أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبعوب - ساعات بطول الدهر!!















المزيد.....

ساعات بطول الدهر!!


محمد عبعوب

الحوار المتمدن-العدد: 5083 - 2016 / 2 / 23 - 20:26
المحور: الادب والفن
    


وقفت في طابور استلام نتائج تحليل الدم لاستلام نتيجة تحليل ابني المطلوبة لتوظيفه في مؤسسة إعلامية، ناولت الرجل المحترم حد الإبهار في تلك النافذة الواصل.. فتش بين أوراق النتائج، وأعاد لي الواصل طالبا مني إحضار ابني مرة ثانية لسحب عينة من دمه لتحليلها.. وطلب من الشخص الذي يليني واصل الاستلام.. غادرت الطابور يجرفني سيلا من الوساوس المرعبة، ففي تلك الفترة كان مرض "السيدا" والتهاب الكبد الوبائي القاتلين يسيطران على المشهد الصحي في البلاد، وفي كثير من جلسات السمر تكون روايات حقيقية وخيالية عن هذا المرض هي موضع النقاش، خاصة وانه في بداية الألفية كانت أمواج العمالة من كل دول الجوار تتدفق على البلاد بدون تنظيم ومراقبة دقيقة وتساهم في نشر الأمراض المختلفة.
جرجرت أقدامي تحملني عواصف من الشك والريبة في ابني النزق والمتطرف في تعامله مع الحياة، قبل أن يهديه الله الى سواء السبيل وبتطرف أيضا، هذه الهواجس والشكوك هي التي رسخت في ذهني أن مطالبة المعمل بإعادة سحب عينة التحليل كانت من اجل التأكد من إصابته بإحدى المرضين القاتلين، السيدا او التهاب الكبد الوبائي.. وبدأ خيالي المأزوم حد الهوس، يرسم أمامي سيناريوهات متعددة عن كيفية إصابته وعن طريقة علاجه ومواجهة تكاليفها الباهظة وعن الآثار الاجتماعية على علاقات أسرتي مع أقاربي وأصدقائي في حالة تسرب الخبر وانتشاره، وعن كيفية تسريبه في حالة ثبوته الى زوجتي وله أيضا ، سيل هادر من التساؤلات المخيفة تتقاذفني، حتى وجدت نفسي فجأة وبعد ان انقشعت عني ولفترة وجيزة هذه الكوابيس في منطقة ليس لي بها مصلحة أقود سيارتي وأنا في حالة توهان رهيبة، غيرت اتجاهي عائدا الى البيت لأخوض غمار تلك الدقائق التي تساوي شهرا والساعات التي تحسب دهرا، استجمعت قوتي ودخلت البيت بوجه مكفهر العن زحمة الطرق متحدثا عن مشاكل لا وجود لها في الواقع حتى لا تسألني زوجتي عن أسباب قلقي.. قذفت بمفاتيح السيارة جانبا ولجأت كعادتي الى صديقي الوفي الكتاب، أبثه همومي وقلقي واهرب عبر صفحاته من اسر الوساوس وضغوط الحياة، حاولت زوجتي اقتحام أسوار قلقي، لكنني كعادتي السيئة -التي لم استطع التخلص منها- لم اجبها بحرف وصفعتها بصمتي الرهيب، فغادرت الغرفة وهي تتوقع أنني أواجه مشاكل في العمل .. سافرت عبر صفحات رواية على ما اعتقد كانت لماركيز ، لكن عبثا كنت التهم الصفحات بنهم، وعقلي يجوب المصحات ويطارد مصادر لتمويل علاج ابني، فوجودي تحت حالة رهاب الأمراض المعدية لم يترك لي لحظة للتفكير السليم في أسباب منطقية تبرر المطالبة بإعادة تحليل دم ابني.. في تلك الدقائق والساعات جبت بخيالي كل مصحات طرابلس وعبرت الحدود الليبية التونسية رفقة ابني وقضينا أياما وشهورا في ردهاتها، استلم نتيجة المرض من هذه المصحة وارميها غير مصدق لأنتقل الى مصحة أخرى علها تعطيني نتائج مفرحة.. وفي الأثناء تداهني عاصفة من الأسئلة عن سبب إصابته الخيالية ومصدرها؟ تقول لي هواجسي إن رفاق السوء وطيشه ونزقه هو السبب، لكنني لم ارصده يوما يتعامل مع المدمنين رغم وجودهم بشارعنا.. خطرت لي فكرة أخرى، قالت لي هواجسي لا يوجد إلا مصدر وحيد لهذه الإصابة ، وهو صالونات الحلاقة، حيث كانت العاصمة طرابلس تعج بآلاف الحلاقين الأجانب الذين لا يراعون في استخدام آلات الحلاقة شروط الأمان والتعقيم.. استدرجته لأتأكد من الموضوع وسألته بلغة بريئة :
- لماذا لا تحلق شعرك؟
- لقد حلقت منذ عشرة أيام فقط.
وكانت هذه فرصتي لمعرفة ما إذا كان قد حلق لدى حلاق العائلة الذي أثق فيه وسألته عن الحلاق، فأجاب بأنه يحلق لدى حامد حلاق العائلة كما أوصيه دائما.
هززت راسي والشكوك تنخر دماغي بأنه يكذب وانه لابد أن يكون قد حلق لدى إحدى المحلات التي لا يراعي أصحابها احتياطات الأمان ويستعملون موس الحلاقة لتشطيب الحلاقات الشبابية الغريبة وهي وسيلة متعارف عليها كناقل لأمراض الدم وهي حقيقة بكل تأكيد..
عدت الى اسر هواجسي، حان موعد الغداء جرجرت نفسي لأمثل دور المجامل لأسرتي المجتمعة حول المائدة والصمت الرهيب ينشر أجواء من الخوف بينهم.. ترى ما هي المشاكل التي تجعل والدنا مكفهرا بهذا الشكل؟
عدت الى مخدعي وصديقي الوفي ألوك صفحاته للهرب من هواجسي المرعبة، تناولت حبوب مهدئة لكنها لم تؤثر في، خرجت للقاء شلة الأصدقاء والدخول معهم في نقاشاتهم البزنطية حول الوضع في البلاد وآخر الإصلاحات، لكنني كنت معهم جسدا فقط، فروحي لا زالت أسيرة لرهاب مرض ابني وارتداداته الصحية والاقتصادية والاجتماعية، بعد ساعة تقريبا استأذنتهم للمغادرة اعترضوا ، لكنني لم أبالي باعتراضهم وحدثتهم بلغتي التهكمية الطريفة كالعادة والتي تجعلهم يغرقون في الضحك.. ودعتهم بابتسامة مصطنعة وعدة الى زنزانتي مستسلما لهواجسي المرعبة.
عاودت السفر عبر الكتاب للإفلات من هذه الوساوس، ولكن من أين لي ذلك ، فقد فأصبحت أتنفس رهاب المرض مع كل شهقة ذعر تعتريني وانا وحيدا في غرفتي.. وكانت ساعات مؤلمة وموجعة حقا خاصة في الليل بعد ان هجع الجميع وبقيت وحيدا تفيض عيوني أحيانا بدموع الخوف ويرتجف قلبي لمشاهد ابني الموبوء منبوذا يجوب الشوارع، كانت فعلا ساعات تساوي دهرا.
وبعد ليلة مؤرقة وثقيلة نهضت صباحا وطلبت من ابني مرافقتي الى معمل التحليل ، فتساءل :
- لماذا لا تحضر النتيجة انت؟
- أجبته بان عينة الدم قد ضاعت منهم وطلبوا إعادة السحب.
رافقني وهو يهذي متهما المؤسسة بالفساد والإهمال، وافقته مجاملا وقلت له ليس لنا خيار..
وقف في الطابور وتمت عملية السحب وعدنا الى البيت ، وذهب هو يخوض في نزقه الشبابي مع مراهقين من أمثاله في مقاهي النت والعاب الكمبيوتر، ولم يلحظ أي قلق او مخاوف علي، وعدت الى عزلتي الرهيبة أصارع تلك الهواجس المرعبة وارتب مخارج خيالية منها.. وكانت ليلة أخرى من الرعب والقلق، لم أذق فيها طعم النوم منتظرا بلهفة بزوغ شمس يوم جديد لأستلم تلك الجمرة بأيدي مرتجفة وأبدا رحلة العذاب الخيالية..
منذ الساعات الأولى كنت أمام شباك النتائج، وجدت أمامي شخصان ينتظران.. ساد صمت رهيب حول احدهما فتح حوار معي لكنني لم أكن موجودا ساعتها هناك فأجبته إجابات مقتضبة توحي بعدم رغبتي في الحوار..
فتح الشباك اهتز قلبي تسارعت نبضاته حتى خيل لي أن من كان أمامي كان يسمعها.. استلموا نتائجهم وغادروا، وقفت أمام الشباك متيبس الحلق مرعوب للخبر السيئ الذي ينتظرني، مد لي ذلك الرجل الستيني النتيجة وطلب من الشخص الذي يليني ان يناوله الوصل، سألته بصوت متقطع، :
- انشالله النتيجة سليمة يا سيد؟
- سليمة ابنك لا يحمل أي فيروسات مرضية..
- فاضت دموعي وتسمرت أمام الشباك محاولا تسلقه لأقبل هذا الرجل واشكره لأنه أزاح عن قلبي هواجس تنؤ الجبال بحملها..
- سألني:
- خيرك يا حاج؟ ابنك كويس والنتيجة سليمة 100%!
طلبت منه ان يفتح لي باب المكتب لأحدثه ، وافق طالبا مني الدخول من الباب الجانبي.. قطعت تلك المسافة البسيطة طيران لم اشعر أنني المس الأرض بقدمي.. فتحت الباب و وقفت قبالته وكان مشغولا بتسليم النتائج الى من تبقى بالطابور.. بعد فراغه سألني:
- أين المشكلة يا حاج؟ لماذا البكاء والدموع؟ أم تراك لا تثق في نتائج تحليلاتنا، يمكنك في هذه الحالة إجراء تحليل مماثل في مخابر تجارية..
- ليس هكذا الأمر يا محترم.. فقط أود معرفة سبب إعادة سحب العينة من ابني حيث السحب الأول كما بدا لي كان يحوي نتائج سيئة.. فكيف السحب الثاني يعطي نتائج سليمة؟
- ضحك ملئ شدقيه وهو يبحث في صندوق النتائج أمامه عن نتائج مترددين على نافذة التسليم.. وأوضح لي أن إعادة السحب لم تكن إطلاقا بسبب نتائج سيئة، ولكن كمية الدم التي سحبت لم تكف لاستخراج كل النتائج المدرجة في النموذج.. وهذا كل ما في الأمر..
هجمت عليه محاولا تقبيل رأسه لكنه ردني برفق وأكد لي ان ابني سليم وان هواجسي ليس لها أي وجود في الواقع وتمنى لي السلامة .. وقفت أمامه جامدا باحثا عن وسيلة للتعبير عن امتناني وشكري لهذه المؤسسة وخبراءها، واندمج هو في عمله تاركا إياي ودموع الفرح تخضب خدي، فهذا الإنسان مؤكد أنه واجه عشرات المواقف المؤلمة ولديه القدرة والمران على التعامل معها بتلقائية.. وكانت فعلا تلك ساعات بطول الدهر بكل ما تحمله الكلمة من معنى..



#محمد_عبعوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في كتاب -الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ-..
- ليبيا.. أسباب الفشل ومسار التصحيح..
- الفردوس الدامي.. صورة مقربة لعشرية الجزائر الدامية
- هجمات باريس .. الشريك المُغيَّب
- اسرار -منتقاة- تحت قبة المؤتمر الوطني الليبي.. قراءة في كتاب
- مهلا سادة ليبيا الأغبياء الجدد!!
- هل يتحول ضحايا الأزمة الليبية إلى وقود يزيد من أوارها؟
- متى تغادر النخبة الليبية أبراجها وتخوض معركتها الواجبة ؟
- ترى.. من الضحية القادمة لحسين البنغالي ؟
- (34808) ماذا يعني هذا الرقم؟؟
- دون كيخوتا نائبا في البرلمان الليبي!!
- سطوة السرد في إصدار عوض الشاعري الأخير
- -اسرائيل- واقع مقيت لا يرقى الى الحق..
- التفكير الجانبي*!!
- العشق من أول نظرة.. قصة عاشق الكتاب
- -الديموكتاتورية- كأسلوب للانتحار الجماعي..
- الديمقراصهيونية المخادعة..
- خواطر عابرة (5) قوة الفوضى..
- خواطر عابرة (4) الواقع يخذل العقل!!
- رهاب الضياع يحاصر ذاكرة حسين نصيب


المزيد.....




- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...
- عبر -المنتدى-.. جمال سليمان مشتاق للدراما السورية ويكشف عمّا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبعوب - ساعات بطول الدهر!!