أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - بين أبي و إبني















المزيد.....

بين أبي و إبني


هيثم بن محمد شطورو

الحوار المتمدن-العدد: 5062 - 2016 / 2 / 1 - 07:19
المحور: الادب والفن
    


حين قال صديقي "انيس مجاهد" مدرس اللغة الفرنسية عن ابني "هاشم" الذي بلغ سن السابعة في منـتصف شهر جانفي، انه وجودي، لم آخذ وصفه بجدية، اي بالمضمون العميق الذي تحمله الكلمة، ذاك اننا معــشر المثـقـفين نـتعاطى بمثل هذه المصطلحات الفلسفية و العلمية في وصف ما حولنا و التي عادة ما لا تـتـناسب فعليا مع ما نصفه، اذا أخذنا مسألة المفاهيم بجدية، اي ارجاعها الى مضامينها في سياقاتها الاصلية.على كل،فأقصى ما اخذتـه من وصف صديقي لابني هو الوصف الظاهر. حين كان جالسا على الحائط القصير الذي يحد مقهى النصر عن رصيف الشارع في ساقية الزيت. كان جالسا في حالة تأمل و تـفكير. قال انيس انه وجودي.
لم يخطر على بالي ان مشكلة الموت ستـشـغله كثيرا. كان من المفترض ان افترض ذلك. فأبي كان حاضرا بقوة في حياة ابني "هاشم". يلتـقيه يوميا عـديد المرات. حين كان يقود سيارته "البيجو" خضراء اللون قبل ان يقعـده المرض الغادر، كان ابني يترقبه من زاوية بلكونة بيتي الذي يعلو بيت ابي و المشرفة على الشارع. حين يرى السيارة يصيح:
ـ بابي جاء..بابي جاء..
في عـديد المرات كان ابي يـفاجئه بعلبة شكلاطة سوداء من النوع الفاخر. كان يعطيه النقود يوميا. كان يصيح عليه احيانا. و في فترة مرض ابي كان ابني "هاشم" يتابع احداثيات مرض جده اكثر مني.
كان هاشم يحرص على زيارته في المستـشفى. يسأل عن كل شيء، عن مجرى البول الاصطناعي، عن الدواء الذي يتم ضخه في البدن عن طريق تلك الخراطيم البيضاء الضيقة الشفافة. يتابع الطفل دقائق الامور و يسأل أبي عن أوجاعه و كان أبي يجيـبه تارة بهدوء و اخرى يعرض عنه حين يثـقـل عليه بالأسئلة. حين كان يغادر المستـشفى الى البيت كان يوما بمثابة عيد عند ابني "هاشم". يعتـقد ان المرض انـتهى و يسأل أبي عن السيارة و يقول انه سيخرج معه الى المقهى. يـبتسم أبي احيانا و يتـنهد احيانا اخرى.
سألني "هاشم":
ـ ماذا يعني مات؟
تساءلت فيما بيني و ما بين نفـسي عن اي اجابة أزج بها في ذهنيته؟ اي اجابة لا تلوث اسس وعيه و تعطيه في نفـس الوقت شيئا من المعـقولية و الطمأنينة. قـلت:
ـ يعني انه رحل. سافر الى عالم آخر.
ما بيني و ما بين نفسي اتساءل عن مدى معقولية ما نفـثـته من فمي كثعبان اسطوري. الاب في نهاية الامر اما ان يكون ثعبانا يسمم ابنائه و اما ان يكون ترياقا. مشكلتي كيف أحصن ابني من ان لا يكون "داعشيا". بين الترياق و الثعبان كنت اتراقص في داخلي دون اي يقين حقيقي عن موضعي الفعلي في ذهنية ابني و تطور وعيه القادم.
بعدما انزلنا الجثة من سيارة الاسعاف و طرحناها على فراشه في غرفته، وقف "هاشم" امامها طويلا. سالني:
ـ كيف سافر و هو هنا؟
اوف. السؤال يملك شرعيته التامة. السؤال هو وحده الحقيقي، اما الاجابة فليس من اجابة واحدة في كل الاحوال. لماذا أقيد نفـسي بإجابة لا املكها فعليا اي لست مقـتـنعا بها مطلقا او بدرجات؟ فابن الاربعين هو على نفس المسافة مع ابن السابعة. في الحقيقة ليس من حقيقة إلا السؤال. ماذا يعني مات؟
و طبعا، طريقة التـفكير التي تعودنا عليها لقرون هي رفع التـناقض او الثالث المرفوع الارسطي. لذلك كان من الطبيعي ان أحرص على ان لا أناقض نفسي. قلت:
ـ روحه هي التي سافرت.
ـ سافرت لوحدها؟
ـ نعم.
ـ ما هي الروح؟
اوف. الموقـف المحرج يتـكـثـف اكثر فأكثر و الاجابات العائمة تـتحول الى أبخرة من الماء لتستحيل سحبا. اني اتدحرج في واقعة ايجاد الاجابات الضرورية غير المقـنعة و لكنها تبدو هي الوحيدة منطقية حسب السلم الصاعـد من الارض الى السماء في اذهانـنا. السؤال الذي تبادر الى ذهني هو عن مدى قناعة البشر بهذه الاجابات الضرورية لمواصلة العيش بمن فيهم اكثرهم تدينا. لو كان الموت فعلا مجرد سفر فلماذا هذه الاحزان و لماذا هذا الخوف منه؟
ـ الروح يا بني هي نحن. هي مشاعـرنا و افكارنا. هي انا. حين تـقول انا. حين يموت الجسم يـبقى الأنا. الاسم، الفكرة، المشاعر، الذكريات، الأفكار الاعمال التي تـنفع الناس. كل تلك الاشياء نسميها روح الانسان. انها تسافر الى عالم آخر اجمل. الى عالم الارواح.
ـ يعني بابي يشوفنا توا ؟
"ايه". اجابة قاطعة مطلوبة حسب المنطق الارسطي لإنهاء سيلان الاسئلة الجارف التي ليس باستطاعته التفكير فيها بمعاول الهدم التي لدي.
اثناء الدفن أصر هاشم على حضور الجنازة. وقف امام الحفرة. تابع عملية الدفن عن قرب. ارادوا ابعاده إلا انه أصر اما انا فتركته يواجه الموت كطريقة امثل من جعله يخافه. رهاب الموت هو اصل الداعشية و مرتكزها في العـقـل الباطن. تابع رمي الكتل الاسمنـتية للقبر ثم قال لي:
ـ بابي ماقاش نشوفوه؟ هو يشوفنا و احنا ما نشوفوه؟
أومأت براسي مجيـبا اياه. بعدها بأسابيع يطلب مني ان نزور قبر ابي. اصطحبته الى القبر مرتين. كان يسال و يسال. عن القبور الأخرى عن "قبر ام بابي و بو بابي". قرأت سورة الفاتحة امام قبر ابي. يسألني عن القبور الاخرى لأعمامي و اخوالي و جدودي. اي معقولية في حياة تعطينا دفئ كل هؤلاء ثم تسحبهم منا واحدا فواحدا و كأن حياتـنا تـتحول الى انسحابات متـتالية لأناس احببناهم و تعلقت بهم شغاف قلوبنا. أجبته ان قراءة الفاتحة امام ابي هي لهم جميعا. قلت:
ـ ان لقاء الارواح سهل جدا. يستمعون الى بعضهم دون كلام، و يرون انفسهم دون عيون، و الفاتحة التي قرأتها لأبي و انتويتها للجميع تسري رحمتها منه اليهم. عالمهم خال من كل حدود لأنه دون أبدان.
ـ البدن يقعـد في القبر هوآشي.
ضممته بحرارة. استرسلت في الكلام الذي تدفق من قلبي بدفء جميل و سباحة معطرة بانسام الربيع في خيال جميل رائع.
اصطحب ابني معي الى مقهى النصر احيانا. آخر مرة حين عودتـنا على اقدامنا الى البيت كان القمر منيرا في السماء. قال "هاشم":
ـ بابي هناك يرانا. هل يرانا؟
ـ نعم يرانا.
مرت ثلاثة اشهر على وفاة ابي و ابني لا يزال يستـذكره يوميا. يفكر في الموت يوميا. يتدرب على التـفكير و قررت ان لا اغتصبه ذهنيا في الاجابات و انما اصبحت اصمت امام اجاباته المختلفة و المتـناقضة منطقيا و لكنها تحاكي وجودنا المتناقض.
آخر مرة كان بالأمس في حديقة منزل ابي. كان صحبة ابنة عمه "بيه" ذات الثلاث سنوات. يقول لها:
ـ هل تريدين رؤية "بابي"؟
ثم يأخذ حفنة من التراب في كفه و يقول:
ـ هذا هو بابي. بوسو
تـقبل "بيه" كفه و هي تضحك و هو الآخر يضحك ثم يرجع التراب الى الموقع الذي جرفه منه و يقول:
ـ ذهب بابي. لم يعد بابي هنا. انتهى بابي.
دون ان يدري، نطق بنظرية كوننا ترابا نعود الى التراب. صدق صديقي انيس فعلا. نظرته الى الولد ثاقبة. ابني بطل وجودي بامتياز. تراب تـنـفخ فيه صورة الحياة، فإنسان يفكر و يشعر و يناضل و يقاوم و يحب و يقدم مثالا في المحبة و التضحية و النضال و المعرفة و الفكر في تطوره ثم يعود الى التراب. من العدم الى العدم.ما الحياة الا صورة. خيال في خيال مثلما ذكر شيخ المتصوفة "محيي الدين ابن عربي". فالحياة ليست إلا وهجا روحيا، وقدة ضوئية روحية مادتها الارضية من العدم الى العدم. العدم بما هو الانهائي. هل يمكننا تعداد حبات التراب؟



#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين -غاندي- و -شكري بالعيد-
- المحبة من مهب الثورة
- الأفق التونسي المراوغ
- سؤال بناء الوعي في عالم متحرك
- الطائر التونسي المسلوخ
- الفردوس و الديناصور
- الروح في عالم الزبالة
- انقضاء السنة الداعشية
- تموت الحرية حين لا تقرع اجراسها باستمرار.
- ما أنا إلا أبي
- الجمالي السياسي التونسي
- من رعود -شكري بالعيد- الى سيدني
- بين الدائرة الجهنمية و المائية عالميا و عربيا
- القيامة السعودية
- برامجنا تعليمية ام تجهيلية
- لمن تبكي سيدي الرئيس؟
- في مواجهة اوكار الارهاب الممتدة
- اسقاط المقاتلة الروسية في تونس
- ما وراء احداث باريس
- عمال صفاقس يؤكدون الثورة


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - بين أبي و إبني