أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 10















المزيد.....


تأملات فلسفية 10


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5081 - 2016 / 2 / 21 - 19:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن ما يغيب عنا أن هناك سمة نفسية خاصية لكل إنسان، تشكل عمقه، وتبين أبعاده، وتدفع به إلى سلوكيات معينة، واتجاهات محددة. وهذا مما لم أدركه عن طريق العلم الوضعي المادي، بل مع طول التجربة بين مدارات البؤس الفكري، والمعرفي، ومجالات الرداءة التي أفقدت العناوين الكبرى معناها، وجدواها، رأيت أناسا بين الديار، كانوا مجانا، وفساقا، وكانت في أخلاقهم وداعة، ولطافة، وبعد زمن من العراك السلبي مع واقع غائر في تأثيره، وأثره، انتقلوا من فصل دراسي إلى فصل آخر في جامعة الحياة المترعة بضروب شتى من المعرفة، ثم تغيرت الأفكار، وتبدلت الأحوال، ولكنهم لم ينحرفوا عن ميزان الاعتدال في الطبيعة، فكانت اللحظات متساوية من حيث الأثر النفسي الذي نحس به في كلا أمريهما، سواء في لحظة الكسوف، والسقوط، أو في اللحظة الثانية التي استكانت فيها الذات إلى السكينة، والطمأنينة. ورأيت أناسا كانوا لصوصا، ونشالين، وقطاع طريق، وأشباحا مخيفة، وكائنات متوحشة، وقد ضاقت بهم الأرض بعد عراك طويل مع الألم، والندم، ثم انتقلوا من فصل إلى آخر بين دور التهميش، والإقصاء، والاحتقان، فجلسوا على مدرج تلك الجامعة الأهلية التي لا يضبطها قانون الدراسة الأمثل، واستمعوا إلى أراجيف المزورين، والمزيفين، والدجالين، وكهان الحقيقة، ثم بكوا بما بلغ إلى أسماعهم من حكايات تهدم الأمل، وتخرب الذات، وتصنع الموت، وحينئذ أعلنوها توبة بالدماء، والقتل، والإرهاب. لأن الإنسان ومهما كان رديئا في طباعه، وسيئا في فعاله، ففيه وازع نحو الفضيلة، ورغبة أكيدة في الاستقامة، ولكنه تحتاج إلى من يقوي تلك الروافد، والدوافع، ويدفع بها إلى النظر السليم، والسلوك القويم، فإذا ظفر به في طريق بحثه عن ذاته المفقودة، أو في عاداته المنبوذة، لأنه لم يجدها فيما هو فيه، وهو غير مرتاح إليه، استكان، واستلان، وفوض أمره له، ووقَّف ذاته لخدمته. وذلك إما تكفيرا منه على ما مضى في عهد انحرافه، وهو ما يسميه في الغالب حماة ضريح الحقيقة بالجاهلية، وإما رغبة في ختم صفحات الحياة بشيء جميل في تصوره، وهديه، لأن نزوع الإنسان إلى خاتمة حياته بالأمور الجملية، هو ما يفرق بين سعينا وكدنا في الحياة الدنيوية، وإن كان لنا في هذا المعنى ملحظ آخر، إذ لا يجوز أن تتساوى رتب الأفعال عند الإنسان في سائر حياته، بل تتغير بتغير الظروف التي تحدث للإنسان، فيكون مقبول الأمس مرفوضا، ومحبوب اليوم مذموم الأمس، وهكذا دواليك. فالإنسان لا يأتي أفعاله إلا بوعي، وإدراك، وهو في كل مرتبة مسئول عنها، ومتابع بآثارها، وإلا، فإن سمة التكليف لا قيمة لها في كل مراحل التكليف البشري. ولذا، لا يجوز لنا أن نترك تقريع الذوات على ما هي فيه الآن، انتظارا لتلك اللحظة الأخيرة، ثم نتغير تبعا لما نتحول إليه، ولا إرادة لنا معه. ومن هنا، فكرت مليا في هذه القضية، وحاولت أن أعرف الأسباب التي تجعل الصنفين ينتقلان من ضفة دنيا في الاعتدال إلى ضفة عليا فيه، فتساءلت، لم تحول هؤلاء من نمط إلى نمط آخر في السلوك.؟ قد تختلف محدداته الفكرية التي تخلق الإرادة على الفعل، ولكنه متحد في عامله النفسي الذي يتضمن صيغ الوعي، والإدراك، والإحساس، لأن الانحراف في الاعتدال، أو التطرف عنه، لا يعني أن الإنسان قد فقد كل خصوصياته الخيرة في باطنه، بل يعني ذلك أن من وراء سلوك هذا الإنسان عوامل كثيرة، هي التي دفعته إلى تلك النظرة السوداوية المتشائمة لواقعه، فلم يجد في تعبيره عنها إلا ما رشحت به ذاته من أقوال، وأفعال. لكن ما هي هذه الأسباب.؟ وما هي نوعها.؟ إن الخوض في هذه الأسباب، لا يؤدي بنا إلى النتيجة التي نترجاها من هذه التأملات، لكن يكفينا أن نشير إلى من وراء كل انحراف أسباب معينة، وأن من وراء كل شخصية سمات نفسية خاصة، وإذا استطعنا أن نفهم ذلك عن طريقة إرادته الطاغية، فإننا نطيق أن نحدد مثله العليا التي يسعى إلى تحقيقها، وبلوغها. وهنا يلزمنا أن نبحث عن تلك السمات الكائنة في الإنسان، لكي نوجهه إلى ما يليق به من أوضاع في ذاته، وفي مجتمعه.

قد يبدو لنا هذا الأمر بسيطا، وسهلا، ولكنه في حقيقته مركب، وصعب، لأن الإنسان، ومهما تقربنا من دائرته، فإننا لا نقدر على اكتشافها إلا من خلال أقواله، وأفعاله، لكن ما خفي فيها من ضمائر يستجنها في باطنه، لا نطيق أن نتعرف عليها، ولو جعلنا دلالة الظاهر دليلا على كنه عمقه، بل ما نراه من حقائق عينية، ما هو إلا جزء بسيط من مركب معقد، وشيء يسير من مخزون يتسم بالعمق، والدقة. ومن هنا، قد يكون قوله في شيء تورية عن شيء آخر، لا نكتشفه من خلال اللغة التي تحمل معاني معينة، وكذلك فعله، وكل ذلك مما لا يجوز لنا أن نغفل عنه في تحليل الإنسان، وقراءة مخططاته، ورموزها، وألغازها. ولا أراني مجانفا للحقيقة إذا قلت: إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتقن فن صناعة الضمائر، والرموز، والإشارات، بل هو الفرد الوحيد الذي يستطيع أن يقول شيئا، وهو لا يعني مراده، وإنما يعتم به عن شيء آخر تعمية، وتورية، وهو القادر على تحويل أفعاله إلى إيحاءات مضببة، يستعمل فيها كل الحركات العقلية، والجسدية، لكي ترسل من خلالها رسائل تفهم منها معان كثيرة، ربما قد يكون تفسيرها أخفى مما تؤولها به من تفسيرات، وتأويلات. لأن الإنسان يطيق أن يرتكب هذه المجزرة في عقولنا، ما دام يتقن فن التوري والتخفي وراء معجمه النفسي، والروحي. فما ندركه فيه من معنى، هو ما تدل عليه أقواله، وأفعاله، لا تنطوي عليه أعماقه من معان لا تفصح عنها لغته، ولا تعرب عنها حركته. ومن ثم، فإن تفسير الإنسان في أفقنا المحدود، لا يتم إلا من خلال ما تعنيه تلك الأقوال والأفعال من معان في قاموس المجتمع، ومفاهيمه، أو ما توحي إليه في صيرورة السياق من دلالات تستبطن مجموعة من التأويلات التي يمكن لها أن نختار منها معنى واحدا، بناء على طريقة تفكيرنا في الأشياء، ومنطق فهمنا لحقائق التجربة البشرية، لأنها تمتعنا بفهم لبعض أغراض السلوك البشري، ولو لبس جبة الالتباس، والتناقض، والاضطراب. وربما قد يؤثر في تحليلنا له زعمنا، أو مزاجنا، أو غير ذلك مما يجوز له أن يطمئننا إلى معنى واحد فيما يتضمنه الكل، ولو كان خارجا عن طبيعة القضية، وحقيقتها. لأن مجال التأويل للأقوال والأفعال رحيب، وفسيح، ومساحته كبيرة، ومديدة. ولذا، يبقى هذا الإنسان غامضا في كثير من مناحيه، ولو مع توسلنا وتوسطنا إلى فهم حقيقته بوسائل ووسائط تعتمد على منطق العلم، والمعرفة، لاسيما إذا كانت حياته مؤسسة على مبادئ وقيم لا يقبلها نظر الآخر، ولا فكره، ولا واقعه. إذ يجوز للتحليل النفسي والاجتماعي أن يكتشف كنه الحقائق الكلية التي تختبئ وراء السلوك الإنساني، ولكنه لن يستطيع أن ينزِّل ذلك على جميع المصاديق الظاهرية، لأن تفسير السلوك البشري، سواء ما كان منطوقا، أو ما كان مفهوما بتفسير واحد، لا يمنحنا سعة لإدراك كل فرد بخصوصياته، وحقائقه. فالتفسير لكل ظاهرة على أن منشأها واحد، مما يصرفنا عن هذه الفردية التي يتميز بها الإنسان عن أخيه. لكن اعتماد وسيلة ما أنتجه العلم في مجال النفس، والمجتمع، قد يضع أيدينا على بعض الكليات التي نستعين بها في معرفة كيان هذا الجنس، وما يفتعل في داخله من اعتدال، وانحراف، وإن لم يطق ذلك أن يفسر لنا كل فرد على حدة، ويمنحنا شرحا وافرا وكاملا عن ذلك الإنسان، وماهية مخزونه، ومدركاته، وتصوراته، ومثله، وقيمه. وهكذا، فإن الاستغراب الذي يحدث لنا حين نحاول أن نشرح كل نفس في وضعها الخاص، يدفعنا إلى أن نقول: إن حقيقة الإنسان غامضة، ولو جاز لنا أن نستجلي بعضا من غرابتها في المعاشرة، والمشاجرة، أو فيما يجعل بعضا من أسراره يرشح بلا قيود تمنع من ظهورها. لأن كل واحد منا يفرز بعض ما كمن في الباطن عند الشعور بالأمن، وزوال مانع الخوف، وإن كان ذلك لا يمنعنا من أن نقول: إن كثيرا من الخفاء يكتنف الإنسان في أوضاعه المختلفة، ما دامت سياقات المجتمع تقف دون رغباته، ونزواته، وشهواته، أو مادام ذلك الباطن سيؤثر على حقيقة التمازج مع المجموع في نسق معين.

ولا غرابة إذا رأينا بعض الانحرافات رغم ضررها المحدود على الآخر، أخف ضررا من انحرافات أخرى، لها ضرر متعد إلى الإنسانية كلها. لأن المنحرف الذي يشعر بالذنب أفضل من المنحرف الذي يلبس فعله الجرمي ثوب المطلق. فالأول، ولو استعدى على الآخرين، ففيه نزوع إلى لحظة يتخلى فيها عن دناءته، لكي يتحلى بالخلال الفاضلة. والثاني على عكس ذلك، فهو وإن أسرف في الإجرام، فإنه لا يعود باللائمة على ذاته، بل يعزوها إلى غيره، سواء كان ذلك أسرته، أو مجتمعه، أو دولته بجميع أنظمتها، وهياكلها. ومن هنا، ترى كثيرا من المنحرفين المعتدلين يميلون إلى الجوانب الإنسانية في لحظات كثيرة من حياتهم، لأنهم يستشعرون فقدان الصلة بسائر الأنظمة التي تكون المجتمع، وتبني مثله، وأخلاقه، وسلوكه. ولا غرابة إذا كان الشعور بحماية الحي، أو القرية، أو القبيلة، أو غيرها، مما يفصح عند بعض المنحرفين عن مدى اتصالهم بنسق مجتمعي، وكأن المنحرف يكفر بذلك عن تلك الخطيئة المقلقة لذاته، أو كأنه يسعى إلى أن يوجد له محضنا فقده في حياته، أو كأنه يصالح المجتمع، ويظهر أنه في انحرافه، لم يخرج عن سياق الفضيلة التي اجتمع المجتمع حولها. ومن هنا، فإن قراءتي للماضي الذي تفجر فيه الانحراف بين دويراتنا البسيطة، وعودتي إلى نماذج كان لهم وقع الخوف في طفولتي، قد جعلتني أعثر على أنموذجين مختلفين، يعيشان بين حالين: الأول: أنهم آبوا إلى حياض الاعتدال في أوجه الحياة الهادئة، فصححوا هفوات وأخطاء الماضي بما حقق لهم التوازن في واقع ذواتهم، وشخصياتهم. الثاني: أنهم تحولوا من مصير سيء إلى حال أسوأ، وأشد يأسا، وألما، وكان مصيرهم أنهم وقعوا ضحايا لشبكات التدليس، والاحتيال، والإيهام. فالصنف الأول أدرك قيمة الدفاع عن نفسه، وعاش صابرا على البلاء، وقانعا بما يضمن له حريته الشخصية. والثاني غدا مهاجما، لا يمر على أرض إلا وخربها، لكي ينتشر فيها ما رآه حقا، وعدلا، ويقينا. وكأنه خشي على غيره مما سيحدث من كوارث في عالم الطبيعة، ولم يخش عليه وقوعه بين مخالب وأنياب قوى جائرة، تأسر الإنسان، وتفرغه من محتواه، وتصيره شيئا تافها، يخدم رغبتها، لا رغبته، ومصلحتها، لا مصلحته. وهنا ظهر لي أن هناك سمة نفسية تغلب علينا، لا يمكن تجاوزها، ولا تعدليها. فهل هي مما نرثه عن سلالتنا.؟ أم هو شيء تركب معنا مع مرور التجربة.؟ أم شيء كائن في مكوننا الذاتي، ويمكن توجيهه إلى طريق الخير بإحدى العوامل الإيجابية.؟ إنني أميل إلى أن ذلك موجود فينا جبلة، وفطرة، وأن ذلك مما لا يقبل التعديل في جوهره، وإنما يمكن تمرين الذات على مجاهدته، ومقاومته. لأننا لو قلنا بجبريته، فلا محالة، سنساق إلى معان أخرى لها علاقة بالعقل، والإرادة، والمشيئة، والكسب. وإن كنت أميل إلى الجبر بمعناه الفلسفي في كثير المناحي البيولوجية في الذات، وفي الفكر، وفي السلوك. لأن ميولاتنا الداخلية، سواء ما كان رغبة، أو غريزة، أو دافعا، أو شعورا، أو إحساسا، لا يقرره إلا ضرورة المحافظة على بقاء النوع، بما يقتضيه ذلك من صراع مع الطبيعة ومكوناتها المتعددة. ومن هنا، فإن ما يمكن لي أن أُجليه في هذا النظر، هو تلك النظرة المتجاوزة لسقف الأفعال، لكي نغوض في باطن الإنسان بمقتضى العلم الوضعي، أو التجربة البشرية، فنبحث عن سر سلوكه الذي يعتبر واجهته الخارجية، وذلك مما لم أجد لي عليه دليلا في التجربة التي كنا نخالها مثالية في لحظة من اللحظات، بل لم تتأت لنا معرفة ذلك في أيام التحصيل، والغربلة، إلا حين لمستنا نفحات التصوف الفلسفي، وهناك أدركنا أن الرذائل والشرور في عالم الإنسان، لا تدفع بنا إلى السخرية، أو اللعن، أو السب، أو الكره، أو الحقد، بل تجعلنا نوقن بأمرين: الأول: أن الإنسان جزء من هذا العالم الذي يشهد هبوطا وصعودا في القرار الداخلي لكل فرد من الأفراد. الثاني: أن هذا العالم، لا يمكن له أن يستقيم إلا بوجود هذه الثنائيات في كل شيء. وإذ ذاك، لا مناص من محاولة البحث في طبيعتي، لعلي أدرك أوصافها الخاصة، فأسبح في لجتها رغبة في صناعة الوظيفة التي تناسب خصوصياتي، وسلوكي. وذلك ما أخفقت فيه، إذ لم نضع أيدينا على الكُنه إلا بعد أن غرسنا بذرة جريحة في ذاتي، قد لا تحتاج إلى صراعنا مع الحقيقة التي نجادل فيها، بل هي الحقيقة ذاتها، ولا بد من رعيها بالسقيا، لعلها تنمو، وتكبر، وتعوض شيئا مما فقدناه في طريقها من أنفاس زافرة. ومن هنا، فإن هذه السمة تشكل كثيرا من قوانين لذتنا، وسعادتنا، وتعرفنا بسبل ما نحتاج إليه من فضيلة، ونبل. لكن لو قلنا ببساطة هذه المفاهيم في سياق الجمع، والترصيف، والبناء، فإننا لن نطيق أن ندرك كثيرا من تحولاتنا بين الموارد، ولا أن نفهم ما نريده في حياتنا، وواقعنا. فهل غاياتنا نتيجة لهذا الإكراه التي ولد معنا في كياننا.؟ أم هناك محددات أخرى، هي التي تحرك هذه الأهداف التي نبحث عنها.؟ إنني لن آتي بابا قد ولجه غيري، وكان هو الأقدر على وصفه، والأعرف بما فيه من حقائق جمة، لكنني سأكتفي بما أحس به، لئلا ألج فضاء لا انفرد فيه بقوة يمتلكها أولئك المتفردون من السابقين، واللاحقين، بل سأقول: إن اكتشاف الإنسان لنفسه، هو السبيل الأقوم والأسد لمسايرة كثير من إكراهات ذاته، وحياته، وواقعه. وعلى هذا، فإن هذه السمة لها دور كبير في تحديد نوعية المعرفة التي تشتاق إليها الذات، وترتاح لنتائجها، لأن المعرفة ما هي إلا الإنسان بحركته بين الأشياء، وتفاعله معها، سواء بالقبول، أو الرفض. فقد يعصره الإحساس المتواري وراء الأفعال التي تصدر منه بلا انتباه لظروفها، ومحيطها، فيخرج من قاعه رصيد تجربته التي عرفته بكثير من الدروب المتشابهة، أو المتباينة، ثم يتخذ القرار الذي يعبر فيه عن إدراكه للأشياء التي تحتمل المعاني المختلفة. وهذه التجربة تستحيل مع تراكم الزمن إلى أداة محددة للمعرفة التي تفصل بين المعاني الثابتة، والمتحولة. ونحن حين نقرأ ما تظهره لنا، نظن أنها نتيجة حتمية لقوانين تعلمها الإنسان في نظام معرفي معين، ولكنها على العكس من ذلك، فهي مجموع كلي لحقائق تتفاعل فيما بينها بين بؤر التجارب الغضة بالآلام، والجراح، والمصائب، لكي تفرز لنا هذا الإنسان المتغير في مواقفه الذاتية، والشخصية. فالمعرفة إذن، هي الإنسان بكل ما يفتعل فيه من مقومات ومكونات تبني هرم شخصيته التي لا يساويها شيء غيرها. وبمقدار ما نتحرك بقوة الإيقان بأننا نقرأ ذواتنا في مرآة المعرفة التي وصلنا إليها في طريق الاختبار للحقائق، ولا أعني تلك المعارف التي حصلت عن طريق التلقين، والتعليم، والتربية، بل تلك المعارف المخزونة في أعماقنا، وتتضمن كثير من نشاطنا الباطني الذي أخفقنا في تفسيره، أو في تسويغه، فإننا نطيق أن نمتلك شيئا من الحقيقة التي تتشابه إلى حد كبير مع ما وصل إليه كل مر عن طريقة التجربة إلى كمال البينة في القضايا المعرفية، وإن اختلفت بعض المسلمات، أو الفرضيات، أو النتائج، لأنها تعبير عن حركة الذات في درك مكوناتها المعنوية، ولا أعني المادية، لأن لذلك مدارا آخر غير ما نطرحه هنا من قضايا فلسفية تأملية. ومن هنا، فإن المعرفة هي خلاصة ضمير "أنت"، وهي نظرك، ورأيك، وهي حقيقتك في ذاتك، وفي طبيعتك، وقد تكون سوية، وقد تكون منحرفة. فإذا كانت سمتك النفسية ميالة إلى ذلك الغموض المستكنه في الأشياء، وراغبة في حدس ما بين الحقائق من روابط، وصلات، وزاهدة فيما هو مشترك بين البشر من معارف تدرك بالفطرة، والبداهة، فإنك لا محالة ستميل إلى البحث عن غوامض الكون، والوجود، لكي تشاهد ما فيهما من كمال، وجمال، لأن ما هو معلوم للإنسان في الطبيعة، وسواء ما علمه بالضرورة، أو ما اكتسبه عن طريق بذل الجهد، لا يؤدي إلا إلى نتائج محددة في قضايا المعرفة المرتبطة بالوجدان الباطني، والإشراق الروحي، فإما أن يؤدي ذلك إلى الالتزام الذي تفرضه الأنساق المرتبطة بالذات، أو بالغير، وإما أن يكون تحللا يفضي بنا إلى التمرد، والعصيان، لأن كثيرا مما نتعلمه عن طريق الكسب، أو ننفعل معه في بؤرة الفعل اليومي، لا يدل على تمام المعرفة، وإنما يبرهن على مجاراة السياق، ومحاباة الواقع، ومسايرة ما هو ملزم في الحياة الخاصة، أو العامة من الأخلاق، والتنظيمات، والترتيبات. لكن هل ذلك ما نعنيه في تأملاتنا بالمعرفة.؟ إن المعرفة التي نتحدث عنها في هذه الشذرات، تخرج بهذه الدائرة التي يمكن تحصيل ما فيها عن طريق التعلم إلى دائرة أوسع، وأفسح. فهي تنظر إلى الحقيقة على اعتبارها ذاتية، لا جماعية، ومن خلال هذا المنطلق، وبمنطق استبطاني، استفهامي، إنكاري، تستنطق المسكوت عنه، والممنوع، والمحظور، والمستور، لكي تعرف ما انطوى عليه من سر، ورمز، ولغز، وفي الاتجاه نفسه، تبحث عن الغامض في الأكوان المتجسمة في صورة البهاء، والجلال. ومن هنا، فإن الرغبة فيها، تتحدد بمقدار ما تكونه السمة النفسية في بنائها، ومراسيم فعلها المتصارع مع الحقائق. وبمقدار ما تكون الرغبة حريصة في نيل عطاء حقيقتها، تكون النتيجة مرضية، وبمقدار ما تكون النتيجة في طبيعتها مختلفة، يكون مد الاستواء، والانحراف. وجماع هذا أن المعرفة خلاصة لهذه التجربة الباطنية التي تتفاعل فيها موضوعات عدة، وتتجاوب، وتتحد، لكي تكون نتيجتها هي أنت في داخلك، أو في خارجك. ولولا هذا الاختلاف في ما تمليه علينا من دوائر، ومدارات، لما ساقتنا دروب الحياة إلى أقدار شتى.

قد يبدو هذا التحليل بسيطا عندي، لأنه لا يعتمد على مناهج البحث العلمي، لكن ما يشفع لي، هو عودتي إلى منهج الاستبطان في تحليل جهاز المعرفة في ذاتي، فحسبي أني وإلى هذه الساعة مستغرق في البحث عن تلك الحلقة المفقودة، أو عن تلك الجوهرة التي صنعت بيد صانع بديع، وحكيم، فلم أعثر عليها بين الأماكن التي جللتها بفكري، ونظري، ودونتها بحرفي، وقلمي، ولكني قد عثرت بين قنن الجبال الوعرة التي تسلقتها على ورقة، كتبتها يد فنان ماهر، قيل بأن زمنه يعود إلى ملايين السنين، وقيل غير ذلك، لكن ما كتب فيها من معان جمة، يمكن لكل من مر على دروب الحياة أن ينقش صورتها على سقف عقله، لكي تكون دليله على رحلة الذات بين مجالات تتصل في سلسلتها مع أقوام مروا هنا، وقضوا نحبهم، ولم يبق لنا من أثرهم إلا رسم يدل على أننا لا حقون بهم، وأننا في لحظتنا نكتب ما كتبوا، ونقول ما قالوا، بل نوصي أبناءنا بما أوصنا به، سنحثهم على أن يعرفوا أنفسهم كما دلت على ذلك كلماتهم، وإشاراتهم. فاعرف نفسك، هي الكلمة الخالدة، لأن من عرف نفسه، فلن يعدم طريقا يبلغ فيه مناه. لكن ما هي الأمنية.؟ شيء يختلط عندنا في مفاهيمنا، فلا نطيق أن نفرق بين حقائقه، ولا أن نميز فيه المهم، والأهم، لأن الأمنية تتشابه مع الرغبة، فهل من فرق بينهما.؟ وهل من فرق بين الرغبة وسائر المصطلحات التي نستعملها في الدلالة على إحساسنا بالحاجة إلى شيء يكملنا، ويقوينا، ويمنحنا المقدرة على اتخاذ القرار بين لجج الحياة المتعبة لجهدنا في النضال من أجل البقاء. فهل أمنيتنا هي القوة، والقدرة، والكمال.؟ لا بد لي وأنا قد مزجت بين مجموعة من الحقائق أن أفصل بينها، لعلي أحدد لكل حقيقة مفهوما، حتى يكون كلامي قادرا على التعبير عن ذاتي. لكن قبل البداءة في ذلك، ستقول: لم الذات.؟ فأقول لك: إن المقصود هو حوار الذات مع نفسها، لا ذاك التقريرُ للمعنى الذي يجوز لك أن تقرأه هنا، أو هناك، بل هي المعاني التي نجت بريشها من غارات الألم، وغدت من شدة الحرص عليها إكسيرا لذات نفضت عن عودها لحاء الأماكن المبتلة بماء الطهارة، وصامت عن أشياء حلوة رغبة في الانتظار، ونطقت بكلام يمزقه وجع الغربة بين السنين الحائرة. ولذا استحق مقام الزفير عندي أن يسمى تأملا، لا نصا مستجمعا لما داهن به كثير من الكتاب عقول القراء، لكي يشعروا بأن المشي يخطو على خط الاستقامة.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات فلسفية 9
- تأملات فلسفية 8
- تأملات فلسفية 7
- تأملات فلسفية 6
- تأملات فلسفية 5
- تأملات فلسفية 4
- تأملات فلسفية 3
- تأملات فلسفية 1
- تأملات فلسفية 2
- صيد الذكرى
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 10