أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسان خالد شاتيلا - في اللاعنف، الإرهاب، المقاومة والعنف الثوري - حوار مع جورج لابيكا 















المزيد.....



في اللاعنف، الإرهاب، المقاومة والعنف الثوري - حوار مع جورج لابيكا 


حسان خالد شاتيلا

الحوار المتمدن-العدد: 5083 - 2016 / 2 / 23 - 23:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


                                              الــفــصــــل الـســـادس  ‏
‏            فـي الـلاعــنف، الإرهــاب، الـمــقـاومــة والعــنف الـثــوري - حوار مع جورج لابيكا    ‏
‏                                  حسان خالد شاتيلا
 
                       في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
 
 
 
‎              ‎‏      ‏‎              ‎‏  ‏‎             ‎‏                أولا - العــنف والـلاعــنف
‏ ‏
‏1/  يرى الفيلسوف الماركسي إتيين باليبار في كل من لينين وغاندى أكبر وجهين اثنين لنظرية ممارسة ‏الثورة في النصف ‏الأول من القرن العشرين. وكان كل من الاثنين أول من بدأ أثناء حياته نقاشا ما يزال ‏يتردَّد ‏حتى اليوم في عالم يجد فيه العنف لنفسه "حيزا بنيويا". والقاسم المشترك بين "هذين ‏النمطين" ‏أن كل منهما يدعو الجماهير إلى انتهاك الشرعية السياسية المجسَّدة بالدولة، لينين ‏عن طريق ‏‏"ديكتاتورية البروليتاريا"، وغاندي عبر "العصيان المدني"، في سياقين تاريخيين ‏غير متشابهين إلى ‏حد بعيد. ما رأيك بمثل هذه المقاربة؟ هل هي تشق الطريق أمام حل مسألة ‏العنف واللاعنف؟
‏***  إن الأول كالثاني يعجز عن الإفلات من الأجوبة المُحرِجَة التي تواجه ما ينادي به من فعل. ‏فالغاية ‏التي تبرِّر الواسطة تُقحم لينين من حيث العجز عن الالتفاف على العنف أو الحؤول ‏دونه. والمعادلة ‏المستحيلة ما بين الغاية والواسطة تَفشَل لدى غاندي في احتواء العنف. وفي ‏الحالتين، فإننا نبقى شبه ‏مُعدَمين من الأجوبة أمام الحركات الجماهيرية وما تتضمنه من ‏‏"مسالة سياسية معقَّدة".‏
‏2/   أنتَ ترى أن من أوجه التبسيط المفرط  أن نرجع بمشكلة العنف واللاعنف إلى لينين ‏وغاندي من ‏حيث أن كل منهما يُمثِّل نمطاً أو نموذجاً لهذا المذهب وذاك، وأن نقصر المسألة ‏على هذين الزوجين.‏
‏***  إن إشكالية العنف/اللاعنف هي الشغل الشاغل لعصرنا الراهن. ومن الأمثلة على ذلك ما ‏نشب من ‏جدل شديد في إيطاليا على إثر كراس تحت عنوان "الحرب والرعب" ‏La guerra è ‎orrore‏ (صدر ‏بتاريخ 13.12.2003)، بقلم أمين عام حزب "إعادة البناء ‏الشيوعي"(ريفوندازيونه) ‏Rifondazione‏ ‏فاوستو بيرتينوتي ‏Fausto Bertinoti ‎‏ حول ما مارسته المقاومة ضد الفاشية الإيطالية – حسب ‏الشكوك السائدة - من أعمال عنف ‏وتعذيب. وفي هذا الكراس، فإن بيرتينوتي يدين غضب الجماهير ‏المسعورة في انتقامها من ‏الفاشيين، كما يدين كل لجوء إلى العنف. إن أعداءنا – كما يكتب بيرتينوتي – ‏هما الحرب ‏والإرهاب كونهما نِتاج العولمة. "إن العنف بجميع أشكاله غير فعَّال لأن الحرب أو ‏الإرهاب ‏يعيدان امتصاص العنف الذي يُبْطِل السياسة ويلغيها (...) وليس من الصحيح أن الإرهاب ‏يتحدث ‏باسم الشعوب المُضطَهَدَة". والرد الوحيد هو "السلام من شعب السلام"، و"الخيار" ‏الوحيد هو ‏‏"اللاعنف". وفي حديث لبيرتينوتي إلى صحيفة الحزب الشيوعي الإيطالي (لونيتا) ‏L’Unita، بتاريخ ‏‏28.09.2004، تراه يؤكِّد "إن أعداء بوش ليسوا أَصدقاءنا". ويَذهب ‏مدير مجلة (ألتيرناتيف)‏‎ ‎Alternative‏ البروفيسور دومينيغو جيرفولينو ‏Domenico ‎Jervolino‏ في المنحى نفسه عندما ‏يؤكد في محاضرة له ألقاها في المؤتمر الرابع ‏ل"ماركس الراهن"، قائلا: "إن الجواب إذا ما اقتصر على ‏الرد الانتقامي الذي يأخذ بمقولة ‏العنف مقابل العنف، ليس برأينا جوابا فعالا (...) يجب قطع العنف من ‏جذوره بفضل ممارسة ‏أنشطة تنشر اللاعنف". ‏
وهذه الأطروحة لا تختلف كثيرا عن تلك التي ترفض الاستيلاء على السلطة من أجل بناء ‏مجتمع جديد، ‏حسب ما يذهب إليه جون هولويي‎  John Holloway ‎في كتابه‏‎ ‎‏"تغيير ‏العالم بدون الاستيلاء على ‏السلطة". ولا يختلف كثيرا عن هذه الأطروحة دانييل بنسعيد  ‏Daniel Bensaïd ‎‏ الذي يدعو في عمل ‏له بعنوان "نفاذ صبر بطىء السرعة" ‏Une lente ‎Impatience‏ إلى "عنف داجن" إذا ما تعذّر إلغاء ‏العنف من جذوره على المدى المنظور، ‏وذلك بفضل "تطوير ثقافة العنف المسيْطَر عليه".  وغير خاف ‏أن الغاندية ماثلة على أرضيةٍ ‏من هذه الأفكار.‏
إن أنصار اللاعنف اليوم يتَّفقون مع بيرتينوتيو ويدافعون مثله عن نظريتهم المعادية للعنف، من ‏حيث هي ‏نتيجة للَّوحة السوداء للعولمة  وما يرافقها من عنف وخراب، آخذين بعين الاعتبار ‏مجموعة من العوامل، ‏ومنها الطبيعة الطبقية للعولمة، وانعدام التعايش بين الرأسمالية ‏والديمقراطية أو التعايش غير الممكن ‏بينهما، والاشتراكية كبديل عن البربرية، ودور الولايات ‏المتحدة في حالة الحرب والسيطرة الإمبريالية، ‏وضرورة فتح آفاق ثورية. وكانت اللجنة ‏السياسية للحزب الشيوعي الإيطالي (روفوندازيوني) ألَّحت على ‏العلاقة ما بين العولمة ‏والحرب، مندِّدَة ب"أُصولية السوق والأصولية الدينية" على حد سواء، داعية ‏إلى تعبئة ‏معادية للإمبريالية‎ ‎‏‎(‎‏Liberazione,15.12.2001,p01‎‏‎.‎‏
  ونحن لا يسعنا، من جهة أخرى، إلا أن نقاسم هؤلاء مشاعر النقمة والغضب حيال تكاثر ‏الجرائم ‏الإمبريالية التي أصبحت منهجية، وحرب بوش "إلى ما لانهاية"، وسياسة العقوبات ‏والحظر والتطويق، ‏وغوانتانمو وأبو غريب. إن هذه الأعمال "الإرهابية" تثير كراهية ‏مشروعة. فعلى الصعيد التاريخي، ‏تؤكِّد السنوات الأولى من الألفية الثالثة إلى أي مدى تختلط ‏قمة الحضارة الإنسانية وانفجار حالات من ‏العنف لا مثيل لها في القرون الماضية. يضاف إلى ‏ذلك هذا الضمير المتألِّم للشيوعيين جراء ما ارتكبته ‏الحركة الشيوعية من تجاوزات باسم ‏‏"الغد الأفضل". إن النفور من العنف ليس سوى الدرس المُستقى ‏من تراكم هذه التجارب. ‏
هذا هو السبب الأول وراء معاداة العنف اليوم. أما السبب الثاني فإنه نظرية لا أكف عن ‏تردادها، وهي: ‏إن العنف ليس مفهوما واضح التعريف. فالعنف، من حيث هو اصطلاح أو حد، ‏يحيلنا إلى كثرة من ‏الأشكال، من أكثرها دموية، إلى أكثرها وداعة، من القنبلة إلى نظام ‏الانضباط في المصنع، من جريمة ‏قاتل مجنون إلى النظام والعلاقات الرأسمالية للإنتاج. والواقع ‏أن العنف لا وجود له إلا عبر وضع معيَّن. ‏ويتمخَّض عن ذلك بالنتيجة مقاربتين اثنتين للعنف.‏
المقاربة الأولى تذهب إلى القول إن معارضة العنف باللاعنف يقود إما إلى السباحة في عالم ‏الميتافيزيقا، ‏أو إلى إثبات الطهارة.. إما إلى إخفاء العجز، أو إلى الاستسلام للنظام القائم. ‏فالعنف لا يَستغني أبداً عن ‏الصفة المضافة إليه أيا كان هذا العنف. وتعريف العنف بأنه ‏‏"القوة" لا يعدو كونه إزاحة للمشكلة من ‏مكان إلى آخر مع الإبقاء عليها بعيدا عن التعريف. ‏وإن القواميس التي تُعَرِّف العنف تكتفي بتعداد حالاته ‏كلً منها حسب مجالها الخاص بها، ‏وتَسْتَبْعد منه بنيته ونظامه، وذلك عملا بالقول المأثور: إن الروح ‏الجميلة معدومة اليدين. ‏
وليس من المستغرب أن المثقفين في أمريكا اللاتينية، وهم يشاركون في أغلب الأحيان ‏شعوبهم عذابها، ‏لم يَسْتقبلوا كتاب هولواي "تغيير العالم بدون السيطرة على السلطة" ‏بحفاوة. إنهم يعرفون حق المعرفة ‏أن كل قيادة بما في ذلك السلطة، وبوجه خاص سلطة الدولة، ‏ليست موضعا لإدانتها بصورة مطلقة. ‏فهنود الشياباس  في المكسيك- على سبيل المثال -  ‏لم يخرجوا من ملاجئهم حيث كان الجيش المكسيكي ‏يحاصرهم فيها بصورة لا مثيل لها ما أن ‏تبدَّد حماس اليسار الغربي لقضيتهم. بل، وحتى أصحاب نظرية ‏اللاعنف أنفسهم  لا يفوتهم أن ‏يقيسوا حدود نظريتهم تاركين بعض المجال لتسرب العنف إليها. إن دافيد ‏تورو‎ David ‎Thoreau ‎‏ (1817- 1862‏‎ ‎الملقَّب ب"آدم الجديد" و"روبنسن المعاصر"، ‏صاحب ‏فكرة "العصيان المدني"، وهو ملهِم غاندي، قد ساند الفوضوي جون براون ‏‎ John ‎Brow‏ ‏على إثر مهاجمته لمعسكر باسم "حق الثورة". ولم يخش من تبرير الدماء إذا ما كانت ‏الأحداث ‏تمليها. وكان الكومت ليون تولستوي (1828- 1910) الذي تراسل مع غاندي، قد ‏شارك من حيث هو ‏ضابط في العمليات ضد متمرِّدي شاميل، ودافع عن سيباستوبول. ألم يمجِّد ‏في "الحرب والسلام" الحرب ‏الوطنية ضد نابليون؟ وكان المهاتما في الهند- حسب ما يلاحظ ‏إتيين باليبار- قد مني بالفشل رغم الانتشار ‏بصورة عظيمة لعقيدته التي تنادي ب"عناق ‏الحقيقة‎" ‎ساتياغراها‎ Satyagraha) ‎با"لامتناع عن إلحاق ‏الإذى"‏‎ ‎‏آشيما‏‎ AShima. ‎‏ بل، وإن المهاتما غاندي نفسه لم يَستبعد العنف وقد برَّره أحيانا. "إني ‏أُجازف – على حد قوله-  ‏ألف مرة بارتكاب العنف على تهجين عرق بكامله"‏‎ Hind Svarag, ‎‎040820) ‎‏. و"إذا لم ‏يبق من خيار – حسب ما هو يقول- سوى العنف أم الجبن، فإني أنصح حينئذ ‏بالعنف"‏‎ ‎‎(Young India, 190820)‎‏. ‏
إن منطق اللاعنف قاد زعيما مثل غاندي الذي لم يحدِّد لنفسه موقفا بين الطرفين المتنازعين ‏أثناء الحرب ‏العالمية الثانية إلى كتابة ما يلي: " لقد قَتَل هتلر خمسة ملايين يهودي. إلا أن ‏اليهود كان حري بهم أن ‏يَهِبُوا أنفسهم جماعات جماعات إلى سكين الجزَّار. وكان حري بهم أن ‏يلقوا بأنفسهم من تلقاء أنفسهم إلى ‏البحر من أعلى الصخور (...) كان من شأن ذلك أن ‏يستنهض العالم أجمع والشعب الألماني(...) والواقع ‏أنهم سقطوا بالملايين كيفما ‏اتفق"(‏Fisher L., Life of Mahatma‏  ‏‎ (Ghandi, 1951  trad. ‎Française ‎‎1951‎‏. إن عقيدة تولستوي على غرار عقيدة غاندي دينية. إنها الإيمان المسيحي ‏لدى ‏تولستوي، ومحبة الآخر والبشرية، وهي تُدين الشر والعنف الثوري والفن المعاصر ‏والجنس. ‏ووراء اللاعنف لدى غاندي عقائد هندية تقول بالتقمص وتحرِّم كل اعتداء على حياة ‏الآخر. ‏وبالرغم من أن موضوعة اللاعنف قديمة من حيث صلتها الوثيقة بالعالم الآخر، فإن لائحة ‏طويلة ‏من العنف تتراءى أمام ناظرينا في الكتاب المقدَّس، حيث يدعو موسى من منفاه إلى أخذ ‏السلاح، و"أن ‏يقتل كلٌ أخاه وقريبه". وهو الأمر الذي يحمل بول ريكور ‏Paul Ricoeur‏ ‏على التساؤل "ما إذا كان ‏صاحب اللاعنف ليس سوى رجل شديد الصفاء يعيش على هامش ‏التاريخ" (‏Histoire et véirté, ‎Paris, Seuil, 1955,p. 23‎‏).‏
والمقاربة الثانية تقول إن العنف ليس خياراً. فالدعاوى الكريمة والفاضلة التي تَنهى عن العنف ‏حسب ‏الموروث عن غاندي، سواء تلك التي جاءت عن "نداء الحائزين عن جائزة نوبل من أجل ‏ثقافة اللاعنف ‏لحماية الأطفال"، أو قرار منظمة الأمم المتحدة بشأن قرن لثقافة السلام ‏واللاعنف من أجل أطفال العالم، ‏أو "بيان 2000" الذي يدعو إلى تحويل ثقافة الحرب والعنف ‏إلى ثقافة اللاعنف والسلام"، إن هذه ‏الدعاوى عاجزة عن تجاوز عتبة النوايا الحميدة. إذ إن ‏المغلوبين والمُتَسَلّط عليهم ليسوا أبدا أمام خيار ‏العنف أم اللاعنف. فالعنف المُنَظَم والبنيوي ‏سواء أكان عسكريا أم سلميا يحكمهم ويسيطر عليهم. و"إن ‏الفقر هو أقصى حالات العنف" ‏حسب ما يقول لاهوتي التحرر غوستافو غوتييريز ميرينو ‏‎ Gustavo ‎Gutierez Merino ‎‏  ‏‎ ‎في حديث له لصحيفة لاناسيون دي بوينوس آيريز ‏La Nacion de ‎Buenos Aires, ‎‎110104‎‏.‏‎  ‎وكان أبونا سقراط يقول قبل ما يزيد عن عشرين قرن "إننا لسنا ‏شريرون ‏طواعيةً". ولا يشكوا معذبو الأرض من أي مرض نفساني، فمرضهم سلاسلهم ‏وسيتخلَّصون ‏منها، ومعها عبوديتهم. وفيما كان لينين يكتشف في العام 1917 الثورة عن طريق العنف، ‏كان ‏غاندي بأسلوب فريد من نوعه ولا يقارَن بغيره يكتشف الثورة بدون عنف. لكنه فرَّغ – حسب ‏ما ‏يلاحظ ر. حبشي‎ R. Habachi ‎‏اللاعنف من أي معنى، طالما هو لم يأت على ذكر ‏للثورة بكلمة واحدة.  ‏والمصيب في نهاية الأمر هو جون لوكاريه ‏John Le Carré ‎‏‎ ‎‏عندما يقول : "أنا لو كنت فلسطينيا ‏يسكن الضفة الغربية أو غزة لأطلقت الرصاص من ‏أسلحتي النارية عن قرب شديد على كل جنود الاحتلال ‏الإسرائيلي (...) إن العنف الممارس عن ‏سابق إصرار بحق مدنيين عزَّل من السلاح ليس مقبولا مهما ‏كان السبب. وإذا كنتم أنتم يا ‏جنود الاحتلال الإسرائيلي وأسيادكم الأمريكيين تمطرون القنابل المفخَّخة ‏المحظورة دوليا ‏وغيرها من الأسلحة النجسة على سكان عراقيين  بالمائة، منهم أطفال وهم بدون دفاع، ‏فإن ‏هذه الأعمال هذه تخبرني بأني على حق‎" (‎صداقة مطلقة ‏Une amitié ‎absolue, ‎Paris,Seui.2003,p 329‎‏"‏‎.‎
 
‏3/    أنت إذن في مقاربة أُولى للمسألة تعقد صلة وثيقة ما بين العنف وسياقه التاريخي وترفض ‏بالتالي ‏المساواة ما بين العنف الإمبريالي وعنف المضطّهَدين. فما هو سياق الإرهاب؟
‏***  لقد لحق بمصطلح الإرهاب شبهات تشبه تلك التي تزن بثقلها على العنف. ولا مفر هنا من ‏التسجيل ‏لحالة الكسر التي تفصل العنف عن الإرهاب.  إن بيرتونوتي لا يخالف الحقيقة عندما ‏يقول إن الموالي ‏لبوش والإسلامي وجهان لعملة واحدة، إلا أن هذه الملاحظة لا تبرِّر ما لحق ‏بكلمة الإرهاب من عار. إذ ‏كما أن التمييز بين العنف المُتَسَلِّط والعنف المتسَلَّط عليه يفرض ‏نفسه، فإن إرهاب الدولة ليس هو نفسه ‏الإرهاب المقاتِل والذي يُطلَق عليه تسمية إرهاب. ‏إن الانتفاضة الفلسطينية بجميع أشكالها هي، من حيث ‏الجوهر، رد انتقامي ضد الاحتلال، وهي ‏التي تسمح للشعب الفلسطيني أن يبقى واقفا على قدميه. وإن ‏المقاومة العراقية تضع ‏الإمبريالية في موقع الفشل. هذه هي المراكز المتقدِّمة للعنف الوحيد المشروع. ‏ولتقل الأخلاق ‏من بعد ذلك ما يحلو لها أن تقوله. ‏
والأمر لا يقف عند هذا الحد. إن نضال الجماهير في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط  يتطور ‏بموجب ‏دياليكتيك يتنقل ما بين العنف واللاعنف، مع تفضيل للاعنف من أجل توفير عدد  ‏الضحايا الأبرياء. وكان ‏كورنيي يقول: "إن العنف عادل حيث النعومة لا طائل منها" حسب ما ‏جاء في مؤلَّفه ‏هيراقليط ‏Héraclitus‏ . أي إن علاقات القوى هي التي تقرِّر طبيعة حالات ‏الصراع، سياسية أحيانا، ‏اقتصادية أو اجتماعية أحيانا أخرى، إن لم تكن عسكرية. وعَيْنا ‏الاستراتيجي موجَّهة دوما صوب ‏الظروف، أو كما يقول لينين: "التحليل الملموس للحالة ‏الملموسة".  وليس له أي خيار بين "العنف، ‏قانون البهيمة، واللاعنف قانون الإنسان" حسب ‏مفاهيم غاندي. ومن ذا الذي يختار البهيمة ويتخلى عن ‏الإنسان؟ إن الهدف من خيار ما هو نزع ‏أسلحة الجماهير. وثمة مسارات ثورية لم تلجأ أبدا للعنف ‏المفتوح، وهي لم تكن بحاجة إليه ‏أبدا. ونحن نرى أمام ناظرينا شعار الجماهير في الأرجنتين:" فليذهبوا ‏جميعهم" ‏Que se ‎vayan todos، حيث البيكيتيروس ‏Piqueteros‏ والطبقات الوسطي تختلط في ‏ما ‏بينها، والتي أصبحت مثالا يحتذى به لدى الثورة البوليفارية في فنزويلا التي رغم المؤامرات ‏والتلاعب ‏نجحت في تحويل الاقتراع العام إلى أداة للتحرر الشعبي. أي إن النزعة السلمية التي ‏كثيرا ما تلقى رواجا ‏لدى يسار ما، هي ليست كذلك بأنظار النظام المسيطِر الذي يحلم باستسلام ‏الكرة الأرضية له. وإن هذا ‏العنف الثوري بجميع أشكاله يقترح إلغاء هذا النظام المسيطر.‏
‏ ‏
ثانياً - العنف: تعريف العنف بالتمييز بين أنماط من العنف لكل        سياقه:‏ الظروف والبنى هي التي تميِّز بين المقاومة والإرهاب  والعنف الثوري
 
‏1/  ثمة علاقة وثيقة ما بين العنف السائد في عالمنا اليوم على الصعد كلها، والعولمة. ‏
‏***  إن الرأسمالية، وقد بَلَغَت مرحلة العولمة تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، قد جعلت ‏من ‏العالم حقلا من الدمار. وإن الوقت الذي كنا نستطيع فيه أن نُمَيِّز بعض الملامح الإيجابية ‏في هذه ‏العولمة الرأسمالية قد ولَّى. إذ إن مسارات التدمير لم تعد لتوفِّر أي مجال، من مفهوم ‏البضاعة الذي يعمَّم ‏على كل الأنشطة الإنسانية، إلى الخدمات وبوجه خاص العامة منها التي ‏أصبحت نهبا لمصالح القطاع ‏الخاص، إلى الأنظمة السياسية التي تسمِّي نفسها ديمقراطية، ‏وهي نفسها التي تفرِّغ الديمقراطية من ‏مضمونها وتنهب من المواطنين حقوقهم. إن تعميم ‏مفهوم البضاعة على كل أنشطة الإنسان، غريب عن ‏الحاجات الحقيقية للإنسان وفائضة عنها. ‏وما هذه البضاعة المعولمة سوى رؤوس أموال تَغلَّبت فيها ‏المضاربة والأوهام المختَلَقَة.. ‏تَغَلَّبَت على الإنتاج نفسه بعدما حلَّت المضاربة وأوهامها محل الحاجات.‏
لقد أصبحت أوضاع النساء والرجال أصعب مما كانت عليه في الماضي، طالما أن الاستغلال ‏والأحكام ‏التعسفية بأشكالها كلها هي التي تسود اليوم. وإن البحث بدون أي رادع عن الربح ‏يُفَرِّغ العمل من أية ‏قيمة له ويتركه نهبا للصدف.  فالأفراد، ومعهم أمم كثرٌ، أصبحوا تحت تأثير ‏الاعتداءات العسكرية ‏للإمبريالية كميات زائدة عن اللزوم. هذا هو حال العاطلين عن العمل، ‏والمهاجرين، والشعب الفلسطيني. ‏إن البؤس والفقر بعدما جاء وقت الجوع   ما انفك يتَّسع على  الصعيد  العالمي،  بما  في ذلك في البلدان ‏التي يسمُّونها "متطورة". ‏
ومع ذلك، فإن الأمل بالمقابل ما انفك يتعاظم. إنه محمول على حالات من الغضب والصراع ‏والانتفاضات ‏التي تنفجر في كل أنحاء العالم، في الشمال كما في الجنوب، في الشرق والغرب، ‏لدى الأمم موفورة الحال ‏كما الأمم المحرومة. ففي كل مكان ثمة وعي بما تمارسه الليبرالية ‏الاقتصادية والحربية من إيذاء، وذلك ‏فيما يزداد العداء حيال الولايات المتحدة الأمريكية. وحيث ‏يوجد شبان اليوم، يوجد ملح الأرض، وهم ‏الأمل. إن أيدلوجية مكافحة الإرهاب لا تستطيع أن ‏تخفي حقيقتها بوصفها أيديولوجية السيطرة. ويَعرِف ‏الشبان اليوم أن ثورة 1968 في فرنسا قد حافظت ‏على كل عنفوانها وشعارها: "الحل واحدٌ، إنه ‏الثورة". ‏
‏2/  ما هو العنف؟ كيف تُعَرِّفُه؟ ‏
‏***  أود بداية أن ألاحظ عددا من المفارقات التي تملَّكَت علي أفكاري، وهي:‏
‏آ- إن للعنف امتدادات لا متناهية ولكنه يفتقد لأي تعريف.‏
‏ب- العنف ليس واقعة طبيعية، وإنما هو واقعة ثقافية.‏
‏ج- إن العنف باق ومستمر رغم كل المتغيِّرات.‏
‏د- إن الإجماع على إدانة العنف لم تقلِّص منه. ‏
‏ه- إن التشخيص النقدي للعولمة هو نفسه تشخيص للعنف.‏
‏ ولا بد لنا عندما نتحدَّث عن العنف أن ننطلق من معاينة ما هو بديهي. إن العنف والأصح ‏حالات أو أشكال ‏العنف لم تكتسب حيزا من الأهمية مثل تلك التي تحوز عليها اليوم. ويبدو ‏العنف اليوم - وأعود لأقول إن ‏الصحيح هو حالات وأشكال العنف - هو الشاغل الرئيس ‏للإنسانية. وهو يعاش اليوم وكأنه قدر لا بد منه، ‏ويقود إلى الاستسلام للنظام السائد، إن لم ‏يكن، وفي الوقت نفسه، إلى حالة من البصبصة ‏الجماهيرية. ‏‎ ‎والعنف من حيث هو عنف، أو ‏‎ ‎من ‏‎ ‎حيث ‏‎ ‎هو ‏‎ ‎مفهوم ‏‎ ‎عام، ‏‎ ‎يشمل ‏‎ ‎حالات ‏‎ ‎متعدِّدَة، لم ‏‎ ‎‎ ‎يصبح‎  ‎موضوعا أو‎ ‎قضية إلا قبل عقود ‏قليلة، على نحو ما كانت تلاحظه أيضا حنا أريندتHanna ‎Arenedt‏. ‏
لكن ما هو العنف من حيث هو عنف؟ بالرغم من حضوره الدائم في كل مكان وزمان في الوقت ‏الراهن، ‏فإنه يفتقد للتعريف. إنه متَّسع بصورة خطيرة حتى أنه يتحدَّى كل حصر أو إحصاء. من ‏اللاإجتماعي ‏وغير المدني، إلى المجازر والمذابح وحمامات الدم، ومن الشتائم الغليظة إلى ‏الإرهاب، ومن الجريمة ‏العاطفية إلى التعذيب، ومن الاعتداء الجنسي على الأطفال إلى الثورة، ‏ناهيكم ما يسمُّونه "العنف ‏الناعم"، إلخ..إلخ. إن العنف يفتقد إلى التعريف افتقاد الحالات ‏المتعدِّدة للعنف بجميع أشكاله وألوانه إلى ‏قاسم مشترك واحد يجمع بينها. والنتيجة التي ‏يَخْلُص إليها الفيلسوف قاسية. ذلك أن العنف متَّسِع إلى حد ‏شبه لانهائي، فيما استيعاب الفهم ‏له شبه معدوم. وكان أفلاطون يقول إن الشعرة يقابلها فكرة، وكان ‏ماركس  يقول  إن  ‏للفاكهة  مفهوم. أما العنف فإنه غير حائز على مثل هذا الحظ.‏
ويَتبَع مثل هذه المعاينة عدد من النتائج.‏
أول هذه النتائج يتساءل عما تعنيه معالجة العنف إذا كانت كل أشكاله محشوة في كيس واحدة؟ ‏وهل ‏نعرِّف العنف المتِّسِع اليوم بالرجوع إلى تعبيراته، ومجالاته، وأنظمته، وأساطيره، ‏ودياناته، وفلسفاته، ‏وتشريعاته القانونية، وتعبيراته الأدبية والفنية والسينمائية، والتي تحاول ‏كلها استنتاج معنى للعنف ‏بترجيح أحد أشكال العنف على الآخر، وبوجه خاص ما كان منها ‏مكشوفا أو إجراميا بوصفه مرئي ‏ومكشوف أكثر من غيره؟ إن من الصعوبة بمكان أن نمنح ‏العنف، أو هذا الشكل وتلك الحالة منه، تعريفا ‏شموليا. ويبدو وكأن موضوع العنف مفقود أو لم ‏يُعثَر عليه. ‏
والنتيجة الثانية هي أن المزاعم التي تَحْكُمُ أنها تملك تعريفا شموليا عاما للعنف، ولكل عنف، ‏تراها تأمر ‏برفض العنف باسم مسلَّمة بديهية تقول إن كل عنف هو بصورة جوهرية مدان، ‏سواء أكان الأمر يتعلق ‏بالطفل الذي يشتم معلمته في المدرسة، أو سارق التفاح، أو الانتحاري ‏الفلسطيني. ‏
‏ والنتيجة الثالثة وليدة العولمة: إن الحيز المركزي للإرهاب في عهد العولمة، من حيث هو – ‏حسب ‏العولمة - تهديد متطرف يخلو من أي تمييز بين حالاته، ومن حيث هو يُوَجِّه ضرباته  في ‏كل مكان، يبدو ‏وكأنه يمحو كل تمييز قديم بين عنف مشروع وآخر غير مشروع، بين حرب ‏عادلة وأخرى ظالمة، ‏ويشوَّهَ مفهوم المقاومة. وبهذا المعنى، فقد وَحَّد سقوط جدار برلين ‏الأُسَرة الدولية كلها حول تنديدها ‏بالعنف. حتى في حالة الاعتراف بشرعية عمل سياسي عنيف، ‏فإنهم لا يتوانون، تحت تأثير هذا المفهوم ‏للعنف في عهد العولمة، عن استنكار أثاره ودروبه، ‏وذلك على غرار بعض المسؤولين الشيوعيين الذين ‏قبل أن يحتجوا على النظام القائم، فإنهم ‏يسارعون إلى التأكيد بأنهم لا يعتزمون الاستيلاء على "قصر ‏الصيف"، علما أن ‏الاستيلاء عليه لم تُرافَقه أية أعمال عنف. وبموجب هذا المفهوم، فإن الحيلولة دون ‏وقوع ‏صدامات بين طرفين متنازعين يحمل الدبلوماسية - على سبيل المثال - على رفض التمييز ‏باسم ‏السلام بين الطرفين المتنازعين، وهي على هذا النحو تَحكم على الضحايا والجلادين بالمصير ‏نفسه. ‏أو إنهم يمنحون جائزة نوبل للسلام مناصفة بين دوكليرك ومانديلا، بيريز وعرفات. وإلى ‏ذلك، فإن كل ‏أنماط العنف بدون أي تمييز محرَّمة، كل أنماط العنف لأسباب شخصية بدون أي ‏تمييز، وجميع أنماط ‏العنف السياسي في كل واحد بدون تمييز. وإلى ذلك مرة ثانية، فإن ‏الحدود ما بين العنف الفردي والعنف ‏العام أو السياسي، تضيع عن أنظارنا بالرغم من أنها ‏أمامنا طالما يُحكم على هذين النمطين من العنف ‏بالحظر والتحريم. ‏
والدرس المُستَنتَج، الرابع والأخير، يقول إن العنف أصبح أكثر من أي وقت مضى اختصاصاً ‏تنفرد به ‏الدولة وحدها، كل حالات وأنماط العنف، بموجب المزاعم التي تدعي بأن التمييز بين ‏كل هذه الحالات من ‏العنف منعدم، وبأن الدولة تملك تعريفا واحدا له. إن الدولة هي التي تكتب ‏القانون، بما في ذلك ما كان ‏يتعلق بالإرهاب الذي يتبخر تارة، أو يصبح تارة أخرى منعدم ‏التعريف، وذلك حسب الحالات والأفراد ذي ‏الصلة. ‏
 
‏3/  هل العنف  واحد ويَتبَع لنظام واحد، سياسي، ديني، ثقافي؟
‏***  مما لا شك فيه أن الإنسان في المطلق يرفض العنف، وأن المثال الأعلى الفلسفي ينادي ‏باللاعنف، ‏حسب ما يُلاحظ مع عودة النظريات الكلاسيكية. حتى أن أصحاب النوايا الحميدة في ‏أيامنا هذه يؤكِّدون أن ‏الخيار – كما قلنا قبل قليل - هو الخيار بين غاندي داعية اللاعنف، وبين ‏لينين المُنَظِّر للعنف، أو حتى بين ‏غاندي وبين ابن لادن، وكأننا نستطيع أن نوازن بالمطلق وفي ‏جميع الحالات بين العداء الدائم وضده، ‏وكأننا في حالٍ واحدة من الديمومة. وكأننا نستطيع أن ‏نعرف متى نعادي إلى ما لانهاية ومتى نسالم دوما ‏وأبداً، ما بين العنف كخيار مطلق دائم، وبين ‏اللاعنف خارج كل سياق وزمان؛ هذا، إذا كان لدينا الخيار ‏بين الأمرين. ‏
إننا نتساءل عما يختفي من معاني وراء هذا الضباب الذي يحيط بأشكال وأنماط العنف؟ ثمة ‏مُمَيِّزين اثنين. ‏الأول يقول إن العنف نِتاج سياق وظروف. والثاني يقول إن العنف والألم ‏مترابطان بصورة وثيقة. إن ‏وضعا ما عنيفا هو وضع مؤلم. ويلحق بهذه المُمَيِّزين أن العنف ‏معادلة تجمع بين العنف/ الألم / العنف ‏المضاد. وهذه المعادلة موجودة بصورة عامة في كل ‏الحالات التي يُنظر إليها من حيث هي حالات عنيفة. ‏
‏ ويستند العنف إذا ما نُظر إليه خارج سياقه والظروف المحيطة به إلى نظريتين. الأولى تدافع ‏عن ‏العنف "الأصيل"، وهي ترفض التمييز بين حالاته وتخلط بين كل حالات العنف من حيث ‏هي أصيلة في ‏الإنسان منذ أيام قابيل وهابيل. وذلك على غرار ما نراه مع المبدأ الأساسي ‏القائل: "إن الإنسان ذئب ‏لأخيه الإنسان". ثم عَرِفَ هذا المبدأ عبر "العقد الاجتماعي" ‏لروسو، و"الملكية" لدى برودون، تحوُّلا ‏بفضل نشأة الدولة التي توسَّطت ما بين هذين ‏المبدأين. الدولة من حيث هي ضرورية لتوفير الانسجام ‏داخل المجتمع، ومن أجل الحضارة. ‏ويذهب علماء النفس في منحى مماثل عندما يؤكد بعضهم أن العنف ‏ملازم للطبيعة ‏البشرية، وإن كان تعريف الطبيعة البشرية من الصعوبة بمكان. ويذهب آخرون إلى القول ‏بأن ‏للعنف جنية موروثة لدى الإنسان، حتى أن بعض رجال السياسة المعنيين بالقمع أكثر من ‏عنايتهم ‏بالعلوم، ومنهم نيكولا ساركوزي، يعتقدون أن للعنف جنية، وهم يريدون تشخيص هذه ‏الجنية لدى ‏الجانحين المراهقين.‏
والنظرية الثانية تقول بالعنف النسبي. فالقضاء يَعترف بصورة مبتذلة بنسبية العنف عندما ‏يأخذ في ‏أحكامه القضائية بعين الاعتبار بما يسمِّيه "الأسباب المخفِّفَة". فهو ينظر إلى الجنحة ‏نظرة نسبية، ‏فيُخَفِّف العقوبة إلى حد إلغائها، وبوجه خاص في حالات "الجريمة العاطفية". ‏والواقع إن كل حالات ‏العنف تستحق مثل هذه المعاينة، باستثناء الجنون وحالات الحرب التي ‏تجعل من القتل بطولة شجاعة في ‏أوج مجدها. ‏
وما هو نسبي في ما يتعلق بالعنف لا ينحصر بنظام المكان أو المجتمع، وإنما يتعداه إلى الزمان ‏على نحو ‏ما يبيِّنه ميشيل فوكو بصورة جلية للغاية في عمله "المراقبة والعقاب"، حيث ‏بوضِّح إلى أي حد تُنتِج ‏العدالة نقيضها أو الظلم، ومنها ظلم السجن، وهو عقاب ل"طبقة ‏البرابرة" أو "لانعدام أي شرعية ‏عمالية وفلاحية"، واللتين إذا ما هما تضافرتا فإنهما ‏يستعدان لمواجهة في آن واحد "القانون والطبقة ‏التي فَرَضَت ظلم السجن". ‏
وُقَدِّم لنا هيجل هنا قاعدة: "إن الضرورة الراهنة هي وحدها التي تستطيع أن تبرِّر عملا منافيا ‏للقانون، ‏ذلك أن الامتناع عن ممارسة هذا العمل المنافي للقانون سيكون بمثابة ارتكاب ظلم ‏أعظم، وهو النفي ‏الكامل للوجود التجريبي للحرية"(هيجل، مبادئ فلسفة القانون).‏
إننا على هذا النحو إذن نفنِّد إدراج كل حالات العنف في "نظام"، سواء أكان نظام الآلهة، أو ‏نمط ‏الوجود، أو العلاقات السياسية، أو النظام السياسي. ‏
 
‏                                               ثالثا - نمطــان مــن العــنف
‏1/   العنف إذن حالات وأنماط متعدِّدة.‏
‏***  للعنف خاصية اشتقاقية وثانوية كما بيَّن ذلك ماركس بقوة وجلاء في موضعين اثنين:‏
آ/   في الفصلين 24 و25 اللذين يَختَتِمان الكتاب الأول من "رأس المال"، حيث يظهر أمامنا ‏عمل هو ‏أقرب ما يكون إلى "مطوَّل في العنف". إن ماركس في اللوحة التي يرسمها انطلاقا ‏من تجربة بريطانيا ‏من حيث هي أول بلد بدأ الانتقال من نمط للإنتاج إلى آخر، يستعير مفردات ‏كثيرة للغاية: الانقياد، ‏الجريمة، النهب، الحريق، السرقة، الخيانة، الفساد العمل ‏الشائن أو العار، كي يبيِّن أن العنف هو معلِّم ‏الصنعة في التراكم الرأسمالي، وعنه ينشأ الصِدام ‏المستديم بين العمال المأجورين، "الأحرار"، وبين ‏‏"الذئاب المضاربين في البورصة"، أو ‏أصحاب "الفائض". ويَكتُب ماركس: "لقد كُتِبَ هذا التملُّك في ‏حوليات الإنسانية بحروف من ‏دم ونار".  وفي هذه الأثناء، فإن هذا العنف ليس أصيلا وإن كانت مظاهره ‏تدل على ذلك. وليس ‏للعنف أيضا دورا مؤسِّسا. فالتاريخ هو الحيِّز لظهوره وممارسته. والعنف ينتمي ‏إلى الظروف ‏والسياق. ففي الإنتاج الرأسمالي الذي يميِّز التراكم البدائي، يحوز العنف على ‏مظهرين ‏ووظيفتين. إن التعبير الدموي للعنف، حسب ما يتكشَّف بصورة واضحة عبر ‏العدوان ‏الاستعماري يمارس الدور الجزئي والمؤقَّت لوحشية الغازي، في ما يبدو الشكل ‏‏"المركَّز ‏والمنظَّم" للعنف، وهو الدولة، مستديما، طالما هي مكلَّفة بضمان حفظ النظام الذي كانت ‏الطبقة ‏السائدة شيَّدَته. وعندما يقال إن العنف هو الذي "أَنجب كل مجتمع في حالة العمل"، ‏فإنه يوصف في ‏الوقت نفسه بأنه "مقدرة اقتصادية". إن الملكية الخاصة والفقر زوجان: إن ‏التملُّك بوصفه نِتاج لنزع ‏الملكية أو للتملُّك بالقوة يَمنح نفسه شرعية قضائية تنظِّم بدورها ‏إجراءات العمل في إطار الاستغلال، ‏وذلك من حيث هي تضع هذه الإجراءات،  هذه الشرعية، العمَّال ‏في حالة منافسة في ما بينهم بفضل ‏تأسيس "جيش احتياطي" أو اكتظاظ سكاني هو بمثابة ‏أناس زائدين عن اللزوم على حد قول ماركس. ‏والعنف ماثل في كل مرحلة من هذه السيرورة.‏
‏ب/   نظرية العنف لدى إنجلز (الفصل الثاني والثالث والرابع من القسم الثاني) لمؤلَّفه "انتي -‏‏ ‏دوهرينغ"، هي المرجع الثاني. فقد كان السيد أوجين دوهرينغ في السبعينات من القرن التاسع ‏عشر في ‏ألمانيا بمثابة بابا الفاتيكان بالنسبة للاشتراكية الميتافيزيقية، والذي كان يرى في ما ‏يسمِّيه "العنف ‏المباشَر" "قوة اقتصادية مباشَرة"، و"عنصراً تاريخياً مؤسِّساً". وكان إنجلز ‏يرجع إلى مثال الرق في ‏الإمبراطورية اليونانية من أجل تبيان أن العامل المحدِّد الأول للعنف هو ‏الظروف الاقتصادية في اليونان، ‏والمهن اليدوية والتجارة في الولايات المتحدة الأمريكية في ‏عهدها الفتي، وصناعة القطن في بريطانيا. ‏
وكان إنجلز يلاحظ أن الثروة التي تتيح تملُّك الرق قد تأتي، حسب الحالات والاحتمالات، من ‏العمل، ‏والسرقة، والتجارة، والنَصْب، أي إنها ليست نِتاج العنف دوما. وكان يؤكِّد أن الملكية ‏الخاصة ليست  ‏وليدة السرقة والعنف.  ذلك أن تدمير الاقتصاد المنزلي متأتٍ من المنافسة التي ‏تُمارس من قِبَل الصناعة ‏الكبرى. إذ إن الإنتاج الاقتصادي هو الذي يمد بالأسلحة الضرورية ‏للجوء إلى العنف الذي "يَعجز عن ‏كسب المال"، ولا يستطيع أن ينشل ما هو موجود. وكان ‏إنجلز يختتم بقوله: "باختصار، إن الشروط ‏والوسائل المتوفِّرة للقوة الاقتصادية هي التي ‏تساعد في كل مكان ودوما العنف على إحراز النصر الذي ‏لولا القوة الاقتصادية لما كان مرادفا ‏للعنف". إن "العنف مجنَّد بالقوة في خدمة الوضع الاقتصادي". إن ‏العنف بأنظار ماركس ‏وإنجلز لا يمارس دور العامل المقرِّر، وذلك على نقيض ما كان يذهب إليه برودون ‏وبلانكي ‏وباكونين والفوضويين. إن العامل الاقتصادي من حيث هو العامل المقرِّر هو الذي يشد  ‏خيوط ‏العنف. ‏
نحن هنا أمام نمطين من العنف يظهران، من جهة، عبر الجمع بين الإنتاج الاقتصادي وقوة ‏الدولة ‏‏(السلاح على سبيل المثال)، ومن جهة ثانية، في الحرب (استخدام السلاح). إلا أن إنجلز ‏يقصر العنف ‏على العنف الدامي ، وهو بذلك يُقْدِم على تنازل أمام الوعي الشائع. إنه يميِّز من ‏جهة بين العنف الدامي/ ‏المرئي، والعنف الأخرس / الضمني. ويميِّز من جهة ثانية بين العنف ‏‏"الموظَّف" الذي يساعد على ‏الحفاظ على الشروط الاقتصادية، والعنف "المُعَلِّم" الذي يعمل ‏في خدمة التطوير الاقتصادي ويزيد بالتالي ‏من سرعته. ‏
فلنتساءل إذن من أين يأتي نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن أين تأتي الملكية؟ أليست الملكية ‏سرقة، وهي ‏نفسها "المولِّدة" التي يتحدث عنها "البيان الشيوعي" عندما يوصي الشيوعيين ‏في صفحاته الأخيرة ‏بقلب النظام المجتمعي السابق برمته انقلابا عنيفا، أم أن الملكية أداة ‏لتصحيح الاقتصاد؟ وهل التغيير ‏المجتمعي، وبالأحرى الثورات، وليدةٌ لحالة اقتصادية بلغت ‏مرحلة من النضج تفرض على الحالة ‏الاقتصادية تحوُّلها. وفي مثل هذه الحالة، فإن العنف ‏المرئي ليس أكثر من فعل لتيسير النجاح في اللحظة ‏الأخيرة، بحيث ينقلب الكل‎ ‎رأسا على عقب، ‏أم أن المتغيِّرات المجتمعية متأتية بصورة كاملة عن عنف ‏جذري؟ إن ما أحرزته الاشتراكية ‏الديمقراطية في ألمانيا من نجاح في الانتخابات التشريعية حَمَلَت أنجلز ‏في نهاية حياته على ‏الحديث عن إمكانية الانتقال السلمي. وهو الأمر الذي يؤكِّد بالتالي على الوظيفة ‏الاشتقاقية ‏التابعة التي تَعزا للعنف.  وفي أيامنا هذه، فإن مثال فنزويلا و "الثورة البوليفارية" فيها ‏، ‏يبدو وكأنه نموذج تحتذي به أمم أمريكا اللاتينية، ويوضِّح  كما يزعم بعضهم أن ديكتاتورية ‏البروليتاريا ‏ليست ضرورية، وإنها على نقيض من مرحلة الرعب في الثورة الفرنسية تستغني ‏عن الدعوة إلى العنف. ‏فهل يقودنا هذا كله إلى القول إن أنجلز انتهى  به  الأمر  إلى  ‏التخفيف  من  أهمية  الدور  المُؤَسِّس ‏للعنف  الثوري؟
نعم، وذلك لسببين اثنين. الأول يعود إلى الثقة التي مُنِحَت للخاصيَّات التقدمية للتطور ‏الاقتصادي، والتي ‏ثُبِّتَت منذ "البيان الشيوعي" الذي يشير إلى البرجوازية التي قلبت بصورة ‏ثورية العلاقات الإقطاعية. ‏وكان ماركس في وقت متأخِّر من عمله أقرَّ بأن اقتطاع الولايات ‏المتحدة الأمريكية لأراض من المكسيك ‏يسير في منحى الخاصيات التقدُّمية للتطور الاقتصادي، ‏وأن مرحلة أعلى من التطور تبرِّر الغزو ‏الاستعماري. والسبب الثاني يُعزا إلى الخوف المبرَّر ‏من أن تدفع البروليتاريا، هي، من جراء ضعفها أمام ‏الترسانة الحربية للدولة والبورجوازية، وأكثر من البورجوازية، الثمن الباهظ للعنف. ومن ذا ‏الذي ‏يعترض في نهاية المطاف على الانتخابات العامة إذا كانت صناديق الاقتراع تستطيع أن تحل ‏محل ‏حواجز القتال في الشوارع؟ ‏
وفي جميع الأحول، فإن المفكِّرين المتنورين شغفون بالتقدُّم، وقد منحوا العامل الاقتصادي قيمة ‏مبالغ ‏فيها.
 
‏                     رابعاً: - لــينين: التفاحة الرأســمالية الناضــجة ‏
‏                                لـن تســقط من تلــقاء نفســها

‏1/   هل يذوب السكر تلقائيا؟ أو هل من ثورة بدون عنف؟
‏***  لقد بلغ بنا الحديث عن العنف إلى السؤال التالي، وهو يلخِّص كل ما سبق: ألا تحمل ‏علاقات ‏الإنتاج، وبوجه خاص الرأسمالية منها، العنف معها؟ لقد اشتقَّت الحركة العمالية ما ‏بعد ماركس وإنجلز ‏درسين اثنين متناقضين ومتسابقين، أحد هما يبرّرِ نفسه بنمط العنف ‏المرئي، والثاني بنمط العنف ‏الأخرس المخفي، وإن كان التداخل ما بين هذين النمطين ليس ‏موضعا للشك في الجوابين على حد سواء. ‏الجواب الأول مضى بالعنف المفتوح والمرئي إلى ‏حد التقديس، حسب ما نراه لدى القائد العمالي سوريل ‏الذي جعل من الإضراب فعلا ‏حربيا، أو لدى فرانس فانون قارئ إنجلز في مسعاه نحو التخلُّص من  ‏فظاعة ‏الاستعمار، أو لدى ماو تسي تونغ الذي دعا إلى حمل السلاح ضد حكم البندقية. وبالمقابل، ‏فإن ‏النزعة الاقتصادية الغالبة منذ كاوتسكي في حركة الاشتراكية الدولية، وهي بمثابة أرضية ‏للجواب من ‏النمط الثاني، تعبِّر عن الرفض البليد لكل عنف. ثم جاء انهيار البلدان الاشتراكية ‏ليعزِّز النزعة الاقتصادية. ‏أما لينين فإن موقفه متميِّز عن كل ما سواه في ما يتعلق بالعنف ‏والثورة. ‏
إن لينين يرفض على حد سواء إغراءات العقلية المغامرة التي تريد أن تدفع بالحركة الثورية ‏إلى الأمام ‏بالقوة أو بالرغم منها، والقَدَرِية التي تنتظر ذوبان السكر من تلقاء نفسه. إن ‏السيرورة الثورية تتوقف ‏على علاقات القوى السياسية بين "أهل الأسفل" وبين "أهل ‏الأعلى". فالتاريخ لم يُسَجِّل أبدا ثورة ‏سقطت كالفاكهة ما إن توفَّرَت الشروط الموضوعية ‏‏(الأوضاع والحالات) والذاتية (الوعي) لإنجازها. ولا ‏يقل عن ذلك ثقل السيطرة غير القابل ‏للتحمُّل، والذي لم يَنجَح أبدا بالرغم من وزنه إثارة انتفاضةٍ ‏للمضطَهَدين بصورة آلية. فإذا لم ‏يرافق الشعور بالظلم إرادة أو رغبة بالعصيان، وما يحتاج إليه العصيان ‏من أدوات للتعبير عن ‏نفسه، فإن الشعور بالظلم يبقى عاجزا عن الخروج من حالة الخضوع والتبعية؛ ‏سواء أكان ‏الشعور بالظلم مسكوتا عليه عن إكراه أم مصدرا للعذاب. وفي مثل هذه الحالة، فإن العلاقة ‏ما ‏بين العنف/العذاب لن تنجح في تخطي نفسها بالعنف المضاد الذي يقضي على العذاب. ‏
أنا أخلص إلى نتيجة مؤداها أن أصل العنف أو الدافع إليه، وهذا الدافع غير أصيل وليس واحدا ‏وأحاديا، ‏يستدعي العودة بالعنف، كل عنف، إلى الوضع الذي يُنتِجه، ويحيلنا بالضرورة إلى ‏نظام من الأحداث ‏والوقائع والشروط هي سياق يأخذ فيه العنف شكلا. هذا السياق هو اليوم نمط ‏الإنتاج الرأسمالي الذي ‏وصل إلى مرحلة العولمة. ويحمل هذا النظام عددا من السمات قوية ‏الظهور وذات الخصوصية. منها أن ‏العنف "الدامي‎ ‎‏"يتبع "العنف الأخرس". إذ إن المعادلة ‏عنف/إخضاع/ عنف تَبْلُغ تحت تأثير نمط الإنتاج ‏الرأسمالي أكثر حالاتها وضوحا عبر تجلِّياتها ‏، وهي: ‏
آ/  على الصعيد الاقتصادي، فإن الاستغلال وقد أصبح عالميا لا يوفر جهدا كي يحتوي في ‏شبكة واحدة ‏سائر الأمم. إن التحالف الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية شيَّد حكومة ‏عالمية جعلت من منظمة ‏الأمم المتحدة مجرد شريط للنقل كان مرصوداً لنشر أيديولوجية ‏العلاقات الدولية. ثم فَقَدَت هذه ‏الأيديولوجية مع العولمة كل مصداقية لها، سواء أكانت الدفاع ‏عن حقوق الإنسان أم السلام، أم ‏المؤسسات التي تمخَّضت عن الحرب العالمية الثانية، ‏واتفاقيات بريتون وودز ‏Bretton Woods‏ والتي ‏تُسمَّى: البنك الدولي، وصندوق النقد ‏الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة. إن البورصة هي الروح التي ‏تفرض تحويل كل شيء إلى ‏بضاعة ومال. وهي، لما كانت لا تعرف زمانا غير اللحظة الحالية، فإنها تَرمي ‏بكل العمليات إلى ‏الفوضى، وتَحكم على كل مشروع أيا كانت طبيعته بأن يبقى مجهول المصير. ومن هنا ‏خرجت ‏علينا نظرية "نهاية التاريخ"، و"نهاية الإيديولوجية" و"المعاصرة"، ومعها نهاية.. المشمش. ‏
ب/  على صعيد المجتمع والممارسة، فإن الإرادة الإمبريالية وهي في خدمة الأقلِّيات السياسية ‏تبرهن كل ‏يوم عن ممارسات تسير في الاتجاهين. فمن جهة العنف العادي، "المستمر" كما ‏يقول ماركس، ومن ‏جهة ثانية العنف "الأخرس" و "السلمي" في جميع أشكاله، العنف ‏الاقتصادي وعنف الدولة- كما قلنا ‏قبل قليل. وفي الاتجاه الأول يلجأ العنف "الثرثار" أو ‏‏"الدامي" إلى الحرب التي أصبحت بدورها دائمة. ‏ذلك أن العولمة قلبت رأسا على عقب ‏الصيغة ذائعة الصيت لكلاوسفيتس ‏Clausewitz‏ ، إذ هي وَضَعَت ‏السياسة كاستمرار ‏للحرب بعدما كانت الحرب استمرارا للسياسة. والأهداف قيد الإنجاز في أحداث الساعة ‏اليوم لا ‏تَخْفى على أحد.  إنها السيطرة على ثروات ومصادر الطاقة بما في ذلك طرق مرورها، ‏والحيلولة ‏دون أن يُنجِز أي بلد تطوره بصورة مستقلة ذاتيا، أو حتى أن يزعم ذلك. لذا، فإني ‏أقول إن العنف انتقل ‏من الصالات الخلفية للمقهى إلى مجالس الإدارة، إلى قيادات الأركان ‏ومكاتب الوزارات. إن صندوق النقد ‏الدولي برئاسة اشتراكي فرنسي ليس شيئا آخر سوى ‏جمعية للحرامية تعتدي على ملايين الضحايا. ‏
ج/  العنف الجماعي ليس هو النمط الوحيد للعنف، ذلك أن العنف المعولَم يحتوي أيضا العنف ‏الفردي. ‏فالسياسات الليبرالية وما فوق الليبرالية تعتدي على الهيئة المجتمعية وتفسخها. انظر ‏إلى الحالة الصحية ‏المتردية للمدرسة، وانتحار الشبان، وتحرُّش الرئيس في العمل ‏بمرؤوسه، والمخدِّرات.‏
د/  لتبرير ممارسات العنف في كل أنماطها، تؤدِّي إيديولوجية "مكافحة الإرهاب" التي تسير ‏جنبا إلى ‏جنب مع الخطاب الأمني، هذه الوظيفة. إن هذه الأيديولوجية التي تسجِّل لأزمة النظام، ‏وتؤكِّد على ‏سياسة الحرب، قد وَضَعت برنامجا جديدا يُسمِّى "صراع الحضارات" محل جدار من ‏الدخان كان يُسمَّى ‏بأيديولوجية حقوق الإنسان ودولة القانون. وهو نفسه مزيَّن بالفكرة ‏المعتوهة التي تقول بالصراع بين ‏النور والظلام (المانوية)، بين الخير والشر. وكانت ‏اعتداءات 11 سبتمبر2001، بالإضافة إلى صواريخ ‏الدمار الشامل العراقية المزعومة، حجة ‏عسكرية للاعتداء على العراق من جهة، ولتشييد ائتلاف دولي ‏من أجل هذا الهدف مدعوما ‏بالحجة القانونية للصواريخ إياها، من جهة ثانية.  فإذا كان الائتلاف الدولي ‏لقي الفشل، فإن ‏الجانب القانوني قد أحرز النجاح، طالما أنه أحدث اعوجاجا في سائر التشريعات ‏‏"الغربية"، ‏واستُخدم ككفالة بين أيدي السلطات التي تُسمَّى "ديمقراطية". فالقوانين التي شُرِّعت ‏لمكافحة ‏الإرهاب جاهزة دوما لتبرير كل الأفعال التعسفية والتشريع لها، من التوقيف بدون محاكمة، ‏إلى ‏التعذيب والقمع وإلغاء الحريات، والتجسس على الجماهير، والأنظمة الاستثنائية، وذلك كله ‏يُمهر ‏بعبارة سري، أو من قِبَل الأجهزة السرية. أي إن القانون يُعَلِّق القانون. وعلى هذا النحو، ‏فإن جرائم ‏الطبقة السائدة، والتي تبقى بدون عقاب، تشمل كل جرائم الطبقات المسَيْطِرَة. لكن أقل ‏مقاومة مسلَّحة أو ‏مجتمعية للمسيطَر عليهم، فإنها تجرَّم وتَلْقى إجراءات بوليسية. وإن ما ‏يزعمون أنه "مكافحة للإرهاب" ‏هو في الحقيقة عودة إلى ممارسات همجية.‏
 
‏2-  كيف تميِّز ما بين العنف والإرهاب؟
‏***  إن السؤال القائل ما هو الإرهاب أشبه ما يكون بالخوض في عالم البحار والمحيطات. ‏ونحن أمام ‏هذا السؤال أشبه ما نكون بالسبَّاح المهدَّد بالغرق. ولتوخي الحذر من مجازفات كهذه ‏فإن أفضل وسيلة ‏للتقدم في الإجابة هي الاقتصار على مظهر من خطاب الإرهاب، وهو ما كان ‏منه متعلقاً بأحداث الساعة. ‏والملاحظ هنا أن الإرهاب الذي يَأخذ في متن هذا الخطاب السائد ‏شكلا من العنف المتطرف لا يرتفع إلى ‏مستوى المفهوم واضح التعريف والحدّ. ذلك أن حالاته ‏المتعدِّدة والمتنوعة لا تندرج في تعريف واحد ‏شامل يجمع بينها. إن أشكاله من التنوع بمكان، ‏حتى أن الجمع بينها في قاسم مشترك واحد هو ضرب ‏من الخيار التعسفي. وأعود هنا إلى ‏التذكير بأن أنماط العنف ليست كلها دموية أو جسدية، وأن أشد أنواع ‏العنف ما كان منه متعلقا ‏بالاستغلال في العمل. لذا، فإن جوهر العنف أو ماهيته يشذُّ عن أي مفهوم ‏للتعريف به. وإن ‏مصطلح الإرهاب يواجه الصعوبات نفسها. ‏
والحال إن خطاب العنف الإرهابي بمنطق الأيديولوجية السائدة يَلقى قبولا بدون مناقشة. كما ‏يحظى ‏الإرهاب تحت تأثير هذه الأيديولوجية بتنديد لا تراجع عنه. والمفارقة هنا هي أن ‏الانتقادات الأكثر تشدُّدا ‏حيال أمريكا تُدين بحسم - في كل مرة كانت هي بحاجة إلى التعليق على ‏حدث من أحداث العنف - كل ‏أشكال الإرهاب. هذه المفارقة تحتاج إلى وقفة تأمل لأنها تسير ‏جنبا إلى جنب مع تعريف للإرهاب ذي ‏أهمية سياسية كبرى في أحداث الساعة.  إن الإرهاب – ‏حسب هذا التعريف – جريمة عمياء تنال من ‏المدنيين الأبرياء. وهذا التعريف يُعْتَبَر برأي ‏الخطاب السائد مسلما به، وإن كانت كل عبارة فيه موضع ‏للدحض. ‏
إن مصطلح الإرهاب ابتكار فرنسي. ويعود تاريخه إلى العام 1794، شأنه شان الإرهابي. وكان ‏نُويل ‏بابوف ‏Noël Babeuf‏‎ ‎أول من استخدمه في تلك السنة. إن العبارة تشير إلى ‏المرحلة التي تُوْصَف بأنها ‏مرحلة الرعب في الثورة الفرنسية، حيث يقترن العمل السياسي ‏بالرعب، وذلك بموجب توجيه من ممثلي ‏الأمة في المؤتمر الوطني ‏la Convention‏، ‏وبتنفيذ من قِبَل الحكومة: لجنة الإنقاذ العام ‏le Comité du Salut Public ‎‏  ‏ ‏.  إن ‏الرعب كما يقول روبسبيير، وهو لم يكن من أنصاره أو من أشد مستخدميه ‏قسوة، يأتي في ‏خدمة الفضيلة من أجل إنقاذ الثورة التي انتهت بأيدي الرعب المضاد في السنة الأخيرة ‏من ‏عمر جمهورية الثورة ‏Thermidor ‎‏ . أما مصطلح "الرعب الأحمر" في زمن الثورة ‏البلشفية، فإنه ‏يَستمد معناه بمقابل "الرعب الأبيض"، وذلك في سياق من الحرب الأهلية بين ‏الثوريين في السلطة ‏ومعادي الثورة. وفي الوقت الراهن، فإن الحركات غير المتكافئة من حيث ‏أهميتها، والتي يُطلَق عليها ‏تسمية الحركات "الإرهابية"، يُقصد بها مجموعات قليلة العدد، ‏وتُعَرِّف نفسها بأنها "طليعية"، وتمارس ‏أشكالا من النضال المسلَّح ضد السلطات الحاكمة. ‏وعلى الصعيد العملي، فإن الحكم على أعمالها لتثمينها ‏يتوقف على حظ هذه الحركات من ‏النجاح أو الفشل. ومنها على سبيل المثال النضال المعادي للاستعمار، ‏كالفييتكونغ في جنوب ‏شرقي آسيا سابقاً، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، والمؤتمر الوطني الأفريقي ‏في أفريقيا ‏الجنوبية. وفي وقت متأخر يأتي ذكر الفدائيين الفلسطينيين في الستينات، و في ‏العواصم ‏الأوروبية الكبرى حيث يظهر النضال المناهض للبورجوازية عبر فصائل الجيش الثوري  ‏Rote ‎Arme Fraktion‏  في ألمانيا، والخلايا الشيوعية المقاتلة في بلجيكا‎ Cellules ‎Communistes ‎Comabattantes، والعمل المباشر في فرنسا ‏Action Directe، و17 ‏نوفمبر في اليونان‎17 ‎novembre ‎، وغرابو في أسبانيا‎  ‎‏ ‏Grupo de Resistencia ‎Antifascista Primero de ‎Octubre، أو فصائل الجيش الثوري اللبناني. فهل يصح ‏إطلاق مصطلح الإرهاب على كل هذه ‏التعبيرات؟ ‏
الحال، إن الإرهاب اليوم يُقصد به شكل من أشكال العنف ذي طموح شمولي محمول على خطاب ‏ذي ‏خصوصية. وإنهم بدون أي حرج يؤكِّدون "أن الحدود ما بين الإرهاب والمقاومة المسلَّحة ‏للمُضطَهِدين ‏لم تعد في أغلب الأحيان واضحة"(انظر على سبيل المثال: دومينيك فيننيه، تاريخ ‏الإرهاب، منشورات ‏بيغماليون، باريس 2002). والحقيقة هي أن أنظارنا كلها يجب ان ‏تنصب على هذه الحدود لمعرفة ما ذا ‏يحدث ومَن الذي يفعل؟ ومَن هم الإرهابيون؟ ومن هم ‏ضحايا الإرهاب؟ وباسم أية أيديولوجية تراهم ‏يتحرَّكون؟ وما هي دوافعهم؟
منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، يخوض الخطاب المسيطِر الذي شُيِّد منذ ذلك ‏التاريخ معركةً ‏بدعمٍ من تعبئة دولية تزعم أنها لا تريد سوى اجتثاث الإرهاب من جذوره. ‏ويَزعم هذا الخطاب أنه ‏شمولي. وهو يُوَحِّد من حيث التعريف بين الإرهاب والقاعدة، وبين هذا ‏وذاك و الإسلام الجذري الذي ‏يُطلّق عليه تسمية "الإسلام السياسي" الذي يُعْتَبَرُ رديفاً للشر. ‏وهو خطاب مانوي، طالما هو يَعْتَبِر هذه ‏الحضارة "شيطانية" (لاحظ استخدام المصطلح ‏الديني)، ويحيط كل من يحيط بهذه الحضارة بالشكوك. ‏بالمقابل، فإن هذه الأيديولوجية ‏المسيطِرة هي التي تعمل من أجل الخير، وهي حامية القيم الإنسانية ‏والديمقراطية. واعتبارا ‏من ذلك، فإننا نجد أنفسنا أمام حرب صليبية، والمقولة القائلة: إنك إما أن تكون ‏معنا أو ضدنا. ‏وقد فضح إدوارد سعيد هذه المفارقة عندما كتب: "إن أيديولوجية الإرهاب قد اكتَسَبَت ‏حياةَ ‏ذات استقلال ذاتي، فهي تنال شرعيتها من نفسها، ثم تعود مجدَّدا لتنال شرعيتها بدون أي برهان ‏أو ‏توثيق منطقي وعقلاني... إن الإرهاب والحرب المهووسة ضده أصبح نوعا من الدائرة ‏محكمة الإغلاق، ‏والتي تَحتكر القتل الذي يَستمد مبرراته من ذاته، وتُنْزِل الموت البطيء بأعداء ‏معدومي الخيار ‏ومحرومين من حق إبداء الرأي". ولنلاحظ أن الولايات المتحدة استغلَّت ‏واستَثمَرت أحداث 11 ‏أيلول/سبتمبر إلى أبعد مدى، وأنها جمعت رصيدا من التعاطف قوى ‏الصدى. فلماذا لم تحظَ الجزائر، وهي ‏ضحية لاعتداءات فتَّاكة منذ عقد من الزمان، بشيء ولو ‏ضئيل من هذا الرصيد؟ إن ما يمس بالقوة ‏العظمى يُحاط سلفا  بالتقدير والاحترام والإجلال، حتى ‏أنه يصبح عاطفيا واقتصاديا وعسكريا هو المحتكِر ‏الوحيد لمثل هذا التعاطف. وكانت الولايات ‏المتحدة استفادت من هذا الرصيد لتفرض هيمنتها العالمية على ‏حلفائها الإمبرياليين وغيرهم ‏في أوروبا وروسيا والصين والعالم العربي. واستثمرته أيضا للحؤول دون ‏أن ينجح أي شعب ‏في إنجاز أي تطوير قومي بصورة ذاتية، على نحو ما يتبيَّن لنا من حرب الخليج ‏واعتداء ‏الحلف الأطلسي على يوغسلافيا. إن حق الاختلاف والتباين محظور في عهد النيوليبرالية ‏التي ‏تُفرَض على كل الشعوب كنمط واحد من قِبَل أسياد العالم، وذلك من أجل السيطرة على ‏مصادر ‏الطاقة، ولتخطي الصعوبات السياسية والاقتصادية لأنظمة الحكم، والتي تشمل البورصة ‏والسوق ‏العقارية وفضائح البنوك والديون وشتى أنواع التمييز من عنصرية وغيرها.‏
وبالمحصِّلة، فإن خطاب الإرهاب هو نفسه الذي يُرهِب أو ينتهي إلى إرهاب العالم من أجل ‏فرض الانقياد ‏على المُسْتَبَد بهم، وذلك لمصالح القوة العظمى وحدها. إنه يعمل عن طريق ‏التلاعب بالدلالة اللغوية التي ‏تُمَوِّه إرهاب الدولة بفضل صفة الإرهاب التي يُلحقها هذا الخطاب ‏بكل مقاومة لإرهاب الدولة ". الأمر ‏الذي لم يفت على جان جونيه ‏Jean Genêt ‎‏ التنبيه إليه ‏عندما ميِّز بين العنف التحرُّري الذي يجد أفضل ‏مثال له – حسب ما كان يقوله قبل نحو ثلاثين ‏سنة – في الشعب الفلسطيني، والقسوة القمعية التي ‏تمارسها السلطة الإسرائيلية المُحتَلَّة. ‏والواقع، إن إرهاب الدولة الذي يَعفي نفسه من أي دفاع عن النفس، ‏ينتمي إلى ممارسة كل ‏دولة أيا كانت طبيعتها، وهي تزعم لنفسها حق احتكار العنف الشرعي وارتكاب كل ‏أنوع ‏الانتهاكات. إن الإمبريالية الأمريكية مصدرٌ ومركز للرعب المعولم. وإن الخطاب الذي تنشره ‏ليس ‏أمرا آخر سوى خطاب القهر. ‏
والنتائج المترتبة عن هذا الخطاب من نوعين اثنين. إنها على الصعيد المرئي سياسية. إن هذا ‏الخطاب ‏يعمل بدون هوادة على نشر جو من الرعب على الصعيد الدولي، جو من الريبة ‏والشبهات، جو حربي، ‏ويعَتمد على وسائط الإعلام لتغذية حالة من الذهان. والحال، أن الحرب ‏جوابٌ غير متكافئ أبدا مع ما ‏يزعم محاربته من خطر، وأن ما يلجأ إليه من أدوات ليس من ‏شأنها إلا أن تزيد من مقت  وكراهية وانتقام ‏البلدان التي تُعتبر بأعين هذا الخطاب مُدانة، أو ‏‏"الدول المارقة" حسب ما يُطِلق عليها من تسمية. وعلى ‏الصعيد القومي للبلدان الحليفة، فإن ‏ميزانيات الدفاع حسب تقرير لمنظمة أمم المتحدة قد ارتفعت، في ما ‏أُقرَّت إجراءات مشدَّدة في ‏مجالات الشرطة وحرية التعبير والقضاء والمنظَّمات، وأُطلقت يد الدولة في ما ‏يتعلق بالعمليات ‏العسكرية، وحلَّ الحلف الأطلسي محل منظمة  الأمم ا لمتحدة.  بل، وإن هذه  ‏الأخيرة  ‏أَخذَت  بمفهوم  "الحرب  الوقائية"  لتبرير  أي  هجوم. ‏
وإن النوع الثاني من النتائج أيديولوجي. واللائحة هنا طويلة. وإني اقتصر هنا على الخطاب ‏الذي يُزَيِّف ‏الحقائق من أجل الإقناع بالحرب الصليبية، أسسها وأهدافها الشمولية. فالخطاب ‏يصف أشكال المقاومة ‏‏(العنف) ب"الإرهاب" الذي يستهدف في المقام الأول الضحايا المدنيين ‏والأبرياء. وهذان التعبيران هما ‏هنا في الحقيقة موضع لتلاعب مكشوف بالرأي العام. فمن هي ‏الحرب التي لم تُخَلِّف بين المدنيين ‏والأبرياء عددا أكبر مما خلَّفته بين العسكر؟ والعسكريون ‏من هم في أغلب الأحيان؟ أليسوا مدنيين عبئوا ‏في الجيش الاحتياطي. والأمثلة على ذلك كثيرة ‏ولا تحصى. وكيف لنا أن تغط الطرف عن استطلاعات ‏الرأي التي تبيِّن أن شعوب الولايات ‏المتحدة الأمريكية وإسرائيل تؤيِّد حكوماتهما، فلنحجم بالتالي عن ‏التساؤل عن معنى براءة ‏المدنيين؟ وماذا أيضا عن "صِدام الحضارات" الذي لا يوفِّر أحدا، بما في ذلك ‏العلمانيين في بلاد ‏الإسلام. هذا كله في ما يعمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بكامل طاقته ليدر ‏أرباحا ‏طائلة...‏
 إن حق الدفاع عن النفس على لسان الولايات المتحدة ضد "الإرهاب الدولي"، و ما تسميه ‏إسرائيل ‏ب"الردود الانتقامية"، ما هو سوى قلب للأدوار. ومن الأمثلة الحية على ذلك تجده في ‏قنا بجنوب لبنان، ‏حيث يزعم الجلاد أنه الضحية. وهذا الرئيس فاكلاف هافيل يصف ضربات ‏الحلف الأطلسي المُوَجَّهَة ‏ليوغسلافيا أنها ضربات "إنسانية بامتياز".  وماذا عن سجناء ‏غوانتنمو الذين يُعَرَّفون  ب"أسرى من ‏ميدان القتال".  وهذا المثال وحده كافٍ لتوضيح مدى ‏ما بلغ إليه احتقار حقوق الإنسان. أما في ما يتعلق ‏بالكشف عن هوية الخصم، فإن "القاعدة" ‏هي العدو المُبْتَكَر. وكما قلت قبل قليل فإن الإسلامي يُخْلُف ‏الشيوعي، وراعي البقر لا وجود له ‏بدون الهندي الميِّت إذا أمكن ذلك. وابن لادن إذا ما كان موجودا من ‏دم ولحم فإنه زراعة ‏أمريكية من صنع ال/سي.أي.إيه، أو كما يقول آرونداتي روا ‏Arundhati Roy‏‎  ‎‎"‎سر ‏من أسرار الأسرة في أمريكا"(لوموند، 14-15 تشرين الأول/أكتوبر 2001). إن طالبان ‏شأنهم ‏شأن نورييغا هم بمثابة ارتكاس للضربة التي عادت من حيث كانت انطلقت لتخبط وجها لوجه ‏من ‏كان أطلقها. وأعود لأقول إن الإسلام السياسي الذي يُستخدم كرديف للأصولية أو الإسلامية ‏هو نتاج ‏للسياسات الإمبريالية التي مورست منذ باندونغ وما رافقها من اغتيالات لقادة ‏مناهضة الاستعمار ‏والإمبريالية، من المهدى بنبركة، إلى هنري كورييلHenri Curiel ‎‏ ‏‎ ‎وشي غيفارا مرورا بلومومبا ‏ومُصَدِّق، فضلاً عن تصفية حركات المعارضة الوطنية ‏والتقدُّمية، وما قدَّمه الاستعمار والإمبريالية من ‏دعم مالي ومعنوي واقتصادي ودبلوماسي ‏لأعداء الثورة وللثورة المضادة في سائر أنحاء العالم العربي ‏والإسلامي. ‏
‏ وإذن، في مواجهة إرهاب الدولة العظمى أو إرهاب ما فوق الدولة، والذي يَشغْل حيِّزا مركزيا ‏في عالمنا ‏‏- وما "القاعدة" في مركز الإرهاب إلا انعكاس لهذه الدولة في المرآة - تنتصب بأعظم ‏قوة أشكال من ‏المقاومة، وإن كانت ضعيفة، فإنها تتحدى هذا المركز وتبدأ بتفكيكه. وعندما ‏تصبح القدس عاصمة للدولة ‏الفلسطينية، فإن نصبا تذكاريا سيرتفع في مركز المدينة إحياءً ‏لشهداء الاستقلال، وفي مقدمة هؤلاء يطل ‏الانتحاريون. وسيكون ذلك محض عدالة تجاههم.
 
خامساً: العــنف الحـربي مـهما اشــتد
          فإنه ليـس أكثر عنفا
          ‏من عنف المجموعات الرأسمالية الطبقية الكبرى                                     ‏
‏1- عولمة العنف: أنت تردد دوما مع جوزيه مارتي "إن الواقعي في السياسة ليس هو ما ‏نراه". كيف ‏أنت تقرأ وترى مظاهر العنف التي تنجح العولمة ذات البريق الكاذب وعبر الثورة ‏المعلوماتية في ‏إخفائها. ‏
‏***  أنا أنطلق من ثلاثة اعتبارات.‏
أولا: إن ما يسمى العولمة ليس أمرا آخر غير ما وصلت إليه الرأسمالية في أعلى مراحلها. ‏مرحلة مطابقة ‏لطبيعتها حسب ما يُبيِّنه ماركس وإنجلز في مطلع البيان الشيوعي. ‏
ثانيا: لقد تبخَّرت الآمال التي كانت وُلِدَت غداة انهيار حائط برلين، والتي كانت تحلم بعالم من ‏نمط آخر ‏بديل لانهيار البلدان التي كان يطلق عليها تسمية "اشتراكية"، إلى عودة الوفاق، ‏إلى عالم تنتصر فيه ‏الديمقراطية بفضل حرية تنقُّل الأفراد والبضائع والأفكار. ‏
ثالثا: ومن هذه المعطيات أستخلص أطروحة مؤدَّاها أن العالم بدل أن يرى بديلا يحل محل ‏أسطورة ‏‏"العولمة السعيدة" الموعودة من قِبَل الأيديولوجية السائدة، فإن ما نواجه مقابل العولمة النيوليبرالية، ‏هو ‏‏"عنف معولم" تعجز أية إجراءات وتدابير للإنقاذ، أن تنجو بنا منه، بما في ذلك تلك التي ‏تنادي بها ‏‏"العولمة الأخرى". ‏
وأورد هنا بعض الملاحظات. وأعتذر سلفا للتبسيط في العرض:‏
أولا - من الناحية العملية:‏
‏آ/   إن اللجوء إلى النزاعات المسلحة واستخدام القوة العسكرية اليوم لا مثيل له في الماضي. ‏وهو نوع ‏من "العنف الدامي"، ومن نتاج إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية التي فَرَضَت ‏سيطرتها على شركائها ‏في الأمبريالية، وهما اليابان وأوروبا، والتي تتميَّز بأن أداءها هو- من ‏حيث التعريف - عدواني منذ ‏ولادتها. إنها حكما وأبدا عدوانية. ولن تكون غير ذلك. إنها بحاجة ‏دوما إلى عفريت، هندي، مكسيكي، ‏بولشفيكي، وإسلامي. وقد لمَّت وراءها ائتلافا واسعا من ‏الدول.. حتى أن الكوكب اليوم يقع بكامله تحت ‏رقابة البينتاغون الذي يجنِّد مئات ألوف ‏العسكر، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المرتزقة. وتسير نفقات ‏التسلح في عالمنا اليوم نحو ‏الزيادة بصورة مستمرة. إنها تُمَثِّل 2.5 بالمائة من الدخل القومي الخام ‏للعالم، وهي تزيد191 ‏ضعفا عن المساعدات الممنوحة للأزمة الغذائية. والولايات المتحدة وحدها تبيع ‏‏45 بالمائة من ‏مبيعات السلاح في العالم. ‏
‏ب/ الشكل الثاني للعنف اقتصادي وهو "العنف الأخرس"، فالنظام الاقتصادي يُتْبَعَ النظام ‏السياسي ‏لسيطرة رأس المال المالي. وهو الأمر الذي يعبِّر عن نفسه بتعميق الاستغلال، وحالة ‏من انعدام المساواة ‏أفظع وأشد مما كان عليه الظلم في الماضي، وديمقراطيات مريضة، ‏وحالات من التمييز في كل المجالات. ‏نحن اليوم أمام تعديل خطير لقانون العمل، وفقدان العمل ‏الآمن من البطالة في المستقبل، وقد حلَّت ‏الأثنيات بجميع أشكالها وألوانها محل بنى ومنظمات ‏الطبقة والأمة. واتَّسع تعميم البضاعة وامتد ليطال ‏كل مناحي الحياة بصورة لا مثيل لها، فشمل ‏السلاح والمخدرات والدعارة، حتى أن المظلومين المعدمين ‏باتوا يتاجرون بأجسامهم وهم ‏أحياء. وهذه البضاعة في حالة التعميم تَنهب اليوم أفريقيا، حتى أن القارة ‏السوداء باتت في ‏حالة النزاع الأخير، وهي تلفظ أنفاسها. ناهيكم وما تلحقه من أضرار بالبيئة. ‏
‏ج/   يصعب التمييز بين هذين الشكلين السابقين من العنف، العولمة العسكرية، والعولمة ‏الاقتصادية، وما ‏يرافق الأولي والثانية من حالات عنف. فالعنف "الأخرس" يتمخَّض عن نتائج ‏مجتمعية ثرثارة إن صح ‏التعبير، حيث التمرد والعصيان في "الضواحي" كما يحلو لهم أن ‏يقولوا، أو في "الأراضي" للإشارة إلى ‏انتفاضات الشعب الفلسطيني، ناهيكم وارتفاع نسبة ‏الانتحار بين الشبان وسلك الشرطة وقادة المؤسسات ‏وفي المعامل، واغتصاب النساء، وانتشار ‏عصابات الجريمة المنظَّمة، والموت بسبب التبغ والكحول، ‏والتنكيد الأخلاقي، وذلك كله في ما ‏تمَّحي الحدود ما بين المافيات ورجال السياسة والمضاربين في ‏البورصة. ‏
والخلاصة مما تقدَّم هي أن العنف "السلمي" لا يقل ضررا، أذىً وتدميرا، عن العنف الحربي. ‏إن أي ‏تدمير عسكري تحت أي علم كان لن يصل إلى أقدام الجرائم الواسعة التي تُرتِكب بحق ‏الجماهير من قِبَل ‏عصابات المجرمين وجمعياتهم، من أمثال المجموعة متعددة الجنسيات للمواد ‏الغذائية "مونسانتو"، أو ‏صاحبة الاحترام العظيم المؤسسة التي تحكم العالم والتي يسمُّونها ‏صندوق النقد الدولي. ‏
ثانيا- من الناحية الأيديولوجية:‏
‏آ/  بسبب من الانتهاكات كثيرة الأشكال وغير المخفية والتي تقع تحت إشراف الولايات ‏المتحدة، لم تعد ‏شرعية النظام القائم وحقوق الإنسان وحق الشعوب بتقرير مصيرها والقانون ‏الدولي ودولة القانون، تجد ‏رواجاً.  فها هي التعبئة العامة تحت شعار مكافحة الإرهاب قد ‏أَعلَنت عن نفسها بعدما استُخدِمت اعتداءات ‏‏11 سبتمبر 2001 ذريعة لتشييد نظام من الأدلة ‏يؤَسِّس لتوسيع أجهزة الأمن بصورة لا مثيل لها في ‏الماضي، وما يرافق ذلك من ارتفاع في ‏النفقات العسكرية بنسبة 50 بالمائة، وازدهار غير مسبوق ‏للصناعات الأمنية ومنتجاتها. فيما ‏وَحَّدث كثرٌ من البلدان تشريعاتها القضائية، وإجراءاتها، لحيازة مزيد ‏من الأدوات لسياستها ما ‏فوق الليبرالية، من الاعتقال الاحترازي، إلى التصنت على الهواتف، إلى شبكات ‏التصوير ‏والكاميرات المنتشرة في كل مكان. إن انعدام أي تعريف لمفهوم "الإرهاب" - عن ‏قصد ‏وبصورة مستمرة - يُخفي الابتزاز الأمني و"خطاب الأمن"، ويفتح المجال أيضا أمام ‏إجراءات ‏معادية للمجتمع و ُيجَرِّم في الوقت نفسه  كل حركة معارضة أو حركة مقاومة. ‏
‏ب/   إن هذه الإيديولوجية تُخفي نفسها عبر مزاعم ديمقراطية تزعم أنها تؤيِّد العدوان المسلح أو ‏ما ‏يسمُّونه "حق التدخل". إن تكاثر "الثورات" التي يسمُّونها "برتقالية" – بين أدوات ‏غيرها لحيازة ‏سيطرة أشد للسياسة ما فوق الليبرالية – ضروري، حسب منطق هذه ‏الأيديولوجية، من أجل تشييد نظام ‏عالمي جديد، يؤدي إلى إطلاق يد السلطات في ارتكابها لكل ‏الانتهاكات والاغتصابات. وإن مبدأ "فَرِّق ‏تسد"، هو عصب السياسة الإمبريالية التي تشجع ‏انفجار الأمة الواحدة إلى أمم. والأمثلة أمامنا كثيرة: ‏يوغوسلافيا، الاتحاد السوفياتي، العراق، ‏بوليفيا، والصين. ‏
والانحسار السياسي يمتد ويتَّسع إلى مجالات غيرها، في الإعلام، والثقافة، والعادات، حيث ‏يُعاد قولبتها ‏وترقيمها بحيث تستجيب لنواهي وملزمات السياسة الأمريكية. وبمثل هذا الخطاب ‏الأيديولوجي تصبح ‏الولايات المتحدة الأمريكية هي "الأمة الوحيدة الضرورية" كما يقول ‏بوقاحة وكبرياء الديمقراطي ‏الأمريكي وليم كلينتون.‏
 
‏2/  كيف تُفَنِّد أيديولوجية رفض العنف؟
‏***  يُشَكِّل رفض العنف نقطة التلاقي في أيديولوجية مكافحة الإرهاب التي تكرِّس احتكار ‏الدولة ‏لممارسة العنف، وتمنحها كما يقول ماكس فيبر ‏‎ Max Weber‏ قيمة مطلقة. إن رفض ‏العنف وإدانة كل ‏حالة عنف، من المواطن غير المتقيد بما هو مواطن، إلى الشغب ‏والاضطرابات، مِن هذا الذي يدَفع بالآخر ‏بيده أو قدمه لرميه أرضا، إلى التعذيب، إن كل هذه ‏الأشكال من العنف تحظى بإجماع توافقي كامل ضمن ‏الأسر السياسية على اختلافها. ثم جاءت ‏اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لتقدِّس إدانة العنف. إن ‏مراسم المآتم على أرضية من ‏الشعور بالذنب، تصبُّ في محرمَّات الطبقة القائدة وتعزِّز شعارها القائل إن ‏المجتمع يقوم على ‏الوفاق وليس النزاع. ‏
إن رفض العنف هذا يؤدي وظيفتين اثنتين. إنه يجسِّد صوتا داخليا يأمر بالانحراف بالمطالب ‏الاجتماعية ‏أو تحجيمها من أية فئة عمالية جاءت. ويُسجِّد أيضا صوتا خارجيا يوجِّه النزاعات ‏الراهنة بإطلاق تسمية ‏الدول "المارقة" والمجموعات "الإرهابية" التي يُحكم عليها بأنها ‏تستحق العنف الإمبريالي. والحال، أن ‏‏"إرهاب الدولة" يمارس حالة من العدوى الحقيقية، إذ ‏إنه يُحَرِّض بصورة مستديمة على أعمال ‏‏"إرهابية"، ويَخلق "الإرهابيين" حيث هو يريد ‏مقاتلتهم، وذلك على غرار ما تفعل الولايات المتحدة ‏وإسرائيل. ‏
ثمة أيضا مفارقات بعيدة المدى بين التحليل النقدي للعولمة وبين الخطاب الرسمي الذي يدافع ‏عن أسسها. ‏إن نقد العولمة لا يجد طريقه بصورة كافية إلى الرأي العام، ليس بسبب الخطابات ‏التي تبرِّر الممارسات ‏المخاتلة للطبقات القائدة، وهي نادرة في زماننا طالما أن هذه الممارسات  ‏مرفوضة، وإنما بسبب ستائر ‏من الشرعيات الكاذبة التي تروج وتدافع، من جهة، عن ‏مجادلات فارغة لاهوتية وإثنية، ك/"الحملة ‏الصليبية من أجل الخير وضد الشر"، و"الحضارة ضد ‏البربرية"، والتي تروِّج وتدافع، من جهة ثانية، ‏عن جدل فارغ سياسي ومجتمعي يٌطِلق العنان ‏أمام الإعلانات المستقبلية حول المستقبل الأفضل. وعلى ‏هذا النحو فإن حالة من الخلط تشوب ‏برنامج دافوس من جهة، ومشروع القس بيير‎ Abbé Pierre‏من ‏جهة ثانية وتخلط ‏بينهما. وكان ناعومي كلاين ‏Naomi Klein‏ شَخَّصَ قبل فترة وجيزة ‏‏"كارثة ‏رأسمالية"، قوامها الصلة الجوهرية بين العنف والرأسمالية. أما جورجو آغامبين ‏Giorgio ‎Agamben ‎‏ فقد أوضح أن الخطابات الأمنية لا علاقة لها بالوقاية من ‏العمليات الإرهابية، وأن الوضع ‏الحالي هو أشد وأقسى مما كان عليه الحال إبَّان الفاشية. فيما ‏يرى كزافييه فيرسشافي ‏Xavier ‎Verschave‏‎ ‎في الفردوس الضريبي الذي يدر نصف ‏التحويلات المالية العالمية "عولمة للجريمة ‏المالية". ويذهب محمد يونس الحائز على جائزة ‏نوبل للاقتصاد إلى أن 94 بالمائة من الدخل العالمي ‏مُحتَكَر من قِبَل 40 بالمائة من السكان، وأن ‏‏6 بالمائة مما تبقى يتوازعه 60 بالمائة من السكان، وأن ‏نصف عدد سكان العالم محكوم عليهم ‏بدخل يومي يساوي 2 دولار، وأن مليارا من سكان الأرض يكتفي ‏بدولار واحد.‏
 
‏                                                        ســـادســـاُ:  فــي العــنف الثـوري
 
‏1/   كيف أنت تِنزع عن العنف الأقنعة الإيديولوجية التي تغطيه؟
‏***  أولا: إن حالات الإكراه المفروضة من النظام الحالي هي التي تُفَسِّر ما يرافق العنف من ‏خلط بغيره ‏من الموضوعات بصورة مقصودة، وهذا الخلط يتجدَّد عن سابق تصميم كل يوم. إن ‏رد الفعل الهجومي ‏ضد العنف، وهو في غاية البلادة، يُترجِم عن عدد من الظواهر. فالإجماع ‏على إدانة اللجوء إلى العنف لا ‏يقتصر على الديمقراطيين "المتطورين"، ويتمخض عنه ليس ‏فقط الدفاع عن الإجماع الذي يرُجِّح الحوار ‏والنقاش والوفاق، وإنما هو مُوَجَّه ومسيَّر من قِبَل ‏شكل حديث من العبودية الطوعية. وإن هذا الانقياد ‏الطوعي إذ هو يقبل بكل ما ترمي به ‏السلطات من تشنيع بحق أي خيار ثوري، من اتهامات تزعم بأن ‏الثورة مفهوم قديم، متخلِّف، ‏وانتهي زمانه، يَنتهي به الأمر في نهاية المطاف إلى الامتناع عن المساس ‏بالنظام. وإن الرقابة ‏والحظر يمسَّان كل الظواهر بما في ذلك الكلمة: إن الإمبريالية كلمة صائغة أما ‏الاستغلال فلا. ‏والعولمة تخفي الرأسمالية وقد حلَّت محلها، والظلم حل محل الاستلاب، والمواطنون ‏محل ‏الشعب، والجماعات محل الطبقات...‏
ثانيا: لقد أصبحت النزعة السلمية وحسن الجوار معياراً للاحتجاج والرفض، وهما يسهران ‏على تجزئة كل ‏ما يمت إلى الاحتجاج والرفض من تعبيرات بصلة، من الإضرابات إلى ‏الاعتصام إلى مظاهرات الشوارع. ‏وحل تعبير الجمعيات محل لجان التعاضد والتعاون والنقابة ‏والمجالس. وإن اللازمة التي تردد كالمزمار ‏نهاية الطبقة العاملة وفقدانها كل مركزية، تريد أن ‏تمحو في الوقت نفسه مصطلح الإضراب العام. نحن ‏اليوم أمام تعبيرات من أمثال المنظمات ‏غير الحكومية، والتدخل الإنساني، والمساعدة، والتصدُّق، في ما ‏غاب مصطلح السلطات ‏المضادة ليفسح المجال أمام الأدوات المساعدة للدولة البورجوازية. وتَمنَح ‏العولمة لأول مرة ‏للمُسَيطِرين القدرة على التمكن من آلة كلية، كونية، وفي نظام شمولي واحد يمتد ‏ويتَّسع ليطال ‏السيطرة الاقتصادية والأيديولوجية والمالية والعسكرية والدبلوماسية والمعلوماتية، فضلا ‏عن ‏ثقافة القمع، في ما المُسَيطَر عليهم يُخْتَصَرون إلى اختصاص جزئي في القطاع الضيق ‏لحدوهم. ‏والأدوار هنا موزَّعة بعناية. فهاهنا كل ما هو نظيف أو بالأحرى طاهر، و هناك كل ما هو ‏قذر ‏ومثير للاشمئزاز.‏
وفي جميع الأحوال، فإن للسيطرة قاعدتين اثنتين. أولاهما تقول بتحطيم كل ما هو جماعي، أيا ‏كانت ‏طبيعته، عاما أم خاصا، لصالح ما هو فردي. وثانيهما قوامها إلحاق ما هو سياسي بما ‏هو اقتصادي، ‏وبالأحرى بما هو مالي. ‏
ثالثا: والأرضية المأساوية لثالوث العبودية/ الانقياد/التبعية، ليس أمرا آخر سوى العنف ‏‏"الأخرس" الذي ‏يَبقى غير مرئي رغم أنه ذو حضور فوري. وإنهم بعد ذلك يزعمون أن هذا ‏النوع من العنف نسبي طالما ‏أن الرأي العام يَعْرِف بصورة مستمرة كل ما يجري في ‏المؤسسات الاقتصادية. وعليه، فإن الفقراء ليسوا ‏البضاعة الكاسدة لعالم التطور، وإنما ‏هم النتاج الضروري لرقيِّه، وضحايا الظلم المجتمعي، والصحي،  ‏والبيئي، والجوي. ‏وإن أولئك الذين يبيعون أعضائهم هم أنفسهم الذين يصابوا بوباء فقدان المناعة  ‏المكتسبة  على  حد  قول  مانديلا.، أو  هم  أنفسهم  المتضررين  من  إعصار، زوبعة  وعاصفة.‏
والحال، إن العنف الحقيقي بهذا المعنى ليس بصورة حصرية رديفاً للأفريقي  الذي يرى العالم ‏بصورة ‏مغايرة لغيره، أو العجوز الفقير الذي يموت حرقا في مأواه المتهالك، أو المُشَوّه في ‏حادث عمل وراء آلة ‏المصنع، أو المرأة المغتصبة، أو الفلسطيني الذي يعاني من كل أشكال ‏الإهانات، أو العراقي المعذَّب بأيدي ‏جلاديه. وبتعبير آخر إن العنف ليس رديفا فقط للائحة ‏كاملة بأنواع الآلام الإنسانية. إن العنف الحقيقي ‏يمتد ويتِّسع ليدخل إلى المعمل المتقدِّم ‏تكنولوجيا، أو إلى ما سجلَّته الحداثة في عهدنا من آلاف التعبيرات ‏عن الانتصارات التي ‏اكتُسِبَت عبر زماننا. إن العنف يسود في الحكومة العالمية، في قيادة الحلف ‏الأطلسي، في ‏قيادات الأركان، في الشركات متعددة الجنسيات الغذائية، في طعامنا، في الأدوية وعالم ‏الأزياء ‏الفاخرة. إنه أرض يمشي عليها انتقام الدولة التي تحتفظ للسجناء السياسيين بمصير أشد ‏قسوة ‏مما يناله سجين الحق العام، وفي القرارات المتعلقة بخصم الراتب. العنف مرسوم فوق ‏وجوه نجوم ‏الشاشة التلفزيونية  ومخرجي  الاستعراضات الذين يبيعون ويروِّجون لثقافة ‏ديزني لاند وكأنها حلم، فوق ‏وجه مذيع نشرات الأخبار الذي يشوِّه الحقائق ويُفسِد العقول. ولا ‏ننسى أيضا ما يسمُّونه بحالات العنف ‏العفوي التي لا دافع لها سوى الغضب. وإن ردود الفعل ‏هذه كلها، ومنها ما يشبهها أيضا ألا وهو حالات ‏كثر من تمرد الفلاحين عبر القرون الوسطى، ‏يجب إدراجها في أنماط وأشكال العنف. إن تمردهم يجعل من ‏الضرورة بمكان التخلُّص بسرعة ‏فائقة من الخضوع الأعمى والاستسلام، سواء كان عن تواطئ أم عن ‏يأس، أو بتعبير آخر: إن ‏من الضرورة بمكان أن نعي الأضرار المعولَمة، وأن نعيد لمفهوم الثورة ‏مصداقيته. فهل هذا ‏يعني أن الدعوة إلى العنف هي ترياق التحرُّر؟ ثمة بعض العناصر للبدء بالإجابة على ‏السؤال. ‏
 
‏2- أنت إذن تدافع عن العنف الثوري.‏                                                                             
‏*** ‏‎كي نفهم ما هو المقصود بالعنف الثوري في ختام هذا الحديث المطوَّل عن العنف لا بد من ‏أن نعرِّي ‏إدانة العنف. إن رفض العنف، كل عنف أيا كان وبدون أية صفة تصفه، إن هذا ‏العنف غير الموصوف ‏يحتل حيِّزا مركزيا في الأيديولوجية السائدة. وكان هذا الحيِّز محتلا ما ‏قبل العنف من قِبَل الخطاب ‏الحقوقي، حقوق الإنسان، والحقوق الدولية، ودولة القانون. ثم جاء ‏العنف ليحتل المركز الأول محمولا ‏من الخطاب الأمني الذي يقوم على مرتكزين اثنين: مكافحة ‏الإرهاب، والدفاع عن الديمقراطية إن لم يكن ‏تمجيدها.‏
 ويأتي رفض العنف كما يقولون لأسباب أخلاقية، لأن العنف شنيع وشرِّير ومدان بصورة ‏شمولية. ‏ولأسباب المعاصرة، إذ أن رفضه يأتي باسم درجة الرقي العليا للحضارة. ويَمْثُل هذا ‏الرفض للعنف من ‏حيث هو واقعة تقرِّها كل الخيارات السياسية، اليمينية باسم القيم، ومنها ‏الدينية في المقام الأول، ‏والاشتراكية الديمقراطية باسم الوفاق والإجماع الجمهوري، إن لم يكن ‏العلماني، واليسارية بما في ذلك ‏الشيوعية باسم النقد الذاتي إن لم يكن الشعور بالذنب. إن ‏الأيديولوجية السائدة تُلزم الحكومات والهيئات ‏الدولية بأن تضع نهاية للعنف، علما أنه منتشر ‏اليوم في كل مكان، من المدرسة إلى الأسرة، ومن الشبَّان ‏إلى الأحياء، وفي السجون، وفي ‏المعمل والإدارة، وفي الطرق، ومن فقدان الوعي المدني للمواطن، إلى ‏النزاعات المسلِّحة بين ‏الجماعات المجتمعية والأمم.‏
وإلى ذلك فإن هذا الموقف الأيديولوجي هو من خواص الإمبريالية في مرحلتها الراهنة، والتي ‏تُسَمِّى ‏عولمة، ومعناها عولمة العنف.‏
إن أول خواص العولمة يظهر عبر التحوُّل الحربي للسياسة، أو - كما أسلفنا قبل قليل – ‏بأسبقية الحرب ‏على السياسة بعدما كانت الحرب امتدادا مسلّحا للسياسة. ونحن نشاهد اليوم ‏كيف أن الولايات المتحدة ‏التي تقود الإمبرياليات قد أَعلَنَت "الحرب إلى ما لا نهاية". وإن هذه ‏الحرب، وهي ذات مستوى ‏تكنولوجي بلغ أعلى مراحله، قد ضَرَبَت أفغانستان والعراق ‏وفلسطين بتوسط إسرائيل ولبنان، وذلك ‏بانتظار امتدادها حسب ما تشير الاحتمالات إلى إيران ‏وسورية وكوريا الشمالية. وهذا العنف قيد التنفيذ ‏يكشف عن نفسه عبر مراكز الاعتقال ‏الخارجة عن القانون، وبالتشريع للتعذيب. لكنه ينفي عن نفسه ‏حقيقته من حيث هو عنف ‏إمبريالي بحجة مؤداها أن الهدف من التعذيب والاعتقالات احترازي، وقائي، ‏ويَستَمد شرعيته ‏من محاربته ل/"محور الشر"، ومن هدف يرمي إلى توفير السعادة للشعوب المعنية، ‏وذلك ‏بفضل مشروع "الشرق الأوسط الكبير" (الديمقراطي). إن أيديولوجية العولمة تَعْتَبر هذا ‏العنف ‏إحسانا أو عملا باراً، ويقتصر عل ردود انتقامية. أما العنف الحقيقي، فإن أيديولوجية ‏العولمة تصفه بأنه ‏مجرم و"أعمى"، وهو من عمل   الآخر الذي كان يُسَمِّى في ‏الماضي "الشيوعي الأحمر"، والذي ‏يُسَمَّى اليوم  "المسلم  الأخضر". ‏
ويختفي ما وراء مثل هذا البناء الأيديولوجي -  كما أسلفنا قبل -  أن العولمة  تنجح بحظر كل ‏تطوير ‏وطني مستقل ذاتيا، وإرغامه  في الوقت نفسه على السير وفق النمط الغربي الرأسمالي ‏واللحاق به، ‏بالإضافة إلى وضع يد الإمبريالية على مصادر الطاقة، بما يحرم الصين والبلدان ‏العظمى الناشئة منها، ‏فضلا عن الحفاظ على النظام السائد وطبقته. وذلك في ما يتميَّز ‏الوضع الاقتصادي السائد في عهد ‏العولمة - وأعود لأذكّر بأن العولمة ما هي سوى تسمية ‏أُطلقت كقناع أيديولوجي لإخفاء الرأسمالية ‏وخاصياتها الراهنة -   بسيطرة المؤسَّسات المالية ‏الدولية التي فَرضت نفسها كحاكم للاقتصاد العالمي، ‏وبتمركُّز الاقتصاد، واتساع مستمر للعدالة ‏المفقودة بجميع أشكالها وأنماطها، ووزن الديون، إلخ..إلخ. ‏وقد اشتدت هذه الخاصِّيات خطورة  تحت تأثير نظام من الإجراءات الأمنية أُقِرَّت في كل البلدان "الغنية" ‏على غرار وعلى نمط ‏مثيلاتها في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا النمط الأمني الأمريكي الذي فتح الباب ‏واسعا أمام ‏التجسُّس على المواطنين، والتراجع عن المكتسبات الاجتماعية، وقانون العمل، حسب ما ‏يحدث ‏في فرنسا حاليا، والضغط على الأجور، والانقياد للمؤسَّسات ما فوق الوطنية، كالحلف ‏الأطلسي، ‏والاتحاد الأوروبي، ومنطقة التجارة الحرة في القارة الأمريكية‎ ALCA‏. وبتعبير ‏آخر – وكما قلت سابقا ‏‏- فإن التدابير الأمنية التي ترافق خاصيات الرأسمالية أو العولمة قد ‏فَرَضَت انتصار الليبرالية. حتى أن كل ‏ما يخالف هذا النظام الرأسمالي الأمني المعولم، ويأتي ‏من الآخر الذي يرفض الانسياق أو الاندماج فيه، ‏يُعْتَبَر إرهابا صريحا أو من حيث الممكن، من ‏ابن لادن، إلى حزب الله، إلى حماس، حتى "ابن الزقاق" في ‏ضواحي المدن الصناعية الكبرى، ‏والطالب المحتج. ‏
من أعماق هذه المعطيات انبثق تمرُّد الضواحي الفرنسية في العام 2005. فإذا باليسار يلتزم ‏الصمت، ‏موقف الصمت، وإذا هو عَبَّر َعن قلقه حيال هذا التمرد فليكتفي بالدعوة إلى تدابير ‏اجتماعية، وأخرى ‏قمعية بوليسية، معا وعلى حد سواء. إنه عاجز عن فهم الأحداث واستيعاب ‏مضمونها في سياق من ‏عولمة حطَّمت الطبقة العاملة، ودَجَّنَت الأحزاب وجعلتها جزءا لا يتجزأ ‏من النظام السياسي والاقتصادي ‏للرأسمالية، وأشاعت فرص للعمل غير مضمونة عبر الزمان، ‏وَوَضعت الطبقات العاملة على الصعيد ‏العالمي في حالة التنافس. فسادت أجواء الخوف من ‏البطالة، والجنح، والإرهاب. وفاض الاستهلاك عن ‏الحاجات الأساسية كما الكمالية، ونُبِذَت ‏صناديق الاقتراع، فكان ما كان اليوم من انزلاق سائد نحو اليمين، ‏وانتشار كراهية الأجانب. فإذ ‏بالجماهير التي كانت تمسك أيديها بأيدي بعضها الآخر تتبعثر، وإذا بهذه ‏الجماهير منقادة ‏طوعيا للنظام السائد. ‏
وكان ظَهَر حَدَثٌ  ذو معنى – من هنا كانت البداية - مع مجىء وجه رمزي يُسمَّى خالد قلقال. ‏إنه ‏المسؤول عن العمليات التي وَقَعَت في العام 1995 في قطار الأنفاق بباريس في محطتي ‏سان ميشيل ‏وأورسي. وهو أبن لأسرة جزائرية متواضعة أقامت في حي فينيسيو بمدينة ليون ‏‏(وسط فرنسا) التي تعد ‏‏40 بالمائة من العاطلين عن العمل. وَوُصِفَ قلقال بأنه العدو رقم واحد ‏للوطن والشعب. وفي تطور لاحق ‏قَتَلَته الشرطة في الشارع. خالد قلقال أصبح اعتبارا من هذه ‏التداعيات نموذجا أو قدوة للبطولة. ويلي ذلك ‏أن الضاحية تُعْتَبَر حسب الأيديولوجية السائدة ‏مكانا منبوذا وبعيدا. وتَحمِل أزقتها أسماء من أمثال لينين ‏وكومونة باريس والليندي، وأكثر ‏سكانها من الشبان. ويبلغ عدد سكان ضواحي باريس عشرة ملايين ‏نسمة في ما تعدُّ باريس ‏مليونين ونصف المليون نسمة. ‏
وكانت التجمُّعات الصناعية اختفت في الثمانينات من القرن العشرين، ومعها فرص العمل. ‏وأعقب ذلك أن ‏محيط أكثرية المدن الكبرى أصبحت بلدا بدون سكان. وحُكِم على أطفال الطبقة ‏العاملة القديمة التي ‏أصبحت عاطلة عن العمل بالفشل. وفضلا عن ذلك، فإن ظاهرة الهجرة من ‏حيث التعداد لم تتغيِّر منذ العام ‏‏1912. ما حدث بالمقابل أن عمال المستعمرات القديمة، وبوجه ‏خاص عمال أفريقيا الشمالية، وأفريقيا ‏السوداء، حلُّوا محل البولنديين والإيطاليين والأسبان ‏والبرتغاليين. وخضع المهاجرون الجدد إلى أنظمة ‏العمل التي كانت مفروضة على السكان ‏الأصليين في المستعمرات، والتي كانت تحرمهم من كل الحقوق. ‏وكان تعداد الطبقة العاملة في ‏فرنسا يبلغ في السبعينات عشرة ملايين عامل، منهم ثلاثة ملايين عامل ‏مهاجر. وكان ‏الجزائريون من غير حملة الجنسية الفرنسية يشكِّلون أكثرية منهم. وفي العام 68 ناضل ‏هؤلاء ‏العمال للحصول على التساوي، وذلك بالرغم من أن السلطة واليمين كانا يحاولان تمزيق ‏وحدة ‏الطبقة العاملة في نضالها. فابتكروا، من أجل بلوغ هذا التمزيق، "مشكلة الهجرة" التي ‏تَذّرَّعوا ‏بها لممارسة تدابير قمعية.‏
واستمرت الأمور على هذه الحال حتى كان العام 1978، حيث أُقِرِّ قانون يَسمح للمهاجرين ‏ب/"لم شمل ‏الأسرة"، وذلك إيذانا بنهاية التمييز العنصري. إلا أن هذا القانون لم يُرفق بأية ‏تشريعات تسمح باندماجهم ‏السياسي والعائلي والثقافي، حتى انتهى بهم الأمر بأن يعيشوا على ‏الهامش كمية مُهْمَلَة. وعلى هذا ‏النحو، فإن "مشكلة الهجرة" مُوَظَّفَة بدقة في خدمة الإعلاء من ‏فرنسا رسمية ومشروعة، وأخرى ‏مَخْفيَّة، غير معترف بها وهامشية. لذا، فإن هذه "الأحياء" ‏و"الضواحي" "الصعبة" كما يقولون، ‏شَهِدَت ولادة تعبيرات ثقافية مثل تاغ، راب ‏وكليبسtag, rap, clips ‎، ولغة جديدة تنطق الكلمة ‏الفرنسية بالمقلوب، فيقولون ميف بدل ‏فام‎ meuf/ fem ‎، ويخترعون كلمات جديدة كأن يقولواkifer ‎‏ ‏بمعنى أَحَبَّ، وtafer‏ بمعنى ‏العمل وهي بالفرنسية ترافاي‎ Travail، ويُسَمُّون الشرطي كوف‎ keuf ‎‏ ‏بدل فليك ‏flic، ‏إلخ..إلخ. ‏
إن انفجار العام 2005 لم يكن له من هدف آخر سوى أن تُسْمِع الضاحية صوتها. فلقد أُحرقت ‏أربعين ألف ‏سيارة بدون أية خطة مرسومة مسبقا، فيما كانت اُحرقت 35 ألفا غيرها في العام ‏السابق. وفي العام ‏‏2005، وفي آخر ليلة لشهر رمضان توفي طفلان بالصدمة الكهربائية إثر ‏احتكاك بمحوِّل كهربائي حيث ‏كانا التجأ إليه خوفا من قوى الأمن التي كانت تتعقبهما. وأمام ‏هذا الحادث، فإن وزير الداخلية، نيكولا ‏ساركوزي، حينذاك، أعلن أنه سيزيح هؤلاء "الرعاع"، وأنه ‏‏"لن يبكي لموت مجرمين اثنين". وأمام ‏هذا التمرُّد الذي امتد من ضواحي باريس إلى فرنسا ‏بالكامل، دون أن يُخَلِّف موتى وضحايا، وحتى دون ‏أن يُوْقِع معارك، فإن إجراءات غير متكافئة ‏مع الوقائع اُقِرَّت من قِبَل الحكومة: منع التجول، تفتيش بدون ‏أمر قضائي في الليل والنهار، ‏تهديد الصحافة والمراسلات بالمراقبة، إلزام المحاكم بالإسراع في محاكمة ‏المتمردين، ‏وفُرِضت حالة الطوارئ في عدد من الأحياء والضواحي، وذلك بصورة مماثلة لتلك التي ‏كانت ‏فُرضَت في الجزائر في العام 1955، ولم تُفرَض أبدا في فرنسا. وإن مثيل هذه التدابير ‏لم يُعرف قط في ‏فرنسا، سواء في العام 1968 أو أثناء الإضراب العام للعام 1987. وأصدرت ‏المحاكم سبعمائة حكم ‏بالسجن بدون استئناف. وكان عمر 80 بالمائة من المحكومين يتراوح ‏ما بين 14 و18سنة، ويحملون ‏الجنسية الفرنسية، وليس لهم سوابق قضائية. وفي أثناء ذلك، ‏فإن وسائط الإعلام حرَّضت الرأي العام ‏ضد المسلمين، المسلمون الإرهابيون حكما ‏وبالضرورة، في ما كان الأيديولوجيُّون المناوبون في الخدمة ‏يُطلِقون العنان للدناءة المتمكِّنة ‏منهم، فقد كال  فينكيلكراوت ‏Alain ‎‏    ‏Finkielkrant‏‎ ‎التهم للسود، ‏في ما صَبَّت عضو ‏الأكاديمية الفرنسية للعلوم والفنون والآداب هيلين كارير دانكوز ‏Carrère ‎d’Encausse ‎‏ ‏Hélène ‎‏ غضبها على تعدد الزوجات... ‏
فماذا فعل اليسار؟ لقد التزم الصمت كما قلت قبل قليل، وإذا ما هو عَبَّر َعن قلقه فليكتفي بالدعوة ‏إلى ‏تدابير اجتماعية وأخرى قمعية بوليسية معا وعلى حد سواء. وكان عجزه عن فهم الحدث ‏يختلط مع ‏عجزه عن استيعاب انه مندمج عبر عشرات السنوات الماضية بالنظام القائم. لذا ‏تراه استرسل في ‏استخدام لازمة العنف. ووجَّه الانتقادات القاسية ل"الأطفال التائهين" الذين ‏دمَّروا وأحرقوا السيارات ‏والصالة الرياضية. ولما كان اليسار تخلَّى عن مسؤوليته السياسية، ‏وبوجه خاص في ما يتعلق بمهمته ‏التربوية ونشر الوعي بحالات الصراع وأنماطها، فإنه ترك ‏الساحة خاوية للأئمة المسلمين. فلنلاحظ أن ‏هذا الموقف له تاريخ، وهو ليس وليد اليوم. ‏فبالأمس كان اليسار متردِّدا أمام الحرب في الجزائر، وتبنى ‏مصطلح ‏‏"فَلاَّقَة" ‏‎ fellaghasلوصف المقاومين من أعضاء جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ‏وهذا ‏اليسار يلتزم اليوم موقفا مشابها لموقفه من تمرد الضواحي في ما يتعلق بالفلسطينيين ‏والانتحاريين ‏والمقاتلين المناهضين للإمبريالية في العراق. ‏
هذا على الصعيد الفرنسي. أما على الصعيد الدولي،‎ ‎‏ فإن "أزمة الضواحي" تكشف عن الوضع ‏الفرنسي ‏الذي أصبح بدوره عالميا، بما في ذلك مشكلة الهجرة التي لم تعد خصوصية فرنسية. ‏ويكفي أن ننظر إلى ‏الحركات المتعدِّدة التي تناهض الهيمنة الأمريكية، أو التي تدحض ‏الرأسمالية وما بلغت إليه من تطور في ‏مرحلة العولمة. هذه الحركات متنوعة وأحيانا متناقضة، ‏في ما المقاومة تظهر في كل مكان. هنا حكومة ‏تقدمية في أمريكا اللاتينية، وهناك دور الأمم ‏الناهضة، بالإضافة إلى المنافسة ما بين القوى الإمبريالية ‏نفسها، فضلا عن الحركات ‏المناهضة للأسلحة النووية، وحركات العولمة الأخرى والدفاع عن البيئة وضد ‏استخدام الطاقة ‏النووية، ومن أجل ترجيح الطاقات البديلة، ناهيك والمنتديات الاجتماعية بدءاً ببورتو ‏أليغري. ‏وهذا كله يحملني على القول إن الإصابة التي لحقت بالعولمة والإمبريالية مزدوجة ‏وبجرحين ‏اثنين. أحدهما فوق الأراضي الأمريكية نفسها حسب ما يتبيَّن من كارثة نيو أورليانس ‏التي ‏تكشف عن عنصرية السلطة وتقصيرها، وثانيهما فوق أراضي الغير حسب ما يتكشف عن ‏الفشل  ‏الذي  منيت  به  الولايات  المتحدة  في  كل  من أفغانستان  والعراق. ‏
‏3/   وإلى ذلك، فإنك تبرر العنف التحرري والثورة.‏
‏*** على الصعيد النظري، فإن نظرية العنف عند إنجلز تصطدم بحدودها الضيقة طالما تحظى ‏الظاهرة ‏الاقتصادية بأولوية ذات طبيعة ميكانيكية من جهة، وتنفي غيرها من الأولويات من ‏جهة ثانية. وعلى ‏الصعيد النظري، فإن موضوعات الماركسية ما تزال هي البوصلة التي ترسم ‏الطريق إلى مناهضة كل ‏أشكال الاستغلال، وتكشف عن شروط الثورة وانهيار الأنظمة ‏المنحرفة، وامتداد حالات من صراع العمال ‏واتساعها باتجاه يشمل كل المسيطَر عليهم، وتبيِّن ‏أيضا حيوية علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تنجح في ‏تخطِّي الأزمات وتحكم على مناهضيها ‏بالعجز أو بالاستسلام لها. إن موضوعات الماركسية ترشدنا إلى ‏وعي ظاهرة التبعية الطوعية ‏التي تسود في بلداننا. ‏
وعلى صعيد الممارسة السياسية، فإن من الضروري تفكيك الخطاب الأمني ومعه خطاب ‏الإرهاب الذي يمد ‏الخطاب الأمني بالمبرِّرات. وإن منظمة الأمم المتحدة، على غرار الولايات ‏المتحدة الأمريكية، لا تعرِّفان ‏عن قصد وتصميم ما يسمونه الإرهاب. وهو الأمر الذي ينطوي ‏على معانٍ ومدلولات. ‏
إن رفض "اليسار" للعنف يعني أنه يوافق على إسدال قناع على عنف الدول والقوى ‏الاقتصادية، وهو ‏يمحوه ويتجاهل بذلك وفي الوقت نفسه أشد أنواع العنف قسوة، ألا وهو ‏علاقات الإنتاج الرأسمالية التي ‏تحرِّض على أنماط من العنف الثائر وتنتجه. وهذه العلاقات ‏الإنتاجية العنيفة للرأسمالية هي التي تبرِّر  ‏العنف الثائر، أيا  كان  ومن  أي مصدر  أتى.‏
وعلى هذا الصعيد، فإنه لا بد من تشييد أممية جديدة هي الآن في حال من الكمون تحت حالات ‏من ‏المقاومة المبعثرة، لتكون أداة في خدمة المعالم الجديدة لصراع الطبقات المعولم. وبتعبير ‏آخر، فإنه لا بد ‏من أن يُمنَحَ العنف وظيفته التحرُّرية، وأن يستعيد مفهوم الثورة بصره النفاذ  وبعيد المدى.   ‏
إن كل مَخرَج من حالة أو وضع معاش، من حيث هو حالة عنف لا تطاق ولا تُحتَمَل وتبحث ‏لنفسها عن ‏مخرج، هو المعادل الموضوعي لعلاقات قوى ماثلة في الحاضر، أو للصراع الطبقي. ‏فإذا كان التمرد لا ‏يأخذ طريقه إلى الثورة، فإنه لن يلبث أن يُتلف ويتحوَّل إلى حالات من الشغب ‏التي تشتعل هناك وهناك ‏مبعثرة وعفوية وجزئية. ولن تلبث حالات الشغب هذه أن تٌقمع، فتفقد ‏الحركة مصداقيتها. وإن المسيطَر ‏عليهم ليس بوسعهم أبدا أن يعوِّلوا الآمال على اللجوء إلى ‏العنف طالما هم لو خُيِّروا لما اختاروا إلا العمل ‏السلمي. لكن عولمة العنف المفروضة من ‏الطبقات السائدة فَرَضَت بدورها، كرد هجومي مفروض ‏وبالمقابل،‎ ‎عنف الطبقات المسحوقة. ‏
وثمة تناقض يعيشه المثقفون. إن كثرة منهم مفكِّرون في خدمة السلطة، أو فلاسفة يحملون ‏السلطة، ‏وهم محبوسون في ذواتهم، وعاجزون لأنهم يرفضون أن يَستخلصوا نتائج ما كانوا ‏توصلوا إليه من ‏نتائج بفضل التحليل. إنهم يزيِّفون ممارساتهم في خطابات مثالية أو خدّاعة. ‏إنهم يروِّجون لمثل الخير ‏والحق والسلام. وينضم إليهم نظراؤهم الإعلاميون، ليسخِّروا أنفسهم ‏أُجراء مرتشين أو معتوهين في ‏خدمة نظام للترسيخ، يجعل من اليقطين سيارات فاخرة، ومن ‏المجرمين أناس أفاضل. ومما لاشك فيه أن ‏المثقف لا يستطيع تغيير العالم، وهو لا يستطيع ‏بوجه خاص تغيره على انفراد عن غيره، إلا أنه يستطيع ‏أن يسهم في الحيلولة دون أن تنزلق ‏مجتمعاتنا من البلادة إلى الغيبوبة السياسية الكاملة. إن مهمتهم هي ‏أن يعثروا مجددا لأنفسهم ‏على الطريق إلى الوضوح والشجاعة التي كان سابقوهم الأكثر هيبة ونفوذا ‏يتحمَّلونها: أن ‏يكرِّسوا حياتهم من أجل زرع الأمل وأن يَدْعوا إلى الإرادة التحرُّرية. ‏
 
‏                       ســـابـعــا - الشــيوعـيون مدعــوون إلى دعم الحركات    ‏
‏                                   الثوريـة فـي كــل مــكـان
 
‏1/  ما الذي حملك على تكريس هذا العمل المطوَّل والمعمَّق حول العنف في مؤلفك الذي يحمل ‏عنوان ‏‏"نظرية العنف"؟‏
‏***  أسباب كثيرة إلا أني أذكر منها الآن سببين اثنين. الأول يعود إلى أنني وعيت منذ سن ‏مبكِّرة بأنني ‏ابن القرن العشرين، أي القرن الذي شهِد مَقتل ملايين الناس، وهو بلا شك أكثر ‏القرون دموية في ‏التاريخ، حيث الحروب بصورة مستديمة ومتنوعة، من عالمية ومحلية ‏وإمبريالية وكولونيالية، بالإضافة ‏إلى ما كان يرافق القرن من حروب الإبادة. إن القرن ‏العشرين انتقل بنا من حرفة العنف إلى الصناعة ‏المبرمجة للعنف. فتقدُّم العلوم والتقنيات ‏والديمقراطية عبّر عن نفسه عبر عشرات ملايين الموتى. وإني ‏ما زلت أذكر الجثث ‏المسحوقة تحت القنابل أثناء الحرب العالمية الثانية، وألوف المشوَّهين، ومعسكرات ‏الموت، ‏وذلك كله على أرضية من مدن مُدَمَّرة. هيروشيما رمز الحضارة. وحرب التحرير الجزائرية ‏حيث ‏كان المظلِّيُون يرمون بقرى بكاملها في الآبار. وتبعتها حرب فيِّتنام، وما رافقها من نابالم ‏عبقري. من هذه ‏الأحداث التاريخية تأتي التزاماتي النضالية. والسبب الثاني يعود - ولالتزاماتي ‏النضالية صلة وثيقة ‏بالموضوع – إلى تخصًّصي مهنيا بالفلسفة السياسية التي وَضَعَتني في ‏صميم التفكير بالعنف الثوري. ‏وكنت كتبتُ عددا من المقالات والدراسات والكتب حول ‏شخصيات ترمز إلى أوضاع متأزِّمة، منها ‏روبسبيير وماركس وإنجلز ولينين وفانون.‏
‏2/  هل يعود اهتمامك الشديد بنظرية العنف إلى فرانس فانون بوجه خاص؟ وهل عرفتَه شخصيا ‏أثناء ‏إقامتك لمدة طويلة في الجزائر؟ وهل أنت مدين لفانون بهذا الاهتمام؟
‏***  لقد قرأت شأني شأن أعداد ضخمة من الناس، وباهتمام بالغ "معذبو الأرض" لفانون. ‏وأنا لم ‏أتعرَّف عليه شخصيا، إلا أني كنت المبادر إلى توجيه تحية تقدير إليه في الذكرى الأولى ‏لوفاته على ‏صفحات "المجاهد"، لسان حال جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ويعود اهتمامي ‏بمسألة العنف إلى ‏مصادر أخرى، منها وعيي بالانتماء إلى القرن العشرين، قرن الدماء ‏والموت الذي حصد الملايين، ‏بحروبه الإمبريالية والكولونيالية، في الجزائر وفيتنام؛ هذا ‏الوعي الذي قادني في مقتبل شبابي إلى ‏الالتزام بالنضال. ‏
‏3/   أرجو منك أن تعود مجدَّدا وقبل أن تختتم هذه المقابلة المطولة إلى تبيان الأسباب التي من ‏أجلها ‏يفتقد العنف برأيك إلى مفهوم ذي حدود قاطعة وتعريف واضح. عساك تضيف بعض ‏التوضيح في هذا ‏الشأن.‏
‏***  إني أَستند إلى ما أُلاحظه من أشكال العنف وتعبيراته. فلائحة أعمال العنف لا تنتهي كما ‏لاحظتُ في ‏بداية الحديث. من باحة المدرسة إلى مآسي الحياة الزوجية، من حالات العصاب ‏العائلية إلى المنتجات من ‏الحبوب الزراعية التي تخَضَع لجنة العضوية المعدَّلة، من التعذيب ‏والتنكيد الأخلاقي إلى التعذيب ‏والاغتيالات التي تجد لها تسويات قانونية حسب الأصول، ومن ‏حوادث العمل أو الطرق إلى حالات ‏الانتحار والتضحيات البطولية...ثم الإنتاج الأدبي، والسينما، ‏والتلفزيون، والتحقيقات المصوَّرَة، إن ذلك ‏كله مَعْلوف بالعنف ويعلفنا به. وإن أقسى حالات ‏العنف تُمتَهَن سواء أكانت فيزيائية أم  نفسانية  أم  ‏أخلاقية  أم  مجتمعية،  وهي مصدر  ‏لأنماط  جديدة  من  العلاج  في  علم العدوان  والضحايا. ‏
إذا استعرنا من أرسطو لغته، فإننا نقول إن لظاهرة العنف مفهوما ضعيفا أو شبه معدوم، إلا أن ‏امتداداته ‏مع ذلك لا متناهية. إن الفلسفة تجد صعوبة شاقة إذا ما هي أرادت أن تضع يدها ‏لتمسك بموضوع العنف. ‏فلقد اصطدم كل الذين حاولوا إعطاء تعريف للعنف بهذه الصعوبة. ثم ‏إن العنف من حيث هو عنف لم ‏يصبح موضوعا للبحث والدراسة والتفكير إلا منذ فترة قريبة ‏نسبيا يعود تاريخها إلى الستين أو السبعين ‏سنة الماضية، وذلك على خلفية قرننا العشرين. ولم ‏ينج المؤَرِّخون من هذه الصعوبة، فتراهم اعترفوا ‏بأن "المذبحة" موضوع تاريخي حسب ما ‏جاء في عنوان لكتاب صدر حديثا يؤرِّخ لظاهرة المذبحة. ‏
 
‏4/   في مؤلَّفك "نظرية العنف" تستعرض عددا كبيرا من أشكال العنف منذ شخصية النبي أيوب ‏‏في ‏العهد القديم: "العادل المظلوم عن غير وجه حق"، إلى التراجيديا اليونانية ‏وشكسبير، وصولا إلى الوقت ‏الراهن. لماذا هذا الاستعراض لظاهرة العنف عبر التاريخ؟ ‏
‏***  أنا أيضا أبحث عن تعريف للعنف، أو تعريف مناسب إلى حد ما، أو نماذج عن العنف ‏وقواسم ‏مشتركة. والنبي أيُّوب إحداها. والنظريات التي ترفض العنف سواء أكانت دينية أم ‏فلسفية أم قانونية هي ‏بعضها الآخر. وقد حاولتُ أن أُبيِّن مرتكزات هذه النماذج وحدودها. ‏
‏5-  وقد فَنَّدت كما بيَّنت قبل قليل نظرية اللاعنف.‏
‏***  إنها بلا شك مغرية، إلا أنها فشلت ولن تكون غير ذلك. وتَحمل لاهوتية التحرر دليلا ‏يمحضها. وما ‏يثير الدهشة أن نظرية اللاعنف تجد اليوم أنصارا لها. بيد أن نظرية ماكس ويبر ‏Max Weber‏ حول ‏احتكار ممارسة العنف من قِبَل الدولة وحدها كمجال تحتفظ به لنفسها، هي ‏اليوم وأكثر من أي يوم مضى ‏تُعَبِّر ببلاغة عن حقيقة الواقع. والدولة من حيث أصلها ‏وممارساتها ومنتجاتها ومؤسَّساتها عنفٌ. فكل ‏عنف محظور إلا ما جاء من الدولة، سواء أكان ‏الأمر يتعلق بالشرطي الذي يَصفع راكب الدراجة النارية، ‏أم الانتحاري الفلسطيني. وَتَجد كل ‏هذه الحالات على اختلافها تعزيزا لها بالإسمنت المسلّح من جراء فشل ‏بلدان "الاشتراكية ‏الواقعية"، والحروب الإمبريالية الواسعة، والرقابة على الرأي العام، بفضل عملية ‏الترسيخ ‏التي يمارسها الإعلام، والحظر على الحريات، والأكاذيب، ولنتذكر العدوان على العراق.‏
‏6/  هل ثمة مجال للتمييز بين عنف دفاعي وآخر هجومي؟
‏***  نعم. إن الموقف السلمي اليوم ليس موقفا متلائما مع الواقع طالما أن العدوان الإمبريالي ‏هو واقعنا ‏الراهن، وهو عدوان عسكري واقتصادي ومجتمعي وسياسي وثقافي. فإذا كان ‏الموقف السلمي هو ‏المطلوب أخلاقيا بدون أية مساومات، إلا أن الوقائع والأحداث تبيِّن أن لا ‏مناص من رد الاعتبار للعنف في ‏مواجهة المِحدلة الإمبريالية. ‏
نعم. إننا اليوم، كما قلت سالفا، أمام انقلاب لصيغة كلاوفيتس الشهيرة والتي تقول إن الحرب ‏امتداد ‏للسياسة بوسائل أخرى، طالما أن السياسة هي التي أصبحت اليوم امتدادا للحرب. ‏فالإمبريالية الأمريكية ‏التي تسيطر على سواها من الإمبرياليات بالرغم من التناقضات في ما ‏بينها، تعيش، من الناحية الوظيفية ‏وفي أدائها، بفضل النزاعات المسلَّحة والقمع. والحال، أن ‏الحرب عسكرية، واقتصادية (الليبرالية)، ‏وسياسية (تصدير الديمقراطية). وإن العنف الأخرس ‏كما كان يقول ماركس للعلاقات المجتمعية الرأسمالية ‏أشد قسوة من العنف المرئي الدامي. ‏فصندوق النقد الدولي، بين غيره من مؤسَّسات "الحكومة ‏العالمية" أو مجموعات متعددة ‏الجنسيات، كموسانتو، وإيلف، ونستلة، هي جمعيات للصوص، ومسؤولة ‏عن ملايين الضحايا. ‏وما الفقر في أمريكا اللاتينية سوى أشد أشكال العنف. ‏
‏7/  يتساءل كثر من الناس: أي خطيئة ارتَكَبَت السيارات والمدارس ودور الحضانة كي ما ‏تُحرق في ‏فرنسا؟
‏***  لقد ساهمتُ مع أصدقاء لي في نشر كراس تحت عنوان "تصفية الاستعمار أُجهِضَت"، ‏أوضَّحنا ‏فيه أن "ثورة أبناء الأزِّقة" هي مظهر بليغ المعنى يُعَبِّر بصدق عن الوضع الراهن في ‏فرنسا، من حيث ‏علاقته بالإرث الكولونيالي. إن الشبَّان في هذه الأزقة، وهم فرنسيون من أصل ‏مغاربي، مدانون ‏ومحرومون – كما قلت قبل قليل – من التعليم والنسيج المجتمعي والتعبير ‏والعمل. والمشكلة هي أن ‏اليسار في فرنسا لم يُدرِك ما تحمله ثورة الشبَّان من أهمية. بل وإن ‏هذا اليسار اكتفى بإسداء النصائح ‏ناهيا الشبان عن إحراق السيارات والمدارس. ثم ردّت ‏السلطات كما أسلفت بتدابير قمعية وقانونية هي ‏بمثابة حالة إعلان حرب على المتمرِّدين. ‏والواقع إن هذا التدمير وهذا الإحراق يُمَثِّل الوسيلة الوحيدة ‏للاحتجاج والتظاهر ضد وضع غير ‏مُحتَمَل. وإن الدرس المُستَنتَج من هذه الأحداث يُعلِّمنا أن اليسار قد ‏اندمج في النظام السائد. ‏
‏8/   ولماذا لم يظهر عنف من النمط نفسه في بلدان أوروبية غير فرنسا بالرغم من أنها تَعرِف ‏مثل هذه ‏الأخيرة الاستغلال الرأسمالي؟
‏***  إن كل حالة في وطن ما تَحمل معها موازين قوى، وبالأحرى ما وصل إليه الصراع الطبقي  ‏من ‏صيرورة في توقيت محدَّد. هذا من جهة. وثمة، من جهة ثانية، حالة شائعة اسمها - على ‏غرار ما كان ‏يقول إتيين دولابوييسيEtienne de la Boetie ‎‏ في القرن السادس عشر-‏‎ ‎‏"الانصياع الطوعي" الذي ‏يَستند إلى مبدأين اثنين من مبادىء الإيديولوجية السائدة. الأول ‏يقول بالقدرية. فقد نَجَحَت الطبقة ‏المسَيطِرة في نشر يقين مفاده أن الأوضاع، وفي المقام الأول ‏الاقتصادية منها، هي بالضرورة على ما ‏هي عليه، وأنها غير قابلة للتغيير.  والثاني يُسمِّى ‏‏"خطاب الإرهاب"، وهو وثيق الصلة بما جرى في 11 ‏أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات ‏المتحدة. فعندما نتساءل مَن المستفيد من الجريمة، فإن الطبقات ‏المسيطرة هي المستفيدة، ‏طالما أن الحكومات الأوروبية سارعت، كما قلت أعلاه، ما بعد صدمة البرجين ‏الاثنين، إلى سن ‏تشريعات قمعية مماثلة لتلك التي تعتمدها الولايات المتحدة في ما يُعرف ب"باتريوت ‏أكت"‏‎ ‎Patriot Act، والتي تتشدَّد قانونيا في مكافحة الإرهاب. إلا أن "مكافحة الإرهاب" ليس ‏معناها ‏أن التشدد يأتي ضد إرهاب "الإرهابيين"، وإنما تراه يأتي ضد الاحتجاجات كلها على ‏النظام القائم، ومنها ‏المطالب الاجتماعية، والرقابة على حرية التعبير، والمراقبة بأجهزة ‏التصوير والوسائل الإلكترونية، فضلا ‏عن الشرطة، إلخ.. ‏
ولا بد من الإشارة من جهة أخرى إلى أن المنظمات اليسارية، من نقابات وأحزاب، قد تخلَّت ‏بصورة كاملة ‏عن الموقف الطبقي حيال السلطة والبورجوازية. لذا، فإن الحالة السائدة اليوم ‏تُسَمَّى "الخضوع ‏الطوعي". ‏
‏9/  أنت إذن تبرِّر أعمال الانتحاريين الفلسطينيين.‏
‏***  أنا بخلاف اليسار الذي يدين حتى من حيث المبدأ الانتحاريين الفلسطينيين أعتقد من ‏جهتي أن ‏الانتحار هو الإمكانية الوحيدة للاحتجاج على الاحتلال الإسرائيلي. ففي مواجهة ‏تقنيات سلطات الاحتلال، ‏من سيارات مصفَّحة ومدرَّعات، وطائرات هجومية، وحصار، وجدار ‏العار، ومصادرة الأراضي، وحظر ‏التجول والتنقل، وبناء المستعمرات، وتهجير السكان، ‏والاغتيالات المُختارة، والاعتقالات التعسفية بما في ‏ذلك اعتقال الأطفال، ناهيكم والتقنيات ‏المتطورة للحرب الإلكترونية، فضلا عن التواطؤ النشط للأسرة ‏الدولية كلها تقريبا.. في مواجهة ‏ذلك كله لا يملك الفلسطينيون تقنية أخرى غير أجسادهم. ‏
 
‏10/  هل تحوز المقاومة العراقية في ممارستها للعنف على مبرِّرات أقوى أم أضعف من عنف ‏الشبان ‏الذي يلقون بالحجارة في صدامهم مع قوى القمع، أو من تحطيم أنصار البيئة لمطاعم ‏ماكدونال؟ ‏
‏***  إن الظاهرة واحدة وإن كانت تأخذ أشكالا تقل أو تزيد عنفا. ففي العراق تتميِّز مقاومة ‏الاحتلال ‏الأمريكي بأنها ردود هجومية ضد العدوان، وهي في غاية التنوُّع. إذ ثمة حركات ‏للمقاومة العضوية، ‏وهي متأتية من القوى السياسية التاريخية في العراق، من الحزب الحاكم ‏سابقا، والشيوعيين، ‏والاشتراكيين، وبعض القطاعات المسلمة. إلا أن هذه الأخيرة عرضة ‏للتشويش والاضطراب تحت تأثير ‏أنماط يصح فيها اسم إرهابية بكل معنى الكلمة لأنها لعبة بيد ‏السلطة والغزاة. وهذه الأخيرة ترتكب ‏اعتداءات كثيرة، ثم تُحَمَل المقاومة العضوية المسؤولية ‏عن اعتداءاتها. ومن الصعوبة بمكان أن نَفهم ‏الوضع الخطير للغاية وفائق التعقيد وذي ‏التناقضات الكثيرة للعراق اليوم. ‏
وهل اليسار الأوروبي يدافع عن المقاومة العراقية، لكنه ينتقد الشبان الأسبان والفرنسيين الذين ‏يلقون ‏بالحجارة على قوات القمع أو يحطمون مطاعم مكدونال؟ إن قلة قليلة من اليسار ‏الأوروبي هي التي تدافع ‏عن المقاومة العراقية. وإن التضامن الحقيقي معها مفقود تقريبا. ‏وعندما تظهر مواقف متعاطفة معها، ‏فإنها لفظية ومختصرة طالما أنها تتجنَّب الإخلال ‏ب"خطاب الإرهاب" الذي فَرَضَ عليها ورَوَّضَ أفكارها. ‏
‏//  وفضلا عن ذلك، فإن هذا اليسار الذي يدين الشبَّان الذين يلقون بالحجارة تراه يدين أيضا أنصار ‏البيئة ‏الذين يهاجمون مطاعم مكدونال، بالرغم من أن هذه المبادرات ضد رموز نموذجية ‏لليانكي محبَّبة إلى ‏النفس ولطيفة. إن موقف اليسار الفرنسي من المقاومة العراقية هو نفسه ‏موقفه من الأزقة الفرنسية. لأن ‏هذا اليسار يهرب من النضال في هاتين الحالتين، ولا يريد ‏التورط لأنه خائف، وهو شديد الخوف. ‏
‏11/  يسود اعتقاد اليوم تحت تأثير أيديولوجية الطبقة المسيطرة ما بعد 11 سبتمبر مؤداه أن ‏أسلوب ‏عمل القوات المسلَّحة الثورية الكولومبية ومنظمة إيتا الباسكية غير مقبول. ما رأيك؟ ‏
‏***  ثمة اختلاف كبير بين منظمة "إيتا" وبين "القوات المسلحة الثورية الكولومبية". ‏ولما كنتُ لا ‏أعرف عن كثب وبصورة كافية التاريخ الحديث لمنظمة إيتا، فإني أكتفي هنا ‏بالحديث عن انطباعاتي. وإذا ‏كنت أمتنع عن توجيه أية إدانة لشرعية نضال الباسكيين من أجل ‏القطيعة مع الدولة الأسبانية وتشكيل ‏حكومة مستقلة، فإنه يبدو لي أن أعمال العنف تجد نفسها ‏معزولة إلى حد كبير عن الجماهير، وإني ‏أتساءل ما إذا كان الاستقلال الذاتي المنتزع بالقوة لن ‏ينطفئ بالطريقة نفسها. وإني أُقول ذلك كله بتحفظ.‏
‏وأما في ما يتعلق  ب/"القوات المسلحة الثورية الكولومبية"،  فإني على يقين كامل بأن اللجوء ‏إلى ‏السلاح في هذه الحالة، وبتعبير أصح اللجوء إلى العنف الثوري، يستجيب للضرورة، وهذه ‏الضرورة ‏نتيجة من نتائج علاقات القوى. فا/"لقوات المسلحة الثورية الكولومبية" لا تواجه ‏الحكومة القمعية ‏الكولومبية فقط، وإنما الإمبريالية الأمريكية التي تريد السيطرة على كولومبيا ‏لنهب ثرواتها، وحيازة ‏موقع متحكم بأعلى درجة بهذه المنطقة من أمريكا اللاتينية. إن أعضاء "‏القوات الثورية المسلحة ‏الكولومبية" يناضلون في ظروف صعبة للغاية ومشابهة لتلك التي ‏كانت حركة المقاومة السرية ضد ‏النازية عرفتها. ولنلاحظ مرة أخرى إلى أي مدى من التحفظ ‏يمضي اليسار الفرنسي والأوروبي في ‏تضامنه مع "القوات الثورية المسلحة الكولومبية". إن هذا ‏اليسار يؤثر البكاء مع بورجوازيته من أجل ‏‏"الرهائن" البورجوازيين مثلهم وبامتياز. ‏
‏12/  وهل ثمة ما يبرِّر العنف الهجومي في بلدان ليست موضعا للغزو الأجنبي المباشر ‏ككولومبيا ‏والمكسيك والفليبين؟ أم أن العنف في مثل هذه الحالة يجب أن يكون دفاعيا فقط؟ ‏
‏***  إن العنف ضرورة لا مفر منها، وإن كان التحليل في مثل هذه الحالات دقيق للغاية. ثمة ‏عدوان ‏إمبريالي على الصعيد العالمي، وفي كل بلد.. عدوان في منتهى الوحشية والفظاظة، ولا ‏مثيل له في ‏التاريخ. لذا، فإن الرد الهجومي لا بد أن يكون بدوره فظاً ووحشياً مقابل العنف ‏السائد في بلدان تزعم أنها ‏ديمقراطية، كالمكسيك، وكولومبيا، إلخ.  ‏
‏13/   العنف يكون ثوريا عندما تتوفر إمكانية للاستيلاء على السلطة، كما هو الحال في ‏كولومبيا. أليس ‏كذلك؟
‏***  كلا. بالرغم من أن الإمبريالية وحشية وفظة في جميع أنحاء العالم، وهي تهدِّد كوكبنا ‏بالدمار، ‏وتَقمع كل حركة احتجاج، عمَّالية كانت أم شبابية، فإن مسألة العنف الثوري قد سَقَطَت ‏من الاهتمامات ‏وبرامج أحزاب اليسار تحت تأثير شعور بالذنب نتيجةً لسقوط حائط برلين. إلا ‏أن مسألة العنف تعود ‏مجدَّدا لتحتل حيزا مركزيا في أحداث الساعة، لأن الإمبريالية تَفرض علينا ‏اللجوء إلى العنف للنضال ضد ‏عدوانها وتهديدها. والأمر في غاية الخطورة لأن الشعوب ‏والمضطَهَدين ومن يسمُّون في أمريكا اللاتينية  ‏‏" الصامتين"، عندما يلجأ هؤلاء إلى العنف ‏فإنهم لا يفعلون ذلك عن خيار. فالمُضطَهَدون لا يختارون ‏العنف أبدا. إنهم يَعرفون حق المعرفة ‏كما أَسلفتُ قبل قليل، ومن التجربة عبر التاريخ، أنهم هم الذين ‏يَدفعون الثمن غاليا في كل نزاع ‏عنيف. وبالرغم من ذلك، فإن اللجوء إلى العنف حالة مفروضة مِن قِبَل ‏الطبقة المُسَيطِرَة على ‏المُسَيطَر عليهم من جراء عنفها هي، بما في ذلك ما كان يبدو من عنفها بأنه ‏سلمي بدون دماء، ‏كما هو الحال في المصانع حيث أشكال متنوعة من استغلال العمل. ‏
‏14/ سأجازف وأقول إن اليسار اليوم يعتقد أن فرص الحياة أمام النضال المسلح غير متوفِّرة، ‏وأن ‏الانتخابات حلَّت محل النضال المسلَّح. وفيدل كاسترو يذهب في هذا المنحى في مقابلة ‏صحفية له مع ‏رئيس تحرير الصحيفة الشهرية لوموند دييلوماتيك إغناسيو رامونه. ‏
‏***  مع احترامي لكويا ولفيدل أنا أختلف مع هذا الرأي. فالتخلي عن النضال المسلَّح لا ‏يستجيب بصورة ‏ملائمة للوضع الراهن. وثمة حالات في الواقع الراهن هي من الخطورة ‏بمكان، كما هو حال نيجيريا على ‏سبيل المثال، حتى أن الرد الهجومي بدون عنف لا معنى له. ‏إن العنف حالة مفروضة في العالم أجمع، لأن ‏التهديد في الوقت الراهن مُوَجَّه للشعوب، ‏وللمُضطَهَدين بصورة عامة، وللطبيعة. فإذا كنا لا نستطيع أن ‏نتحرِّك في مواجهة هذا التهديد، ‏فإن ذلك يكشف عن انقسام كامل بين القوى المُنتِجَة وقوى اليسار. ‏وبدون استلام السلطة يمتنع ‏التغيير المجتمعي والانتقال إلى البديل امتناعا تاما. وهذا التغيير لا خلط فيه ‏مع المسارات ‏الانتخابية، تلك المسارات التي تقع تحت تزييف البورجوازية ولصالحها. والسلطة لا تسقط ‏أبدا ‏كالإجاصة الناضجة. والوضع اليوم أكثر خطورة مما كان عليه بالأمس، وباتيستا في كوبا لم ‏يسقط ‏بالطرق السلمية.  ‏
 
‏15/  لذا، فإنك ترد الاعتبار للعنف الثوري.‏
‏***  نعم، إن الكبت أو السكوت المفروض على حظر كل عنف باستثناء عنف السلطة، والذي ‏يزيد من ‏وطأته أن "أحزاب اليسار" لا تعتزم أية ثورة، يَفرض بدوره على مجتمعاتنا حالة من ‏الانصياع الطوعي. ‏وإن التدابير الأمريكية التي أعقبت عمليات 11 سبتمبر 2001 وَجَدت ‏أنصارا لها في جميع تشريعات ‏العالم، بما في ذلك أقلَّها ديمقراطية، وذلك باسم "مكافحة ‏الإرهاب" التي نُصِّبَت بوصفها الإيديولوجية ‏السائدة. واستنادا إلى ذلك تُعطي الحكومات لنفسها ‏الحق بقمع أقل أشكال التظاهر الاحتجاجي وسلب ‏الحقوق المجتمعية المُكتَسَبة.‏
إن التضامن مع حالات من النضال المناهض للأنظمة، ومنها في المقام الأول نضال الشعوب في ‏المواقع ‏المتقدِّمة من المعركة، الفلسطينيون والعراقيون، والتضامن مع أولئك الذين يريدون ‏بقوة التحرًّر من ‏النفوذ الأمريكي، والحركات الاجتماعية المعبأة في كل البلدان لمناهضة ‏الاستغلال، إن هذا التضامن شرط ‏ضروري للعثور مجدَّدا على طريق الأمل بتشييد عالم من نمط ‏آخر مختلف عن عالمنا بصورة جذرية. ‏وهو الأمر الذي يَفترض، ليس اللجوء إلى الدفاع عن ‏النفس، وإنما الاعتماد على العنف التحرُّري. وإننا ‏نعرف ما الذي يُلْزِم باللجوء إلى العنف، وإن ‏كنا نجهل دوما ما إذا كنا نختار حقا. فأمام العنف في حالة ‏العولمة يجد المُسَيطَر عليهم أنفسهم ‏مُلْزَمين بأن يردُّوا بالعنف الذي يحمل إليهم الحرية. وكانت الثورة في ‏شهر مايو 1968 مجرد ‏نوايا، وقد آن الأوان كي تصبح اليوم برنامجا.‏
ويسود شعور عام بأن العنف مرفوض بأي ثمن. ومع ذلك فإن تعبير العنف، كما قلت سالفا، ‏يفتقد إلى ‏معنىً. ذلك لأن للعنف أنماط لا حد لها. وكل عنف يندرج في سياقه، أو إن لكل عنف ‏وضعه، وهو يقاس ‏بمقياس هذا الوضع. والعنف المرفوض في عالمنا اليوم لأسباب إيديولوجية ‏هو بوجه التحديد العنف ‏الثوري. هذا النمط من العنف يشكِّل جواب المسيطَر عليهم والمَسُوْدِين ‏على ما يمارَس عليهم من عنف. ‏لقد أشبعونا خطابات عن الإرهاب، والأمن، حتى بات فعل ‏التدخين جريمة. والإجراءات التي تُعتَمَد لقمع ‏العنف لا نهاية لها. والحال أن هذه وتلك من ‏أنماط العنف هي – كما ردَّدت هنا مرات عديدة - نتاج لعلاقات ‏الإنتاج الرأسمالية، كلها على ‏اختلافها وبدون استثناء. والطبقة السائدة لا توفِّر جهدا في ممارستها للعنف ‏من أجل إخفاء ‏العنف غير المرئي، العنف بدون لكمات، العنف غير الدامي، هذا العنف المسجَّل في ‏علاقات ‏الإنتاج الرأسمالية. إن متوسط عمر المواطن في اليابان يصل إلى سبعين سنة، وفي أوروبا ‏ثمانين ‏سنة، ويتقلص في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ليهبط إلى ما بين 35 إلى 45 سنة. هذا هو ‏العنف على ‏حقيقته. إن الأهالي في أفريقيا مضطرة إلى بيع أعضاء حية من أجسامها إلى مخابر ‏أمريكية من أجل ‏إطعام عائلاتها.  هذا هو العنف كما يتجلَّى على حقيقته. وعندما ترفض منظمة ‏الأمم المتحدة أن تَنقُلَ إلى ‏حيز التنفيذ العقوبات التي كانت أقرَّتها ضد إسرائيل التي تُعْتَبَر دولة ‏فوق القانون، وهي تبيد الفلسطينيين ‏تحت أنظار العالم أجمع، والذي يقف متفرجا، هذا هو ‏العنف بعينه، وبدون تزيين. ‏
وتروج الإيديولوجية السائدة أن العنف مكروه بالقوة إلا ما كان منه مرتبطا بعلاقات الإنتاج ‏الرأسمالية. ‏لذا، فإن هذه الإيديولوجية تضع في مصاف واحد المُعْتَدي والمُعْتَدى عليه، وتراها ‏تتحدَّث عن لولب ‏العنف، والعنف الذي يَسْتَدرِج العنف. وما ذلك كله إلا من أجل إخفاء وتمويه ‏العنف الثوري. هذا العنف هو ‏الملاذ الوحيد الذي يتبقى في نهاية المطاف للمستَغَلِّين في العالم ‏أجمع. وليس لهم من ملجأ غيره. ‏والإيديولوجية السائدة لا توفِّر جهدا من أجل سحب هذه الأداة ‏من أيدي المستَغَلِّين المَسُودِيْن. ‏
 
‏16/   متى ينقلب العنف الشعبي إلى إرهاب، بافتراض أن مثل هذا الانقلاب ممكن الوقوع؟ ‏
‏***  إن المقاومة الشعبية لا تنقلب إلى إرهاب إلا عبر الدعاية الإمبريالية، دعاية المغتَصِبين ‏الذين ‏يصفون بالضرورة المقاومة الشعبية بالإرهاب كي ما يقمعونها. وما يَحْدُثُ أن بعض ‏أعمال المقاومة تبدو ‏وكأنها كما يقولون "إرهابا"، من جراء ما يرافقها من شعور ‏ب"الرعب" الذي يُسْنَد إلى روبسبيير ‏ورفاقه الذين أَعدموا خصومهم وحَملوا القنابل. إلا ‏أن هذه الأفعال إذا كانت "إرهابية"، كما يزعمون، إلا ‏أنها تنتمي للمقاومة، وهي تعبيرات سليمة. إذ ها هنا، ‏كما في غيرها من الحالات، إن الذين يُسْدُون ‏النصائح ليس هم أنفسهم الذين يسدِّدون الثمن. ‏وإن الوصية التي يسديها "البيان الشيوعي" ما تزال ‏سارية المفعول: "إن الشيوعيين ‏يَدعمون في كل البلدان الحركات الثورية ضد النظام المجتمعي ‏والسياسي القائم". ‏

‏                       ‏‎         ‎
 
 
 



#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأزمة في الماركسية وظيفة وأداة - حوار مع جورج لابيكا
- في تاريخ الماركسية - حوار مع جورج لابيكا
- الماركسية الثورية ليست هي نفسها الماركسية الأكاديمية - الفصل ...
- الماركسية هي الرد الوحيد لتغيير عالمنا اليوم - حوار مع جورج ...
- جورج لابيكا: نقد البراكسيس
- جورج لابيكأ، شخصيته السياسية والنظرية - مقدمة ثانية
- الفصل الأول - مقدمة رابعة جورج لابيكا: تغيير العالم بلا معلّ ...
- مقدِّمة :في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم - حوار مع جور ...
- لا واشنطن ولا موسكو، لا الرياض ولا طهران، حرب التحرير الشعبي ...
- يونان – حزب سيريزا: لمن تقرع الأجراس؟
- الأزمةُ الثورية منعطفٌ أعرج، مُعوجٌّ ومتعرِّج نحو اليسار، وث ...
- -برنامج الصراع الطبقي-، لسلامة كيلة
- الطبيعة المادية في أعمال يوسف عبدلكي
- ثورة الخامس عشر من آذار: مستقبل حزب الله: ضحية الاستبداد الش ...
- ثورة الخامس عشر من آذار:هزيمة الثورة المضادة رهنٌ بوحدة اليس ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: التآمرُ سياسةُ الثورة المضادة، حاكم ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليه ...
- اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية
- ميدانية القاهرة (ثورة في ثورة)
- ثورة الخامس عشر من آذار: الأزمة السياسية للثورة الشعبية مستم ...


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسان خالد شاتيلا - في اللاعنف، الإرهاب، المقاومة والعنف الثوري - حوار مع جورج لابيكا