أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد جبر - ندوة سيكولوجيا الأدب: الماهية والواقع















المزيد.....



ندوة سيكولوجيا الأدب: الماهية والواقع


سعاد جبر

الحوار المتمدن-العدد: 1378 - 2005 / 11 / 14 - 11:08
المحور: الادب والفن
    


يعد الأدب رسالة حضارية خالدة إلى الإنسانية جمعاء في أقطار الأرض المتباينة ، وعبر جميع الأزمنة . ولعل الخلود قد كتب للأدب والفلسفة وحدهما دون العلم ، لأن العلم يجب بعضه بعضاً خلافاً للفلسفة والأدب اللذين لايخضعان للتقادم ، ولايلحق بهما الذبول أو التهافت . ولذلك يحمل الأدب عبر منجزاته الحضارية مؤثرات وجدانية تسيح في سماءات التذوق العلية ، فنحن عندما نقرأ ادباً كتبه صينيون أو يونان أو رومان فأننا نتأثر بما كتبوه ولو كانوا من عوالم بعيدة عنا وزمان غابر ، لأننا نحس بالتفاعل فيما بين ما نحمله من قدرات أدبية وبين ما ننطبع به من تلك الآداب ، بحيث يتأتي عن ذلك التأثر قوام أدبي جديد لدينا . يتجاوز الزمان والمكان وكل المقيدات ، ولذلك يعد الأدب رسالة حضارية بكل ما تعنيه الكلمة من معان ، ولكن في الوقت ذاته هناك مواصفات إبداعية في رحلة خلود الأدب على مر الزمن ، تتضمن حمل تلك الرسالة مضمونا أدبياً له وزنه وقيمته ، فكلما كان الأدب اكثر أصالة ورونقاً وبهاء كانت قيمته بالتالي كبيرة خالدة ، فالأدباء الذين خلدت أسماؤهم في سجل الأدب هم أولئك الذين استطاعوا أن يقنعوا الإنسانية بقيمة ما دونوه وبقيمة ما كتبوه للأجيال المتعاقبة عبر المكان والزمان جميعاً . فنحن إلى اليوم ما زلنا نقرأ ما كتبه شكسبير ودالتون وابن المقفع والجاحظ وجبران والعقاد وغيرهم من الأدباء المبدعين عبر رحلة الإنسانية في ازمانها المتعاقبة . وتلك مؤشرات تعكس ماهية سيكولوجية خاصة في رسالتهم الأدبية وبصمتها الحضارية ، في آفاق ( النص ، المبدع ، الزمان ، المكان ) مما يقتضي تكاتف الدراسات في سبر تلك الماهيات في لغة الزمن الغابر والآن الحاضر واستشرافها في الآن المنتظر ، وتلاقح الأفكار فيما تثير من تساؤلات حائرة وجدليات حادة ، لأن تلك الماهية السيكولوجية تفتح أفاق النص على مسرح الحياة ، وذاتية المبدع ، و تكشف انشطارات اسقاطات الأنا اللاشعورية على النص ، فيغدو النص في رفرفة أستار منفتحة ماتعة ، تسهم في تقديم رؤية نقدية سابرة للإبداعية الأدبية في جهاتها الأربع ، وذلك مانفتقده في واقع الحركة النقدية في عالمنا العربي ، وما تحمله من حذاء إسمنتي في رحلتها النقدية لايتيح لها الحراك الحر الإبداعي ، ووقوفها عند منظومة تراكيب جامدة لا تتجاوز مكانها وتختلط فيما بينها في ماهية تركيبية عاجية تتسم بالتعقيد وعدم المرونة ، والإمتاع في تساميات لغة التذوق الأدبي وغير ذلك من همومنا الممتدة في واقع الحركة النقدية الأدبية في عالمنا العربي . وانطلاقا من أهمية حضور البعد السيكولوجي في لغة تناول النص نقديا ورحلة الإمتاع في التذوق الأدبي ، واثرها في الأرتقاء في النص ، تشكلت مبررات عقد هذه الندوة الأدبية ، من خلال تناولها محاور متعددة تغطي ما أمكن من لغة الحضور السيكولوجي في النص ودراسته في ضوء رؤية شاملة سابرة لرباعية ( النص ، المبدع ، الزمان ، المكان ) في العمل الأدبي المبدع .
وفي ظل تلاقح الأفكار في أطيافها المتنوعة نفتتح ندوتنا الأدبية سيكولوجيا الأدب : الماهية والواقع ، ونرحب بضيوفنا الكرام ، في تواصلنا الثقافي المثمر علما وحكمة ونضجا ، إذ يشكلوا لونا جميلا في نختبنا الثقافية المتنورة في عالمنا العربي ، وسنحظى في امسيتنا الثقافية هذه بارائهم الثرية في ظل عوالم سيكولوجيا الأدب ومنظومة جدلياتها في التناول والنقد ونستهل تواصلنا معهم بالتعريف بهم وبمكانتهم الثقافية في عالمنا العربي :
ـ الأستاذ صبري يوسف / كاتب وشاعر سوري / السويد
ـ الأستاذ صلاح أبو عجينة / كاتب وشاعر ليبي ورئيس رابطة الأدباء والكتاب الليبيين في مدينة الزاوية/ ليبيا
ـ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عدس / أكاديمي متخصص في قسم علم النفس / جامعة عمان العربية للدراسات العليا / الأردن
وتدور فعاليات ندوة سيكولوجيا الأدب : الماهية والواقع ضمن هذه الأمسية الثقافية في الأبعاد الآتية :
ـ مناقشة مساحات أوسع في أبعاد سيكولوجيا الأدب والعثرات التي تحول دون تنامي وتطور هذا العلم وكيفيات تجاوزها على الساحة الأدبية وفق وجهات نظر ضيوفنا الكرام .
ـ مناقشة البعد التاريخي لعلم نفس الأدب ومقترحات نخبتنا المثقفة في كيفية الأرتقاء بهذا العلم في ظل عصر الرقمية والانفجار المعرفي .
ـ تحديد العلاقة بين سيكولوجيا الأدب و نظريات التحليل النفسي في تناول رباعيات ( النص ، المبدع ، الزمان ، المكان ) وهل هذه العلاقة حتمية أم أن هناك مجالات لنظريات نفسية أخرى يمكن تفعيلها في علم سيكولوجيا الأدب .
ـ تناول جدلية العبقرية ، الجنون في الإبداعية الأدبية ووجهات نظر ضيوفنا الكرام في تلك الجدليه على وجه التحديد .

وفي ظل مساحات أوسع لعوالم سيكولوجيا الأدب وماهية وجهات النظر بشأن العثرات التي تحول دون تنامي علم سيكولوجيا الأدب وكيفية تجاوزها ، طرح التساؤل الآتي على ضيوفنا الكرام :

يقال أن علم نفس الأدب ما زال مجالا خصبا للدراسات النفسية ولم تسبر أغواره لاعتبارات عدة منها : اعتبار الأدب مادة مرهفة ومراوغة لا تخضع للإحصاء والقياس بالإضافة إلى النظرة السلبية لعلم النفس وحصره فقط في مجال التحليل النفسي وكذلك صعوبة تناول المادة الأدبية بشكل موضوعي دقيق في حين تم تناول مواد فنية كالرسم والتصوير في رؤية سيكولوجية ويقال أن حركة تنامي الوعي وتوسع حدود علم النفس تقتضي الاهتمام بدراسة سيكولوجية الأدب وتجاوز تلك العثرات في تنامي وتطور ذلك العلم ، أين تقف رؤاكم الثقافية في هذا الصدد ؟
وكانت إجابات أساتذتنا الكرام على النحو الأتي :
الأستاذ صبري يوسف : إنَّ لعلم النفس واحة فسيحة مفتوحة تشمل كل مناحي الإبداع خاصّة الأدب بكلّ تفرعاته وتحليقاته، لأنّ المبدع هو مرآة عاكسة لأدقِّ خصوصياته وطاقاته النفسيّة والحياتية، فهو يعكس نصّه بما يختلج في ذهنه من آهات وآلام وأحزان وأفراح وحالات نفسيّة لا حصر لها، لهذا أستطيع القول أن لعلم نفس الأدب مجالاً خصباً، خصباً جدّاً! لأنَّ الأدب له من العناقات والتداخلات النفسيّة في بواطن النفس الإنسانية ربما أكثر بكثير من العوالم الإبداعية الأخرى، لأنَّ المبدع ـ الكاتب، الشاعر الخ ... نجده يكتب نصّاً ربما كانت حيثياته وأفكاره قابعة في اللاشعور الضمني منذ زمنٍ بعيد فنراه يتدفّق ويحلّق في عوالم جامحة منبعثة من خصوبة جوانب نفسية متجذِّرة في أعماق نفسه منذ زمنٍ بعيد ولم ولن يستطيع التخلّص منها إلا عبر تدفُّقاتها على نصاعة الورقة بعد مرورها على ساحات الذهن، هذا المرور المتأتّي من الذاكرة البعيدة الغافية بين تجاعيد النفس، الغافية في ظلال اللاشعور، ولا يمكن لهذه الظلال الخفيّة أن تختفي فلا بدّ لها أن تظهر في فترة ما عبر حالات إبداعيّة، والأدب أكثر المجالات الإبداعية خصوبة لظهور وإبراز هذه التراكمات النفسيّة الخلاقة وعلى علم نفس الأدب إعطاء أولوية كبيرة لهذا الجانب لما له من أهمية سيكولوجيّة حيث من خلال التحليل النفسي العميق نستطيع أن نصل إلى أعماق المبدع خاصّةً إذا كانت دراساتنا قائمة على أسس موضوعية دقيقة وتحاليل عميقة، فأنا أرى أنَّ المبدع يعيش هذه اللحظات عبر مراحل الكتابة، ويعكس ما كان يعتمره في فترة ما ويعكس الكثير من خصوبة النفس ـ الرُّوح، المسترخية في بواطن الذاكرة البعيدة، العالقة بين عوالم الطفولة والمراهقة ومراحل أخرى من العمر والكثير من هذه الحالات ترتبط إرتباطاً وثيق الصلة بالجوانب النفسية وهي أصلاً الخبز اللذيذ لحبق الكتابة وهي الحبر الصافي لكتابة حروفنا من أعماق النفس، نفس الإنسان، وكلَّما كانت الكتابة منبعثة من هذه الظلال الخفيّة، كانت إبداعية خالصة لأنها تأتي صادقة وملتحمة مع حميميات الكاتب، ويستطيع الناقد اللبيب المتخصِّص في هذا المجال أن يكتشف زيف الكاتب ومصداقيته من خلال التوافقات الموضوعية والعفويّة المتناغمة مع شخصية الكاتب النفسانية من خلال دراسة شخصيته عبر مراحل الطفولة والمراهقة والشباب والخ .. صحيح أنه ليس من الضروري أن يعكس الكاتب رؤاه في الكتابة بكلّ ما يعتريه في زمنٍ ما أو عبر مراحل عمرية معينة، لأنّه ربّما يكتب من محض خياله نصّاً ما، لكن مع هذا تتداخل خصوصيته النفسيّة وشخصيته المتشكِّلة من مراحل عمره الفسيح وخاصة طفولته وتعكس من خلال خياله جانباً من شخصيته فهو ابن ماضيه، فمثلاً كاتب ما عاش في ريف مفتوح على برارٍ فسيحة، لا يستطيع أن يتوغّل في فضاءات مفتوحة ريفية رحبة عندما يكتب رواية في مستقبل الأيام حتى ولو كانت الرواية منبعثة من محض خياله لأن الخيال بالذات يتبلور ويتشكل ويتفتّح من خلال طفولة ومراهقة وبيئة وعناصر حياتية عديدة وبالتالي كل هذا يصبّ في أهمية دور علم نفس الأدب كي يتوغّل في أعماق الكاتب المبدع، وكلّما كان الكاتب صادقاً مع مشاعره ، كانت الدراسة مفيدة ومثمرة ومصداقية أكثر، وهنا ممكن أن يخرج الناقد في مجال سيكولوجيا الأدب بنتائج مفيدة للغاية تتجلَّى في النتائج التي يتوصَّل إليها ومدى اقترابها من خصوصية عوالم الكاتب وبالتالي يستطيع أن يستنتج الكثير من المعطيات والحيثيات وأسباب انبعاث الإبداع والتحليقات التي تخصّ هذا الكاتب ولا تخصّ ذاك الكاتب وهكذا يكون علم نفس الأدب بمثابة البوّابة الرحبة للوصول إلى أعماق جوهر الإبداع والمبدع معاً!

الأستاذ صلاح عجينة : مجال علم نفس الأدب الذي يتحرك نحو دراسة نفسية للمبدع وعملية الإبداع المنتجة للنص لديه, وكذلك دراسة العلاقات والبُنى التي تؤسس للنص, وسيكولوجية الأدب تطال بالدراسة حتى الأثر الافتراضي على جمهور المتلقين فيما يعرف بـ[سيكولوجية الجمهور], علم شائك غير قابل في نظري لارتياده فقط بطريق الموهبة المجتهدة, بقدر ما هو مران في تجسيد تطبيقات عملية للنظريات واشتقاقاتها التي أسست لهذا العلم على النصوص.
ورقي هذا العلم مرهون في اجتهاد الأكاديميين المشتغلين في حقل علم النفس, وهو عبء على عاتقهم هم, أكثر مما هو على عاتق المبدع الفنان الذي يمارس مكابداته في نص على خلفية موهبته الفطرية التلقائية المتدفقة.والبحث من منطلق سيكولوجية الأدب يعمّق الإحساس بالمدركات الجمالية للنفس البشرية المجسّدة عبر النصوص.
فمثلا حينما يشير إليوت أن [الفنان أكثر بدائية كما هو أكثر تمدنا من معاصريه] فهو يقول بأن نفس الفنان المجسّدة للنصوص إنما هي مركز شعورات إنسانية تبدأ منذ الطفولة راصدةً في آنٍ بما قد يتجاوز حتى عصره فيما يتماس بشخصية المتنبي. لهذا الانصهار ماضٍ سحيق يترك علاماته في نفس الأديب, وحاضر له خواص الاستشراف هو أبجدية ذاكرة المبدع الفنان التي تؤلف لنصوص ذات عمقٍ ورؤية وعبر اختلال توازنها في محيطها الاجتماعي أحيانا.

الأستاذ عبد الرحمن عدس : صحيح أن علم نفس الأدب لايزال مجالا خصبا للدراسات النفسية ، لأن ما يصدر عن الأدباء من كتابات سواء كانت نثرية أو شعرية هي عبارة عن انعكاسات لأحساسهم ومشاعرهم الذاتية وبذلك يمكن من خلال دراسة وتحليل ما يصدر عن الأدباء من كتابات نثرية أم شعرية الوصول إلى أعماق نفوسهم والوقوف على الأشياء التي يفكرون بها وتستحوذ على اهتمامهم .

وتناولت الندوة استطلاع أراء اساتذتنا الكرام بشأن الطرق المرجحة من قبلهم للأهتمام في مجال سيكولوجيا الأدب ، واين تتوجه تلك الرؤى على وجه التحديد ، من خلال طرح التساؤل الآتي :

ما هي الطرق المرجحة من قبلكم للاهتمام في مجال سيكولوجيا الأدب ، هل تقتصر على دراسة الأديب من خلال عمليات إبداعه وأسلوبه في العمل ، وظروف تربيته ، خصائصه النفسية ، أم دراسة الناتج الإبداعي ، القصة الرواية ، المسودات والجوانب الأسلوبية وعلاقتها بالمبدع والبيئة التي ينتمي إليها أم دراسة المتلقي سواء أكان قارئ الأدب أو الناقد أو الجمهور عامة ودراسة استجاباته وتفضيلاته ، أم هي تتناول الجميع بلا استثناء في عمل مبدع واحد وقراءة نقدية تحليلية للنصوص ؟؟؟؟؟
وكانت اجابات ضوفنا الكرام على النحو الأتي :
الأستاذ صبري يوسف : إنَّ الطرق المرجَّحة للاهتمام في مجال سيكولوجيا الأدب هي كلّ هذه الجوانب التي عرضتينها في سياق السؤال، لكن هناك جانب أهم من جانب آخر، فمن الأهميّة بمكان دراسة الأديب دراسة معمّقة من خلال الوقوف عند كافّة مراحل عمله الإبداعي والوقوف مليّاً عند ظروفه ونشأته وخصائصه النفسية، لأنَّ كلّ هذا ينعكس عبر الكتابة ويظهر جلياً في النصّ الذي يكتبه، كما أنَّ دراسة الناتج الإبداعي، من قصّة ورواية وشعر ومسرح وجوانب حياتيّة وإبداعيّة أخرى تتعلّق بالمبدع وبيئته التي ينتمي إليها .. كلّ هذه الحيثيات لها من الأهمية الشيء الكثير في الولوج إلى أعماق جموحاته الإبداعية وبالتالي تساعدنا للوصول إلى أخصب وأعمق النتائج فائدةً، من جهتي لا أرى لاستجابة القارئ والناقد والجمهور أهمية كبيرة بقدر ما هي إحدى متمِّمات وتعزيزات الدراسة، لأنه من الممكن أن تكون إنطباعات القارئ كائناً من كان بعيدة عمّا كان يقصده المبدع أحياناً، صحيح أنَّ للمتلقي دوراً لا يستهان به، لكنّي أرى أن الدراسة السيكولوجية لعوالم نصّه وبيئته وعوالمه الرحبة بعيداً عن إنطباعات المتلقي أفضل من أن نقارنها بإنطباعات ورؤى المتلقّي، كي تأتي الدراسة حياديّة موضوعية غير متأثّرة بعوامل خارجية، لأن رؤى النقّاد والقرّاء والمتلقّين تؤثّر على تشكيل رؤية أو تعزيز موقف ما ربّما يكون بعيداً عمّا كان يراود الكاتب، وبالتالي يكون الإعتماد على هذا الجانب هو نوع من الإبتعاد عن جادة الصواب، ناهيك عن أنّ المتلقي سواء كان قارئاً أم ناقداً، ممكن أن يكون إنطباعه سلباً أو إيجاباً مبالغاً فيه، ففي كلتا الحالتين تؤثّر رؤاه سلباً على حيثيات موضوعيّة الدراسة، لكني بنفس الوقت لا أقلّل من أهمية رؤى القرّاء والنقَّاد بعيداً عن خصوصية هذه الدراسة وبنفس الوقت ممكن أن تأتي أهميتها في الدراسة كآخر مرحلة من حيث الأهمية في تحليل أبعادها!
ونخرج بوجهة نظر ورؤية مفادها، أنَّنا لو تناولنا كلّ هذه الأسباب مركِّزين على الجانب الأوّل والثاني ويأتي الجانب الثالث أيّ رأي المتلقِّي كتحصيل حاصل، وعندما نأخذ كلّ هذه العوامل والمراحل الثلاثة في ترجيح تقييم ودراسة سيكولوجيا الأدب مهمّة شريطة أن نكون حذرين من الجانب الأخير ولا نتعاطف ونتأثّر به بحيث يجعلنا نبتعد عن جوهر مصداقية التحليل، فكلما كنّا دقيقين في دراسة الأديب عبر مادته الإبداعية وعبر مراحل تشكيل شخصيته ودراسة بيئته وعوالمه الرحبة كنَّا قد حقَّقنا الهدف المطلوب، وعندما تأتي إنطباعات المتلقِّي متطابقة مع تحليلاتنا كانت موضوعية ولو ابتعد المتلقِّي عن حيثيات النتائج التي توصّلنا إليها كان من الضروري أن نعيد النظر في هذا الجانب أي الأخير، لأنه من الممكن أن يكون المتلقّي غير عميق الرؤية والتحليل، والناقد ربما يكون ناقداً بعيداً عن المدرسة التي يكتب عبرها أو نحوها المبدع وبالتالي تصبح دراسة وتقييم الناقد بعيدة وغير موضوعية، لهذا كلّه علينا أن نعطي لكلّ مرحلة حقَّها بما فيه رأي النقّاد والقرّاء، حتّى أننا من الضروري أن نحلِّل ونقيم وندقِّق رأي المتلقين أنفسهم، وندرس استجاباتهم وكأنها نصّ أدبي يحتاج أيضاً إلى دراسة سيكولوجية ممحَّصة، لنرى مدى مصداقية وإقتراب رؤى القرّاء والنقَّاد إلى النتائج التي توصّلنا إليها.
أودُّ هنا أن أشير إلى أنَّ السَّاحة الأدبية تفتقر كثيراً إلى نقّادٍ يواكبون كتابات ونتاجات العصر، فللأسف الشديد لا أرى في السّاحة سوى بعض النقّاد، وهم قلّة قليلة، لا يغطّون سوى جزء يسير مما يتم كتابته في وقتنا الراهن، فمن الضروري أن ينبثق في عالمنا نقّاد متخصِّصون في الكثير من مجالات الإبداع، كي يتمَّ تغطية فعاليات ما يتم تقديمه بشكل يليق بمبدعنا الحالي ومبدعنا المخضرم وما سيأتينا من مبدعين في مستقبل الأيّام، ومن هذا المنظور أرى أنَّ المبدع ـ الكاتب، مهمّش جدّاً جدّاً فلا أجد إهتماماً به لا عبر منابر الثقافة ولا عبر وزارات الثقافة ولا عبر الصحف والمجلات ولا عبر أقرب المقربين إليه وهم الكتّاب، فأغلب الكتّاب تحوّلوا إلى حالة شلليّة أشبه ما تكون شلليات سياسية سقيمة ومريرة، فإذا لم يكن الكاتب منفتحاً على زميله الكاتب وعلى الناقد ، والناقد منفتحاً على ما يجري من إبداعات وما لم تهتم المنابر الثقافية بالمبدع ، فمَنْ سيهتم بهذا المبدع الذّي يفني حياته لقلمه ولا حياة لمن ينادي؟!
من جهتي أرى أنَّ هناك ضعفاً واضحاً في موضوعيّة وجوهر التواصل الثقافي على الساحة والدليل على مصداقية هذا الانطباع هو أنّه في طول العالم العربي وعرضه وارتفاعه وانخفاضه! لا يستطيع أي شاعر أن يطبع أكثر من ألف إلى ألفين نسخة من دواوينه حتى ولو كان من أشهر شعراء العرب ودور النشر هي أشبه ما تكون دور نشر الرقاب، تنشر رقاب الكتّاب بالمنشار، أكثر من نشر الكتاب! لهذا يتوجّب أن يضع المهتمّون بالإبداع والدراسات الأدبية السيكولوجية كلّ هذه الأمور بعين الاعتبار لرفع سوية الإبداع والمبدع معاً وإلا سيلجأ المبدع إلى دنيا الغرب، إلى دنيا غير دنياه، كما نرى الآن، حيث أنَّ أغلب مبدعينا المخضرمين في دنيا الغرب وعلى أرض غريبة، بعيدة عن مسقط الرأس، وبعيدة عن التاريخ واللغة والبيئة والخبز والملح والماء! كي يكتب نصّه بعيداً عن مقصّات الرقيب ومقصَّات النشر ومقصّات آخر زمن!
الأستاذ صلاح عجينة : أعتقد بأن كل جزئية متاح الانطلاق منها لدراسة الأثر الإبداعي, فشخصية الموناليزا, وهي تبتسم في عذريةٍ وسمو للفنان ليوناردو دافنشي يمكن قراءتها انطلاقا من أن دافنشي ولد بطريقة غير شرعية, وهو بالتالي محروم الأب, بذا ظل يؤكد عذرية وسمو الأنثى بوصفها الأم العظيمة, طاردا معنى الجنس منها, ويمكن أن نبحث العلاقة التي جعلت من الروائي إبراهيم الكوني يعظّم في شخصية التارقي, خالعا عليه معاني الشهامة والكرم إلخ..مميزا إياه عن أبناء الواحة, الذين ينعتهم باختلال ممارساتهم الإنسانية, وهو بهذا يذهب ليؤكد عظمة عرقه, الذي ظلّ في نطاق الأقلية التي اتخذت من الصحراء نقطة الفرار الأبدي, وهذا ما يذهب إليه النفسانيون, الذين يقولون بأن اتصال المبدع يظل مفتوحا بينه وبين تكوينه الطفولي, وما صاحب فترات نموه من أحداث وظروف..في هذا الصدد يشير يونغ مثلا: [تحت اللاشعور الفردي – الفضالة المتخلفة – من ماضينا, وبخاصة صبانا وطفولتنا يكمن -اللاشعور الجمعي- , الذاكرة المغلقة لماضينا العرقي, وحتى ماضينا ما قبل الإنساني..].
الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عدس : الطرق المرجحة لدراسة الأدب هو الغوص في كتابات الأديب المعني والوقوف على الأمور التي تجذب اهتماماتهم وتوجه كتاباته . فإذا كانت هنالك تكرا لهذه الكتابات من حيث الأفكار أو القضايا أو الأحاسيس وما غيرها ، فيمكن من خلال ذلك الوقوف على طبيعة النفس البشرية التي يحملها ذلك الأديب أو الكاتب . ولايخفى أن المزيد من المعرفة عن الكاتب نفسه من حيث نشأته وظروف معيشته يساعد كثيرا في فهم ما يصدر عنه من كتابات واعمال أدبية .

واثارت الندوة طبيعة العلاقة بين علم النفس والأدب في ظل الرؤية والشواهد التاريخية ، ووجهات نظر أساتذتنا الكرام بشأن الأرتقاء بعلم سيكولوجيا الأدب في عصر الرقمية والانفتاح المعرفي من خلال طرح التساؤل الأتي

يشير المتخصصون في مجال سيكولوجيا الأدب إلى أن العلاقة بين علم النفس والأدب تاريخية ، ومن ذلك دراسات عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الأعجاز وابن قتيبه في الشعر والشعراء وهناك إشارات كثيرة لدى ابن سينا في الإدراك والصور الذهنية و الخيال والإبداع وفي مرحلة تاريخية لاحقة نجد دراسات طه حسين عن أبى العلاء المعري وحافظ شوقي والمتنبي وابن الرومي وكذلك دراسات العقاد وإبداعات مصطفى الرافعي في سيكولوجية الأدب المتمحورة حول المرأة في أبعاد ذاتها المتضادة سيكولوجيا ، هل تعد تلك الجذور التاريخية كما يذكره المتخصصون نوعا من التكلف في بيان نشأة هذا العلم أم أنها حقيقية واقعية تقتضي تناولها في البحث والدراسات ، وما هي المقترحات التي تتبنوها للارتقاء بهذا العلم في ظل عصر الرقمية واعتبار الكون قرية واحدة ؟؟
وكانت وجهات نظر أساتذتنا الكرام على النحو الأتي :
الأستاذ صبري يوسف : ـ نعم، كان للمتخصِّصين في مجال سيكولوجيا الأدب الحقّ كلّ الحقّ في تبنّي تاريخيّة العلاقة بين علم النفس والأدب، هذا صحيح تماماً، فالعلاقة بينهما تاريخية منذ زمنٍ بعيد جدّاً، فالجذور التاريخية بين علم النفس والأدب ليست متكلّفة وليست مصطنعة هي ذات بعد تاريخي عميق، وطيدة الصلة بالبعد التحليلي للدراسات السيكولوجية الأدبية التي تمّ تقديمها في هذا الإطار، فتاريخيّة أيّ علم من العلوم موجودة على امتدادِ التاريخ البشري، والعلوم بشكل عام هي مجموعة تراكمات علميّة عبر مجريات ومراحل التاريخ الإنساني، وكلّما كان علم ما يستند إلى جذور تاريخية سابقة عنه، كان أعمق في التحليل وأكثر رحباً في التطوير، لأنَّ الظواهر العلميّة والنظريات وكلّ الدراسات هي نتاج تطوُّر بشري تاريخي، ولا يمكن للمرء على هذا الكوكب أن يتطوّر ما لم يحفظ ويؤرشف تاريخيّة العلوم وتراكماتها عبر مراحلها المتعاقبة، فنحن نتاج تطوّر بشري منذ عصر الرعي والصيد إلى عصر غزو الفضاء والوصول إلى أقصى أقاصي السَّماء! لهذا أرى من المفيد والمهم بمكان أن نولي أهمية كبرى للمتخصِّصين بالجذور التاريخية في مجال سيكولوجيا الأدب لأنَّ هذه العلاقة عميقة ومفيدة للغاية.
حول هذا الأمر أرى من الضروري أن نتابع أحدث النظريات والدراسات والبحوث التي توصّل إليها المتخصِّصون في هذا المجال كي نستفيد من تجارب الآخرين في شتّى بقاعِ العالم، لأنّه من المفيد جدّاً أن نواكبَ ما توصَّلت إليه الدراسات والتحاليل والبحوث في هذا المجال لأنَّ الكون أصبح فعلاً بمثابة قرية صغيرة وما علينا إلا أن نرحّب بهذه القرية الكونية ونستفيد من إيجابياتها ودراساتها وبحوثها التي تخدمنا وتمنحنا المزيد من الانفتاح والتحضّر والتطوّر والارتقاء وإلا بقينا في ذيل حضارة وعلى هامش مستجدات العصر!
الأستاذ صلاح عجينة : لابد أن هؤلاء الذين أشرت إليهم قد تعرضوا ولو تلقائيا لأفكارٍ تغدي هذا المنهج وتدعمه, انطلاقا من أن العلوم الاجتماعية الإنسانية مجموعة مباحث تنطلق من دورقٍ واحد قابلة سوائله للتفاعل فيما بينها منتجة مركبات مختلفة, حسب – طبعا – إجراءات التفاعل, هذا الدورق يمثل النفس البشرية..لكنني هنا أحب أن أضع إشارة استفهام صغيرة, وهي لماذا دائما نحن نؤصل في حين الآخر يقنن وينطلق؟!!..خذ مثلا حينما انطلقت سوزان برنارد في رسالتها الجامعية واضعة رؤية نقدية مرجعية لقصيدة النثر, ومستندة على نصوص نثرية لشعراء من أمثال رامبو وغيرهم, خضنا نحن في البحث عن شرعية هذه القصيدة, وإبرام صلح معها أحيانا عن طريق إيجاد استشراف قديم لها من أدبنا العربي من سجع الكهان إلى نثر الصوفيين وإلى ما لا نهاية من النقاش التنظيري, الذي لا يصاحبه اشتغال نقدي تطبيقي مقنن, هذا أولا, وثانيا أن الأدب العربي لا يقدم تلك الفُسح الإبداعية الكبرى التي يمكن أن تقوم عليها أسئلة سيكولوجية الأدب المعقدة والمتشابكة, فعقدة أوديب لسوفكليس وهاملت لشكسبير والأخوة كارامازوف لديستوفسكي-حسب فرويد- تناقش جميعها قتل الأب بدافع المنافسة على المرأة – هذا الموضوع مثلا منجم بحثٍ لهذا العلم, في حين أن الأدب العربي يفتقر لتعرضات قاسية من هذا النوع من الممارسات الإنسانية من خلال الآثار الأدبية العربية التي لطالما تكون منشأها أصلا أخلاقي بالمعنى التعبوي, والتصويري بمعنى الذوق الجمعي الذي فضاؤه الطبيعي الإلهام الشعري, وأعتقد- ومنهجي هنا طبعا شعري- أن لحظة الشعر /العبقرية أو العملية الإبداعية المرتكز الأكثر انشغالا لأسئلة النقد العربي على حساب بقية المرتكزات الأخرى التي يعتمد عليها علم نفس الأدب, ومشكلة هذا المرتكز عصي وغامض عن الدرس والتحليل حتى عند فرويد الذي أشار صراحة في كتابه حياتي والتحليل النفسي بقوله [التحليل النفسي لا يملك أن يكشف عن طبيعة الموهبة الفنية ولا هو يستطيع أن يبين الوسيلة التي يستخدمها الفنان-أي الأسلوب الفني.], ولما كانت عبقرية الأدب العربي تدور في أسئلة العبقرية الشعرية التي لا تتيح أكثر من النقطة العصية لسيكولوجية الأدب من أن يرتادها. لذا ظل الحيز الذي يشتغل فيه هذا العلم في واقع أدبنا محدودا, ولا يضطلع بإماطة اللثام عن أسئلة كبيرة.
وبشأن المقترحات التي يمكن لها من أن ترتقي بهذا العلم في واقعنا الثقافي هي حسب وجهة نظري الصغيرة والطارئة على هذا الموضوع..أن يمتلك الأكاديميون في حقول علم النفس والاجتماع قدرة التدخل في واقعنا الثقافي نقديا عبر مناهج علمية منتجة في بيئات البحث الأكاديمي العالمي, قدرة كما تملك قوة معرفة اشتغال الآخر, وتجليات نتائجه تملك أيضا الطموح في إنتاج أسئلة تنهض بهذا العلم كرافد نقدي له أسئلته وخصوصيته في واقعنا الثقافي العربي, قدرة المواجهة والتكيف حينما يتعلق الاشتغال النقدي بالذات المبدعة العربية, فنحن نشتغل أدبا في الخيال ونقدا عموميا في المطلق, ونؤرخ سيرنا الذاتية في مثاليات سماوية منزلة, هذا الواقع في حد ذاته أحد أهم معوقات الدراسات المعاصرة لنصوص معاصرة. فكما أشرت الحياة العربية قائمة على العاطفة ومبشرة بمثالية الدين السماوي ومتكئة على نماذج الخير الزاخر بها تاريخها لا تملك فرصة تكسير هذه الرتابة, لا تملك امتدادا حيا لفن البوح في معناه البشري, بذا يظل المشتغل في سيكولوجية أدب عربي مؤطر في خطوط طول وعرض, ولا يمكنه تجاوزها مادام يملك طموح البقاء على الكرة الأرضية العربية, قلت أيضا لا يمكنه تجاوزها لأن النصوص التي يشتغل عليها لا تمنحه صدق الحياة الواقعية بقدر ما تمنحه فنا مزوّرا مكانه الحقيقي مخيالات أصحاب العقائد السياسية والدينية والسلطوية عموما.
الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عدس : هي حقيقة واقعية يجب تناولها في البحث والدراسات ، لأن الأدب لايصنع في بيئة جوفاء بحيث لاتكون له هوية معينة ، وانما البيئة المحيطة بالكاتب ونوع الحياة التي يحياها من حيث ظروفها واملاءاتها لها تأثيرها على نوعية ما يصدر عنه من كتابات .

وتناولت الندوة طبيعة العلاقة بين علم سيكولوجيا الأدب ونظريات التحليل النفسي ، وهل يمكن لعلم سيكولوجيا الأدب أن يتجاوز تلك النظريات إلى أبعاد سيكولوجية أخرى ، وطرح في هذا الصدد التساؤل الآتي :

: إن المتتبع لدراسات علم النفس في مجال سيكولوجيا الأدب سواء في مجال الإبداع الشعري أو في مجال الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والدراما التلفزيونية ودراسات الأطباء النفسيين وغيرهم ، يبرز لدية أن التحليل النفسي لعب دورا هاما في تلك الدراسات ، إذ تبرز بصماته الواضحة واعتباره دينامية تلك الدراسات في اللغة والتوجيه ، ما هو تعليقكم الأكاديمي على ارتباط الدراسات النفسية في مجال الأدب في ضوء نظريات التحليل النفسي دون غيرها ، وما هي رؤاكم التقيمية والأثرائية في مجال تناول أبعاد أخرى سيكولوجية في القراءات النقدية للنصوص الأدبية ؟؟
وكانت اجابات اساتذتنا الكرام هي على النحو الآتي :
الأستاذ صبري يوسف : ـ نعم هناك ارتباط عميق للدراسات النفسيّة في مجال الأدب المستندة لنظريات التحليل النفسي، لأن هذه النظريات تسلّط الضوء على الأسباب التي تشكل وتكوّن نصوص المبدع وتدرس الظواهر وحيثيات مراحل ولادات النصوص بطريقة سيكولوجية دقيقة بحيث يصل المحلِّل النفسي إلى أعماق خوالج المبدع عبر مراحل تبلور النصّ وتبرز لنا الدراسات التحليلية كيفية إنبعاث النصّ إلى النُّور، فالدراسات النفسية المتخصِّصة في مجالات الأدب، لها دور كبير وفعّال في تعميق الدلالات والأهداف التي كان يتوخّاها المبدع، وكلّما يتمكّن الناقد والمحلِّل لنصٍّ ما أن يتوغّل في حميميات عوالم المبدع وتفاصيل شخصيته الباطنية، كان أكثر ناجحاً ومتوغِّلاً بدقّة أكثر إلى دوافع النصّ الكامنة من وراء كتابته للنصّ، والكاتب عندما يكتب نصّاً ما لا يعي بدقة وبوضوح الأسباب التي دفعته لكتابة هذه الفكرة أو تلكَ فهي تنبعث أحياناً من اللاشعور المبدع، وهي نتاج تراكمات نفسية طويلة وفسيحة، فنادراً ما يجد الكاتب بشكل واضح الأسباب التي دفعته لكتابة التجلِّيات المنبعثة من وهج المخيلة، لأنه في لحظة الكتابة لا يهمّه سوى كتابة هذا الغليان الشعري أو القصصي أو المسرحي الذي ربما كان مرافقا له سنيناً طوال وجاءت اللحظة عبر شرارة ما فجَّرت به هذا الكمون الضمني كي يخرج ما في أعماقه من طاقات كامنة، لأن العمليّة الإبداعية لا تخضع لقوانين وحسابات رقميّة ولا يمكن تكهّنها وتوقّعها من قبل الكاتب ولا من قبل المتلقِّي ويحتاج الناقد والمحلِّل إلى المزيد من الدراسات السيكولوجية والتحليلات الدقيقة والعودة إلى عوالم المبدع وخاصّة طفولته والوقوف عند كل مرحلة من مراحل العمر كي يستنبط أسباب تنامي وظهور تلكَ الفكرة وعدم ظهور غيرها، آنذاك يجد المبدع نفسه أمام معادلات إبداعية كان هو نفسه بعيداً عنها من حيث الاستيعاب، لأنّها ولدت معه عفو الخاطر أو بطريقة لاشعورية ، إنبعثت من بواطنه اللاشعورية، لهذا عندما يربط المحلِّل النفسي هذه العلائق اللاشعورية بعوالم الشرارات التي كانت سبباً في تفجير ولادات النصوص يرى المبدع أن هذه الكوامن كانت مخزَّنة في أعماقه الحميمة وإنبعثت عبر شرارة كي توقظ المتراكمات التي كانت تقبع في أعماقه الدفينة! ومن هذا المنظور أرى أنّ المحلِّل والناقد الّذي يدرس سيكولوجية الأدب ويقرأ النصّ قراءة نقديّة دقيقة، عليه قبل كلّ شيء أن يلمَّ بالأبعاد العميقة لعوالم المبدع، أحلامه وطموحاته التي لم يحقِّقها فأغلب نصوص المبدعين هي نتاج ثمرة إحباطات وفشل في تحقيق الأهداف فتبقّى في اللاشعور تغلي وتغلي إلى أن تحين الفرصة لظهورها، فتأتي على شاكلة قصّة أو رواية أو قصيدة أو مسرحية فنجد الفشل الذي تمّ في حياة الكاتب يتحوّل إلى نجاح عبر النصّ فما لم يستطِعْ أن يحقِّقه في الواقع نراه محقّقاً عبر النصّ ويحقِّق عبر نصّه نوعاً من التوازن ما بين إخفاقه في زمنٍ ما ونجاحه في زمنٍ آخر! هذه العملية التوازنية مهمّة جدّاً لأنها تخلق متعة وإنتشاء وتوازن وراحة كبيرة للمبدع، وهو لا يعي ولا يلمس أسباب الإمتاع والتوازن، كل ما يلمسه أنَّ النصّ يحقِّق له نشوة جامحة ولذّة غير مسبوقة لأن حالة الولادة تمحق وتزيل المترسّبات الكامنة في لاشعوره وبالتالي تحقِّق له متعة غريبة ولذيذة لما تقدِّم له من توهُّجات فرحية خالصة لأنها تأتي في لحظات عفوية، كان يحتاج أن يحقِّقَها منذ زمن، وأنا أرى أنّه لولا وجود هذه التراكمات والإخفاقات والفشل والحزن والأسى والظروف القمعية والأهداف والطموحات المتنحِّية لما وُلِدَ في لاشعور المبدع هذا التوق إلى ولادة هذه الحالة وهذا النصّ وهذا الوهج المتأجِّج في باطنه دون أن يرى أجيجه فسرعان ما يتفجّر من خلال موقف ما أو شرارة ما فتوقظ كوامنه وتراكماته الجاثمة فوق روحه وكيانه فيكتب ويكتبُ، ومن خلال الكتابة نجده يزيح هذه المرارات والإخفافات كي يفرش نجاحاً وألقاً فنجده يشعر بنشوة غريبة ولذيذة ومتعة لا يعلادلها أية متعة أخرى، لأنه يخلق حالة إنسانية راقية عبر تجلِّياته، ومن هذا المنظور أرى أنَّ متعة الإبداع هي من ألذِّ متع الحياة، والمسألة عميقة وجامحة ولا تخضع لأية قوانين في لحظات الكتابة، لأن الإبداع لا يخضع لأي قانون رقمي بقدر ما يخضع إلى قانون الذات الهائجة التي تبحث عن خصوبات شهقة الحرف المندلقة من خاصرة الحنين إلى لواعج لم تتحقق يوماً ما، ولهذا نجد أن المبدع الذي يبحث من خلال لاشعوره المبدع إلى حالة إبداعية مسترخية في العقل الباطن، ولا يستطيع أن ينبش هذه البواطن الغافية في لاشعوره غالباً ما يصل إلى حالة احباطيّة غير متوازنة مع ذاته المتشظّية، فالإخفاقات تظل تغلي بين الحين والآخر وهو لا يجد الشرارة التي يطلقها من أعماقه فتبقى حبيسة في بواطنه إلى أن يصل إلى مرحلة الإخفاق وأحياناً يصل إلى حافات الجنون عندما لا يفجّر ما في كينونته من غليانات حبيسة على مرِّ السنين، وهذا ما سنأتي على بعض تفاصيله في البند الأخير من محاورِ هذه الندوة!
الأستاذ صلاح عجينة : التحليل النفسي الذي نهض به فرويد وتلامذته, الذين ما انفكّ بعضهم حتى عارضه في العديد من الأفكار النظرية التي بشّر بها لعب دورا اثرائيا نحو دراسة وتشخيص النزوات البشرية, والأدب بوصفه مرآة للحياة الاجتماعية منجم شكّل للتحليل النفسي الوثيقة النفسية التي تختزل النزاعات البشرية المتباينة. نظرية التحليل النفسي – حسب فرويد- تقول بالشعورات اللاواعية وبنظرية المقاومة والكبت وبمحورية الحياة الجنسية وبعقدة أوديب في الحياة الإنسانية, هذه النقاط تشكل المدخل لمعرفة الطاقة النفسية المرتبطة بالنزوات الجنسية, والتي عرّفها فرويد بالليبيدو, وأن تعبيرا إبداعيا لا واعيا, لابد أن ينطلق من هذه المرتكزات, وأن نقدا من ثم يشتغل من هذه المنطلقات كفيلا للتعرض الحقيقي لأي اشتغال إبداعي تؤسس له نفسية ما. وفرويد لا يتردد في أن مرتكزات نظريته أساس الغوص في كنه الإبداع والخلق والحياة, إذ يقول مثلا في هذا الصدد[بمقدوري القول بأننا بحاجة إلى معرفة عقدة أوديب لمعرفة بداية الدين والأخلاق والمجتمع والدين], ومن إشتغالات فرويد الإجرائية على النصوص مثلا استنهاضه لشخصية ديستوفسكي, إذ يرى أنه لم يكن يعاني من حالة صرع عضوي كما هو شائع عنه, بل يعاني من حالة صرع وجداني, والذي لا ينجم عن خلل عضوي في المخ, بل من اضطرابات في حياته العقلية, وميكانزم الصرع الوجداني -حسب فرويد- نوبة هستيرية بمثابة عقاب للذات على رغبة القتل ضد أبٍ مكروه, والتي لم يسلم منها ديستوفسكي والذي لم يتحرر أبدا من شعوره بالذنب الذي كان نتاجا لنيته في قتل أبيه وهو طفلٌ..هذا الاعتمال النفسي الذي كشفته روايته الأخوة كارامازوف.
هكذا يكشف التحليل النفسي عن الحوار الداخلي المعتمل في نفس المبدع, وما تنطوي عليه من أعماق لا شعوره من رغبات مكبوتة, ونزوات ونزاعات وأفكار, وبالنسبة لي أعتقد أن المباحث التي يقدمها التحليل النفسي على النص الأدبي الإبداعي بها الإثراء الضروري للحياة الإبداعية, ولها الكشف الضروري أيضا لكل مشتغل إبداعي بما تتيحه من مطالعات على مكامن باطنية للمبدع, وهذا الرأي الذي أسجله هنا ليس من طموحه أن يكون رأيا أكاديميا بقدر ما هو تهميش صغير لمرتاد النص الإبداعي كتابةً, والرأي الأقدم حتما يكون من الخارج /الاشتغال النقدي والتحليل, إلى الداخل /الإبداعي.

الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عدس : علم النفس هو علم له أساليبه المختلفة وهو يرى أن كل ما يصدر عن الفرد هو انعكاس لما يشعر به ويدور في نفسه ولذلك يحاول أن يربط بين محتوى الأعمال الأدبية والجوانب النفسية الخاصة بها من خلال المفاهيم المختلفة لنظريات التحليل النفسي ، لأن مثل هذه المفاهيم هي عبارة عن منارات على طريق الدراسات الأدبية من مفهوم نفسي . ولما كانت نظريات التحليل النفسي لحد الآن غير مكتملة ، فإنه لايوجد ما يمنع من استخدام وسائل نفسية أخرى في دراسة النواتج الأدبية

واثارت الندوة جدلية العبقرية ، الجنون في الإبداعية الأدبية واستطلاع رأي ضيوفنا الكرام حولها من خلال طرح التساؤل الآتي :

تناولت الدراسات النفسية الأدبية ثنائية العبقرية والجنون في الإبداعية الأدبية ودراسات لها حولها تساؤلات, حول أثر الانحراف النفسي والأخلاقي في تشكيل المبدع وعبقريته الأدبية كما هو في ظاهرة الشاعر المصري عبد الحميد الكاتب, وأثر الإبداع وتجلياته في إيصال الأديب إلى الجنون والعزلة النفسية كما هي في ظاهرة إبداع الأدبية مي زيادة, وما آلت إليه من مأساوية لمبدعة نادرة من نوعها, والسؤال المطروح هنا أين تقف رؤاكم التحليلية النقدية في ظل ثنائية العبقرية والجنون في الإبداعية الأدبية؟
وكانت اجابات نخبتنا المثقفة على النحو الآتي :
ـ الأستاذ صبري يوسف :ـ للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من الوقوف جليّاً عند خصوصية المبدع وماهية الإبداع، فالمبدع بحدّ ذاته إنسان شديد الحساسية ومرهف جدّاً جدّاً، ولو لم يكُن متميّزاً بهذه الخصوصية لما أصبح مبدعاً أصلاً، وليس سرّاً أن نقول أن كلّ مبدع فيه شطحات خارقة في لحظات إبداعية أشبه ما تكون على حافات الجنون، وقيل أن ما بين العبقرية والجنون شعرة! لكن هذا المثل ليس دقيقاً لكنه يصب في رحاب ثنائة العبقرية، الجنون في الحالة الإبداعية الأدبية، وهنا لا بدّ أن نشير إلى أنَّ للإنحراف النفسي والأخلاقي دوراً في تشكيل المبدع وعبقريته الأدبية ليس دقيقاً في كلِّ الأحوال، فما حصل مع الشاعر المصري عبد الحميد الكاتب، ما هو إلا حالة فرديّة لا يمكن تعميمها كحالة نموذجية يماثلها شخصيات أخرى لو تمرُّ بنفس الحالة ، لأنّ الإبداع بحدِّ ذاته حالة خارقة غير طبيعيّة، والعبقرية نتاج تراكمات ثقافية وطاقات فكرية كبيرة ومزاجية أحياناً أخرى، فما حصل مع الشاعر عبد الحميد الكاتب لا يمكن أن ينسحب على غيره فيما إذا طبّقوا طريقته وأسلوب نهجه في الإبداع فالمبدع ممكن أن يبدع في ظروف عبدالحميد الكاتب أو في ظروف وحالات مناقضة لحالاته ولكل مبدع خصوصيته وظروفه وحيثيات إبداعه، ولو درسنا ظروف العباقرة المبدعين لوجدناها تختلف من حالة إلى أخرى لكن تصب الحالة الإبداعيّة في واحة رحبة أن الشخصية المبدعة، شخصية فريدة من نوعها، تحبّ العزلة والتأمّل ومتمرّدة على الإعوجاجات التي تصادفها في مراحل عمرها وهي أي الشخصية المبدعة مرهفة جدّاً ومعرّضة في أية مرحلة من مراحل العمر إلى إنتكاسات نفسية سواء كانت الشخصية في أرقى تجليات الإبداع في فترة ما ثم تتحوّل إلى شخصية إنعزالية مأساوية تصب في واحات الجنون، أو كانت شخصية طبيعية خالصة ثمّ تتحوّل إلى شخصية منتكسة وبالتالي تتعرّض إلى حالات من العزلة والجنون، ففي كلتا الحالتين، حالة عبدالحميد الكاتب، ومي زيادة، لا يمكن تعميم حالتيهما فهما حالتان فرديتان لا يمكن تعميمهما إطلاقاً، لكن من الضروري أن نشير إلى أنّ المبدع معرّض ربّما أكثر من غيره إلى مرافئ الجنون، لأنّه شديد الحساسية ومفرط في تأثُّره بالحياة التي يعيشها فهو يصطدم صدمات أقوى وأبلغ مما يصطدمه الإنسان العادي لهذا فهو يحتاج إلى حالات إبداعية كي يفرّغ هذه الصدمات وإلا ستبقى هذه الصدمات التي يتلقّاها في أعماقه إلى أن تخلخل بواطنه الشفيفة، لهذا أرى أن أفضل دواء للمبدعين للتخلّص من هاوية الجنون هو هذا التفريغ الإبداعي عبر نصوصهم الفسيحة التي كانت تتلاطم في أعماقهم فخرجت من أعماق اللاشعور كي تحقِّق لهم التوازن الروحي والنفسي، وكلّما ظل الكاتب حبيساً لأفكاره ومكبوتاً لما يعتريه، كان معرّضاً لهزات نفسية إلى أن يصل إلى دهاليز ومنعرجات الجنون، وليس من الضروري أن يتعرّض كل مبدع لا يفرّغ ما في بواطنه اللاشعورية العميقة عبر نصِّ ما إلى حالات نفسية وإنتكاسية، لا طبعاً، لأنّ هذا الأمر يتعلّق بمدى الطاقات النفسية والصحّة النفسية التي يتمتّع بها المبدع نفسه فهناك من لديه طاقة صحّية نفسية عالية وراقية والمكبوتات وضغوطات الحياة وتراكمات الآهات والخ من منغّصات الحياة لا تؤثّر عليه كل هذا التأثير السلبي لأنه يعالجها عبر طرق أخرى سواء ظهرت كحالات إبداعية أو عبر صياغة فكرية ما فإن المبدع يعرف كيف يتفادى هكذا جراح قابعة في بواطنه الخفيّة، لهذا فالقضية هنا نسبية وما ينسحب عن المبدع وثنائية العبقرية والجنون ممكن أن ينسحب على الكثير من بني البشر، حتّى ولو لم يكُنْ مبدعاً! لأن الإنسان كأنسان به طاقات إبداعية سواء أبدعها أو لم يبدعها وكل كائن حي لديه طاقات إبداعية، فبعض المبدعين تظهر إبداعاتهم وبعضهم الآخر تضمر ولا تظهر ، وفي كل الأحوال تظلّ مسألة ثنائية العبقرية والجنون مسألة نسبية، لكن أعود مؤكِّداً على أنَّ المبدع أكثر تعرّضاً من غيره في هذه الثنائية لأنّه إنسان شديد الحساسية ومفرط في تواصله مع الحياة، لهذا أدعو إلى ضرورة أن يفرّغ المبدع طاقاته الكامنة بحرّية مفتوحة كي يرتاح من هذا الحمل الطويل الذي يحمله عبر محطات الحياة، ويشعر المبدع بنشوة عميقة عندما تولد نصوصه متجلّية في حالات وهّاجة ويشعر بمتعة عميقة لأنه يحقِّق توازناً نفسياً راقياً مع مكبوتاته الدفينة التي خرجت إلى النُّور بطريقة متوهّجة وكما يتمنّاها هو لا كما كانت مكبوتة في أعماقه اللاشعورية وعندما تظهر إلى النوّر ، يشعر وكأنَّ سموماً سميكة انجرفت وانقشعتْ من بين واحات الروح والقلب وتطهّرَ من تلكَ السموم من خلال ولادات النصوص، وعندما تظلّ تلكَ التراكمات المكبوتة طويلا فربما مع مرورِ الأيام تفجّر فيه حالات إنعزالية مريرة ومريضة وتقوده إلى حالات الجنون وربما تظل جاهزة لإندلاع حالة إبداعية في مرحلة من مراحل العمر، وهكذا نرى أنَّ الأمر يتوقّف على طبيعة الشخصية الإبداعية ومدى قدرة هذه الشخصية على تجاوز هذه الحالة أو تلك، وأحياناً ممكن أن يصاب المبدع في أية مرحلة من مراحل العمر ، بحالة مرضية في الدماغ مثله مثل أي كائن حي ويصاب بأمراض الإنفصام أو الاكتئاب أو أي مرض عقلي وربّما يكون ناجماً عن خللٍ ما في الطاقة الذهنية أو في الدماغ او لأسباب عديدة أخرى مثله مثل أي مريض ممكن أن يتعرّض لمثل هذه الأمراض، فنحن البشر بالنتيجة بشر نتعرّض للكثير مما لا نتوقعه، لكن يبقى السؤال مفتوحاً، كيف قدّم العبقري الفلاني كل هذه العبقريات ثم تعرّض للجنون، وكيف المنعزل الفلاني المنحرف قدّم كل هذه العبقرية وهو في حالة إنعزال وإنحراف؟!
هنا أودّ أن أسلّط الضَّوء على أنَّ الانعزالي والمفرط حتّى في انعزاله لا يعني انّه غير سوي، وغير طبيعي أو هو منحرف، فهو غير قادر على الكيّف مع المحيط الذي حوله لأنه يجد نفسه غريباً عن محيطه ولديه الكثير مما يريد أن يقوله فلا يجد أفضل من الانعزال والتواصل مع أفكاره وتجلّياته ورؤاه وينسج أفكاره بعيداً عن ضجيج المحيط الذي يغلفه فارشاً آفاقه الرحبة فوق جدار الزمن، وعندما نقرأ ما أبدعه نندهش ونتساءل قائلين ما هذه العبقرية التي تفتّقت من كل تلكَ الشخصية الانعزالية والمنحرفة؟ هنا لو نراجع أنفسنا نجد أنَّنا ما كنّا قادرين على تفهّم خصوصيّة هذه الشخصية وما كان يعتري في صدرها الفسيح، وإلا كيف تفتّقت عبقريته ما لم تكن في أعلى تجلياته وهو بعيد عن ضجيج هذا العالم!
ختاماً بقي أن أشير أن من أهم شروط الإبداع توفّر بيئة وهدوء وانعزال وتجلّي كي يتوحّدَ وينصهر المبدع مع عوالمه وكي يتمكن من ترجمة مشاعره في أية لحظة وإلا فإن البيئة الضجيجية ستكون عائقا في طريق المبدع والإبداع! علماً أنّه من الممكن أن تولد أفكار المبدع وهو يتمشّى في أزقّةِ الحيّ أو في محطة القطار أو في الطائرة أو في موقف من مواقف الحياة، لكن عندما يسترخي كي يدخل في تفاصيل بهجة الإبداع لا بدَّ له من جوّ منعزل بعيد عن ضجيج هذا العالم متوحّداً بهدوءٍ عميق مع عوالمه الشفيفة كي يحلّق عالياً ويهطل رذاذات إبداعه مثل المطر، متعانقاً بتجلياته مع نجيماتِ الصباح بعيداً عن منغصّات ورجرجات الحياة!
الأستاذ صلاح عجينة : تقف رؤيتي بخصوص ثنائية العبقرية والجنون في الإبداعية الأدبية عند الحدود التالية:
- إن الجنون حالة تفارق الحياة الاعتيادية الطبيعية تعتري الفنان المبدع لتعود به إلى واقعة كنوبة كما هي العبقرية التي لا تخلو من تجليات خارج السلوك النمطي للإنسان العادي المجرد.
- حالة الغموض المسترسلة التي تكتنف المبدع العبقري أو المبدع المجنون هي حالة الإبداع الحقيقي والتي من تجلياتها انبعاث الأدب السريالي.
- في التعريف القديم للعبقرية هي حالة سكون للآلهة أو قوة الروح الإلهية في الإنسان لتحفظه من الشرور التي تحاصره, وهذا الإنسان الذي تحل فيه هذه القوة يكون متميزا بالضرورة عن غيره وله التأثير المعنوي على محيطه. وفي التعريف القديم للجنون هو حالة حلول أو اقتحام للروح الشريرة أو الشياطين لإفساد السلوك الطبيعي للفرد الذي يوجب علاجه بكل الوسائل وعلى رأسها الضرب, في ظل هاذين التعريفين يتجلى استقامة الاتصال الغيبي بالإنسان العبقري أو المجنون, وهو الاتصال الذي يصنع أدبياته عند الفنان المبدع بخلاف التنظير له. فشعر ابن عربي أو الحلاج نتاج اتصال رباني وجوهري إثر حالة حلول لها مقاماتها وأحوالها وكشوفها من بريد الذوق الإلهي إلى صاحبها, وبالتالي يعاني هذا المتصوف حالة من المكابدات والمشاق لمعانقة ذوق إلهي يتجلى في إبداعات فيوضية غير نمطية, ولتحليلها نقديا نحتاج إلى مناهج استسرارية عرفانية لدراستها, بالمقابل نجد حالة مثل جان جنيه الذي –حسب رأيه- يستضيف قوة الشر المكبوتة لديه منطلقا بها ومنها منتجا تجليات نصه الإبداعي. إذن يمكن القول بأن العبقرية والجنون على حد السواء هما القوة الكامنة المحفزة لانطلاق شرر الإبداعي من كوامن الفنان المبدع, وإبداعاته هي بمثابة تجليات للنفس المحتضنة لقوى الخير أو الشر.
ومنذ القدم ربطت العرب الإبداع بما هو غيبي ولطالما نعتت الشعراء بأن لهم جنون يأخذون عنهم على غرار لولا هبيد ما كان عبيد إلخ..وبالرجوع أيضا إلى بدايات الشعر العربي نجد التأريخ لأبياته الأولى على يد الجن!! اعتقد أن الانكفاء أو اللجوء إلى المناهج الغيبية عند تناول العملية الإبداعية أصله يكمن في كون العملية الإبداعية ظلت عملية غيبية غير منفتحة على ذهن المفسرين لها من نقاد ونفسانيين.والجنون عموما في الحقل الإبداعي صار وكأنه رديفٌ للإلهام وتحوّل من مفهوم سلبي للحياة إلى مفهوم رأي, فيه بعض المبدعين محجّة لهم، حتى أن بعضهم هاجم وانتقد الطب النفسي الذي له وجهة نظر علاجية وتصنيفية للجنون.
إن النقطة الغيبية الدقيقة التي تفصل العبقرية بوصفها الإبداعي, والجنون بوصفه ردة فعل للحياة المضطربة /بخروقاته الخارجة عن المألوف, وبهستيرية هي ذات النقطة التي ظلت تفصل بين الثنائيات الكبرى في حياة الإنسان كالتصوف والوثنية..إلخ.
الأستاذ عبد الرحمن عدس : أنا لست مع مبدأ ثنائية العبقرية، الجنون ، حيث أن الإبداع في الإنتاج الأدبي ليس من الضروري أن يكون ناتجاً عن انحراف نفسي أو أخلاقي ، وبالطبع فالكاتب المبدع أمامه مجال واسع لأن يتخيل ويبني أفكاره ومن ثم أن يحاول تصويرها بطريقته التي يراها .

وفي نهاية مطاف أمسيتنا الثقافية الماتعة السابرة ، نتقدم لأساتذتنا الكرام بكل تحايا الشكر الماسي على ما حظينا به من زاد المعرفة الثرية وجميل الحديث المشوق واناقة الثقافة العالية ونرجو أن نكون قد حققنا ما نصبو به إليه من أهداف راقية في ظل هذه الأمسية الثقافية وان نكون قد شيدنا جسرا بناءا في لغة التواصل الثقافي بين مثقفينا العرب في العالم العربي وبلاد المهجر من خلال مظلة صحيفة المرصد الإعلامي الحر ، وإلى لقاء مستجد متواصل مع قراءنا في أمسيات ثقافية قادمة ورؤى نقدية تتناول مفاهيم مستجدة في عوالم الأدب .الثقافة .الحضارة .زفي عالمنا العربي الممتد وحركة الأنفتاح المعرفي في اللانهايات . .



#سعاد_جبر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رصد اهتزازت الشعور وانثلامات الوجدان في الإبداعية الأدبية
- ثنائية التفرد ، العمومية في المشهد القصصي
- ثنائية العبقرية ، الجنون في الأبداعية الأدبية
- الأسماء المستعارة في العوالم الأدبية ، إلى اين ؟؟
- تساميات لغة الورد بين رونسار وفاروق مواسي
- الأنوثة والوجود
- الرؤى الإجتماعية في نص احلام فتاة شرقية
- ثقافة الحوار : الواقع والأزمات
- الأنا الذكورية ومشاعر الانوثة المستلبة
- رصد لحظة التوهج في الإبداعية الأدبية
- المسكوت عنه والمقموع في النص الأدبي
- الثقافة والإبداع
- ندوة العولمة وتغيير المناهج في العالم العربي
- الديمقراطية والإصلاح السياسي في العالم العربي
- همسات صحفية 8 : ثقافة الحوار وخرفان بانورج
- ماهية الحياة في الرؤية السيكولوجية للأدب
- ثنائية - موسيقى النص ، تيار الوعي - في النص الأدبي
- سيكولوجية الحرب في مجموعة عطش الماء
- رؤية نقدية للواقع من منظور نيتشه وجاسبرز
- رؤية نقدية لواقع الإعلام العربي في ظل معادلة الإبداع


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد جبر - ندوة سيكولوجيا الأدب: الماهية والواقع