أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الغني بامو - العولمة والفساد:علاقة تبني أم علاقة إفراز؟















المزيد.....


العولمة والفساد:علاقة تبني أم علاقة إفراز؟


عبد الغني بامو

الحوار المتمدن-العدد: 5067 - 2016 / 2 / 6 - 00:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لعل أهم ميزة للعولمة في وقتنا الراهن هي نزوعها نحو التعميم والتنميط والإنتشار. تنميط الفكر والقيم، الإقتصاد والسياسة، الوعي والثقافة. تعميم القوة والسيطرة، السوق والسلع والتسليع، المشاكل والأزمات... تفتيت الخصوصية والسعي لإلغائها، وتعميم النموذج الأوحد القائم على الاستهلاك... وهذا النزوع الإنتشاري للعولمة غايته الأساسية هي تشكيل وصناعة الإنسان المادي الفاقد للإرادة وللوعي، والباحث فقط عن تحقيق الجانب الحيواني من كينونته. وذلك لن يتأتى للمنظومة الرأسمالية تحقيقه إلا بالتأثير على وعي وأنماط عيش باقي المجتمعات البشرية سواء الغربية منها أو غيرها.
فارتباط الاقتصاد العالمي اليوم (النمط المعَولم) له عدة إفرازات جانبية من بين مظاهرها الفساد بمختلف أنواعه وتمظهراته وتداعياته، خصوصا بالنسبة للدول النامية التي تشكل العوامل الخارجية إحدى العوامل المؤثرة على حياة مجتمعاتها، إذا إن المجتمعات الرأسمالية تعد الأقل تعرضا وتأثرا بالعوامل الخارجية من غيرها، فما سر ذلك؟. كما أن هناك عدة تساؤلات تطرح بصدد العلاقة بين الفساد والعولمة من قبيل : كيف ساهمت حقبة العولمة في بروز وتفشي ظاهرة الفساد؟ وقبل هذا السؤال هل فعلا يعتبر الفساد من نتاجات حقبة العولمة؟ وما هو تأثير هذه الظاهرة على نمو المجتمعات النامية ؟
لتحليل هذه التساؤلات، سيتم تناولها في ثلاث نقاط:
I- مراحل تطور النظام الرأسمالي وأثره على باقي المجتمعات
II- آليات فرض العولمة على العالم: نموذج الإعلانات – الصورة الاشهارية-
III- علاقة العولمة/ النظام الرأسمالي بظاهرة الفساد في المجتمعات النامية

I- مراحل تطور النظام الرأسمالي وأثره على باقي المجتمعات
يفيد تاريخ التنظيمات السياسية والاجتماعية أن كل تنظيم يتأسس بداية على الضرورة ويمر عبر الحاجة لينتهي بالأوج المؤدي إلى الأفول، والنظام الرأسمالي كمنظومة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مر بعدة مراحل أثناء تطوره وكانت تصاحبه عدة هفوات وعدة إخفاقات، قبل أن يصل إلى ما هو عليه من الأوج ورفاه. وبذلك فالمجتمعات الرأسمالية مرت بمرحلة تأسيس النظام الرأسمالي )مرحلة الضرورة( ثم مرحلة تثبيت مكتسبات النظام الرأسمالي )مرحلة الحاجة( ثم أخيرا وليس آخرا مرحلة الاستفادة من النظام الرأسمالي )مرحلة الكمال والرفاه التي قد تؤدي إلى مرحلة الأزمة(.
فالإنسانية في حياتها تتأسس على ثلاثة أنواع من المطالب. أولاها مطلب الضرورة؛ أي ضرورة تحقيق مطالب الحياة أي المطالب التي تبقي البشر أحياء والتي بدونها لا يمكن تصور الحياة، وبذلك فالضرورة هي مالا يتصور قيام بنيان الآدمي بدونها، وتشمل المأكل والمشرب... وقد أكد ابن خلدون:" أن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه، وأن الحضر المعتنون بحاجات الشرف والكمال في أحوالهم وعوائدهم، لأن أول مطالب الإنسان الضروري، ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا (عبد الرحمان ابن خلدون، "المقدمة، "، دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع، لبنان، طبعة 2007).
وهنا فالبشرية تسعى إلى تحقيق الضرورة أولا ولا تسعى إلى تحقيق غيرها قبل تلبيتها.
ثاني هذه المطالب هو مطلب الحاجة، حيث تعرف بأنها ما تسير الحياة بدونها بعسر، إذ تصير حياة البشر عسيرة في غياب هذه الحاجيات )السكن، النقل، الكهرباء...(، وفي هذه الحالة فالإنسان لا يسعى إلى تحقيق هاته الحاجات إلا بعد أن تكون الضرورات متوفرة، ولهذا أكد ابن خلدون على أن مجتمعات البدو مجتمعات تعيش على الضروري بينما مجتمعات الحضر مجتمعات الحاجة والرفاه.
وأما ثالث هاته المطالب فهو مطلب الرفاه والكمال، وهو الذي لا يرجى تحقيقه إلا بعد تحقق مطلب الضرورة و مطلب الحاجة، والذي يُوصف الإقتصاد و المجتمع من خلاله بالبحبوحة و الترف.
إن محاولة فحص هذا التصور النظري وإسقاطه على واقع العالم الغربي وعلى واقع العالم الثالث، سيتبين أن هناك عدة مفارقات. لكن قبل ذلك لابد من توضيح نقطة متعلقة بمفهوم العالم الغربي الإستعماري، بحيث قد يتساءل البعض هل اليابان جزء من العالم الغربي الاستعماري؟ نعم، في وجه منه، فمن المؤكد أن اليابان في نهضته اعتمد على وسائل ذاتية لكنه مع ذلك مارس وجها من أوجه السياسات الاستعمارية التي مارستها الدول الأوروبية بالخصوص وذلك أثناء احتلاله لإقليم منشوريا بالصين ولشبه الجزيرة الكورية، ونفس الأمر يصدق على الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت نتاجا لممارسة استعمارية بريطانية وإسبانية وبرتغالية وفرنسية على الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، ثم إن أمريكا مارست سياسة امبريالية على دول أمريكا اللاتينية وصفت بأنها أكثر من استعمارية، والتي تسمى في التاريخ الدبلوماسي بسياسة "العصا الغليظة"(محمد الهزاط، محاضرات في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة، طبعة أولى 2005).
فالمتأمل في سيرورة التاريخ الغربي سيجد أنه يوحي الآن بأنه يعيش حالة الرفاه و قبلها عاش مرحلة الضرورة والحاجة. فبداية تشكل المجتمعات الغربية الحديثة والتي تؤرخ في بداية القرن 17، بدأت بتراكم رؤوس الأموال المتأتية لها من الحملات العسكرية ومن التجارة الدولية الناتجة عن الكشوفات الجغرافية الكبرى، ففي هذه المرحلة بدأت الدول المتقدمة تبني نفسها أي أنها في مرحلة الضرورة، بعد هذه المرحلة أي خلال القرنين 18 و19 اتضحت المعالم الكبرى للحضارة الغربية/ الأوروبية المؤسسة على الفكر الديمقراطي الليبرالي كخيار سياسي، و على النظام الرأسمالي كخيار اقتصادي، وأصبحت بذلك أوروبا تعيش على مطلب الحاجة أي مرحلة الانتقال من مرحلة الضرورة إلى مرحلة الحاجة، والحاجة الملحة في هذه الفترة هي الحاجة إلى تصريف فائض القيمة من الإنتاج المادي والقيمي، ذلك أنه لا يمكن الفصل عبثا بين القيمة والمادة التي صيغت وصنعت في سياقها، فتصدير فائض الانتاج المادي لا بد و أن يوازيه - و أحيانا يسبقه- تصدير الانتاج القيمي، و بالأساس ثقافة الاستهلاك، لأن زرع الثقافة الاستهلاكية في مجتمع ما معناه ضمان خضوعه للهيمنة الرأسمالية بأي شكل من الأشكال.
وهذه المرحلة التي تعيشها أوروبا أي مرحلة الحاجة، ستدفعها إلى فرض حاجاتها على ضرورات الشعوب الأخرى، بمعنى أن هذه الشعوب الضعيفة التي لا زالت تعيش على مطلب الضرورة ستدخل مرحلة الحاجة مكرهة وهي التي لا زالت تعيش مرحلة الضرورة، وبذلك تم الانتقال بها قسرا من وضعية بدائية إلى وضعية أكثر تقدما، لكن ليس بإرادتها أولا، وليس في مستوى حاجياتها ثانيا ولخدمة الرأسمال الأوروبي/الغربي ثالثا، وذلك لسبب بسيط هو كون الرأسمالية لا تؤمن بالندية بل بالتبعية والخضوع.
والنتيجة التي سيحصل عليها الغرب من خلال مرحلة الحاجة التي عاشها وفرضها على باقي المجتمعات الخاضعة له، هي العيش في مرحلة الكمال والرفاه، والذي يبدو اليوم من خلال التطورات الأخيرة التي يشهدها النظام الرأسمالي انه يتجه إلى مرحلة الأزمة وربما كمؤشر على بداية مرحلة التراجع التاريخي للرأسمالية على الأقل في شكلها الحالي.
II- آليات فرض العولمة على العالم: نموذج الإعلانات
" فن تكوين الحقائق أهم من إمتلاكها " الفيلسوف الامريكي المعاصر ريتشارد رورتي.
لقد برز الإعلان بالشكل الحديث لأول مرة في الغرب لأنه كان مرتبط بظهور النظام الرأسمالي؛ إذ إن تطور الصناعة في الغرب كان يوازيه استهلاك بعقلية تقليدية؛ بمعنى أن الإنتاج كان حديثا بينما الإستهلاك كان تقليديا (عبد الله إبراهيم: علم الاجتماع (السوسيولوجيا) ، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت، 2010) ؛ حيث كان النظام الرأسمالي يقدم نفسه كنظام متكامل يقوم على الذهن الحسابي العقلاني و كان يتطلب و يتوقع من الفرد نمطا معينا من السلوك و من الاتجاهات السلوكية المنمطة، و لهذا لجأ الرأسمالي إلى البحث عن وسيلة تعمل على تحديث الاستهلاك ليوافق حداثة الإنتاج، وهنا إهتدى إلى الإعلان؛ حيث عمل على زرع ثقافة الإستهلاك في ذهن الفرد الغربي –وبعده المستهلك العالمي- حتى يقوم باستهلاك المنتوج ثقافيا وفكريا قبل استهلاكه ماديا (فريد ريك معتوق " الأساس الإعلاني للمجتمع الاستهلاكي"، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 35، 1985 بيروت لبنان) ، وعمل كذلك على إلغاء التصورات التقليدية للسوق المرتبط بزمان معين وبمكان معين، فأصبح السوق بعد ذلك في كل مكان وفي أي زمان- القضاء على الحيز-؛ أي أصبحت ثقافة السوق والإستهلاك هي المهيمنة، لذلك كان الرهان على البعد الثقافي موضوعيا على اعتبار أن الاقتصادي يعد محركا للدينامية الثقافية (عبد الله إبراهيم: علم الاجتماع- السوسيولوجيا).
وقد استخدام النظام الصناعي الحديث هذا الأسلوب معتمدا على نظرية بافلوف القائلة بإثارة الغرائز الحيوانية والإنسانية عبر تقنية التركيز على عنصر يقوم بدور الإيحاء المباشر، علما بأن ما يقوم به الإعلان هو شيء مشابه على مستوى الوعي، حيث إن مهمته هي إثارة نوع من الغريزة الشرائية تتحرك فور ورود إيحاء الإعلان إليها على شكل رموز وصور وتصورات للكون، مما يلغي الحيز الزماني و المكاني و القيمي و العقلي للأشياء، ذلك أن الصورة، خصوصا الصورة الإعلانية، لا تصنع لتخاطب العقل بل لتهيمن على الانفعال وتعطيل العقل، وهي لا تتيح للمشاهد الوقت للتفكير، فهي تقدم في مسلسل سريع يحتوي الزمان وإنفعال المتفرج، ولا يدرك انفعالها إلا الناقد الكبير. وإذا كان الكلام يتكون من الخبر ومن التصور الذهني لما جاء في الخبر ثم من الواقع المعطى كما هو، فإن الصورة، و بالأخص الصورة الإعلانية، تلغي كل هذه المراحل، فهي تقدم نفسها على أنها الخبر والتصور الذهني و الواقع، بل هي الواقع وكفى، ومن ثم تحول التفكير إلى إحساس وإنفعال لا غير (محمد عابد الجابري، ملخص مداخلة، مجلة الفرقان،العدد 33 ،1414هـ/1994).
وبما أن الصورة الإعلانية هدفها السيطرة على الوعي الفردي والجماعي بزيادة الحاجة إلى الإستهلاك، فإن رهانها هو تشكيل قطيع بشري من المستهلكين للمنتوج حتى بدون وجود حاجيات ودوافع حقيقية له، بل الاستهلاك ثم الاستهلاك ولا شيء غيره لكي تستمر عجلة الإنتاج الرأسمالي في الدوران و إنتاج الأرباح بشكل مستمر. إنه إذن تجل من تجليات "الإنسان الأخير" بالمفهوم النيتشوي، ذلك الإنسان الذي لا يفكر في شيء سوى في تلبية رغباته الشهوانية/الحيوانية (فريدريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت)، وهو إنسان بلا طموح ولا يحركه أي هدف أسمى بقدر تحقيق الرغبات الشهوانية لديه. وهذه الرغبات تحاول الصورة الإعلانية لإستهلاك المنتوج تبريرها بل وجعلها الغاية المثلى للوجود البشري، وذلك بهدف تعميمها على العالم، وهي ذات أبعاد مختلفة وتتمثل أساسا في:
- البعد النفسي/ العصبي: حيث تقدم الصورة الاعلانية المنتوج على أنه العرض النفسي الأمثل لوضعية المستهلك، لأنها تخاطب اللاوعي عند المستهلك.
- البعد الحاجي/ المادي: حيث تقدم الصورة الاعلانية المنتوج على أنه الاستجابة الأمثل لحاجة المستهلك.
- البعد الاقتصادي: إذ تقدم الصورة الاعلانية المنتوج على أنه العرض والاختيار الأكثر عقلانية من بين الاختيارات المطروحة أمام المستهلك –le consommateur rationnel -.
- البعد الاجتماعي: لأن الصورة الاعلانية تحمل دلالات مفادها أن استهلاك منتوج معين يجعل صاحبه يرتقي اجتماعيا إلى مصاف طبقة أعلى، وهو فعل تخيلي بالإرتقاء الإجتماعي ذو صلة بإستهلاك منتوج في حيز زماني ومكاني ونفسي معين.
- البعد الكمالي: حيث تقدم الصورة الاعلانية المنتوج على أنه الأكثر كمالية ولا كمال يضاهيه.
- البعد الثقافي/القيمي: حيث تقدم الصورة الاعلانية المنتوج على أن استهلاك المنتوج يحملك على اعتقاد الانضمام إلى المجتمع الحديث و المتحضر.
وقد اكتمل نضج هذا المذهب مع عصر التبشير بالأمركة التي تتفكك فيها عرى المجتمع السياسي و المجتمع المدني ليرتد المجتمع العمومي إلى نمط من المجتمع السوقي الذي سيسعى لابتلاع الطبيعة و البشر وتمثلهم وهضمهم وتقيؤهم سلعا استهلاكية (الطيب تيزيني: "فصول في الفكر السياسي العربي"، لبنان، 2004).
إن عمق المذهب الرأسمالي في هذا الشكل يسعى إلى أن يجعل اللذة - المبنية على الاستهلاك والتشيؤ- هي غايتها الكبرى تأكيدا على اغتراب الإنسان الذي يزداد مع وحشة وخواء الفردانية (فريد زهران: الأخلاق بين الضرورة الاجتماعية والنزعة الإنسانية) و ذلك كله تأكيدا لمقولة المادة المتألهة.
وهذا النظام الذي عمل على تحويل الإنسان من إنسان مواطن إلى إنسان مستهلك زبون (نورينا هيرتس،"السيطرة الصامتة، الرأسمالية العالمية و موت الديمقراطية"، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 2007)، سيؤدي إلى تحقق مقولة الفيلسوف كوجيف بكون الأمركة هي عودة إلى اللاعقلانية الحيوانية؛ و بذلك فالبشرية ستصبح عبارة عن حيوانات متفوقة (مجلة الاجتهاد، عدد 15-16 1992 السنة السادسة ، ص 290)، وبها قد تحقق نبوءة "الإنسان الأخير" الذي نظر له نيتشه (في كتابه هكذا تكلم زرادشت) الذي لن يسعى سوى لتحقيق الجانب الحيواني من إنسانيته.

III- علاقة العولمة/النظام الرأسمالي بظاهرة الفساد في المجتمعات النامية
إن التأكيد في التحليل أعلاه على أن النظام الرأسمالي/الغرب يعيش حاليا مرحلة الرفاه يعني أن هذه المرحلة ستفرض على الغير كمطلب ضروري التحقق مهما كانت الوسائل ولو عن طريق الفساد، أي أن المجتمعات التي تعيش على الضرورة ستسعى جاهدة ( وأحيانا كثيرة مكرهة) إلى عيش حياة الرفاه والكمال وهي لم تحقق بعد مطلب الضرورة كما يلزم، وهذا في اعتقادي هو جوهر بروز وتعميم ظاهرة الفساد بشكل ما في المجتمعات النامية بالخصوص، وذلك لكون العولمة فرضت على العالم نمطا معينا من الحياة لا بد لشعوب الأرض أن يعيشوا حياتهم وفقا لهذا النمط المعولم من العيش المصاغ داخل معامل الإنتاج في الغرب.
إن حقبة العولمة تشجع على انحلال منطق الحسابات القومية، وعلى نزوع النخب الإقتصادية، خاصة النخب الوطنية الضعيفة الموارد والإمكانيات، إلى عدم التردد في اللجوء إلى سياسات النهب والإثراء غير المشروع والمضاربة التي تمكنها وحدها من انتزاع قسط من رأس المال الإقتصادي والثقافي والسياسي الذي يسمح لها بالبقاء في السوق العالمية والعمل على مستواها. وهذا هو العامل الرئيس الذي يفسر الإتجاه السائد اليوم نحو تعميم الفساد (برهان غليون- سمير أمين،"ثقافة العولمة وعولمة الثقافة" طبعة 1999)، الذي سيصبح إلى جانب التعسف أهم الأشكال التي ستوظفهما السلطة التنفيذية في أي بلد يخضع لحكم بوليسي لأجل حماية مصالح فئة بيروقراطية محدودة (هيثم مناع، "الديكتاتورية الباردة"، مقال منشور بجريدة المساء، عدد 965، الأربعاء 28/10/2009، ).
كما أن سيادة علاقات المصلحة المادية الخالصة سمح للشركات العابرة للحدود التحايل على القوانين و ممارسة الضغوط و إرشاء الهيئات لبلوغ أهدافها ونشر القيم المادية في النفوس وبالتالي تفشي مختلف مظاهر الفساد (طه عبد الرحمان،" روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"، لبنان، 2007،).
زيادة على ما سبق، فالعولمة تفرض على الإقتصاديات الوطنية الدخول في الإقتصاد العالمي، ومعلوم من هو المسيطر على الإقتصاد العالمي، ومعنى ذلك أن الإقتصاديات الوطنية إذا لم تلجا إلى الإندماج فستكون لقمة سائغة للإقتصاديات الكبرى الشرسة، وهنا يظهر أيضا مدى التفاوت الحاصل بين الإقتصاديات الوطنية وبين الإقتصاديات العالمية، فالأولى لا زالت تعيش في مرحلة الضرورة بينما الثانية تعيش على مرحلة الرفاه، مما يجعل الكفة راجعة لفائدة الثانية أي الإقتصاديات الكبرى التي تعمل على جعل الإقتصاديات المحلية سوقا لمنتوجاتها ومصدرا مهما لحاجياتها الأولية. حيث تحكُم الاقتصاديات المهيمنة على بلدان الجنوب بلعب أدوار في عالم منفلت من تمكنها و تأثيرها، دون اعتبار حقيقي للتفاوتات الساحقة التي لازالت قائمة بين الشمال المعولٍم و الجنوب المعولَم (بنسالم حميش، "الحداثة المعولمة و إشكالية القيم المجتمعية"، منشورات مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 2002،). وهذا ما سيجعل الإقتصاديات الوطنية تعمل على مجاراتها بسعيها تحقيق الرفاه وهي التي لم تحقق أصلا حتى ضروريات بقائها واستمرارها والمتمثلة في مراكمة الأموال والتجارب والخبرات و التكنولوجيا.
إن النتيجة من كل ذلك هي أن المتحكمين في الإقتصاديات الوطنية الذين تحذوهم رغبة جامحة في مجارات الاقتصاديات الكبرى، سيسعون جاهدين وبكل ما أوتوا من قوة لجعل اقتصادهم اقتصادا قويا قادرا على المنافسة أو على الأقل البقاء داخل سوق المنافسة، ومعلوم أن هذه الإقتصاديات لا تملك من الوسائل ما يؤهلها لذلك، نظرا لعدم خضوعها لقانون التطور التاريخي الذي مرت به الإقتصاديات الغربية، ولذلك فلا مناص من استعمال كل الطرق لمراكمة الأموال ولو بطرق غير شرعية كنهب خيرات وثروات شعوبها المستضعفة، إلا أن الفرق هو أن شره مراكمة الأموال في الغرب كان دافعه داخليا أي مرتبط بالأوضاع الداخلية للمجتمعات الغربية وتمليه أيضا مرحلة الحاجة التي تعيشها المجتمعات الغربية آنذاك، في حين أن الدافع لمراكمة المال في المجتمعات النامية هو عامل خارجي مرتبط بالرغبة في مجاراة الاقتصاديات الكبرى وتميله أيضا الرغبة في دخول مرحلة الرفاه المفروض عليها قسرا.
لذلك فالمتحكمون في الإقتصاديات الوطنية سيعملون بطرق غير مشروعة لمراكمة رؤوس الأموال، وهذا مظهر من مظاهر بروز ظاهرة الفساد في المجتمعات النامية على الخصوص وهو بالنسبة لها عامل أساسي، وبذلك فالمتحكمون سيلجئون إلى الفساد لأجل تحقيق تلك الأغراض، ومن ثم فهم فاسدين ومفسدين عاملين على نشر وتعميم ثقافة الفساد في المجتمع حتى يصبح المجتمع فاسد ومفسدا تحت الطلب بكونه فاسدا ومفسدا (هذا هو الشعار الكبير للدولة الأمنية، مجلة النور، عدد 151، دجنبر 2003)، ومن ثم تغدو ثقافة الفساد هي السائدة في المجتمع، لأن هذه الفئة ليس من مصلحتها صلاح المجتمع الذي سيقف ضدا على مصالحها.
كما أن مظاهر الفساد قد تتجاوز المجال الاقتصادي لتصل أحيانا إلى مستوى القمع و ربما القتل و الإعدام كما وقع للثائر النيجيري كين سارو-ويواken Saro-Wiya الذي تزعم حركة انفصال منطقة أوغونيلاند الغنية بالنفط عن نيجيريا و كذا مطالبته شركة شال الهولندية الأصل بتعويضات عن الأضرار التي ألحقتها بالبيئة، فكان جزاؤه الإعدام في محاكمة اعتبرت خرقا للمعاير الدولية في المحاكمة العادلة (إن 80 في المائة من الدخل الذي تأتي به شركات النفط العاملة في نيجيريا يظل فيها، لكن الأقلية الحاكمة القليلة العدد هي التي تستفيد منه؛ نورينا هيرتس،"السيطرة الصامتة، الرأسمالية العالمية و موت الديمقراطية"، ، سلسلة عالم المعرفة،عدد 336، 2007،).
إن العولمة تسعى إلى أن تعيش شعوب العالم على نمط معين من الحياة الغربية، لكن ليس كمجتمعات مصنعة بل كمجتمعات مستهلكة تخضع لضابط العلاقات الاستهلاكية اللامنتجة (الطيب تيزيني: "فصول في الفكر السياسي العربي") الذي سيعجز عن اختراق و تدمير بنيات التخلف في المجتمعات النامية التي لازالت تتوفر على بنيات مقاومة و قادرة على التعايش مع أنماط اقتصادية مختلفة. إن الأمر يعني إذن الإنتقال بهذه المجتمعات - التي يعيش معظم سكانها على مطالب الضرورة- إلى مجتمعات تطالب بالرفاه، لكنه شكلي سيعمل على استنزاف ثرواتها و تدمير مجالها البيئي و تراثها أي ذاكرتها التاريخية ويجعلها بالتالي في حالة تبعية دائمة للغرب (نقل العدوى وإحتكار الدواء)، وهذا ما يلاحظ في المجتمع المغربي كنموذج، إذ إن الدولة والمجتمع يسعيان إلى العيش حياة الرفاه والكمال، في حين أن الدولة والمجتمع لم يحققا بعد كل ضرورياتهما فكيف بالكماليات.
إن خطورة الصورة الإعلانية اليوم هو أنها تجاوزت مرحلة تشكيل عقل ووعي الفرد / المستهلك إلى مرحلة صناعة وهندسة الفرد / المستهلك وفق المقاس كما تصنع البضائع داخل معامل الإنتاج. فرد بلا طموح، بلا ضمير ولا إرادة حرة، بلا وعي ولا إبداع، فقط فرد مستسلم للأمر الواقع، وأسمى هدف هو تحقيق الحاجيات الغريزية لديه.
والنتيجة من كل ما سبق إذن هي التخلف وإعادة إنتاجه بما يصاحبه من فساد ممتد زمانيا، مكانيا، عموديا وأفقيا. نظرا لأن أي مجتمع لم يخضع لقانون التطور وللسيرورة التاريخية ولقانون التراكمات الكمية والكيفية لا يمكنه بأي حال أن يعيش الحياة الكريمة كما ينبغي أن تكون.



#عبد_الغني_بامو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية إستقلالية القرارات المالية و الإقتصادية بالمغرب


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الغني بامو - العولمة والفساد:علاقة تبني أم علاقة إفراز؟