أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - حمادي تقوا - عبد الكريم ماحي: من جنون الجنون إلى ألق السؤال و قلقه















المزيد.....

عبد الكريم ماحي: من جنون الجنون إلى ألق السؤال و قلقه


حمادي تقوا

الحوار المتمدن-العدد: 5085 - 2016 / 2 / 25 - 00:25
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


عبد الكريم ماحي: من جنون الجنون إلى ألق السؤال و قلقه

-قراءة عاشقة في ديوان "اتحتحيت السؤال" للزجال المغربي عبد الكريم ماحي

-1-
مسطور في سفر تكوين الكتابة:
"ويسألونك عن الكتابة؟
قل: نفحة من وردة الجنون.
و يسألونك عن جنون الجنون؟
قل: جلاء در الكاتب المكنون."

هي الكتابة: سليلة الجنون. هو نسغها و شريعتها، فلا كاتب يسلم من استنشاق وردته. لكن أن يغمرك جنون الجنون؛ فأنت،لا محالة، في حالة ضوئية قصوى، في حضرة ما لا ينقال. ها هنا تزول الغشاوة و تأفل الحجب، يقف السر أمامك عاريا، تبلغ مقام السيان، تبحر في يمك العميق، تغترب عن السوى، تهزأ بالعقل، تنأى بصمتك المشتعل عن نباح الإيديولوجيا/عواء التاريخ/عويل الروح/طنين المنطق، تصوم عن اللغو و المألوف، تسهر على جنازة الجسد، ترقص عاريا- متحررا من الوقار المنافق: لتستحق موتك بين الموتى.

-2-
نقرأ في تاريخ الأفكار عن جنون أمبيذوقليس. جنون قيس بن الملوح و الصوفية. جنون نيتشه و تراكل هولدرلين... يطالعنا الجنون، بما هو حصيلة تجربة محتدمة مع الوجود أو العشق أو العدمية أو المعنى. نعثر على الجنون في السطر الأخير من الحكاية. لكن أن يكون الجنون فاتحة تجربة إبداعية، و أن يكون هذا الجنون قد جن (منذ البدء) فهذه قارة في الكتابة جديدة. تجربة ينفرد بها مجذوب القصيدة الزجلية الحديثة "عبد الكريم ماحي". آية هذا التفرد ديوانه الأول "لحماق تسطى" (2004): حيث الكتابة الزجلية تشن حربا على البداهة و البلاهة، و تفتح مسارب انفلاتها؛ بدءا من نقد الاستبداد و العنف و القهر، محصنة بموقف لا يهادن مع أمراض الحداثة و أعطابها، مرورا بتجربة العشق و احتدامها الخانق، وصولا إلى تفتيت الأصنام و هتك الحجب و الاحتماء بحمق الجنون من مغبة الاستسلام لأوهام السوق.

-3-
لكن، ماذا بعد جنون الجنون؟ ماذا بعد "لحماق تسطى"؟
أن يجن الجنون معناه أن يتطهر من آخر ما يعلق به من شوائب العقل. أن يصير مهيئا للدهشة، و لعل من الراسخ فلسفيا أن الدهشة رحم السؤال.
ألا ما أحوجنا إلى ألق السؤال و قلقه. و هل تكون حداثنا المؤجلة إلا صنوا لتعطيل السؤال و تأجيله؟!
هو السؤال: رديف القلق. شرط كتابة تنخرط في المجهول. و لعل هذا الوعي هو ما دفع تروبادور القصيدة الزجلية إلى استبات تجربة ثانية عنوانها "اتحتحيت السؤال".

-4-
قصايد لها رعب ماء السؤال. يحاصرك الماء باستعاراته من كل جهة. يغمرك الطوفان. احذر فالماء توأم المحو، و المحو لا يبقي إلا الطرس. ففي البدء كان الغمر، و معه كانت التسمية:

"الما... حي
حي هاد الما
ما تهزمو يامو
الزاندة في (ق)لبو نيران"

سطوة استعارات الماء تنعش القصيدة. تؤرخ لقدم تجربة القول و عتاقتها. و ليس الماء ميسم حياة و انتعاش فحسب، الدمع ماء كذلك، ماء المحنة، تدفق آلام الذات زجلا:

"ابكي يا عيني شلال
هكذا خلقني الله زجال"

لنا أن نقرأ الديوان صحبة الماء و التدفق، لتنبري القصيدة منتعشة بالحياة -كما سلف-، غارقة في يم الألم في مواضع شتى. ماء القصيدة "الماحية" سيال فقد يتشكل عنب حرية فيعبه القوال سؤالا:

"عنب الحرية
شربتو سؤااال"

أو قد يتورط المداد في صورة بحر يغرق الذات في لج الكتابة، يخنقها بالسؤال:

"يلا أنا زجال
شكون خوا المداد عليا؟".

-5-
قصايد لها قلق الذات و الوجود و العشق. ذات تؤرخ لميلادها منذ الطوفان، قديمة قدم الفاجعة، ذات تقبل الجرح، فتنزح من كتابة سفر تكوينها إلى الانخراط في سفر أيوب:

"ملي الدمعات بلغو
لهاد القياس
نحدر الراس
بوسة من هنا
و من هنا لهيه
بوسة تسربات ليا
أمح أ الجرح
مح أ ديك السمية"

للماحي مجد إعادة كتابة التاريخ. بروح نيتشوية ساخرة، بقلق سيزيفي يفكك وقار العقل، يستضيفه في تجربة الشطح، رقصا بالمعنى الحرفي الدارج، حرية صوفية بالمعنى العرفاني:

"وييه العقل هاز البوط
وييه العقل حاط البوط"

هذا العقل الراقص (نظير إله نيتشه الراقص) تعتريه لسعة الوجود، هو رقص ألم لا رقص طرب: رقص لوعي هويته الشقاء. من هنا تتويج السؤال سلطانا لديوان الماحي اللايؤول. حيث يتكرر في ما يربو عن الخمسين بنية استفهامية. لعله البحث عن إمكان جديد للقصيدة الزجلية، رغبة في الخروج بها إلى أفق فكري فارق، أفق يستثمر الطاقة المجازية للغة مضمخة بتراب "دكالة" رديف الخصب -مسقط رأس مولانا عبد الرحمن المجذوب عاشق نشيد الروح و ارتعاش الجسد. هو السؤال،إذن، باب القصيدة الزجلية لتعانق إمكانها الرؤياوي. ذلك أن "السؤال هو الفكر،لأنه قلق و شك، أما الجواب فنوع من التوقف عن الفكر، لأنه اطمئنان و يقين. السؤال، بتعبير آخر، هو الفكر الذي يدفع إلى مزيد من الفكر" كما علمنا "أدونيس". و ما أحوج القصيدة الزجلية إلى من يكتبها فكرا و رؤيا.

-6-
في البنيات الاستفهامية، المبثوثة في الديوان، تنشبك كتابة السؤال مع سؤال الكتابة. "تحتحيت السؤال"، بهذا المعنى، نفض للسؤال كتابة. حفر في مناجمه. طرحه و استبعاد الجواب ابتهاجا بالإقامة في المسافة بينهما:
(ياكما زعامة الخوف تحسبات عليا؟/واش عندك ليا شي حل- باش نحل عليا من حبس الذات؟/كيف يكون كفان الروح؟...؟..) أسئلة تتناسل مقيمة في شريعة المجهول. تتحدى قارئ الديوان بإلغازها و غموضها الشفاف. فارضة عليه عبء القراءة -بها هي تأويل للعلامات:
"خصك تقرا
من تحت ظل ديك الحجرة
سيرة النجم
ما مزوقة بدم بنادم"

وفي مواضع أخرى بجعل القراءة "فعل تأويل للكينونة متبادل بين الذوات:

"ع قراني و نقراك
مخازن ال(ق)لب
ترميها العين شوفة
و شووووف
شوف فيك تل(ق)اك"

لا تعدو القراءة (القراية) هنا كونها أداة لدفع البداهة، و تفكيك أعطاب حداثة مريضة. حداثة تقدم أجوبة جاهزة متناسية أن "الجواب شقاء السؤال" و أن "السؤال يتلهف إلى الجواب و ينتظره، لكن الجواب لا يهدئ من روعه" كما نقرأ عند "موريس بلانشو". هي حداثة الكذب و المخاتلة و الوهم، كما ترصدها قصايد بودلير القصيدة الزجلية الحديثة:
"كذبت الوقت
جريدة مريضة
خبر وفاة... و الضامن الله أعلم"

-7-
قصايد لها اللوعة و تمجيد الألم و التبشير بالثورة بديلا. لها السخط و العربدة في وجه المهادنة الصفراء. لها النهوض ضدا على من ساوم في الحلم الأحمر:

"التاريخ مسوس
حلاوة الشهدا(ء)
مدفقة على تراب مسموم
لا أهلا و لا سهلا
و لا انتي نحلة
و لا أنا ناظم
من غير قطرة دم
لاااش تريشو الشهادة
و ت(ق)ولو هاد الفم
ساكنو لسان امساوي؟"

"ماحي" -بنفسه الغيواني، يستحضر، وهو ينخرط في فعل الكتابة، قدسية "بوجميع" و مواويل "العربي" الجارحة. محاكما مصادرة مكاسب الدم. مستأنفا ما بدأته الظاهرة الغيوانية، لكن بالقصيدة و منها و لأجلها. التزامه رهن القصيدة لا غير. يمارس ارتحالا شقيا في سبيل أن تخرج من النشيد إلى الحرف. بجسد هش و روح لا تسعها مدينة، هي العشق في البدء و الختم، هي الجفاء مجسدا في طوبوغرافيا قاسية. هي الحضن الرؤوم و المندغم بالغدر و الخذلان:

"و هزتني الترعيدة
مللي غدرتيني يا وحيدة
الله الله عليك انتيا
واااهيا الجديدة
أيا القديمة ف الهوال
طلبتك سوال
جاوبتيني مقال"

و إن تسأل "ماحي" القصيدة (و مثبتها) عن حال كتابته مع العشق، ألفيت تدوينات "تقليقت البغو" تذكرك بعشق عذري يقدم فيه الجسد قربانا للمعشوق. تصادف جغرافيا احتدام عاطفة جارفة لامرأة بالمعنى البدئي للكلمة، امرأة ذات حمولة أسطورية(يا عشتروت)، تتحلى بميتافيزيقا الفداحة، و يكتفي العاشق بتشريح النوستالجيا زجليا. و لعلة ما تقترن هذه الأنثى باستعارة الماء (أليس الماء صنوا للفاجعة، كما سلف؟). إنها -و حسب الإهداء البليغ- "شلال ألم" كما هو الحال في قصيدة "ne me quitte pas"، حيث يؤرخ "جاك بريل" لاستعارة فردوس مختلس من حياة التيه و التروبادورية:

"امسارية داك الجنان
هواك ياما كان
مظللني برويحتو
فيه نوار لشعار
مجدوب ف خلوة هبالك
خلاها ف ديك الليلة "جاك بريل":
متخلينيش
"Ne me quitte pas"


-8-
وبعد،
فإن تقترب من الديوان وجدته مستهلا بالماء والحياة و دين الأخوة(خويكم أنا زجال). مختوما بالموت: بوصية ذات دلالة أنطولوجية تذكر قارئها بمحنة طرفة بن العبد. لتقف منبهرا أمام "سومة الكفن" (سعر الديوان!)، حيث تتخلى التجربة الماحية عن انشغال جل الكتبة المزيفين بترسيخ الاسم زخرفة و تنميقا، تجربة تفضل محو الاسم من منطلق حلاجي أصيل؛ طامحة في أن لا تكون أكثر من انفلات مجازي في جسد القصيدة الحالمة بالمعنى، في فضاء يدعس برفق منافق وردة الجنون، ليمنع عن الكاتب الحق جلاء دره المكنون.

نص مداخلة في حفل توقيع ديوان "تحتحيت السؤال" للزجال عبد الكريم ماحي، و الذي نظمته جمعية منتدى الإبداع الثقافي و الفني بالمركز الثقافي- سيدي بنور (6فبراير 2016)



#حمادي_تقوا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - حمادي تقوا - عبد الكريم ماحي: من جنون الجنون إلى ألق السؤال و قلقه