أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين لمقدم - قصة قصيرة ... مدن الضباب :














المزيد.....

قصة قصيرة ... مدن الضباب :


ياسين لمقدم

الحوار المتمدن-العدد: 5083 - 2016 / 2 / 23 - 14:05
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة :

مدن الضباب :


_________________



يحكى أن حاكما عادلا كان يخرج لتفقد أحوال رعيته من أعيان عاصمته الجميلة التي لم يغادرها قط. وكان يتجول في بعض الليالي بين قصور رعاياه الأغنياء، ويتسلل خلسة بين حدائقهم الغناء. فيجدهم وقد أوقدوا للسهر نيرانا كبيرة، ويتحلقون حولها بأعداد غفيرة. يكرعون بنهمٍ كؤوس البيرة وهم يُراقصون بجنون الإماء الحِسان ذوات التنانير القصيرة.

ثم ينتقل إلى قصر آخر برفقة عبده الجسيمِ الأسمر، متلفعيْن ببرنسَيْن سوداويْنِ لكي يندمغا في حلكة الليل، فلا يلحظهما حارسٌ راجلٌ أو راكبُ خيل. وكعادته في التسلل، تمكن من ولوج صالون قصر أمين التُّجار، بعد أن أوصى عبده بالتواري خارجا خلف الأشجار. تخفىَّ الحاكم خلف ستائر النوافذ العظيمة، ينتظر التئامَ التجار على خِوان الوليمة.

وبعد لحظات قصيرة، وعلى أنغام الآلة والأمداح، تحلق المدعوون حول المائدة الكبيرة، وشرعوا في ارتشاف الأقداح، يتخاطبون بهمسٍ خفيف كأريج الصباح. ولما لعبت الخمرة بالعقول، انفكت الألسن من عقالها، وزمجرت الحلوق بالصياح. من مخبئه فهمَ الحاكمُ أن التجار يتطلعون إلى الرفع من أثمنة مبيعاتهم لتدارك ما فاتهم من أرباح. ثم تسلل إلى خارج القصر وفي نفسه حزن شديد عما يعانيه التجار في بلده العتيد. وفي الصباح كتب إلى أمين التجار، يزفُّ إليه بشرى تحرير الأسعار.

بعد أيام طويلة، والهناء يبسط فُرشه الوثيرة على كل شبر من العاصمة القريرة. وعلى غير عادته، سأل الحاكم عن سر غياب سائس الخيل، فأبلغوه أنه غادر البلاط مسرعا في جنح الليل بعد أن جاءه خبر انجراف قرية أهله مع قوة السَّيل.

فكرَ الحاكم وقرر أن يخرج إلى الهوامش، لكي يعزي سائس الخيل في الضائقة، فنزل هذا الخبر على مستشاريه ووزرائه كنزول الصاعقة. فاشتعلت رؤوس وتوتَّرت نفوس. وتعالى صراخ الحواجب، كيف يعقل للحاكم أن يخرج الآن للهوامش وقد حجبوا عنه سرّ بؤسها وفوضوية إعمارها وهمجية أناسها؟؟؟...

قضى مستشارو الحاكم ووزراءه لياليهم ونهاراتهم في التفكير، فأَمْرُ خروج زعيمهم من عاصمته يحتاج إلى أكثر من تدبير. كانوا يجتمعون في ديوان آمر الجُندِ لأنه أكثرهم معرفة بأحوال الرَّعية في الهوامش والأقاصي، وفي كلِّ وهْدَةٍ وجبلٍ، وقد يفيدهم فيما قد يحُدُّ من بؤس تلكم البلاد أمام ناظرَيّ حاكمهم المبجَّل. وقد اتفقوا على أن يكدُّوا لكي يدفعوا عنهم ما قد يحيق بهم من غوائل إن لمس الحاكم فيهم زعمهم في اتخاذهم خدمة الناس شغلهم الشاغل.

بعد القيلِ والقال، واحتدام السِّجال، اتفقوا على اختيار فرُقٍ من أخلصِ الرِّجال، وحمَّلوهم بالزاد والأموال. وأمروهم بالخروج عن بكرة أبيهم ولا يتخلَّف عنهم إلا ختَّال. وسلموا لرئيس كل فرقة خططهم العاجلة، لتزيين الأرصفة وترميم الدُّور وتقويم كلِّ مائلة.

ومرَّت الأيام والليالي، وكل المسؤولين في العاصمة يقفون من فجرهم إلى غَبشِهم على قدم وساق. ولا يخلدون إلى أفرشتهم إلا بعد تقديمهم تقاريرهم لكي تتقدم أشغالهم في توازن مع بعضها واتساق. وتوزَّعتْ مهامُّ المبعوثين بين مراقبٍ لسير الأعمال، وحاشدٍ لأعيان القبائل لإرغامهم على التبرع بالأموال.

في مساءٍ ما، وبينما الأشغال في أوجها، هبت على ربوع البلاد عواصف قوية، أرعبتِ البشر وزلزلت الحجر. فتهدَّمت المنازل في الضواحي واجتُثَّ الشجر. وعند عودته من جولانه المعتاد إلى مجلس الحكامة، تحدَّثَ آمر الجند عن هولِ الكوارث حتى ظن الناس من حوله أنه أسهب في وصفِ حشر يوم القيامة.

شعر أعضاء المجلس وكأنهم في بحرٍ ذي موجٍ متلاطم، فتوزَّعوا بين محزونٍ وواجمٍ وعلى وجهه في التيه هائم. فإن خرج الحاكم لتعزية سائس الخيل سيُصدَم لحال الأرجاء، ويشك أن من بين معاونيه من لا يزال يكنُّ له الولاء، فيمعنُ فيهم قَسْرًا إلى اختفاء بالنَّفيِ والفناء.

في صباح الغد، حمل مستشارٌ إلى أعضاء مجلس الحكامة خبر عزم الحاكم على الخروج للتعزية من باكرة غده. فاضطربوا وتتشتتوا بين واجم متكدِّر وقاعٍ على الأرض مغمض عينيه بيده. فما استعدوا به من بهرجة وتزويق ذهب أدراج الرياح، وما بقي غير شعب منذهل أمام الخراب ممعن في النواح.

أختلف أعضاء مجلس الحكامة فيما بينهم، فمنهم من يدعو بالتسليم إلى الأمر الواقع، والإسراع بإخبار الحاكم لعله يرجئ الزيارة أو يلغيها إذا تفهَّم هول الوقائع. وآخرون رأوا الحل في الإسراع بترميم أماكن العزاء، بينما يتمُّ التستر عَنْ باقي الخراب بغرس الأشجار التي تناطح السماء. فإذا مر موكب الحاكم بينها لن تُظهِر له كثافتها ما تخفيه وراءها من أوطان الشقاء.

همهمت الشفاه رافضة لهذه الحلول، واختلفت الاقتراحات وتصادمت الآراء، ولكنها كلها كانت إلى أفول. وشعر أعضاء مجلس الحكم أنهم سائرون إلى الشقاء، وقد تحولت دنياهم السعيدة إلى مجرد هباء. فانتحب فريق منهم وسقط آخرون في دوامة الإغماء. وتحدث بعضهم في هستيرية عما ينتظرهم من أهوال في منافي الصحراء. بل وأسرَّ أشدهم حكمة عن هروبهم خلسة في حالك الظلماء.

بينما الجميع في مجلس الحكم يتخبطون في أمورهم، خرج إليهم الحاكم الذي كان يتوارى وراء الستائر العظيمة، بعد أن رآهم قد استنفذوا كل الحلول العقيمة. صُعق الجميع ووقفوا إجلالا للزائر الكبير، فأمرهم بالجلوس في أماكنهم الفخيمة.

أخبر الحاكم أعضاء مجلس الحكم بمقدرته على التخفي، وأطنب في الحديث عن تسللاته. وأمر بأن ينصرف عدد منهم إلى حال سبيله، وأبقى فقط على زمرة الثقاة من وُلاَّته. وأخبرهم على أنه خارج في الغد للتعزية، بالرغم مما اصابت العواصف في البلاد من تعرية.

وتواطؤًا وحتى تبدو الأمور في طبيعتها، أسرَّ الحاكم لهم بخطة مجنونة. إذ أمرهم بإيقاد نيران عظيمة على نقط متقاربة في طريق رحلته الميمونة. وتبخير المياه في قدور كبيرة، وبذلك سيتشكل الضباب الذي سيطغى على كل شبر من البلاد، فلا ترى فخامته بؤس العباد.



#ياسين_لمقدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الياباني وعِلم العَروض:
- مستوطنة جبل ريش الحمام -4-:
- مستوطنة جبل ريش الحمام -2 -
- مستوطنة جبل ريش الحمام -1-:
- صهدُ حبٍّ من سراب
- السُّوعاجي *
- كلمات عابرة
- الشارع الرتيب
- 3 قصص قصيرة جدا
- زيفُ المساء
- من الذاكرة
- ثقافة -كافي كريم-
- كلمات(7)
- كلمات 6
- نتمنى أن تكون صحوة ضمير:
- كلمات (4)
- كلمات3
- مدن الضباب 3/3
- مدن الضباب 2
- لمن تُفرش السجاجيد الحُمر؟؟؟


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين لمقدم - قصة قصيرة ... مدن الضباب :