مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 5067 - 2016 / 2 / 6 - 17:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما حاولت أن أكون "موضوعيا"
عندما قرأت عن ألكسي , الشاب الأوكراني القادم إلى شمال إسرائيل - فلسطين , فاجأني الشبه بيني و بينه , بل بينه و بين جاري القادم من غزة , عندما كانت جريدة السفير تصف حياة الغريب القادم إلى بلاد لم يعرفها يوما و كيف كان يلتقط فيها صور السيلفي لينشرها على حسابه على الفيس اعتقدت أول الأمر أنها كانت تتحدث عني , أو عن جاري القادم من غزة .. قبل أن أتأكد من الاسم و اسم الأرض التي أصبحت بلاد ألكس الجديدة .. بعد مقال السفير اختلفت نظرتي لكل شيء حولي , أصبحت أرى ألكس في كل مكان , صار ذلك الوغد يرافقني , أحمله معي , داخلي , و أنا بين أصحابي الجدد , أنا ألكس و ألكس أنا , هذه الأرض التي صارت وطني فجأة , حيث أحصل كما حصل ألكس على مأوى و طعام دون أن أعمل , و حيث أحصل أيضا على من يكرهنني , من يسميني غريبا , ضيفا ثقيلا جاء دون دعوة .. أراه في الاشجار هائلة الارتفاع التي لم تعرفها عيناي من قبل , في الثلج الأبيض البارد و الماء الدافئ الذي لا ينقطع 24 ساعة , في نظراتهم المتوجسة , في البرد القارس الذي أصبحت فجأة قادرا على احتماله .. لا أريد أن أكون موضوعيا , السفير تحدثت عن ألكس , لا عني , و لا عن جاري القادم من غزة , أنا مختلف , أنا لا أدعى ألكس , نحن مختلفون , لا أريد أن أكون موضوعيا
و جاءت الضربة التالية , مقالة على موقع زد نت "التقدمي" الأمريكي , تقدمي يعني بالنسبة لي أنه لا يقول إلا الحقيقة , لا ينطق عن الهوى , إن هو إلا "وحي يوحى" .. كان عنوان المقال صادما : لماذا الرجل الأبيض غاضب ؟ هل يحق للرجل الأبيض أن يغضب ؟ كيف تقول الزد نت ذلك .. و أقرأ لأعرف أن كاتب المقال يزعم أن البيض الأمريكان عانوا طويلا من التهميش و الإهمال على يد الإدارات النيوليبرالية المتلاحقة و أنهم وجدوا ضالتهم في ترامب الذي يغازل خوفهم و هواجسهم و يعدهم بالدفاع على عالمهم الذي يتهاوى تحت ضربات النيوليبرالية التي لا ترحم .. و تتفجر الأفكار فجأة داخلي دون دعوة , على نحو غير متوقع و غير مرغوب , هل الرجل الأبيض هو أيضا قادر على البكاء أو أنه ربما يشعر بالألم أو التهميش , هل هذا ممكن ؟ هل الأبيض إنسان أيضا ؟ ألسنا المهمشون الوحيدون في هذا العالم ؟ هل تتسع الجنة إلا لنا ؟
الفوعة و مضايا تتشاركان نفس الجوع لكن ليس نفس المصير , الشيعة أيضا يجوعون لكن عندما يجوع الشيعة يشبع الرب , و عندما يجوع السنة يشبع إله آخر .. لماذا يجب أن أسمح لأفكاري أن تتخيل طفلا شيعيا جائعا , لماذا علي أساسا أن أتخيله إلا كجسد مستباح مقطوع الرأس , و رأسه يتدلى من مقصلة ما أو محمول على رمح أو على شيء كالعصا , آلاف الرؤوس , آلاف الأجساد التي بلا رؤوس , آلاف الأطفال الذين ارتكب الرب خطيئة أن ولدتهم أمهات شيعة أو سنة , يتدلون من آلاف المشانق , أحاول أن أبقى رابط الجأش , أنا الذي تسري في عروقي دماء سفاح كإميل هنري و رافاشول , كم هو بشع أن تكون موضوعيا
سنسميها دولة الخلافة في أوروبا ... كلا , دولة الخلافة تعني داعش .. كلا , سنسميها كردستان .. سنسميها الدولة العمرية و نغير اسم عاصمتها إلى القدس .. و فجأة أسألهم سؤالا "موضوعيا" : لماذا إذن لا نسميها دولة إسرائيل ؟ فيسود الصمت ... يبدو أن أحدا لم يملك جوابا ... يمر بعض الوقت , و أسألهم مرة أخرى , و أنا أمضغ آخر ما تبقى لي من "موضوعية" : حسنا , لكن إلى أين سنهرب عندها ؟ - نهرب من ماذا ؟ - من دولة خلافتنا و كردستاننا ... من أنفسنا ؟ .. صمت الجميع , أنا أيضا اخترت الصمت .. أكره مثلكم أن أكون موضوعيا
أعتقد صادقا أن البشر أغبياء , و أذكياء بنفس الدرجة , بغض النظر عن لونهم أو عرقهم او جنسهم , أعتقد مخلصا أن البشر موضوعيين , علميين , دوغمائيين , عقلانيين , و مهابيل , بنفس الدرجة أيضا بغض النظر عن كل الفوارق الشكلية بينهم , أعتقد مخلصا ان كل الأكاذيب التافهة تساوي بعضها , أن أيا منها ليس أكثر ذكاءا أو إنسانية أو عقلانية أو علمية و لا أقل عبثية و جنوحا للقتل الهمجي السادي المازوخي من بعضها الآخر , الدين مثل أي دوغما علمانية , الماركسية مثل الإسلام , الفاشية مثل الليبرالية , ستالين و هتلر و كورتيز و مكارثي و حتى أوباما هم نسخ مختلفة عن الأصل الأكثر مصداقية , عن التعبير الأكمل عن كل ما سلطوي و قطيعي داخلنا و في مؤسساتنا البشرية المشتركة : جنكيز خان ... و أن الاستعمار الغربي مثل الفتوحات الإسلامية و الحروب الصليبية مثل الحرب على الإرهاب , و أن معسكرات العمل العبودي الستالينية و النازية و سجون الحجاج و محاكم التفتيش و السجون القائمة حاليا في أكبر الدول الديمقراطية , هي نفسها , مجرد تجليات مختلفة لنفس الشيء , و أن الغرب الراسمالي المتحضر , و الرجل الأبيض , ليس أكثر عقلانية أو إنسانية منا , و أن المضطهدين أو المهمشين محظوظين جدا فقط لأنهم مشاريع بشر حقيقيين إذا تمكنوا من أن يعيدوا خلق أنفسهم و من أن يحطموا قيود عبوديتهم داخلهم قبل أن يحاولوا فعل ذلك خارجهم , لكني أعتقد , عندما أكون موضوعيا , أننا دخلنا كشعوب عربية و مشرقية و إسلامية في مرحلة خطيرة من الفصام و النفاق و الكذب , حولتنا من ضحايا لنظام مزمن من القهر و القمع و التهميش إلى ضحايا بالملايين لغبائنا و تفاهتنا القطيعية الساذجة و لرغبة البعض منا في أن يصبحوا سادة على أكتافنا , و أنه مكان أحلامنا التافهة الصغيرة العابرة ولدت أوهام كبرى و مكان آلامنا المزمنة الشاحبة أصبحت آلامنا اليوم حادة فظيعة لدرجة الرعب أو الموت رعبا و أن تلك الأوهام - الآمال و الآلام تحولت إلى مجرد لعبة سلطوية بيد بعض الوقحين المخادعين الذين يريدون أن يأخذوا مكان سادتنا القدامى , أن يستعبدونا .. و لأني لا أستطيع أن أعيش دائما خارج القطيع المهووس بصورته الإيجابية عن نفسه و عن آلامه , و أكاذيبه و تفاهاته عن نفسه و عن الآخر , و لأني أخشى أيضا أن أكون أنا , أو أن أكون حرا , شجاعا , موضوعيا , لدرجة الموت كفرا أو ثورة أو حرية , فأنا أيضا أضطر لأؤمن ببعض تلك التفاهات من وقت لآخر , كي أبدو أجمل مما أنا عليه في الواقع , كي أنسى و لو لبرهة أني لست سبارتاكوس حتى و إن ادعيت ذلك , أني لست إلا ألكس و ستالين و الحجاج و مكارثي و جنكيز خان , لكن جنكيز خان خائف و جبان حتى أقصى درجات التفاهة , جنكيز خان يعيش في المكان و الزمان الخطأ
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟