأ ألف مرة من الاحتلال الفرنسى ( حملة نابليون ) والانجليزى ..
2 / 5: الاستقواء بالخارج أصبحت له مشروعية مصرية، فالكثير من المنظمات والجمعيات والنقابات تهدد باللجوء الى المحاكم الدولية والأمم المتحدة بسبب تعنت مبارك وإصراره على الظلم، ومنذ بداية عهد مبارك تعودت منظمات حقوق الانسان المصرية الاستغاثة بالخارج، وجعلت لها مشروعية مصرية برغم اتهامات مبارك لها بالاستقواء والعمالة للخارج. بدأ الاستقواء بمنظمات حقوق الانسان العالمية ، وستبدأ الاستعانة بالمحاكم الجنائية الدولية لمعاقبة مبارك، وهذا ما يؤرقه فعلا ـ لو كنتم تعلمون!!
2 / 6: الاستقواء بالخارج هو الحل الوحيد. الأزمة المصرية فى تداول السلطة لا تزال بدون حل منذ مطلع القرن الحالى. مبارك حائر بين التوريث والتمديد ، وآخر تصريح له أوكل المهمة لله جل وعلا قائلا إن من يعلم من سيحكم مصر بعده هو الله. مبارك أعرب مرات عن أمله فى الرحيل و العيش مع أسرته فى هدوء ما تبقى له من عمر، ولكنه بسبب جرائمه وفساده وسرقاته يخشى من الملاحقة وأن يدفع الثمن لو تخلى طواعية عن السلطة بدون مقابل. وهو لا يأمن أى مصرى ولا يثق بأحد من (أخلص) المطيعين له، لأنه متأكد أنهم سيفعلون به ما فعله هو بالسادات، ونفس ما فعله السادات بعبد الناصر، هذا مع الفارق الكبير بين جرائمه وجرائم السادات وعبد الناصر. مبارك يثق فى الاسرائيليين والأمريكيين والأوربيين فقط. وبالتالى فلا بد من تدخل خارجى ، يكون وسيطا يثق فيه مبارك ويحس بالأمن معه. فالاستقواء هنا يعنى الوساطة الخارجية الأمريكية التى تتوسط لحلّ أزمة يعجز مبارك نفسه عن حلها.
الخروج الآمن لمبارك هو الحل الأمثل والذى يجنب مصر خطر الوقوع فى حرب أهلية تفجر مصر من الداخل، ويدفع ثمنها فقراء الأقباط وفقراء المسلمين على السواء. ففى مقابل قتل مبارك وبعض أتباعه ستضيع حياة ملايين المصريين بلا ثمن.
الخروج الآمن لمبارك هو الحل الأمثل لضمان تغيير للأفضل، ولكن هذا يستلزم وساطة أى تدخلا خارجيا يضمن لمبارك ولأسرته وكبار حاشيته الأمن. ولأن مبارك لا يثق فى المصريين فلا بد ان تكون الوساطة أمريكية غربية اسرائيلية حسب ما يريد مبارك لا حسب ما نريد نحن.
2 / 7 : وفى النهاية فإن للاستقواء بالخارج مشروعية قرآنية اسلامية.
فالانتصار للمظلوم ضد الظالم واجب اسلامى ، يقع ضمنا فى دائرتى (الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر) و (التعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان). والعدل ونجدة الضعيف المقهور من أوائل القيم الاسلامية المتعارف عليها ، كما أن الظلم والبغى و العدوان والفساد والسرقة والاستبداد من أخسّ أنواع المنكر.
والانتصار للمظلوم ضد الظالم يقع مباشرة فى تشريع قتال الفئة الباغية المعتدية ( الحجرات 9) فإن تقاتلت طائفتان من المؤمنين فيجب التدخل من طرف مؤمن ثالث ليصلح ما بينهما ، فإن بغت إحدى الطائفتين فعلى الطرف الوسيط أن يتحالف مع الطرف المعتدى عليه ضد الفئة الباغية حتى ترجع عن عدوانها . هنا تشريع بالتدخل المسلح لوقف عدوان مسلح قامت به فئة باغية على فئة أخرى مسلحة معتدى عليها .فما بالكم ـ دام فضلكم ـ إذا كنا لا نريد التدخل المسلح بل التدخل السلمى تفاديا لحرب أهلية قادمة نحونا تكشّر عن أنيابها ؟ فما بالكم ـ دام فضلكم ـ إذا كانت تلك الفئة الباغية تغير بجيوشها على شعب مسكين مقهور مسالم منزوع السلاح ؟ ما بالكم ـ دام فضلكم ـ بقوات الأمن المركزى و فرق الكراتيه والعربات المصفحة و ميليشيات الحزب الوطنى من البلطجية وعساكر البوليس و قيادات الشرطة تحتشد بالآلآف لتضرب بكل قسوة مجموعة صغيرة من الشباب النقى الطاهر من الذكور والاناث يحملون الزهور يرجون الحرية بالتى هى أحسن فتتناولهم كلاب الشرطة وكلاب حراسة مبارك بالضرب، وينادى عضو فى برلمان مبارك بضربهم بالرصاص، ويصرخ لواء شرطة من كلاب حراسة مبارك يأمر أتباعه مشيرا الى فتاة مصرية فى سنّ بناته قائلا: هاتوا البنت المومس بنت.. هل هناك بغى أكثر من ذلك؟
وطالما لا يوجد بين مسلمى اليوم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وطالما لا يوجد فيهم من يهب لنجدة المظلوم المقهور وطالما أن الغرب وحده هو الذى يقوم بنجدة المسلمين فى الزلازل والمآسى والبراكين فلا بأس بأن نتوجه له طالبين أن ينقذ ملايين المصريين من بغى مبارك.. اللعين.
أخيرا:
هل لديكم حلّ آخر؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل السادس : المستبد يصنع شعبه

تاريخ النشر: 2010-06-08

أولا ـ (المستبد يصنع شعبه):

1 ـ هذا التعبير صاغه الكاتب المصرى المبدع الثائر (محمد عبد المجيد: طائر الشمال)، هو تعبير يتفوق على تعبيرات تراثية تقاربه فى المعنى، مثل (الناس على دين ملوكهم) (كما تكونون يولى عليكم).
2ـ ( المستبد يصنع شعبه ) تعبير نافذ ناقد ثاقب موجز بليغ ومؤلم وبديع. يحسّ به ويتألم منه من نجا من ثقافة العبيد وثقافة الاستعباد التى يخنق المستبد بها شعبه، والتى يصنع المستبد بها شعبه. فليس كل الشعب يقع فى ثقافة العبيد والاستعباد، وليس كل الشعب صناعة للمستبد، هناك من يتمرد عليها فيعانى طالما بقى داخل سجن المستبد الأكبر المسمى بالوطن، فإذا أتيحت له فرصة الهرب وأصبح حرا كتب وأبدع وحلّق كيف يشاء، يحمل وطنه بين جوانحه كما يفعل طائر الشمال الاستاذ الكاتب الوطنى المصرى محمد عبد المجيد فى مقالاته الحارقة الملتهبة حبا وحزنا على مصر.
3 ـ (المستبد يصنع شعبه) فعلا عبر سيطرته على الاعلام والتعليم والحياة الدينية وحجب المعلومات و اضطهاد المفكرين الأحرار ومطاردة المبدعين ووضع المتاريس فى شارع الفكر. وهو خصم عنيد لكل ما لا يعرفه وما لا يفهمه. ولأن المستبد جاهل فى الأصل فهو حاقد على كل عالم وكل مفكر وكل مبدع. لأن لديهم احتراما للذات بسبب تفوقهم وتميزهم، ولا وقت لديهم للتزلف للسلطان أو الهتاف له أو حتى تحيته بالتى هى أحسن أو التى هى أسفل. ومن هنا يستريح السلطان لأهل الثقة من الفاشلين فى ميدان العلم والخبرة، ومن المفسدين الذين حصلوا بالتزوير والغش على شهادات دكتوراة لا يعرفون عن موضوعها شيئا.
5 ـ (المستبد يصنع شعبه) بنشر التعصب و الانقسام بين فئات الشعب، عرقيا ودينيا ومذهبيا حتى ينشغلوا بالصراع فيما بينهم عن الاتحاد ضده، وحتى يستعين كل منهم على الآخر به، فلا بد من إثارة التعصب بين المسلمين والنصارى كما فى مصر، أو بين السنة والشيعة كما فى العراق.
ولا بد من إشاعة ثقافة أن الغرب يتآمر علينا، ومن خلال هذه الثقافة يتم تأجيل الاصلاح وإشاعة اليأس من الاصلاح لأن العيب ليس من المستبد ونظام حكمه ولكن من الخارج المتآمر، وطالما أن هذا الخارج هو الأقوى فليس هناك مجال لأى نجاح أو أى اصلاح. وهكذا بسياسة التفرقة بين طوائف الشعب الواحد (فرّق تسدّ) وبتوجيه شحنة الغضب والاحباط نحو الغرب وأمريكا واسرائيل ينشغل الشعب عن مقاومة المستبد.
وبالتالى ينسى الشعب أن العدو الحقيقى للشعب هو المستبد، لأنه هو الذى يقهر الشعب ويعذب الشعب ويسرق الشعب و يذل الشعب ، وهو الذى يستخدم جيش الشعب فى قهر الشعب ويستخدم بوليس الشعب ليس فى حماية الشعب ولكن فى تعذيب الشعب .

وفى الوقت الذى يستأسد فيه على الشعب تراه الخادم المطيع لأمريكا واسرائيل والغرب، ينشد حمايته لديهم، وحتى لو مرض فلا يأمن غيرهم على صحته، وعلى أمواله التى يسرقها من شعبه فيستودعها لديهم. أى يتخذ من شعبه عدوا لا يثق فيه، ولا يثق إلا في الغرب وأمريكا واسرائيل.
ولأنه احتكر الوطن لنفسه ، ولأنه تملك الشعب فقد أصبح هو الوطن، وهو الشعب وهو القومية. فمن يختلف معه يكون خائنا للوطن، ومن يخرج عليه يكون خارجا على (القومية) أو (القوم) أو (الأمة).
ولأنه يملك الوطن وما عليه ومن عليه ويتحكم فى عقول أبنائه فمن السهل عليه أن يقوم بتشويه خصومه المصلحين وملاحقتهم باتهامات الخيانة والعمالة للخارج وبالتبعية للغرب وبالاستقواء بالخارج .
ثانيا : عندما يصنع المستبد شعبه ، فمتى يثور عليه شعبه :
1 ـ اكتب هذا المقال ردا على صديق تفضل بالتعقيب على مقالى السابق ( وعظ المعارضة المصرية الراهنة : لا بد من الاستقواء بالخارج ) والذى اوضحت فيه ضرورة الاستعانة بالخارج من الناحية الشرعية و السياسية ولمصلحة مصر وحتى لمصلحة مبارك نفسه واسرته . لأن الاستعانة هنا تعنى توسط امريكا فى توفير خروج آمن لمبارك يضمن تداولا سلميا للسلطة مع اصلاح يقى مصر من الوقوع فى حرب اهلية .
إقترح اللجوء للسلاح فقال : ( هل جربت المعارضة المصرية حمل السلاح بوجه السلطة ؟ هل جربت عمليات الإغتيال السياسي لرجالات السلطة ؟ هل هناك محاولات لإغتيال الرئيس ؟ هل هناك عصيان مدني واسع ؟ هل هناك خروج على سلطة الدولة الديكتاتورية ؟ كأن تخرج محافظات بكاملها عن السيطرة ، في الصعيد المصري مثلا ؟ قبل وبعد إجابتكم على أسئلتي أقول رأي شخصي وهو : في حالة إصابة شخص ما بمرض ، وعند استعمال علاج ليس بالفعال جدا لقطع دابر المرض وموت مسبباته ، كأن تكون بكتيريا مثلا ، فأن هذه البكتريا تصنع مضادات للدواء ، أو أنها تتكيف مع الدواء ، وبالنتيجة لا ينفع معها الدواء ، بل وربما لا ينفع ما هو أشد منه ، سوى البتر ، وإسألوا أهل الطب حول ذلك . وفي حالة حسني فأنه كهذه البكتريا أصبحت لديه مناعة ذاتية هو ونظامه ضد كم الخطابات هذه . فلديه من العجلة الإعلامية وإمكانيات الدولة ما يفوق كل ما لدى المعارضة بمراحل ، لذا وجب على المعارضة تغيير إسلوب العمل ، وأن تتجه نحو العمل المسلح . قد لا ترضون بهذا الحل ، ولكنه آخر العلاج الكي . وإذا بقيتم تطلبون فقط التغيير بالكلام ، فيمكن حجز الموقع من الظهور داخل البلد ، وهذا سهل جدا على إمكانيات الدول ، كما يمكن إيجاد كم هائل من كتاب السلطة الذين يستطيعون تلفيق كل التهم الممكنة بحقكم وحق كل من يكتب ضد السلطة . وطبعا سذاجة الشعب تصدق كل ما يقال لها ، خصوصا لو جاء عن طريق دعاة المنابر. هذا حل من حلول كثيرة ممكن أن تقوم بها المعارضة المصرية، ولكني أجدها متشرذمة ومتقطعة الأوصال، وكل فريق داخل المعارضة يطعن بالفرق الأخرى. فمثلا لم لا يتم تنظيم مؤتمر عام كبير للمعارضة بكل طوائفها، تضع خلافاتها على جنب ، وتعمل مع بعض من أجل إسقاط هذا الحكم).
كلام منطقى ، ومن هذا المنطق السديد ينبع الخوف الشديد من حرب اهلية قد لا تبقى ولا تذر ، وأكثر الضحايا فيها هم من الفقراء والمستضعفين فى الأرض بينما سيجد المترفون الظالمون بأموالهم ونفوذهم وعلاقاتهم مأوى ومثوى فى الخارج وأمنا ، بل ربما يستمر بعضهم فى ثنايا الحكم القادم وعلى هوامشه .الحرب مشكلة ، ويباح اللجوء اليها عند الضرورة القصوى كآخر حلّ لأزمة أكبر .
ولكننا هنا لا نتحدث عن حرب بين جيشين بل عن حرب أهلية يبدأ فيها جيش الشعب بحرب الشعب ثم ينقسم الجيش على نفسه وتنتقل انواع السلاح من مخازن الجيش ومن الخارج الى طوائف من الشعب تتحول الى ميليشيات ، لا تلبث ان تكون لها ولاءات خارجية تقتل من أجلها أبناء الوطن الواحد، وتدور حرب الشوارع، ويتأسس اقتصاد للحرب ويظهر مستفيدون من هذه الحرب يبيعون السلاح و الذخيرة و المؤن والحماية ، لفرقاء المتصارعين، ويعمل المستفيدون بالحرب بكل جهدهم على استمرار تلك الحروب لتصبح وليمة دائمة، وتتداعى الى تلك الوليمة شركات وشخصيات من الخارج ومن الداخل، واللحم المأكول فى الوليمة هم بنو قومى اهل مصر البسطاء الغلابة ..
المفجع هنا أن هذه هى النتيجة المنطقية التى يدفع نظام مبارك مصر اليها . فآخر ما قام به مبارك هو ذلك التزوير الفج فى انتخابات مجلس الشورى ، وما صاحبها من استعمال فظ للقوة مع الناخبين والمرشحين من المعارضة ،أى هى نفس الرسالة التى يكررها مبارك منذ الثمانينيات من القرن السابق ، وهى استحالة التغيير السلمى سياسيا عن طريق الانتخابات الشرعية ، أى لا طريق للاصلاح و التغيير إلا باستعمال القوة المسلحة . وهنا يأتى الرد المنطقى بحتمية اللجوء للسلاح إذ لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد . ولكن كما قلت هو حلّ باهظ التكاليف لا أحتمله ولا أتمناه لأبناء وطنى ، ولذلك أتمسك بالاستقواء بالخارج و توسط امريكا و المجتمع الدولى للخروج من هذا المأزق بأقل قدر ممكن من الخسائر و التضحيات ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصر ، أو مما تبقى من مصر.!
2 ـ إن الأزمة أعمق وأفظع مما تتخيله المعارضة المصرية فى الداخل ،والتى تتراقص فوق برميل بارود ملتهب لو انفجر فلن يبقى ولا يذر .عمق الأزمة وفظاعتها يتجلى فى طبيعة الحكم العسكرى عموما ، وفى طبيعة نظام مبارك على وجه الخصوص .

وظيفة الجيش فى النظام الديمقراطى أن يحمل السلاح ويوجهه لأعداء الشعب فى الخارج فقط. أى يقف على الحدود شاهرا سلاحه ضد عدو الشعب معطيا ظهره للشعب . والقادة العسكريون للجيش هم محترفو حرب لا عمل آخر لهم ، لا مجال لهم فى البزينيس ولا فى السياسة فذلك من المحرمات . ولأنهم المخولون بحمل واستعمال السلاح الأشد فتكا وتدميرا فهم تحت السيطرة المباشرة من الشعب ، وهم يتلقون الأمر بالحرب من الشعب ممثلا فى هيئاته المدنية السياسية ؛ التشريعية والتنفيذية المنتخبة . وتأتى الأوامر محددة واضحة عليهم تنفيذها ، فلو أهملوا أو أخطأوا فالعقاب لهم بالمرصاد وفقا للقوانين العسكرية. ويتجلى شرفهم العسكرى والوطنى فى حماية المدنيين أى الشعب الذى يسهرون على حمايته .
على العكس من ذلك تكون وظيفة الجيش فى الحكم العسكرى المستبد .
القيادة العسكرية للجيش هى التى تحكم الشعب ، وهى التى تحكم الشعب بذلك الجيش الذى تسيطر عليه ، وبالتالى فان (العدو ) الذى يوجّه الجيش له السلاح هو ( الشعب ) المنزوع السلاح ، وبالتالى أيضا يكون ميدان المعركة ليس مع عدو خارجى بل عدو داخلى هم المدنيون الغلابة من أبناء الشعب ، أى يصبح الوطن بشوارعه ومدنه وقراه وبيوته أهدافا عسكرية معادية ، حالية أو محتملة ، أو ( جبهة داخلية ).
ولأن المستبد العسكري قد اتخذ من شعبه عدوا فتراه يقوم بتطبيع العلاقات مع أعداء الوطن التقليديين فى الخارج ليتفرغ للعدو المصرى فى الداخل ، يسنّ ضده قانون الطوارىء ، ويستورد من أجله أحدث أدوات التعذيب ، وبينما يسود السلام والوئام ما كان يعرف سابقا بالجبهة الخارجية التى تتحول الى حفلات استقبال ومؤتمرات ودية وتناول الأنخاب وتبادل القبلات والأحضان فى شرم الشيخ ، تبقى الجبهة الداخلية مشتعلة بالمعارك .
هذا هو التوصيف المؤلم لنظام مبارك العسكرى ، وفيه لا يتورع القائد العام للجيش المشير طنطاوى عن تكرار تأييد الجيش والقوات المسلحة للرئيس مبارك القائد الأعلى للقوات المسلحة . فإذا كان مبارك فى حالة حرب معلنة مع الشعب المصرى فإن المشير يؤيد بجيشه رئيسه مبارك فى هذه الحرب ضد الشعب المصرى ، وهو يسهم فيها بحوالى 700 ألف جندى مجند من القوات المسلحة بعتادهم تحت مصطلح الأمن المركزى ، وأولئك هم المقدمة العسكرية التى تنوب عن بقية أفرع القوات المسلحة فى حربها للشعب المصرى ، وهى تعمل تحت قيادة أمن الدولة لتساعد مئات الألوف من قوات الشرطة فى تأديب و قهر وتعذيب الشعب المصرى .
وطالما هى تحرز الانتصارات المتوالية على الشعب الأعزل المسكين فإن الجيش يكتفى بالمراقبة وعدم التدخل . هو يتدخل فقط لو أبدى بضع مئات من الشعب تذمرا أفضى الى استعمال بعض القوة ، ولو عن طريق القاء بعض القنابل أو اطلاق الرصاص ، عندها يتدخل الجيش الشهم الشجاع بكل عتاده وطائراته وصواريخه ودباباته لتأديب المتمردين .
هذه هى وظيفة الجيش فى الحكم العسكرى فى مصر ؛ لا يدافع عن الشعب بل يحارب الشعب ، لا يخدم الشعب بل يقهر الشعب ، لا يعمل أجيرا للشعب ولكن يستعبد الشعب . هذا الجيش هو خائن حقير للشعب الذى أنجبه والذى ينفق عليه . ولا توجد فى قواميس اللغة توصيفا أحطّ يوصف به هذا الجيش . هذا التوصيف بالخيانة العظمى او الخيانة السفلى تنال كل عامل فى ذلك الجيش بدءا من جندى الأمن المركزى الى القائد العام للقوات المسلحة والقائد الأعلى للقوات المسلحة ـ كل على حسب رتبته ، كلما علت رتبته تضخمت خيانته وحقارته وظلمه ودناءته وجبنه ونذالته .
ينطبق هذا الحكم والوصف على كل من ارتدى الزى العسكرى فى مصر من قيام حركة الجيش فى يولية 1952 وحتى الآن . لا استثناء ولا مداهنة ، فحق مصر وحق الشعب المصرى المهان المظلوم المقهور هو الأولى بالاعلان والأحق بالتوضيح والبيان . وهذا التوضيح فى تعيين وتحديد العدو الحقيقى لمصر هو أقصر طريق للاصلاح . إذ بعدها حين يأتى وقت الاصلاح لا بد من تحديد دور الجيش والشرطة بكل دقة وحسم وفقا للسائد فى الدول الديمقراطية الغربية حتى لا تتكرر مأساتنا مع عسكر 52 .
ولذلك يتحسب الخونة من هذه النقطة و لا يريدون ان يمتد النقاش الى مسئولية الجيش فيجعلونه خطا أحمر أن تناقش دور الجيش او التعرض له بأى شكل من الأشكال فى الجدال السياسى .
2 ـ فى ظل استبداد العسكر تم ( تصنيع ) المصريين من عام 52 وحتى الآن . أى أن معظم الشعب المصرى من سن السبعين فأقل فتح عينيه وتفتحت مسام عقله على استبداد العسكر ، وعلى ملء السجن ( الحربى ) فى عهد عبد الناصر بمئات الألوف من المدنيين ، وعلى إحالة الملايين من المصريين الى المحاكم العسكرية و الاستثنائية وقانون الطوارىء . لم نر عهدا من الحرية ولو يوما واحدا . وجيلى الذى تخطى الستين عاما فتح عينيه على الثورة وعبد الناصر فرضع الخوف من العسكر وعاش عليه، وأنجب شبابا تربى فى نفس الجب ، فماذا تنتظر منه وقد أدى به القهر فى ستة عقود الى أن يتواضع سقف احلامه الى مجرد أن يظل حيا .
ويلاحظ فى تظاهرات العمال واعتصاماتهم فى المحلة الكبرى وغيرها وأمام مجلس الشعب أنها فى الأغلب تخلو من الشعارات السياسية ، هى فقط تتسول الحقوق الضائعة و تستدر عطف النظام العسكرى الغاشم وتستجديه، وفى النهاية يضيق بها فينهال عليها الجيش (الأمن المركزى) ضربا .
3 ـ يدخل بنا هذا الى الناحية الأخرى و الخاصة بشخصية مبارك المتطرفة.

مبارك يتطرف فى استعمال القوة مع الشعب المصرى المسالم المقهور المنزوع السلاح . فى القبض على كاتب مسالم مثلى لا يملك سوى القلم يرسل مبارك جيشا صغيرا مدججا بالسلاح يحاصر حيّا بأكمله . فى مواجهة مظاهرة من الشباب الوديع الذى يحمل الزهور ويرفع لافتات الاحتجاج مطالبا بحقوقه المشروعة يرسل مبارك بجيش يفوق عددهم عشرات المرات ، فلو كان المتظاهرون خمسين فردا بعث لهم بجيش لا يقل عن خمسة آلاف بالمؤن والعتاد وعشرات الضباط من كبار الرتب . هذا عدا جيوش اخرى تأتى لمساكن أولئك الأفراد تعتقلهم فجرا .
تطرف مبارك فى استعمال قواته المسلحة ضد أفراد الشعب المصرى لا يدانيه سوى تطرفه فى الفساد والسرقات .
فى ظل حكم العسكر سيطرت الحكومة على كل شىء،وأصبح (أمين المخازن) مثلا مسئولا عن (عهدة) تقدر بالملايين، بينما مرتبه لا يتعدى كذا فى الشهر، أى أن الحكومة تقول له ضمنيا (إسرق كما تشاء)، ولكى يسرق (كما يشاء) فلا بد له من حيلة تنجيه من السجن، لذا عرفت مصر بعد حكم العسكر ما يعرف بموسم الجرد أو موسم الحرائق، فعندما يأتى وقت (جرد) أى وقت التفتيش على المخازن المسروقة يشب فيها حريق ويقال ان سببه ماس كهربائى . ومع كثرة التندر فى الصحف على هذا ومع العلم بأنها حرائق متعمدة للتغطية على سرقات حقيقية إلا أن ثقافة التدمير للتغطية على السرقة تطورت و تنوعت فأصبحت فى الخصخصة تعنى مثلا تخسير الشركة الحكومية الناجحة أو تدمير جزئى للمصنع المنتج ليتأهل للبيع بأبخس الأثمان، ويستفيد المفسدون من بيعه بعمولات تفوق ثمنه. هنا تتحول السرقة العادية الى سرقة سامة دنيئة، لأنك لم تسرق فقط بل حرقت ودمرت اصولا يملكها المجتمع وتعيش عليها عشرات العائلات.
هذا هو التطور الأكبر الذى جاء به مبارك فى تحويل السرقات الى فساد مكتمل الأركان مستخدما سلطته المطلقة وقانون الطوارىء ليتمكن من السلب و النهب و التهريب والعمولات عبر وسطائه ووزرائه دون ان ينتقده أحد ، فهو والجيش خط أحمر .ولأن له يدين فقط فقد استخدم واحدة (عسكرية) يضرب بها المصريين بأقسى ما يستطيع ن بينما ينهب مصر باليد الأخرى وبكل ما يستطيع.
4 ـ وخلال حوالى 60 عاما تعود المصريون على تحمل القهر، نصفها كان هينا (قبل مبارك) ونصفها تحت حكم مبارك المتطرف فى قسوته والمتطرف فى فساده .
ولأن المستبد يصنع شعبه فان هذا الشعب المسكين أدمن التعود على القهر طالما بقى المستبد واقفا على قدميه ممسكا بكل السلطات ، فإذا حدث ثقب أو شرخ فى حصن الاستبداد وأتيح لهذا الشعب ان يتنفس من خلال هذا الشرخ او ذلك الثقب فان تنفس الشعب المقهور سيكون انفجارا هائلا يساوى كل ما عاناه من قهر وذل وحرمان واستعباد . وسيكون إنفجارا عامّا وعشوائيا ومستمرا ومعدوم العقل والضمير ، فلن تستطيع ان تفرق فيه بين القاتل والقتيل لأن قاتل اليوم سيكون قتيل الغد ، وستتعود الشوارع المصرية والقرى المصرية والحقول المصرية و الترع المصرية والطرق المصرية على رؤية الجثث الملقاة وعلى اكتشاف القبور الجماعية بنفس تعودها على تدمير البيوت وقطع الطريق ونهب المتاجر والمحلات وتبوير المحاصيل والمذابح الجماعية.
تلك وصفة لبرميل البارود السّاخن الذى تتراقص فوقه المعارضة المصرية وهى لا تزال تصرخ بشعارات الستينيات تقول: لا لأمريكا.. ولا للتدخل الأجنبى أو التوسط الأجنبى. لا تملك حلاّ سوى الرقص بالشعارات. هذه المعارضة هى من علامات المرض فى مصر. هى أسوأ ما صنعه المستبد العسكرى فى مصر. وستكون أول ضحايا الانفجار القادم.
وخوفا عليهم وخوفا على مصر نرجو توسط المجتمع الدولى لاخراج مصر من تلك الأزمة.
أخيرا:
نقولها مرة ثانية: هل عندكم حل سلمى آخر؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــ



الفصل السابع : مصر: من القطط السمان الى عصر الحيتان

تاريخ النشر: 2010-07-26

أولا :
إن ربك لبالمرصاد..
(1 ) في يوم الخميس 22 محرم سنة 448هـ تم عقد زواج الخليفة العباسي القائم بأمر الله علي الحسناء خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك السلجوقى المتحكم في الخلافة العباسية، وكان الصداق مائة ألف دينار، وتم الزفاف في شهر شعبان، وقد أهداها الخليفة عباءة منسوجة بالذهب وتاجا مرصعا بالجواهر، ومائة ثوب حرير مرصعة بالذهب وطاسة كانت تحفة بديعة الصنع، قد صنعوها من الذهب ورصعوها بالياقوت والفيروز والجواهر، وبالإضافة إلي تلك الهدايا العينية أعطاها الخليفة ضيعة هائلة علي نهر دجلة يبلغ إيرادها السنوي اثني عشر ألف دينار .
(2 ) وفي نفس الوقت كان الفقراء يموتون من الجوع خارج قصور الخلافة، وقد ارتفع ثمن المحاصيل إلي أرقام مفزعة، فوصل أردب القمح إلي 90 دينارا بعد 20 فقط، وتحول أغلب الناس لقطع الطريق بسبب الجوع فاضطر الفلاحون لبيع محاصيلهم بأبخس الأسعار لمن يستطيع حمايتها .ثم ازداد ارتفاع الأسعار حتى وصل ثمن حفنة الأرز إلي دينار، وتحول الغلاء الى مجاعة كان فى مقدمة ضحاياها الفقراء ،فانتشر الموت بين الفقراء فكان يموت منهم كل يوم ألف إنسان ، ولم يعد أحد قادرا علي دفنهم ، فاضطر الخليفة والسلطان طغرلبك إلي تكفين 18 ألف إنسان خشية أن يفسد الهواء من رائحة الجثث ، فتصل رائحتها للقصور المعطرة الفارهة .
(3 ) ومع كثرة الموتى من الفقراء وتضخم الغلاء حتى ارتفع ثمن القمح إلي 190 دينارا وانتشار المجاعة فإن أمير المؤمنين العباسي القائم بأمر الله لم يهتم بما يحدث خارج أسوار قصوره، مع ان المحنة أصابت الأغنياء فى العام التالى 449 هـ ، فافتقروا، واضطر الأحياء لأكل الكلاب بل وأكل الموتي ، ثم أصاب السعار الجوعى من الناس فبدأ الناس يأكلون بعضهم .
وارتبطت المجاعة بالوباء، يقول ابن الجوزى في تاريخه "وشوهدت امرأة معها فخذ كلب ميت قد احضروها وهي تنهشه.. ورؤي رجل قد شوي صبية فأكلها، فقتل" وكان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم).
كان الذي يشغل بال الخليفة القائم هو حملة صديقه السلطان طغرلبك علي الموصل وتكريت وقد نهبها وسبي نساءها ، ثم عاد منتصرا للخليفة فاستقبله الخليفة استقبالا حافلا ومعه الملأ والسادة الكبار، وقد سجل ابن الجوزى مراسيم ذلك الاستقبال في حوادث سنة 449 هـ التي شهدت أحداثا متناقضة، مجاعة ووباء وبؤسا بين الفقراء والجماهير ، ثم أفراحا ومآدب واستقبالات في الدوائر السلطانية الحاكمة.
(4 ) وارتفع الوباء والمجاعة سنة 450 هـ ولكن ظلت الدوائر الحاكمة علي جبروتها وغرورها، فأخذ الجنود يعتدون علي الناس في الطرقات والبيوت، وصاروا يخطفون العمائم من فوق الرءوس، وتفرغ الوزراء لاضطهاد خصومهم من الشيعة وأهل الذمة. وكان الخليفة غارقا في شهر العسل لا يزال، ولكنه أحس بالقلق حين ارتحل السلطان طغرلبك عن بغداد إلي الشرق ليصلح أموره مع أخيه ، فلما خلت بغداد من العساكر أصبح الخليفة وحيدا في مواجهة الجماهير الناقمة.
(5) وانتهز الفرصة العدو الأكبر للخليفة العباسى القائم وهو البساسيري، فدخل بغداد يوم الأحد 8 ذي القعدة سنة 450 هـ وانضم إليه العوام وقطاع الطرق أو (العيارون) والشيعة، وأعلن البساسيري انضمامه للفاطميين وخليفتهم المستنصر في القاهرة، وأعلن الدعوة الفاطمية في بغداد . وانهزم الخليفة العباسي وهرب، ودخل الجوعي قصوره ينهبونها. وأدرك الثوار الخليفة وهو يهرب ومعه الملأ وكبار قومه وحوله جواريه حاسرات شعورهن، فأخذ يرفع المصحف يستجير بالقائد العربي قريش زعيم البدو الذي تحالف مع البساسيري. ولم ير الخليفة بأسا فى أن يركع أمام القائد البدوى قريش يسترحمه بشهامة العرب ويرجوه ألا يسلمه إلي البساسيري، ويقول له "الله الله في نفسي، فمتي أسلمتني أهلكتني وضيعتني وما ذلك معروف في العرب"!!
(6) وحملوا الخليفة علي جمل إلي الأنبار، ثم إلي بلدة اسمها الحديثة، ثم حيث أقام مسجونا مدة عام، وفيها عرف التضرع لله تعالي، فأرسل استغاثة لله تعالي أوصلها بدوي إلي الكعبة، يقول فيها: "إلي الله العظيم من عبده المسكين ، اللهم إنك العالم بالسرائر والمحيط بمكنونات السرائر، اللهم إنك غني بعلمك وإطلاعك علي أمور خلقك عن إعلامي بما أنا فيه..."
( 7 ) وقبل ذلك ببضعة شهور كان السلطان طغرلبك يدخل علي الخليفة في حفل الاستقبال الرسمي الذي أعده له في عظمة متناهية، وقد ركع طغرلبك وسجد أمام الخليفة يقبل الأرض دفعات وفقا للبروتوكول العباسي في عبادة الخليفة... وكانت المآدب حافلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب بينما يأكل الناس بعضهم بعضا من الجوع ، ومن نجا من الموت جوعا لم ينج من الوباء أو من جائع يأكل لحم البشر . ومرت الأيام وعرف الخليفة الذل والجوع، ورأي العوام ينهبون قصره ويأخذون منه ما يتعذر حصره من الديباج والجواهر واليواقيت .
( 8 ) وكانت أم الخليفة قد هربت وقاست الجوع والفقر فاضطرها الجوع لأن تكتب للبساسيري رسالة تشرح له فيها ما لحقها من الأذى والفقر، ووصلت الرسالة إلي البساسيري في محر م 451 هـ فاستحضرها وكانت في التسعين من عمرها وأكرمها .. وقد ماتت سنة 452هـ ..
( 9 ) إن الإنسان ضعيف ، ويزداد ضعفه أكثر عندما يغتر بالدنيا ومواكبها ، ويأخذ ما ليس حقا له ، وينسي أن الله تعالي يمهل ولا يهمل ، وأنه جل وعلا للظالمين بالمرصاد ، حتي لو كانوا يرفعون لواء الإسلام ويدعون أنهم الخلفاء وأمراء المؤمنين ..
ثانيا :
آه ..يامصر ..!!
1 ـ كتبت هذا المقال فى سلسلة (قال الراوي) الذى ظلت جريدة الأحرار تنشرها عدة أعوام، وكان هذا المقال قد نشر عام 1993 حسبما أذكر. كتبته بنصف لسان وبنصف قلم، فقد كان الضغط الأمنى يلاحقنى مهددا بالاعتقال، مع ضغط الاخوان المسلمين المتحالفين مع حزب الأحرار وقتها والذين يريدون منعى من الكتابة فى جريدة الحزب، لولا إصرار رئيس تحريرها الاستاذ وحيد غازى بالتمسك بى حرصا على مصلحة الجريدة نفسها ومحافظة على الخط الليبرالى للحزب والجريدة. وبعدها بعدة أشهر حدث انقلاب فى الحزب والجريدة بدخول مصطفى بكرى، فتركت الجريدة وانتفلت كاتبا فى (العالم اليوم).
2 ـ كنت ألاحظ بقلق تصاعد وتيرة الفساد فى مصر وتنامى العلاقة بين أعمدة النظام ومن كان يطلق عليهم القطط السمان ، وقد تحولوا من قطط فى عصر السادات الى بقرات سمان فى أوائل التسعينيات فى حكم مبارك .
استدعى هذا ظهور مقالات للوعظ تستلهم خفايا التاريخ لتحذر وتنذر بلهجة حانية، لعل وعسى . ولم تفلح الكتابات الحانية او الحانقة لأن الفساد أصبح العمل اليومى والحقيقى للنظام، وبعد أن كانت القطط السمان ثم البقرات السمان يلعبن فى الفناء الخلفى للنظام، تحولت البقرات الى حيتان تعمل جهارا نهارا فى واجهة النظام، وتتولى الحكم علنا تحتكر السلطة والثروة، وتستخدم التعذيب والقهر والارهاب لاسكات الأحرار حتى تتمتع الحيتان بنهش ما تبقى من الجسد المصرى دون ان يعكّر صفوها أحد.
3 ـ الآن وبعد هذا المقال بسبعة عشر عاما أقرأ هذا المقال فى المنفى فأتحسر على زمن البؤس فى التسعينيات حين كان الموظف الشريف يستطيع تذوق اللحم مرة كل شهر، أما الآن فعلى فرض وجود هذا الموظف الشريف على قيد الحياة دون ان ينتحر أو أن يندثر فكيف يشترى كيلو اللحم وقد تجاوز الخمسين جنيها ؟
أقرأ عن البلايين التى تنفقها القلة المترفة على استيراد المخدرات والفياجرا ولحم الطاووس و ورق العنب والآيس كريم، كما أقرأ عن تزايد معدلات الانتحار بين الجوعى من الناس المستورة الذين هتك الجوع والحاجة و الفقر أعزّ ما كانوا يمتلكون وهو الستر والقناعة والرضا بالقليل، فاصبح القليل صفرا معدوما ،فلم يبق لهم رصيد من الأمل يحيون به ففروا من هذه الدنيا بكرامة تاركين اياها للمتخمين المترفين.
الآن، وقد هوت مصر الى الحضيض فى ظل هذا الرجل العجوز المريض فما الذى ينتظرها بعده؟
4 ـ أعيد بالتذكير بما قاله الكاتب الراحل خالد محمد خالد فى جريدة الوفد من ربع قرن، وفى أوائل حكم مبارك.
خالد محمد خالد ـ لمن لا يعرف ـ هو داعية الديمقراطية المشهور من قبل الثورة، وهو الذى هجر الاخوان تمسكا بالديمقراطية، وهو الذى جرؤ على مناقشة عبد الناصر علنيا فى لقاء على الهواء مناديا بالديمقراطية، فأحرجه، وتسبب هذا فى قطع الصلة بينهما، وتعرض بعدها للاضطهاد فاعتزل يكتب فى صمت، ثم عاد يكتب فى الصحف مبشرا بالديمقراطية فى عصر السادات، ثم ظنّ الخير فى مبارك حين تولى فأخذ يكتب يدعوه للتحول الديمقراطى ليكتسب ميزة تاريخية يتفوق بها على سابقيه عبد الناصر والسادات. لم يلق إلا الاعراض. ولا نعرف أكثر من ذلك، ولكن الذى نعرفه ولا زلت أتذكره أنه كتب مقالا أخيرا فى هذا الموضوع ينهى به حملته فى الدعوة للديمقراطية تحت عنوان:(استمتعوا بالسىء فإن الأسوا قادم). قالها نبوءة فى أواخر الثمانينيات وتحققت بعد أن مضى الى رحمة الله جل وعلا. وعشنا الأسوأ فى التسعينيات بعد رحيله.
5 ـ ماذا يقال اليوم بعد أن تحققت نبوءة الاستاذ خالد محمد خالد بدرجة ربما لم يتوقعها خالد نفسه؟ وماذا يخبئه الغد لو انتفضت مصر بالثورة ثم الى حرب اهلية تصعد بالاخوان للحكم فتهبط مصر من الحضيض الى أسفل سافلين؟
لم يعد سوى الاستعانة برب العزة جل وعلا، فهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين..
أخيرا
خير الكلام:
(هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) (النجم 56 ـ ).
ودائما : صدق الله العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخاتمة : كلمتى للساكتين عن الحق :
(عبد الله بن عمر بن الخطاب) الساكت عن قول الحق فى الفتنة الكبرى الثانية:

تاريخ النشر: 2010-06-29

أولا: موجز تاريخى:
1 ـ بعد موت خاتم المرسلين ـ عليهم جميعا السلام ـ عايش الصحابة ليس فتنة كبرى واحدة، بل إثنتين.
2 ـ المشهور منهما هى الفتنة الكبرى الأولى التى ترتبت على الفتوحات العربية ـ لا الاسلامية لأنها حملت اسم الاسلام زورا وبهتانا ـ وفيها نهب العرب كنوز فارس ومصر وما بينهما وما بعدهما شرقا وغربا.
ثم اختلفوا فى توزيع المال المنهوب والأراضى الزراعية، إذ فازت قريش ـ والأمويون بالذات ـ بالنصيب الأكبر ، على حساب جند الفتوحات من قبائل نجد، فاحتج زعماء الأعراب ـ الذين كانوا مرتدين من قبل ، وواجه عثمان احتجاجهم بالاضطهاد ( عام 33 هجرية ) فتحول الاحتجاج الى ثورة احتل فيها الثوار المدينة وقتلوا عثمان عام 35، وعينوا عليا خليفة فى المدينة فأعطوا الفرصة لمعاوية للمطالبة بالثأر، محملا عليا المسئولية.
بينما ثار صحابة آخرون وتزعموا ثورة ضد (على ) وقادهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله والسيدة عائشة، وهزمهم (على) فى موقعة الجمل، وهى أول حرب طاحنة بين الصحابة (عام 36).
ثم اضطر (على) لحرب معاوية، وكاد أن ينتصر عليه فى (صفين) (عام 37) لولا لجوء عمرو بن العاص الى خدعة التحكيم، أى الاحتكام الى كتاب الله، وأرغم أعراب (نجد) من شيعة وجند (على) (عليا) على قبول التحكيم، رغم تحذيره لهم بأنها خدعة، فأضاعوا الانتصار فى صفين، ثم أرغموا (عليا) على أن يعين مندوبا عنه فى مفاوضات التحكيم، وهو (أبوموسى الأشعرى) ليتفاوض مع مندوب معاوية وهو عمرو بن العاص، فأعطوا بذلك اعترافا صريحا بشرعية معاوية وكونه ندا (لعلى).
وانتهى التحكيم بمهزلة خداع عمرو لأبى موسى الأشعرى، فثار نفس الأعراب على (على) تحت شعار ( لا حكم الا لله)، وطلبوا من (على) أن يعترف بكفره ويتوب لأنه وافق على التحكيم، كما اعترفوا هم بكفرهم وتوبتهم حين أرغموه على قبول التحكيم. ورفض (على) فخرجوا عليه وحاربوه فهزمهم فى النهروان، فقتله أحدهم (ابن ملجم) عام 40..
واكتسبوا آخر ألقابهم وهو (الخوارج ). الخوارج أهم مظاهر ونتائج الفتنة الكبرى الأولى .
هؤلاء الصحابة كانوا فى البداية كفارا فأسلموا كيدا لقريش ، ثم ارتدوا حين عادت السيطرة لقريش بعد موت النبى محمد ، ولما هزمهم أبوبكر عادوا للاسلام، ثم بعدها مباشرة أصبحوا عماد الفتوحات ، ثم أصبحوا الثوار على عثمان، ثم شيعة على، وفى النهاية خرجوا عليه فأصبحوا (الخوارج).
ترتب على الفتنة الكبرى الأولى أيضا تأسيس معاوية للدولة الأموية.
فبعد قتل (على) بايع ابنه الحسن معاوية فيما سمى بعام الجماعة (40هجرية) ، وخرج على هذا الاجماع الخوارج فظلوا فى حرب مع معاوية وبقية خلفاء الدولة الأموية الى سقوطها عام 132 هجرية.
3 ـ بعد استتاب الأمر لمعاوية خطط لتوريث ابنه يزيد الخلافة ، فتولاها يزيد فى شهر رجب عام 60 بقوة السلاح ، فنشبت الفتنة الكبرى الثانية .
بدأت بثورة الحسين وقتل الحسين ومعظم اهله فى كربلاء عام 61 هجرية ، مما أدى الى ثورة المدينة فأرسل يزيد حملة عسكرية يقودها مسلم بن عقبة ، استطاعت هزيمة أهل المدينة واستحلالها وقتل معظم اهلها وهتك أعراض نسائها فى موقعة الحرة فى شهر حرام هو ذو الحجة عام 63 .
وكان عبد الله بن الزبير قد استغل مذبحة كربلاء فأعلن نفسه خليفة فى مكة وبايعه أهل مكة والحجاز، ومات مسلم بن عقبة أثناء توجه الجيش الأموى للقضاء على تمرد ابن الزبير فى مكة ، فتولى القيادة الحصين بن نمير ، وحوصرت مكة والكعبة عام 64 ، وأثناء الحصار احترق البيت الحرام يوم السبت 3 ربيع الأول عام 64 ، وجاءت الأنباء بعدها بموت يزيد بن معاوية فى 14 ربيع الأول ، فعرض قائد الجيش الأموى الحصين ابن نمير على عبد الله بن الزبير أن يعترف به خليفة مقابل أن يترك الحجاز ويأتى معه الى دمشق ، وكان رأيا صائبا ، ولكن رفضه ابن الزبير . وانفض حصار مكة ورجع الجيش الأموى خائبا .واعتزل الخليفة الجديد معاوية بن يزيد بن معاوية الحكم بعد حوالى شهر من ولايته متبرئا مما فعله أهله الأمويون فقتله أهله بالسم فمات وهو ابن 13 عاما . ودخل المسلمون فى فترة اضطراب كان أكثر المستفيدين منها عبد الله بن الزبير. أصبح موقف الأمويين عسيرا فى الشام ، إذ إختار العرب في مصر الانضمام الى ابن الزبير ، بل إن أنصار الأمويين فى الشام انفضوا عنهم وبايعوا ابن الزبيرمثلما فعل النعمان بن البشير فى حمص وزفر بن الحارث الكلابى فى قنسرين ، وجاءت الطامة الكبرى لبنى أمية بأن بايع الضحاك بن قيس الفهرى لابن الزبير وهو زعيم قبائل قيس المضرية فى الشام والمتولى أمر دمشق نفسها بعد انهيار الحكم الأموى فيها .
هذا الوضع المتردى للأمويين جعل كبيرهم مروان بن الحكم يفكر فى البيعة لابن الزبير ، ولكن أثناه عن ذلك الحصين بن النمير العائد من حصار الكعبة وقتال ابن الزبير. ووقف الى جانب الأمويين فى محنتهم حسان ابن بحدل الكلبى خال يزيد بن معاوية وزعيم قبائل كلب فى الشام . وكان ابن الزبير بغبائه قد طرد عائلات الأمويين فى الحجاز فأتاح لهم التجمع فى الشام . وعقدوا مع أنصارهم مؤتمر الجابية واتفقوا فيه على تولى الخلافة مروان بن الحكم شيخ الأمويين وقتها ، ثم يليه خالد بن يزيد بن معاوية ثم عمرو بن سعيد بن العاص .
وبدأ مروان باستخلاص الشام من أتباع ابن الزبير ، فهزم الضحاك بن قيس الفهرى وقتله فى موقعة مرج راهط ، عام 64 ، وفيها فقدت قبائل قيس الكثير من أشرافها والآلاف من أبنائها على يد أنصار الأمويين من قبائل كلب ، فأحدث هذا ثأرا داميا بين قيس وكلب استمر يتفاعل طيلة الدولة الأموية مما أسهم فى القضاء عليها .وليحمى ظهره بعدها سار مروان بن الحكم لاسترداد مصر من والى ابن الزبير ، وهو عبد الرحمن بن جحدم القرشى فقتله .
فى هذا العام 64 خرج العراق عن طاعة الأمويين ، إذ جاء للعراق مغامر اسمه المختار الثقفى سيطر على معظم العراق ، مرة بزعمه تبعيته لآل البيت ودعوته لمحمد بن على بن أبى طالب ( ابن الحنفية ) أكبر أولاد (على ) والمقيم فى الحجاز تحت سيطرة ابن الزبير ، ومرة بزعمه التبعية لابن الزبير ، ولكن هواه كان أكثر مع الهاشميين . والمختار الثقفى هو الذى تتبع بالقتل كل من شارك فى مذبحة كربلاء بدءا من عبيد الله بن زياد والى العراق للأمويين الى الجند الذين شاركوا فى قتل الحسين وآله .
شهد عام 65 انصراف طائفة من الخوارج عن ابن الزبير ، وكانوا يساعدونه فى الدفاع عن الكعبة ، وقيام ابن الزبير بهدم الكعبة وإعادة بنائها ، ونقض مروان بن الحكم لاتفاق الجابية ، إذ عزل من ولاية العهد كلا من خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد ، وعهد لابنيه على التوالى عبد الملك ثم عبد العزيز.
ومات مروان فتولى ابنه عبد الملك بن مروان عام 65 .
وعبد الملك هو الذى أعاد تأسيس الدولة الأموية ، ووطّد أمورها . وبه انتهت الفتنة الكبرى الثانية ، التى شارك فيها الصحابة وأبناء كبار الصحابة مثل ابن الزبير وابن عباس والحسين والنعمان بن البشير،وغيرهم .
ولكن توطيد الحكم الأموى لم يوقف ثورات الخوارج فى عهد عبد الملك ، وبعده ، كما لم يوقف ثورات الشيعة و الموالى والأقباط والبربر ضد الدولة الأموية ، كما أن هذه الثورات المستمرة لم تمنع الدولة الأموية من استمرار توسعها فى الفتوحات شرقا فى أواسط آسيا وغربا الى حدود فرنسا مع السيطرة واحتلال جزر البحر المتوسط . كانت الدولة الأموية تقاتل خصومها فى الداخل وتتوسع فتوحاتها فى الخارج فى سابقة تاريخية عجيبة ، أسفرت عن سقوط الدولة الأموية فى ريعان شبابها دون ان تكمل قرنا من الزمان : (40 ـ 132 ).
ونعود لعبد الملك وكيف أنهى الفتنة الكبرى الثانية ووطّد دولته الأموية واستنقذها من ابن الزبير .
كان التحدى الأكبر أمام عبد الملك هو استرداد العراق لأنه يعنى استرداد ما وراء العراق من فارس وما بعدها . كان العراق يموج بحركات عسكرية وسياسية مختلفة أبرزها سيطرة المختار الثقفى على معظمه داعية باسم باسم محمد بن الحنفية ، أكبر من بقى حيا من أبناء (على ) ، ولكنه كان حريصا على ألاّ يأتى محمد بن الحنفية الى العراق حتى يظل فى سلطته بالعراق ، وكان فى نفس الوقت يخادع ابن الزبير يوهمه أنه على بيعته . وظهر لابن الزبير نفاقه حين هدد ابن الزبير باحراق كل بنى هاشم إن لم يبايعوا له ، بل جمعهم وكاد أن يشعل فيهم النار ، فبعثوا يستغيثون بالمختار فى العراق فارسل لهم فرقة من الجيش ، فهرب ابن الزبير وتم انقاذ محمد بن الحنفية وسائر بنى هاشم . وأصبح العداء علنيا بين المختار الثقفى وابن الزبير ، فأرسل ابن الزبير أخاه مصعب ـ وكان فارسا شجاعا شهما الى العراق ـ فهزم المختار وقتله عام 67 وضم العراق لأخيه . وجاء مصعب لأخيه عبد الله بن الزبير بالبشرى فما كان من ابن الزبير إلا أن عزل أخاه وحبسه وولّى العراق ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير واليا على العراق، وكان شابا قليل الخبرة خفيف العقل فاستخف به أهل العراق فاضطر ابن الزبير لعزل ابنه واعادة أخيه مصعب للعراق.
وهناك فى الشام مكث عبد الملك بن مروان يعد جيشه ويستعد للمواجهة الكبرى فى العراق تاركا مصعب بن الزبير يستنفذ قواه فى معارك متتالية مع المختار الثقفى ثم مع الخوارج الأزارقة وغيرهم ، وفى عام 71 كان جيش مصعب منهكا فزحف اليه عبد الملك بجيشه فهزم مصعب وقتله .
وبهذا حوصر عبد الله بن الزبير فى الحجاز حيث لا زرع ولا ضرع . وفى عام 72 بعث عبد الملك بجيش يقوده الحجاج بن يوسف فأعاد حصار مكة والحرم فى هلال ذى القعدة الشهر الحرام عام 72 ، واستمر الحصار ستة أشهر وسبع عشرة ليلة وقيل ثمانية أشهر ، فتفرق عن ابن الزبير معظم أتباعه وأهله ومنهم ابناه حمزة وخبيب ، إذ تسللا الى الحجاج وأخذا منه أمانا .وظل ابن الزبير يقاتل يأسا الى أن سقط صريعا ، فاحتزّ الحجاج رأسه وبعث بها الى عبد الملك فى دمشق .
وبايع الحجاز عبد الملك بالخلافة.
وانتهت الفتنة الكبرى الثانية ، لتبدأ فتنة ثالثة مختلفة بطلها الحجاج بن يوسف .
ثانيا :
1 ـ وفى موضوع وعظ السلاطين نتوقف فى هذه الفتنة الكبرى الثانية مع نماذج من الصحابة والتابعين ، ممّن شهد وعايش هذه الفتنة ، منهم من شارك فيها دفاعا عن الحق أو طلبا للثروة والسلطة ، ومنهم من أعرض عنها ساكتا عن الحق .
ونبدأ بعبد الله بن عمر بن الخطاب .. المعتزل للفتنة الساكت عن قول الحق أمام سلطان جائر .
ولمن أراد ترجمته كاملة فى الطبقات الكبرى لابن سعد فهى هنا :
عبد الله بن عمر بن الخطاب
http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=185&CID=50

2 ـ ولقد نشرت لنا (جريدة الأحرار) فى سلسلة ( قال الراوي) تحليلا لشخصية عبد الله بن عمر تحت عنوان ( المشي جنب الحيط !!). أثار هذا المقال زوبعة من التكفير لنا قام بها جهلة الشيوخ فى جامعة الأزهر ، الذين لا يعرفون أن هذا المقال مبنى على تاريخ ابن عمر الذى كتبه محمد بن سعد فى الطبقات الكبرى . والعادة أنهم لا يعرفون ابن سعد أو ابن سعيد أو ابن سعدون .. لا يعرفون سوى التطاول على العلماء المجتهدين حتى فى أوقات العمل غير الرسمية .
كتبت هذا المقال وقتها تعليقا على أحوال مصر لأربط الماضى بالحاضر طلبا للعظة والاعتبار ،أو وعظا للسلطان الذى هو (الشعب المصرى) .
قلت فيه :
(الأغلبية الساحقة من المصريين ينتمون إلي حزب وحيد ، وليس هو الحزب الوطني بالتأكيد، وإنما هو حزب "المشي جنب الحيط"، حزب السلبية والأغلبية الساحقة التي تصفق أحيانا وتسخر حينا، لا تعتزل الحكومة مائة في المائة ولا تؤيدها علي طول الخط ، تحتج علي الحكومة في صوت خافت وتمد يدها للحكومة في أول كل شهر .
وحزب "المشي جنب الحيط" مفتوحة أبوابه دائما في كل زمان ومكان إلا أنه يسيطر علي المجتمع في عصور الاستياء والعنف الحكومي. والذي لا يعرفه المصريون أن حزب " المشي جنب الحيط" بدأ مبكرا في تاريخ المسلمين، وكان أول زعيم له هو الصحابي المشهور عبد الله بن عمر بن الخطاب.. وكان ذلك التحول الخطير في أواخر حياته في عصر سيطر فيه العنف الأموي وكانت الأغلبية الصامتة تتمني أن يقودها عبد الله بن عمر ، ولكنه بعد حياة حافلة بالتحرك الإيجابي "آثر أن يمشي جنب الحيط" فدفع الثمن من كرامته ومن حياته..
فكيف كان ذلك؟
إن حياة عبد الله بن عمر تنقسم قسمين: بدأ حياته بالإسلام والتحرك الإيجابي مع أبيه عمر بن الخطاب ، ثم آثر في الفتنة الكبرى والحكم الأموي أن يعتزل السياسة مع الحرص علي الاستفادة من الحكم القائم..
لقد أسلم عبد الله مع أبيه عمر بن الخطاب في مكة ولم يكن قد بلغ الحلم ، وحاول الاشتراك في غزوتي بدر وأحد ولكن رده الرسول لصغر سنه، واشترك في الغزوات حين استوي شابا ، وفي فتح مكة كان في مقدمة الجيش وهو في العشرين من عمره فأثني عليه النبي حسبما تقول الروايات ..
وواصل ابن عمر عطاءه الإيجابي في خلافة أبي بكر وعمر ، وحين طعن أبو لؤلؤة المجوسي الخليفة عمر قام عمر بترشيح ستة من كبار الصحابة وعهد إليهم باختيار أحدهم ، وجعل معهم ابنه ( عبد الله بن عمر) علي أن يكون له حق التصويت دون الترشيح، وجعل لصوته الفيصل النهائي إذا اختلفوا .. وبهذا بلغت إيجابية عبد الله بن عمر مداها ..
ثم بدأ ابن عمر في الاعتزال حين شعر باختلاف سياسة عثمان عن نهج عمر، ولقد أراد عثمان أن يجعله يقضي بين الناس فقال له : لا أقضي بين اثنين ولا أؤم اثنين ، ثم تطور الأمر إلي مقتل عثمان ودخول المسلمين في الفتنة الكبرى ، وقد شارك قسم من المسلمين فيها لنصرة الحق بقيادة ( علي) ومعه عمار بن ياسر ، واعتزل سعد بن أبي وقاص الفتنة نهائيا .
واكتفي ابن عمر بتأييد المنتصر القائم في الحكم وهو يعلم أنه ظالم ، وكانت تلك سياسته مع الأمويين يعتزل القتال ويؤيد المنتصر ويقبل هداياه ..
لقد رفض ابن عمر أن يكون زعيما في الفتنة ، قال له مروان ابن الحكم :هل نبايعك فإنك سيد العرب وابن سيدهم ، فقال له ابن عمر : كيف أصنع بأهل المشرق ؟ قال تضربهم حتى يبايعوا ، فقال ابن عمر : والله ما أحب أن تكون لي وأقتل في سبيلها رجلا واحدا.
واكتفي ابن عمر بمبايعة من يصل إلي الحكم ، وقد قال : ما بايعت صاحب فتنة ، ولذلك رفض مبايعة ابن الزبير.وحين غلب عبد الملك بن مروان بن الحكم واجتمع عليه الناس كتب إليه ابن عمر : " إني قد بايعت أمير المؤمنين بالسمع والطاعة .. وإن أولادي قد أقروا بذلك " ..
بل إنه بايع ـ من قبل ـ يزيد بن معاوية في حين رفض البيعة له الحسين وابن الزبير وابن عباس ، وحين بايعه ابن عمر قال : إن كان خيرا رضينا وإن كان بلاء صبرنا!! .
وحين ثارت المدينة علي يزيد جمع ابن عمر أولاده وحذرهم من نكث البيعة ليزيد وقال لهم " فلا يخلعنّ أحد منكم يزيد ولا يسرعنّ أحد منكم في الثورة علي الأمويين " . ورأي ابن عمر انتهاك الأمويين للمدينة وشنائعهم فيها فاستمر علي عزلته ، دون احتجاج على ما يحدث فى بلده المدينة من قتل نهب واغتصاب . بل كان يصلي خلف الجميع وهم دونه في المنزلة ، وكان يقول " لا أقاتل في الفتنة وأصلي وراء من غلب "!!
وقيل عنه "إن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلا صلي خلفه وأدي إليه زكاة أمواله " وقد قالوا له محتجّين :" أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا؟ فقال : من قال حي علي الصلاة أجبته ومن قال : حي علي قتل أخيك وأخذ ماله قلت : لا" ..
وفي نفس الوقت كان ابن عمر يقبل الأموال والهدايا من أصحاب الفتنة ، أي لم يعتزل تماما مثلما فعل سعد ابن أبي وقاص ، واشتهر عنه قوله " لا أسأل أحدا شيئا ولا أرد ما رزقني الله " . وقد بعث إليه عبد العزيز ابن مروان بأموال فقبلها وقت أن كانوا يحاربون ابن الزبير والخوارج ، و من قبل حين أراد معاوية البيعة لابنه يزيد بعث لابن عمر بمائة ألف دينار فأخذها، ولذلك بايع يزيد وتمسك ببيعته ..
وقد اتبع الأمويون معه سياسة العطاء وسياسة التهديد معا ، فكان معاوية يهدده بالقتل ليخيفه ، ثم ينكر أنه قال ذلك حين يعلم أن ابن عمر قد أصابه الرعب ، ثم توسع الأمويون في هذه السياسة حيث تولي الحجاج بن يوسف ولاية الحجاز لعبد الملك بن مروان .. فكانت نهاية ابن عمر علي يديه ..
كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ، وكان من عادة الحجاج أن يؤخر الصلاة عن موعدها، خصوصا صلاة الجمعة، التى كان يعطلها أحيانا بتطويل خطبة الجمعة، فغضب ابن عمر ولم يحمل تضييع الصلاة فلم يعد يصلي خلف الحجاج، فاشتد عليه الحجاج وهدده قائلا: "لقد كنت هممت أن اضرب عنق ابن عمر"!!. وادعى الحجاج أن ابن الزبير قد حرف القرآن، فثار ابن عمر في وجه الحجاج، وقال له: كذبت ما يستطيع ذلك ولا أنت معه، فقال له الحجاج مهددا: "اسكت فإنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، يوشك شيخ أن يؤخذ فتضرب عنقه فيجرّ، وقد انتفخت خصيتاه، يطوف به صبيان البقيع"
وأدرك ابن عمر في النهاية أنه قد أخطا، فقد أدت سياسته في المشي جنب الحيط إلي شيوع الظلم الأموي وتضيع الصلاة واتهام القرآن، ثم أدت إلي استهانة الأمويين به.
وفى النهاية دسّ له الحجاج رجلا طعنه في الحرم برمح مسموم في قدمه، فسقط مريضا، وجاءه الحجاج يقول له: لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه، فقال له ابن عمر: أنت الذي أصبتني.
وخرج الحجاج يتندر عليه قائلا: إن هذا يزعم أنه يريد أن نأخذ بالعهد الأول... أي بعهد النبي عليه السلام!!
ابن عمر ـ وهو علي فراش الموت ـ ندم حيث لا ينفع الندم! قال: ما آسي من الدنيا إلا علي ثلاث: ظمأ الهواجر ومكابدة الليل وألا أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا!!).
هل وصلت الرسالة .. أيها القاعدون ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة
عزيزى القارىء
رجاء ألّا تنسى أن هذه المقالات تمت كتابتها ونشرها قبيل الثورة على مبارك . وتم تجميعها فى هذا الكتاب فى فبراير 2016 .



#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيها المحمديون : مالكم من إله غير الله جل وعلا ..!!
- القاموس القرآنى : حسب / حساب ( 3 : 4 ) ( يوم الحساب )
- القاموس القرآنى : حسب / حساب ( 3 : 4 ) ( حساب الرزق )
- القاموس القرآنى : حسب / حساب ( 2 : 3 ) ( حسب ) بمعنى يكفى
- القاموس القرآنى : حسب / حساب ( 1 : 2 ) ( من الحساب العددى ال ...
- ( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) ( 2/ 282 )
- معظم طقوس الموت والدفن ليست من الاسلام
- القاموس القرآنى : خائن / خوان / يختانون
- القاموس القرآنى : عفا / عفو
- الانفجار المصرى القادم بين التفاؤل والتشاؤم
- فى مصر : حرب أهلية ممكن .. تقسيم : مستحيل .!!
- القاموس القرآنى : الخلود
- أثر الفتوحات العربية فى نشر الكفر بالاسلام وبالقرآن
- تفاديا لثورة الجياع ( 2 من 2 )
- تفاديا لثورة الجياع ( 1 من 2 )
- الخلفاء الراشدون الفاسقون يا أهلا بالهلع .!!
- القرآن الكريم ( عٍلم إلاهى ) مُتاح تدبره للعلماء المؤمنين
- فى هذه الحروب الأهلية الدينية بين ( المسلمين ): ( القرآن هو ...
- القاموس القرآنى : حبط
- ثورة الجياع ..وما أدراك ما ثورة الجياع .!!


المزيد.....




- وفاة قيادي بارز في الحركة الإسلامية بالمغرب.. من هو؟!
- لمتابعة أغاني البيبي لطفلك..استقبل حالاً تردد قناة طيور الجن ...
- قادة الجيش الايراني يجددن العهد والبيعة لمبادىء مفجر الثورة ...
- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - كتاب (وعظ السلاطين من الخلفاء الفاسقين الى ( حسنى مبارك ) اللعين)