أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله أسامة - رواية مدينة الذئب (1)















المزيد.....

رواية مدينة الذئب (1)


عبدالله أسامة

الحوار المتمدن-العدد: 5069 - 2016 / 2 / 8 - 06:32
المحور: الادب والفن
    


ياللهفة وياللرجفة، يا لحرقة الاشتياق. ترتعش يده فيكورها، يسترق النظر إلى عينيها، يحاول استشفاف وجهها من خلف النقاب، حتى القمر قد توارى خلف سحب الليل السوداء، والأرض المزروعة بالحشائش قد ضاقت في عينيه، رغم تناثر الأشجار، في هذه الليلة الحزينة الهادئة.
كل شجرة من هذه الأشجار، قد شهدت عصورًا بعد عصور، قد ارتوت بالهمسات المشتاقة، والتنهدات الضارعة. كان يحج إليها كل اثنين أخلصا الحب، وخانهما الحظ، أما الآن فلن يحج إليها أحد، فسوف تقتلعها داعش من الجذور، وتبذر مكانها أشجارًا, ترتوي بدماء العاشقين.
ونظر حوله إلى الطريق الخالي، العربات الهاربة ، الحوانيت المعدودة، المارة القليلين، والجسر. كان هذا الجسر هو ممرهما الآمن، من دنيا التيه إلى دنيا الذهول، عندما لم يجدا مفرا غير الذهاب إلى أطراف المدينة، كي يبتعدا عن الزحام، وعن داعش. كي يفلتا من ظل أبيها، أبو بكر القاهري.
لم يكن هناك أنسب من هنا. لهذه المقابلة التي يخطط لها منذ أسبوع. حتى استقر واطمئن قلبه، ولقنها وشرح لها، وجاء البارحة وحيدًا في جولة يستكشف المكان. وهاهي المقابلة قد تمت أخيرًا. لكنهما ذاهلان، على غير العادة، هو في عالمه، وهي في عالمها.
"لا بأس ببعض الجرأة في ليلة الوداع". هكذا أخبرت نفسها. لكنها الآن لا تملك جرأة، ولا تقوى على وداع. صمته جعلها وحيدة، في عالم غريب. ذهوله جعلها خائفة. تراكم الخوف سريعًا، طبقات فوق طبقات، كافحت حتى تظل فوق الخوف، لكنه سرعان ما دفنها، تشبثت بيد حبيبها، لكنه سحب يده، وتركها وحيدة. كان وطنها، وكان خائفا. لمن تلجأ إذن؟
كانت اللوحة تلح على عقلها كوسواس. كانت ترى نفسها داخل اللوحة، وترى طرف ثوبها بين فكي وحش، لا يريد أن يفلتها، رغم الرعب الذي يرتسم على وجهها. شعر بالدقائق تمر صامتة فالتفت إليها، أراد أن يتخطى حواجز الذهول، كان يجدر به أن يستقر على رأي نهائي، أهذه ليلة وداع؟ لكنه لم يستطع.
قال لها في محاولة لكسر الصمت:
ـ رحمة، ألا ترغبين في زجاجة عصير من هذا الكشك القديم؟
تنفست الصعداء وهي تومىء بالإيجاب، فقال:
ـ سآتي بزجاجتين، ماذا تريديها؟
ـ تفاح.
قالتها همسًا فعبس مفكرًا:
ـ أتراهم كانوا يدرسون لنا النظريات الخاطئة؟!
استفهمت وهي تبتسم فمضى يقول:
ـ لقد أخبرونا أن الشحنات المتشابهة تتنافر، وها أنت تهدمين هذه النظرية عندما تطلبين تفاحًا.
ضحكت مشرقة:
ـ كفاك غزلا بالنظريات الفيزيائية، فأنت تهدم كل يوم نظرية من أجلي.
ـ وأهدم كل العلوم من أجلك.
ـ أتريد أن نعود إلى البدائية؟
ـ لقد أعادتنا إليها داعش بالفعل. انتظري هنا حتى آتي بالمشروب.
تابعته بنظرها، لم يكن هو، شيء خاطىء في ملامح وجهه, شيء مصطنع. أم أن هذا إسقاط نفسي من جانبها؟.. إن كان كذلك فمن الجيد أنها تختبىء خلف هذا النقاب.
رأته من بعيد وهو يضع هاتفه على أذنه, ناظرًا إليها. ثم انتفضت وهي تسمع صوت الرنين. أخذت تفتش في حقيبتها عن الهاتف، وسط الأشياء الكثيرة التي تحملها. رأت رقمه على الشاشة. أجابت فجاءها صوته:
ـ لم أجد تفاحًا، أآتي ببرتقال؟
ضحكت في أسى لم تفهمه:
ـ يا حبيبي لم تكن بحاجة إلى اتصال، فكل ما تأتي به جميل.
وأتى بالزجاجتين فوضعت زجاجتها في الحقيبة، للذكرى الأخيرة. وقبض على زجاجته بيده. لن يستطيعا أن يشربانهما معًا كعادتهما, أن يبدلانهما كل قليل، حتى تشرب من موضع فمه، ويشرب من موضع فمها، فهذا ليس مناسبًا للنقاب، وليس مناسبًا لـداعش.
المقابلة كلها لم تكن مناسبة لأي شيء. لكن.. كان لا بد أن تقابله، فقد بقي من أجلها، ولم يرحل مع أمه وأخيه. أينوي خطبتها من أبيها ثانية؟ إن لم يكن هذا ما ينويه فلماذا بقي؟
أليست هذه ليلة الوداع؟.. لماذا تفكر بهذه الطريقة إذن؟.. لقد كان حبها له ثورة على كل شيء, لكن ثورتها قد أجهضت إلى الأبد. فحتى لو تزوجها، لن يكون سجنه أفضل من سجن أي مجاهد داعشي.
ووجدت نفسها تقول:
ـ جلال، أن أكون خادمة تحت قدميك, خير لي من أن أكون زوجة "سيف الحق".
خفق قلبه بعنف، أراد أن يخبئها بداخله، شدد قبضته على الزجاجة التي لن يفتحها:
ـ لو كان بيدي لجعلتك ملكة العالم، لكن ما الذي سيجعل أباك يغير رأيه؟.. إن"سيف الحق" هو ذراعه اليمنى، هو قبضته.
تمردت نبرتها وهي تتسائل:
ـ لا أدري لماذا يرفض شخصًا أرغب به؟
فتمتم قائلا:
ـ لأن الرغبة حرام.
فقدت أعصابها:
ـ ماذا ستفعل إذن؟.. لماذا قابلتني ولماذا لم ترحل مع أسرتك؟!
ـ هل كان يسعدك أن أرحل مع أسرتي؟!
ـ لم يكن ليسعدني بالطبع، ولا يسعدني أيضًا أن أراك هكذا.
ـ تريني كيف؟!
ـ خائفًا، مضطربًا، متذبذبًا.
طعنته في قلبه، اتسعت عيناه وهو يمسك بيدها:
ـ أنا خائف عليك، أنت نقطة ضعفي الوحيدة في هذه الحياة.
فسحبت يدها:
ـ لا أريد أن أكون نقطة ضعف أحد.
شعر أنها بعيدة جدًا، لن تفهمه. كيف يقنعها أنه ليس بطلا أسطوريًا؟!
ـ لقد تأخرت وأريد العودة إلى منزلي.
ـ اصبري قليلا فنحن لم ننه حديثنا.
ـ لا أريد التأخر أكثر من هذا. أريد العودة قبل أبي.
وتوجهت ناحية الجسر فتوجه معها، كانت الأمور قد خرجت عن سيطرته كليًا. شعر أن هذا استفزاز أنثوي، متعمد وبلا هدف محدد.
وشعر بالندم لأنه لم يستقر على شيء. كان لابد أن يراها أولاً، ليعرف هل تغيرت كثيرًا؟ هل هناك جديد في بيتها؟ هل استسلمت أم لا زالت تقاوم؟.. كان لابد أن يرى بعينيه قبل أن يفكر ويستقر، قبل أن يقرر.
كان كل شيء قد حدث سريعًا. أخذت البلدة على حين غفلة منه، قامت المعارك وتعرض كل شيء للدمار، نزح الكثيرون وخضعت ليكوبوليس تحت سيطرة داعش. وكان من السهل جدًا أن يكسب أبا بكر القاهري. إذا انضم للمجاهدين، وإذا وضع مكتبه الإعلامي تحت تصرفه، فيدافع عنه، ويمجد سلطته. بيد أنه لم يقبل الصفقة، ولن يقبل.
لقد كانت المأساة هي أن الباطل واضح معروف، يظهر بألف وجه، ولم يكن للحق وجه واحد. كانت المدينة تضج بالأشرار، والسفاحين، والغرباء، والأشقياء. وكان الأخيار معدودين، وكانت رحمة منهم، لكنها الآن بعيدة جدًا.
ناولها زجاجته قائلاً:
ـ احتفظي بهذه.
فانتزعتها منه.
ـ لماذا تتصرفين هكذا؟!
لم تجبه، اتسعت خطواتها. لابد أن تعتمد على نفسها في هذه الحياة، لكنها ــ ويا للأسف ــ لن تستطيع فعل شيء. ما عادت تطيق شعور التمرد العاجز، ما عادت تطيق كيس الخيش الذي وضعت فيه، منذ ميلادها، وأغلق عليها برباط محكم.
الشعور بالعجز لم يتمكن منه. لكنه كان بحاجة لأن يفكر، لأن يفهم، لأن يسلم زمامه لعقله كما اعتاد دائمًا. شعر أنه سيفقد إنسانيته بفقدانها. لم يتقبل الفكرة. امتلأت نفسه بالتحدي, لكنه كان قليل الحيلة. لقد قضى عمره في هذه البلاد يحاول الحفاظ على نفسه من القذارة، قضى حياته غاضبًا، وكان ينفس عن غضبه من خلال عمله الإخباري، ومن خلال مشاركته في الاحتجاجات. وها هو كل شيء يرتد في وجهه، وها هو يفقد اليقين. هو الآن سجين في هذه البلاد، ولا يقين لديه سوى قلبه. إنه ما تبقى بداخله من براءة، لا يريد خسرانها.
توقف عن السير:
ـ لن نعبر هذا الجسر.
قالها حازمًا وأمسك بيدها فانقادت إليه. ثم قالت وهي تستشف ملامح وجهه:
ـ إلى أين نحن ذاهبون؟
فرد عليها حازمًا:
ـ لن أسمح لنفسي بخسارتك.
قالت في أسى:
ـ ليس بيدنا شيء، إنه حكم النصيب.
ـ أتدرين ما يجب علي فعله الآن كرجل يدافع عن قلبه؟
اتسعت عيناها. كانت فنانة، وكانت تهوى الرسم. منعها أبوها من امتلاك الألوان ورسم اللوحات. لكنها كانت ترسم بخيالها، أسست لنفسها منهجًا في الرسم، وهو الرسم الذهني. رسم المعاني والمشاعر في الذهن. وكان هذا سببًا في اكتشافها لموهبة رهيبة، وهي قراءة الوجوه. كانت تنظر لوجه أحدهم حتى تزيغ عيناها، فترى صورة ضبابية لا تكشف غير الخطوط الأساسية للتعابير مع العين. ثم يخف الضباب شيئا فترى أشياء عجيبة. فقد ترى وحشًا في صورة ملاك، وقد ترى طفلا في صورة كهل.
قررت أن تضم هذه اللوحة إلى معرضها الذهنى، رجل يدافع عن قلبه. لم ترد عليه، لم تستفسر منه, فقد أخذت في رسم اللوحة, ولم تنس أن تضع الطريق والليل كخلفية.
قال وهو ينظر إلى الفراغ:
ـ أن أخطفك وأهرب بك.
لكنه أفاق فجأة من رومانسيته فأضاف:
ـ ثم أطلب من أبيك فدية.
ضحكت من قوله، لقد أفسد لها اللوحة تمامًا، لكنها قالت في دلال أنثوي قاتل:
ـ وهل تستطيع؟
فهز رأسه متعجبًا وهو يقول:
ـ أعلم أنك لن تستريحي قبل أن ترينى مصلوبًا أو مذبوحا.
فردت بلهفة وخوف تطرد خيالاتها:
ـ بعد الشر عليك، لن يحدث هذا، أبدًا أبدًا.
فضغط على كفها وهو يبتسم. يعلم كيف تفكر هذه الفتاة. إنها تظن أن الأمور تتحقق بالتمني الشديد، إنها ترى قصتهما لوحة لا بد أن تكتمل، إنها تؤمن بحبهما. وهل يجدي الإيمان مع الواقع؟
تاها في دروب الأحلام حتى تألمت قدميها. أخذا يتحدثان وكأن الحياة وردية، وكأنهما سيتغلبان على كل شيء. أخذ يثبت لها حبه، ويؤكد على دماره المحقق إذا ما خسرها. طال بهما المسير، تمامًا كالأيام الخوالي، وكأن الحياة لم تنقلب رأسًا على عقب. وأخيرًا قررا الرجوع إلى حين، حتى يفكر ويقدر، لكنهما تعاهدا على الوفاء لآخر رمق.
وعبرا إلى الناحية الأخرى من الجسر. هاهنا زحام وضجيج، أناس كثيرون متزاحمون، قد قرروا ترك المدينة لسبب لا يخفى على أحد، لقد دارت بعض المعارك هنا وحدثت بعض الاضطرابات، الشارع الرئيسي يمتلىء بتجمعات المياه، عرف كل شيء البارحة، لقد انفجرت ماسورة المياه العمومية فأغرقت المنطقة، غرقت المحلات وغرقت المنازل، ارتفعت المياه إلى الركبة، كان طوفانًا بتعبير أحد السكان الذي حادثه. ولم ينس أن ينشر هذه الحادثة على الصحيفة الإلكترونية، ونشر معها بعض الصور التي التقطها في الخفاء. اخترق الرصاص كاميرات كثيرة، وكان العمل الإخباري تحت حكم داعش مغامرة رهيبة، لكنها لم تكن أخطر من مقابلة بنت "الوالي" !
ومر بهما رجل يرتدي زيًا داعشيًا فأطال النظر إليهما. لم يلتفت إليه وحاول التصرف بطريقة طبيعية، لا يوجد ما يلفت النظر أو يثير الفضول، فهي منقبة وهو لم يحلق لحيته منذ أيام. أما رحمة فقد اختبرت الرجل بجانب عينها دون أن تلتفت، فرأت رأسه على هيئة جمجمة فارتجفت. هكذا رأت أبيها آخر مرة، فقد كان يمتلك أرواحًا عديدة بداخله، منعتها من النفاذ إلى روحه الحقيقية. شعرت بعين أبيها في عينه، لكنها سارعت بإغماض عينيها والانفصال مؤقتًا عن العالم، ثم برمشة مفاجئة، قذفت الرجل خارج خيالها.
أخذ جلال يجول بنظره في الوجوه التي يغلفها الخوف، قالت رحمة:
ـ لا توجد عربات والوقت قد تأخر، وعما قليل يرن هاتفي ويأتي من خلاله صوت أبي.
وارتجف حينما أتت على ذكر أبيها، وتذكر صفقته، لكنه قال يطمئنها:
ـ ستأتي الآن عربة بلا شك.
ـ ألا ترى هذا الجمع المنتظر؟ إنهم يملأون خمس عربات.
ـ لا تقلقي يا رحمة، كم الساعة معك؟
وابتسم عندما رأى الساعة التي أهداها لها منذ أكثر من سنة، عندما جعلها تغمض عينيها، ثم أخرج لها الساعة وقال افتحيهما. وكان في غاية السعادة لما رأى فرحتها، ومدت يدها فقلدها الساعة ثم قبل أناملها.
وأفاق وهي تقول:
ـ الساعة العاشرة، لقد تأخرت جدًا.
ولمح جلال فضوليًا ينظر إليهما عن قرب فضاق به. وقرر أن الهجوم خير وسيلة للدفاع:
ـ إلام تنظر يا هذا؟!
اضطرب الرجل لكنه قال:
ـ لا أنظر، ولكننى انتبهت ولفت نظري أنها تقول العاشرة.
ـ وما الذي لفت نظرك في هذا يا هذا؟!
فانطلق الرجل يقول:
ـ إن هذه الساعة مُخرفة بلا شك، فالساعة الآن قد اقتربت من الثانية عشرة.
ـ ماذا؟!. لفظتها رحمة في رعب فقال جلال:
ـ أيها الرجل..لا بد أنك مخطىء.
وأخرج هاتفه لينظر فقال الرجل:
ـ ألم أقل لك؟!..كي تصدقني. إن هذه الساعة مُخرفة بلا شك، أولو كانت العاشرة لانتظرنا كل هذا؟..
ـ كفى، عرفنا أن هذه الساعة مُخرفة.. بلا شك!
وأمسك جلال بيدها ومضى، ثم أجلسها على رصيف الشارع, بعيدًا عن تجمعات المياه. كانت لا تزال في ذهولها، جلس بجانبها وهو يقول متعجبًا وغير مصدق:
ـ ولكن كيف وجرس هاتفك لم يرن؟!
وأخرجت هاتفها بسرعة تنظر فيه وما لبثت أن قالت:
ـ يا ويلي يا ويلي.. يا ويلي ويا سواد ليلي.
ـ ماذا؟!..هل اتصل أحد؟
ـ وكيف سيتصل وأنا أضع الخط الذي لا يعرفه غيرك؟!.
ـ ياللمصيبة.. ضعي الآخر بسرعة.
وأخذ هاتفها ثم أغلقه وأخذ خطها فبدل الخطوط وهي تقول:
ـ اتصلوا فوجدوه مغلقًا، لا بد أن أبي قد رجع واكتشف أمري، لا أدرى ماذا سأخبره.
وأعطاها الهاتف قائلا:
ـ اتصلي بهم بسرعة، انتظري، ماذا ستقولين؟
ـ يا ويلي ويا سواد ليلي.
ووقع نظر جلال على الرجل الفضولي، الذي لا شك لديه في أن الساعة مُخرفة. كان يحادث آخرًا، وهو يشير إليهما، وينظر ناحيتهما. فقام ضائقًا وتوجه إليه. ثم وقف أمامه قائلا:
ـ نعم.. ماذا تريد؟
ـ ماذا تريد أنت؟!
ـ لقد رأيتك تتحدث وأنت تنظر ناحيتنا وتشير إلينا. لو أردت شيئًا فها أنا أمامك.
فرد الرجل الآخر:
ـ لا يا أستاذ. كان ينظر ناحيتكم ولا يشير إليكم، وإنما يشير إلى نفق المشاة خلفكم.
ـ نفق المشاة؟! أيوجد هنا نفق؟!
فرد الرجل الأول:
ـ أنت غريب عن هذه المنطقة "بلا شك"، ألست كذلك؟
قال جلال وهو يقاوم رغبة ملحة في لكمه:
ـ نعم أنا غريب، إلى أين يفضي هذا النفق؟
ـ إلى موقف السيارات العمومي.
ـ وفيم هذا التجمع إذن؟! لسوف أعبر النفق بدلا من هذا الانتظار.
وهم بأن ينصرف فقال الرجل الأول:
ـ انتظر، أأنت الناصح ونحن المغفلون؟..النفق مقطوع الكهرباء، وغارق في المياه. المشكلة في أن العربات تتأخر، المياه أوقفت الحركة، النفق كان مخرجًا جيدًا لكنه غرق.
ثم صاح قائلا:
ـ هاهي عربة قد أتت أخيرًا.
وركض الرجلان ناحية العربة، وفي ثوان معدودة، كادت العربة أن تختفي من كثرة الناس حولها، وتزاحمهم عليها. ونظر ناحية رحمة فلم يجدها، وركض ناحية النفق وأخذ يدور ويبحث في ذهول ورعب، وأخرج الهاتف كي يتصل بها، قبل أن يراها تصعد من سلم النفق فأسرع ناحيتها وأمسك بيدها كي يركضا ناحية العربة. لكنها كانت قد أقلعت، ونظر جلال إلى الناس فخيل إليه أنهم زادوا ولم ينقصوا، ثم التفت إليها يقول في عتاب هادىء:
ـ ضيعت علينا العربة يا رحمة.
فأطرقت في صمت كئيب فقال لها:
ـ لا عليك، ماذا كنت تصنعين بالنفق؟ آه.. هل اتصلت بأهلك؟
فأومأت برأسها في شرود فقال:
ـ ماذا قلت لهم؟
ـ لابد أن أعود إلى البيت بسرعة يا جلال.
ـ ماذا قلت لأبيك؟ لا تصمتي هكذا، ماذا قلت له؟
ـ قلت له أني عائدة وسوف أخبره بكل شيء.
ـ وبماذا ستخبرينه؟
ـ لا أدري، لا أدري. لا بد أن أعود الى البيت حالا.
ـ لا تقلقي.
وأمسك بيدها فأحست ببعض الاطمئنان، وأحس بالأسف لما يحدث فقال:
ـ كل هذا بسبب الساعة المُخرفة، والنفق المظلم الغريق.
وصمتا ثم قالت شاردة:
ـ وما أدراك بالنفق المظلم الغريق؟
ـ لقد عرفت من الرجل، وما أدراك أنت؟ وماذا كنت تصنعين بالأسفل؟
ـ رأيت اللافتة ملقاة فهبطت لأرى. ولكني لم أر إلا الظلام فكدت أقع في المياه.
وصمتا فأخذ يجول ببصره بين الناس، ووضعت رحمة رأسها بين يديها. نظر إليها ثم نظر إلى الطريق الذي تأتي منه العربات، نظرة ساخطة لكنها لا تخلوا من أمل. وطال الانتظار بلا فائدة. لو أتت عربة الآن فلسوف يستقلها ولو كان حولها ألف شخص. ولمح جموعًا من الناس تنصرف يائسة. لو أتت عربة الآن لكان انصراف هؤلاء فائدة كبيرة.





#عبدالله_أسامة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله أسامة - رواية مدينة الذئب (1)