أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسان خالد شاتيلا - الأزمة في الماركسية وظيفة وأداة - حوار مع جورج لابيكا















المزيد.....



الأزمة في الماركسية وظيفة وأداة - حوار مع جورج لابيكا


حسان خالد شاتيلا

الحوار المتمدن-العدد: 5076 - 2016 / 2 / 16 - 23:47
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


                            
                      خامسا: الأزمــة فــي الماركســـية وظـــيفة وأداة
                                حوار مع جورج لابيكا                                
                                حسان خالد شاتيلا
 
 
‎                                    ‎‏ أولاً‏‎ ‎‏-الانحراف الإصلاحي لدى الماركسيين: ‏
                                           في الديمقراطية والثورة ‏
 
‏1/ الشيوعية والماركسية زوجان يفترقان أحيانا، إن لم يكن في كثير من الأحيان، بل وإنهما في ‏حالة طلاق أكثر من مرة. ‏
***  هذه المسألة موروثة عن الماضي البعيد. إذ أن الحركات الشيوعية السابقة لماركس، وكانت ‏تسمي نفسها شيوعية، ومنها الاشتراكيين الطوباويين. ولقد اعترف البيان الشيوعي بهم. وإذا ‏ما عدنا إلى الماضي البعيد فإننا نلقى شكلا من الشيوعية في جمهورية أفلاطون. والبيان ‏الشيوعي ينوِّه بذلك. ‏
من جهة أخرى، لمَّا كان ماركس وإنجلز شابين كانا يعتقدان أن "العصبة الشيوعية" ‏la ‎Ligue communiste‏ انحرفت وضلت طريقها. وبوجه خاص بسبب انحراف فايتلينك  ‏‎ ‎Veitlingوالاشتراكية الدينية، حيث أن الحب برأيهم هو المقولة الأساسية التي توحِّد الناس. ‏وكان ماركس يَعتَبر هؤلاء غير شيوعيين. ولم يكن يريد أن يُقيم معهم أية علاقة. وعندما انتقد ‏ماركس العصبة الشيوعية، وجرَّ وراءه إنجلز، فقد رد الاعتبار لمصطلح الشيوعية، فأصبحت ‏الماركسية على هذا النحو تعني ما نحن نسمِّيه اليوم الشيوعية العلمية مقابل الشيوعية ‏الطوباوية.  ‏
إن الماركسية قرينة للشيوعية بدون انفصال، وإن كانت الشيوعية سابقة من حيث التاريخ على ‏الماركسية. فالماركسية شكل من أشكال الشيوعية.  الشكل العلمي الذي يَستَند إلى المادية ‏التاريخية، والتي تَفرض نفسها بوصفها قطيعة مع ما سبقها من أشكال وأفكار شيوعية. وأقرب ‏هذه الحالات من الشيوعية إلى ماركس هي تلك التي كان ينادي بها إتيين كابيه  ‏Etienne ‎Cabet‏ في فرنسا، وفايتلينغ فيلهيلم  ‏Weitling ‎‏  ‏Wilhelm‏ في ألمانيا اللذين يعتقدان ‏أن الشيوعية شكل ديني. وكانت "عصبة الشيوعيين"‏‎ ‎عَرِفَت في مطلع تأسيسها أشكالا من ‏الشيوعية قريبة من المسيحية إلى حد كبير. وكانت تنادي بتعاليم المحبة والتضامن. الأمر الذي ‏كان يَحمل ماركس في حينه على رفض تسمية نفسه بالشيوعي. لكن ماركس برفقة إنجلز حَوَّل ‏في ما بعد "عصبة الشيوعيين" عبر "البيان الشيوعي" الذي وَضَع البروليتاريا، وصراع ‏الطبقات، ومكسب الديمقراطية في مقدمة الساحة على أنها مقومات للشيوعية.  ‏
 
‏2- أخَذَت الأزمة في الماركسية منذ بدايتها منحى داخليا وثيق الصلة بإستراتيجية الثورة / ‏الديمقراطية.‏
***  تعود بنا هذه الأزمة إلى الإصلاحية. إن الأممية الثانية ، أيا كانت المفاهيم التي سادت ‏فيها، وأيا كانت الدوافع وراء تأسيسها، فإن الأحزاب هي التي أسَّستها وليس الحركات القومية ‏كل في وطنه. ها هنا توجد نقطة الانطلاق في الأممية الثانية نحو الدوغمائية التي انحرفت ‏بالماركسية أحيانا في منحى وثوقي. حيث تكاثرت المطولات والموجزات ومؤلفات الدليل في ‏الماركسية. وأصبحت الأحزاب كلها تتصرف الواحدة كالأخرى، صورة طبق الأصل عن غيرها ‏من أحزاب الأممية الثانية، وعلى رأس هذه الأحزاب ثمة قيادة هي أقوى التكوينات السياسية، ‏ألا وهي الاشتراكية الديمقراطية الألمانية يتقدّمهم كاوتسكي والآخرون. ‏
ولما كانت ألمانيا أكثر تقدُّما من الناحية الصناعية من غيرها، وكانت البنى السياسية الفوقية ‏أحرزَت تقدُّما على طريق الاقتراع الانتخابي العام، فإن الاشتراكية الديمقراطية تخلَّت عن ‏الثورة، أي أنها تبنَّت الإصلاحية. الأمر الذي قاد لينين والبلاشفة إلى الرد مُعْتَبرين أن مواقف ‏الأممية الثانية إصلاحية ورجعية. وفي هذا السياق يأتي كل ما جاء به كاوتسكي إلى الأممية ‏الثانية. ‏
في هذه المواجهة قراءة مزدوجة للتاريخ. فتاريخ ألمانيا هنا ذو قراءتين. الأولى إصلاحية، ‏والثانية ثورية. فالأولى تقول إن تراكم الإصلاحات يودي إلى الثورة. وهي أُطروحات من ابتكار ‏وتأليف مُنَظِّرين في فرنسا وألمانيا. والقراءة الثانية تقول إن أي إصلاح لن يقود – حسب رأي ‏البلاشفة - إلى الانتقال الكيفي نحو الثورة. وإن هاتين القراءتين تتكرران بصورة مستدمية. ‏ففي فرنسا ظهر دعاة الممكن ‏Les Possibilistes‏ و ‏les Guédiste)، وفي روسيا ‏البلاشفة والمناشفة. وهذه ثابتة مستمرة تراها اليوم مع الشيوعيين والاشتراكيين، وإن كان ‏الشيوعيون اليوم لا يختلفون كثيرا عن الاشتراكيين. وتأخذ الإصلاحية شكلا ديمقراطيا طالما ‏هي تعتقد أن الديمقراطية مؤاتيه للانتقال الكيفي. هاهنا تصبح الديمقراطية مثالا أعلى لا يمت ‏للسياسة والتاريخ بصلة. وهو الأمرالذي جعل من بعض الأحزاب الشيوعية أحزابا إصلاحية ‏طالما هي تتمسك بمثل هذا المثل الأعلى. ‏
 
‏3-  ثمة أزمة ملازمة للماركسية منذ نشأتها الأولى من جراء الانحراف الإصلاحي، فهل عَرَفت ‏الماركسية أزمات غير تلك التي تعود إلى استراتيجية الديمقراطية والثورة؟
***  تَصعب العودة إلى تاريخ الأمميات بالتفصيل. وفي ما يتعلق بالأممية الثانية، وبالمقارنة ‏مع سابقتها الأممية الأولى، تتميَّز بخاصِّيتين. الأولى تتعلق بطبيعتها. فإذا كانت الأممية الأولى ‏جَمَعَت بين جماعات وقوميات كانت تتوفر لديها العزيمة الكافية من أجل تشييد قوانين وأنظمة ‏داخلية للأممية العمالية، وكان بالإمكان أن يُمَثِّلَ بلد واحد عددا من الجمعيات والجماعات، فإن ‏الأممية الثانية أَخَذَت بقاعدة تَمنَح لكل بلد ممثِّلا واحدا فقط، أو حزبا اشتراكيا واحدا عن كل بلد.  ‏وإن مثل هذا التنظيم مَنَحَ الأممية الثانية شكلا ما. ولما كان توازن القوى بين هذه الأحزاب ‏مختلا، طالما هذه الأحزاب غير متساوية من حيث قوِّتها وأهمِّيتها، فإن الأحزاب الكبرى، وفي ‏مقدمتها الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، مارست هيمنة على الأحزاب الصغيرة، وعلى الأمم ‏الثانية. وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا أقوى هذه الأحزاب على الإطلاق. وكان ‏كارل  كاوتسكي هو منفِّذ الوصيَّة التي كان ماركس وإنجلز عهدا بها إليه في ما يتعلق ‏بالأممية الثانية، وبهذا شكَّل الوجه البارز في تمثيل الأممية الثانية.‏
والخاصية الثانية‎ ‎للأممية الثانية بالمقارنة مع الأممية الأولى هي موقعها في سياق تاريخي ‏يتميَّز بتطور الرأسمالية والديمقراطية البورجوازية. فبخلاف الأممية الأولى، التي كانت وثيقة ‏الصلة بالصراع الطبقي والنزاعات المجتمعية والسياسية، وفي مقدِّمتها كومونة باريس التي ‏قَتَلَت الأممية الأولى، فإن الأممية الثانية تأتي في سياق أوروبي يَشهَد بوجه خاص في ألمانيا ‏انتخاب عدد من ممثلي الاشتراكية الديمقرطية إلى البرلمان الألماني. الأمر الذي فَتَح الآفاق ‏أمام سياسة الطريق السلمي إلى الاشتراكية عبر البرلمان. وقد اختلط هذان الأمران في ما ‏بينهما، الطريق السلمي والبرلمان كممر نحو الاشتراكية، حتى أن إنجلز تحت ضغط قادة ‏الحزب الاشتراكي الديمقراطي اضطر إلى تحرير نص يدافع فيه عن فكرة مؤدَّاها أن زمن ‏الحواجز الذي كان ظَهَرَ في العام 1848 في فرنسا قد انتهى، وأن المطلوب اليوم أن تَستَلم ‏الاشتراكية الديمقراطية السلطة في ألمانيا بفضل الديمقراطية البرلمانية. وكان ماركس في ‏حينه قد توفي، في ما كان إنجلز عندما كتب هذا النص يشرف بنفسه على الأممية الثانية. ‏
إدوارد برلشتاين، وكارل كاوتسكي هما في مقدِّمة أُولئك الذين بلوروا هذا الطريق ‏السلمي، الديمقراطي والبرلماني، إلى الاشتراكية. وقد بيَّن الأول أن زمن الثورات قد انتهى، ‏وأن من الضروري مراجعة النظرية الماركسية في ضوء نهاية العنف الثوري. وبرنشتاين ‏يُسَجِّل هنا بداية التحريفية والمراجعة بالمعنى القدحي للكلمة، طالما أنه يدعو إلى مراجعة ‏أعمال ماركس والعدول عنها. ثم أصبح هذا التفسير التحريفي سائداً في الأممية الثانية. وقاد ‏إلى انقسامات في الحركة العمالية. ‏
وَقَعَت هذه الانقسامات تحت تأثير الانتماء القومي لمختلف الحالات الديمقراطية في العالم. ففي ‏ألمانيا، على سبيل المثال، كان السائد هو مستقبل استلام السلطة عن طريق البرلمان. إلا أن ‏مثل هذا الطريق لم يكن متوفِّرا في روسيا أو فرنسا أو إيطاليا. وما أن اندلعت الحرب العالمية ‏الأولى حتى تعمَّقَت الخلافات والانقسامات ما بين أحزاب الأممية الثانية. فقد بيَّنَت الحرب ‏العالمية الأولى أن الطبقة العاملة في بلدانها، كل على حدة، أصبحت تحت تأثير الرأسمالية ‏معادية بعضها للبعض الآخر. إلى أن انتهى الأمر بالأممية الثانية إلى الانقسام بمبادرة من ‏البلاشفة في مؤتمر ‏Zimmerwald، حيث دعا هؤلاء إلى التنديد بالحروب الرأسمالية. ‏وبمعنى آخر فإن نهاية الأممية الثانية تؤكد مجدَّدا على الصراع الطبقي الذي كان التحريفيُّون ‏فقدوا كل أثر له طالما أنهم كانوا يدعون إلى تحالفات مع البورجوازية.‏
 
                            ثانيا: الأزمــة جــزء لا يتجــزأ مــن الماركســـية
  ‏
‏1/‏ الأزمة جزء لا يتجزأ من النمط الوظيفي للعمل الماركسي، ولنتذكر أن مصطلح ‏الماركسية نفسه كان مثار جدل، علما أن المصطلح يَحمل معه تناقضاته ما ‏دامت الفيزياء لم تُسمِّ النيوتينية أو الأينشتانية.
‏***  هذه بالفعل هي أول أزمة نظرية وسياسية تجتاز الماركسية، علما أن الأزمة جزء لا ‏يتجزأ من النمط الوظيفي للعمل الماركسي. وكانت الفترة التي عاصرت ماركس عرفت ‏أزمات. ولنذكر أن مصطلح الماركسية نفسه كان مثار جدل لأن التسمية هي من ‏ابتكار أعداء الماركسية وليس أنصارها. وكما يقول لينين إن أتباع ماركس اَخَذوا بمصطلح ‏الماركسية من أجل الإشارة إلى النظرية، وذلك لغياب أي مصطلح آخر يحمل هذه الدلالة. ‏علما أن المصطلح يَحمل معه تناقضاته ما دامت الفيزياء لم تُسمِّ النيوتينية أو الأينشتانية، ‏كما أسلفنا سابقا لدى الحديث عن الماركسية من حيث هي علم. ‏
لكن الأزمات أسهمت دوما في إحياء الماركسية، لأن هذه الأخيرة مسار علمي مُثْقَل بالصراع ‏الطبقي، أي أنه لا يملك بيده مصيره، وذلك على النقيض من النظرية الفلسفية، من حيث هي ‏مذهب ونظام أفكار. فعندما رأى ماركس أن الرهانات والخلافات تدور حول مصطلح ‏‏"الماركسية" و "الماركسي"، أعلن بنفسه أنه ليس ماركسيا، ما دامت الحالة على هذه ‏الدرجة من الخلافات.  إن هذا المصطلح استولى عليه كما هو معروف لدى بعض دارسي ‏الماركسية.‏
وتَعرِفُ الماركسية منذ البدء حالات من الأزمة في فترات معيَّنة. ومنها حالة الاشتراكية ‏الديمقراطية كما أسلفنا، والتي تنادي بالطريق السلمي إلى الاشتراكية عبر الديمقراطية ‏البرلمانية. كما عرِفَت الماركسية غير هذه من الأزمات. فالتحريفيُّون فرضوا قراءة جديدة ‏لمختلف أوجه الماركسية، من الفلسفة إلى المنهج، فالمسألة المادية، والمثالية والديالكتيك. ‏إنهم، وعلى رأسهم كاوتسكي، فرضوا نظرية أَرسَت أُسس النظرية الميكانيكية، والدوغمائية، ‏والاقتصادوية. وكانت قراءة هؤلاء لأعمال ماركس تأخذ حرفيا بالأطروحة التي تقول إن ‏الاقتصاد هو العامل المحدِّد أو المُقرِّر الأعلى للحتمية في التاريخ والمجتمع، وإن التحولات ‏الاقتصادية ما أن تحدُث حتى يلحق بها كل ما عداها في المجتمع، من سياسة، وثقافة، إلخ. ‏الأمر الذي حَمَل لينين خلال السنوات الأخيرة من حياته على التوكيد بأن ما تنساه الاقتصادوية ‏هو أولا أن فعل الحتمية الاقتصادية في حالة ما يختلف عن مبدأ العلِّية الحتمية الصرفة حسب ‏ما نراها في علوم الطبيعة، وأن الاقتصادوية ثانيا تنفي بصورة كاملة الديالكتيك من حيث أن ‏أول مَظْهَر له تراه مجسَّدا في الواقع الملموس عبر صراع الطبقات. وإن مثل هذا النسيان برأي ‏إنجلز يعادل نسيان صراع الطبقات.  وكما قلت قبل قليل، فإن الأزمات تُحيِّي الماركسية دوما ‏لأن هذه الأخيرة مسار مادي مُثْقَل  بصراع  الطبقات. ‏
وقد أَعطت هذه الحالات من تحريف النظرية أشكالا مختلفة من الانحرافات، ومنها الماركسية ‏بصيغة الجمع، أو الماركسيات. وأنا أرى كما أسلفنا سابقا أن الماركسية واحدة طالما هي ‏مقترنة بالتاريخ من حيث هو مادة وعلم، تاريخ من موازين القوى وصراع الطبقات. بيد أن ‏صيغة الجمع مشروعة إذا ما تحدَّثنا عن الشيوعية والاشتراكية اللتين تقترنان بتاريخ النشأة ‏الوطنية أو القومية للبلد الذي نشأت فيه، أو من حيث خصوصيتها الوطنية. فالماركسية لم ‏تهبط من السماء أو بالمظلَّة، وهي واحدة في كل مكان. إنما هي مُطَّعَمَةٌ بالتاريخ وصراع ‏الطبقات حسب كل تكوين قومي. فهناك تطعيمٌ إيطالي، وآخر فرنسي، وثالث ألماني، وهكذا ‏دواليك.. ومن الطبيعي أن يَترك السياق القومي في كل بلد أثره على الماركسية والشيوعية ‏باختلاف هذه البلدان بعضها عن البعض الآخر من حيث خصوصية كل منها. وإن كل محاولة ‏لفرض الماركسية بطريقة دوغمائية انتهت إلى الفشل. هذا ما حدث على سبيل المثال في ‏البلدان العربية بإيعاز من الأممية الثالثة. ‏
بهذه التحوُّلات التي طرأت على "عصبة الشيوعيين"، بفعل "البيان الشيوعي"، أَخَذَت ‏الشيوعية شكلا علميا. لذا كتب إنجلز في ما بعد "الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية" ‏كي يُبيِّن أن ما تحمله شيوعية ماركس من جديد، هو الاعتماد على قواعد علمية، وذلك بخلاف ‏الاشتراكية التي كان ينادي بها مفكِّرون ألمان وفرنسيون وبريطانيون. وكان "البيان ‏الشيوعي" صَنَّف هؤلاء في ملف الشيوعية الطوباوية والسابقة على الشيوعية العلمية. وقد ‏كَتَب إنجلز كرَّاسا صغيرا تناول فيه هذه الموضوعات تحت عنوان "انتقال الشيوعية من ‏الطوباوية إلى العلم". وقد ترجم بول لافارغ هذا الكراس إلى الفرنسية تحت عنوان "الشيوعية ‏العلمية والشيوعية الطوباوية". ولنلاحظ هنا في ما يتعلق بالترجمة الفرنسية بيد لافارغ ‏لكراس إنجلز أن ما كان لدى إنجلز يندرج في سياق تاريخي بمنظار المادية التاريخية، من ‏حيث كونه حالة انتقالية حسب ما يتبيَّن من عنوان الكرَّاس، أصبح حسب ترجمة لافارغ له ‏قراءة ثنائية بالمعنى الفلسفي للثنائية، أو تعارضا، فإما العلم، وإما الطوباوية. وهو الأمر الذي ‏يُدلِّل على الدوغمائية والاقتصادوية في الماركسية الفرنسية منذ عهد لافارغ. ‏
وكان ماركس وإنجلز بيَّنا في "البيان الشيوعي" أن الشيوعية العلمية صَفَّت حساباتها مع ‏سابقاتها من أشكال شيوعية، من شارل فورييه‏‎ Charles Fourier ‎، إلى سان سيمون ‏والشارتيين في بريطانيا.  لقد بيَّنا أن مسألة العلم أم الطوباوية ليست خياراً ما بين ‏مذهبين، بل إن التاريخ في فترة ما من مساره هو الذي مكَّن من التفكير علميا بالشيوعية عبر ‏صراع الطبقات، في ما كان مثل هذا التفكير متعذِّرا إبان العهد التاريخي لسان سيمون وفورييه ‏كابيه و بيير لورو  ‏Pierre Leroux‏. إن هؤلاء طوباويُّون رغما عنهم إن صح التعبير. ‏طوباويُّون طالما أن التاريخ لم يتِح لهم رؤية المجتمع بصورة علمية. ‏
 
‏2/   كيف أنتَ تعرِّف الاشتراكية الديمقراطية؟
***  الاشتراكية الديمقراطية مصطلح متعدِّد المعاني عبر التاريخ. والعودة إلى الأصول مفيدة ‏لأنها تُلقي الأضواء على الموضوع. وكان أول حزب اشتراكي ديمقراطي تأسَّس غداة ثورة ‏‏1848. وكان ممثلا في البرلمان. ويُعَرِّفها ماركس في "18 برومير لويس بونارت" بوصفها ‏‏"ائتلاف ما بين بورجوازيين صغار". ويوضح ذلك بقوله: "إنهم يحذفون من المطالب ‏المجتمعية للبروليتاريا حدَّها الثوري ويعطونها هيئة ديمقراطية.  ويحذفون من المطالب ‏الديمقراطية للبورجوازية الصغيرة شكلها السياسي الصرف، ثم يُبْرِزُون حدَّها الاشتراكي. ‏وعلى هذا النحو تأسَّت الاشتراكية الديمقراطية". ‏
وفي وقت لاحق، أُدخلت المرجعية الماركسية، تارة بالرجوع إلى هذا المضمون، وتارة أخرى ‏بالرجوع إلى ذاك المضمون، أو حتى الاكتفاء بالاسم فقط. وما بين مؤتمر غوتا في العام 1875 ‏الذي يُسَجِّل لولادة الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، وصولا إلى التحريفية الرجعية ‏لبرنشتاين، وكتيب روزا لوكسمبورغ "الإصلاح الاجتماعي أم الثورة" الصادر في العام ‏‏1899، تتكاثر الالتباسات. حتى إذا ما جاء لينين، فإن الفصل ما بين الاشتراكية الديمقراطية ‏والشيوعية يصبح على يديه حاسما، قاطعا، مع ولادة الحزب الشيوعي الروسي. ‏
الاشتراكية الديمقراطية إذن اسم يطلق على الحركة الاشتراكية الدولية، وبوجه خاص الأممية ‏الثانية التي تأسَّست في العام 1889 بمبادرة من فريدريك إنجلز. فهي إذن، من حيث الأصل، ‏حركة ماركسية. لكن الأصل يعود إلى ثورة 1848 التي شهدت تحالفا ما بين البورجوازية ‏الصغيرة والعمال. فالاشتراكية الديمقراطية وليدة لهذا التحالف الذي حمل معه، كما قلت للتو، ‏التبادل السياسي والإيديولوجي ما بين الطرفين حسب ما يبيِّن ماركس في "18 برومير..". ‏وعندما صدر "البيان الشيوعي" في وقت واحد مع ثورة 1848، كانت الاشتراكية ‏تضم في حينه تيارات مختلفة، منها الفوضوية بقيادة بيير جوزيف  برودون.  ‏
وكانت ظَهَرَت مناقشات ضمن الاشتراكية الديمقراطية في نهاية القرن التاسع عشر، عندما ‏اقترح بعض الاشتراكيين الديمقراطيين، ومنهم بوجه خاص إدوارد برنشتاين، مراجعة ‏للماركسية من أجل توجيهها في اتجاه إصلاحي. إلا أن هؤلاء هُزِموا في مؤتمر إرفورت ‏Erfurt‏ في العام 1899. وأَعلن قائد الاشتراكية الديمقراطية أُوغست بابل     ‏August ‎Babel‏: "إني لن أوافق على تحطيم العمود الفقري للاشتراكية الديمقراطية، وأن يضعوا، ‏محل مبدئها القائل بالصراع الطبقي ضد الطبقات المالكة وضد سلطة الدولة، تكتيكا أعرجا، وأن ‏يعملوا بصورة حصرية  من أجل أهداف يَزعمون أنها عملية".  كما كرَّست كما قلت روزا ‏لوكسمبورغ عملها "الإصلاح الاجتماعي أم الثورة" لدحض هذا التيار. إلا أن تيار التحريف، ‏وإن كان عرف في بدايته الفشل على الفور، إلا أنه أرسى الأسس لما سيُعرَف في القرن ‏العشرين  بالتيار الاشتراكي الديمقراطي. ‏
وأصبحت الأممية الثانية، بعدما اجتازت حالات عديدة من إعادة البناء، تُعْرَف بالاشتراكية ‏الدولية. وتخلَّت كما قلت بصورة تدريجية عن قسم من مرجعيتها الماركسية.   ‏
واعتبارا من ذلك تتلاحق حسب السياق الوطني لكل بلد والتكوينات السياسية، تنويعات ما بين ‏التسميات: "اشتراكية ديمقراطية"، واشتراكية". وقد اجتازت الاشتراكية الديمقراطية ‏الطريق من التشدد إلى الميوعة، أو من اليسار إلى اليمين، عبر الانقسامات في الحركة ‏العمالية، والتحالفات الطبقية. أما الاشتراكية فقد غَرَفَت من القائمة العريضة لروادها: ‏البرودونية المحدثة، واللاسالية نسبة ل/فرديناند لاسالFerdinand Lassalle ‎‏، ‏والإمكانية، والغيدية نسبة ل/جول غيدJusles Guesde  ‎‏)والبروسية نسبة لبول ‏بروسPaul Brousse ‎)، مقتبسة كل أشكال الإصلاحية تحت أسماء مختلفة حتى يومنا هذا.‏
 
‏3/  ما بعد الحرب العالمية الثانية عَرِفَت الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا رواجا غير ‏مسبوق، وتسلم عدد من أحزابها الحكم، تارة بالتحالف مع الشيوعيين، وتارة أخرى بدون هؤلاء.‏
***  ما استجد ما بعد الحرب العالمية الثانية هو انتعاش أفكار برنشتاين في ظروف ملائمة ‏بصورة أفضل لما كانت عليه لدى ظهورها قبل عقود  عديدة. ويعود ذلك إلى عدد من العوامل. ‏أولها أن الرأسمالية، وكانت ما بعد الحرب العالمية الثانية أبعد ما تكون عن الموت، عَرِفَت ‏انطلاقة جديدة، واستجابت بالتالي لعدد من مطالب العمال والطبقات الوسطى، ووَفَّرت في الوقت ‏نفسه بفضل المعادلة حرية/ ديمقراطية/ سوق، وفَّرت أشكالا من إعادة توزيع الثروات بصورة ‏واسعة، من جهة، وتقدما مجتمعيا من جهة ثانية.  وذلك، فيما كانت، بالمقابل، سياسة التخطيط ‏في البلدان "الاشتراكية" تعزَّز من الطابع السلطوي للأنظمة. ‏
هذه هي، في أوروبا الغربية، مرحلة ازدهار الدولة، والتأميم، والاقتصاد المختَلَط، والتعاون ‏عبر المؤسسات الدستورية مع الدولة، والنقابات، وظهور إمكانية أمام طريق ثالث ما بين ‏رأسمالية السوق بعدما أُعيد ترتيبها، والتعاونية البيروقراطية. وكانت الأحزاب الاشتراكية في ‏الغرب (ألمانيا، وبريطانيا، وبلجيكا، والبلدان الإسكندنافية) هي حملة الطريق الثالث. فقد ‏انبرى برونو كرايسكي في النمسا للدفاع عن "الشراكة الاجتماعية" ‏Sozialpartnershaft‏ ‏‏. وشهد "النمط السويدي" رواجا. حتى أن الأحزاب الشيوعية في البلدان المتطورة انساقت ‏وراء هذه الحركة. وعندما أخذ الشيوعيون في هذه البلدان مسافة مع الاتحاد السوفياتي عثروا ‏على حداثتهم في الشيوعية الأوروبية ‏Eurocommunisme‏. ‏
وإذا كانت الشيوعية الأوروبية اتَّسعت لتيارات يمينية، ويسارية، ومن الوسط، فإن تيارات ‏متنازعة اجتازت الأحزاب الاشتراكية. وكان نشاط الأجنحة اليسارية التي تشكِّل أقلية ضمن ‏الأحزاب الاشتراكية يتراوح ما بين الضعيف والأقل ضعفا حسب الظروف. وإذا كانت المرجعية ‏الماركسية لم تختفِ‎ ‎أثناء هذه المرحلة، إلا أن الرجوع إليها يكون بالقطَّارة. هنا، تخلُّت هذه ‏الأحزاب عن إلغاء الملكية الفردية، وهناك، عن صراع الطبقات، أو ديكتاتورية البروليتاريا ‏والأممية. وانتهى بها الأمر إلى التخلي عن الماركسية كّلاً وتفصيلاً، حسب ما يتبيَّن من مؤتمر ‏باد- غوديزبرغ ‏‎ Bad-Godsbergالمنعقد في العام 1959. وإذا كانت هذه الأحزاب تبنَّت ‏سياسات تحويل العلاقات المجتمعية عبر تراكم الإصلاحات، فإن الطريق الثوري اختفى وحل ‏محلَّه الاندماج بالسياسة البورجوازية ونمط الإنتاج الرأسمالي. وما يسترعي الانتباه بوجه ‏خاص هو ارتباطات الاشتراكية الديمقراطية بالدولة، والمؤسسات، والمنظمات الاجتماعية، ‏والسياسات الاقتصادية الرأسمالية، والعلاقات الدولية الراهنة، والمتغيِّرات التي طرأت على ‏أشكال التنظيم الداخلي لأحزاب الاشتراكية الدولية. واجتازت تيارات مختلفة ومتضاربة هذه ‏الأحزاب، من الشيوعية، إلى الاشتراكية، إلى مزيج ما بينهما، إلى الصراع والنزاع، على ‏غرار مؤتمر تورTours‏ الذي شهد في العام 1920 انقسام الفرع الفرنسي للاشتراكية ‏العماليةSFIO،  وتأسيس الحزب الشيوعي الفرنسي، إلى الاشتراكية الديمقراطية التي تُعْتَبَر ‏انحرافا عن الاشتراكية والشيوعية، والتي أصبحت بمثابة مصدر عدوى يلوِّث الشيوعية ‏والاشتراكية معا. واليوم، وتحت تأثير العولمة، تسود، منذ سقوط حائط برلين، الاشتراكية ‏الديمقراطية بدون منافس. ‏
 
‏4/ هل يجوز أن تُوْصَف كل أحزاب الاشتراكية الدولية بالاشتراكية الديمقراطية، من حيث ‏تنظيمها، ومشاريعها السياسية، وممارستها في الحكم؟ ‏
***  إن السؤال يعود بنا إلى مسألة تعريف الاشتراكية الديمقراطية، حسب الصيغة الألمانية، ‏أو الحزب الاشتراكي الفرنسي  الذي انبثق في العام 1920 عن الفرع الفرنسي للاشتراكية ‏العمالية ‏SFIO‏. إن الاشتراكية الدولية‏‎ Internationale Socialiste ‎‏ تتَّسع لكل ‏الاتجاهات. وكان أُعيد تنظيم هذه الأخيرة في مؤتمر فرانكفورت في العام 1951، في ظل الحرب ‏الباردة، أو الإصلاحية المعادية للشيوعية، والتي جَمَعَت تشكيلات اشتراكية ديمقراطية من ‏شمال غرب أوروبا، كما الأحزاب الاشتراكية في بلدان جنوب أوروبا. هنا، ثمة تباينات ملموسة ‏ما بين بنيات هذين النمطين من الأحزاب، وبوجه خاص في ما يتعلق بالقاعدة العمالية والعلاقة ‏مع النقابات. وفي السبعينات عَرِفَت الاشتراكية الدولية ازدهارا مع طلبات الانتساب التي وردت ‏إليها من الحزب الشيوعي الإيطالي بقيادة أوشيتو ‏Ochetto، والجبهة الساندينية في ‏نيكارغوا، وعدد من الأحزاب الإصلاحية والتقدمية في العالم الثالث. وشهدت الثمانينات استلام ‏الأحزاب الاشتراكية الحكم في كل من فرنسا وأسبانيا، واليونان، وإيطاليا، والبرتغال، في ما ‏فقدت الاشتراكية الديمقراطية الحكم في كل من ألمانيا وبريطانيا. وبوجه الإجمال، فقد سيطر ‏اتجاهان: اتجاه الاشتراكية الديمقراطية التقليدية التي تتمسك بالحركات الاجتماعية، ومنها ‏أنصار البيئة، والاجتماعية الليبرالية، وهاتان الأخيرتان متعايشتان تحت سقف الاشتراكية ‏الدولية التي تفتقد إلى البرنامج، بل وأنها تفتقد إلى المقترحات ذات البعد الأممي، وتقتصر ‏نشاطاتها على ممارسة الطقوس، وتنفيذ دور النادي. ‏
وتختلف مسألة التنظيم عن مسألة الاتجاهات السياسية من حيث طبيعتها. هنا، لابد من العودة ‏إلى التراث ونحن نتذكَّر أن كاوتسكي كان نظَّم الاشتراكية الديمقراطية الماركسية بشكل البنية ‏الهرمية، على أسس من احترام شديد للمراتب، والبيروقراطية، والمطوّلات أو الموجزات التي ‏تعرض للعقيدة بأسلوب بيداغوجي. والحال، أن الأحزاب الاشتراكية، على غرار الأحزاب ‏الشيوعية، أعادت إنتاج أجهزة الدولة البورجوازية في تنظيماتها الحزبية. ‏
 
‏5/  إذا كانت منظَّمات الاشتراكية الديمقراطية تقوم على أسس من المشاركة في السياسات ‏الوطنية، كل حزب في بلاده، أتراها مؤهلة للحياة في إطار أممي يتجاوز حدودها الوطنية؟ ‏
***  إنها تستمر في الحياة في الأزمات وبفضلها، أزمات الدول- الأمم التي لا توفر جهدا من ‏أجل الحفاظ على مصالحها الخاصة، كل منها ضمن تجمُّعات ما بين عدد من البلدان، وهي ‏متنافسة في ما بينها. وفي هذه الأثناء، فإن هذه الأحزاب تخلَّت عن الأممية سواء كانت ‏بروليتارية أم لا. والتخلي عن الأممية لم يَقتصر على أحزاب الاشتراكية الدولية. وكانت الأممية ‏الشيوعية انحلَّت في العام 1943، في ما عَرِفَت الأممية الرابعة نفوذا محدودا. ويعود تاريخ ‏انعقاد آخر مؤتمر للأحزاب الشيوعية إلى العام 1969. وإذا اكتفينا بأوروبا وحدها، فإن ‏منظمات اليسار، أحزابا ونقابات، تبدو عاجزة عن تنظيم رد هجومي مشترك ضد الجبهة ‏الموحَّدة للبورجوازية، بالرغم من أن مرحلة الشيوعية الأوروبية شهدت محاولات خجولة في ‏هذا السياق. ‏
 
‏6/  ما هي التطورات التي طرأت على إيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية، بما في ذلك ‏الاشتراكية وتلك التي كانت شيوعية،  منذ انهيار الاشتراكية الواقعية؟
***  حاول غورباتشيف أن يتجاوز الانقسام ما بين الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين، ‏والذي يعود تاريخه إلى العام 1919، بالدعوة إلى التقارب ما بينهما لصالح إصلاحية جديدة ‏تعدُّدية، تحت سقف ما كان يسميه "البيت المشترك". وكان تحويل الأحزاب التي كانت ‏شيوعية في بلدان المعسكر الاشتراكي (سابقا) إلى أحزاب ديمقراطية اشتراكية هو المخرج ‏الوحيد السالك. إنها تندرج على هذا النحو في المنطق نفسه الذي كانت الأحزاب الاشتراكية ‏الغربية الحاكمة سبقتها إليه، وبرفقتها الأحزاب الشيوعية الكبرى في أوروبا الغربية التي ‏بعدما انتهت من الشيوعية الأوروبية (الأوروكومونزم) التحقت، أحيانا علانية كما هو الحال في ‏إيطاليا، وأحيانا أخرى مع الإنكار والنفي كما هو الحال في فرنسا، بالمسار الجديد للاشتراكية ‏الديمقراطية الذي يَقْبَل بالعلاقات السياسية والإيديولوجية المسيطِرَة.  ‏
 
‏7/  ما هي الانتقادات الرئيسة التي توَجَّه برأيك إلى الاشتراكية الديمقراطية في الوقت الراهن؟
***  لقد وصل مسار الاشتراكية الديمقراطية، والذي كنت أتحدث عنه قبل قليل، إلى الاستنفاد، ‏ولم يعد لديه ما يعطيه. لقد رَفَع رويدا رويداً عن نفسه ورقة التوت التي كانت تستر انغماسه في ‏إدارة المجتمع الرأسمالي. إنه رضي بكل مقومات المجتمع البورجوازي: قدرية "قوانين" ‏السوق، وهو تَستَّر على فشلها، وتبعية الاقتصاد للسياسة، والدولة للسلطات ما فوق الوطنية، ‏والمقاولة الدولية تحت قيادة الولايات المتحدة، وبوجه خاص في حال النزاعات المسلَّحة، ‏والإيديولوجية النيوليبرالية والنيوإمبريالية. ناهيكم والقائمة الطويلة من البطالة عن العمل، ‏إلى النبذ العرقي والطبقي، والفقر، والهامشية، والهجرة، وكراهية الأجانب، والفساد، واتساع ‏الهوة ما بين الطبقات. وبالإضافة إلى ذلك، لقد تعايشت الاشتراكية الديمقراطية مع تخدير ‏النقابات وحركات الجماهير. ونحن اليوم في معركة للدفاع عن آخر المكتسبات المجتمعية، ‏ولمقاومة الخصخصة، وذلك في ما الحزب الاشتراكي مستقيل من هذه المعركة، بعدما نام ‏باطمئنان على وعود بحقن الدستور الأوروبي بجرعة صغيرة من المطالب المجتمعية، ‏وبمساعدات ضئيلة لإفريقيا المنهوبة.  ‏
 
‏8/  هل تفسح الرأسمالية، سواء من حيث تطورها أم من حيث أزمتها، مجالا  جديدا أمام ‏الاشتراكية الديمقراطية؟ هل ثمة مستقبل للاشتراكية الديمقراطية في ضوء ذلك؟ ‏
***  الاشتراكية الديمقراطية هي هي نفسها لا تتغير طالما أنها تكتفي بالإجراءات الصغيرة ‏والجزئية والوعود. إن سياساتها تنتهي دوما إلى الوفاق الطبقي. وماهي قاعدتها المجتمعية؟ ‏كان زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتيران انتُخِب في الجولة الثانية من الانتخابات ‏الرئاسية للعام 1981. إن 72 بالمائة من أصوات العمال، و62 بالمائة من أصوات الموظفين ‏والإداريين من الفئة الوسطى صوتت في الجولة الثانية لليسار. وكان الحزب الاشتراكي يُعتبر ‏في حينه "أول حزب عمالي في فرنسا". إلا أن الأرقام تشير إلى أن 74.3 بالمائة من ممثليه ‏في البرلمان كانوا من أصحاب المهن الحرة وشرائح من الطبقات العليا، بما في ذلك أرباب ‏العمل.
 
‏9/ إن أزمة الحركة العمالية تدحض في ضوء أجوبتك مصداقية إستراتيجية الاشتراكية ‏الديمقراطية، والإستراتيجية الراديكالية على حد سواء. وفي مثل هذا السياق كيف تميِّز ما بين ‏الإستراتيجية الإصلاحية وإستراتيجية القطيعة النهائية مع الرأسمالية؟ ‏
***  تحتاج أزمة الحركة العمالية إلى بحث مطول. بيد أني مقتنع بأن هذه الأزمة إذا كانت ‏تصطدم بعجز الاشتراكية الديمقراطية، فإن الإستراتيجية الراديكالية أقل اصطداما بالأزمة من ‏سابقتها. لأن هذه الأخيرة، بصرف النظر عن برامجها وأشكالها، فإنها تجد لنفسها بحكم ‏الضرورة مرتعا للحركة عبر الأزمة. والمشكلة هي أن أجهزة الأحزاب تنفر دوما من الاستغناء ‏عن المفارقة ما بين وظيفتها الحزبية من حيث هي ممثل سياسي ومجتمعي، وقواعدها ‏المجتمعية. فالأحكام المسبقة والمكتسبة والتي تعمل بموجب رد الفعل الانعكاسي هي التي ‏تتدخل عندما تظهر الدعوة إلى توحيد اليسار، فيما تتناسى هذه الأحزاب قواعدها التي تطالب، ‏لاعتبارات ضرورية وبالرغم من تفرُّقها وتعبها، بتوحيد اليسار.  هذه الحالات من المنعكس ‏الشرطي هي التي تفسِّر ما يَلحق من فشل بالمحاولات الرامية إلى توحيد اليسار الراديكالي. ‏فكلٌ حزب من هذه الأحزاب يريد الانفتاح نحو اليسار، إلى أن كلا منها على حدة يريد لمواقفه ‏أن تكون هي مركز الانفتاح نحو غيره من الأحزاب. حتى أن هذا المركز يتحول إلى غربال يقاوم ‏مرور كل ما يبدعه المجتمع المدني من حركات مجتمعية خلاقة وديناميكية، من حركات سلام، ‏وأخرى مناهضة للعرقية والقنبلة النووية، وحركات للشباب والنساء، ولجان للتنسيق، إلخ، ‏والتي تنتهي إلى النبذ السياسي، أو إلى اعتبارها "احتجاجية"، حسب التعبير السياسي الشائع ‏للإيديولوجية السائدة التي تصنَّف اليسار الراديكالي تحت هذه البطاقة. فلنفترض أنها توحَّدَت ‏بالفعل، وأن التوافق أصبح واقعا. إن مسألة القطيعة مع الرأسمالية أو حتى الإصلاح الجذري، ‏والتي لم تجد في الماضي أمامها سوى فرصا محدودة للنجاح، ستتوفر، في مثل هذه الحالة، ‏أمامها فرصا أفضل وأوسع. لاسيما وأن النظام السائد، نظام العولمة والنيوليبرالية، لا يسمح ‏بإصلاحات تحررية من داخله. وهو الأمر الذي يَفرض نوعا من الاحتجاج معد خصِّيصا ‏لمناهضة النيوليبرالية والعولمة، قوامه البديل الراديكالي. ‏
أنا من جهتي على ثقة بأن العقلانية الحديثة ستجد طريقها إلى الواقع، وأن الجولة الاجتماعية، ‏ما بعد الجولة الانتخابية، قادمة لا محالة. ولكل منا دوره المتواضع في صناعة هذا الحدث. دور ‏يشبه حد النفي في الجدل الهيجلي. إن الأمل لدى المسيطَر عليهم، سواء كان مكبوتا أم ‏مجروحا، هو وحده الذي لا يُخَرَّب. ‏
‏10/  هل تعاني الشيوعية من حالة ضعف، أو وهن عبر التاريخ، كانت وما تزال ترافقها منذ ‏سقوط كومونة باريس لغاية سقوط حائط برلين مرورا بكل الثورات التي اندثرت وفي مقدمتها ‏كومونة باريس  وجمهورية روزا لوكسمبورغ؟
***  هذا الضعف لا محل له من الإعراب، لأن الشيوعية داخل الماركسية هي – إن صحَّ التعبير ‏‏– روحها الطوباوية. فبقدر ما تعمل الماركسية على تحليل الصراع الطبقي خلال فترة بعينها، ‏بقدر ما تبقى الشيوعية، من حيث هي التطلع إلى مجتمع تسوده علاقات الانسجام ما بين أفراده ‏‏– إن علاقات كهذه ما تزال غائية كل مجتمع يتوق إلى الانسجام - حاضرة من حيث طوباويتها ‏العلمية. فالماركسية تذكِّرنا بـأن المسار يتَّجه، بصرف النظر عن المعارك الرابحة وخلافها ‏الخاسرة، نحو مجتمع منسجم مع نفسه، أو مجتمع يستعيد حالة الوفاق مع نفسه، هذا المجتمع ‏هو المجتمع الشيوعي. ‏
من وجهة النظر هذه يَعتقد إرنست  بلوخ  ‏‎ Ernest Bloch‏ أن الطوباوية ليست فقط ‏العنصر الأعلى في تعريف الماركسية، وإنما، علاوة على ذلك، تندرج في سياق النضال من أجل ‏هدف، وتمارس أيضا دورا في إحياء الماركسية. إنه دورٌ ديناميكيٌ. إن هذا العنصر الطوباوي ‏في الشيوعية هو الذي سَمَحَ للشيوعيين في فترات الكسوف والانحسار تجاوز لحظات اليأس. ‏
‏11- بعدما شهدت الشيوعية العلمية هذا المسلسل الطويل من الانحسار فإن استمرارها على ‏قيد الحياة يُشبه المعجزة، أليس كذلك؟!‏
***  الشيوعية خّرَجَت حيَّة من كل هذه التقلُّبات. وإن أبسط ما يقال في هذا المعرض إن ‏الشيوعية اليوم تحافظ على قيمتها شأنها شأن الماركسية، لأن المجتمع السائد في وقتنا الراهن ‏هو نفسه المجتمع الذي كان سائدا عندما شخَّصه ماركس وأطلق عليه تسمية المجتمع ‏الرأسمالي. صحيح أن هذا المجتمع خَضع للتغيير، وأن العلاقات الرأسمالية اليوم ليست هي ‏نفسها في القرن التاسع عشر لسببين اثنين بأقل تقدير. الأول يعود إلى التغيير الذي لحق ‏بالعلاقات الرأسمالية التي أصبحت تسيطر على العالم بأسره، وذلك على غرار ما نراه اليوم في ‏عصر العولمة. فقد امتدَّت العلاقات الرأسمالية واتَّسعت لتشمل العالم بعدما قَضَت على أشكال ‏من الإنتاج كانت سائدة سابقا قبل أن تحل محلَّها. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي فإن الرأسمالية ‏اختطفت – إن صح التعبير – مئات ملايين العمال من الاتحاد السوفياتي وبلدان ‏المعسكر  الاشتراكي  وضمّتهم  في  سياق  تطورها الخاص  بها. ‏
والثاني وثيق الصلة بالصراع ما بين الطبقة العاملة ورأس المال. فإذا كان للرأسمالية تاريخ ‏منذ كتابة ماركس لـ"رأس المال" قبل نحو 150 سنة وحتى اليوم، فإن هذا التاريخ ليس عبارة ‏عن حياة مجرَّدة لا علاقة لها بواقع ملموس. إن تاريخ العلاقات الرأسمالية يَندرج في صراع ‏الطبقات، ويتداخل مع تاريخ الحركة العمالية، أو إنه، بعبارة أخرى، ذو صلة بتاريخ ‏الماركسية. فثمة تنضُّح أو ترشُّح للرأسمالية عبر صراعها مع الشيوعية. فالشيوعية أَرغمت ‏الرأسمالية في نظامها نفسه على القبول بمطالب يحملها العمال. وهو ما يُعرف بالمكاسب ‏المجتمعية التي قُيِّدَت للعمال عبر صراع الطبقات. وهذه المكاسب ليست هدية مُقدَّمة من ‏الرأسمالية. وهذا يصحُّ أيضا في ما يتعلق بمكتسبات الديمقراطية السياسية وتلاشي الأنظمة ‏الديكتاتورية. إن انتشار الديمقراطية يدلِّل بأن الرأسمالية قدَّمت تنازلات على الصعيد السياسي. ‏علما أن الديمقراطية تقع تحت إشراف الرأسمالية ورقابتها. ويأخذ هذا التداخل أو الرشحان ‏والنضح ما بين الرأسمالية والشيوعية مظهر العدوى إن صح التعبير. فقد انتقلت المطالب ‏العمالية إلى آلية الرأسمالية ووظائف عملها. بيد أن الضد صحيح أيضا. فقد نَشَرت الرأسمالية ‏الوهم القائل إن استلام السلطة بالطرق السلمية وعبر الديمقراطية البرلمانية ممكن، حسب ما ‏تنادي به الأحزاب الإصلاحية ممثَّلة بأحزاب الديمقراطية الاشتراكية. ‏
ثم إن للرأسمالية مظهراً آخر ذو صلة بالثقافة والسياسية، وذلك خلافاً لما كان يُعْتَقَد أثناء ‏الأممية الثانية، وفي أوساط أوائل الماركسيين الفرنسيين. فالرأسمالية ليست نظاما آليا ‏ميكانيكيا يدور بموجب سلسلة من العلية المستديمة على مسار خط مستقيم من الخطط ‏الاقتصادية. كلا إن الرأسمالية كما يقول لوكاش تحمل أثارا اقتصادية، إلا أن الفصل ما بين ‏الاقتصاد الرأسمالي وأثاره الثقافية والسياسية ضرب من المستحيل. فأثر الرأسمالية طغى على ‏السياسة لأن أشكالها وأنماطها ووظائفها قيست بمقياس الرأسمالية، أو على قدِّها وقديدها. ‏فالرأسمالية رَشَحَت إلى السياسة حتى جعلت منها نظاما مطابقا لها ولمصالحها، دون أن تأخذ ‏بعين الاعتبار المطالب العمالية. أضف إلى ذلك أن للعوامل الثقافية دوراً هاماً في النظام ‏الرأسمالي، حتى وإن كانت الثقافة تنضح بالصراع الطبقي، وذلك على غرار ما كان يقول لينين ‏في ما يتعلق بالفلسفة. // إذن لم تمت الماركسية والشيوعية بفعل معجزة، وإنما لأن التطور يقع في سياق من علاقات ‏الإنتاج الرأسمالية. وكان ماركس مقيما في علاقات الإنتاج. ونحن بدورنا مقيمون حيث كان ‏مقيما. والحيز الهام للماركسية اليوم هو نفسه تاريخ علاقات الإنتاج الرأسمالية وما يرافقها ‏من صراع طيقي. هذا التاريخ، من حيث هو، قَلَب العلاقات ما بين رأس المال والعمل رأسا على ‏عقب. وهذا الانقلاب الذي يَضعنا اليوم وجها لوجه أمام علاقات للقوى أصعب مما كانت عليه ‏في الماضي، طالما يجتاز العالم العمالي مرحلة دفاعية بعدما فَقَدَ مواقعه الهجومية. والعالم ‏العمالي مطالب اليوم بأن يستعيد نضاله الإيجابي. لقد اجتازت الماركسية ثلاثة قرون، وهي ما ‏تزال حية، كما أن السياق التاريخي للرأسمالية هو نفسه دوما. ‏
 
‏                                 ثالثا - الديمقـراطــية والثـورة
‏                                         السـلطات الـثلاث تقســيم أيديولوجي ‏
 
‏1/   نحن ما زلنا خلال حوارنا في قلب الديمقراطية حسب مفهوم الأممية الثانية لها، وما يرافق ‏ويَتبَع ذلك من أحزاب شيوعية تسبح في الإصلاحية والديمقراطية بمعناها البورجوازي الضيق ‏الذي يتقيَّد بتقسيم السلطات الثلاث، ولم تعد هي تطالب بالديمقراطية الموسّعة. وبمعنى آخر ‏فإن ديكتاتورية البروليتاريا من حيث هي ديمقراطية الطبقة العاملة قد سَقطَت من البرامج ‏السياسية والوثائق الفكرية لكثير من الأحزاب الشيوعية. وهنا يأتي تسرُّب استلاب جديد ‏للإنسان من خلال هذا الامتداد لأثر الإصلاحية الشيوعية التي كانت بدأت مع الأممية الثانية، ‏واستمرت بعد ذلك من خلال الديمقراطية. أنا اقصد أننا أمام استلاب الديمقراطية السائدة من ‏حيث هي الوجه الآخر لاستلاب الإنسان الحر.‏
***  لاخلاف في ذلك، فلقد بدأت هذه الحالة مع الأممية الثانية. وكان إنجلز يردِّد حينذاك أن ‏زمان الحواجز قد انتهى، وجاء زمن استلام السلطة عبر البرلمان. إلا أن المأساة ما لبثت أن ‏وقعت عندما تبيَّن بصورة ملموسة أن استلام السلطة بفضل الانتخابات البرلمانية ضرب ‏من المستحيل. وإن أفضل مثال على ذلك هو السبارتاكيستيُّون ‏Sparta‏ الذين أُبيدوا، ‏ليس بيد الرجعيين وإنما بأيدي الاشتراكيين الديمقراطيين، أو قائد المتطوعين الذين قمعوا ‏الثورة الألمانية 1918-1919 غوستاف نوسكي. واعتبارا من الثورة الألمانية، فإن ‏العنف نُحي جانبا ما إن ظهرت شروط الديمقراطية البورجوازية التقليدية، التي تَحمل معها ‏درجة عالية من التطور الاقتصادي، من جهة، وهذا الشكل السياسي المتقدِّم الذي يُعرَف ‏بتسمية الديمقراطية. وأصبح على هذا النحو استلام السلطة مرتبطا بالديمقراطية بعدما نحيَ ‏العنف جانبا. بيد أنهم سلَّموا بأن العودة إلى العنف ممكن في البلدان التي لم تَعرف درجة ‏متقدِّمة من التطور الاقتصادي، أي روسيا وكل البلدان الزراعية، والصين، وأمريكا اللاتينية، ‏وآسيا. لكن التجربة السياسية في البلدان المتأخرة، مع ما تحمله من تناقضات، قد قادت إلى ‏تعزيز الفكرة القائلة إن الديمقراطية بدون استخدام العنف هي الطريق الوحيد الممكن لاستلام ‏السلطة، لأن العنف في بلدان المعسكر الاشتراكي، وهي خير مثال على البلدان المتخلفة في ‏العام 1917 وما بعد، باء بالفشل. في مواجهة هذا الحدث، فإن الأحزاب الشيوعية اليوم لا توفِّر ‏جهدا من أجل التوكيد على شخصيتها. لذا فإنها تبتعد عن أحزاب الاشتراكية الديمقراطية، ‏والتيارات الإصلاحية الليبرالية المنتشرة في اليسار، والتي تنزلق أكثر فأكثر نحو مواقف ‏يمينية، أو بالأحرى نحو الاندماج في المجتمع البورجوازي.‏
إن إدانة الديمقراطية ليست هي الرد الموفَّق، وكما كان لينين يقول، فن الدفاع عن ‏الديمقراطية لازم. إلا أن مثل هذا الدفاع يجب أن يَستجيب لمصالح العمال، وليس لمصالح رأس ‏المال والملكية الخاصة. إن أعمال لينين كلها تمجِّد الديمقراطية، وذلك على نقيض من تهمة ‏الديكتاتورية الموجَّهة إليه. ديمقراطية لينين لا تمت بصلة إلى الديمقراطية المزيَّفة الني ‏نَعرفها اليوم، والتي شَبَكت حبالها وخيوطها بصورة محكمة، حتى بات استلام العمال للسلطة ‏مستحيلا. فهي لا تَفتح أبوابها إلا أمام الخاضعين المستَسلمين للهيمنة البورجوازية، والذين لن ‏يُعيدوا النظر في تكون السلطة ووظائفها. ها هنا يَظهر الاختلال بين التناوب الذي يُتيح التتابع ‏على قيادة السلطة في كيان سياسي يُكرِّس لبناه المجتمعية، وبين البديل الذي يَهدف إلى تغيير ‏هذه البنية المجتمعية.‏
 
‏2/   ما الذي يتبقى اليوم من لينين؟
***  يَندرج موقع لينين في هذا السياق من التناوب والبديل، على نحو ما يرشح من خلال مجابهته لأنصار ‏كارل كاوتسكي ‏Karl Kautsky ، وإدوارد برنشتاين ‏Eduard Bernstein‏  ‏اللذين سيطرا على الأممية الثانية. فقد أكّد لينين أن الشروط الثورية متوفِّرة من حيث الإمكان، ‏وأن النضال من أجل استلام السلطة ممكن. وقد قال ذلك في بداية الحرب العالمية الأولى، في ما ‏كانت الرأسمالية قَفَزَت إلى مقدِّمة الساحة، وهي في أوج قوتها، حتى أنها نَجَحَت في زج ‏الطبقة العاملة في الحرب بعضها ضد البعض الآخر. الأمر الذي قاد لينين إلى بناء طريق إلى ‏الشيوعية وفق الظروف المحيطة بروسيا، واستبدال الأممية الثانية التي كانت إصلاحية، وآلية ‏ميكاينيكية، بأممية ثورية، أو الأممية الثالثة. والبلشفة لدى لينين هي هذه القطيعة الحاسمة ‏مع الأحزاب الاشتراكية التي تتبنى الماركسية. وقد انتقل هذا الانقسام إلى فرنسا. وكان مؤتمر تور بفرنسا ‏‎ Tours، عَرِفَ انقسام ‏الاشتراكيين إلى حزبين اثنين. حزب الأكثرية، وهو الحزب الشيوعي. واعتبارا من هذا الحدث، ‏فإن تاريخ الحركات العمالية في فرنسا يأخذ موقعه ضمن الصراعات ما بين الشيوعيين ‏والاشتراكيين.‏
واليوم فإن الأيديولوجيا السائدة تريد أن تدفن لينين، وذلك حسب ما يتبيَّن من التجاهل شبه ‏الكامل للاحتفالات بالذكرى الثمانين لثورة أكتوبر 1917، بما في ذلك في صفوف اليسار ‏الشيوعي الذي لم يشارك في هذه الاحتفالات إلا بصورة خجولة. ويَنصَب النقد على لينين اليوم ‏باعتباره المصدر الأول للستالينية. ويعتقد منتقدوه هؤلاء أن صلة ما بين لينين والستالينية ‏كافية بحد ذاتها كي يُحكم على لينين بالدفن إلى الأبد. ثم تأتي المساعي الرامية إلى إلحاق ‏الخزي بثورة أكتوبر من أجل النيل من سمعة لينين. وتتبلور هذه المساعي بصورة واضحة ‏بمناسبة الاحتفالات بالذكرى المائتين على ثورة 1879، حيث عارضت مدرستان تاريخيتان ‏إحداهما الأُخرى. الأولى ممثَّلة ب/ ميشيل  فوفيل‎ Michel Vovel‏ الذي يَنتمي للمدرسة ‏الماركسية، والثانية ب/فرانسوا فوريهFrançois Furet‏ الذي ينتمي إلى المدرسة الرجعية ‏التحريفية. وقد انبرت هذه الأخيرة للدفاع عن فكرة مؤدَّاها أن ثورة 1917 ليست ثورة، وإنما ‏هي انقلاب عسكري بقيادة البلاشفة الذين فرضوا أنفسهم في ما بعد عن طريق العنف، وبفضل ‏تدمير الحزب الاشتراكي، وفرض قوانينهم في الريف، وفي عموم روسيا. وإن هذا الانقلاب إذ ‏يُعلن انتسابه إلى الثورة الفرنسية، فذلك لأنه وسِّع من حالة الرعب بصورة هائلة، في ما بعد، مع ‏بناء الاتحاد السوفياتي. وحالة الرعب هذه برأي فوريه هي الغولاك ‏Goulag‏ (معسكرات السجون في سيبيريا السوفياتية) ‏‎. وقد أَوجز ‏فوريه ثورة أكتوبر بالعبارات التالية: الغولاك هو الرعب، وستالين هو روبسبيير. وما الهدف ‏من وراء مقارنة وتشبيه من هذا القبيل سوى تحطيم كل صلة ما بين ثورة أكتوبر 1917 ‏والثورة الفرنسية 1789 ، وما يليها من ثورات، ثورة 1848 ، وكومونة باريس، ‏وثورة 1905 في روسيا.‏‎  ‎إن ما يغيب عن إدراك هؤلاء أمر رئيس لا يستهان به من حيث ‏أهميته، وقد أَوجزه جون ريد في كتابه "عشرة أيام هزَّت العالم". ذلك أن ما حدث في ‏‏17 أكتوبر 1917، وما لا يَقبَل الجدل هو ما يقوله ريد في عنوان كتابه هذا، "عشرة أيام هزّت ‏العالم". وقد رأى هذا الصحفي الأمريكي الذي عايش الأيام الأولى للثورة، كيف أن أقلية فاعلة، ‏وهي البلاشفة، فَرَضَت نفسها. لكن آمال الشعب في روسيا كانت تتجمّع من حول هذه الأقلية ‏الفاعلة. فلقد التف من حولها ملايين وملايين الفلاحين الذين كانوا يريدون التخلُّص من استبداد ‏القيصر، واستثمار الأرض بأنفسهم، وامتلاكها بالقضاء على النظام الإقطاعي الذي كان سائدا؛ ‏هذا من جهة، ومن جهة ثانية، كانت الطبقة العاملة تتميَّز بقلة عددها، إلا أنها كثيفة للغاية في ‏المدن الكبرى، كموسكو ولينينغراد، والتي قاتلت أيضا بدون هوادة. ولنذكر هنا أن الحلقات ‏الماركسية كانت في ذاك العهد ضعيفة النفوذ في البلدان الصناعية المتطورة، بينما كانت قوية ‏للغاية في أوساط المثقفين الروس. الأمر الذي قاد إلى انتشار الثقافة الماركسية، والتربية ‏النظرية، في أوساط الطبقة العاملة في روسيا بصورة تفوق تلك التي كانت  سائدة  في  البلدان  ‏الأخرى،  مادام  تأثير  الاشتراكية  الديمقراطية  في  البلدان  الصناعية الكبرى،  قويا.‏
إلى لينين يعود الفضل في إدراك أن موازين القوى، التي كانت سائدة في روسيا في العام ‏‏1917، تتيح الثورة. وهو وحده من أدرك هذا الواقع. وهو ما يُعرَف بأطروحات نيسان/ أبريل. ‏وكان من بين الأقلية البلشفية التي أدركت أن قلب حالة الحرب رأسا على عقب إلى حالة ثورية ‏ممكن أملاً في أن يكون هذا الانقلاب معديا، ويصل مداه إلى ألمانيا، بحيث تصبح الثورة ‏عالمية. وكان لينين يردِّد في العديد من المناسبات قائلاً إن الثورة بقدر تيسر إنجازها في روسيا ‏من حيث الانطلاق، بقدر ما يصعب استمرارها فيها ما لم تصبح عالمية. وهذا ما حدث بالفعل، لأن الثورة ما لبثت ‏أن فشلت مع قدوم العقيدة الستالينية للدولة.‏
إن الشخصية البارزة للينين في تاريخ الماركسية ذات أهمية قصوى، لا لشيء إلا لأن لينين كان ‏أول من يُنجز ثورة. فقد كانت الثورة لدى ماركس وإنجلز فكرة أو موضعا للتفكير، وهما تابعا ‏ولاحظا وسجَّلا ظواهر ثورية، 1848، وكومونة باريس، واستنتجا الدروس والتحليل النظري ‏من هذه وتلك. بيد أنهما لم ينجزا الثورة بالصورة الملموسة. كان ماركس شارك إلى حد ما في ‏ثورتي 1848 والكومونة والحركة الثورية لعمال ألمانيا، أما لينين فإنه أول منظَّر ماركسي ‏يُنَفِّذ ثورة. أي أنه أول من وضع موضع المواجهة كل الإرث النظري الذي وصل إليه ماركس، ‏لكنه يتبناه بمنطق الواقع الملموس والشخصي لروسيا. هنا تبرز مفارقة هامة. إذ أن أوضاع ‏روسيا كانت أبعد ما تكون عن تحليل ماركس من جراء تأخرِّها الاقتصادي والسياسي. إلا أن ‏أعمال لينين التي تتبنى الماركسية انتهت إلى إنجاز التغيير الثوري في روسيا بتسوية ‏الماركسية وفق المقاييس الخصوصية لعلاقات وموازين القوى في روسيا، وفي ضوء ‏خصوصيتها، حسب ما يتبيَّن بوجه خاص في أعمال لينين: "تطور الرأسمالية في روسيا" من ‏الناحية الاقتصادية، و "ما العمل" في المجال السياسي.‏
قلتُ للتو إن لينين انتهى إلى إنجاز الثورة بتسوية للنظرية وفق المقاييس الخصوصية لعلاقات ‏القوى في روسيا، ومن حيث الواقع الملموس. والثورة تستمر بالعودة دوما إلى المقاييس ‏الخصوصية. فتسوية النظرية ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد إذا ما أردنا أن ننجز الثورة. وإذا ‏كانت أحكامنا تتباين في ما بينها حيال هذه البداية الجديدة للتسوية من النمط اللينيني، فإنها ‏تتباين من حيث خصوصيتها، وذلك حسب ما نراه لدى كل من ماوتسي تونغ، وهو شي منه، ‏وكاسترو، إلخ..إلخ. إلا أن هذه التسوية هي نفسها في جميع هذه الحالات. ونحن اليوم، إذا كنَّا ‏نتبنى القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية، فإن المجال يتَّسع أمام لينين أكثر من غيره كي ‏يحدِّثنا عن خبرته في التسوية ما بين النظرية والمقاييس الخصوصية لعلاقات القوى، دون أن ‏يعني ذلك أن تطبيق مبادىء الماركسية اللينينة على كل الأوضاع متشابهة في ما بينها كما ‏تذهب إلى ذلك الستالينية. فالأوضاع الثورية الملموسة ليست متشابهة في ما بينها، ولكل منها ‏خصوصيته. وكان لينين يخاطب الجمهوريات الواقعة إلى جنوب روسيا بقوله: إن ابتكار ‏ثوراتها هو من شأنها وحدها، وهي لن تنجز ثورتها بتقليد الأنماط التي ظهرت في موسكو ‏ولينينغراد. ‏
 
3/  هل تعتقد أن ثمة طريقاً ديمقراطياً إلى الاشتراكية؟ وهل ترضى البورجوازية بمثل هذا ‏الانتقال؟ أليست هي أول من يتخلَّى عن الديمقراطية من أجل الحفاظ على سلطتها عندما تراها ‏مهدَّدة، وذلك على غرار ما حدث في ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وأسبانيا الفرانكية، ‏والبرتغال في عهد سالازرت، واليونان وتركيا تحت حكم العسكريتاريا، إلخ؟ ‏
***  من الناحية النظرية، والنظرية فقط، فإن مثل هذا الانتقال يبدو ممكنا. أما في الواقع ‏الملموس فإن الجواب يكون بالنفي. فمن الوجهة النظرية، نحن نستطيع أن نردِّد دوما أن نضال ‏العمال في الأنظمة الديمقراطية سوف يُرغم البورجوازية رويدا رويدا على احترام أعظم ‏للانتخابات ومسألة تمثيل الطبقة العاملة في البرلمان. أما الجواب التاريخي، فإنه قاطع وحاسم: ‏كلا. ذلك أن البورجوازية كانت تتخلَّى عن الديمقراطية كلما كفَّت هذه الأخيرة عن خدمة مصالح ‏البورجوازية الحاكمة. وألمانيا النازية خير مثال على ذلك. كلا مرة ثانية، لأن الأنظمة ‏الديمقراطية في أيامنا الراهنة صيغت دستوريا للحفاظ على السلطة البورجوازية. هذا هو حال ‏دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وغيرهما من الجمهوريات في أوروبا الشرقية ‏التي استَلهَمَت دستور الجمهورية الخامسة لبناء نظام يضع السلطة التنفيذية على الهامش، ‏ويَجعل من مجلس النواب غرفة لتسجيل الصادر والوارد، ويضع بالتالي يده على السلطة ‏القضائية. ‏
 
‏4/   أليس تقسيم السلطات الثلاث واختصاصات كل منها ترجمة سياسية لتقسيم العمل، هذا ‏التقسيم الذي يُعْتَبَر أيدلوجيا بامتياز؟
***  نعم، إن النظام الديمقراطي، أيا كانت الدرجة التي ارتقى إليها نحو الأفضل، فإنه يبقى ‏غرفة محجوزة لعدد مختار من المواطنين إلى حد إلغاء شكل الدولة، حتى في المجتمع ‏الاشتراكي. أما الشيوعية، فإنها تلغي هذا التقسيم الأيديولوجي للسلطات. إذ أن المثال الأعلى ‏للدولة، أو للطوباوية والشيوعية ضمن الماركسية، هو سلطة العمال المتَّحدين، أو التسيير ‏الذاتي الذي يتَّسع ليشمل أيضا المجال السياسي. وهذا المثال الأعلى ليس في متناول الخيال ‏بيسر. إنها السلطة المثالية كما كان يقول لينين. إن البورجوازية تتخلَّى عن الديمقراطية ما إن ‏يكف النظام الديمقراطي عن توفير امتيازاتها وأمنها للاحتفاظ بالسلطة المسيطِرَة. ‏
 
5/   ماهي العلاقة ما بين تقسيم العمل من حيث هو أيديولوجيا بامتياز، والفصل ما بين السلطات ‏الثلاث للدولة من حيث هي أيضاً أيديولوجيا بامتياز، طالما كانت السلطات الثلاث إياها هي ‏سلطات الدولة وليس المجتمع؟ إن الديمقراطية الحقيقية هي التي تَمنَح سلطات للمجتمع أوسع ‏من سلطات الدولة، وبحيث يراقِب المجتمع عن كثب سلطات الدولة. أما في الديمقراطية ‏البورجوازية فإن السلطات الثلاث هي الحيز الخاص بالدولة؛ بل إن الدولة هي نفسها التي ‏تُقَسِّم على انفراد السلطة ما بين ثلاثة أجهزة، ثم تتقاسم هذه السلطات. ما رأيك؟
***  إن السؤال يلمس نقطة رئيسة مؤسِّسَة. إن الثورة لا تأتي بين ليلة وضحاها. والثنائية ‏بين المجتمع الاستغلالي من جهة، وبين الثورة من جهة ثانية تنعدم في سياق النضال ‏المجتمعي. وتبقى الثورة أثناء ذلك، وخلال مرحلة طويلة من النضال، كامنة ومستمرة، قبل أن ‏يتيح النضال انتقال المجتمع الاستغلالي إلى الثورة. وأثناء مرحلة النضال هذه يَظهر موقف ‏قديم للغاية كان ماركس أشار إليه في "كتابات 1848" مفاده تسعير أسلحة الخصم لطعنه بها. ‏فالبورجوازية إذ هي تَرفع شعارات الحرية، والمساواة، والإخاء، فإن تقيُّدها بهذه الشعارات ‏على أرض الواقع يبقى بعيد المنال. وبالمقابل، فإن المعركة تتطلب من العمال أن يُطالبوا بتنفيذ ‏هذه الشعارات. وكان مونتسكيو ‏Montesquieu   اقترح تقسيم السلطات في الدولة إلى ‏ثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. بيد أن البورجوازية، وكل البورجوازيات، أبعد ما ‏تكون عن احترام الفصل ما بين السلطات. فالسلطة التنفيذية في أعلب الأحيان تتسلط وتسيطر ‏على السلطتين الأخريين، في ما يقف المجتمع المدني عاجزا. ففي فرنسا على سبيل ‏المثال، عندما يطالب القضاة والمحامون اليوم بعدالة واحدة متساوية بين كل المواطنين، فإنهم ‏يدافعون على هذا النحو عن السلطة القضائية. واليوم أيضا، فإن أنصار المساواة بين الرجل ‏والمرأة يرفعون شعار المساواة بين الجنسين في العمل،   ولاسيما في ما يتعلق بالأجور ‏وساعات العمل.‏
‏      رابعا -  الـمــجـتمـــع الـمـــدنـي:‏
‏                "إذا كـان المــجتمع لا يلــيق بالـدولـة غــيِّروا الشـــعب إِذَنْ!‏"
 
‏1/  لماذا تخلَّى ماركس عن مفهوم المجتمع المدني بعدما كان استعان به، ثم اكتفى بالمجتمع ‏بدون إضافة؟ ‏
***   تطَوَّرت فكرة المجتمع المدني لدى ماركس. وكان أخذ هذا المفهوم عن هيجل في مؤلَّفه ‏‏"مبادىء فلسفة القانون". حيث يبيِّن هيجل هنا أن المجتمع المدني يُنْتِج عددا من السلطات ‏التي تتوسَّط ما بين المجتمع والدولة، ومنها الأسرة من حيث هي سلطة من سلطات المجتمع ‏المدني موجودة إلى جانب الجماعات المجتمعية، كالطوائف، وغيرها. وهذه الأخيرة هي بمثابة طرقٌ لا بد ‏من المرور عبرها للوصول إلى الدولة. أي أن الدولة انبثاق لمكوِّنات المجتمع المدني وسلطاته ‏وهيئاته. وما يثير الاهتمام في نظرية هيجل أن المجتمع المدني نقيض للسلطة الطبيعية التي ‏تُمْنَح بصورة اعتباطية. والسؤال عند هيجل قوامه كيف يجري الانتقال مما هو فردي ذو جذور ‏في الأسرة والجماعات إلى ما هو جماعي، أو الدولة التي ستدير وتقود المجتمع المدني ‏بمجمله، وذلك بفضل تشييدها لخدم الدولة، من موظَّفين يَخْدُمون الدولة ويُوَجِّهون المجتمع ‏المدني. ‏
كان ماركس في مطلع الأمر يرى أن أطروحة هيجل هذه موضع للانتقاد لأن الدولة، شأنها شأن ‏الله عند فويرباخ، هي الأُقنوم الذي يصادر قوى المجتمع المدني ليقلبها ضده. أي أن الدولة ‏تجريد في خدمة طبقة لفرض البيروقراطية على المجتمع المدني. لذا فإن ماركس يَفهم الثورة ‏في هذه المرحلة من عمله، ليس من حيث هي مجتمعية حسب ما ستؤول إليه في مرحلة لاحقة ‏من عمله، وإنما بوصفها استعادة المجتمع لكل القوى التي كانت الدولة صادرتها منه. ‏فالمجتمع المدني، هنا، يَسْتَرجِع الأشكال التي كان تنازل عنها تحت تأثير استلاب الدولة، أو وهم الدولة ‏للجميع بالعدل والتساوي. ‏
لكن ماركس في مرحلة لاحقة من عمله يُميِّز بين "إنسان المجتمع المدني"، أو المجتمع ‏المدني البورجوازي، وبين الدولة. وهذا التمييز هو نفسه التمييز ما بين فردين اثنين. ثمة فرد ‏في المجتمع المدني البورجوازي، كالحدّاد، والأستاذ، والمحامي، والطبيب. إنه فرد مجسَّدٌ ‏وملموسٌ يَخَضع لمصالح الطبقة، ويَحْمِل أيديولوجية. وثمة فرد آخر هو الفرد في الدولة، أو ‏المواطن. وأمام الدولة يكون جميع الأفراد متساوين. وهذا زيف كاذب ومفهوم تجريدي يساوي ‏الاستلاب. وعلى هذا النحو يَنْتَقد ماركس حقوق الإنسان. فالإنسان هو الفرد في المجتمع ‏المدني، أما المواطن فإنه الإنسان التجريدي للدولة. والإنسان في المجتمع المدني يعادل ‏المساواة المفقودة ما بين الحدَّاد وكاتب العدل، ويعادل إنسان الدولة، أو المواطن المساوي ‏لغيره بصورة تجريدية. الأمر الذي حَمَل ماركس على التخلِّي عن المجتمع المدني والاكتفاء ‏بالمجتمع بدون زيادة ومضاف إليه. وفي هذه المرحلة من أعماله، فإن الثورة في المجتمع، ‏التي كانت في مرحلة سابقة تشكِّل استعادة المجتمع لقواه من الدولة، تتحوَّل إلى ثورة مجتمعية ‏داخل المجتمع ما بين قوى غير متساوية، وليست تحويلا تجريديا لأفكار الدولة. وحينئذ ‏يتعارض أيضا المجتمع من حيث هو مادة ملموسة متجدِّدة ومتناقضة، مع الدولة من حيث هي ‏تجريد واستلاب لصراع الطبقات، ما دامت الدولة مجلس إدارة للطبقة السائدة.    ‏
واليوم يضع الكتَّاب السياسيين المجتمعَ ضد الدولة متغافلين عن هذه الأرضية وبصورة ‏سطحية. وعلى سبيل المثال يميِّزون ما بين الطبقة السياسية والناس العاديين. والطبقة ‏السياسية في هذا المثال هم موظفو الدولة وبيروقراطيُّوها بالمعنى الهيجلي، وهم الذين يديرون ‏الدولة. والطبقة السياسية تتَّسع لتشمل سلطات الدولة الثلاث. وهنا يَمَّحي التمييز ما بين ‏اليمين واليسار، وما بين الأحزاب ورجالها من اشتراكيين ويمينيين، وموظفي الدولة الذين ‏يسهرون عليها ويُسيِّرون أمورها بدون تمييز بين مواطن وآخر بالمعنى الهيجلي المجرد ‏لإنسان غير موجود في أي حيز من الواقع. أما المجتمع المدني، فإنه يُخْتَصَر إلى اقتطاع أفراد ‏منه، أو عَيِّنات، وإدخالها إلى الطبقة السياسية دون أن ينتموا إليها، كما حكومة تضم وزيرا ‏للصحة، وهو طبيب غير سياسي. وغالبا ما تفشل المحاولة، لأن هذا الأخير ليس رجل دولة. ‏الأمر الذي يؤكِّد أن الدولة والمجتمع منفصلان. ‏
تلكم هي الحفرة التي يَقَع فيها الجميع، ماركس وغرامشي وهيجل. إذ أن التوفيق ما بين ‏المجتمع والدولة غير متيسّر طالما يبقى التعارض طبقيا بين المجتمع وبين الدولة، ويعكس ‏أيضا تقسيم الطبقات في المجتمع. بمعنى إن الطبقة الحاكمة تستولي على وظائف الدولة، أو ‏زمام أمورها وقيادتها. ‏
 
‏2/   إن كل فصل إذن ما بين الدولة والمجتمع يُغْفِل الصراع الطبقي طالما المجتمع غير متجانس ‏ومحكوم بتقسيم العمل وتقسيم الطبقات.‏
***  إن القاسم المشترك الأعظم ما بين هذه النظريات التي تخلط ما بين الدولة والمجتمع هو ‏أنها تقول إن الدولة نتاج المجتمع وليس نقيض ذلك، أو المناهضة له. هذا النقيض هو ما كان ‏يقول به بريخت: "إذا كان المجتمع لا يليق بالدولة غيِّروا الشعب إذن". فالمطلوب في مثل هذه ‏الحالة تغيير الشعب وليس الدولة. فإذا كانت الدولة نِتاج المجتمع، فإن ذلك لا يستقيم إلا بفضل ‏خدعة الانتخابات الديمقراطية التي تقوم على أسس من إقناع الشعب بأن الدولة هي من صنعه، ‏والأحرى به  - لما كان الأمر كذلك – أن يُلغي القطيعة ما بين الدولة والمجتمع عبر إنابة ‏السلطات لبعض أفراد من المجتمع كي يديروا الدولة. وما الطبقة السياسية إلا استيلاءٌ لطبقة ‏أو فئة من السكان المسيطرين اقتصاديا على زمام الدولة، السياسية والعسكرية والاقتصادية.‏
 
‏3/ الدولة إذن تَنبَثق عن المجتمع، إلا أنها ما إن تتكوَّن حتى تضع نفسها فوقه أو أعلى منه، ‏إن لم تنقض عليه. ‏
‏* * هذا هو أقنوم فويرباخ عندما يقول: إن الله ما هو إلا نقل لقيم الإنسان كي ما يقلبها ضده.  ‏
 
‏4/   هل يمكن تشييد سلطة مجتمعية مضادة للدولة؟
***  إن مكسب المجتمع الديمقراطي مقابل المجتمع الإقطاعي والمَلَكي، إلخ، حتى لو كانت ‏الديمقراطية محدودة، يكمن في مهمَّتها الأساس ألا وهي إتاحة بناء سلطات حقيقية مضادة، ‏أو أحزاب معارضة، ونقابات، وجمعيات أحياء، وجمعيات إنسانية، إلخ. إن ذلك كله يُشكِّل ‏سلطات مضادة. صحيح أن السلطات المضادة لا تُغيِّر من معطيات وأدوار العلاقة ما بين الدولة ‏والمجتمع من حيث هي انفصال، إلا أنها تستطيع أن ترغم الطبقة التي تستولي على الدولة على ‏القبول بعدد من الإجراءات والتدابير رغما عنها. فالمكتسبات المجتمعية هي حصاد لما أنجَزَته ‏السلطات المضادة وانتزعته من الدولة. وفي المرحلة الراهنة من سيطرة الليبرالية الجديدة ‏تريد الطبقة المسَيطِرَة أن تَستَعيد المكاسب المجتمعية التي كانت الدولة أرغمت على التنازل ‏عنها طالما أن هذه المكتسبات الشعبية والعمالية تُعرقِل تحرير الاقتصاد الليبرالي من القيود.
 
‏                       خامساً- رد الاعــتبار لديكــتاتوريـة البرولـــيتاريـا
‏                            لأن الغــاية منها ذوبـان الدولــة وليـس تكريـســها
ويجد الانتقال الاشتراكي نفسه مضطرا إلى الخلط ما بين السلطات الثلاث. أما السلطة عندما ‏تبدأ الدولة بالذوبان – حسب ما يراه إنجلز – فإنها غير ذلك. ويأتي هذا الخلط في المرحلة ‏الانتقالية نتيجة الصراع الطبقي، وقيادة الدولة له في المعركة ما بين المُلاك الجدد، ومنزوعي ‏الملكية، من جهة ثانية، الذين يقاومون الانتقال إلى الاشتراكية. وتجد هنا السلطة نفسها مرغمة على إقرار ‏تدابير وإجراءات كانت موضع نقد مٌوَجَّه إلى لينين من قِبَل روزا لوكسمبرغ (  التي  كانت  ‏تدعو  إلى  استفتاء  عام  تَرْجُح  فيه  الكفَّة  لصالح  العمال  على حساب  الملاكين. ‏‎ ‎
 
‏1/  هل كان ماركس موفقا في ابتكار مصطلح "ديكتاتورية البروليتاريا"؟ ألم يكن من الأفضل ‏أن يبتكر عبارات غير تلك، مثل ديمقراطية الشعب، أو الديمقراطية الموسَّعة، أو الديمقراطية ‏الاجتماعية. ‏
***  اختار ماركس في عصره أفضل عبارة طالما كانت عبارة "ديكتاتورية البروليتاريا هي ‏التي تخاطب المخيِّلة، حيث أن الناس كانوا يرون في في الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في ‏النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في أوروبا كما في العالم، أنظمة ديكتاتورية، سواء أكان ‏نظام القياصرة أم الأمبراطوريات أو الأمراء أو حتى رؤساء من شاكلة لويس نابليون في ‏فرنسا. والحال إن ديكتاتورية البروليتاريا مع تشديد المعنى على البروليتاريا، مقابل الملاكين، ‏وهي ليست ديكتاتورية الأكثرية أو الأقلية. وكانت ديكتاتورية البروليتاريا تخاطب الناس، وتبعث ‏فيهم الحيوية والحركة. إنها ديكتاتورية البروليتاريا ليس غير، بدون إضافات ومساحيق فكرية ‏للتجميل، لأنها تبدِّد سلفا أي وهم بأن الأمور ستسير على أحسن وجه ما أن تتسلَّم البروليتاريا ‏السلطة. كلا إن الأمور لن تسير على أحسن وجه. وكان ماركس يشير إلى أن العمال ما إن ‏يستلموا السلطة عن طريق العنف أو بالوسائل السلمية حتى تصبح الديكتاتورية لا مناص منها ‏لقمع من يرفض تغيير علاقات الإنتاج ونظام الملكية، إلخ. ولابد حينئذ من ممارسة ديكتاتورية ‏البروليتاريا، ليس بدافع الانتقام، وإنما للحؤول دون أن يعود من طرِد َمن السلطة إلى الاستيلاء ‏عليها.  ‏
إن مجتمعاتنا تنبذ هذه العبارة من جراء ما علق بأذهان الناس من صور عن الديكتاتوريات ‏الفاشية والنازية والستالينية وغيرها، في ما تسود الديمقراطية. إن مفهوم "ديكتاتورية ‏البروليتاريا" أصبح لا يطاق وقد فقد صداه القديم لدى الجماهير، الأمر الذي حمل الأحزاب ‏الشيوعية على التخلص منه. إلا أن هذه الأحزاب لم ترتد عن صوت الكلمة المدّوية ووقعها في ‏النفوس، ألا وهي الثورة. ‏
إن معنى ديكتاتورية البروليتاريا هو في المقام الأول سلطة الشعب من حيث هي سلطة العمال. ‏وهذا يعني من جهة ثانية – ولينين يلح على ذلك في "الدولة والثورة" – أن مرحلة جديدة ‏انتقالية تبدأ مع ظهور ديكتاتورية البروليتاريا، وإن هذه المرحلة الانتقالية التي تسير جنبا إلى ‏جنب مع ديكتاتورية البروليتاريا، تتطور على مسارٍ من الذوبان النهائي للدولة. الأمر الذي ‏يَحمل لينين في توصيفه لهذا الانتقال استخدام عبارات مثل "دولة بسعر متهاون"، و"نصف ‏دولة"، أو بعبارة أخرى: دولة هي نفسها لم تعد دولة.  هذا هو المقصود من  وراء  ‏ديكتاتورية البروليتاريا.  إنها فترة انتقالية لا مفر منها. ‏
واليوم، إذا نحن تخلينا عن ديكتاتورية البروليتاريا، فإننا نقصي هذه الصيرورة الانتقالية، ونلغي ‏في الوقت نفسه الواقع الملموس طالما أننا نَفقَد، على هذا النحو، البعد الثوري للماركسية، ونَقَع ‏في فخ الإصلاحية، على غرار ما يحدث لكل الأحزاب الشيوعية التي ما إن تتخلى عن ‏ديكتاتورية البروليتاريا حتى تتخلى عن الأممية البروليتارية وتنصرف عن تشييد الأممية. ‏
 
‏2/  إنك تلمس هنا أمراً جوهريا عندما تقول إن الغاية من ديكتاتورية البرولياريا ذوبان الدولة، ‏إذ أن ستالين فعل نقيض ذلك، فهو لجأ إلى ديكتاتورية البروليتاريا من أجل تكريس الدولة. ‏
***  إن ديكتاتورية البروليتاريا تَفترض تدمير الدولة البورجوازية. وإن مثل هذا التدمير لا ‏يتأتى بأمر إداري، كما أنه لا يتأتى ما بين ليلة وضحاها، لأن التناقضات كثيرة، والمقاومة ‏واسعة، ولاسيما أن الدولة التي نشأت عبر القرون قد اكتسبت قوة صلبة للغاية، قوة القمع ‏والأجهزة العسكرية والبوليسية. بل إنها علاوة على ذلك تحمل معها قوة الأيديولوجيا من حيث ‏هي قوة الاتهام، ومن حيث هي تجتمع مع القمع لتبرَّر ممارسة الدولة له. ‏
‏3/  كيف يتأتى تغيير العالم عبر نمط الدولة البورجوازية أو بفضل تطوير أفضل للسلطات ‏الثلاث؟
***  تَذَكَّر بأن المطلوب هو الحفاظ على الفصل ما بين السلطات الثلاث لأن انعدام الفصل هو ‏الاستبداد نفسه، أو السلطة الأحادية. إن زوال الفصل ما بين السلطات الثلاث يقود إلى ‏الديكتاتورية. ‏
‏4/  أعود إلى سؤال سابق حول مفهوم الفصل ما بين السلطات الثلاث من حيث هو تعبير عن ‏تقسيم العمل الذي يُعتبر أيديولوجيا بامتياز، وبوجه خاص في مجال القانون، حيث يَعتبر ‏المشرِّع الذي وضع القانون أن ما وَضَعه يعلو فوق الإنسان والصراع المجتمعي، يعلو فوق أية ‏قيمة أو معيار آخر غيره، مع أنه من صنع البشر، ولن تلبث أحداث التاريخ والمجتمع أن تغيَّره ‏أو تعدِّل فيه. هذا، ويَعْتِبر القانوني نفسه فوق كل ما عداه من البشر في ما يتعلق بقضايا ‏القانون، مع أنه بشر مثل غيره لا يتميز عنهم في شيء. ‏        ***  إن معنى ديكتاتورية البروليتاريا هو سلطة الأكثرية. ومعناها يختلف عن المعنى الشائع ‏عنها. وكان ماركس يشير إلى أن سلطة البورجوازية في المجتمع الرأسمالي هي سلطة ‏ديكتاتورية. وهو الأمر الذي يَسمح للبورجوازية أن تلفِّق الانتخابات وتشبعها تشويها. إنها ‏تخلط ما بين السلطات. ومقابل ديكتاتورية البورجوازية تَظهر ديكتاتورية البروليتاريا. وما بين ‏هاتين الحالتين من الديكتاتورية ثمة اختلاف هائل. فالأولى ديكتاتورية الأقلية، في ما الثانية ‏ديكتاتورية الأكثرية. والاختلاف الثاني يتأتى من طبيعة الهدف من السلطة. فالبورجوازية تعزِّز ‏سلطتها، سلطة الدولة، والدولة، من حيث هي بنية عليا، هي دولتها. أما الهدف من ديكتاتورية ‏البروليتاريا، فإنه إلغاء الدولة والقضاء عليها بصورة كاملة ونهائية، بحيث تصبح الطاهية ‏رئيسة دولة. ما من شك في أن الأمر ينطوي على طوباوية. ‏
وأما إذا فصلنا ما بين الثورة واستلام السلطة السياسية، فإن العالم سيبقى على حاله دونما أي ‏تغيير. ‏
 
5/  هل تقود ديكتاتورية البروليتاريا إلى الستالينية، أو كيف تحوِّلت ديكتاتورية البروليتاريا إلى ‏استبداد من النمط  الستاليني؟‎ ‎‏              ‏
‏***  ‎كان لينين في "الدولة والثورة" أوضحَ أن ديكتاتورية البروليتاريا فترة انتقالية تزول ما ‏أن تُنَفَّذ مهمتها. إنها تُوفِّر الظروف لزوال الدولة. فماذا فعل ستالين؟ في الثلاثينات أَعدَّ ستالين ‏‏– من جهة -  دستورا تقدميا لا يضاهيه أي دستور تقدمي في التاريخ. إلا أن هذا الدستور بقي ‏في الخزائن، ولم يطبَّق أي بند منه. بالمقابل بلور ستالين– من جهة ثانية – الفكرة القائلة بأن ‏الصراع الطبقي في روسيا بدل أن يناله الضعف تراه يشتد بصورة خطيرة في ظل ديكتاتورية ‏البروليتاريا، وإن الضرورة تستدعي تصحيح ما قاله لينين حول زوال الدولة، أو تصحيح لينين ‏من أجل تعزيز الدولة وتمتينها. وهنا كانت النهاية. فقد تخلَّى ستالين عن أطروحة ذوبان ‏الدولة، واستبدلها بتقوية الدولة حتى أصبحت هذه الدولة اشتراكية بورجوازية، أو بورجوازية ‏اشتراكية. ثم أَلغى الحريات كلها، وخلط السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية. وإذ ألغى ستالين ‏المفهوم اللينيني لديكتاتورية البروليتاريا، من حيث أنها توفِّر الظروف لاضمحلال دور الدولة ‏وصولا إلى ذوبانها، فإنه تخلَّص من اللينينية. واعتبارا من ذلك فإن الدولة الستالينية لم تكتف ‏بتشييد بناها بصورة مشابهة للدولة البورجوازية، بل رمَت بالديمقراطية أيضاً إلى سلة ‏المهملات، فأصبح الاتحاد السوفياتي محروما في وقت واحد من الديمقراطية ومن ديكتاتورية ‏البروليتاريا. ومن ديكتاتورية البروليتاريا لم يَحتفظ ستالين إلا بالديكتاتورية فقط. لقد عزَّز ‏الدولة والديكتاتورية في آن واحد. ‏
 
‏6/   وعلى هذا النحو نصل رويدا رويدا إلى سقوط الاتحاد السوفياتي.‏
***  السقوط يعود إلى أسباب من نمط آخر. فقد تراكمت السلطات الممنوحة للدولة. فالتطوير ‏الصناعي لازَم َحالة من الروتين مادام الاقتصاد السوفياتي يعتمد على نظام الاكتفاء الذاتي، ‏حتى أن هذا النظام لم يرَ أمام ناظريه كيف كانت الشروط الصناعية تتحول في العالم الرأسمالي، بما ‏تحمله من مناهج حديثة، وطاقات بديلة ومتنوعة، وثورة في مجالات المعلوماتية. وعلى ‏الصعيد الثقافي فإن النظرية الستالينية للثقافة، التي تَعْتَبر التحليل النفساني وعلم الاجتماع ‏علوما بورجوازية محظورة، قد بَترت نفسها بصورة خطيرة عن الثقافة والعلوم الإنسانية. وكان ‏من نتائج هذه السياسة الصناعية أن السلطات رَجَّحَت وسائل أصبحت قديمة لاغية، وعززت ‏الإنتاج الصناعي، وبوجه خاص الثقيل منه، على حساب الاستهلاك دون أن تحاول التوفيق ما ‏بين التصنيع والاستهلاك. وكانت الحرب الباردة قد ضاعفت - ما في ذلك شك - من ترجيح ‏التصنيع. وقد ساهمت الحرب الباردة بقسط وافر لا يُستهان به في ما يتعلق بالصعوبات التي ‏كانت تواجه الاتحاد السوفياتي. وكان النظام الرأسمالي في تصديه للاشتراكية دَفَعَ – بين تدابير ‏غيرها كثيرة -   بالاتحاد السوفياتي نحو سباق التسلح. الأمر الذي مارس دور العامل الأعلى ‏الحتمي والمقرِّر. فسباق التسلُّح في مجال الأسلحة التقليدية، ثم النووية، بالإضافة إلى غزو ‏الفضاء، أنهك الاقتصاد السوفياتي وحَكَمَ عليه بالتأخُّر، ولاسيما أن هذا الاقتصاد لم يكن انتهى ‏بعد من إنجاز مساره في مجال التراكمات، وكان ما يزال اقتصادا قيد التطور. الأمر الذي حَكَمَ ‏عليه بالانخراط في مسار ليس مساره، بل مسار الرأسمالية العالمية. فما هي الفائدة من ‏الصواريخ المتقدِّمة، ومن هبوط غاغارين قبل غيره على سطح القمر، في ما كان الشعب ما يزال ‏ينتظر أن يأكل الزبدة والطماطم؟! وهنا، فإن الرأسمالية تُسجِّل انتصارا عظيما. ‏
 
‏7/  في منتصف السبعينات، وقبل أن يتخلى الحزب الشيوعي الفرنسي بسنوات قليلة عن ‏ديكتاتورية البروليتاريا كان بعض الماركسيين، ومنهم على سبيل المثال جان إيلينشتين ‏Jean ‎Ellenstein، يعتقدون أن أعمال لينين تَحمل في طياتها ستالين، وأن اللينينية هي التي أَنجَبت ‏ستالين، وأنتَ كنت آنذاك تفنِّد هذه الآراء. ما هي النصوص في أعمال لينين التي تتيح لهم مثل ‏هذه القراءة للينينية؟ ‏
‎***  كانوا َيَعتمدون على ما كتبه لينين من نصوص تدافع عن "الرعب الأحمر"، وذلك ‏مقابل "الرعب الأبيض" للأرستقراطية المهزومة. ويشيرون أيضا إلى أن ممارسات ستالين ‏كان بدأ بها لينين عندما قَمَع ثورة نيستور ماخنو‎ ‎‏‎ Nestor Makhno ‎، أو عندما ضرب ‏اليسار المتطرف الذي كان عارض بعض إجراءات الحكومة البلشفية. إن هذه الحالة من العنف ‏الأحمر لا علاقة لها بالستالينية، طالما هي تستجيب للظروف القاسية التي وَجَدَت تفهما لها من ‏قِبَل كل من روزا لوكسمبورغ وغرامشي.  ‏
 
‏8/  كيف تخلى سكرتير عام الحزب الشيوعي الفرنسي جورج مارشيه في العام 1977 عن  ديكتاتورية البروليتاريا؟ كيف أنت انتقدت التخلي عنها حسب ما يتبين من قراءة المقدمة التي ‏تحمل اسمك لكراس لينين "الدفتر الأزرق"؟ ‏Le Cahier bleu, le marxisme quand à ‎l’Etat‏
***  لقد تخلى جورج مارشيه عن أحد العناصر الرئيسة في النظرية الماركسية ‏للثورة بالإعلان عن ذلك عبر التلفزيون البورجوازي، وأمام المشاهدين، وليس أمام مناضلي ‏الحزب. وهو برَّر تخليه عن ديكتاتورية البروليتاريا بحجة مفادها أن تعبير الديكتاتورية هذا ‏أصبح يحتمل تأويلات وتفسيرات ملتبسة تحت تأثير الأنظمة الديكتاتورية بصورة عامة. بيد أن ‏هذا التخلي يأتي في حقيقة الأمر ليعبِّر عن انضمام الحزب الشيوعي بقيادة مارشيه إلى ‏مجموعة يسارية أطلقت على نفسها تسمية "البرنامج المشترك"‏‎ Le Programme ‎commun‏. ومن بين أعضائها يتميز الحزب الاشتراكي بقيادة فرانسوا ميتيران، مما كان ‏يَستلزم إلغاء الخلافات الوعرة ضمن المجموعة، لأن منطق هذه الأخيرة كان يرفض الاستيلاء ‏على الباستيل والقصر الصيفي والدماء في الشوارع والحرب الأهلية، ويدعو بالمقابل إلى ‏التآخي. ‏
أما في الواقع، ومن حيث الوقائع، فإن التخلي عن النظرية جاء دون العودة إلى قيادة الحزب ‏والمناضلين. وما أن أَعلن مارشيه عن هذا الإلغاء عبر التلفزيون حتى انهمكت القيادة في اتخاذ ‏كل التدابير والإجراءات لفرض هذا القرار على القاعدة الحزبية، بما في ذلك إرغام قيادات ‏محلية، كانت تهدِّد بالاستقالة أو الانسحاب من الحزب، بقبول هذا الإلغاء بمنطق الأمر الواقع. ثم ‏أَنزلت القيادات عقوبات بحق القيادات الحزبية التي عارضت القرار، ومنها الفدرالية التي كانت ‏تحت قيادتي. وقد انبرى في حينه فرانسوا هونكير، ولوسيان سيف، وجان ألشتاين، في تبرير ‏القرار بحجة مفادها أن ديكتاتورية البروليتاريا تَشغَل حيزا تافها في النظرية الثورية لماركس. ‏ويساوي هذا التخلي، برأيي أنا، اعتقال الحزب وأعضائه. ولم يحدث هذا التخلي دون معارضة. ‏فقد كتب إتيين باليبارEtienne Balibar‏"في ديكتاتورية البروليتاريا". وأنا من ‏جهتي نشرت "الدفتر الأزرق" للينين، والذي لم يكن نشر في الفرنسية من قبل، وهو يحتوي ‏على الملاحظات التي سجَّلها لينين في ما يتعلق بديكتاتورية البروليتاريا على هامش قراءاته ‏لماركس وإنجلز، وذلك قبل أن يَكتب لينين "أُطروحات نيسان"، حيث يبيِّن أن ظروف الثورة ‏في روسيا قد نضجت. والدفتر الأزرق بمثابة لغم. والمقدِّمة التي كنت أنا وضعتها لهذا الكراس ‏هي نفسها تقريبا ما كتبته في حينه لتفنيد التخلي عن هذه النظرية. ‏
 
‏                                          ‏‎           ‎‏        سادساً: لــينين الـراهـــن
 
‏1/  ما الذي تعنيه أنت عندما تتحدَّث عن لينين الراهن اليوم؟ وما الذي يتَبَقَّى لنا اليوم من "ما العمل؟" ‏الذي يؤكِّد على الدور القيادي للحزب الشيوعي؟
***  الأمر هنا يختلف إلى حد ما عمَّا هو عليه في ما يتعلق بديكتاتورية البروليتاريا، وما لحق ‏بها من تشويه. إن "ما العمل" كراس صغير الحجم مكرَّس للمعركة التي كانت تجتازها روسيا ‏في سياق ثورة العام 1905. وهم جعلوا من هذا الكراس حجرا مقدسا في المعبد. هم، ستالين ‏والآخرون بدون استثناء. إنه عمل صغير الحجم، ميسور القراءة، وقوي في الوقت نفسه. لقد ‏وجد فيه هؤلاء برنامجا مُلزِما للجميع، ولاسيما أن "مالعمل" يحمل انتقادا للتحريفيين ‏المتراجعين عن خط الثورة، ويؤكِّد أيضا على الموقع الهام للنظرية، ويميِّز بالإضافة إلى ذلك ‏ما بين النظام السياسي وبين الحزب، وبين النقابات، أو تراه يُميِّزٌالمطالب السياسية عن المطالب ‏الاقتصادية، إلخ. وقد جاء هذا النص في بداية صيرورة ثورية، وهو بالتالي وثيق الصلة ‏وبصورة مباشرة بما كانت عليه أوضاع الحزب حينذاك في روسيا، أو من حيث هو أقلية منظَّمة ‏حسب النمط العسكري، في ظروف قمعية قاسية. تنظيم سري، وتقسيم للعمل بين العمال من ‏جهة وبين المثقَّفين من جهة ثانية، في ما تَوَزَّع قادة الحزب المهام والاختصاصات. وكان لينين ‏يقول ويردِّد دوما إننا مجموعة صغيرة. أما اليوم فإن ما هو مقصود من ضرورة الحزب مُخْتَلف ‏عما كان عليه مفهوم الحزب في بداية الصيرورة الثورية في روسيا. فالحزب‎ ‎‏ الشيوعي اليوم ‏مؤسَّسة شيِّدت وفق موازين القوى وصراع الطبقات في بلدان الديمقراطية الغربية، كما في كل ‏مكان آخر، ويأتي ذلك بناءً على توصيات الأممية الثالثة التي كانت قرَّرت تشييد أحزاب عمالية ‏في مواجهة الأحزاب الحاكمة سواء أكانت بورجوازية، أو من يمين الوسط، أو الوسط ‏الراديكالي، أو حتى الاشتراكية الديمقراطية. والحزب الشيوعي بمفهوم الأممية الثالثة هو، من ‏حيث التعريف، حزب الطبقة العاملة. فالمثال الأعلى لهذا الحزب، كما لخطه السياسي، هو ‏نفسه ما كان ماركس تحدَّث عنه في البيان الشيوعي، حيث يشير إلى أن الحزب هو حزب ‏الطبقة العاملة، وليس تشكيلة تفرض نفسها باعتبارها تمثِّل الطبقة العاملة، كما يمثِّل النائب ‏في البرلمان قطاعا من الناس في حي أو مدينة. كلا، إن الحزب هو الطبقة العاملة ويُمثِّل ‏مصالح العمال كلهم. فإذا ما وُجِدَ الحزب تحت النظام القمعي، وكان مرغما في مثل هذه الحالة ‏على العمل كتنظيم سري، فإن الحزب هو نفسه الحزب كما يَظهَر في "ما العمل؟". أما الحزب ‏في الديمقراطية البورجوازية، فإنه تشكيلة تعمل ضمن هذه الأخيرة من أجل توفير الظروف ‏أمام تشييد نظام لا يمت بصلة للنظام الرأسمالي، بل في حالة من القطيعة الكاملة معه. ‏
لذا فإن كل النظريات السياسية التي تحدَّثت عن نهاية أو تواري ما كان يسمَّى الحزب من حيث ‏هو تنظيم ذو شكل، فإنها أطروحات مغلوطة، إذ طالما كانت البورجواية، بوصفها الطبقة ‏المسيطرة، حائزة على قوى مُنَظَّمَة قوامها مؤسَّسات الدولة والمجتمع للحفاظ على سلطتها، ‏فإن الطبقة العاملة هي بدورها ملزَمَة بأن تُنَظِّم نفسها في حزب. واليسار في فرنسا اليوم، ما ‏بعد انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا للجمهورية، يتطلَّع إلى تشييد حزب يساري ثوري واسع ‏مؤهَّل لاستلام السلطة. ‏
 
‏2/  لقد تحدَّثت مطولا عن لينين من حيث هو حالة راهنة، وبالرغم من ذلك اسمح لي أن أُوجَّه ‏إليك السؤال مجدَّدا، السؤال نفسه: هل يُعْتَبَر لينين حالة راهنة؟ حبذا لو كان الجواب موجزا.‏*** 
باختصار شديد أقول: إن تكرار ما كان لينين قام به ضرورة لا مفر منها. لقد حدَّد لينين، ‏ضمن موازين القوى وخصوصية روسيا، الوسائلَ للبدء بصيرورة للدفاع عن مصالح العمال ‏ضد النظام الرأسمالي. هذا ما هو راهن في لينين، أو هذا هو لينين الراهن. وما يصح قوله في ‏لينين كحالة راهنة يصح أيضا في ما يتعلق بروزا لوكسمبورغ، وغرامشي، وفي كل من طرحوا ‏مسألة الثورة، وبحثوا عن الوسائل الكفيلة بتلقيح موازين القوى وصراع الطبقات أو تطعيمها ‏بأفكار تسمح بدورها بإنجاز عملية الانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي. وبهذا ‏الحد والمقياس يقاس ويُثَمَّن المفكِّر الماركسي. هل كان مفيدا للثورة أم لا. هذا هو المعيار، ليس غير، في ‏مقاربتنا لهذا الماركسي أو ذاك. نقطة على السطر. ‏
 
‏3/ ‏‎ ‎أليس مصطلح الماركسية اللينينية ابتكاراً ستالينياً طالما أن ستالين يجعل من لينين أداة ‏أيديولوجية لديكتاتورية ستالينية بمنأى عن البروليتاريا؟ أنت تحدَّثت عن هذا الموضوع مطولا ‏في كتابك "الماركسية اللينينة".
‎ ***  ‎نعم إن الماركسية اللينينية ابتكار ستاليني. فقد كانت الستالينية – إذا ما توخَّينا الإيجاز ‏لأن الموضوع يطول – في حاجة إلى كفالتين. الكفالة النظرية لماركس الذي يُعْتَبَر المؤسِّس، ‏وكفالة التطبيق والممارسة المًسْتَمَدِّة من لينين. وقد رأي ستالين في إرث الماركسية رواية ‏الكسندر دوما الفرسان الثلاثة. لكن أهم هؤلاء الثلاثة على الإطلاق رابعهم، أي ستالين الذي يحلُّ هنا محل دارتاريان، ما بعد ‏الثلاثة الأوائل، طوس، وبروطس، وأراميس. ويأتي ستالين وهو الرابع في الترتيب أهم الثلاث ‏الأوائل، ماركس، إنجلز، ولينين. ‏
 
‏4- ما رأيك بأعمال تروتسكي؟ لاسيما وأن لينين وتروتسكي كانا متعارضين ما قبل ثورة ‏أكتوبر. الأول كتب "ما العمل؟"، والثاني كتب "ماهو برنامجنا؟". وأحدهما يخالف الآخر في ‏قضايا الحزب والديمقراطية.. إلخ، في هذين العملين اللذين كتبا في العام 1905. أنت قلما ‏تحدَّثت عن تروتسكي. لماذا؟
***  هذا يعود إلى الفكرة التي كانت سائدة في الحزب، والتي نَزَعَت عن تروتسكي كل أهمية. ‏وما يستحق الدراسة في العلاقات التي كانت تربط ما بين تروتسكي والبلاشفة هو المسار ‏الشخصي لتروتسكي في علاقته بالبلاشفة، ولينين. كان تروتسكي انضم إلى البلشفية بعدما ‏اجتاز مرحلة من العداء لهم عندما كان إصلاحيا منشفيا. وما يستحق الإشارة إليه أن تروتسكي ‏خلال عهد لينين لم يُؤخذ عليه أصوله اليهودية. صحيح أن لينين خص تروتسكي ما بعد ثورة ‏‏1905 بكتاب تحت عنوان "تروتسكي، يهوذا الصغير"، إلا أن المقاربة هنا لا علاقة لها ‏بمعاداة السامية، فقد وَصَف لينين تروتسكي بيهوذا الصغير لأنه خان ثورة 1905. ‏
لكن تروتسكي مارس بعد ثورة 1917 دورا في غاية الأهمية عندما كان مفوض الشعب المكلَّف ‏بالتنظيم العسكري. وهو مؤسِّس الجيش الأحمر وروحه. بالمقابل لم تتسلم التروتسكية السلطة ‏أبدا. باختصار، كان تروتسكي من مريدي لينين. وقد ألهمه لينين. وكان تروتسكي حتى غاية ‏ثورة اكتوبر 1917 منشفيا، إلا أن وعي الواقع حمله على اللحاق بلينين. ‏
 
‏                            ‏‎سابعاً - ‎‏ لـينين:  تحليل الظروف هو أهم ما جاء به ‏
‏                                     ماركس/إنجلز     ‏
 
‏1/   في ما يتعلق بالعلاقة ما بين الممارسة والنظرية، أو العمل والفكر، تأخذ الممارسة في  ‏أعمال ماركس وإنجلز، ولدى لينين بوجه خاص، وفي أعمالك أيضا، بخلاف كل الفلسفات ‏السياسية والأكاديمية ونظريات المعرفة، إلخ، حيِّزا مركزيا هو من السعة والأهمية حتى أنه ‏يفوق، من حيث أولويته، النظرية، يتقدم ويعلو عليها من حيث وظيفته الأبستمولوجية ‏والسياسية الاستراتيجية؛ الممارسة حسب ما تتجلى في الصراع الطبقي المتجدِّد، وموازين ‏القوى، والحركات الاجتماعية، والحزب، إلخ. وأعمال لينين، وحياته، ومنجزاته، تدلِّل بقوة ‏على هذه الأهمية المعرفية للممارسة، أليس كذلك؟ إن ما يميِّز الماركسية من حيث ثورتها في ‏عالم المعرفة والسياسة والفكر هو كشفها عن أهمية الممارسة في تغيير الفكر والعالم، أليس ‏كذلك؟
***  إن المادية كما يراها لينين لدى ماركس، هي رؤية إنجلز لها، أي فكرة إنجلز القائلة: إن ‏ماركس هو الوحيد الذي أخذ المادية على محمل الجد. ويضيف لينين متابعا على مسار من ‏تحليل إنجلز: إن المادية لدى ماركس قد اكتملت، إنها بلغت غايتها ومنتهاها، طالما أن هذه ‏المادية، على نقيض من مادية فويرباخ والماديين الفرنسيين في القرن السابع عشر، لا تتوقف ‏عند التاريخ والممارسة، لكنها تضمُّهما وتشملهما. إنها تشملهما إلى حد أن التحليل المادي ‏يعني هنا أننا سنعود أو نستند إلى التاريخ، وعلاقات القوى، وندمج الممارسة بالتأمل ‏السياسي. أي أننا "لن نكون مثاليين عندما يتعلق الأمر بالتاريخ والسياسة، ونكون ماديين، ليس ‏غير، عندما يتعلق الأمر بالفلسفة".‏
هذا هو معنى المسعى اللينيني. حتى ان الموضوع المركزي في أعمال لينين هو مفهوم ‏الظروف. إن نظرية مفهوم الظروف لدى لينين تظهر في مسعاه، كالنسيج منذ كتاباته الأولى، ‏وبوجه خاص في "أصدقاء الشعب"، مادام لينين يشير هنا إلى أن المفهوم الأساسي الذي ‏يتمخَّض عن أعمال ماركس هو مفهوم التكوُّن الاقتصادي للمجتمع، أو التكوُّن الاقتصادي ‏المجتمعي. إن العمل بموجب التكوُّن الاقتصادي المجتمعي لحالة بعينها هو الذي يسمح الإحاطة ‏بأطروحات  ماركس، ومنها بوجه خاص الأطروحة الحادية عشرة التي تقول إنه لا يكفي تفسير ‏العالم، بل يجب تغييره. ‏
إلا أن تغيير العالم ليس رؤية شمولية، وإنما هو توجيه للعمل في وضع بعينه. لذا، فإني غالبا ‏ما أقول مبتغيا التبسيط إن الماركسية تُختصر بكلمتين هما تاريخ التكون الاقتصادي المجتمعي. ‏وما يقال أحيانا حول مفهوم الظروف، يعود ويلتقي بفكرة التطبيق. ومن الخطأ بمكان أن يقال، ‏كما يذهب البعض، إن ماركس يمثِّل النظرية، في ما يمثِّل لينين الممارسة. وهذا خطأ عظيم ‏لسببين اثنين.‏
أولا، لأن أعمال ماركس وإنجلز تنصب على الظروف، أو هي ظرفية. ومن الخطأ القول إن ‏أعمال ماركس غير مكتملة، إذ كيف لها أن تَكتمل وهي نفسها تعمل في ضوء الظروف، ‏وتخضع بالتالي بصورة مستديمة للتعديل، وهي باستمرار قيد الإنجاز. ولم يعمل ماركس ‏بصورة نظرية إلا انطلاقا من تحليلات للظروف. والأمثلة على ذلك كثيرة. فإذا أخذنا على سبيل ‏المثال "صراع الطبقات في فرنسا"، فإنك تَلقى أن هذا النص إنتاجٌ كان يراد منه بلوغ أهداف ‏ظرفية متنوعة تمتد لمدة خمسين سنة. وهذا النص مصنوع بكل معنى الكلمة. وإن فكرة العمل ‏الظرفي لدى ماركس منتشرة في كل أعماله، منذ البدء حتى غاية "رأس المال"، طالما أن ‏موضوع "رأس المال" هو الإنتاج الرأسمالي. وإذا كانت معالجته هنا جاءت بطريقة تجريدية، ‏إلا أن نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه مسجَّل ومندرِج في ظرف يمتد عبر زمان طويل. وهذا يصح ‏أيضا على الأعمال التي تُعرَف بأنها تاريخية، بالإضافة إلى انتقاد برودون، إلخ.. أي أن لينين ‏في نهاية المطاف يتابع ما كان بدأ به ماركس بإعادة ما كان أنتجه، أي أنه – بتعبير أدق -  ‏يستعيد مسعاه. ‏
ثانيا، لأن ما يميز لينين من جهة، عن ماركس وإنجلز من جهة ثانية، لا يمت بصلة إلى الطِباع، ‏وهو ليس وليد الظروف فقط، وإنما يرجع إلى أن لينين هو أول ماركسي ينجز ثورة. وقد أنجز ‏لينين ما لم ينجزه ماركس وإنجلز. لقد أسَسَّ حزبا، وكان رئيسا للحزب، ورئيس دولة. وهذا ‏الفارق ينطوي على أهمية بالغة مادام لينين انخرط أكثر من سابقَيْه الاثنين في مسار من ‏التحوُّلات الملموسة والفعلية. وكان كل من ماركس وإنجلز، بالرغم من الأول كالثاني لم يكن ‏ليعدم من تصميم على التدخُّل في الثورات والحركات في كل من ألمانيا وفرنسا، إلا أن الظروف ‏حَكَمَت عليهما بمراقبة الثورات. وقد استنتجا منها دروسا ثورية. لقد درسا ثورة العام 1848، ‏وكومونة باريس التي قادته إلى تعديل وتوسيع عدد من أفكاره. أي أن لينين وجد نفسه على ‏متن مسعى من البراهين قوامها النظرية والممارسة على حد سواء، أي الثورة، وإنجاز الثورة ‏بالاستناد إلى مكتسبات نظرية، منها نقد الفوضوية، ونقد الاقتصادوية.، إلخ. وهو الأمر الذي ‏من أجله نرى أن أعمال لينين تكشف أمامنا كيف هو عمل على العجينة التاريخية، وهو عمل ‏من نمط نظري، ومن نمط سياسي. واعتبارا من ذلك يتكشف لنا أن إنتاج لينين كله هو متابعة ‏ومرافقة للعمل السياسي انطلاقا من العمل على سياق من الظروف. ‏
‏          ‏
‏2/  لقد عَلَقَت بالماركسية، أو بالأحرى الشيوعية، فكرة مؤداها أن السياسة تطبيق للنظرية. ‏وغابت اعتبارا من ذلك أهمية الممارسة والفعل من حيث أن الممارسة مصدر للتجديد سواء من ‏حيث الحدث التاريخي وما يحمله من معطيات كانت مجهولة عن الوعي والنظرية، أم من حيث ‏تجديد النظرية السياسية. وفي هذا السياق من الممارسة والفعل تتجدَّد النظرية والوعي ‏بالممارسة وعبرها، ثم تتجدّدَ عبر الممارسة وما يحمله التاريخ من جدَّة غير مسبوقة في ‏النظرية، مفاهيم الحزب، عقل الحزب، وديكتاتورية البروليتاريا. إن أعمال  لينين ما بعد ‏ماركس وإنجلز توضِّح علاقة الاتصال ما بين المعرفة المادية والطبقة العاملة، الطبقة العاملة ‏بوصفها التاريخ. وهو الأمر الذي يلقى رفضا في عالم الفلسفة والسياسة الليبرالية. فالطبقة من ‏حيث هي مصدر للمعرفة والوعي، شأنها شأن التاريخ، غير مستساغ في الفلسفة. إن المسعى ‏لدى لينين كما كان لدى ماركس وإنجلز سياسي مادي بصورة جوهرية، أي صراع الطبقات في ‏التاريخ، وليس مسعى نظريا كما تريد الفلسفة؛ أليس كذلك؟ ‏
***  لينين يشير منذ البدء أن نظرية ماركس لا يجوز اعتبارها في أي حال من الأحوال وكأنها ‏كتابٌ للصلوات، أو مستودعٌ للوصفات الجاهزة. ولم يرَ أي ماركسي في نظرية ماركس مخطَّطاً ‏شاملا مُلزِما لفلسفة التاريخ كلها. إنها تفسير لحالة ما من التكوُّن الاقتصادي المجتمعي، والتي ‏تحتاج، بالتالي، إلى مراجعتها كلما يلزم، وباختلاف الحالات، من حيث هي تكوينات اقتصادية ‏مجتمعية بعينها. وهذا هو ما يقوله لينين منذ بدء أعماله في ما يتعلق بفرنسا وألمانيا وروسيا، ‏من حيث هي حالات مختلفة بعضها عن البعض الآخر. وهذا هو ما يردِّده على مسامع الوفود ‏التي جاءت إليه من رحاب الإمبراطورية المنقضية للقيصر تسأل البلاشفة كيف لها أن تُنجِز ‏الثورة. وكان جواب لينين، على السؤال الموجَّه إليه من مناضلين بلاشفة في جمهوريات آسيا، ‏هو نفسه دوما: لا تكرِّروا ما فعلناه، بل وافعلوا ما يجب عليكم فعله على الصعيد الثوري في ‏شروط هي شروطكم أنتم. ومن هنا يأتي إلحاح لينين على الفكرة القائلة إن الماركسية دليل ‏للعمل، ومن هنا تظهر أيضا فكرة اللحظة الراهنة، وفكرة الظرف التي تنفي مقولة التطبيق نفيا ‏قاطعا لتأخذ بفكرة الإنتاج والابتكار. إن الممارسة السياسية من وجهة النظر هذه ليست حيزا ‏بين غيره أو إلى جانب حيز آخر، وإنما هي الأساس لكل هذه الأنماط من التدخُّل. وهذا التحليل ‏هو تحليل مادي. ‏
وأنا أعتقد أنه ها هنا يكمن القلب، ففكر لينين عَبْر الثورة البلشفية أصبح هو نفسه قوة مادية، ‏قوة للتغيير. ‏
وهذا المفهوم للظروف والممارسة والعلاقة ما بينهما في اللحظة الراهنة هو الذي يقود لينين ‏في كتاباته التي تُعرف بالكتابات الفلسفية، وهي أبعد ما تكون عن الفلسفة، إلى أن يُسَجِّل في ‏‏"الدفتر في هيجل" إن قراءته لهيجل تقوده إلى النتيجة التالية: إن الممارسة تفوق مكانة ‏النظرية لأنها لا تحوز على كرامة الشمولي فقط، وإنما لأنها تحوز أيضا على كرامة الواقعي ‏المباشر. وإن هذا الاتصال ما بين ما هو شمولي  وما هو واقعي مباشر، هو الذي يُوضِّح ‏الأسباب التي كان من أجلها ما نجده في قلب اللينينية هو الممارسة السياسية مستَنِدَة إلى ‏المادية. ‏
إن نظرية اللحظة الراهنة تتَّضح لدى لينين في ضوء فكرة التطعيم أو الاندماج. وبوسعنا في ‏الواقع أن نقيس تاريخ الحركات العمالية والأحزاب الشيوعية على اختلافها حسب طريقة كل ‏منها في معالجتها هذا الاندماج. أي كيف نجح الاندماج في سياق بعينه، في تكوُّن اقتصادي ‏بعينه، في تاريخه، وفي شرائحه الثقافية، وممارساته السياسية. وحينئذ نستطيع أن نقيس ‏مدى ما أحرزه كل منها من نجاح، وسندرك في ضوء دراستنا للفوارق لماذا فشل آخرون.  ‏
ما هي العملية النظرية التي تفعل فعلها لدى لينين، والتي تمنحه المقدرة على التدخل في كل ‏وضع بسرعة فكرية فائقة؟ إنها ما أُسمِّيه الصراع المثنَّى لدى لينين، وهو ما أخذه عن ماركس. ‏فلقد أخذ عنه ما هو ماثل كخلفية لرأس المال، أي رأس المال من جهة، والعمل المأجور من ‏جهة ثانية، وبتعبير آخر التضاد ثنائي القطب ما بين البورجوازية والبروليتاريا. وهذا يعني، ‏من وجهة النظر هذه، أن المقصود هنا هو الاتصال ما بين الموقف المادي، ووجهة نظر الطبقة. ‏وهو الأمر الذي يثير مشاعر المفاجأة لدى الفلاسفة التقليديين. وكان ماركس عرض له بصورة ‏كافية، ثم استعاده لينين. فماركس في مطلع عمله "العمل المأجور ورأس المال" يشير إلى أن ‏المسعى الذي اتَّبَعَه ليس مسعى نظريا بالمعنى التقليدي للمصطلح. وإن لينين يقول: إن متابعةَ ‏صراع الطبقات عبر التاريخ كل يوم هي ترداد لصدى صيغة تعود لماركس الشاب كان بلورها ‏في وقت واحد مع صديقه... . هذا هو ما يأخذه لينين. ‏
 
‏3/  الحزب الشيوعي ينشأ عن علاقة الاتصال هذه ما بين المعرفة المادية ومواقف الطبقة ‏العاملة. فللطبقة عقل، والحزب الشيوعي هو عقل الطبقة العاملة ما دام هو نفسه حزبها. إن ‏المعرفة على هذا النحو تنحاز في المكان فتغادر حيز المعرفة الشمولية التجريدية لتدخل إلى ‏الحيز الواقعي للطبقة.‏
***  إن ما يأخذه لينين، وما سيفيد منه في قراءته للظروف، وقراءته للحظة الراهنة، هي هذه ‏الفكرة عن الصراع المثنَّى. هذه الفكرة عن الصراع المثنَّى محمولة على مفهوم، وما لم يتوفّر ‏هذا المفهوم فإن التنوع والجدول العريض لمداخلات لينين معدومان أو مستعصٍيان عن الفهم. ‏هذا المفهوم هو مفهوم عقل الحزب. فإذا كان مفهوم عقل الحزب يبدو اليوم - لمن كان يريد ذلك ‏‏- غير مستساغ، فإني اُذَكِّر بأن هذا المفهوم يحتل حيزا مركزيا في مسعى ماركس وإنجلز، ‏وبأخذه لينين بإلحاح شديد عندما يقول: إن ماركس وإنجلز وهبا حياتهما للحزب. وهذا هو أيضا ‏ما يقوله بدورهما كل من ماركس وإنجلز في ما يتعلق ببعض العارفين من أصدقائهم، كشارل ‏مور ‏Charles Meur‏ وآخرين. فما هو معنى عقل الحزب؟ فلنحذر طالما أن هذا المفهوم شوِّه ‏وانحرف وعَرِف حالات شاذة. ‏
ما هو عقل الحزب؟ إن عقل الحزب يعنى بوجه الدقة الشديدة، حسب ما جاء في "البيان ‏الشيوعي"، عقل الطبقة. ثم أصبح يعنى بعد ذلك الحزب من حيث هو منظَّمة بوصفها مؤسَّسة. ‏وهو مفهوم غريب عن ماركس ولينين. وإن كان الانزلاق عن المعنى الأصلي نحو تحريفه ‏وإفساده يبدأ مع لينين، من حيث أن الحزب وقد تأسَّس وأخذ لدى لينين معنى الطليعة، فإن عقل ‏الطبقة أصبح أكثر فأكثر يعنى عقل الحزب من حيث هو مؤسِّسة. ثم أخذ هذا المعنى قيمة ما ‏بعدها قيمة مع الستالينية التي صادرت المعنى الأصلي لدى تأسيس الأحزاب العمالية. واعتبارا ‏من هذا التاريخ تَلْقى الحزب منتشرا في كل مكان، وفي كل المجالات، وهو مالك الحقيقة ‏والمستحوذ عليها، وهو المحق دوما. ‏
وفي مثل هذه الظروف أصبح الحزب هو صاحب القرار، ليس في المجال السياسي فحسب، وإنما ‏علاوة على ذلك في مجال العلم والثقافة. لكن معنى الصراع المثنَّى والحزب مختلفان اختلافا ‏كاملا. إن الطبقة هي المقصودة بهذا المفهوم. إنه يدل بصورة أعم على ما نسميه اليوم ‏المسيطَر عليهم. إن عقل الحزب، أو ما أُسمِّيه العملية النظرية لدى لينين هي التي تسمح لنا ‏باستيعاب أسس مسعاه في مختلف أوجهه، وهو ما يمكن توضيحه عبر ما يمكن تسميته أسباباً ‏تحليلية. ‏
تنقسم مجالات التدخُّل لدى لينين إلى أربعة مجالات، وهي: نمط الإنتاج والتكوُّن الاقتصادي ‏المجتمعي، والثورة، ونظرية الدولة، والثقافة والإيديولوجية. وهذا التقسيم بيداغوجي بغرض ‏التحليل، ما دامت هذه المجالات متداخلة. إن لينين في هذه المجالات كلها يتابع عمل ماركس. ‏هل لينين أهم من ماركس؟ لقد وضع ماركس حجر الأساس، وأعماله كما قلت قبل قليل غير ‏مكتملة، طالما أن الواقع متجدِّد ومتنوع في جميع المجالات. فنظرية نمط الإنتاج الرأسمالي ‏غير مكتملة لدى ماركس، إذ إن نظرية الإمبريالية في أعماله غائبة، وهي من إعداد لينين.‏
ونظرية الثورة لدى ماركس غائبة، شأنها شأن نظرية الدولة، ولينين في هذين المجالات أَحرَزَ ‏تقدما. وهو أحرز مثل هذا التقدُّم لأن تفكيره مسجَّل في ظروف كانت تملي عليه أن يعالِج هذا ‏المجال وذاك، وأن يمنح كل منهما أولوية، وأن تكون المعالجة بعيدة من حيث شكلها عن ‏الطوباوية والنُبوَّة لأنها كانت ملزَمَة بإيجاد الحلول السريعة لمشكلات ملموسة. فلينين عندما ‏يكتب "الدولة والثورة"، فإنه لا يفعل حبا في التأمل، كلا، أنه يكتب لأن الظرف تفرض عليه ‏مسألة الدولة والثورة، وهو يتوقف عن كتابة هذا العمل عندما تبدأ الثورة. إن "الدولة ‏والثورة"، على هذا النحو، عمل غير مكتمل. وإن أداء هذه العملية النظرية، وهي عقل الحزب، ‏منتشرة عبر أعمال لينين في كل المجالات. تراها موجودة في أول أعماله، والتي كُرِّسَت ‏لأوضاع روسيا الاقتصادية، حيث يَفحَص لينين إمكانية مزدوجة لتطور من نمط رأسمالي، وما ‏يمكن أن يكون عليه حال الانتقال إلى الاشتراكية. هذا الانتقال الذي يظهر في آخر مقدمة ‏ل/"البيان الشيوعي" بقلم ماركس، وإن كانت أعمال ماركس تخلو من نظرية للانتقال، وكان ‏لينين صاغ نظرية للانتقال، وكانت نظريته، علاوة على ذلك، فعالة. ‏
 
‏4/  كيف تندرج ديكتاتورية البروليتاريا، والتحالفات الطبقية، وتطبيق النظرية،  في ما تسمِّيه ‏أنت الاستراتيجية السياسية في العملية النظرية لدى لينين؟
***  إذا ما أخذنا عملا مثل "ما العمل؟، تُرى ما هي الحُجَّة التي تَحمِل هذا العمل؟ إنها الشَق ‏المفتوح ما بين الإيديولوجية البورجوازية، والإيديولوجية البروليتارية. وإذا ما أخذنا "الدولة ‏والثورة"، فإنك تلقى النمط نفسه من البنية. فلينين يُميِّز ما بين الدولة البورجوازية والدولة ‏البروليتارية. وكانت هذه القضايا تكتسي في حينه أهمية قصوى، وإن كانت اليوم تبدو ‏اعتيادية. فلنأخذ ديكتاتورية البروليتاريا التي تحتل حيِّزا مركزيا في مسعاه الديمقراطي. هذا ‏المسعى الديمقراطي لا مثيل له في التاريخ باستثناء إبداع الديمقراطية لدى روبسبيير. وإذا ‏نظرنا إلى تاريخ ديكتاتورية البروليتاريا، فإن لينين لم يدرك منذ البدء، ومرة واحدة، ما طبيعة ‏العلاقة ما بين تفكُّك الدولة، حيث تبدو الدولة باعتبارها نصف دولة كما كان يقول ماركس، ‏وإمكانية البدء بمسار ثوري. وكان تروتسكي يقول لكي  نعالج ديكتاتورية البروليتاريا لدى ‏لينين، لا بد من كتابة كتاب من مجلَّدين، وقد أدرك تروتسكي إن ديكتاتورية البروليتاريا هي في ‏قلب النظرية. وفي ضوء ذلك يظهر أمام ناظرينا إلى أي حد من الاستهتار بلغت إليه الأحزاب ‏الشيوعية عندما تخلَّت عن ديكتاتورية البروليتاريا، أي عن نظرية للديمقراطية غير ليبرالية ‏؟!!‏
إن التركيب البنيوي للصراع المُثَنَّى بعيد كل البعد عن التكرار المستمر لحالة واحدة، طالما أننا ‏لا نستطيع أن نتدخل إلا انطلاقا من هذا التركيب البنيوي للصراع المثنى، أي للتناقض ذي ‏القطبين في نمط الإنتاج الرأسمالي. وكيف يكون ذلك؟ لأن أي مجتمع  لا يَمْثُل عبر التاريخ من ‏حيث هو الصراع ما بين الحائزين على رأس المال، والحائزين على قوة العمل، وحسب. كلا، ‏إننا نعرف اليوم أفضل مما كان يعرفه ماركس إلى أي مدى تحتل الشرائح المتوسِّطَة حيزا ‏هاما. وهو الأمر الذي حَمَل لينين على ابتكار مفاهيم أساسية في كل القطاعات والمجالات، منها ‏مفهوم تحالف الطبقات. وكان زينوفيف ‏Zinoviev‏ يقول: إن وضع الثورة في روسيا يفرض ‏الفلاحين. ‏
وما يصح عن الطبقات والتحالف الطبقي يصح أيضا في ما يتعلق بنمط الإنتاج. إذ إننا لا نلقى ‏في أي مجتمع من المجتمعات نمط إنتاج في حالته الصرفة. وإن الصراع الثنائي، بالتالي، هو ‏وحده الذي يتيح تحليلا دقيقا للوضع. ولهذا السبب أيضا، فإن العمل الواضح للينين حول ‏الظروف لم يجد حقه من الفهم والعناية من قبل المنظِّرين اللاحقين الذين حوَّلوا لينين إلى صلاة ‏مقروءة، أو قراءة دينية. وهذه القراءة لا تمت بصلة إلى  لينين  واللينينية.  إن  اللينينية  ‏هي  معرفة  كيف  كان  لينين  يعمل  من  أجل  محاكاته، أي  لمتابع ة عمله. ‏
كيف كان لينين يعمل في مواجهة الظروف؟ على سبيل المثال: في العام 1905، كان لينين في ‏البدء يؤيِّد انسحاب النواب الثوريين من الدوما، وهو الأمر الذي قاد إلى انقسام البلاشفة على ‏أنفسهم. وبعد مضي أشهر قليلة من ذلك، تراه يرفع شعار المشاركة في الدوما ما بعد الثورة ‏المضادة، بالرغم من أن هذه الدوما رجعية. لماذا؟ لأن هذه المرحلة التي تتميَّز بالتراجع ‏وانسحاق الثورة، في ما أطر الحزب مغيَّبين في المنفى أو في السجون، هي التي تَحمل لينين ‏على الاعتقاد بأن الدوما، وإن كانت من الرجعية بمكان، إلا أنها تشكِّل منبرا يتيح للبلاشفة أن ‏يَنقلوا عبره سياستهم. ‏
وإن المرحلة الغنية أكثر من غيرها‎ ‎‏ بمعانيها، والتي تفصلنا عن التطبيق سنوات ضوئية، هي ‏مرحلة ما بعد الثورة، وبالأحرى آخر سنتين اثنتين من حياة لينين. حيث لا يستعير لينين ‏وصفات جاهزة من ماركس، ليس من أجل إنجاز الثورة، طالما أنها حَدَثَت وكان أحد الداعين ‏إليها، وإنما من أجل توفير التدابير والمراسم التي تضمن استمرارها. ها هنا لينين يبتكر كل ما ‏هو جديد. إنه يبتكر لأن الظرف يملي عليه ذلك. وهنا يدرك لينين على خير وجه أن ما دَرِسَه في ‏‏"الدولة والثورة" غير قابل للنقل إلى الوضع الحالي.  لذا، تراه يمدح الرأسمالية، وضرورة ‏التعلُّم من الرأسمالية، وهو الأمر الذي يقوده إلى إعادة مراجعة أفكاره حول الدولة تحت تأثير ‏انتقادات يسار البلاشفة، والتي كانت تقول إن مفهومه حول الدولة قد تراجع. ‏
وهذا يصح أيضا على التعاونيات. وها هنا يبتكر لينين بصورة حقيقية، وهو يردِّد ذلك: إن ما ‏نقوم به حاليا غير موجود في أي كتاب، والمقصود من وراء ذلك بصورة خفية أنه غير موجود ‏في كتبه أيضا، لأن الظرف يملي الابتكار والتجديد. ‏
وهذه هي النقطة الهامة في تعاليم لينين إذا ما أخذنا تحاليله في تلك الفترة، أي عندما كان ‏يطرح منذ نهاية العام 1921 السؤال التالي: من الذي سينتصر؟ من الذي سينتصر من أمرين ‏اثنين: الرأسمالية أم الاشتراكية؟ ولعلنا نستطيع أن نؤكد أن لينين في نهاية حياته كان مقتنعا ‏عن يقين بأن الانتصار لن يُكتَب للاشتراكية، وذلك من جراء الظرف بوجه التحديد. وهذه ‏المسألة يطول الحديث فيها. ‏
أعود لأقول أن الدرس المستقى اليوم من لينين هو بوجه الدقة الدرس التالي: إنها فكرة ‏الصراع المُثَنَّى، هذه الفكرة عن الصراع، وهي أقوى اليوم منها عما كانت عليه في عهد ‏ماركس. وعندما يُقال إن رأس المال عَمل يعود زمانه إلى القرن التاسع عشر، وكان مؤاتيا على ‏خير وجه للقرن ما قبل الماضي، وأن الحاضر قد تجاوزه وتخطاه بما في ذلك الطبقات، وأننا ‏نجتاز مرحلة ما بعد الرأسمالية؛ فماذا ترانا نعاين أمامنا؟ إن التناقض الأساسي يزداد خطورة، ‏ولم تكف خطورته عن الاشتداد حتى أننا نرى اليوم على خير وجه أن الاستقطاب، استقطاب ‏المسَيطر عليهم، واستقطاب المسيطِرين، لم يبلغ في الماضي مثل هذه الدرجة من القوة التي ‏تؤكِّد نفسها اليوم. هذا الاستقطاب ضمن الصراع المثنَّى هو الذي يُعْتَبَر اليوم العملية النظرية ‏السياسية التي كانت لدى لينين بمثابة النسيج في أعماله، والتي ظهرت عبر الصراع ‏المُثَنَّى،  ومن  خلال عمله  على  الظروف، وفي متن  عقل  الحزب. ‏
كان بريخت يرسم للمثقفين مهاما، وكان مسعاه في ذلك لينينياً على خير وجه، وهي مهام ‏متواضعة لأن المثقفين لا يصنعون التاريخ، بل إن الجماهير هي التي تصنعه.. كان بريخت يقول ‏للمثقفين: أنا أتمنى لكم حظا جيدا. ‏
 
‏                        ‎‏ ثامناً - لــينين والــثورة:‏
‏                          الماركســية ليســت وصــفة جـاهـزة، فالثـورة
‏                          ســياق من الظــروف وليـست مســارا من الأفكــار
 
‏1/  الثورة الفرنسية 1789، وثورة أكتوبر 1917 ، ما العلاقة بينهما، وما هو تأثير الأولى على ‏الثانية؟
***  لقد صنع لينين ثورة. لذا فإن أصحاب الأملاك في العالم يكنُّون له اليوم مشاعر الكراهية. ‏وفي تاريخنا مثال آخر هو روبسبيير الذي أنجز‎  ‎يدوره ثورة، وهو ما يزال يَدفع ثمن ذلك غاليا. ‏وكانت جمعية تطلق على نفسها اسم "أصدقاء روبسبيير" طالبت بدون جدوى في عهد الرئيس ‏‏"الاشتراكي" فرانسوا ميتيران أن يُطلَق اسمه على شارع، أو حتى زقاق بدون منفذ‎ ‎‏ في ‏باريس. كما رَفض الرئيس ميتيران أن تُتقل رفاته إلى مقبرة العظماء في باريس (بانتيون). ‏وهم آثروا عليه كوندورسيه الذي مات في منتصف طريق الثورة، ولم يَسفك دماء أحد. أما ‏روبسبيير فإن اللعنة حلَّت عليه. وكان صادف أن فرنسا احتَفَلت بالذكرى المئوية الثانية للثورة ‏الفرنسية في ما كان الاتحاد السوفياتي، وبلدان ما كان يسمى بالاشتراكية الواقعية، تنهار. تراهم ‏احتفلوا لتخليد من؟ وأي أفكار؟ إن ثورة 1789 تُمَثِّل إعلان حقوق الإنسان، ما في ذلك شك، ‏ويُجمع الكل على ذلك. أما ما يأتي بعد ذلك في تاريخ الثورة الفرنسية، فإنه مثار للاستنكار في ‏أوساط البورجوازية ومثقَّفيها. ذلك إن ما يلي العام 89 يَحمل إلى التاريخ التناقضات الطبقية، ‏وكومونة باريس، وروبسبيير، والرعب. وها هنا أتذَكَّر حكاية غنية بالمعاني. فقد سأل صحفي ‏أمريكي ماوتسي تونغ في الخمسينات عن رأيه في نتائج الثورة الفرنسية، وكان جواب ‏ماوتسي تونغ على النحو التالي: من السابق لأوانه معرفة ذلك!‏
هذه المقاربة ما بين الثورتين ليست وليدة الصدفة. فالاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية شهدت ‏صداما ما بين مدرستين اثنتين. مدرسة ميشيل فوفيل ‏Michel Vovel، التي تَضم مؤرخين ‏كثر، منهم على سبيل المثال  ألبرت سوبول ‏Albert Soboul ‎، وجورج لوفيفر ‏Georges ‎Lefebvre، والتي قدَّمت الثورة الفرنسية من حيث هي تغيير في طبيعة السلطة قاد إلى دخول  ‏فرنسا إلى المعاصرة. وهذه المدرسة تحيِّي أبطال الثورة من أمثال جان بول ماراJean Paul ‎Marat ‎، ومكسميليان روبسبييرMaximilien Rabespierre ‎، ولويس أنطوان دو سان جوست ‏Louis Antoine de Saint Just‏. ومقابل هذه المدرسة، فإن مدرسة فرانسوا فوري ‏François Furet ‎‏ تنفي الثورة الفرنسية نفيا كاملا، وتزعم أن الثورة لم تحدث. فالثورة ‏الفرنسية تُختَصَر حسب هذه المدرسة إلى سلسلة من  الظواهر العارضة بدون نتائج عظمى. ‏وفي هذا المنحى نفسه من التفسير، تظهر ثورة أكتوبر 1917 التي ظلَّت تُعتَبَر خلال فترة ‏طويلة من الزمان استمرارا للثورة الفرنسية، إلا أنها أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ‏انقلابا بقيادة عدد من الشخصيات من بينها لينين. هذا هو التفسير السائد من جراء انهيار ‏البلدان الاشتراكية. ومن هنا تأتي الأقوال واسعة الانتشار: روبسبيير هو ستالين، والرعب هو ‏الغولاغ ‏le Goulag‏. ‏
 
‏2/  الثورة حسب لينين تطبيق للنظرية أم ابتكار وتجديد لها؟ يبدو أن التطبيق هو الغالب لأن ‏إنجاز ثورة في بلد يفتقر إلى بروليتاريا قوية وواسعة شرط لم يكن متوفرا في ثورة اكتوبر، ‏فكأن النظرية تنسينا الواقع. كما أن الممارسة الثورية عبر اندلاع الثورة لأسباب موضوعية ‏وضرورية تحمل معها التجديد في العمل نفسه كما في الوعي والنظرية. فهل يلحق الوعي ‏بالممارسة دوما؟
***  لينين هو الذي أنجز ثورة، والدرس الجوهري المستقى من لينين، وهو الذي يجعل منه ‏واقعا راهنا، وحدث الساعة، ويمدُّه بحضور مستديم، هو، بوجه الدقة، فعل الثورة، هذه الثورة، ‏أكتوبر 1917. وبٌخْبرنا لينين أن من الصعوبة إنجاز ثورة، بمعنى أنها ليست معطى بصورة ‏مسبقة، وأن الابتكار بصورة مستديمة ضرورة لا مفر منها. هذا هو ما نتعلَّمُه من لينين. ‏
كان روبسبيير محاميا شابا من شمال فرنسا. ووَجَد نفسه، إن صح القول، نائبا في المجلس ‏التشريعي. وقرأ روسو ومونتسكيو، وآخرين. وعندما توالت الأحداث الثورية حَمَل مسار الثورة ‏معه روبسيير. وحاول أن يعي هذا المسار بما لديه من زاد نظري ضئيل، واضطر إلى الابتكار ‏بصورة مستمرة. ‏
ولينين يتمتَّع بميِّزة على روبسبيير لأنه كان يَعرف ماركس، ونظرية الثورة وغايتها، ألا وهو ‏التخلُّص من علاقات الإنتاج الرأسمالية. بيد أن لينين أدرك، على وجه السرعة، أن بالإمكان ‏بفضل هذا الزاد – وهنا يكمن الهدف من مؤلَّفه "ما العمل" – أن تتسلَّح البروليتاريا بسلاح هو ‏منظمتها السياسية، أي الحزب، وأن تَحْمِلَ مهاما هي نفسها مهام الحزب، وأن تتزود بمؤهلات ‏تربوية، ودعاية، ومهام نظرية، إلخ.. . ‏
لكن حيِّز المسار الثوري ليس مسارا من الأفكار، وهو غير مُدَوَّن في أي كتاب، ويجب إنجازه ‏بما يتوفر لدينا من معطيات، ومع بلادنا حسب ما هي عليه أحوالها وأوضاعها وظروفها، ومع ‏أهالينا. كما يجب تشغيل هذا المعطيات كلها. لذا، فإن لينين يكتب "تطور الرأسمالية في ‏روسيا" الذي يَسمح له أن يَفهم أن بلاده ذات خصوصية أصيلة إلى حد بعيد، بمعنى أن روسيا ‏ليست بلدا دخل بصورة كاملة في الطريق الرأسمالي للتطور. فهو مقيَّد بأنماط مختلفة من ‏الإنتاج سابقة على نمط الإنتاج الرأسمالي، وهي، في الوقت نفسه، مقيَّدة بتطور صناعي خارق ‏للعادة في مدنها الكبرى. ويدرك أيضا لينين أن روسيا غير حائزة على القوى الثورية بصورة ‏كافية. فالطبقة العاملة فتية. وهي مُنْتَزَعة من الفلاحين ما دام إلغاء الرق يعود تاريخه إلى العام ‏‏1860. كما جُرِّدَت طبقة الفلاحين من وسائل استثمار الأرض، وأُلقي بها إلى نظام صناعي ‏يتطور بسرعة شديدة وبصورة قوية للغاية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الطبقة العاملة تفتقر إلى ‏التجربة. وهو الأمر الذي كان يملي تأسيس أندية للدراسات، والمجموعات، والصحف، في بيئة ‏قمعية بصورة شرسة.‏
وعلى هذا النحو، فإن الغالب في أعمال لينين هو إذن الممارسة السياسية، والاتصال ما بين ‏النظرية والممارسة، هذا الاتصال الذي يَضَع الأفكار على محك امتحان التناقضات الواقعية لها. ‏
والدليل هو نظرية ماركس، ويجب الحفاظ عليها والدفاع عنها ضد كل الأخطار التي تهدِّدها، ‏وضد كل تسرب ينتقل إليها عبر الإيديولوجية البورجوازية المسيطرة في روسيا، وهي حاضرة ‏لدى الثوريين أنفسهم، كما لدى الشعوبيين الذين كانوا يعتقدون أن قتل القيصر كافٍ لإطلاق ‏المسار الثوري. وللممارسة أهمية مُلِحَّة شأنها شأن الثورة التي تقود دوما إلى ابتكار مراسم ‏وإجراءات وتدابير جديدة من أجل إدراك الثورة، واستيعاب معانيها ومفاهيمها، ولمتابعتها، ‏ولإنجازها بصورة كاملة. وتقود المفاهيم والممارسات إلى أقرب تقدير واقعي لموازين القوى، ‏سواء في داخل البلاد أم على الصعيد الدولي، حسب ما يتبيَّن عبر السنوات ما بعد 1917. ‏فالبلدان الغربية لم توفِّر جهداً، واستخدمت كل الوسائل، من الحرب إلى الدبلوماسية، في ‏محاولة لتدمير السلطة السوفياتية، من الخارج بالاعتماد على التحالف العسكري، ومن الداخل ‏بالاعتماد على الجيش الأبيضكي تلغي السلطة السوفياتية.‏
لما بدأت مسيرة الثورة في العام 1917 انطلقت أيضا وبالضرورة عملية تشييد الدولة ‏الاشتراكية. وإن كتابات لينين توضِّح على خير وجه الصعوبات الكأداء التي كانت تواجه بناء ‏المجتمع الاشتراكي في بلد لم يكن رأسماليا بصورة كافية. وكان ماركس يرى أن الاشتراكية ‏تظهر عندما تَقطَع الرأسمالية مرحلة متقدِّمة من التطور، كما هو الحال في بلدان من أمثال ‏فرنسا وبريطانيا. لذا، فإن الاشتراكية كانت تبدو وكأنها نزوع للرأسمالية، وعنها تظهر. إلا أن ‏انبثاق الاشتراكية لا يأتي من تلقاء نفسه، ولا بد من مساعدته. وهو الأمر الذي يقود ماركس ‏في "البيان الشيوعي" إلى التوكيد على ضرورة تشييد حزب شيوعي، ومنظَّمَة، وحالات من ‏الصراع مُوَجَّهة كما ينبغي. ويلح لينين، من جهته، على واقعة مؤداها أنه من السهولة بمكان ‏أن تبدأ الثورة في روسيا، إلا أن من الصعوبة بمكان تشييد دولة العمال فيها. وكان لينين يعوِّل ‏في المقام الأول على امتداد المثال الروسي إلى ما وراء حدوده، وبوجه خاص إلى ألمانيا، وما ‏يمدُّها هذا الامتداد من أسباب القوة. فالثورة الروسية لن تُنجِز مهمتها ما لم تَلحَق بها ثورات ‏غيرها. وكانت محاولات إنجاز ثورات في كل من ألمانيا، وهنغاريا، وإيطاليا، فشلت. ‏فوجد الاتحاد السوفياتي  نفسه  وحيدا. ‏
وواجه لينين حتى اللحظات الأخيرة من حياته في العام 1924 صعوبات جمَّة في تشييد ‏ديمقراطية اشتراكية للعمال، من جراء افتقار روسيا للوسائل التي تسمح لها بمثل هذا الإنجاز. ‏وكان كتب هذه العبارات التراجيدية: "القد اختَفَت البروليتاريا". ذلك أن البروليتاريا في روسيا ‏كانت قليلة من حيث تعدادها، وكان بناء جهاز الدولة والحزب قد امتصَّها، حتى إذا ما حان وقت ‏الثورة في عالم العمل لم تلقَ الثورة سوى الفراغ.  فكيف للثورة أن تستمر في مثل هذه الحالة؟ ‏وكما تساءل لينين في العام 1902 "ما العمل"، فإنه تساءل في ختام حياته "من هو المنتصر، ‏الاشتراكية أم الديمقراطية؟". وكانت العقبات من الأهمية بمكان، وهي مثار للمناقشات والجدل ، ومصدر لتوتر ضمن الحزب البلشفي. وكانت النتيجة أنهم ابتكروا صيغة تزعم ‏لنفسها أنها توفِّق ما بين الرأسمالية والاشتراكية، وهذه الصيغة هي السياسة الاقتصادية ‏الجديدةNEP  . ‏
وكان لينين يعرف أن هذه الصيغة تشكِّل تراجعا ملموسا. وهذا التراجع غني بالعبر. بيد أن ‏الوقت لا يتسع هنا للرجوع إليه بصورة موسَّعة. وأكتفي بالإشارة إلى أن هذا التراجع قد انتهى ‏إلى تكوين بيروقراطية، أي جهاز قوي للغاية يصادر السلطة، ويحرم بالتالي البروليتاريا منها. ‏ولينين في ختام حياته يعرف من هو المنتصر. الاشتراكية لم تنتصر. الستالينية هي التي ‏انتصرت. الستالينية نظام هجين (ابن زانية) يأخذ عن الرأسمالية تعزيز الدولة بدل أن ‏يزيلها، وذلك بالإضافة إلى مختلف إجراءات القهر التي ترافق هذا  التعزيز. ‏
ما بعد وفاة لينين قال قدامى أصدقاء لينين من البلاشفة: إننا صنعنا الثورة في بلد متأخر من ‏حيث تطوره، وفي ظروف مقيتة، ومع طبقة من الفلاحين قوية، وبروليتاريا صغيرة، وسياق ‏دولي معاد بصورة شديدة، وإنها بالتالي ثورة من نوع خاص بصورة مُغْرِقَة. ثم جَرَت تصفية ‏حملة هذه الأفكار. وانتصر خطاب من نمط آخر. خطاب ستالين الذي كان يؤكِّد أن الثورة التي ‏يتحدَّث عنها ماركس، الثورة الاشتراكية هي التي انتصرت، وأنها تنشر رسالة للعالم أجمع. ‏وقد فَرَضَ هذا الخطاب نفسه على الأممية والأحزاب الشيوعية كافة. وكان مصدرا للكثير من ‏الأخطاء، إن لم يكن الكوارث. ففي روسيا نشأت دولة ليست دولة العمال، وليست ديكتاتورية ‏البروليتاريا، وإنما الديكتاتورية المفروضة على العمال، بالرغم من بعض الإيجابيات. وكانت ‏التوجيهات التي فُرِضت على كافة الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم واحدة في كل ‏مكان، وهي لا تمت بصلة إلى الواقع. بل، وإنها قادت إلى طريق مسدود اجتماعيا وسياسيا. ها ‏هنا كانوا يُتجاهلون دور الفلاحين، وهناك دور الدين، حتى أن هذه الشمولية التجريدية تمخَّضت ‏في كل مكان عن نتائج ضالَّة وشاذة.‏
هذا الوضع بقي لمدة طويلة بعيدا عن متناول وعي كثير من الثوريين، لأن الاتحاد السوفياتي ‏و"المعسكر الاشتراكي" كانا يعبِّران عن الآمال العظيمة للعمال في العالم أجمع، وكانا طوال ‏عقود من الزمان مرجعا لا بديل عنه لنضالهم. والحال، أن المسيرة الثورية تتميَّز بصورة ‏مستديمة بخصوصيتها. وهذه الخصوصية تَفْرُضُ عملا دائما قوامه الابتكار. ها هنا تكمن ‏عبقرية لينين. هاهنا تظهر أعمال لينين، وما تحمله معها من تصحيح وتعديل وتسوية للمفاهيم ‏وضبطها في ضوء واقع متجدِّد وخصوصي، سواء في ما يتعلق بموازين القوى، أم صراع ‏الطبقات، وتعريف السلطة وتحديدها، ودور الحزب، والنقابات، والجماهير، والإيديولوجية، ‏والبنى العليا، إلخ.. . هاهنا يكمن الدرس الدياليكتيكي من حيث هو الرقابة الذاتية للواقع من ‏قِبَل النظرية. إن الماركسية لا صلة لها بوصفة جاهزة قابلة للتطبيق كقالب الجص  بالنسبة لقدم ‏من خشب. ‏
 
                        تاسعاً - الإمـبريالـية والـديمـقراطــية الـيوم ‏
‏                                  عـلى مـســـار لــينين
 
‏1/   أنت تفضِّل تعبير الإمبريالية على العولمة، وتُؤثِر الأممية من حيث هي البروليتاريا ‏المنظَّمَة في العالم على الأندية الاجتماعية لحركة العولمة الأخرى، وتنادي بديكتاتورية ‏البروليتاريا لأن الثورة هي الديمقراطية وقد فَتَحَت أبوابها أمام كل المحرومين سياسيا ‏واقتصاديا، أو لأن الثورة والديمقراطية الواسعة لا ينفصلان. هل لك أن توضِّح ذلك؟
***  إن السمات المُمّيِّزة لعالمنا الراهن لا تضيف شيئا جديدا إلى ما كنا نعرفه في الماضي.  ‏
ففي مطلع "البيان الشيوعي"، يبيِّن كلٌ من ماركس وإنجلز أن من طبيعة الرأسمالية أن تمتد ‏لتشمل العالم أجمع، وأن تتعولم، وأن تَفرض على الكرة الأرضية علاقاتها الإنتاجية مدمِّرَة ‏الأشكال السابقة للإنتاج. وإننا نعيش اليوم، وقد سيطر رأس المال المالي، حالة موصّفَة من ‏إكمال ما كانت الرأسمالية بدأت به، وهو رأس مال المضاربة، وصورته الحية هي البورصة. ‏وكان الجزء الثالث من "رأس المال" لماركس تحدَّث عن الرأسمالية عندما تُتْبِع الإنتاج لرأس ‏المال المالي. ففي مثل هذه الحالة من الرأسمالية، تتغيَّر المعادلة من: مال- بضاعة- مال، عندما ‏تتقلَّص الرأسمالية إلى العلاقة ما بين المال والمال، أو "المال الذي يَصنع المال كشجرة ‏الأجاص التي تحمل أجاصا". وإذا كانت مثل هذه الحالة متعذَّرة في القرن التاسع  عشر، إلا  ‏أنها  في  زماننا  تظهر  للعيان  أمامك  كل  يوم  في  حالتها  الملموسة. ‏(للتذكير: هذا الحوار يعود تاريخه للعام 2007-2008، أي قبل انتشار الأزمة الرأسمالية السائدة حاليا).
هذه الحالة من الرأسمالية مُصْطَنَعَة، سطحية وعابرة، ما دام الاقتصاد من حيث هو مُنْتِج ‏للثروات هو الفاعل الرئيس. وكان لينين شرح على خير وجه ما بلغت إليه الرأسمالية من ‏مراحل التطور، بيد أنه لم يُطلِق عليها العولمة، وإنما عرَّفها بوصفها الإمبريالية. ‏
لا مفر إذن من العودة إلى لينين، وذلك بالرغم من أن الأوضاع الحالية ليست هي نفسها التي ‏كانت سائدة في العام 1902 عندما كتب لينين "ما العمل؟". وفرنسا ليست روسيا.  وقد بلغ ‏العمال اليوم درجة من الوعي السياسي تفوق بكثير ما كان وعيهم عليه في الماضي. وكان ‏لينين يقول: إن المثقَّفين إذا هم لم يَنقلوا علم الثورة إلى العمال، فإن هؤلاء سيبقون سجناء ‏الاهتمامات التعاونية، ولن يتجاوزوا مرحلة التعاضد والتنسيق. هذا كله انتهى عهده.‏
وللتصدي للإمبريالية يحمل الجواب اسما بسيطا هو مناهضة العولمة. فإذا كان تعبير العولمة ‏حلَّ محل الإمبريالية، فإن مناهضة العولمة هي الجواب الطبيعي. وهنا يظهر مصطلح العولمة ‏الأخرى، وعالم من نمط آخر. فأي عالم هذا الذي تتحدث عنه حركة العولمة الأخرى؟ نعم، إن ‏حركة العولمة الأخرى مسوغة، وهي موضع للقبول بها طالما أنها تناهض الاحتكارات، ‏والحرب، وسياسات الاستغلال والسيطرة الأمريكية. إلا أن ما تنادي به من عالم من نمط آخر ‏يفتقد للوضوح، ويتَّسع لما هب ودب من تفسيرات وانتماءات سياسية وإيديولوجية، ويلتقي ‏تحت سقفها كل من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يزعمون بمناسبة انعقاد المنتديات ‏الاجتماعية أنهم معادون لليبرالية، واليمين الاجتماعي (الديغولي) الذي يدعو إلى "عولمة ‏إنسانية".  لذا كان الحذر والتيقظ مطلوبين أمام هكذا ظواهر. ‏
أنا أُسمِّي العولمة باسمها، وهو الإمبريالية. فمن هو نقيضها؟ الأممية ليس غير. ونحن مدينون ‏هنا للينين مرة ثانية. فإذا كانت الأممية هي نواة حركة العولمة امن نمط آخر، فإن مخاوفنا حيال هذه ‏الأخيرة لن يكون لها محل، لأن العولمة من نمط آخر في مثل هذه الحالة ستكون تجمُّعا للقوى ‏التقدمية المهيَّأة لتغيير العالم، ولن تقتصر أيضا قاعدتها المجتمعية على شرائح من الطبقة ‏الوسطى. وكان ماركس وخلفه نادوا بالتحالف ما بين الطبقة العاملة وشرائح من الطبقة ‏الوسطى. والحال أن تطوُّر الرأسمالية، وظهور ما يسمَّى بالعولمة، قد أضرَّ بالطبقات الوسطى، ‏وليس بالعمال وحدهم دون غيرهم. فالأرجنتين، على سبيل المثال، كانت أفضل تلميذ مجتهد في ‏مدرسة صندوق النقد الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة. وهي وافرة الغنى والثروات. وتبلغ ‏مساحتها خمسة أضعاف مساحة فرنسا. ويصل عدد سكانها إلى 35 مليون نسمة. وهي غنية ‏بثروتها الحيوانية، إذا إن عدد مواشيها لا يقل عن 40 مليون رأس، وذلك بالإضافة إلى مصادر ‏للثروة غيرها. وبالرغم من ذلك، فإن الأرجنتين انهارت ما عدا قبضة من المسيطِرين السائدين ‏الذين نهبوها. وانهارت معها مكوِّناتها المجتمعية.  إلا أنها عبَّرت حيال مأساتها عن ‏أشكال  أصيلة  من التضامن  المجتمعي. ‏
وإذا كنت أُدعو إلى التيقظ حيال شرائح من الطبقة الوسطى مناهضة للعولمة، فلأن ‏الإيديولوجية غالبا ما تعكس بصورة أمينة مسالك الطبقة التي أنتجتها. فجوزي بوفي ‏José ‎Bové‏ يدعو إلى الإصلاحات، ويرفض الثورة، ويقول إنها فكرة يعود تاريخها إلى القرن التاسع ‏عشر، وهي لاغٍ وقد مضى زمانها وولَّى. فهل ننسى ما آل إليه الإصلاح بعد إدوارد برنشتاين ‏Eduard Bernstein، وتجارب أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية؟ ويذهب ‏الرئيس السابق لجمعية آتاك المناهضة للعولمة جاك  نيكونوف ‏‎ Jacques Nikonoff‏  في ‏منحى مشابه عندما يرفض بدوره الثورة. ولا تختلف عن ذلك كثيرا الأحزاب الشيوعية عندما ‏تتخلَّى عن ديكتاتورية البروليتاريا. فقد حلَّت، بعد ذلك، محل الثورة مفاهيم وقيم الحوار، ‏واللقاءات، والوفاق. واستُبدِلت الطبقة بعلاقات الشراكة المجتمعية مابين العمال والدولة ‏وأرباب العمل. ‏
وفي ما يتعلق بتغيِّيب الطبقة العاملة من الخطاب السياسي السائد، بالرغم من أن ثقل هذه ‏الطبقة على الصعيد العالمي ما انفك يزداد أهمية خلال السنوات الأخيرة، يرى بعض علماء ‏الاجتماع أن العمال العاطلين عن العمل والمسرَّحين منهم لمختلف الأسباب، ويعدُّ هؤلاء ‏بعشرات الملايين، يشكِّلون اليوم صنفا أو فئة من الناس يُطلقون عليها اسم "الفقر الجديد". ‏صحيح أن ماركس ولينين لم يتحدَّثا عن الفقر الجديد. وكان ماركس يشير إلى هؤلاء تحت اسم ‏‏"الجيش الاحتياطي". فحياة العمال مرهونة بالظرف المجتمعي. ذلك إن العمال مرشَّحون ‏لنبذهم من المسار المجتمعي الاقتصادي للعمل، والحكم عليهم بالبطالة. أما في فترة اقتصادية ‏أفضل، فإنهم يجدون العمل. وعلى هذا النحو يبدو الفقر والبطالة عن العمل من حيث هما ‏ظاهرتان مرتبطان بالظروف. ونحن نرى أن هذه الظواهر بنيوية طالما أنها من نتاج بنى نمط ‏الإنتاج الرأسمالي.‏
ولنلتفت من جديد إلى مسألة الثورة. وهي لدى لينين تعنى ديكتاتورية البرولتاريا. أي سلطة ‏الأكثرية التي تعارض ديكتاتورية الأقلية وتحل محلها بديلا عنها. وإن ما يسمَّى اليوم ‏بالديمقراطيات ما هو إلا ديكتاتوريات للبورجوازية، وإن كانت طبيعتها مموَّهة بصورة أفضل ‏مما كانت عليه في الماضي البعيد، ما دامت النضالات المجتمعية، بفضل الماركسية واللينيين ‏في المقام الأول، قد أعادت قولبتها. وإن ممارسة البورجوازية للسلطة عبر ديمقراطياتها يدلِّل ‏على استمرار هذه الديكتاتورية. وبالمقابل فإن ديكتاتورية البروليتاريا لا غنى عنها لأنها تمثِّل ‏الديمقراطية الواسعة والحقيقية، والتي تخلَّصَت من حالات الاستلاب، وأشكال الاستغلال، ‏والقهر. ولم يركن لينين إلى السكوت عن هذه القضية، بالرغم من أن ستار الصمت يُسْدَل ‏بعناية، وهو طبقي وإن كان يأتي أيضا من اليسار، على دفاعه ما بعد ماركس عن أطروحة ذات ‏أهمية أساسية، وهي القائلة بأن الثورة والديمقراطية لا ينفصلان. فالثورة هي التفتُّح الكامل ‏للديمقراطية. إنها تؤرِّخ لدخول المنبوذين كلهم إلى الديمقراطية التي كانوا محرومين منها. ‏دخولهم إليها عن طريق القوة أو بالأمر الواقع، هم العمال أو من لا أملاك لهم. ‏
‏                  عاشرا -   ســقوط الاتحـاد الســوفياتي :‏
‏                               ثـورة أكـتوبر ولـدت فــي ظــروف مــقــيتة،
‏                               والشيوعية التي انهارت هي تلك "الروسية"،‏
‏                               لكن الشــيوعـية الماركسية تبقــى حــية. ‏
‏                                                  ‏
1/  إن انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وخروج الأحزاب الشيوعية  ما بعد ‏الانهيار في هذه البلدان وهي في حال من الهلهلة الكاملة، يعود بنا بقوة إلى أزمة الماركسية. ‏والمشكلة الأولى أمام هذا الحدث التاريخي هي أن أكثرية من اليساريين يَستنتجون من هذا ‏الانهيار أن الماركسية انتهت، وأن انتقال هذه البلدان إلى اقتصاد السوق والديمقراطية من ‏النمط الغربي يُؤذن بنهاية الشيوعية. أنت تَعتقد أن هذه الأفكار هي استنتاجات متسرِّعة، وأن  مثل  هذه  الأحكام  المبسَّطَة  لا  تقوى  على  المقاومة  أمام   التاريخ  المعقَّد   للانهيار، ‏وأصوله الضاربة في القِدَم منذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر 1917، من جهة،  وأمام تاريخ ‏الماركسية من جهة ثانية. ‏
***  أنا أنطلق من معاينة الوقائع. إن الظواهر التي ترافق هذا الانهيار تجعل مما يسمُّونه ‏‏"أزمة الماركسية"، أزمةً ذات طبيعة سياسية واضحة. وحري بنا أن نتحدَّث عن أزمات ‏ماركسية بصيغة الجمع طالما أن الماركسية ما انفكت تختلط بأزماتها. وكان أول من استخدم ‏هذا المصطلح توماس ماساريك  ‏T.G. Masaryk‏ في نهاية القرن التاسع عشر ‏‏(1898). إن الماركسية، كونها تطمح إلى تغيير العالم وليس تفسيره كما تقول الأطروحة ‏الحادية عشرة لفويرباخ، أي التدخل بصورة مباشرة وبالممارسة في شؤون المدينة، فإنها ‏تشكِّل حالة فريدة في التقليد الفلسفي مادامت قبلت بصورة مسبقة وجوهرية، أو من ‏حيث طبيعتها، أن تكون صيرورة العالم، وأن تتحمَّل مسؤولية كل الوجوه  التاريخية ‏التي  تزعم  أنها  سليلة ماركس والماركسية،  وأن  تَقبَل  أيضا  بمصائبها  وكوارثها كلها.‏
‏ الماركسية تعمل بالأزمة. والأزمة وظيفتها وأداؤها. وأزمة الماركسية هي بالضرورة أزمة ‏الأشكال التاريخية لوجودها. ومما لاشك فيه، أن الماركسية منذ الأعمال الأخيرة لإنجلز، ومع ‏أوائل اللاحقين، ك/لابريولا أوبليخانوف، قد أثارت مناقشات نظرية ذات صلة وثيقة بوظيفتها ‏النقدية من جهة، وافتقادها للكمال من جهة ثانية، وما يرافقها من غموض وتناقضات من جهة ‏ثالثة، وفوق هذا وذاك من جراء مظهرها وثيق الصلة بالظروف والشروط الموضوعية، وكونها ‏تركبب جدلي للنظرية والممارسة، وبسبب حالات كثر من التحليل (من أوضاع الطبقة العاملة ‏في بربطانيا، إلى نقد برنامجي غوتا وإرفوت)، إن لم نقل الأعمال كلها بما في ذلك "رأس ‏المال". ‏
ومنذ وقت مبَّكر، فقد أصبحت السياسة منذ بدء التحريف بيد برنشتاين، وتحت تأثير التطورات ‏المستجدَّة لرأس المال، وما يرافق ذلك من مناقشات كاوتسكي ولوكسمبورغ. وكانت الخطوات ‏التنظيمية الأولى لصالح الطبقة العاملة قد ظهرت لتوها من برامج، واستراتيجيات، ومنظَّمات، ‏وتأهيل المناضلين، إلخ. وكانت هذه الأخيرة، من الناحية النظرية، هي الأقوى، وليس الأفكار، ‏مما عداها.. أصبحت السياسة في ضوء ذلك كله هي الرهان الحقيقي لمختلف الخطوط ‏العقائدية. إلا أنه رهان دراماتيكي بمكان، طالما أن مؤسسات قوية قوامها جمعٌ لا انفصام فيه ‏ما بين عقائديات جامدة وبدع، هي التي كانت تتحكم بالرهان، وهي التي استمرت على إعادة ‏إنتاج هذا الوضع نفسه. وهل كان الأمر يختلف في ما يتعلق بالرهان السياسي للعقيدة في ‏الأربعينات، عندما كان ماركس وإنجلز يتجادلان مع إخوانهم الأعداء من اشتراكيين وأعضاء ‏في العصبة الشيوعية؟ فما بالنا اليوم وقد انهارت ماركسية الدولة المثقلة بسبعين عاماً من  ‏وجود  صاخب  عالميا.  لذا، تبدو الأزمة اليوم واضحة للعيان أكثر مما يلزم. ‏
 
‏2/  الأزمة الراهنة التي لحقت بانهيار الاتحاد السوفياتي ليست إذن غريبة عن الماركسية التي ‏تتعامل معها كجزء لا يتجزأ منها؟
***  إن النظرية السياسية هي النتاج الأضعف أو بالأحرى الأكثر انفتاحا في أعمال ماركس ‏وإنجلز. فنظرية السلطة في أعمالهما يقتصر جلها على توجُّه نقدي ترافقه بعض الرؤى ‏للمستقبل، وهي أبعد ما تكون عن لوحة مكتملة لمجتمع شيوعي في المستقبل، طالما أن ‏الشيوعية هنا ليست سوى ميل مُسَجَّل ضمن العلاقات الرأسمالية للإنتاج، وهي "الحركة ‏الواقعية التي تلغي الحالة الراهنة"، حسب ما جاء في "الإيديولوجية الألمانية". وإذا كان نقد ‏الدولة الهيجلية، وما بعدها كلاً من النظامين الفرنسي والألماني في عهدهما، يفكِّك ويدمِّر ‏بصورة قوية هذا وذاك من أنظمة الدولة مستعينا بمفاهيم الطبقات وعلاقات القوى، ويَكشف ‏عن الميل لدى الطبقات المسيطِرَة إلى توظيف أجهزة السلطة في خدمة مصالحها، فإن هذا النقد ‏لا يُشكِّل رؤية استراتيجية منتهية. إنه يكتفي بتقديم مبادئ ذات توجُّهات، كحكومة العمال، ‏وضرورة اجتياز مرحلة من القسر أو الإلزام (مرحة ديكتاتورية)، ومنح امتيازات لل"المجتمع ‏المدني"، وتشييد ديمقراطية ليست هي نفسها الديمقراطية الشكلية للبورجوازية. وكان "رأس ‏المال" كما هو معروف، والذي لم يَكتمل بسبب وفاة مؤلَّفه ماركس، قد أفرد صفحة واحدة فقط ‏للطبقات. وإن التحالفات الطبقية التي تُعْتبر شرطا ضروريا للمسار الثوري تحظى بمقاربات ‏متنوعة، وإن كانت مختلفة بعضها عن البعض الآخر بصورة ضئيلة. فتارة يكون التحالف ‏الطبقي مع البورجوازية الصغيرة، وتارة مع الفلاحين، أو حتى مع البورجوازية نفسها. ‏
وهذا الانفتاح النظري يشمل أيضا البروليتاريا أو الطبقة العاملة بوصفها نظاما بين غيرها ‏من الأنظمة المجتمعية ذات وضع خاص بها – والمفهومان غير مطابقين أحدهما للآخر طباقا ‏كاملا – لا يخلو من صعوبات في ما يتعلق بتعريفها، وصلة هذا التعريف والنظام بعلاقات ‏الإنتاج، ومن وجهة نظر"الوعي"، فضلا عن وظيفتها، بوصفها عامل انبجاس من داخل ‏الرأسمالية أم من خارجها. والأمر لا يختلف كثيرا في ما يتعلق بالحزب. وكان كل من ماركس ‏وإنجلز، في ما عدا مرحلة العصبة الشيوعية، غير منتمَين لحزب. ولم تكن الأممية الأولى ‏والثانية حزبا. بل، وإنهما، على النقيض من ذلك، لم يوفر كل منهما انتقاداته تجاه المنظَّمات التي ‏كانت تتأسَّس تحت رعايتهما. فقد انتصب ماركس لرفض صفة "الماركسي". وَسَخِر مما انتهى ‏إليه صهره من قناعة في هذا الشأن. ففي رسالة موجَّهة من ماركس إلى إنجلز في 11 نوفمبر ‏‏1882 تراه يكتب ما يلي: "لونغيه آخر البرودينيين، ولافارج (صهره) أخر الباكونيين! ‏فليأخذهما الشيطان!". ويتماهى في "البيان الشيوعي "كل من الطبقة والحزب، فالحزب هو ‏الطبقة، والشيوعيون مطالبون بدعم "كل الحركات ضد النظام القائم". ‏
وليس من الصعب في ضوء هذه الوقائع أن نفهم لماذا كان قادة الحركة النقابية والمنظِّرين ‏الذين كانوا غاطسين، على مرور المسارات التاريخية، في الظروف والشروط وحالات النضال، ‏يسألون النصوص ويراجعونها بعناد لا يضاهيه عناد، ومهما كان ثمن المنازعات.. لماذا كانوا ‏يسألون النصوص التي هي نتاج التاريخ المباشر، بالرغم من أن هذه النصوص والتوجيهات ‏مُودَعَة من الماضي ومستعادة منه، وهي من حيث الأصل مرتبطة بظروف موضوعية، وقد ‏خضعت مرارا للتعديل والتصحيح حسب الظروف. إن النظرية السياسية، وبوجه خاص عندما ‏تتحول بصورة مُلزِمة إلى مؤسسات فاعلة، من النقابة إلى الحزب فالدولة، ومن التربية إلى ‏الإيديولوجية، ومن الآداب إلى القانون.. إن النظرية السياسية تَفرض نفسها كالفكرة الرائعة كما هي موجودة متن شروح أصحاب النظريات، وكما وَرَدَت في مسودَّات المؤسِّسين ‏وصفحاتهم البيضاء. ‏
‏3/  هذا يقودنا إلى أن "الانتقال " في نمط الإنتاج الاقتصادي في روسيا أكتوبر 1917 مسألة ‏في غاية التعقيد، وعن هذا التعقيد تأتي المشكلات اللاحقة التي كانت تجتاز الاتحاد السوفياتي، ‏ثم انتهت في نهاية المطاف إلى سقوطه
***  من قلب هذا النظام من الممارسة التاريخية والفكر التاريخي  تنبثق مسألة أساسية تمتد ‏إلى كل ما سواها من مسائل، ألا وهي المسألة الانتقالية، أو العبور من مجتمع قديم إلى آخر ‏شيوعي. فالانتقال هو الذي يُحدِّد الشروط والوسائل التي ترافق الاستيلاء على السلطة، والذي ‏يرسم مسبقا البرامج؛ طرق وأشكال السلطة وبناها.  والحال، أن الخيارات هنا تبقى مفتوحة. ‏فماركس وإنجلز يشيران إلى طريقين اثنين للانتقال. ‏
الطريقة الأولى، وهي "العظمى"، تَعْتَبر أن أعلى مراحل الرأسمالية التي تُنجز في البلدان ‏المتقدِّمة في الغرب، إذا ما توفرت عوامل ثلاث هي: قوى الإنتاج، والديمقراطية السياسية، ‏والوعي الجماهيري، فإن الظروف تكون في مثل هذا الحال متوفرة لظهور مجتمع من نمط أعلى ‏من مختلف النواحي. وإن الثورة البورجوازية تَسبُق الثورة البروليتارية. وإن فرنسا، حيث ‏‏"مضى صراع الطبقات فيها إلى نهاية الطريق" تَمثُل كنموذج. ولما كان هذا المسار الانتقالي ‏ليس تنفيذا لأوامر صادرة عن قاعدة مرسومة بصورة مُسبقة، فإن انتقاله إلى حيز التنفيذ يمكن ‏له أن يأتي بطريقة عنيفة، على غرار ما حدث في الماضي، وكما يتوقَّع "البيان الشيوعي". ‏ويمكن له أن يأخذ مسارا سلميا، بل وحتى برلمانيا، حسب ما كانت توحي به الأمثلة الألمانية، ‏والفرنسية والأمريكية. ‏
والطريق الثاني، وهو الأقل نضجا، ويبدو بوصفه منحرفا بالمقارنة مع كلاسيكية الطريق ‏الأولى، قد جاءت صياغته بيد ماركس في اللحظة الأخيرة، وكافتراض، وذلك بالانطلاق من ‏الحالة الروسية، وذلك في آخر مقدمة كتبها ل/ "البيان الشيوعي"، ثم أوضحها إنجلز بصورة ‏أوسع في مراسلاته مع الاقتصاديين وأوائل الماركسيين في روسيا، إيفا إيفانوفا زاسوليتش ‏V. Zassoulitch‏ ، وغييوركي بليخانوف ‏‎ G.Plekhanov‏. حيث تَظهر هنا فكرة ‏مؤداها أن من الممكن الانتقال إلى الشيوعية، وإن لم يُنجَز ذلك عبر المرور بالمرحلة ‏الرأسمالية، وذلك بالاستناد إلى الجماعة القروية obchtchina‏  أوبشتشينا‎. ‎‏  ثم صِيغَت ‏هذه الفكرة في نظرية أثناء الثورة الصينية. كما َوَجدَت طريقا لها عبر حالات من النضال ‏والصراع في العالم الثالث باسم "الطريق غير الرأسمالي للتطور". ونحن نعلم أن القرن ‏العشرين حَمَلَ معه مفارقة عندما جعل من الطريق غير الناضج يَنتصر على الطريق العظيم، ‏بما في ذلك في الاتحاد السوفياتي وفي مؤسسات "البناء الاشتراكي". ‏
ثم جَرَت محاولات ملتوية ومُثْقَلَة بالنتائج للجمع بين الطريقين أو بالأحرى لصياغة هذا الجمع ‏الملتوي في نظرية. حتى الاستثناء تمخض عن قاعدة. وكانت حدود الفصل ما بين الطريقين ‏بارزة بما فيه الكفاية وغير قابلة للتقليص. فقد أَخذ حد الفصل هذا أسماء "المسألة الزراعية"، ‏و "المسألة القومية". وكان هذا الجمع يَعتقد بصورة واسعة أن الطريق العظيم لا مفر منه. ‏وإنجلز برهان على ذلك في مؤلَّفه المسالة الفلاحية، حيث يقتصر الأمر على تحالف مع ‏الفلاحين، وإن كانوا في حينه يشكِّلون أكثرية واسعة في أوروبا الشرقية. ولم تتخل الأممية ‏الثانية عن الأنبوب الذي تمر منه مراحل التطور الرأسمالية/ الاشتراكية/ الشيوعية. وهي ‏كانت تستقرىْ على هذا النحو استراتيجيات غريبة للغاية عن المادية التاريخية.  وكانت إسبانيا ‏تشكِّل أفضل مثال واضح على ذلك. وكان أحد أوائل الماركسيين الأسبان أ. ج. كيخيدوس كتب ‏في العام 1901: "إننا نعلم أن الشروط المجتمعية للثورة الاقتصادية في المستقبل لن تتوفر ما ‏لم يَجتز النظام الراهن دورته الكاملة من التطور. وإن أقل ما يمكن لنا أن نطلبه من الرأسماليين ‏هو أن يسلكوا مسلك الرأسماليين، وأن يُنجزوا على خير وجه مهمَّتهم التاريخية: تطوير مبدأ ‏الملكية الفردية للثروة من أجل فتح الطريق الأمثل أمام الملكية المجتمعية". وعلى هذا ‏النحو، فقد  نَسي الحزب  طوال  ثلاثين  سنة  المسألة  الزراعية  والمسائل   القومية  ‏والدينية. أما فيما يتعلق ب/"الرسالة" أو "المهمة" الملقاة على الرأسمالية وديمومتها ‏اللامتناهية، فإنها ليست أمرا آخراً غير  الداروينية  الاجتماعية- الاقتصادية  التي  كانت  ‏منتشرة  بصورة  واسعة  في  ذلك العصر. ‏
إن الطريق الثاني للانتقال، وهو الذي كان ثانويا لكنه أصبح هو الغالب، يَضع المسألة الفلاحية ‏في مركز الاهتمامات. لكنه، إذ هو يُخضعها لمقاربات متباينة حسب السياقات، الاتحاد ‏السوفياتي، الصين، فيِّتنام، كوبا، فإنه في الوقت نفسه يَفرض عليها تكييفا ومواءمة نظرية ‏حسب الحالات، وذلك من باب الإخلاص للأرثوذكسية التي تتمسك بصورة ملزِمَة بالحفاظ على ‏القيادة السياسية للطبقة العاملة. وهي من أجل ذلك تنضب من الكتاب الثالث ل/"رأس المال"، ‏وتأخذ بماركسية خلو من النزعة الغربية، وهي معادية للإمبريالية، وحريصة الحرص كله على ‏الاندماج بالتقاليد الثقافية القومية، وذلك على غرار ما نراه على سبيل المثال في أمريكا ‏اللاتينية مع خوزي كارلوس مارياتيغي ‏Jose Carlos Mariatégui ‎‏، ونظرية التحرر ‏الوطني. إنها نظرية "التطعيم" حسب ما يقول لينين بين العمال (الفلاحين) والماركسية، والتي ‏تتمخض عن حالات من الماركسية الواقعية، والتي تَربط برباط وثيق ما بين صياغة ‏المفاهيم  والممارسات في  هويات لا انفصام  بينها. ‏
‏4/  هذا كله يعود بنا، كما أنت تقول، إلى أن أزمة الماركسية والشيوعية ذات طبيعة سياسية.‏
***  نعم إن السياسة، ليس بمعناها القدحي واليومي الدارج، وإنما من حيث هي نظرية لتنظيم ‏المجتمع والدولة أو المدينة، الحزب، التحالفات، الانتقال.. نعم، إن السياسة، أو الفكر ‏السياسي، أو النظرية السياسية، إذ هي تشكِّل حيِّزا لقراءة الأزمات التي تُعبِّر عن أنماط من ‏الماركسية، وتَسْرد مصيرها، فإنها تقضي بمقاربة سياسية لها؛ علما أن الأزمة هي كما أسلفنا ‏أداء للماركسية ومن وظائفها. وبمعنى آخر، إن الضرورة هنا تَقضي، بالرغم من هذا الصخب ‏والغضب الذي يرافق الانهيار في أيامنا الراهنة، أن نعلِّق هذه العودة إلى ماضي ثورة أكتوبر ‏بصورة متسرعة، وأن نأخذ بمنعطف طويل يقودنا إلى نقطة البداية التاريخية، أي العودة إلى ‏لينين المتأخِّر. والسبب وراء منعطف كهذا هو أن لينين كان أول ماركسي يُنجز ثورة. وكان ‏ماركس وإنجلز وآخرون ما قبل لينين، رسموا مشاريع من أجل هذه الثورة، ووَضعوا بعض ‏الشروط من أجل إنجازها، واقترحوا وسائل وأهداف لها، بيد أنهم لم يكونوا سوى مشاهِدين ‏لمقدِّمات الثورة، والتي عبّرت عن نفسها عبر ثورتي 1848 و1871، في ما كانت الحركة ‏العمالية ومنظماته تُوْلَد لتوِّها. أما لينين فإنه مؤسِّس لدولة استمرت سبعة عقود، وتمخَّض ‏عنها دول، في أوروبا وآسيا وأمريكا وأفريقيا، أيا كانت سماتها وألوانها فقد كانت تتطلع إلى ‏محاكاة ثورة أكتوبر. ولينين، على هذا النحو، أخذ على عاتقه مع البلاشفة مسؤولية الانتقال ‏من عقيدة منفتحة وغير مكتملة إلى مؤسَّسة هي نفسها مؤسسة الانتقال والإشكاليات التي ‏تلازمها، وهي: تحديد وتعريف منظَّمات الدولة ودورها، والحزب (الأحزاب)، والنقابات، ‏والتحالفات، والإيديولوجية، والإمكانيات الاقتصادية، والسياسة الدولية، إلخ..
‏5- هل هذا يعني أن لينين لم يَنجح في سد ثغرات الواقع المجتمعي والسياسي والثقافي ‏والاقتصادي والتي منها تمر الأزمة؟ لينين، حسب منطق الشامتين، لم يَنجح في العثور على ‏وصفة طبية لمعالجة كل الآلام، بما في ذلك – حسب هذا المنطق – علاج لتهدئة آلام الحجارة. ‏
***  لقد ساد لمدة طويلة، بما في ذلك لدى ماركسيين من أمثال غرامشي، اعتقاد مؤدّاه أن لينين ‏قد طَبَّق الماركسية في روسيا مطابقة أمينة وكاملة. إن هذه الفكرة تَنظُر إلى لينين قائد الثورة ‏نظرة افتراضية ملؤها فرضيات لم تجد لنفسها في جميع الحالات معادلا موضوعيا. فالتطبيق ‏يستدعي تقنية، وعلم أثبت نفسه، والمهارة المكتسبة عن خبرة في مجالي التقنية والعلم. وهذه ‏كلها مزايا شخصية كان لينين حائزا عليها. إلا أن مثل هذا الطباق يضعنا في خضم علم الصيدلة ‏أو فن الطبخ، حيث ما أن تُكتَب الوصفة حتى تُنٌقَل إلى حيز التنفيذ بنجاح. فإذا كانت فعالية ‏التنفيذ غير مضمونة بصورة مستديمة، فإنه في مثل هذه الحالة يكفي الرجوع إلى وصفة سيدة ‏فاضلة، أو وصفة من أجل قالب من الجص لمعالجة كسر عظمي. لكن أمثال هذه الخطة المُبَسَّطة ‏لا تلبث أن تُدحض على محك الواقع، عندما يحين وقت تثمين ما أُنجز من عمل، ليس لأن ‏الماركسية تتحوَّل أو تتبدل لتصبح ماركسية لينينية، فترتفع بالماركسية إلى مستواها النظري، ‏أو تعيد إليها كرامتها النظرية، وإنما لأن التطبيق يكرِّس نفسه كنمط، يعاد نقله وإنتاجه بصورة ‏مباركة وقد اختلط فيه الطريقان، العظيم والصغير، اختلاطا لا تميِّز فيه. ‏
كلا، إن لينين بوصفه يعرف الماركسية بصورة متقنة وبامتياز، قد وضع المبادئ على محك ‏الواقع الملموس، ولم يطبقها بصورة عمياء. كان لينين علاوة على ذلك يتقن تحليل الحالة ‏الروسية. ومؤلَّفه "الدولة والثورة" يلقي الأضواء على هذا الموضوع. إنه يَجمع النصوص ‏كلها لماركس وإنجلز حول الانتقال باستثناء ما مكان منها ذات صلة بالطريق السلمي، ويربط ‏ما بينها، ويقيسها حسب مختلف التفسيرات التي كانت سائدة حينذاك، من فوضوية، واشتراكية ‏ديمقراطية، ويسارية متطرفة، ويستنطق في المقام الأول ديكتاتورية البروليتاريا، وضرورتها، ‏وشكلها، ووظيفتها، ومدتها المحتملة، ويرسم مخططا لمراحل الانتقال، مدركا أن الوقت يضيق ‏ما يستدعي العمل بسرعة فائقة لأن الشروط اللازمة لاستلام السلطة قد نضجت وأصبحت ‏متوفِّرة، ويترك في الوقت نفسه عمله غير مكتمل في اللحظة نفسها التي تستدعي الانتقال إلى ‏الفعل. وما أن تُنجَز الثورة، وفي مواجهة ما تُلزم به الثورة بصورة قسرية، وأمام المهام ‏الجديدة غير المسبوقة والتي تفرضها الثورة، فإن لينين يبتكر.‏
إن آخر سنتين اثنتين من حياة لينين مشيِّد الدولة (1921-1923) تنير إلى حد عظيم هذا ‏الابتكار. وكان لينين ما قبل السياسة الاقتصادية الجديدة NEP‏ قد وضع سؤالا: "أيهما ‏ستنتصر، الرأسمالية أم الاشتراكية؟". وكان لينين عشية موته، وبعدما خاض معارك طويلة ‏مع الصراعات المجتمعية، والحزب، والدولة أو البيروقراطية، والتي حَمَلَته على تصحيح ‏وتعديل في هذه الموضوعات، قد جاءه الجواب اليقيني: ليست الاشتراكية هي التي ستنتصر. ‏فالتطعيم لم يفعل فعله في روسيا. والرهان الذي لم يُكسَب بصورة مُسبقَة انتهى إلى خسارة. ‏
هذا حكم يحظى بالإجماع من أي جهة جاء، ولا يقتصر على لينين وحده. إنه يؤَيِّد، على محك ‏الواقع، وما بعد الحدث المُنجَز، ما كان إنجلز حذَّر منه في مقدمته  ل/"المشكلات المجتمعية ‏الروسية"(1894): "إن من المستحيل تاريخيا على مجتمع يجتاز مرحلة دنيا من التطور ‏الاقتصادي أن يحلَّ الألغاز والنزاعات التي كانت ظهرت، والتي كان من المفترض أن لا تظهر ‏إلا في مرحلة أعلى من سابقتها بكثير". ‏
 
‏6/  السياسية الاقتصادية الجديدة انتصارٌ للرأسمالية على الاشتراكية؟
*** إن منعطف السياسة الاقتصادية الجديدة  ‏NEP‏ والتي حَظِيَت بتأييد واسع لدى القيادة ‏السوفياتية، وبالرغم من معارضة شرائح من اليسار لها، فلقد لقيت ترحيبا، وإن كان لا يخلو ‏من مكر، من قِبَل اليمين والمناشفة والاشتراكيين الديمقراطيين والأممية الثانية، والثانية ‏والنصف (التي كانت تأسَّسَت في فيينا في العام 1921 من قِبَل جماعات من الوسط، والتي كانت ‏انشقَّت عن الأممية الثانية ثم انحلَّت في العام 1923). وكان لينين هاجم بوجه خاص أوتو ‏باور، أحد رواد الماركسية النمساوية، الذي بارك هذا التراجع إلى الرأسمالية، ورحَّب بالطبيعة ‏البورجوازية للثورة. وينبِّه لينين أوتو باور بأنه يريد للثورة  البورجوازية  أن  تنجح،  ويهدِّد  ‏بإعدام  كل  الذين  يريدون  أن تتحوَّل  المسيرة إلى  تراجع  كامل.‏
// والحال، أن التراجع في حينه لم يكن ليخفى أمره على أحد. وكانت الديمقراطية الاجتماعية وفي ‏مقدِّمتها كاوتسكي تؤكِّد، في تحليل لها للوضع، بأن طبقة اجتماعية بيروقراطية قد ولِدَت، وهي ‏تَجْمَع ما بين مصالح رأس المال والدولة. وكان كاوتسكي طوَّر هذه الفكرة بوجه خاص في ‏مؤلَّفيه "الإرهاب والشيوعية" (1921)، و"البلشفيه أمام الطريق المسدود" (1930). ‏وكانت البورجوازية الدولية تجد أن الفرصة متاحة أمام استئنافٍ لمزيد من التبادل التجاري مع ‏جمهورية السوفييتات. وكان لليود جورج ‏Lloyd George‏ الذي وجّه الدعوة إلى لينين ‏للمشاركة في مؤتمر جنوه المنعَقِد في العام 1922 حول مسألة التوازن الاقتصادي في أوروبا، ‏أعلن: "إن لينين فهم في ختام المطاف أن من المستحيل تسخين القاطرات بعقائد ماركس".‏‎ ‎‏ ‏وكان جول غوويد ‏Jules Guesde  مؤسِّس حزب عمال فرنسا ‏Parti Ouvrier de ‎France‏ المتوفَّى في العام 1922، أعرب عن دهشته  لدى الإعلان عن ثورة شيوعية بلشفية ‏لأن أيا من شروط الثورة غير متوفِّرة. ويُلِحّ أنطون بانِّكويك ‏Anton Pannekoek، ‏صاحب نظرية المجالس، على الطبيعة البورجوازية، بالمعنى الدقيق للمصطلح، للثورة، مشيرا ‏إلى أن "طبقة مسيطِرَة جديدة واستغلالية قد فَرَضَت سلطتها على الطبقة العاملة". و"نحن لا ‏نستطيع أن نأخذ على البلشفية الروسية تخلِّيها عن طريق ماركس لأنها لم تتبعه أبدا". وكَتَبَ ‏في العام نفسه الفيلسوف نيكولا بيرديائيف  ‏Nicolas Berdiaev   في مؤلف له بعنوان ‏‏"مصادر ومعنى الشيوعية الروسية"إ ن الثورة الشيوعية تُنجَز في روسيا بصورة متناقضة مع ‏غالبية ما كان ماركس يؤكِّده في ما يتعلق بتطور المجتمع". ويلاحظ فيرناند بروديل: "إن ما ‏يستدعي الإشارة إليه هو أن الثورة الاشتراكية بدأت في حينه بصورة عارضة في البلد الكبير ‏الأقل تصنيعا في أوروبا. لذا، فإن مجريات الثورة ما كان لها أن تَتَّبع الطريق الماركسي ‏لاستيلاء البروليتاريا على السلطة. إن الحزب الشيوعي أمسك بالسلطة بالرغم من أنه يمثِّل ‏أقلية صغيرة". ‏
إن قائمة ما كُتب بهذا المعنى تطول. وإني أَتوقَّف عند تحليلين اثنين هامين، لأن الأول كالثاني ‏يصدر عن الإشكالية اللينينية نفسها. تحليل روزا لوكسمبورغ، وتحليل أنطونيو غرامشي، ‏والتحليلان معاصران للثورة السوفياتية، ويُعْتَبران نقديَّان. ‏
لقد أفردت روزا لوكسمبورغ عددا من المقالات لتحليل ثورة 1917، بالإضافة إلى مجموعة ‏ملاحظات كان بول ليفي ‏Paul lévi‏ نشرها بعد وفاتها في العام 1922، تحت عنوان "الثورة ‏الروسية". إن المحور الرئيس لأفكارها يدور حول ضرورة التحاق الثورة في بلدان أوروبا ‏الغربية بالثورة البلشفية، وذلك لِمَ للاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، من وزن وتجربة ونفوذ. ‏فالأولى محكوم عليها بالموت إذا لم تَلْحق بها الثانية.  "إن شَرَفَ العمال في هذه البلدان يُملي ‏عليهم أن يحموا الثورة الروسية وأن يَفرضوا السلام باللجوء إلى هجوم ثوري ضد الطبقات ‏الحاكمة في بلدانهم". والحال أن البروليتاريا الألمانية لم تدرِك أن الثورة الروسية – ‏على حد قولها - هي نفسها قضيتها الخاصة، وأن قضية البروليتاريا الدولية لا تنقسم، وأن ‏المعركة الأولى للنزاع التاريخي العالمي ضد هيمنة الطبقة الرأسمالية تبدأ هنا مع الثورة ‏الروسية. إلا أن هذا التضامن لم يفعل فعله. وقد بقيت روسيا معزولة. "وباستثناء بعض ‏الجهود الشجاعة للبروليتاريا الإيطالية، فإن بروليتاريا البلدان كلها – حسب ما تقوله - أخلَّت ‏بالتزاماتها للثورة الروسية... ولما كانت هذه الثورة دوليةً من حيث طبيعتها وجوهرها العميق، ‏فإن إنجازاً سياسيا لطبقة البروليتاريا (تشييد سياسة للطبقة العاملة) لا يكون إلا على الصعيد ‏الدولي. فإذا ما هي اقتصرت على بلد واحد، في ما يُمارِس عمال البلدان الأخرى سياسة ‏بورجوازية، فإن فعل الطليعة الثورية يتيه عبر نتائج ما كانت أنجزته لتوها". ‏
وعلى هذا النحو، تَنقسم أفكار روزا لوكسمبورغ في ما يتعلق بالثورة الروسية إلى مقاربتين ‏اثنتين.‏
‏ // إنها، من جهة، تؤيِّد بحماس البلاشفة. إنهم – حسب ما تقوله – يتابعون إنجاز ثورة 1905-‏‏1907، ويتمتَّعون بمزايا تسمح لهم بأن يِمنحوا الجماهير منظَّمة مؤاتية. "إنهم، على وجه ‏التحديد، قدّموا الدليل الواضح على ذكائهم السياسي، ومبادئهم الثابتة، وسياستهم الجريئة". ‏وإن عملهم ليس ذا صلة فقط بالخطة المتطورة للثورتين العظميين، الثورة الإنجليزية ‏والفرنسية.. وإنما يعبِّر عن "القانون الحيوي" لكل ثورة عظمى. وتقف أيضا روزا ‏لوكسمبورغ في مواجهة كاوتسكي والمناشفة الذين لا يرون في ثورة أكتوبر غير الثورة ‏البورجوازية، ويُفَنِّدون حتى إمكان نشوء ثورة اجتماعية في روسيا. فتكتب: "إلا أن الثورة ‏الروسية، وهي ثمرة لتطور دولي وللمسألة الفلاحية، يتعذَّر إنجازها في حدود المجتمع ‏البورجوازي". وفي ما يتعلق باشتعال الثورة، فإن الشك لا يتسلل إليها. لقد كتبت: "إن متانة ‏لينين وأصدقاءه مدَّتهم بالقوة الكافية كي يُطْلِقوا في اللحظة الحاسمة الشعار الوحيد القادر على ‏التعبئة، وهو: كل السلطات بين أيدي البروليتاريا والفلاحين. ولقد جَعلت هذه المتانة في ليلة ‏واحدة تقريبا من هذه الأقلية المضْطَهَدَة، المفتري عليها، غير المعترف بها أمام القانون، في ما ‏كان قادتها من أمثال ماراتMarat   مضطرين إلالاختباء في الأقبية، جعلت منها السيد ‏المُطْلَقَ للموقف". وإن الدمج في روسيا ما بين الطريقين، العظيم والصغير، قد فَتَح الباب أما ‏الانتقال. فنحن "قد نكون على وجه الاحتمال أمام أول ثورة بروليتارية للانتقال، وهي ذات مدى ‏تاريخي عالمي". والحال، أنه "كان بوسعنا، أسبوعا واحدا قبل اندلاعها أن نقدِّم مئات الأعذار ‏التي تدلِّل على أن الثورة مستحيلة(...)، وأن الثورة السياسية الحديثة ذات الأهداف الواضحة، ‏والأفكار القائدة، ليست موضعا حتى للتفكير بها".‏
// وروزا لوكسبمورغ تشير، من جهة ثانية، إلى أن الورثة التاريخيين لليفيلرز البريطانيين ‏‎ Levellers (de l anglais to level  ‎‏ واليعقوبيين الفرنسيين ما أن ينتهوا من إنجاز العمل ‏في مطلعه حتى يلاقوا مهمة لا تقارن، من حيث تعقيدها، بالمهام التي كان سابقوهم لاقوها. ‏وهي لا تكف عن الترداد: إن الظروف التي ترافق الثورة الروسية غير اعتيادية، ووضع ‏البلاشفة قاتل. إن تشييد ديكتاتورية البروليتاريا، وإنجاز الانقلاب الاشتراكي في بلد واحد ‏مطوَّق بالهيمنة المتحجِّرة للرجعية الإمبريالية، ومُهاجَم من حرب عالمية هي الأكثر دموية في ‏تاريخ الإنسانية، أمرٌ مستحيل. أي أن الفشل لا مفر منه. وهي تقول: إننا لا نستطيع انتظار ‏الاشتراكية والديمقراطية، "وإنما ننتظر، فقط ليس غير، العناصر الأوَّلية والكاريكاتورية ‏العاجزة لهذه وتلك". ‏
ومما لاشك فيه أن روزا لوكسمبورغ لم يكن بحوزتها وصفات تضمن لثورة أكتوبر النجاح. ‏وهي لا توفِّر انتقاداتها للسياسة التي كان البلاشفة ينتهجونها في ما يتعلق بمجالات في غاية ‏الأهمية. ‏
ففي ما يتعلق بالمسألة الفلاحية، وهي، وإن كانت تُسَلِّم بصَّحة شعار شهر نوفمبر/تشرين ‏الثاني "الأرض للفلاحين" بصورة فورية، إلا أنها كانت تنتقد فعاليته ونتائجه. ذلك أن تفكيك ‏الإقطاعية وانضمام الفلاحين إلى السلطة العمالية باهظ الثمن. وإن تملَّك قطع صغيرة من ‏الأرض ليس من شأنه إلا أن يعيد إنتاج الذهنية القديمة المرتبطة بالأرض. إن هذا التمليك ‏يتضمن مجازفة في ما هو، في الوقت نفسه وفي آن واحد، يُحرِّر الفلاحين. مجازفة انضمام ‏جماهير غفيرة من الملاكين الجدد إلى الثورة، والتي تزيد – ولاسيما في أوقات القحط -  ‏بصورة خطيرة من عمق الخندق الذي يفصل ما بين المدينة والريف. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ‏تقاسم الأراضي، علما أن أغنياء الفلاحين والمرابين هم أوائل المستفيدين، هو أبعد ما يكون ‏مقدرة على تقليص قوتهم. بل، وإنه "يزيد من عدم المساواة المجتمعية والاقتصادية ضمن ‏الفلاحين، فضلا عن حالات العداء ما بين الطبقات". والإصلاح الزراعي، ليس فقط أبعد ما ‏يكون عن وصفه بالإجراء الاشتراكي، وإنما هو فضلا عن ذلك يُنتِج في الريف شريحة جديدة ‏وقوية من أعداء الاشتراكية، والتي  ستقاوِم بصورة أخطر بكثير وأشرس مما كانت عليه ‏مقاومة ارستقراطية الأرض وشراستها. وإن التوصيات بتشكيل لجان غير كافية على وجه ‏الإطلاق. وكان حري بالثورة أن تفضِّل على هذه الإجراءات المُبَلْبَلة نقل حق الملكية إلى الأمة ‏أو الدولة دون المساس بملكية الأرض الصغيرة، وذلك بمقتضى الفائدة المزدوجة من وراء ‏التمهيد للانتقال إلى المجمع التعاوني، ومن ثم إلى الاستثمار الجماعي. وكان الحري بالثورة أن ‏تعالِج المسألة الزراعية على غرار النمط الصناعي استعداداً للتوحيد ما بين التعاوني ‏والجماعي. ‏
وماذا هم يأخذون على البلاشفة؟ هل يأخذون عليهم أنهم لم يحترموا برامجهم، وأنهم لم يعرفوا ‏كيف "يعثرون على الحلول أو حتى يعالجون بحزم إحدى المشكلات الأكثر تعقيدا، والتي ‏تتمخض عن الانقلاب الاشتراكي"، وذلك في إشارة إلى المسألة الزراعية. بالتوكيد، كلا. فهل ‏كان بمقدورهم أن يتحاشوا ما هم فيه عندما نصبوا أمامهم مثل هذه العقبات التي تعترض في ‏المستقبل التحويل الاشتراكي لعلاقات الإنتاج؟
// إن روزا لوكسمبورغ تلمس المسألة على أحسن وجه، إلا أنها تبقى سجينة الحلقة التي تقول ‏بأن التاريخ في المستقبل هو الذي سيؤكد ما هي الإجابة الصحيحة: هل قادت ليلة 4 ‏آب/أغسطس التي تؤرِّخ لتوزيع الأراضي إلى اهتداء الفلاح  إلى البونابرتية التي تحوِّله إلى ‏خادم ، أم إلى الجماعية المفروضة بالقوة، والتي تسخِّره من جديد وتسلبه حيوية العمل بصورة ‏كاملة؟ والمسألة المعقَّدة الثانية: ما هي طبيعة السلطة السياسية؟ إن هاتين المسألتين كانتا ‏موضع بحث منذ حُلَّ المجلس الدستوري في تشرين الثاني/نوفمبر 1917، بحجة أنه غير قادر ‏على التعبير عن الوضع الجديد، والذي حلَّ محله، بعد تقليص حق الانتخاب على المنتِجين ‏وحدهم، سلطة السوفييتات التي انتهت على وجه السرعة إلى مصادرتها مِن قِبَل الحزب ‏البلشفي. ‏
ديكتاتورية أم ديمقراطية؟ إن روزا ترفض هذا الخيار ما بين بديلين. وتأخذ على لينين ‏وتروتسكي، على حد سواء، أنهما يلتقيان بوجهة نظر كاوتسكي. فبمقابل الخطأ الذي يقع فيه ‏كاوتسكي عندما يعتقد أن الديمقراطية تمتزج بالديمقراطية البورجوازية، يأتي الجواب ‏الخاطئ للينين وتروتسكي "اللذين يدافعان عن الديكتاتورية مقابل الديمقراطية، وهما بذلك ‏يدافعان عن ديكتاتورية يمارسها عدد قليل من الناس، أي ديكتاتورية من النمط البورجوازي. ‏إنها ترى ضرورة تشكيل مجلس دستوري جديد يحل محل سابقه، ومُنتَخَب بالتصويت العام، ‏وبفضل صراع حر بين الآراء. ثم تأتي على ذكر أمثلة تاريخية، من البرلمان الإنجليزي للعام ‏‏1642، إلى مجالس الدولة الفرنسية، إلى الدوما الروسية الرابعة للعام 1909، لتبيِّن مدى ‏إيجابية دياليكتيك المؤسَّسات التمثيلية المُنتَخَبة، وللآراء، وبوجه خاص عندما تكون هذه ‏المؤسَّسات منخرطة في مسار ثوري. إنها "المسؤولية-الذاتية للجماهير". إنها على نقيضٍ ‏من "حق التصويت الذي يَحْرُم شرائح واسعة من المجتمع من الحقوق كلها، وينبذهم سياسيا ‏من الإطار المجتمعي، دون أن يكون بمقدوره أن يعثر لهم على مكان داخل الإطار الاقتصادي ‏نفسه لهذا المجتمع". وإن حق التصويت هذا "ليس ضروريا للديكتاتورية، وإنما هو ارتجال ‏مكتوب عليه بالفشل". وروزا تدافع عن حرية الصحافة، والاجتماع، وتشكيل الجمعيات. ‏ف/"الحرية إذا ما اقتصرت على أنصار الحكومة، وكانت وقفا على أعضاء الحزب وحدهم دون ‏غيرهم مهما كان عددهم كبيرا، ليست هي الحرية. إن الحرية هي دوما، وأقل ما يقال، حرية ‏الآخر الذي يخالف غيره من حيث الأفكار". 
 
‏7- الديمقراطية البورجوازية، برأي روزا لوكسمبورغ، هي نفسها ديكتاتورية البروليتاريا، من حيث أن الديمقراطية الأولى كالديمقراطية الثانية تَمنح السلطات السياسية والمجتمعية والاقتصادية لأكثريتها المزعومة، بعدما تكون ‏كَسَّرت القشرة الخارجية أو الشكلية لحريات موهومة ومُسْتَلَبَة. ألم تنته ثورة أكتوبر إلى ‏استيلاء البيروقراطية على السياسة والاقتصاد، وفرضت نظاما سياسيا، لا هو بالديمقراطية ‏البورجوازية، ولا هو بديكتاتورية البروليتاريا، وإنما هو ديكتاتورية الطبقة الحاكمة، أو ‏ديكتاتورية البيروقراطية؟ ‏
*** إن إلغاء البلاشفة للديمقراطية برأي لوكمسبورغ ليس هو أبداً الرد الصحيح على أضرار ‏الديمقراطية البورجوازية والشكلية. "إن هذا الإلغاء يشكل علاجا أكثر ضررا من شرٍ كان من ‏المفترض أن يَشْفَى بفضل هذا العلاج". إن هذا الإلغاء يُشوِّه الرعب الذي كان من المفترض ‏أن يأتي عن وجه حق وبحكم الضرورة، والذي يَنزِل بالأعداء حسب ما بيَّنه لينين بخير وجه، ‏وذلك فيما "تبقى البيروقراطية هي وحدها العنصر الفعال" في واقع الحال بفضل هذا الإلغاء. ‏وهذا يعني أن إلغاء الديمقراطية ليس بمقدوره أن يزعم لنفسه أنه يعبِّر عن ديكتاتورية ‏البروليتاريا. "إننا لم نكن أبدا عباداً وثنيين للديمقراطية البورجوازية... ونحن نميِّز دوما ما ‏بين النواة المجتمعية والشكل السياسي للديمقراطية البورجوازية، وإننا فصلنا بصورة ‏مستديمة النواة الفظَّة لعدم المساواة والخضوع المجتمعي، عن القشرة المزيَّنة للمساواة ‏والحرية الشكلية، ليس من أجل رفض الأمرين، وإنما من أجل استنهاض الطبقة العاملة كي لا ‏تكتفي بالقشرة، ومن أجل أن تكتسب مزيدا من السلطة السياسية، ولملء الحريات السياسية ‏الشكلية بمضمون مجتمعي جديد: إن المهمة التاريخية للبروليتاريا لدى تسلُّمها السلطة هي أن ‏تَستَبدِل الديمقراطية البورجوازية بالديمقراطية الاشتراكية، وليس إلغاء كل ديمقراطية... وتبدأ ‏الديمقراطية الاشتراكية بتدمير الهيمنة الطبقية وبناء الاشتراكية. إنها تبدأ في لحظة استيلاء ‏الحزب الاشتراكي على السلطة. إنها ليس شيئا آخر غير ديكتاتورية البروليتاريا". صحيح أن ‏الاستيلاء على السلطة يستدعي لزوما الديكتاتورية من أجل "اعتماد التدابير الاشتراكية ‏بصورة فورية، تدابير أكثر قوة، قسوة وفظاظة، لكنها ديكتاتورية الطبقة وليس الحزب، أو ‏زمرة، إنها ديكتاتورية طبقة، أي أنها ديكتاتورية تُمَارَس بأوسع طريقة ممكنة، وبمشاركة ‏نشطة للغاية للجماهير الشعبية، وبدون أية عقبة تُنْصَب أمام مشاركتهم، وذلك في ديمقراطية ‏بدون حدود". ‏
فهل كانت روزا لوكسمبورغ ضحية للأوهام المثالية، وتتناسى الشروط الصعبة لثورة أكتوبر؟  ‏أم أن أفكارها وليدة لموقعها في الحزب الألماني حيث كانت تتصدى لتحريفات كاوتسكي؟ أم ‏لتقدم ألمانيا الواسع؟ هذا كله ممكن. وإذا كان من المؤكَّد بصورة لا يتسلَّل إليها الشك أن ‏لوكسمبورغ لم تعط لبنية "السلطة المزدوجة" التي بُنيت على يد البلاشفة، ودور السوفييتات، ‏لكل حقه. وهي تقلِّص دور السوفييتات إلى المراقبة فقط، ليس غير، في تشييد الديمقراطية ‏الاشتراكية، فإنها بالرغم من ذلك تُدرِك بقوة أن الحزب انحرف عن الطبقة. هذا الانحراف ‏الذي يَفسح المجال واسعا أمام نشوء بيروقراطية قوية للغاية.‏
‏// وكان المستقبل اللاحق لأعمالها قد دلِّل بأنها كانت على حق. وليس بوسعنا إلا أن نقول إن ‏الثوريين الروس لم يكن بمقدورهم أن يصنعوا "المعجزات"، ذلك أن "ثورة بروليتارية ‏أنموذجية ومكتملة في بلد معزول، وقد أنهكته الحرب العالمية، وسَحَقته الإمبريالية، وخانته ‏البروليتاريا الدولية، ستكون معجزة". وإن المزيَّة التاريخية للبلشفية – كما كانت لوكسميورغ ‏تقول - هي أن المستقبل أمامها، وأن البلشفية وَضَعَت لأول مرة "مشكلة إنجاز الاشتراكية على ‏أرض الواقع": "وكان لا مفر من ظهور المشكلة في روسيا، وكان من غير الممكن أن تجد حلا ‏لها في روسيا". والمجازفة لم تأت بالنتائج المرجوة. ‏
‏8/  التحليل الثاني للصعوبات التي كانت تعترض ثورة اكتوبر 1917 نجدها كما قلتَ في أعمال ‏غرامشي، فكيف كان غرامشي  يرى البلشفية؟ وهل كان برأيه ثمة مجال أمام نجاح ثورةٍ ‏بروليتارية في روسيا المتخلِّفة، ثورة تمارس ديكتاتورية البروليتاريا، أو الديمقراطية ‏الواسعة، على طريق الانتقال إلى الاشتراكية؟ ‏
***  أنطونيو غرامشي المولود في العام 1891 كان لا يزال شابا فتيا ومناضلا شابا في الحزب ‏الاشتراكي الإيطالي عندما تميَّز بين أقرانه بمناسبة اضطرابات مدينة توران التي كانت اندلعت ‏للمطالبة بالخبز والسلام، قبل أن يَنشر في 24 تشرين الثاني /نوفمبر 1917 في آفانتي‎ ‎Avanti ‏ (إلى الأمام)، مقالا له تحت عنوان "الثورة ضد الرأسمالية". وكان في وقت ‏سابق وجّه تحية، تحت عنوان "الشيوعيون المتطرفون الروس"، لهؤلاء الشيوعيين ‏المتطرفين. ومن بينهم يأتي غرامشي على ذكر كيرينسكي ‏Kérenski،  ‏وتسيريتيليTsérétéli ‎، وتشرينوف ‏Tchernov ‎‏. وهو بهؤلاء يحيِّي "الثورة ‏شخصيا". ويهنئ "الاشتراكيين المعتدلين" في السلطة لأنهم لم يَسلكوا مسلك اليعاقبة، ولم ‏يَخصُّوا للطليعة ممثَّلة بلينين المصير نفسه الذي كان لقيه بابوف ‏Babeuf‏  علي يد ‏اليعاقبة. أي، بتعبير آخر، يُحَيِّي امتناعهم عن إيقاف الثورة. فبفضل الاشتراكيين المعتدلين ‏‏"أصبحت الحياة بكاملها ثورية بصورة حقيقية"، وأصبح كل إنسان يملك مصيره بنفسه. إن ‏هؤلاء يرفضون الاستسلام للزمان بوصفه عاملا للتقدُّم، وضرورة لاكتساب خبرات وسيطة ما ‏بين الاشتراكية وإنجازها. وغرامشي يَستَبعِد أن تكون "أَقلِّيَّة مُستَبِدَّة" قد تشكَّلَت في مثل هذه ‏الظروف. وهو في مؤلَّفه "الثورة ضد رأس المال"  يَدرس هذا  المديح  الموجَّه  لحالة  ‏الاختراق  التي  أُنجزت   في  روسيا،  كما لل/"إرادة"   السياسية.‏
// للوهلة الأولى، تبدو الثورة البلشفية بوصفها مسألة إيديولوجية أكثر منها وقائع. إنها تَأتي ‏بصورة مناقضة لدروس "رأس المال" لماركس، والتي كانت تَفترض، في ما يتعلق بروسيا، ‏أن من الضروري أن تكوُّن بورجوازية، وأن تَدخل في عصر الرأسمالية، وأن تظهر حضارة من ‏النمط الغربي، قبل أن تستطيع البروليتاريا أن تنتقم لنفسها، وأن تضع في المقدِّمة مطالبها، ‏وأن تُنجِز ثورتها. والحال أن الوقائع انتصرت على الفكرة. فلقد كَذَبَّت أفعال البلاشفة ماركس، ‏وقَلَبَت قوانين المادية التاريخية، ودلَّلت بأنها ليست جامدة غير قابلة للتكيُّف. الأمر الذي يَحمل ‏معه السؤال التالي: هل البلاشفة ماركسيون؟ إنهم ليسوا ماركسيين ما داموا خانوا "رأس ‏المال". لكنهم ماركسيون، في الوقت نفسه، طالما أنهم مخلصون لفكر ماركس الحي، وقد ‏خَلَّصوا أفكاره من حثالة المذهبين الوضعي والطبيعي المترسِّبين فيها، ليدرجوها في سياق من ‏استمرارية "الفكر المثالي الإيطالي والألماني". ‏
وغرامشي هنا يختار عن وعي الإنسان و"الإرادة" – العبارة تَظهر ما لا يقل عن ست مرات ‏خلال أسطر قليلة – بوصفها المحرِّك التاريخي، محل "الوقائع الاقتصادية". أي إن هذه ‏‏" الإرادة" هي التي  تَنتَقِص  من  الإيديولوجية،  وترمي  بها  إلى  المرتبة الثانية. ‏
وما كان غير متوقع من جانب ماركس هو أنه لم يتوقَّع ما كان من المفترض أن يكون موضعا ‏للتوقُّع، طالما أن الإرادة غابت عن توقُّعاته. وهذا أمر شاذ. وتفسير ذلك بموجب أفكار ماركس، ‏حسب ما يراه غرامشي، أن النزاع ما بين الطبقات في "الحالات الاعتيادية" (تكرَّرَت العبارة ‏أربع مرات)، أو كما يرى ماركس، يحتاج كي ما يتكوَّن إلى فترة من الزمان، لأن الناس ‏بطيؤون، ويعملون على تنظيم أنفسهم، ويتلقَّون الحوافز، وينخرطون في تجارب. ثم إن النزاع ‏ما بين الطبقات يتمخَّض رويدا رويدا عن تدريب على صراع الطبقات كي تُرغم البروليتاريا ‏البورجوازية على تحسين شروط الحياة المجتمعية، وكي يأخذ الوعي الجماهيري بصراع ‏الطبقات طريقه إلى التنفيذ، ويتكوَّن لدى الجماهير وعي بقوَّتهم ومسؤوليتهم. والحالة الطبيعية ‏هي النضج وبلوغ سن الرشد التاريخي. ولا بد في مثل هذه الحالة من انتظار ذوبان السكر.‏
‏ أما في روسيا، فإن الزمان، برأي غرامشي، لم يفعل فعله. فقد سُحِقَ الزمان في روسيا، ‏وادَّغَم تحت وقع الحرب التي حرَّكت بحيوية الإرادات المجتمعية والشعبية ووحَّدَت ما بينها، في ‏البدء بصورة آلية تحت ضغط الجوع والموت الموعود لملايين الرجال، ومن ثم بطريقة فاعلة ‏وثقافية تحت تأثير الدعاية الاشتراكية ما بعد الثورة الأولى في فبراير. إن الدعاية الاشتراكية ‏سارعت في "لحظة واحدة" من تاريخ البروليتاريا، وجعلت البروليتاريا  تقفز درجات السلم. ‏ولماذا كانت روسيا مُلزَمة بأن تنتظر رغما عنها أن يعاود التاريخ المسار نفسه للمسار ‏الإنجليزي وأن يكرِّر مراحله، من البورجوازية، إلى صراع الطبقات، إلى الوعي، إلى الثورة؟ ‏إن الفكر، بل وإن "فكر أقلِّية" قد وفَّر على روسيا تطورا من هذا القبيل. وغرامشي يتحدَّث هنا ‏بلهجة النبوءة، فيكتب: "وكما أن أمريكا الشمالية أكثر تقدما من إنجلترا بعدما استمدَّت تقدمها ‏منها، فإن روسيا "ستبدأ تاريخها من المرحلة الأعلى للإنتاج، أو من حيث وصلت إليه إنجلترا ‏اليوم"، لتصل بذلك إلى النظام الجماعي الذي كان تحدَّث عنه ماركس. فكيف سيُنْجَز هذا ‏المسار المتطور؟ إن الثوريين سيوفِّرون الشروط في أقصر وقت ممكن، مستفيدين من انتقادات ‏الاشتراكيين الموجَّهَة ضد الرأسمالية، من اجل تجنُّب الأخطاء. إنهم سيحلُّون محل الرأسمالية ‏والبورجوازية لينفِّذوا في أسرع وقت مهامهم، طالما أن النظام الجماعي سيكون في مطلع الأمر ‏‏"نظام البؤس والألم". والحال أن الاشتراكية "فورا" في روسيا مبرَّرة، والبلاشفة ليسوا ‏سوى  التعبير الضروري بيولوجياً  من   أجل  التجديد. ‏
وفي مقاله اللاحق تحت عنوان "النقد"، والذي نُشِر في غريدو ديل بوبولو (صرخة الشعب)  ‏Grido del Popolo‏ بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير 1918، يعود غرامشي إلى الحديث عن ‏‏"الإرادة"، ولا يخشى من بناء علاقة من التوازن ما بين فيكو ولينين: إن الإيمان ‏بالعناية الإلهية لدى الرجل الإيطالي يمَارِس في التاريخ بوجه الاحتمال دورا مفيدا للعمل ‏الواعي، و"الإيمان بالحتمية" لدى الرجل الروسي يمارس بوجه الاحتمال الوظيفة نفسها. إن ‏غرامشي يوفِّق ما بين هذه الحتمية، و"لإيمان" ب"العزيمة" الثورية ضد رأس المال. ومن ‏الواضح أننا هنا أمام تفسيرات عارضة تستجيب لظروف متغيِّرَة، والتي تأتي عن غرامشي ‏المناضل في صلب الحدث الساخن بهدف الإقناع، وتقاسم هذه القناعات مع رفاقه، وذلك في ما ‏كانت- علاوة على ذلك - ممارسة السلطة السوفياتية ما بعد الثورة لم تكشف بعد عن دروسها. ‏وكانت خاصية الثورة الروسية، بالرغم من ذلك كله، ثورة "غير اعتيادية"، وفَتحت بالإضافة ‏إلى ذلك ثغرات في النظرية الماركسية. وكانت هذه الخاصية مسألة معترف بها، وموضعاً ‏للدراسة منذ ظهورها. ‏
إلا أن غرامشي، من جهة أخرى، يعود عشية انتقال القيادة إليه، إلى مراجعة ما كان كتبه ‏ليعدِّل ما كان صاغه من تبريرات، وذلك على نحو ما يظهر في مقال له بعنوان "ثورتان" نُشِر ‏في شهر تموز/يوليو 1920. إنه، في تقرير له حول حركة مجالس المصانع في منطقة ‏توران مُقدَّم للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، يعرض غرامشي لمفهوم عن الثورة يَعُود ‏بنوعين اثنين من حيثيات الثورة إلى سياقهم من حيث هما ضرورة تاريخية: سياق زمانية ‏المسار، وسياق الوظيفة الاقتصادية. "إن الثورة لا تكون بروليتارية وشيوعية إلا من حيث هي ‏تحرير للقوة المُنتِجَة البروليتارية والشيوعية، والتي كانت نشأت في صلب المجتمع الواقع ‏تحت سيطرة الطبقة الرأسمالية. إنها بروليتارية وشيوعية من حيث هي تَنجَح في ترجيح ‏وتشجيع توسُّع جديد للقوى البروليتارية والشيوعية، وتنظيمها، هذه  القوى التي  ‏تستطيع  أن  تبدأ  العمل  الصبور  والمنهجي  الضروري  لبناء  نظام جديد...". ‏
لكن غرامشي لا يلبث هنا أن ينتقد ثورة أكتوبر، فيشير إلى إن تدمير جهاز الدولة ‏البورجوازية، وبناء جهاز دولة جديد، غير كاف بحد ذاته لإنجاز الثورة. إذ إن ثورة من هذا ‏القبيل قد "تنتهي إلى تشييد مجرد مجلس دستوري يسعى إلى معالجة الجروح التي كان الجهاز ‏البورجوازي خلَّفها من جراء الغضب الشعبي، وتستطيع أن تصل حتى إلى تأسيس السوفييتات ‏‏(المجالس)، بل وحتى إلى تنظيم مستقل ذاتيا للبروليتاريا وغيرها من الطبقات المُضطَهَدَة، بيد ‏أنها لا تجرؤ بالرغم من ذلك كله على المضي قُدُما إلى ما هو أبعد من التنظيم، ولا تجرؤ على ‏المساس بالقواعد الاقتصادية. لذا تراها تتقهقر أمام رجعية الطبقات المالكة (...). وهي ‏تستطيع في خاتمة المطاف أن تنجح في بناء سلطة بروليتارية وشيوعية، لكنها تستنفد نفسها ‏وهي تعاود المرة تلو المرة المحاولات اليائسة كي تُنبَثِق عن السلطة الشروط الاقتصادية ‏لاستمرارها وتعزيزها، وذلك كله إلى أن تَنْشُلَها الرجعية الرأسمالية. ففي ألمانيا، والنمسا، ‏وبافاريا، وأوكرانيا، وهنغاريا، ظهرت هذه التطورات التاريخية، والتي كانت أعمال تدمير، لكن ‏الثورة لم تَتْبَع هذا التدمير بإعادة البناء حسب ما هو مفترض بالمعنى الشيوعي. ‏
وإن توفُّر الشروط الخارجية: الحزب الشيوعي، وتدمير الدولة البورجوازية، والمنظَّمات ‏النقابية القوية، وتسليح البروليتاريا، لم تكن لتكفي للتعويض عن شرط واحد، وهو: توفُّر ‏القوى المنُتِجَة السائرة نحو التطوُّر والتوسُّع، والحركة الواعية للجماهير البروليتارية التي ‏تَنقُل السلطة الاقتصادية إلى السلطة السياسية، بحيث تكون السلطة الاقتصادية هي جوهر ‏السلطة السياسية، بالإضافة إلى توفُّر الإرادة لدى الجماهير البروليتارية  بإشاعة النظام ‏البروليتاري في المعمل، ومن أجل أن تجعل من المصنع خليةَ للدولة الجديدة، وأن تبني الدولة ‏الجديدة بوصفها انعكاسا للقواعد الصناعية لنظام المصنع". وتَمثل التجربة السوفياتية في ‏الحالات التي ظهرت في عدد من البلدان بوصفها خلفية لها، وإن كانت ليست حاضرة فيها. ‏
// وتَكشف الرسالة الصادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي في العام ‏‏1926 عن شكوك جديدة. الأمر الذي يحمل غرامشي على الدعوة إلى احترام الأممية ‏والحفاظ على وحدة الحزب السوفياتي، ويطلب الامتناع عن اتخاذ أية عقوبات مشدَّدة بحق ‏المعارضة: "إنكم اليوم تدمِّرون إنجازكم".  بل، ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يتساءل ‏ما إذا كانت التحليلات الصحفية في الصحافة الفاشية لا تحتوى على بعض الصدق في ما يتعلق ‏بالوقائع، وما إذا كانت الدولة السوفياتية في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة آيلة إلى التحوُّل ‏إلى دولة رأسمالية". والنتيجة: ألم يكن الأجدى انتظار ذوبان السكر؟ ألم ينتهي الرهان ‏برأي غرامشي أيضا إلى خسارة؟ ‏
 ‏
‏9/  من الواضح أنك ترى أن أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي  تعود إلى الظروف الموضوعية ‏التي رافقت منذ اليوم الأول ثورة أكتوبر، وما تبعها في ما بعد من انحراف ستاليني، ربما يكون ‏هو نفسه وليد هذه الظروف، لتقود هذه الظروف في نهاية المطاف إلى سقوط الاتحاد السوفياتي ‏في ظروف دولية، سياسية واقتصادية وعسكرية، معادية للاشتراكية، وتَحكم على النظام ‏السوفياتي بالانهيار.‏
***  ما هي النتيجة المستخلصة من هذا المسار الذي يَكشف بصورة بديهية عن توافق ما بين ‏أحكام على ثورة أكتوبر وسقوطها، أحكام كلها سلبية إلى حد بعيد؟ إن السؤال الأول يدعو إلى ‏تحقيق ميداني وفكري جديد هو في متناول اليد. فإذا كان من الصحيح أن المحلِّلين الأكثر ‏وضوحا قد رفضوا التسليم بهذا السقوط، ولم يقيسوا ضخامة نتائجة الواقعية، بحجة أن ‏حتميات التخلُّف هي السبب وراء ذلك، وما يرافق التخلّف من قسر محتوم، وتصفيات، ‏بالإضافة إلى إشعاعات تتعلق بأحداث الساعة التي سادت نهاية القرن العشرين، فإن "نهاية الشيوعية" هي نفسها نهاية الشيوعية هذه وليس غيرها، ‏و"التي كانت وُلِدَت ميتة". وإن "انتصار الرأسمالية"، وما يَنتج عن الزوج السوق-‏الديمقراطية من إغراءات، إن هذا الانتصار الرأسمالي في روسيا السوفياتية ينتمي إلى ‏الاستمرارية، استمرارية للبيروقراطية التي نابت مناب الرأسمالية والبورجوازية، أكثر منه ‏إلى الترميم الذي يتمخَّض عنه بعد مرور ستين سنة هذا التوحيد ما بين نمطين من التطور ‏الرأسمالي، والذي كان إلى ذلك منفصلا، وكان يبدو أيضا في الظاهر متناقضا. وإن "الاشتراكية ‏الموجودة واقعيا" والملقّبة ب/ "الماركسية الواقعية"، ليست، من وجهة النظر هذه،  هي هذا ‏المراهق  المتمرِّد،  وأقل  من  ذلك  الطفل  الضال،  وإنما  هو  قريب  فقير  ومهتدٍ  يعود إلى  ‏مهد  الأسرة. وإن مثل هذه الأطروحة تستدعي لزوما أن تُمَحَّص بعمق لأنها تنتهي بدورها إلى ‏الإشكالية التالية: إذا كان يصح القول إن السلطة في روسيا التي مورست قد نابت مناب ‏البورجوازية، والاقتصاد ناب مناب  الرأسمالية،  فما  هو  معنى  هذه  الإنابة؟  وما هي  النتائج المُسْتَخلَصَة؟
وينتج عن النتيجة الأولى بصورة فورية نتيجة ثانية، وتعود بنا إلى النقطة التي كنا انطلقنا ‏منها لدى البدء بالحديث حول أزمة الماركسية والشيوعية، ألا وهي أن الانتقال إذا ما كان ‏إنجازه ممكنا، فإنه ليس موضعا للشروع بتنفيذه إلا على قاعدة من الطريق الذي يوصَف ب/ ‏‏"العظيم". وهو طريق الغرب أو أوروبا الرأسمالية. وهل هذا هو تفكير غرامشي؟ إن انهيار ‏البلدان الاشتراكية، "الموجودة واقعيا"، والذي جرف معه المواجهة ما بين "المعسكرين"، ‏يقود بنا إلى تصحيح هذا الحكم.  إذ ما أن تلاشت المنافسة والسباق، فإننا نجد أنفسنا أمام ‏سيطرة مُوَحَّدَة فَرَضَت على الكوكب بأسره النظام الرأسمالي الذي نرزح تحت سيطرته. ولم ‏يبق بعد ذلك أمامنا إلا موقفين اثنين. ‏
الأول هو موقف التسليم الذي يتَّسم حسب أصحاب النوايا الطيبة بسمات ما يُسَمَّى "نهاية ‏التاريخ"، والتخلِّي عن المستقبل، أو "فقدان المعنى". و لا يبقى في مثل هذا الحال أمامنا ‏سوى الدفاع عن التوازن بين الوحوش، أو لا يبقى أمامنا – بتعبير آخر – سوى ضخ حد أدنى ‏من العدالة المجتمعية في الليبرالية بصورة متعايشة مع تطورها. والموقف الثاني هو النضال. ‏وتحتاج طرقه ووسائله إلى تعريف جديد انطلاقا من القراءة الصعبة لعلاقات القوى التي ‏شَرعت ترتسم، وهي ذات أهداف واضحة منذ الآن: تشييد الأشكال الديمقراطية في كل مكان، ‏توسيعها والحفاظ عليها وتعميقها في كل مكان. ‏
ويجب أن نفهم الديمقراطية كما هي، ليس من حيث هي معطى، لأن كل ديمقراطية هشة، وليس ‏من حيث هي بالأحرى نموذجا، أي الديمقراطية الغربية التي تمتزج بالأمراض السياسية ولا ‏تعبِّر إلا عن النظام السائد المسيطِر للغالبين. إن الديمقراطية تبقى برأينا هي الرقابة على ‏وسائل الإنتاج مِن قِبَل منتجي الثروات، وهم العدد الأكبر، وهي سلطة العمال. ‏
وأنا أكتفي بدعوة المثقفين الغربيين إلى الأخذ بمهمة متواضعة، وهي الامتناع عن التخلي، ‏اليوم وأكثر من أي وقت مضى، عن مهمة متواضعة، وهي "الوظيفة النقدية" التي كان بدأ بها ‏ماركس للنظام المسَيطِر والمُحمَّل بتهديدات ثقيلة تمتد وتتسع لتشمل الكوكب كله. ومن هذا ‏المنظور يأتي اسم الشيوعية بوصفه حتى الآن هو الحل. ‏
‏                                احد عشر - الشــيوعية ليســت نمطـا ‏
‏                                              أو نظــامـا جــاهــزا للتطــبيق ‏ 
‏1-  أصبحت الشيوعية بحكم التراكمات التي تلت ثورة أكتوبر 1917 نموذجا واحدا، هو ‏الروسي القابل للتطبيق في كل مكان. وأصبح النموذج أو النمط الروسي هو المثال الوحيد ‏للشيوعية. أنت تعتقد أن الشيوعية غير ذلك. إنها من وجهة نظرك ابتكار مستمر وتجديد ‏بالاعتماد على تحليل علمي لواقع ملموس، ابتكار هو المعادل الموضوعي لواقع متجدِّد. والسؤل ‏بتعبير آخر: ما هي الشيوعية؟ ‏
***  إن ماركس محترس حيال مفهوم الشيوعية، وكان ُفَضِّل عليها الاشتراكية للحديث عن ‏مجتمع المستقبل. ولم تكن الشيوعية، في سنين شبابها الأول ما قبل ماركس وإنجلز، تعني ‏سوى مشاريع أو أنظمة تطمح بدرجات متفاوتة إلى الإصلاح الجذري للمجتمع. وكانت طوباوية صرفة ذات أصول أفلاطونية. وعَبَّر عنها مفكِّرون من أمثال إتيين كابيه ‏Etienne Cabet ‎‏ ‏‏(1)، وجول لورو    ‏Jules Leroux،  و ويلهمل فايتلينغ  ‏‎ WilhelmWeitling‏ ، ‏وتوماس مور‏ Thomas More . وهؤلاء الطوباويون كانوا ينتقدون الأحوال السائدة، ‏ويشكِّل شارل فورنيِّه ‏Charles Fournier‏ على هذا الصعيد خير مثال. وكان فورنيِّه ‏يعاني، بالرغم من أن تحليله للأوضاع كانت على درجة عالية من الجودة، وكان احتجاجه قوياً، ‏كان يعاني من كونه ينتمي إلى عالم الحلم عبر موضوعات نظرية تأمُّلية، مثل الملكية ‏الجماعية، والإنسانية، أو نهاية الاستلاب، والتي يعوَّل عليها من أجل بلوغ "ماهية الإنسان". ‏وكان فورنيِّه في أغلب الأحيان واقعا تحت تأثير التدين، والحنين إلى المسيحية في عهدها الأول ‏المثالي. ‏
ماركس نفسه عَرِفَ مرحلة إنسانوية كان خلالها بعيداً عن المثالية والمادية. ف/"البيان ‏الشيوعي" يشير إلى أن استلاب البروليتاريا يُشكِّل مصدر سمتها الثورية. وتحت تأثير ‏أصدقائه، موزيس هيس ‏Moses Hess، وإنجلز الذي كان التزم قبله بالحركة الثورية، ‏بالإضافة إلى مسار من التحوُّل الداخلي لعصبة العادلين ‏La Ligue des Justes‏  والتي ‏أصحبت  في ما بعد ‘عصبة الشيوعيين" ‏Ligue des Communistes، وبوجه خاص استبدال الشعار: ‏‏"كل الناس أخوة"، بالشعار "يا عمال العالم اتحدوا"، والذي رافق تحول هذه العصبة، هذا ‏كله يُقنع ماركس بأن يتبنى بدوره مفهوم "الشيوعية"، وأن يجعل منه مفهومه. بيد أن هذا ‏الانتقال لم يُنجّز إلا لأن مضمون الشيوعية انقلب من الطوباوية إلى العلمية. ‏
// هذه الشيوعية بعدما أعيدت صياغتها شكلا ومضمونا سَدَّت النقص والخلل الذي كان يسيطر ‏على المفاهيم القديمة للشيوعية، والتي كانت تحرمها من أية مؤهل لممارسة التغيير والفعل، ‏طالما أنها في صيغتها الجديدة  تلتقي التاريخ الذي كان مفقودا في المفهوم القديم للشيوعية، أو ‏بالأحرى تفعيل التاريخ وتشغيله بمقابل التاريخانية. والتاريخ هنا هو الممارسة، أو نقيض ‏ما هو تأملي ونظري. وهو أخيرا، وفي المقام الأول، القوة الواقعية القادرة وحدها على نقل ‏أفعالها إلى حيز التنفيذ الفعلي، أي البروليتاريا. واعتبارا من هذا التحوُّل أصبحت الأفكار قوة ‏مادية تتبنَّاها الطبقة "المحرومة من المِلْكيَّة"، وتَفتح بها الطريق أمام ثورة تضع نهاية ‏لعلاقات الإنتاج الرأسمالية.   ‏
ومما لاشك فيه أن الأمور لا تتقدَّم من تلقاء نفسها دونما صعوبات. فمفهوم البروليتاريا ذو ‏تاريخ. إذ إن البروليتاريا كانت تُعتَبَر في مطلع الأمر "طبقة شمولية"، وكانت الفلسفة بالنسبة ‏إليها قلبها وعقلها المفكِّر. ثم أَصبحت هذه الفلسفة بالمعنى الألماني هي "مُنَظِّر" البروليتاريا ‏الأوروبية.  ثم انتقل مفهوم البروليتاريا من هذا المعنى الفلسفي إلى وضع اجتماعي- اقتصادي ‏لم يكف عن التبلور بصورة أوضح. فقد انتقل من "حِكم الملكية الفردية ضد نفسها"، حسب ‏أفكار بيير بول برودون  ‏Proudhon‏ ‏Pierre Paul‏ وغيره  من الفوضويين، إلى الصراع ما بين ‏البورجوازية والبروليتاريا، والعلاقة ما بين الحزب والطبقة، والبروليتاريا بوصفها القوة ‏الثورية الوحيدة. ‏
واعتبارا من ذلك، اختلطت وامتزجت الشيوعية – حسب ما يشير إليه إنجلز في مراجعته ‏ل"البيان الشيوعي" في العام 1890 - بالحركة العمالية، وذلك مقابل الاشتراكية بوصفها ‏إيديولوجية بورجوازية. وأصبحت الشيوعية علمَ البروليتاريا، ومُعارِضَة أو مناقضة للاقتصاد ‏السياسي بوصفه علم بورجوازي. وتمخَّض عن ذلك برنامج يتعلق بشكل الصراع في حالاته ‏المتعدِّدة، والهدف: نقد الدولة ونهاية الطبقات، والانتقال من "سيادة الضرورة إلى سيادة ‏الحرية"، في إطار من مسيرة ثورية انتقلت أخيرا إلى حيز الواقع   وتأسَّست. ‏
ولستُ هنا في معرض الحديث عن معنى الشيوعية العلمية ومداها، ولن أتطرق أيضا إلى ‏علاقتها شديدة التعقيد بالطوباوية. كلا. إن الشيوعية النقدية، كما يقول أنطونيو ‏لابريولاAnotonio Labriola ‎‏، هي نظرية من أجل قلب النظام القائم بصورة جذرية. ‏هذا الانقلاب المندَرِج في قلب صراعات ملموسة تاريخيا. وإن الصيغة الشهيرة الواردة في ‏‏"الإيديولوجية الألمانية" ليس لها معنى آخر غير هذا: "إن الشيوعية برأينا ليست دولة يَلزَم ‏بالضرورة تشييدها، وليست أيضا مثالا يقاس الواقع ويُصنَع حسب صورته. إننا نُسَمِّي ما هو ‏شيوعية الحركة الواقعية التي تُلغي الوضع الحالي. وإن شروط هذه الحركة متأتِّية من البدايات ‏أو البواكير المتوفِّرة حاليا". ‏
ولنأخذ بعض السمات الهامة التي غالبا ما تُهمل إن لم تكن  تُحْجَب عن قصد. إن وضع ‏البروليتاريا في الأعمال الشيوعية، أو حالتها، لا يخلو من التباسات. فهي تُعْتَبَر في وقت واحد ‏خارج المجتمع البورجوازي، حيث أنها تُمَثِّل المبدأ الذي يؤسِّس لانحلال البورجوازية، حسب ‏ما جاء في "البيان الشيوعي". والبروليتاريا، في الوقت نفسه، ومن جهة أخرى، تقع في شرك ‏الرأسمالية، حتى على صعيد نضالاتها، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، وإنما أيضا من ‏الناحية السياسية والإيديولوجية، حسب ما جاء في "رأس المال"، ما يترك نتائج على تنظيمها ‏وأحزابها ونقاباتها التي تندرج بدورها في النظام الرأسمالي، وتقع سجينة له. والبروليتاريا، ‏علاوة على ذلك، التي تُحشَد من مختلف شرائح السكان لا تشكل بحد ذاتها طبقة، وإنما هي ‏مدعوة أو مطالبة بأن تكون طبقة. والطبقة لا وجود لها خارج صراعاتها، فإذا ما تقلَّصت إلى ‏‏"نشيد الموتى" وهي ومتوحدة بنفسها، وإذا لم ترتبط بتحالف مع قطاعات غيرها من الشرائح ‏المجتمعية، وبوجه خاص ما يُسمى البورجوازية الصغيرة، فإنها لن تتكون بوصفها طبقة ذات ‏صراعات. ‏
والحزب لا يحل محل الطبقة، ليتحدَّث باسمها، ويقرر بدلا عنها. وقد تصدى كل من ماركس ‏وإنجلز لمثل هذه الحالة برفض قاطع ومستديم. إن الحزب بالنسبة للطبقة امتداد مرافق لها، ‏لاسيما وأن "المنظَّمات – على حد قول غرامشي - عاجزة عن تغطية التكاثر متعدِّد  الأشكال  ‏للقوى  الثورية  التي  تَصدُر  عن  رأس  مال  يولِّد  بكثرة  هائلة  القوى الثورية". ‏
إن قيمة ومصداقية هذه الدروس ما تزال راهنة في يومنا هذا. ولنضف إلى القول: إن الشيوعية ‏وإن كانت نِتاج الرأسمالية، فإن انتقالها إلى حيز الواقع كنظام سياسي سائد، لا يمت بصلة إلى ‏أية ضرورة مُلزِمة بصورة قاطعة، أو حتى إلى أزمة "نهائية". ذلك إن قانون التراكم، حسب ما ‏يتبيَّن من التاريخ، يسمح لنمط الإنتاج الرأسمالي أن يعيد تنظيم توازناته، وأن يضمن في ‏شروط جديدة الحفاظ على سيطرته. ‏
‏2-  الشيوعية، من حيث الأصل، بَنَتْ لديمقراطية واسعة لا تقل في منحها للحريات عن الديمقراطية البورجوازية ، وهي تُنجر قطيعة مع الأشكال البورجوازية للديمقراطية. ‏
*** الشيوعية من نتاج الرأسمالية، على غرار سواها من الاتجاهات، كالاشتراكية ‏والديمقراطية، والليبرالية، والفاشية. وإن انصباب العمل على التناقض الرئيس للعلاقات ‏المجتمعية، رأس المال، العمل، والمأجورون، هو الذي يرجِّح انتصار اللون الأحمر على ‏الأبيض والأسود والزهر. والشيوعية لم تحدِّد بصورة مسبقة وشاملة شروطا بعينها للثورة، ‏وبالأحرى شروط من شأنها إيقاف الثورة، إلا إذا تحدَّثنا عن هذه الشروط بتفكير مثالي، يرتفع ‏بقوانين مفترضة فوق الواقع ويُخضع الواقع لها. والشيوعية ليست نموذجا أو نمطا يقلَد أو ‏يحتذى به, إنها بعض المؤشِّرات فقط ذات صلة بشكل الانتقال، من أمثال تلك التي كشف عنها ‏ماركس عبر تجربة الكومونة، أو الثورات اللاحقة. ‏
إن الهدف من العمل الجماعي للعمال، أو "المُنْتِجون الشركاء" لا علاقة له البتة بمذهب الإنتاج ‏من النمط الستاليني، وبتعزيز بنى الدولة. وكان النمط الستاليني انتهى إلى الفشل، في ما نَتَجَ ‏عن تعزيز بنى الدولة سمات لسياسة بورجوازية. والشيوعية ليس سوى النضال العملي من ‏أجل الديمقراطية، بوصفها سلطة الأكثرية وقد أَنجزت القطيعة مع كل تعبيراتها البورجوازية، ‏أو هي ما يُعرف كلاسيكيا ب/"ديكتاتورية البروليتاريا". ‏
ومن الأفكار المُسْبَقة والشائعة في أيامنا هذه أن البروليتاريا لم يعد يُعْثر لها على أثر. إن ‏القبول بمثل هذا النفي للطبقة العاملة ليس فقط استسلاما إلى الإيديولوجية السائدة التي تُرَوِّج ‏لفكرة مؤدّاها أن الإيديولوجيات انتهى عهدها، شأنها شأن الطبقات، أو البطاطا، وإنما هو ‏علاوة على ذلك ترويج لبديهة منتشرة بصورة واسعة تقول بسيطرة الرأسمالية على الكوكب، ‏سيطرة بدون أي بديل معارض لها ومختلف عنها. هذه الرأسمالية التي ما انفكَّت تتجدد بأشكال ‏مختلفة مخلِّفة الأضرار والخراب في كل مكان وفي كل المجالات بدون استثناء، من صراع ‏الطبقات إلى أصحاب رأس المال الغاطسين في الأزمات والكوارث الاقتصادية. ‏
والحال، ما هي البروليتاريا اليوم، وماذا تكون إن لم تكن هذه الكتلة من المسيطَر عليهم، ‏وهؤلاء من "معذبي الأرض"، الذين يتزايدون عددا كل يوم؟ وما الشيوعية، إن لم تكن هذه ‏الممارسة الخلاقة والمُبْتًكِرَة التي تُحيِّي المعارك والنظرية اللتين تساعدان البروليتاريا ومعذبو ‏الأرض على التلاقي؟ وبكلمة واحدة: إن سقوط حائط برلين قد حرَّر الماركسية، وأعاد في الوقت ‏نفسه للشيوعية التي تتحرك كالصاروخ ضد الأنظمة القائمة كلها، قوتها الجذرية. وبالرغم من ‏حالات كثر من الارتداد والتخلي والمآتم، فإن الشيوعية لم تقل كلمتها النهائية، وهي ما تزال ‏أمامنا.‏
 
‏                         اثنتي عشرة: نهــايـة الـدولـة الســوفـياتية
‏                                          واســتمـرار الشــيوعـية المتجـدِّدَة
 
‏1/  موت الدولة السوفياتية هو نفسه تجديد للشيوعية؟ وهل مات ماركس ثم عاد إلى الظهور ‏مجددا في عصر العولمة النيوليبرالية بعدما كان اختفى عن الوجود؟ ‏
‏***  ‎إنهم يعلنون عن موت الماركسية مند قرن ونيف‎، ‎‏ بالرغم من أن سقوط حائط برلين من ‏حيث الصورة الحسِّية التي ينقلها يبدو كانهيار عنيف ومفاجئ. إلا أنهم لا يتساءلون أي انهيار ‏هذا الذي حدث؟ ما الذي انهار؟ ومن هو الميِّت؟ إن الموت ليس بجلطة قلبية، و إنما يأتي ‏كنهاية لاحتضار طويل الأمد. وذلك بسبب تضافر ما بين عوامل كثر. منها حالة الجمود التي ‏رافقت عهد بريجنيف، والتي كانت تعبِّر عن عجز العالم السوفياتي عن إنجاز تحوُّلات اقتصادية ‏وسياسية. ومنها أيضا العوامل الخارجية.  فقد فُرِض على الاتحاد السوفياتي سباق التسلُّح، ‏وهو باهظ التكاليف. والمسألة لم تأخذ حقها من التفكير من حيث عواقب النفقات المالية، ‏بالإضافة إلى الحملات الإيديولوجية ومناورات الفاتيكان، والتي قادت إلى انحلال تدريجي انتهى ‏إلى التوقُّف بصورة مفاجئة، وسلمية، أو انتهى إلى ما يُعرف ب/"لثورة المخملية". لأن ‏الحفاظ على النظام لم يعد يُرجى منه أية فائدة. ولم يفعل غورباتشيف أكثر من سحب الأجهزة ‏التي كانت تمد المريض بالهواء والتغذية. وإن مثل هذا الموت الاختياري يترك السؤال التقليدي ‏في مثل هذه الحالات كاملا وبدون جواب، ما دام العلاج اللازم لإنقاذ المريض من الموت  ‏مجهول. فهل كان العلاج سينقذه؟ وكانت الأحزاب الشيوعية في أوروبا استعدت لمواجهة هذه ‏النهاية عبر اليوروكومونيسم (الشيوعية الأوروبية)، والاهتداء بالاشتراكية الديمقراطية بأمل ‏إنجاز انتصارات بفضل الديمقراطية البورجوازية. وفي فورة مزيج  من صرخات الفرح العارم ‏والألم الشديد أمام هذه المتغيِّرات استَقبَل العالم عهداً جديداً كان موضع ترقُّب وانتظار من ‏الجميع، عالمٌ يُؤذِن بنهاية الحرب الباردة، التعايش السلمي، توازن الرعب، وانتصار الديمقراطية (بلا زيادة)، وقد ‏اختلط أمرها بالنيوليبرالية. لكن الفرحة ما لبثت أن تبدَّدت، إذ لم يمض عقد واحد من الزمان ‏حتى تبيَّن أن الطموحات أُحبِطَت في عهد النظام العالمي الجديد. ‏
//  إن حالة من انعدام المساواة بجميع أشكالها ما انفكت تتعمَّق. والاشتراكية الديمقراطية التي ‏استفادت في مطلع الأمر من الانهيار، واعتراها الأمل بإصلاح النظام الرأسمالي بفضل تدابير ‏وإجراءات تشجِّع الاقتصاد المختلًط، بما يُخفَّف من وتيرة المضاربة، ويضمن حالة من الوفاق ‏المجتمعي، انتهت إلى الفشل الذريع. وتَرَكَت الاشتراكية الديمقراطية، على هذا النحو، المجال ‏مفتوحا ومُمَهَّداً أمام السياسات النيوليبرالية التي عادت بسرعة إلى السيطرة على زمام القيادة. ‏تَرَكت لها الساحة مُمُهَّدَة من اجل تراجعات عن المكاسب المجتمعية على الصعيدين الفرنسي ‏والأوروبي. فشاع شعور بالمرارة وخيبة الأمل في أوساط العاملين والمواطنين عموما، في ما ‏بدت عبارات "الطبقات" والشغِّيلة" غير صالحة للاستخدام. ورافق ذلك ظهور أفكار تقول ‏ب"نهاية التاريخ"، و"موت الإيديولوجيات"، و"الفراغ السياسي والفكري". ‏
وكان من الخطأ أن تُعالَج هذه الأفكار بالتعالي حيالها ما دامت تُعبِّر بصورة لا جدال فيها عن ‏حالة واقعية. وهذه الأفكار وثيقة الصلة بافتقاد الرأي العام بصورة عميقة لقيمه ونقاط ‏الاستدلال التي توجِّهه في فكره وممارسته، والتي ضاعت منه وفَقَدَها. ودَخَل الرأي العام في ‏‏"حالة أزمة"، أو هو أصبح متأزِّما، ووجد لنفسه مهربا أو مخرجا من اليأس بالانغلاق في ‏عصبية الجماعة، الدينية، الطائفية، الأثنية، الجنسية، والمنعطفات السياسية المتطرفة ‏لليمين، بالإضافة إلى الانغلاق الفردي. وهذا هو المعنى المقصود من العبارات الشائعة التي ‏تردَّد "لا اليمين ولا اليسار"، و"كل شيء فاسد". لكن العبارات التي تَزُفُّ لنا أو تريد أن ترشدنا ‏إلى "نهاية الإيديولوجيات" هي نفسها وبوجه الدقة الإيديولوجية الليبرالية.  و"انعدام ‏المستقبل" هو نفسه زمان البورصة التي تَفتَقد لمعايير التنبؤ، وعهد يَشهد طغيان رؤوس ‏الأموال المستَثْمَرَة في المضاربة على المدى القصير على غيره من أوجه الاستثمار في ‏الاقتصاد الرأسمالي في عهد العولمة. وهذا هو حصاد العولمة التي تتخفى وراء الدين والعمل ‏الإنساني، لكنها تدكُّ بدون شفقة كل ما يعترض طريقها، من استقلال ذاتي، وخصوصية، وتباين ‏في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة. ولحقت العولمة النيوليبرالية بحقوق الإنسان. فقد ‏تبجَّحت بها، وراحت تردِّدها على مسامع الناس صباح مساء حتى هَبَطَت بها إلى مستوى ‏إيديولوجي بدون مضمون إنساني. وهذه الإيديولوجية السائدة التي لن تُطعم  الجائعين هي  ‏الرائجة اليوم،  وما تزال  أمامها  فرصة لمزيد من استغلال العالم. ‏
// في هذا السياق تنبثق عناوين  بالقلم العريض تُعْلِن عن "عودة ماركس". هذه العودة لا تعدم ‏من أسباب قوية موجِبَة تُبيِّن أن الماركسية ضرورية لفهم عصرنا. والأسباب كثيرة. منها أن ‏الناس تتطلع إلى عالم من نمط آخر تكون فيه الحياة متيسرة بصورة أفضل، ما دام العطب عمَّ ‏العالم  ولحق بكل شيء، ما عدا الاستمرار على قيد الحياة يوما وراء يوم، خطوة وراء خطوة، ‏حسب الظروف وشروط الأحوال الجوية. حتى أصبح ما بعد المعاصرة، أو ما بعد الرأسمالية ‏والاشتراكية مقترنا، على وجه التشبيه، بالغابة، أو ما يُعْرَف /ب ما بعد لاشيء. عالم ‏‏"الشركاء الاجتماعيين" حيث يختلط العامل برب العمل وبالحكومة، حل محل "الطبقات"، ما دام ثلاثتهم يجلسون معا وراء الطاولة للحوار والتفاوض. ‏وكانت حرب الخليج الثانية وغزو العراق، أي عودة الإمبريالية إلى الظهور على السطح. وفي ‏مسعى من الإيديولوجية السائدة للتمويه، اقترنت معاداة أمريكا بمعاداة الصهيونية، وأصبحت ‏معاداة هذه الأخيرة مقترنة بمعاداة السامية. لكن اللعبة لم تفت على الشعوب التي تنهض في ‏كل مكان لمقاومة الهيمنة الحربية للإمبريالية. وفي هذا السياق من عودة ماركس، فقد لحق ‏الفشل بالمذهب الإصلاحي للاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، كما سُحِقَت محاولات التطوير ‏غير الرأسمالية. ولم تجد شيئا كل المحاولات التي كانت تتطلع إلى عولمة أقل وحشية، ومنظمة ‏تجارة عالمية أكثر ديمقراطية، ومنظمة أمم متحدة محدَّثَة. ‏
وأنا أقول إن ماركس لم يعد إلا بأنظار مَن كانوا فقدوه، لأنه لم بغادر عالمنا أبدا. وأتساءل ما ‏الذي انهار ضمن هذا الانهيار؟ مجموعة من الخبرات المجتمعية والسياسية والاقتصادية ‏والثقافية التي صُنِّفَت في ملف يحمل اسم الماركسية، في بلدان كانت أبعد ما تكون عن الجمع ما ‏بين الشروط الضرورية للثورة الشيوعية. وقد أثارت هذه الثورات من الحماس في العالم بمقدار ‏ما كانت تحمل من آمال وتطلعات لدى الشعوب في العالم أجمع. آمال وتطلعات ما تزال حيّة حتى ‏اليوم. وإذا كانت بهتت فما ذلك إلا تحت تأثير مزيج من خيبة الأمل والدعاية الرأسمالية التي ‏محت في لحظة الانهيار كل الجوانب الإيجابية للأنظمة من النمط السوفياتي. ولم يعدم ‏الماركسيون خلال العقود الماضية من أعمال معمَّقة حول الاتحاد السوفياتي. فقد ظهر لدى ‏ماركسيون كثر، منذ بدء ثورة أكتوبر، ميل إلى رفض الصلة ما بين إسهام ماركس النظري ‏والتطبيقات الستالينية التي كانت تزعم صلتها بالنظرية. وهذا الرفض يجد في ثقافتنا ‏الماركسية شبيها له في ما يتعلق برفض الصلة ما بين المسيحية ومحاكم التفتيش، أو ما بين ‏الإسلام وابن لادن. وبالمحصلة، فإن العلوم  الإنسانية  والاجتماعية  ما  كان  لها  أن  ‏تزدهر  وتعرف  هذه  الخصوبة  لولا أعمال  ماركس. ‏
أعمال ماركس وإنجلز وغيرهما هي وحدها القادرة اليوم على تشخيص النظام السائد في عالمنا ‏الراهن. فالنظام الرأسمالي، بالرغم من أن تطورات هامة لحقت به، وقد استطاع أن يستعيد ‏بصورة مستديمة توازنه بالرغم من استمرارية الاختلال في نظامه، إلا أن‎ ‎‏ الرأسمالية من حيث ‏نمط للإنتاج فإنها هي نفسها لم تتغير من حيث الجوهر. فالعولمة بوصفها امتداد متقدِّم لعلاقات ‏الإنتاج الرأسمالية تلقاها في "البيان الشيوعي". وتلقى أيضا سيطرة الرأسمال المالي بوصفه ‏‏" الصَنَم المعبود المُسَيَّر آليا، حيث المال يُنتِج المال، كشجرة الأجاص التي تثمر أجاصا"، في ‏‏"رأس المال". والبروليتاريا التي تُعَدُّ بمئات الملايين على الصعيد العالمي، على نقيض من ‏المزاعم التي تزعم نهايتها، ما تزال مقيمة في أحياء عمالية، وهي ليست أحسن حالا بكثير مما ‏كانت عليه في القرن التاسع عشر. أولم يرسي لينين الأسس النظرية للإمبريالية؟ وفي ما ‏تنتصر اليوم السياسات النيوليبرالية، فإن مسائل من أمثال سلطة الدولة، والأمة، والمجتمع ‏المدني، ودور الشعوب، والسيادة القومية، هي التي تستأثر بحيز هام من الموضوعات ‏النظرية. ‏
// لقد مضى ما يزيد عن قرن من الأبحاث والدراسات والمناقشات منذ أوائل الاشتراكيين حتى ‏غاية جورج لوكاش، هنري لوفيفر، وإرنست بلوخ، وهي تعلِّمنا الكثير عن عالمنا اليوم. نعم، ‏إن من السهولة بمكان أن يَدفنوا صحبة ستالين تحت أنقاض جدار برلين العتلات الرافعة التي ‏نَفتقد إليها في ساعة نحن بأشد الحاجة إلي هذه العتلات الرافعة وقد تبيَّن، بعد مرور فترة ‏وجيزة على الانهيار، أن كل المحاولات التي تريد صد الهمجية ما بعد المعاصَرَة، وتشييد نظم ‏من البدائل الراديكالية، قد باءت بالفشل. ‏
إن الحل ذو اسم واحد لا بديل له، ولا ثانٍ له، هذا الاسم هو الثورة. ومصير الثورة مرتبط ‏بصورة لا تنفصم بالديمقراطية. وهذا هو الدرس المستقى من الانهيار. ويا له من درس مثير ‏للكدر والإزعاج لمن كان يتعامى عن رؤية العلاقة الوثيقة ما بين الثورة والديمقراطية. إن أحدهما يستعصي على الوجود ما لم يرافقه الآخر. درس ‏لمن كان يتعامى أيضا عن قراءة هذه العلاقة المسجَّلَة بأحرف عريضة في الماركسية الحيَّة ‏التي تتسع لأعمال كثيرة، منها أعمال روزا لوكسمبورغ التي تَفرض نفسها في الساحة. ‏
// ليس من درس أقوى من تاريخ من الأجيال عبر ما يزيد عن القرن، تاريخنا الذي يريد أن ‏يتخلَّص من أنظمة السيطرة، الشرقية منها والغربية. ولسنا هنا بصدد تلقين الدروس لأحد، أو ‏تقديم وصفات طبية لصناعة المعجزات، أو الترويج لألبسة سياسية جاهزة، وإنما نحن نتلمس ‏عمل الطاهي والترزي الذي يَعمل في المادة، ومنها يَبتَكر. وها هنا ينتصب العائق. إذ إن مفارقة ‏بعينها تعترضنا. فالتصميم على "تغيير العالم" يَفتَرِض، كي ما يُنجَز هذا التغيير، أن تَتَوفَّر، في ‏وقت واحد، المعرفة العلمية بالوضع الموضوعي، والقيادة، والقوى الفاعلة والمنظَّمات. والحال ‏أن تغيير العالم، بالرغم من أن وضع عالمنا حسب ما هو عليه هو حالة العطب، وبالرغم من أن ‏حال الوعي والصبر لدى جماهير المُسَيْطَر عليهم يقترب من حالة الانفجار، بالرغم من هذا ‏وذاك، فإن تعبير "الثورة" الذي كان يلقى رواجا لا مثيل له في عالم الغطرسة والعجرفة، تراه ‏اليوم يخبو أو يمشي كالأعرج. فلنترك، مع ذلك، جانبا الشروح والتفسيرات المستفيضة حول ‏‏"لحزب". ذلك أن القضية هنا في غاية الأهمية والجدية طالما أن تغيير العالم مرتبط بوسائل ‏هذا التغيير. والمقصود هنا هو "اليسار"، وما آل إليه حال اليسار. إن الاجتماعية الليبرالية ‏تدور حول نفسها بعد ما استنفدت كل المحاولات. والعطب ضمن هذا اليسار لحق بالحزب ‏الشيوعي أكثر مما لحق بغيره. لقد ابتلع الحزب هويته بعدما تخلَّص بضربة واحدة من ‏ديكتاتورية البروليتاريا والأممية البروليتارية، وبالمحصِّلة من الماركسية. ‏
لم يُكتَب على التاريخ أن يكون أعرجا إلى الأبد. وكلي ثقة بأن الحركات الكثيرة التي تظهر ‏وتتطور في جميع أنحاء العالم ستَنتَهي، أيا كان تنوعها والتناقض ما بينها، ستنتهي إلى فتح ‏الطرق أمام التحرُّر. والوعي الثوري المتواضع مؤهل لمد يد المساعدة إليها من أجل تغيير ‏العالم. ‏
 



#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في تاريخ الماركسية - حوار مع جورج لابيكا
- الماركسية الثورية ليست هي نفسها الماركسية الأكاديمية - الفصل ...
- الماركسية هي الرد الوحيد لتغيير عالمنا اليوم - حوار مع جورج ...
- جورج لابيكا: نقد البراكسيس
- جورج لابيكأ، شخصيته السياسية والنظرية - مقدمة ثانية
- الفصل الأول - مقدمة رابعة جورج لابيكا: تغيير العالم بلا معلّ ...
- مقدِّمة :في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم - حوار مع جور ...
- لا واشنطن ولا موسكو، لا الرياض ولا طهران، حرب التحرير الشعبي ...
- يونان – حزب سيريزا: لمن تقرع الأجراس؟
- الأزمةُ الثورية منعطفٌ أعرج، مُعوجٌّ ومتعرِّج نحو اليسار، وث ...
- -برنامج الصراع الطبقي-، لسلامة كيلة
- الطبيعة المادية في أعمال يوسف عبدلكي
- ثورة الخامس عشر من آذار: مستقبل حزب الله: ضحية الاستبداد الش ...
- ثورة الخامس عشر من آذار:هزيمة الثورة المضادة رهنٌ بوحدة اليس ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: التآمرُ سياسةُ الثورة المضادة، حاكم ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليه ...
- اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية
- ميدانية القاهرة (ثورة في ثورة)
- ثورة الخامس عشر من آذار: الأزمة السياسية للثورة الشعبية مستم ...
- -دور ومهام اليسار الثوري في سورية- (تتمة وتصويب).


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسان خالد شاتيلا - الأزمة في الماركسية وظيفة وأداة - حوار مع جورج لابيكا