أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - طلال الربيعي - الطب النفسي النيوليبرالي















المزيد.....



الطب النفسي النيوليبرالي


طلال الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 5079 - 2016 / 2 / 19 - 04:07
المحور: الطب , والعلوم
    


يعتقد Jeremy Gilbert, وهو استاذ النظريات الثقافية والسياسية في جامعة East London, ان النيوليبرالية والرأسمالية مفهومان مختلفان (1). فهو يرى ان الرأسمالية ليست أيديولوجية. فغالبا ما يستخدم هذا المصطلح كمجرد تخصيص شي من قبيل "الاعتقاد في الأسواق الحرة، والملكية الفردية الخاصة، الخ". وهذه امور, حسب Gilbert, لا تعني الرأسمالية بقدرما تعني مجموعة من المعتقدات الليبرالية. اي انه يمكن أن يكون الليبرالي رأسماليا أو لا، والرأسمالي يمكن أن يكون ليبراليا أو لا. تاريخيا الليبرالية تميل إلى أن تكون الأيديولوجية الافتراضية للرأسماليين، ولكن هذا لا يعني قاعدة عامة.

الرأسمالية تعني في الأساس مجموعة من الممارسات الاجتماعية التي تهدف الى تراكم رأس المال. أنها ليست بالضبط نفس الشيء مثل التجارة، السعي الى الربح، الاتجار بالبضائع، التسليع العام لجميع الاشياء والخدمات والعلاقة الاجتماعية، الأسواق الحرة للسلع والخدمات، العمل المأجور وقمع العمل لمنع العمال من التدخل في أسواق العمل لضمان مصالحهم الخاصة، أو حتى المُلكية لرأس المال. على الرغم من أنه يمكن للرأسمالية ان تتضمن هذه الاشياء وعادة تنطوي عليها كلها.

ومن الجدير الأخذ في نظر الاعتبار أن ماركس لم يستخدم كلمة "الرأسمالية". وأشار في كتابه رأس المال إلى الرأسماليين ونمط الإنتاج الرأسمالي . "الرأسمالية " أصبحت لاحقا اختزالا لعدد من أشياء مختلفة:
اولا، أصبحت اختزالا لمجرد ما يفعله الرأسماليون, أي السعي لتراكم رأس المال.
ثانيا, أصبحت مختصرا لما يسميه ماركس نمط الإنتاج الرأسمالي. وهذا هو مصطلح يتضمن مجموعة كاملة من العلاقات الاجتماعية
والمؤسسات والممارسات والآليات الإيديولوجية وغيرها التي يستخدمها الرأسماليون من أجل خلق ظروف اجتماعية مواتية لتراكم رأس المال.

اما "النيوليبرالية" فهي اسم لفلسفة سياسية معينة ومجموعة من المعتقدات، وبرامج سياسية ذات صلة، التي تدّعي فهمها شيئا عن طبيعة الإنسان والاقتصاد, وان فهمها لطبيعة الإنسان والاقتصاد يمنحها, برأيها, تفوقا في كيفية استخدام الآليات الحكومية من أجل تحقيق أقصى قدر من ازدهار الإنسان. واحدة من تلك المعتقدات هو أن السبيل الحقيقي الوحيد لتحقيق أقصى قدر من ازدهار الإنسان هو تعظيم أرباح الرأسماليين. تفضل النيوليبرالية على وجه الخصوص، في الممارسة العملية، مجموعة من الآليات من أجل تحقيق هذا الهدف، مثل خصخصة المرافق العامة, تحرير الأسواق المالية من سلطة الدولة, تقليص الانفاق على الخدمات الاجتماعية, والغاء المسؤولية الاجتماعية واعتبار الفرد مسؤولا عن فقره او عطالته لكونه, باعتبارها, شخصا "كسولا" او ينقصه حافز العمل والقائها اللوم عليه (2), مما قد يولد لدى الفرد مشاعر الاحباط والشعور بالذنب والدونية والكآبة, حيث يقوم الطب النفسي النيوليبرالي باستغلال فاحش لهذه الاعراض بتشخيصها كامراض نفسية تستدعي العلاج بالادوية, ويضمن في نفس الوقت ارباحا اضافية لشركات الادوية. وهكذا يتحقق التحالف الثلاثي غير المقدس بين النظام النيوليبرالي, الطب النفسي النيوليبرالي, وشركات الادوية. ان القاء اللوم بالكامل او بالغالب على الفرد واعفاء المجتمع من اية مسؤولية في تسبيب او مكافحة الفقر والبطالة, يؤدي, كمحصلة, الى صعوبة بالغة في اكتساب وعي اجتماعي-سياسي بضروة التغيير الجذري للمجتمع, وهي صعوبة تنسجم تماما مع ما تطمح اليه النيوليبرالية بتكريس الواقع الراهن وتحويل الافراد الى ما يشبه الروبوتات المغتربة عن العمل, والتي تُسخر نفسها, غالبا بدون وعي او قصد وبالضد من مصالحها, الى المزيد من اغتناء الاغنياء وافقار الفقراء.

في الواقع تفضل النيوليبرالية ألاجندة السياسية التي تزيد بشكل كبير من هيمنة وهيبة الرأسمال المالي (البنوك وصناديق الاحتياط ومانحي القروض بشكل عام), وعلى حساب الصناعة والمستهلكين والعمال والمقترضين. ان مدى تفضيل النيوليبرالية ل"رأس المال المالي" على "رأس المال الصناعي" هي موضوعة قابلة للنقاش، ولكن هذا التحيز نحو رأس المال المالي على حساب الرأسمال الصناعي يبدو عنصرا متأصلا في الطريقة التي تعمل فيها النيوليبرالية القائمة في الواقع منذ سبعينيات القرن الماضي.

ان النيوليبرالية, كأيديولوجية, هي أيضا تحرير مجازي للسوق؛ جميع التفاعلات يحكمها منطق مشابه لمنطق السوق. فالعائلات هي صفقات عاطفية وجينية؛ الحب والجنس هما شكلان لتجلي رأس المال. أن الخصخصة هي نوع من الوحشية ولكن بما يتفق والمنطق المادي, في حين ان سيادة منطق السوق على كل مجالات الحياة يتضمن جانبا هستيريا وميتافيزيقيا, مما يجعلها وحشا مختلفا سياسيا. والهستيريا الاقتصادية تجد تعبيرها, على حد قول Thomas A. Nonymus، ومؤلف الكتاب الصادر حديثا Leftism, Political Correctness and Other Lunacies, Dispatches from the Fifth, في تضاؤل فرص الترقي المهني او الوظيفي، تقلص الطبقة الوسطى، نهاية الحلم الأميريكي، وارتفاع معدلات الوفيات (بسبب عدم المساواة في الدخل) (3,4).

اما ميتافيزيقيا السوق فانها متأتية من كون القوى التي تتحكم في السوق غيرمرئية وخفية, مما قد يؤدي الى شعور بالعجز وهستيريا نفسية تتسم برد فعل عاطفي مفرط على تقلبات السوق وعواقب هذه التقلبات.

نقاد ماركسيون (ولا سيما David Harvey) يميلون إلى اعتماد الرأي القائل أن النيوليبرالية، في حين انها اسميا فلسفة سياسية متماسكة، هي ممارسة استراتيجية سياسية يستخدمها الرأسمال المالي لإستعادة سيطرته التي فقدها في العقود الوسطى من القرن 20th، بعد الثورة الروسية، وصعود الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وانهيار وول ستريت عام 1929. ويرى هارفي ان النيوليبرالية هي تعبير عما يسميه بالفوضى الهدامة (5) .

يزعم البعض, لاعتبارات لا علمية وغير واقعية, ان الرأسمالية قد ماتت وعفى عليها الزمن. العكس هو الصحيح تماما, فقد توحشت الرأسمالية وانتشر وباءها في ارجاء المعمورة وشمل وباءها احزابا تدعي الشيوعية في منطقتنا. وادعو كل من يزعم بموت الرأسمالية الى مشاهدة الفيلم الوثائقي "الرأسمالية: قصة عشق" الذي اخرجه المخرج والكاتب الامريكي والحاصل على جائزة الاوسكار مايكل مور(6), حيث يعبر فيه زعماء وارباب النظام الرأسمالي ليس فقط عن (استمرار) وجود النظام الرأسمالي, وانما يزعمون ايضا انه النظام الاوحد القادر على تحقيق "العدالة الاجتماعية" ورفاهية الشعوب, ومن ضمن هؤلاء الرئيس الامريكي السابق جورج بوش (الابن) الذي امر باحتلال العراق في عام 2003, حيث مَكّن الاحتلال من نشر سرطان النيوليبرالية ايضا في العراق. فقامت ادارته في العراق, ممثلة برئيس سلطة الائتلاف الموقت, بول بريمر, بفرض ما اسمته مجلة الايكونومست "نظام الحلم الرأسمالي" في العراق: فقد "اصدر بريمر اربعة اوامر تضمنت خصخصة كل المشاريع العراقية العامة بكل كامل, واعطاء الشركات الاجنبية حقوق الملكية العامة لمشاريعها واعمالها في العراق...وفتح البنوك العراقية امام السيطرة الاجنبية, والمساواة الكاملة في التعامل بين الشركات الوطنية والاحنبية, وازالة كل العوائق تقريبا امام حرية التجارة" (ص, 20, 7)
-------------
قضى Henry Giroux معظم حياته الأكاديمية من اجل ابراز موضوعة جوهرية واحدة تتلخص بان عالمنا محكوم عليه باللعنة طالما استمرت النيوليبرالية في الهيمنة على نظامنا التعليمي, كما شرح هو ذلك بجلاء في أحدث مؤلفاته (8)
America s Education Deficit and the War on Youth: Reform Beyond Electoral Politics
يستعرض Giroux في هذا الكتاب العسكرة التي تفرضها نيوليبرالية النظام التعليمي المتضنمة لثقافة الجهل والقسوة, التي تشجع تفشي الفردية وتفكيك الروابط المجتمعية في مواجهة عدم المساواة التاريخية والفقر.

يؤكد Giroux ان نظام التعليم النيوليبرالي يركّز بشكل متزايد على إنتاج مستهلكين وعمال قنوعين, ويحظر "التفكير النقدي",ويؤدي الى هيمنة مفكرين برعاية شركات مثل Malcolm Gladwell، الذي اصبح "احد العلامات التجارية لتمثيل ونشر رسائل الشركات التي تغتني على سذاجة الجمهور."
(Malcolm Gladwell صحفي كندي من مواليد 1963، ويعمل لمجلة نيويوركر منذ عام 1996. وقد كتب خمسة كتب كانت على قائمة نيويورك تايمز الاكثر مبيعا. وقد احدثت كتاباته تداعيات غير متوقعة في مجال العلوم الاجتماعية, وخاصة في علم الاجتماع, علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي) (9).

والاطباء كغيرهم من الناس, هم نتاج للمنهج التعليمي الذي يتلقونه, وهم ايضا حصيلة لهيمنة نظام اقتصادي-اجتماعي محدد: النيوليبرالية في هذه الحالة. وهذا الكلام بنطبق بشكل خاص على اطباء النفس, وخصوصا في الولايات المتحدة, لسببين على الاقل: الاول, طبيعة طب النفس نفسه وتأثره بالمحيط الاجتماعي والاقتصادي للفرد في مجال التشخيص والعلاج. ثانيا, هيمنة النيوليبرالية في الولايات المتحدة , كنظام اقتصادي وفكري وتربوي, اكثر منها في دول اخرى في العالم. وتُصدر جمعية اطباء النفس في الولايات المتحدة دليلا دوريا لتشخيص الامراض النفسية, يسمى اختصارا DSM. ويستخدم هذا الدليل في العديد من دول العالم ايضا, جنبا الى جنب مع دليل آخر تصدره منظمة الصحة العالمية لتشخيص مختلف الامراض, المسمى اختصارا ICD .

اثار اصدار الجمعية الأميريكية للطب النفسي في مايو عام 2013 لدليلها الخامس DSM-5 جدلا كبيرا وردود فعل قوية, وذلك كتجسيد للأزمة الكبيرة للطب النفسي الأميريكي-النيوليبرالي، مع انتقاد واسع النطاق لهذا الدليل وحتى مهاجمته.

لقد ارسى ظهور الدليل الثالث DSM-III في عام 1980 الأساس للطب النفسي النيوليبرالي الذي تتحكم فيه شركات الأدوية والنخب الطبية والحكومات المتواطأة واحداث التوسع الهائل تجاريا في "صناعة " الصحة النفسية القائمة على الربحية واغناء شركات انتاج الادوية في المقام الاول وعلى نحو متزايد, وذلك على حساب الافراد والمجتمعات. ان هيمنة النيوليبرالية على الطب النفسي قد اكتسبت شكلا مريعا وكاسحا في العقود الاخيرة. ولكن على نحو متزايد ايضا تم الطعن بهذه الهيمنة وتعريتها وتبيان ضررها الفادح على الافراد والمجتمعات, كما يتجسد ذلك ,كمثال, في كتابين .
الاول
Ethan Watters, Crazy Like Us: The Globalization of the American Psyche, Free Press, 2010
والثاني
Gary Greenberg, Manufacturing Depression: The Secret History of a Modern Disease, Bloomsbury, 2010)

يساهم هذان الكتابان في مساعدتنا في أن نبدأ في الإجابة على بعض الأسألة الأساسية : كيف تحوّل تقديم خدمات الصحة النفسية الأساسية الى بضاعة خاضعة للتسليع ودافع الربح؟ وكيف تقوم مجموعة هامة من الأطباء بتقديم المبررات العلمية الزائفة لهذه العملية؟ وما هي دوافع مقاومة نيوليبرالية الطب النفسي التي بدأت في الظهور؟

في حين أن التركيز هنا هو فقط على الجوانب النظرية لكلا الكتابين، الذي قد يبدو جافا بعض الشئ, ولكن كلا الكتابين مليئان بالحكايات المسلية والمثيرة للقلق في آن واحد، فضلا عن انتقادات بالغة الاهمية للأيديولوجية التي تتحكم في الطب النفسي السائد الآن, وهي انتقادات مكتوبة للجمهور الطبي وغير الطبي على حد سواء.

يفحص Ethan Watters في الكتاب الاول (10) الانتشار العالمي لتشخيص DSM من خلال اطار عام لتعربف المرض العقلي اجتماعيا و تشكلْه من قبل عمليات وظروف اجتماعية. بالتوازي مع قيادة الولايات المتحدة لعولمة الشركات (شركات الادوية ) "فان التأثير الباعث على القلق لثقافة عولمة الشركات لا ينبع من اتتشار ثقافة ال [ماكدونالدز]؛ بدلا من ذلك، فهو نتاج لكيفية تسطيح المشهد في النفس البشرية نفسه. نحن منخرطون في المشروع الكبير لامركنة Americanising فهم العالم للعقل البشري" (p. 1). فالطب النفسي النيوليبرالي يلغي الفوارق الحضارية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات على صعيد العالم باشمله, ويعتبر خصائص نفس الفرد الغالبة في المجتمع الامريكي, مثل غلبة النزعة الاستهلاكية والرغبة في تحقيق الربح السريع, ملامحا نفسية تطبق تعسفيا على كل البشر. وهنا تتجسد ايضا عنصرية ونيوكولونيالية الطب النفسي النيوليبرالي بكل جلاء.

يعالج Watters في كتابه العديد من الحالات التي يتم تصديرها كمفاهيم وممارسات أميريكية للطب النفسي إلى بلدان بعيدة، وذلك من اجل توحيد homogenising معنى الاضطراب العقلي لغرض خدمة الشركات التجارية الكبرى. وان الدافع الرئيسي وراء هذه الجهود هو سياسة الأيديولوجية الفردية واضفاء طابع طبي متعمد على مجمل الاضطرابات النفسية واغفال العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تؤدي الى نشوء الاضطرابات النفسية او تفاقمها في الفرد او في عموم المجتمع، حيث تساهم الحكومات الغربية والعاملون الصحيون مساهمة حاسمة في فرض هذه السياسة. فعلى سبيل المثال, انسجاما مع اعتباره الاضطراب النفسي خللا بيولوجيا بحتا (المزيد حول هذا لاحقا), قوّض الطب النفسي النيوليبرالي السبل المحلية والجماعية للوقاية من ظهور "اضطراب ما بعد الصدمة" في سريلانكا بعد التسونامي عام 2004. وساهم الطب النفسي النيوليبرالي ايضا,على عكس التوجهات المحلية, في احداث "وصمة عار" في الذين يعانون من مرض الفصام في ريف زنجيبار.

لم يحدث هذا فقط في جنوب الكرة الأرضية. ففي الثقافة اليابانية في 1990s ارتبطت الميلانكوليا, او ما يدعى الكآبة عموما, المقترنة بصعوبات شخصية, الاعتقاد بأن المصاعب الشخصية تساهم في تقوية الشخصية وزيادة قدرتها في التعامل بكفاءة مع مصاعب الحياة. فقط الاكتئاب الذهاني, حيث ترتبط الكآبة بفقدان الاتصال مع الواقع، كان ينظر إليه على أنه مشكلة طبية. التجارب اليابانية الأولية من مضادات الاكتئاب الحديثة المستخدمة مع الميلانكوليا فشلت في إظهار اية فائدة. ولكن شركات الأدوية الكبرى استغلت التغطية الإعلامية المكثفة التي حظى بها انتحار احد موظفي القطاع المالي بسبب ضغط العمل المسلط عليه من قبل رؤسائه أثناء الانهيار المالي في أوائل 1990s, وكذلك آثار الأزمة على العمال, اضافة الى استغلالها للتأثيرات النفسية التي احدثها زلزال كوبي عام 1995, في إعادة كتابة اعراض الفجائع والشدائد, ليس كنماذج شخصية واجتماعية للتعامل مع تحديات الحياة والطبيعة, وانما كمرض "اكتئاب شديد" او "رشح الروح القابل للعلاج بالعقاقير.

في كل حالة يصف Watters نمطا مماثلا: يقوم الطب النفسي النيوليبرالي باضفاء الطابع الطبي البحت على المحنة النفسية, يليها الإصرار على حمل الاشخاص على التخلي عن الوسائل الاجتماعية المُجرْبة والفعالة في معالجة آثار المحنة او الصدمة نفسيا واستبدالها بوسائل النموذج الاستهلاكي الفردي من العلاج, والتي تصفها شركات الادوية, خلافا للواقع , على انها وسائل "متقدمة " و "علمية " في معالجة الاضطرابات النفسية. تسعى الشركات من وراء ذلك , باسم "العلم والتقدم!", الى فتح اسواق جديدة لتسويق ادويتها النفسية ومضاعفة ارباحها تحت راية التدخل "الأبوي" من اجل "المساعدة!" في علاج مجتمعات كانت قادرة بكل كفاءة وقدرة على مواجهة الصعوبات سابقا وتصويرها وكأنهأ الآن ضحايا سلبية بحاجة إلى التدخل الأبوي لهذه الشركات. ومثال اليابان يمنحنا تصورا مثاليا حول تأثير النيوليبراليين والمحافظين الجدد على الطب النفسي وتقنيات التحكم بالنفس البشرية.

اما التاريخ المضطرب ل"الكآبة" فهو محور الكتاب الثاني Manufacturing Depression , الذي يتتبع فيه كاتبه Gary Greenberg استكشاف كيفية تحوير الطب النفسي في الولايات المتحدة ومكانات اخرى من العالم إلى مهنة تُفرض فيها مفاهيم طبية ضيقة في تشخيص وعلاج الكآبة, حيث يتم فيها سلب الحزن من اي معنى له وحتى السعى للقضاء عليه تماما (11). يكتب Greenberg ما يلي:
"ينبغي لنا أن نتسائل ما إذا كان الأطباء الذين يحثونا على التخلص من الاكتئاب ليسوا، عن قصد أو غير قصد، يحثونا أيضا أن نكيف أنفسنا مع نظرتنا التشاؤمية لعالم غيرعادل."

لذلك يرى Greenberg بحق ان تسمية رد الفعل على حالة مؤلمة "اكتئاب" هو أكثر من مجرد تشخيص, وانما هو ايضا موقف اخلاقي وسياسي (pp. 36-37), وذلك لان الطب النفسي الاميريكي (النيوليبرالي) يختزل رد فعل الشخص ازاء مجموعة معقدة من الظروف السلبية او الكارثية, كالمجاعة والفقر والبطالة والتشرد والتعذيب والنزاعات المسلحة, الى مجرد تشخيص طبي, الكآبة, التي برأيي هذا الطب لا تستدعي سوى العلاج بالعقاقير, غافلا او متناسيا دور الشبكة البيئية المعقدة للشخص التي تساهم في تسبيب الكآبة في المقام الاول, ومتجاهلا ضرورة اصلاح هذه البيئة بوسائل فعالة ذات طابع اجتماعي ,سياسي, واقتصادي . ان هدف الطب النفسي النيوليبرالي هو توفير اعداد متزايدة من المستهلكين للادوية النفسية (المضادة للكآبة اوغيرها), وبالتالي زيادة الارباح الفاحشة لشركات الادوية عالميا.

يمكن اعتبار الطب النفسي النيوليبرالي مرادف الطب النفسي البيولوجي, الذي يعتبر الكآبة والامراض النفسية الاخرى اضطرابا بيولوجيا (12), يستدعي العلاج بالعقافير في الاعم الاغلب. وبذلك يلعب الطب النفسي النيوليبرالي دورا بالغ الخطورة في تثبيت اركان نظام القمع والظلم, النظام النيوليبرالي. ان الزعم بان علاج الكآبة يستدعي في الاعم الاغلب استخدام العقافير هو زعم مخالف تماما لنتائح البحوث العلمية بهذا الصدد, كما ىسنرى لاحقا. ومع ذلك يستمرهذا الطب في استخدام العقاقير غير الفعالة, بل والمضرة ايضا احيانا كثيرة, في علاج "الكآبة" واضطرابات نفسية اخرى مع الملايين من الناس.

اصبح الطب النفسي البيولوجي هو الشكل السائد في الطب النفسي في العالم الغربي في العقود الاخيرة, وانتشر نفوذه إلى ما هو أبعد من العلاج الفعلي (13). "إنه (الطب النفسي البيولوجي) سرعان ما أصبح النهج الرئيسي للتفكير في معظم أشكال المعاناة البشرية. وهالة اليقين التي تحيطه تجعل من الصعب جدا تحديه. ولكون الأرباح التجارية الناتجة عن صناعة الادوية أكثر منها في أية صناعة أخرى، تعاظمت مراقبة شركات الادوية في الاحكام والسيطرة على البحوث العلمية الدوائية. الآثار الثقافية هي أكثر تعقيدا إذا أخذنا في الاعتبار أن العديد من الأدوية, التي توصف لتحسين الأداء في المواقف الاجتماعية، في المدرسة، وحتى في مجال الرياضة، تغّير التوقعات المعيارية في ما يعنيه أن يكون الشخص الناجح في مجتمع رأسمالي متقدم ومتكيف او مرن"
(p. 156).

ان العقاقير المضادة للكآبة مُكلفة جدا, واستخدامها في الدول الفقيرة يصطدم بمشكلتين رئيستيين. اولا, ان كلفة هذه العقاقير تشكل عبئا ماليا كبير على ميزانية هذه الدول. ثانيا, ان فعالية هذه العقاقير مشكوك فيها لسببين: اولا,علميا كما سيتبين لاحقا. ثانيا, ان معالجة الاضطراب النفسي عن طريق العقاقير لا يمكن ان يحل تماما محل المعالجة الشاملة لظروف المريض, باعتبار ان وظيفة الكآبة هي دق جرس الانذار للتدليل على جود خلل يمكن ان يشمل بيئة الشخص نفسها, وهي التي تستدعي العلاج او التغيير. اي ان المريض هنا هو حامل اعراض المرض الاجتماعي- سياسي Symptom Bearer. ولذا ينبغي معالجة الوسط الاجتماعي (ايضا) كي يشفى المريض. فحتى لو ان العقاقير حسنّت من حالة المريض, وهذا امر غير معول عليه, فان وجوده في, او رجوعه الى, نفس الوسط سيعني , في الاعم الاغلب, انتكاسته او رجوع مرضه من جديد. والوسط هو ايضا وسط استهلاكي في الاعم الاغلب. ولكن اختراع الرأسمالية للمجتمع الاستهلاكي يعني انه يجب أن ينمو الاقتصاد باستمرار. وتتحقق المأساة اذا فشل الاقتصاد في النمو. لذا, كما يقول الرئيس اليساري السابق لارغواي Jose Mujica في احدى خطبه, "يخترع النظام احتياجات زائدة في كل لحظة. ويتم التسوق لشراء الجديد ونبذ القديم, وهذا هو مضيعة لحياتنا. عند شراء شيء ما،، لا ندفع فقط المال لذلك, وانما ندفع ايضا ساعات من حياتنا كان علينا فيها ان نعمل لكسب المال المُنفق. والفرق هو أن الحياة هي واحدة من الاشياء التي لا يمكن للمال شرائه." (14)

يؤكد Greenberg ان الطب النفسي الشائع, اي الطب النفسي البيولوجي, هو الطب النفسي الذي يٌعامل المرض العقلي كمعاملته للمرض الجسدي, وذلك بالرغم من عدم وجود علامات او دلائل بيولوجية biological markers للاضطرابات النفسية مثل تلك التي توجد عادة في فروع الطب الاخرى والتي يمكن الاستدلال عليها عن طريق التحاليل والفحوص المختبرية والشعاعية وغيرها (15). يميل التشخيص في الطب النفسي إلى أن يكون معتمدا على مجموعة من الأعراض, مثل تغيرات معينة في السلوك والتفكير والمشاعر المتواجدة لفترة زمنية محددة. المرضى هنا "حالات" وليسوا اناسا تتميز استغاثتهم بالمغزى. ولكن حتى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية, كانت وجهة نظر الطب النفسي المهيمنة وقتها هي تحويل "مشاكل الحياة " الى تشخيصات تتطلب تدخل الطبيب, حيث يسوّق العلاج النفسي كحل لعدم الرضا الشخصي في سياق أكبر من ازدهار الرأسمالية من أي وقت مضى، وتوفير وعد "الأمن النفسي والاستقرار". فعلى سبيل المثال, يؤكد طبيب النفس والاعصاب الايطالي (Basaglia, 1924-1980) ان وظيفة الطب النفسي قد اخطأت هدفها بتحويل الطب النفسي الى وسيلة للسيطرة على المجتمع. كما لاحظ ان الطب النفسي كان الجهاز الذي يستبعد الطبقة الدنيا (اقتصاديا) من الناس الذين لم يكونوا مجنونين بقدر ما كانوا بائسين ومنكوبين بالفقر (16).

ولو استعرنا لغة السيبرنتيك في الانظمة العلاجية النفسية, لاستطعنا القول ان العقاقير المضادة للكآبة لاتهدف الا الى زوال الاعراض, هذا اذا افترضنا فعاليتها, وهو امر مشكوك فيه علميا (17). بعبارة اخرى, فالتغيير عن طريق العقاقير, سيبرنيتيكيا او حسب نظرية المعلومات, هو تغيير اولي او سطحي, ولا يعالج اجندة اجتماعية -اقتصادية شاملة, باعتباران تغيير هذه الاجندة هو التغييرالاكثر جذرية والاكثر فعالية على مستوى الفرد ومحيطه (18,19) , او ما يسمى عادة بلغة العلاج النفسي المنظوماتي Second Order Change. يهدف الطب النفسي النيوليبرالي, سيبرنيتيكيا, الى ابقاء النظام اللاعادل على حاله, بل وحتى تثبيت اركانه وتقويته, وذلك عن طريق حث المريض على التكيّف مع النطام ليصبح الفرد بموجبه اشبه بالروبوت المٌنتج والعديم الاحساس. هدف الطب النفسي النيوليبرالي الرئيسي هو خلق بشر يديمون دوار عجلة النظام النيوليبرلي واستهلاكيته المقيتة, حيث ان النزعة الاستهلاكية تصبح هي الدين اللارسمي للنظام. فيزداد بذلك تغّرّب الانسان وتعاسته. ولذلك لا غرابة ان تتضاعف نسبة المصابين بالكآبة عشرة اضعافها الآن على اقل تقدير حسب تقارير منظمة الصحة العالمية, مقارنة مع نسبتها عند نهاية الحرب العالمية الثانية, وذلك بالرغم من توفر مختلف العقاقير المضادة للكآبة وتقنيات العلاج النفسي ووسائل التأهيل المهني والاجتماعي حاليا والتي لم تكن متوفرة من قبل. ولكن العقاقير واغلب, وليس كل, تقنيات العلاج النفسي المستخدمة تستهدف, في المحصلة, الى تدجين البشر وترويضهم على التكيف مع نظام اجتماعي غير عادل. اي ان استخدامها, متبرقعا ببرقع العلاج والعلم, تحث المريض على اتباع الاساليب السلبية والى المحافِظة والجمود ونبذ الاصالة الشخصية لتحقيق "الشفاء"! علما ان هذه الوسائل كانت هي نفسها من مسببات الكآبة في المقام الاول.
-------------
تفضح الدكتورة Marcia Angell من كلية طب Harvard في الولايات المتحدة فساد شركات الادوية وتورط اطباء نفس كبار في اجراء بحوث لحساب هذه الشركات لاسباب نفعية ولاعلمية. الدكتورة Angel هي مؤلفة كتاب
The Truth About the Drug Companies: How They Deceive Us and What to Do About
ولكن ألاهم من هذا, انها أيضا رئيسة التحرير السابقة لواحدة من المجلات الطبية الأكثر احتراما على وجه الأرض: New England Journal of Medicine. ولكن بعد قراءة مقال لها (20) في New York Review of Books بعنوانDrug Companies & Doctors: Story of Corruption لا بد للمرء ان يتساءل هل توجد مجلة طبية على وجه الأرض تستحق احترام أي شخص بعد الآن.
تقول Angel:
"يمكن القول ببساطة انه لم يعد ممكنا الثقة بكثير من الأبحاث السريرية التي يتم نشرها، او الاعتماد على حكم أطباء كبار أو على المراجع التوجيهية الطبية الموثوقة. لا يسرني هذا الاستنتاج الذي توصلت اليه ببطء وعلى مضض على مدى عقدين من الزمن كرئيسة تحرير مجلة New England Journal of Medicine."

تستشهد الدكتورة Angel بقضية الدكتور Joseph L. Biederman، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة هارفارد ورئيس علم الأدوية النفسية للأطفال في مستشفى ماساتشوستس العام في جامعة هارفارد. وتشرح:
"بسبب دكتور Biederman يجري الآن تشخيص أطفال لا تتجاوز أعمارهم سنتين من العمر على انهم يعانون من اضطراب ثنائي القطب ويٌعالجون بكوكتيل من الأدوية القوية، وكثير من الادوية لم توافق عليها إدارة الغذاء والدواء (FDA) لهذا الغرض، وليس منها اي دواء تمت الموافقة عليه لاستعماله مع الأطفال دون سن العاشرة ."

دراسات Biederman الخاصة بالعقاقيرالتي تدعو لعلاج الاضطراب الثنائي القطب في الاطفال كانت، كما وضح خبراء صحيفة The New York، "ذات عينة صغيرة ومصممة بشكل فضفاض ونتائجها غير حاسمة إلى حد كبير."

في يونيو 2009، كشف تحقيق مجلس الشيوخ الأميريكي أن شركات الأدوية، بما فيها تلك التي تنتج الادوية التي يدعو Biederman الى استخدامها في اضطراب ثنائي القطب في الاطفال، دفعت ل Biederman مبلغ 1.6 مليون -$- كرسوم "استتشارية" و "القاء محاضرات" بين عامي 2000 و 2007.

تلقى اثنان من زملاء Biederman مبالغا مماثلة. المفارقة انه بعد تحقيق مجلس الشيوخ الأميريكي، بعث رئيس مستشفى ماساتشوستس العام ورئيس منظمة اطباءها رسالة إلى الأطباء في المستشفى للتعبير ليس عن صدمته على مدى تضارب المصالح، ولكن للتعاطف مع المستفيدين: "نحن نعلم أن هذه فترة مؤلمة لهؤلاء الأطباء وأسرهم، وقلوبنا معهم."

يكشف Peter Rost, النائب السابق لرئيس شركة الادوية العملاقة Pfizer, الغش والفساد الواسعي النطاق قي البحوث العلمية المُعدة لدراسة ادوية شركته, والتي تم نشرها لاحقا في ارقى المجلات الطبية. يقول Rost ان الناس لم تعد تثق لا في مصداقية البحوث السريرية ولا في اطباءهم. وقد ادلى بشهادته امام الكونغرس الاميريكي ونشر كتابا بهذا الخصوص (21):
“The Whistleblower, Confessions of a Healthcare Hitman.”

لأن Rost كان مسؤولا تنفيذيا كبيرا وقتها لاحدى اهم شركات الادوبة قاطبة, فقد سبب كتابه فضيحة مروعة للقطاع الصحي وصدمة الجميع. تبدأ احداث الكتاب في عام 2003 عندما اصبح Rost نائبا لرئيس الشركة, حيث جرى وقتها انهاء عقود 10،000 موظف غدرا. ويكشف الكتاب عن الممارسات التجارية غير المشروعة، وحتى الجنائية, في صناعة الادوية. في اعقاب كشفه عن هذه الممارسات, لم يمكن وقتها ممكنا, لاعتبارات قانونية, فصله من الشركة, ولكن جرى تخفيض مرتبته الى وظيفة متدنية جدا.

نشرت المجلة الطبية البريطانية المرموقة BMJ مؤخرا دراسة مدهشة ومذهلة حقا (22) من تأليف بروفسورPeter Gotzsche, حيث اظهرت الدراسة أن معظم مضادات الاكتئاب والعقاقير المستخدمة في علاج الخرف عديمة الفائدة عموما عندما يتعلق الأمر بتوفير تحسن ملموس. كما ان الادوية توصف لكثيرمن المرضى بدون اي مسوغ, رغم ان تناولها يسبب عادة اعراضا سلبية, بعضها خطرة تماما. في الوقت نفسه، يموت مئات الآلاف من الناس كل سنة من الاستخدام العادي وبوصفة من الطبيب المعالج باستخدامهم مضادات الكآبة المسماة SSRIs، التي يرتبط استخدامها مع الاكتئاب الشديد ويمكن ان تسببب اعراضا جانبية مثل الانتحار أو القتل. ويتم تمويل الجزء الأكبر من بحوث الادوية النفسية من قبل شركات الأدوية التي اكتسبت خبرة هائلة في فن التلاعب والزيف، كما يقول Gotzsche.

التجارب التي أجريت على الحيوانات تشير بقوة إلى أن هذه الأدوية يمكن أن تنتج تلفا في الدماغ، وهو الحال مع مضادات الذهان، البنزوديازيبينات ومضادات الاكتئاب, وانه يمكن, حسب Gotzsche, ايقاف وصف مضادات الاكتئاب وعقاقير ADHD والخرف دون اية تبعات سلبية, والاقتصار فقط على استخدام جزء ضئيل من مضادات الذهان والبنزوديازيبينات الستعملة حاليا. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تحسن صحة الناس وتطويل اعمارهم. ان شركات الادوية تحقق ارباحا هائلة على حساب اضعف الحلقات في المجتمع. برأيي Gotzsche, ان الادوية النفسية ينبغي استخدامها فقط في المعالجة الحادة, مع المراقبة عن كثب وتقليص الجرعة الى اقل حد مناسب وباسرع وقت. ان هذ الادوية قد تسبب الادمان او ما يشبه الادمان ويمكن أن يحدث التوقف عن تناولها آثارا جانبية خطرة.
---------------
(تنبيه بالغ الاهمية: لا ينبغي على المريض ابدا تقليل جرعة دواءه او التوقف عن تناوله دون استشارة الطبيب)
-------------
يبدو أن التحسن الذي تسببه هذه الادوية على المدى القصير يحل محلها أضرار على المدى الطويل، ويقول Gotzsche ان الدراسات التي أجريت على الحيوانات تشير بقوة إلى أن هذه الأدوية يمكن أن تنتج تلفا في الدماغ، وهو الحال على الارجح مع كل العقاقيرالنفسية.

كما سبق ل Gotzsche ان نشر كتابا نشر عام 2013 بعنوان (23)
Deadly Medicines and Organised Crime: How Big Pharma Has Corrupted Healthcare
يستنتج فيه ببراهين علمية ومُوّثقة ان شركات الادوية الكبرى هي عصابات جريمة منظمة وفتاكة, حيث تستخدم كل الحيل ووسائل الاغراء وتزوير البحوث واتباعها منهجية لاعلمية من اجل توسيع استخدام ادويتها غير الفعّالة وتحقيق ارباح خرافية على حساب المرضى والمحتاجين.

يؤكد بروفسور John P.A. Ioannidis من جامعة Stanford (وهي اعرق جامعة في العالم قاطبة) ان اغلب نتائج البحث الطبي المنشور خاطئة لاسباب عديدة مثل التحيّز, ضعف قوة الدراسة احصائيا, عدم تكرارالدراسة, وغيرها من العوامل (24). وما ينطبق على البحوث في المجالات الطبية المختلفة ينطبق ايضا, ولربما بنسبة اكبر, على بحوث شركات الادوية المنتجة للعقاقيرالنفسية التي يُشجع الطب النفسي النيوليبرالي على استخدامها باوسع نطاق ولاسباب نفعية لا علاقة لها بالعلم او بصحة المريض. كما ان الاعراض الجانبية للدواء, وبغياب الفعالية العلاجية, قد تزيد من معاناة المريض. وان بعض مضادات الكآبة من فصيلة SSRI المستخدمة على نطاق واسع جدا تسبب افكارا انتحارية, وخصوصا في الاطفال, وقد يقدم بعضهم فعلا على الانتحار.

يذكر الطببب والصيدلي ومحرر Arznei-Telegramm الدكتور Wolfgang Becker-Brueser ان تقريبا %90 من بحوث الادوية مزيفة بسبب تلاعب شركات الادوية فيها, وان شركات الادوية تتستر على حالات الانتحار الجماعية التي تسببها مضادات الكآبة (25).

يتجسد تصنيف الطب النفسي لبعض السلوكيات او التصرفات غير التقليدية او غير المحبذة اجتماعيا على كونها اضطرابات نفسية في اضطراب سلوك الاطفال المسمى ADHD, المتميز باعراض مثل كثرة النشاط الحركي وضعف الانتباه والتركيز. فقد اعترف الطبيب النفسي و"مكتشف" ADHD دكتور Leon Eisenberg قبل وفاته ان ADHD هو مرض خيالي (26), علما ان الطب النفسي وشركات الادوية مستمران بتحقيق ارباح خيالية لعلاج مرض لا وجود له في الواقع باستخدام عقاقير مثل Ritalin او Adderall.

كشفت دراسات اخرى اعمال التزييف والخداع الذي تمارسه شركات الادوية. فمثلا عقار Reboxetin يتم تسويقه كمضاد للكآبة رغم عدم فعاليته, وعقارGabapentin المستخدم في علاج الصرع يتم تسويقه كمخفف للالم, وذلك من اجل زيادة ارباح الشركات بشكل غيرمشروع (27).
------------
اكد مؤرخ الفكر واختصاصي علم النفس المَرَضي (السايكوباثولوجي), ميشيل فوكو, ان ظهور المَصَح العقلي ارتبط بالتصنيع والرأسمالية (28). أشار ماركس إلى أن المجرمين لا "ينتجون" الجريمة فحسب، بل أيضا القانون الجنائي وأساتذة علم الجريمة، والكتب المدرسية حول علم الجريمة. بطريقة مماثلة، المرضى النفسيون لا ينتجون المرض العقلي فقط, ولكنهم ايضا ينتجون التشخيص النفسي، مستشفيات الأمراض العقلية وعنابر الامراض النفسية، وباقي الصناعة العلاجية. من الواضح ان مهنة الصحة العقلية لا تنتج المرض العقلي لدى الأفراد. ولكنها تخلق، من خلال نظام تصنيفها للامراض، أسماء وفئات من المعاناة النفسية الفردية التي تغذي العديد من برامج التعليم الطبي المستمر في مجال الطب النفسي والتدريب، والتي تغذي هي بدورها الشركات والمؤسسات التي تقوم بنشر وتوزيع عدد متزايد من الكتب والمجلات، الفيديوات والأشرطة الصوتية التي تتناول طبيعة وتشخيص وعلاج المرض العقلي, وأخيرا وليس آخرا، صناعة الأدوية النفسية. وتشخيص المرض النفسي يغذي شركات الادوية, والعكس صحيح ايضا. بهذه الطريقة، تصبح مجموعة من الناس التي هي تقليديا وبعرف نظام السوق غير مُنتجة "مُختَلة عقليا"، وكثير من هؤلاء الناس, بسبب عدم قدرتهم على العمل بالطرق المعتادة, يتم اقحامهم عنوة في دورة الإنتاج الرأسمالي (29).
---------------
المصادر
1. ‘Neoliberalism’ and ‘Capitalism’ – what’s the difference?
https://jeremygilbertwriting.wordpress.com/2015/07/14/neoliberalism-and-capitalism-whats-the-difference/
2. What is Neoliberalism?
http://www.corpwatch.org/article.php?id=376
3. وجهة نظر التحليل النفسي في البروليتاريا والحلم الامريكي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=502161
4. MASS (ECONOMIC) HYSTERIA: INCOME INEQUALITY AND RELATED THEMES
http://politicsandprosperity.com/2014/02/19/mass-economic-hysteria-income-inequality-and-related-themes/
5. Neoliberalism as Creative Destruction
http://ann.sagepub.com/content/610/1/21.abstract
6 .الرأسمالية: قصة عشق - فيلم من إخراج مايكل مور
http://www.maktaba-amma.com/2016/02/blog-post_8.html
7. ديفيد هارفي: الليبرالية الجديدة, 2008, ترجمة مجاب الامام
8. America s Education Deficit and the War on Youth
http://www.barnesandnoble.com/w/americas-education-deficit-and-the-war-on-youth-henry-a-giroux/1114426908?ean=9781583673447
9. Malcolm Gladwell
http://www.newyorker.com/contributors/malcolm-gladwell
10. Crazy Like Us: The Globalization of the American Psyche
http://www.amazon.de/Crazy-Like-Us-Globalization-American/dp/1416587098
11. Gary Greenberg, Manufacturing Depression: The Secret History of a Modern Disease
http://www.amazon.com/Manufacturing-Depression-Secret-History-Disease/dp/1416569804
12. Psychiatric drug promotion and the politics of neoliberalism
http://bjp.rcpsych.org/content/188/4/301
13. Pathologies of Modern Space: Empty Space, Urban Anxiety, and the Recovery of the Public Self, by Kathryn Milun
http://www.amazon.com/Pathologies-Modern-Space-Anxiety-Recovery/dp/0415952743
14. President of Uruguay, Jose Mujica s speech
https://www.reddit.com/r/dogekins/comments/3m6sqp/20102015_president_of_uruguay_jose_mujicas_speech/
15 .Why Are There No Biological Tests in Psychiatry?
http://blogs.scientificamerican.com/streams-of-consciousness/why-are-there-no-biological-tests-in-psychiatry/
16. The Rise of Anti-psychiatry: A Historical Review
http://www.priory.com/history_of_medicine/Anti-Psychiatry.htm
17. Efficacy of antidepressants in adults
http://www.bmj.com/content/331/7509/155?variant=full-text
18. Bradford Keeney s Cybernetic Project and the Creation of Recursive Frame Analysis
http://www.nova.edu/ssss/QR/QR1-23/keeney.html
19. Curriculum - Keeney Institute for Healing
http://keeneyinstitute.org/curriculum.php
20. Drug Companies & Doctors: A Story of Corruption
http://www.nybooks.com/articles/2009/01/15/drug-companies-doctorsa-story-of-corruption/
21. The Whistleblower: Confessions of a Healthcare Hitman
http://www.amazon.com/The-Whistleblower-Confessions-Healthcare-Hitman/dp/193336839X
22. Does long term use of psychiatric drugs cause more harm than good?
http://www.bmj.com/content/350/bmj.h2435
23. Deadly Medicines and Organised Crime: How Big Pharma Has Corrupted Healthcare
http://www.amazon.com/Deadly-Medicines-Organised-Crime-Healthcare/dp/1846198844/
24. Why Most Published Research Findings Are False
http://journals.plos.org/plosmedicine/article?id=10.1371/journal.pmed.0020124
25. "Bis zu 90 Prozent aller Medikamentenstudien sind manipuliert..!"
http://www.vitaminum.net/blog/lobbyismus-medizin/-bis-zu-90-prozent-aller-medikamentenstudien-sind-manipuliert..
26.. Before his death, father of ADHD admitted it was a fictitious disease
http://www.naturalnews.com/040938_adhd_fictitious_disease_psychiatry.html
27. Studie wirft Pharmaindustrie Manipulation vor
http://www.focus.de/gesundheit/ratgeber/medikamente/news/tid-17988/forschung-studie-wirft-pharmaindustrie-manipulation-vor_aid_500862.html
28. Michel Foucault: Political Thought
http://www.iep.utm.edu/fouc-pol/
29. Bottomore, T.B., and Ruel, M. (1963). Karl Marx on sociology and social philosophy. Harmondsworth, England: Penguin, p. 167.



#طلال_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجهة نظر التحليل النفسي في البروليتاريا والحلم الامريكي
- تضارب الآراء بخوص مستقبل اللاجئين
- تخبط الحركة الشيوعية العالمية والانتخابات البرلمانية
- نفاق الولايات المتحدة وتحُكم اللوبي السعودي فيها
- رسالة بروفسور .A.L.I المفتوحة الى السلطات السعودية
- وحشية لا تضاهى لمحتلي العراق
- حكام واشنطن و لندن هم اساتذة في علم تحطيم العقل
- اوباما يبيع بلاده الى السعودية, فضلا عن دعم ارهابها
- استخدام ال CIA لبرنامج تطعيم زائف وتأثيراته المدمرة على الصح ...
- لماذا لا تنفذ داعش هجمات في إسرائيل؟
- الكشف عن وثيقة تكذّب تماما مزاعم بوش
- سياسة الولايات المتحدة وشركائها المتعمدة في دعم الارهاب وقيا ...
- -الحرب على الارهاب!- تجسيد لفاشية الرأسمالية المعاصرة
- تبرع زوكربيرج انتصار للبلوتوقراطية على الديموقراطية
- دعم اسرائيل لداعش
- -جمعة مباركة- تجسيد لمنطق الساحر وسلطة فوكو الناعمة
- رسالة علماء المسلمين في تفنيد ايديولوجية -الدولة الاسلامية-
- الحملة الثقافية لمقاطعة وعزل اسرائيل
- تجاهل فرنسا المتعمد لاشارات التحذير قبل هجمات باريس!
- الارهاب وقمع الحريات والشمولية كلها امور ملازمة للعولمة المت ...


المزيد.....




- تردد قنوات mbc على الأقمار الصناعية 2024.. اضبطها الان
- بعد ضربة أصفهان.. ماذا كشفت صور الأقمار الاصطناعية؟
- وفاة رائد الفضاء السوري المنشق محمد فارس
- دعوى قضائية: أطباء يابانيون يطالبون غوغل بتعويضات بسبب نشر - ...
- وفاة محمد فارس.. ثاني عربي يصعد إلى الفضاء
- غزة تعاني من العطش وكارثة بيئية.. توقف جميع آبار المياه منذ ...
- مهندسة متفوقة في الطب في كاليفورنيا داعمة للفلسطينيين تحظى ب ...
- الصحة العالمية تصدر تحذيرا بعد اكتشافها -إنفلونزا الطيور- في ...
- صفحة على -فيسبوك- في مصر تبيع شهادات علمية معتمدة وموثقة‏‏‏‏ ...
- أنفلونزا الطيور لدى البشر.. خطر جائحة مُميتة يُقلق منظمة الص ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - طلال الربيعي - الطب النفسي النيوليبرالي