أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - الخطابات الأخرويّة المضادة في القرآن وفي السنهدرين















المزيد.....



الخطابات الأخرويّة المضادة في القرآن وفي السنهدرين


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 5060 - 2016 / 1 / 30 - 20:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الخطابات الأخرويّة المضادة في القرآن وفي السنهدرين
ملاحظات حول أشكال الجدل القرآني

تأليف:
الدكتور مهدي عزيز
أستاذ الدراسات الإسلامية
كليّة اللاهوت والدراسات الدينية – لوفين بلجيكا
ترجمة:
بشير ماشطة وعلي بن رجب

مراجعة وتصحيح:
ناصر بن رجب

مقدمة
تعرّضت جين إدلمان سميث وإيفون يزبك حدّاد في كتابهما عن الفهم الإسلامي للموت والبعث إلى موضوع الآخرة في القرآن حيث كتبتا: «الكُفرُ، والإنكارُ، والإستهزاءُ -تلك هي الأوصاف التي وصف بها القرآن ردّ أهل مكّة على الرّسالة التي جاء بها محمّد بخصوص يوم القيامة والحساب» . صحيح أن هذا الرفض للقبول بوجود حياة بعد الموت وضعه القرآن نفسه على خشبة المسرح وأخرجه بدون مواربة بالصورة – والصوت . وهكذا، ومن خلال خطاب منقول عن الخصوم حول فكرة قيام الساعة، يستعمل القرآن شكلا أدبيا سهلاً ومحدَّد المعالم والذي نُعبِّر عنه بـ «الخطاب الأخروي المضاد» ونقصد من وراء هذا التعبير وجودَ خطاب منقول عن الخصوم أو خطاب يعترض على كل امكانية وجود حياة بعد الموت أو يُفنِّدها. ونسوق هنا مثالين يوضحان مَقولتَنا. أوَّلُ خطاب مضادٍّ في القرآن نجده، حسب ترتيب السُّور في المصحف، في سورة البقرة الآية 8: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ».

بالإضافة الى كونه خطاباً منقولاً أو خطاباً مضادًّا فهو كذلك خطاب أُخروي باعتبار أنّه يلمِّح ليوم البعث (يوم القيامة). أمَّا المثال الثاني الذي نسوقه في هذا المعنى فإنّنا نجده في سورة النازعات الآية 42: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا». هذه الآية هي حقيقةً خطابٌ مضاد ذو موضوعٍ أُخروي لأنّه يشير إلى السَّاعة باعتبارها علامة من علامات الأبد الدّائم*. ويُعدُّ هذا آخرُ خطابٍ أخروي مضاد في القرآن.

لكن هذا الشكل الأدبي ليس مُستحدَثًا. إذ نلاحظ أيضا وجود هذا الاستعمال في كتاب تَلْمودي: السنهدرين. وسيكون هذا التلازم في الخطابات المضادة للبعث في القرآن والتلمود هو موضوع هذه المقالة. وهكذا في مرحلة أولى ستكون غايتي هي الإحاطة بكامل مادة الخطاب الأخروي المضاد في القرآن بُغيةَ تصنيفه. وسأسعى انطلاقا من تناولي هذه المادة لاقْتراحِ مُقاربتين متكاملتين. الأولى ستكون تحليلاً داخلَ القرآن وداخل التلمود يتحسّس أشكالَ، وبِنْيات، ومواضيع هذه الخطابات المضادة. أما المقاربة الثانية فستكون تحليلا خارجيًّا أو تحليلا مقارناً ومنهجيًّا. وسينتهي هذا العمل المقارن بتوضيح خصوصيات الخطابات الأخرويّة المضادة في القرآن وكذلك هُويَّة المُعْرِضين المُحتَمَلة التي تنطوي عليها هذه الخطابات المضادة.

مجموع آيات الخطاب الأخروي المضاد في القرآن
سنُعرِّف الخطاب المضاد للآخرة كمجموعة من الآيات التي يتدرج فيها خطاب منقول مباشر عبَّر عنه خُصومٌ (حقيقيون أو وهميون) وموضوعه الآخرة. فيكون التعريف إذًا على الشكل التالي: «الخطاب الأخروي المنقول المباشر». وفقًا لهذا التعريف يمكن تحديد الآيات القرآنية المُطابِقة له على النحو التالي:
2/8، 80، 111؛ 3/24؛ 6/29؛ 7/187؛ 10/53 ،48؛ 11/7، 8؛ 13/5؛ 16/38؛ 17/49، 51، 98؛ 19/66؛ 21/38؛ 23/82، 83؛ 27/67، 68، 71؛ 32/10، 28؛ 34/3، 7، 8، 29؛ 36/48، 78؛ 37/15، 16، 17؛ 41/50؛ 44/34، 35، 36؛ 45/24، 25، 32؛ 46/17؛ 50/2، 3؛ 51/12؛ 56/47، 48؛ 67/25؛ 75/6؛ 79/10، 11، 12، 42. وإذا اعتمدنا الترتيب الزمني الذي اقترحه نولدكه وشفالي فإن الخطاب الأخروي المضاد يكون موزَّعًا على النحو التالي: الفترة المكية الأولى تحصل على 7 آيات مُوزّعَة على 4 سور (79/10، 11، 12، 42؛ 75/6؛ 51، 12؛ 56/48)؛ الفترة المكية الثانية تجمع 21 آية موجودة في 10 سور (37/15، 16، 17؛ 44/34، 35، 36؛ 50/2، 3؛ 19/66؛ 36/48، 78؛ 67/25؛ 23/82، 83؛ 21/38؛ 17/49، 51، 98؛ 27/67، 68، 71)؛ الفترة المكية الثالثة وتضم 19 آية ضمن 11 سورة (32/10، 28؛ 41/50؛ 45/24، 25، 32؛ 16/7، 8؛ 10/48، 53؛ 34/3، 7، 8، 29؛ 7/187؛ 46/17؛ 6/29؛ 13/5). وأخيراً، فإنّ الفترة المدنِّية تَجمع 4 آيات ضمن سورتين (2/8، 80؛ 3/24). إنّ الخطاب الأخروي المضاد، الموجود في 26 سورة، يشتمل على 52 آية، أي بنسبة 0,83% من إجمالي آيات القرآن كلِّها. وهو يمثِّل 19,25% من مجموع الخطابات المضادة، وهي نسبة مطابقة تقريبا لنسبة «الخطابات المضادة للقرآن» . وهكذا يظهر الخطاب المضاد الأخروي على أنّه الموضوع الرابع الأكثر تداولا والأكثر أهمية من بين كلّ خطابات المعارضين المنقولة .

مواضيع الخطاب الأخروي المضاد في القرآن
يعرض الخطاب المضاد من خلال 52 آية ثلاثة مباحث منفصلة: انبعاث الأجساد، قيام الساعة، والحساب.

انبعاث الأجساد يجمع 32 آية تتوزع على 16 موعظة تدلّ كلها على ما يسمح بإدراك كيف يفهم الخصوم فكرة انبعاث الأجساد وكيف يتصرّفون تُجاهها. أما بالنسبة للخصم الذي يتحدث انطلاقا من الخطاب المضاد فإنّ الأمر يتعلّق قبل كلّ شيء بعقيدة تأخذ شكل وَعدٍ: «لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا...» (27/68؛ 46/17). لكن هذا الوعد لا يمثِّل سوى «حكاية بالية» (بالمعنى التحقيري للخرافة) «إإِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ» (27/68). تقتضي هذه العقيدة الترويج لمواعظ أخرى (وهي كثيرة) تُشكِّل وصْلَة تحتوي على ثلاثة مواضيع متتالية. الأجساد الميتة محكوم عليها أن تصير غبارًا وعظامًا نخرة: «أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا» (79/10؛ 56/47؛ 37/16؛ 36/78؛ 23/82؛ 17/49، 98). وعندما تُبعَث هذه الأجساد من قبورها «أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟» (27/67) فإنّها تُرفَع من حياة أولى لتُصبِحَ «خَلْقًا جَدِيدًا» (17/49،98 ؛32/10 ؛34/7 ؛13/5 ؛36/78)؛ ولا يخص هذا الخلق الجديد الخصوم فقط بل آباءهم أيضا «أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ» (23/83؛ 27/68؛ 37/17؛ 44/17؛ 46/17؛ 56/48). يجب أن نستخلص من العناصر السابقة أنّ المُعرِض يدرك كامل الإدراك تَبِعات مثل هذه العقيدة.

أمّا الساعة الأخرويّة، وبحكم قلّة ذكرها في القرآن، فهي تضمّ فقط 15 آية. من خلال الخطابات المضادة التي، بفعل التكرار، تستعيد المفاهيم القرآنيّة لكي تُفنِّدها بسهولة، فإنّ هذه «اللّحظة» تُحدَّد على أنّها «يَوْمٌ» يُنْعَت بـ «يوم القِّيامَة» (75/6)، وبـ «يوم الدِّينِ» (51/12)، وبـ «يوم الفَتْح» (32/28، 29). والموضوع المركزي يُختزل في فكرة متكرِّرة يُمكن اختصارها في تساؤل بسيط «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ؟» وبعبارة أخرى: متى سيقع البعث والحساب الموعودَيْن؟ والتساؤل الذي يُثار أكثر ودائما بنفس الطريقة تقريبا هو: «مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (10/48؛ 21/38؛ 27/71؛ 34/39؛ 36/48؛ 67/25). تجدر الإشارة أيضا إلى وجود تعبيرَين يدحضان دحضا قاطعا احتمال مجيء اللحظة الأخرويّة على الرغم من أنّهما لا يتَّخذان شكل تساؤل. وهكذا يمكن أن نقرأ: «مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ»، أو العبارة المقتضبة التالية: «لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ».

المسألة الثالثة، الحساب الأخروي، لا تشتمل إلا على 5 آيات . والنقاش يتركّز فيها قبل كل شيء على مدّة العقاب الذي ينتظر أصحاب الجحيم: «لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ» (2/80 ؛3/24). من جهة أخرى، هناك حديث عن هوية الأشخاص الذين سيدخلون الجنة: «لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى» (2/111). والثواب هو أيضا مَصدَر عداءٍ تجاه المُخَاطَب القرآني (المُتلقِّي الأوَّل للقرآن) الذي يقع في آنٍ واحد تحدِّيه وشَتْمُه. يقع تحدِّيه عندما يطالبه المُعْرِض بأن يُسرِّع بمجيء السَّاعة: «مَا يَحْبِسُهُ» (11/8). والشَّتم يقع عندما يَصِف المُعرِض المُخاطَب القرآني بالجنون: «أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ» (34/8).

أشكال وبنى الخطاب الأخروي المضاد
تتهيكل الخطابات المضادة الأخروية، على مستوى الآيات، حسب ثلاثة أصناف من الأقوال. الصنف الأوّل من الأقوال هو الجزء التمهيدي المُنبسِط نوعًا مّا والذي يسبق فعل التقديم (أي الفعل الذي يُمكِّن من نقل الكلام): فالأمر يتعلّق بـ «الخطاب الأخروي المضاد الناقل التقديمي». أما الصنف الثاني منها فهو، بالمعنى الحصري، الخطاب المنقول أو «الخطاب الأخروي المضاد المنقول المباشِر» والصنف الثالث والأخير هو ذاك الّذي يأتي بعد الخطاب المضاد المنقول وهو إذْ يُفسِّرُه يقوم بدَحْضه. ونشير إليه بعبارة «الخطاب الأخروي المضاد النّاقل للرّد» . وحتى نتمكن من توضيح هذا العرض، لنأْخُذ من جديد المثال الأول للخطاب الأخروي في القرآن الذي ورد في سورة البقرة، الآية 8: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ». تتركَّب الآية هنا من خطاب أخروي مضاد ناقل تقديمي: («وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ») يتبعه خطابٌ أخروي مضاد منقولٌ مباشر («آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ»)؛ وأخيرًا، خطابٌ أخروي مضاد ناقل للرّد («وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ»).

لننظر الآن في هذه الأنماط الثلاثة للأقوال وتنوُّعاتها الشكليّة مُرَكِّزين الاهتمام حصرًا على الثلاث والثلاثين آية المتعلقة ببعث الأجساد. فالخطابات الأخروية المضادة التقديميّة تمثِّل، بحُكم تعريفها، الجزء التقديمي المُتبسِّط نوعًا ما ويأتي قبل فعل التقديم. تتوزّع هذه المقولات التقديميّة على ثلاثة أصناف: الأشكال البسيطة، والأشكال المتوسِّطة (أو شبه المعقَّدة) والأشكال المعقَّدة. تتميز الأشكال البسيطة بالوجود الوحيد لفعل التقديم مصحوباً بضمائر متّصلة. في إطار الخطابات المضادة وحدها حول بعث الأجساد يمكننا إحصاء 5 آيات . وكمثال لذلك، فإنّ الآية 29 من سورة الأنعام تستعمل فقط وجود فعل التقديم «وَقَالُوا» لكي تُدخِل الخطاب الأخروي المضاد المنقول المباشر. وتبدو أشكالها المتطابقة جليّةً للعيان من خلال الغياب الدّائم لتسميّة المُعرِض بكلّ وضوح. أما الشكل الثاني المُسمّى «متوسط» فهو أكثر الأشكال من حيث الكَم ، ويُبنى حول جُملٍ تتجاوز مجرّد إيراد فعل التقديم «قَالَ». ويمكن أن نجد فيه أسماء (النَّاس) ، أو تسميات تحقيريّة (الكافرون) التي تُستعمَل في وصف الخصوم الذين هم مصدر الخطاب المنقول. أخيرا، الشكل الثالث، المسمّى «معقَّد»، فهو يخص آيتين تتفرّدان إمَّا بطولهما أو بوجود جملتين تقديميّتين داخل نفس الآية .

الأجزاء التقديميّة تتبعها أقوال منقولة أو خطاباتٌ مضادةٌ منقولةٌ مباشرة. وهذه الخطابات، إذا ما نظرنا فيها من زاوية البرهنة، فإنّها تتطابق مع ثلاثة أشكال مختلفة: الدَّحْض الاستفهامي، الدّحض التقريري أو الاستدلالي والدّحض الحِجاجي المضادّ.

الدَّحْض الاستفهامي، الأكثر استعمالًا هو، مثلما يدلّ عليه اسمه، قول استفهامي يُشبِه الاعتراض، ويمكن تعريفه كـ «تعبير لاعتراضٍ بُرهاني من نوع الدّحض عن طريق حجة واهية، ولكنّه دحض أكثر حَصرًا، وأقلّ جذريّة: فالاعتراض هنا يعني العرقلة (إقامة عقبات) ». ونقرأ في الآية 49 من سورة الإسراء مِثالا جيّدا لِمَا يتعلّق بداهةً بدحض استفهامي. وهكذا فالخطاب المضاد «أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا»، وإنْ كان دحضًا، فهو يستدعي، بحكم صيغته الاستفهاميّة، إجابةً تحافظ على شبه تواصل مع الخصم. وهذا ما لا نجده في حالة الدحض التقريري.

الدّحض التقريري أو الدّحض الاستدلالي يأتي في الحقيقة ليُثْبِت موقفًا أو عقيدة، وفي نفس الوقت يرفض الموقف أو العقيدة التي يُدافع عنها القرآن. فالأمر لم يعُد يتعلق بالإعتراض أو التساؤل بل بِنَقْد الشّيء المرفوض. فهو قد يتعلّق إمّا ببرهان يقدح في الشخص مباشرة، دون الإلتفات إلى الدعوى الـمطروحة، وذلك من أجل الحطّ من شأن حامل الرسالة الأخرويّة «أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟» (34/8)، أو أيضًا لكي يصِف الدعوة إلى الإيمان بالآخرة ويُماثلتها بالسحر: «إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ» (37/15) .

وفي الأخير فإنّ الدّحض أو الحِجاج المضاد لا يستهدف فقط نَقدَ المسألة المرفوضة، لكن أيضا مُقارعتها بالحجة لإضعافها. ومثال ذلك الخطاب المضاد التّالي: «ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (45/25) .

أشكال ومواضيع الرّد على الخطاب الأخروي المضاد
إنّ الرّد أو الخطاب المضاد الناقل للرّد القرآني يأتي مباشرة بعد الخطاب الأخروي المضاد المنقول المباشر. وهو قول أين يتدخل المتكلم أو يُعدِّل فيه خطاب الخصم بهدف دحضه. فإذا كان الرّد مُمَنْهَجًا فغالبا لا نجد له أثرا في الآية حيث يوجد الخطاب المضاد . لكن في الحالة العكسيّة، ودائما في منظور يرتبط بالبعد الحجاجي لهذه الأقوال، فإنّ هذا الرّد يمكنه أن يتخذ خمسة أشكال مختلفة: الخَبر، أو الاستفهام لغير الاستفهام، أو الأمر، أو الحَمْد أو أيضا ما َورَاء النَصّ Métatexte.

الخَبر: هو فعلاً إقرار (في المنظور القرآني) وظيفته الأولى معارضة وإبطال الخطاب المضاد. وكضَرْب من ضروب «الخطاب المضاد» فهو يحمل تَصوُّرًا للعالَم يُدافِع عنه المتكلِّم القرآني الذي يسعى أساسا إلى تعظيم الذّات الإلهيّة. في هذه الحال يمكننا الجزمُ بأن كل حضور لدَحْض ما، ومهما كان شكل تعبيره (إثبات أو تساؤل أو أمر) يشكِّل في حد ذاته خَبَرًا.

الاستفهام لغير الاستفهام: هو شكل تعرفه جيِّدًا أسفار الكتاب المقدّس ويتمثَّل في طرح سؤال (خاطئ) مع العلم كلّ العلم أنّ هذا السؤال لا يلتمس جوابًا. ولذلك فهو خَبرٌ مُقنَّع. والمثال على ذلك عندما يطرح الدّحض القرآني التساؤل التالي: «أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ» (6/30) فنَتبيَّن هكذا بسهولة أن الاستفهام لغير الاستفهام لا يستدعي أيّ جواب، بل يُخْبِر في الحقيقة عن صحة العقاب الإلهي كما جاء به القرآن.

الأمر: وهو الشكل المُعبِّر أكثر والأبرز من بين الردود القرآنيّة. والأمر يتعلّق باستعمال الفعل «قَالَ» في صيغة الأمر (قُلْ). وهو، في إطار القول القرآني، يضع فارقًا بين مُتكلِّم فاعِل (صاحب الأمر) ومُخاطَب (مُتَلقِّي الأمر) الذي هو المُتلقّي الأوّل لا غير، ومتلقّي ثاني (المُستمِع أو القارئ، الذي هو نفسه مُتلقِّي للعلاقة مُخاطِب/مُخاطَب). دائما في إطار الخطاب المضاد لبعث الأجساد فإنّنا نُحصي تسع حالات يخاطب فيها المتكلِّم القرآني المُتلقِّي يأمره بالرّد على تفنيدات هؤلاء الخصوم. والدحض الذي يُقدِّمه هذا الأمر يحشد من ناحية أخرى صيغتين، صيغة التساؤل وصيغة الحمد .

الحمد: وهو عبارة عن صيغ ليتورجيّة تُستعمَل للتمجيد أو التسبيح . فإذا كان استعمال الخطاب المنقول يهدف لدعم ذات الله القاهرة، فإن الصيغ اللِّيتورجية كأشكال خاصة للخطاب القرآني تستجيب بوضوح لنفس الهدف ولكن مع خاصية حاسمة: الإنشائيّة . ونقصد بهذه العبارة في هذه الحالة أنه بحكم أنّ فعل الحمد «لا يمكن تحليله من منظور يُفيد الخبر [...]» ولكن ينبغي تحليله كفعلٍ مُكوِّن لعمَلٍ «ليس مجرّد تفسير لفظي لعملٍ قد يكون خارجَه، بل هو بذاته وفي حد ذاته عمل» . وهكذا، فإنّ الحمد يلعب دورا استراتيجيًّا في الحِجاج القرآني لأنّه «يُنتِج الحقيقة الخِطابية والخَطابة الحقيقيّة» .

ما وراء النّص: يتعلّق الأمر بخطاب على الخطاب. وهو يُدعى كذلك ما وراء الخطاب ، وهو «يهدف إلى بناء صورته (صورة الإله القرآني)، بصفته كمؤلِّف راوٍ للرسالة المُنزَّلة وفي الآن نفسه كمصْدَرٍ وخالِقٍ للكون ». وهكذا، فإنّ المتكلِّم له «كامل الحرية للتدخُّل، وتجاوز الحدود، وإخراج النقاش من سياقه، وإعادة توجيه المعركة» . ونذكر على سبيل المثال الإشارة إلى القرآن في شكلٍ ما وراء نصّي في المقتطف التالي: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ» (45/25).

أخيرا، وفي إطار موضوع بعث الأجساد، فإنّ الردود القرآنيّة، التي تَعَرَّفنا عليها إثْر خطابات مضادّة، تطرح المواضيع التالية: المعارضة الجذرية تُجاه المعارضين «وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» (2/8)؛ (وكذلك في الآيات 2/80؛ 3/24؛ 13/5؛ 32/10؛ 45/24؛ 16/38)؛ والتذكير بالعقاب بعد الموت: «أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ» (11/8، أنظر كذلك الآيات 13/5؛ 34/8؛ 41/50)؛ وبقدرة الله الكلّية وعِلْمه: «أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» (2/80)، (وكذلك 7/187؛ و 10/53)؛ والتذكير بالله الخالق «الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (17/51)؛ الآخرة كوعد مؤكد من جديد «وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (16/38)؛ وكذلك لم يقع تجاهل التحدّي : «هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (2/111).
يؤكِّد التحليل السابق، الذي أُجْري في إطار المقاربة المسماة «بالباطنية»، خصوصيات الخطابات الأخرويّة المضادة الواردة في القرآن. لكن هذا الشكل الأدبي الأخير يظهر كذلك في كتاب السنهدرين. ما الذي يمكن إذًا أن نستقيه من مواجهة بين استعمالين لنفس الشكل الأدبي والجدلي؟ سنكتفي هنا بتسليط الضوء على النقاط البارزة التي تحدد إبداع هذه الخطابات الأخروية المضادة.

الخطابات الأخرويّة المضادة في تلمود السنهدرين
السنهدرين هو كتاب تلمودي، ومن إحدى خصائصه استعماله، على غرار القرآن، خطابات أخروية مضادة. تأتي هذه الخطابات المضادّة، التي ضُمَّت إلى تلمود بابل، في الفصل الأخير من السفر المُعَنْون «ח-;-ֵ-;-ל-;-ק-;-ֶ-;- (جُزْء)» وهذا النص، كما يُذكِّر ستينسالتز، يُقدِّم من بين ما يقدِّمه «المستقبل المجيد الماشياخي messianique، [...] مع وصف لتباشير الخلاص، الذي يجب أن ينفتح على عهد من السلم والسعادة والابتهاج الغامر للإنسانية قاطبة» . ففي هذا الجزء من النص التلمودي تتموضع سلسلة من الأسئلة والأجوبة التي لها علاقة ببعث الأجساد. نُحصي من بينها سبعة خطابات أخروية تلمودية مضادة موجودة في السنهدرين 90ب و91أ (مرقمة هنا من 1 إلى 7):

90ب: 1. المينيم (מ-;-י-;-נ-;-י-;-) يقولون «لاَ بَعْثَ (ת-;-ח-;-י-;-י-;-ת-;-) في التَّوراة (ה-;-ת-;-ו-;-ר-;-ה-;-)».
2. سأل المينيم (מ-;-י-;-נ-;-י-;-ן-;-) الرّابي جماليال (ג-;-מ-;-ל-;-י-;-) «مِنْ أين (מ-;-נ-;-י-;-י-;-ן-;-( نعلم أن القُدَّوس الأَوْحد المُمجَّد (ש-;-ה-;-ק-;-ד-;-ו-;-ש-;- ב-;-ר-;-ו-;-ך-;- ה-;-ו-;-א-;-) سيُحْيِي الموتى (מ-;-ח-;-י-;-ה-;- מ-;-ת-;-)؟».
3. سأل الروماني (ר-;-ו-;-מ-;-י-;-י-;-ם-;-) الرّابي يَهوشُوَع بن حَنيْناء (ש-;-ע-;- ב-;-ן-;- ח-;-נ-;-נ-;-י-;-ה-;-): «مِنْ أين (מ-;-נ-;-י-;-י-;-ן-;-( نَعْللم أن القدّوس الأوحد (ש-;-ה-;-ק-;-ב-;-) سوف يُحْيي الموتى (מ-;-ח-;-י-;-ה-;- מ-;-)؟ وأن المستقبل (ש-;-ע-;-ת-;-י-;-ד-;-) سيكون معلوما (...)؟».
4. سألت الملكة كليوباترا (ש-;-א-;-ל-;-ה-;- ק-;-ל-;-י-;-א-;-ו-;-פ-;-ט-;-ר-;-א-;- מ-;-ל-;-כ-;-ת-;-א-;-) الرّابي مئير (א-;-ת-;- מ-;-"ר-;-): «أَعْلَمُ (י-;-ד-;-ע-;-נ-;-א-;- ד-;-ח-;-י-;-י-;- ש-;-כ-;-ב-;-י-;-) [أنّ الأموات سيعودون إلى الحياة] (...)».
5. سأل قيصر (ק-;-י-;-ס-;-ר-;-) الرّابي غاماليل (ג-;-מ-;-ל-;-י-;-א-;-ל-;-): «تؤكد أن الأموات (ד-;-ש-;-כ-;-ב-;-י-;-) يعودون إلى الحياة (ח-;-י-;-י-;-)؛ ولكن كيف لمن أصبح تُرابًا (ו-;-ע-;-פ-;-ר-;-א-;-) أنْ يعود إلى الحياة (ח-;-י-;-י-;-)؟».
91أ:
6. سأل مين (מ-;-י-;-נ-;-א-;-) الرّابي عمّي (ל-;-ר-;-’ א-;-מ-;-י-;-): «إنَّك تؤكد أن الأموات (ד-;-ש-;-כ-;-ב-;-י-;-) يعودون إلى الحياة (ח-;-י-;-י-;-)؛ ولكن كيف لمن أصبح ترابا أن يعود إلى الحياة (ח-;-י-;-י-;-)؟».
7. قال مين(מ-;-י-;-נ-;-א-;-) للرّابي غَبيها بن بسيسا (ל-;-ג-;-ב-;-י-;-ה-;-א-;- ב-;-ן-;- פ-;-ס-;-י-;-): «وَيْحَك أيُّها الرجل الضعيف (ו-;-ו-;-י-;- ל-;-כ-;-ו-;-ן-;- ח-;-י-;-י-;-ב-;-י-;-)، كيف تؤكد أنّ الأموات سيعودون إلى الحياة (ד-;-א-;-מ-;-ר-;-י-;-ת-;-ו-;-ן-;- מ-;-י-;-ת-;-י-;- ל-;-א-;- ח-;-) (...)!».

تُعَرِّفُ هذه المقتطفات التلموديّة السبعة نفسها بأنّها كلّها خطابات أخروية مضادة. وهي تُقدِّم، على شكل خطاب منقول مباشر، أقوالَ خُصومٍ وهم يتساءلون، ويشكُّون أو يدحضون دحضا تامّا إمكانية بعث الأجساد. فلِنهتمَّ هنا بالجزئين اللّذيْن يُكوِّنان الخطابات المضادة هذه. لنأخُذْ إذن، في المقام الأوّل، بعين الاعتبار الخطابات المضادّة الناقلة التقديميّة في كتاب السنهدرين. نُحصي أربع شخصيّات رئيسيّة مختلفة وردت هنا، جمْعًا أو فردًا، وقد اخْتُزل دورها إلى دور فاعل مُتكلِّم مُسَمَّى: مين – مينيم (أربع تواترات)، الرّوماني (تواتر واحد)، الملكة كليوبترا (تواتر واحد)، وقيصر (تواتر واحد). ما عدا واحد، المُخاطَبون هم شخصيّات مرموقة في اليهوديّة الرّبينيّة الحاضرة في مُجمَل التلمود: غاماليل (تواتران)، يَهوشُوَع بن حَنيْناء، مئير، عمّي، غبيها بن بسيسا (تواتر واحد لكل واحد منهم). تأتي عقب هذه الخطابات الناقلة التقديميّة أربعة أنواع من الخطابات المضادّة التلمودية المنقولة مباشرة: الخطاب الأول دَحْضٌ مُفْحِم يتخذ أيضا، في مناسبتين، صيغة استفهام (90ب 1، 5 و91أ 6، 7)؛ الخطاب الثاني شَرْط (تنازل) (90ب 4)؛ الخطاب الثالث استفهام (90ب 2 و3). ينضوي موضوع هذه الخطابات المضادّة الثلاثة الأولى (90ب. 1، 2، 3) في نقاش حول تَبريرٍ مُمكن وبَيِّنَة كتابيّة لبعث الأجساد. أما التَّواتُرات الأربعة الأخرى فتتناول تحديدًا إمكانية بعث الأجساد وتُفضي إلى وضع مواقف الخصوم في عرْض يُراوِح بين تنازل مُشْفِق (90ب. 4) ورفض مُؤكَّد لا تنازل فيه (91ب. 7).


الخطابات المضادة القرآنية والتلمودية: التقاربات والاختلافات
بالارتكاز على هذه الخطابات المضادة التقديميّة وخطابات مضادّة (منقولة)، من الممكن ملاحظة ظاهرة بارزة وجوهريّة في الطبيعة ذاتها للخطابات المضادة القرآنية والتلمودية. من وجهة نظر شكليّة، الشيء الذي يجمع النّصين هو بالضّبط طبيعتهما الِحواريَّة وذلك بتوفير وضعية تبادل للكلام بين المتحاورين. ومن وجهة نظر المضمون، فإنّهما يشتركان أيضا في نفس الموضوع: بعث الأجساد. ولكن، ووَراءَ هذه التقاربات في الشكل والموضوع، فإنّ الاختلافات بين النصَّين هي بدون شكّ الأكثر بروزًا. وفي هذا الصدد، فإنّ الاختلافات البليغة تظهر بين المتحاورين، وبين الخطابات المضادة نفسها والرّدود التي تُحْدِثها. فلنَنْظر في هذه النقاط الثلاث الأخيرة تِباعًا.

أوّلاً، الشخصيات المتحاوِرة: ويُشار إليها، كما رأينا سابقا، بكلّ وضوح في التلمود رغم أن هذه الإشارة تبقى عارية من أيّ قيمة تاريخية. فـ «الرّوماني» و «الملكة كليوباترا» وكذلك «قيصر» هي تسميّات تُحيل على الأغلب إلى محيط نزاعات ضدّ الوثنية الاغريقية-اللاتينية. هنا، الشّخصيّات المُستَحضَرة تُظهِر أنّ «حاخامات التلمود في علاقتهم مع الغير يُسقِطون على "الآخر" بشكل طوباوي مُفرط انشغالاتهم الذَّاتيَّة، إذ أنّه بالنسبة إليهم لا يوجد إلاّ موضوع واحد جدير بالاهتمام: القانون وتداعياته (... العالم الذي سيأتي...)» . من ناحية أخرى عبارة «مين» (جمع «مينيم»)، التي تبقى إلى اليوم محلّ جدل، يمكن أن تشير إلى المسيحيين، أو الوثنيين، أو الزرادشتيين أو إلى المانَويّين» .

ثانيا: ما هي الحال مع الأسئلة أو التأكيدات المتضمَّنة في خطابات التلمود والقرآن المضادّة؟ يمكن تسجيل ملاحظتين رئيسيتين. الأولى تتعلّق بالتقاء صياغتين شبه متطابقتين: «تؤُكِّدُ أن الأموات (ד-;-ש-;-כ-;-ב-;-י-;-) يعودون إلى الحياة (ח-;-י-;-י-;-)؛ ولكن كيف لمن أصبح تُرابًا (ו-;-ע-;-פ-;-ר-;-א-;-) أنْ يعود إلى الحياة (ח-;-י-;-י-;-)؟». ويقولون: «أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَة؟» (37/16). والملاحظة الثانية تقوم على مواضيع وصياغات متعلقة بالبعث. في حالة التلمود، المنشود هو تبرير الحادثة الأخرويّة بواسطة تجذُّرِها الكتابي. فمهمّة التلمود هي أساسًا محاولة الإقناع بمجيء حادثة البعث فقط لأنّه منصوص عليها في التوراة. أما بالنسبة للقرآن فإنّ الرّد الأخروي يُلِحُّ أكثر على العقوبات التي سوف يتعرّض لها أولئك الذين يستهزؤون بالبعث.

ثالثا: الردود القرآنيّة والتلموديّة، الناتجة عن تأكيدات الخطاب المضاد، تشترك في القليل من النّقاط. ففي حين يُشدِّد الأول على إدانة المُعرِضين وعلى العقاب كجزاء وحيد لهم، يُجهِد نصّ السنهدرين نفسه أساسا لإقرار شرعيّة تعليم بعث الأجساد من خلال الإشارة إلى المقاطع الكتابيّة التي، حسب حكماء التلمود، تُبرِّر ذلك.

الخطابات الأخروية المضادة وهُويَّة خصوم القرآن
يحتوي هذا المسح المنهجي هنا للتقارب والاختلاف أَهميَّةً غير منتظرة. ففي الوقت الذي يبقى فيه القرآن أخْرَسًا فيما يتعلَّق بِهُويَّة خصومه، فإنّ التلمود يُحدِّد لنا شخصيات الخطابات المضادة المتحاوِرة. وكما رأينا، فإن الآية القرآنية (37/16) والتأكيد التلمودي (90ب. 5) هما مثالان بليغان لهذا الاختلاف. وانطلاقا من هذه المعاينة فإن استخدام تراكيب متلازِمة تجعل من الممكن مُطابَقَة خصوم القرآن مع شخصيّات تعيش خارج-نصّ وفي حالتنا هنا نصّ التلمود. وهكذا، فعندما يتكلّم القرآن عن معارضة فكرة البعث، فان المعارِض النَّكِرة يمكن أن ينتمي الى مجموعات الخصوم المُعرَّفين بشكل واضح في القرآن (يهود، نصارى، أعراب، قريش)، كما يمكنه أيضا، بحكم التّلازم في الشكل والموضوع بين الخطابين المضادّين القرآني والتلمودي، الإشارة إلى المحاورين الأربعة المختلفين، مجموعات أو فُرادى، الذين ذكرهم التلمود. ولذلك فإنّه بالإمكان التأكيد على أن الخطاب الأخروي المضاد يفتح النص القرآني على ما هو خارج عليه ويخلق بذلك «مكانًا» استراتيجيًّا تساهم في علاقة مع خارج-نصّ. في هذا المنظور، المُعارِض هو شخصية خيالية، مَوّارَة وعابرة للتّاريخ، هي مجموع كلِّ الشخصيات المُستحضَرَة داخل النص وخارجه. والظاهرة حقيقية بقدر ما تعتمد أيضا على الطابع اللّامكاني واللاّزماني décontextualisé للجدل في القرآن.

الخاتمة
يؤدي هذا العمل المقارن والمقترح هنا إلى ملاحظتين منهجيتين. أوّلا، مُقابلة الخطابات الأخروية المضادة بين القرآن والتلمود ترتكز على عناصر مقارنة مُحددةٍ موضوعيًّا. إن ما يجعل الربط في علاقة تناص قابلة للاعتماد ليس الانطلاق من موضوع محدد فحسب وإنما أيضا الشكل الأدبي المعادل. وفي هذه الحالة تصبح المقارنة أكثر شرعية والعلاقة بين النصّيْن أقل خضوعًا لحديث تقريبيّ عن تأثير غامض للتلمود على القرآن. ثانيا، ما زال المنهج المقارن حتّى اليوم يُخيِّر تحليل المواضيع المشتركة والعبارات المتطابقة أو أيضا الأنواع الأدبية منها أساسا السردية والإنشاديّة. ونأخذ كمثال مُؤلَّف أبرهام جيجر Abraham Geiger الأساسي والكلاسيكي . وفي تساؤل هذا الأخير عما يدين الإسلام به لليهودية اقترح مُساءَلَة الأفكار (Dem Judenthume angehö-;-rige und in den Koran übergegagne Gedanken) ثم القصص (Aus dem Judenthume aufgenommene Geschichte) التي من الممكن أن يكون القرآن قد تقاسمها مع الأدبيات الدينية الواسعة في التراث اليهودي (المدراش بشكل خاص). هذا العمل الأساسي تمّت مواصلته من قبل آرثر جيفري (Arthur Jeffery)، حسب طريقته الخاصة، التي حدد بمقتضاها قائمة لا تقل عن ثلاثمائة وست عشرة كلمة أجنبية في القرآن . وهكذا، فما هو مُحلَّل ومُقارَن هنا هي الكلمات والأفكار والقصص المشترَكة. أفلا يمكن إذن مواصلة هذا المنهج باقتراح مجابهة جديدة يقع تحسيسها هذه المرّة للأبعاد الجدلية للخطاب؟ كذلك، وفيما يخصّنا، فإنّ الاستطلاع يمكن أن يتمثّل في البحث داخل نصوص الأدب الديني والجِدالي الواسع للعصر القديم المتأخِّر عمّا يمكنه أن ينتسِب إلى الخطاب المضادة والرّد. وبصورة أكثر دقّة، يمكن أن يتعلّق الأمر بالتّساؤل عن امكانيّة حضور شكل مُميَّز يستعمله القرآن: الصيغة "يقولون... فَقُلْ". وبذلك فإنّ علاقة التّناص يمكن توخّيها ليس فقط بمقياس موضوع الجدل المشترك، وإنما خاصّة بمقياس شكل اخباري جليّ ومشترك، أي حضور خطاب مضاد. إنّ تحديد كلّ هذا، حسب افتراضنا، من شأنه أن يسمح بفَهمٍ أفضل لسياقات الاقتراض التي تُنظِّم رسم صورة الخصم في القرآن، مثلما تستشفُّها المقارنة بين الخطابات القرآنية والتلمودية المضادة.

قائمة كاملة للخطابات الأخروية المضادة في القرآن
2/8 آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ
2/80 لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً
2/111 لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ-;-
3/24 لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ
6/29 إِن هِيَ إِلّا حَياتُنَا الدُّنيا وَما نَحنُ بِمَبعوثينَ
7/187 أَيّانَ مُرساها
10/48 مَتى هـذَا الوَعدُ إِن كُنتُم صادِقينَ
10/53 أَحَقٌّ هُوَ
11/7 إِن هـذا إِلّا سِحرٌ مُبينٌ
11/8 ما يَحبِسُهُ
13/5 أَإِذا كُنّا تُرابًا أَإِنّا لَفي خَلقٍ جَديدٍ
16/38 لا يَبعَثُ اللَّـهُ مَن يَموتُ
17/49 أَإِذا كُنّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنّا لَمَبعوثونَ خَلقًا جَديدًا
17/51 مَن يُعيدُنا / مَتى هُوَ
17/98 أَإِذا كُنّا عِظامًا وَرُفاتًا أَإِنّا لَمَبعوثونَ خَلقًا جَديدًا
19/66 أَإِذا ما مِتُّ لَسَوفَ أُخرَجُ حَيًّا
21/38 مَتى هـذَا الوَعدُ إِن كُنتُم صادِقينَ
23/82 أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
23/83 لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَـذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
27/67 أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ
27/68 لَقَدْ وُعِدْنَا هَـذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
27/71 مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين
32/10 أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
32/28 مَتَى هَـذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
34/3 لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
34/7 هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
34/29 مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
36/48 مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
36/78 مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
37/15 إِنْ هَـذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ
37/16 أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
37/17 أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ
41/50 هَـذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى
44/34 إِنَّ هَـؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ
44/35 إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ
44/36 فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
45/24 ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
45/32 مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
46/17 أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّـهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
50/2 هَـذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
50/3 أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
51/12 أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ
56/47 أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
56/48 أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ
67/25 مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
75/6 يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَة
79/10 أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَة
79/11 أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً
79/12 تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ
79/42 أَيَّانَ مُرْسَاهَا

المراجع

Mehdi Azaiez, 2012, La polémique dans le Coran, Essai d’analyse du contrediscours et de la riposte coranique, Aix-en-Provence, Thèse de doctorat, 448 p.

Mustapha Ben Taïbi, 1999, Le Coran comme texte adressé. Un essai de lecture, Paris V, Thèse de doctorat.

Monette Bohrmann, 1997, « La Loi dans la société juive », Dialogues d’Histoire Ancienne 23/1, p. 9-53.

Daniel Dubuisson, 1994, « Ontogenèse divine et structures énonciatives », Revue de l’Histoire des Religions, Paris, PUF, p. 225-245.

Laroussi Gasmi, 1977, Narrativité et production de sens dans le texte coranique : le récit de Joseph, Paris, EHESS.

Abraham Geiger, Was hat Mohammed aus dem Judenthume aufgenommen ? Eine von der Kö-;-nigl. Preussischen Rheinuniversitä-;-t gekrö-;-nte Preisschrift, Bonn, F. Baaden, 1833, V-215 p.

Jane Idleman Smith & Yvonne Yazbeck Haddad, 2002, The Islamic Understanding of death and resurrection, Oxford, Oxford University Press, 262 p.

Arthur Jeffery, 2007, The Foreign Vocabulary of the Qurʾ-;-ā-;-n, with a foreword by Gerhard Bö-;-wering and Jane Dammen Mc Auliffe, Leiden, Brill (« Texts and studies on the Qurʾ-;-ā-;-n, 3 »), XX-311 p., Bibliography et index (1ère éd. : Baroda, Oriental Institute, « Gaekwad’s Oriental Series », n° 79), 1938, 311 p.).

Simon Claude Mimouni, 2004, Les Chrétiens d’origine juive dans l’Antiquité, Paris, Albin Michel («Présence du Judaïsme»), 261 p.

Christian Plantin, 2005, L’argumentation, histoire, théories et perspectives, Paris, Presses Universitaires de France (« Que sais-je », n° 2087), 127 p.

Jean Sta robinski, 1970, La relation critique, Paris, Gallimard (« Le Chemin »), 408 p.

Talmud (Le), L’édition Steinsaltz, Guide et lexiques par le rabbin Adin Steinsaltz, Jérusalem, FSJU, Tome I, 1994, 290 p.

Talmud (Sanhedrin) online (http://www.mechon-mamre.org/b/l/l4411.htm)



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرآن وكَتَبَتُه(2)
- القرآن وكَتَبَتُه(1)
- قانونيّة القرآن ... بالقرآن؟ (2) أو كيف يُقدِّس القرآن نفسه ...
- قانونيّة القرآن ... بالقرآن (1)
- من أنتم حتّى تتطاولوا على العفيف الأخضر؟
- محمّد تُرْجُمان -القِرْيانَة العربيّة- المكّيّة (2)
- محمّد تُرْجُمان -القِرْيانَة العربيّة- المكّيّة (1)
- المقاربة التاريخيّة للشّخصيّات الدّينيّة : محمّد
- نُبُوَّة وزِنَا (6) من نصّ إلى آخر
- نُبُوَّة وزِنَا (5)
- نُبُوَّة وزِنَا (4) من نصّ إلى آخر
- نُبُوَّة وزِنَا (3)
- نُبوّة وزِنَا (2)
- نُبُوَّة وزِنَا (1)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (9)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (8)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (7)
- في أصول القرآن :مسائل الأمس ومقاربات اليوم (6)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (5)
- في أصول القرآن : مسائل الأمس ومقاربات اليوم (4)


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - الخطابات الأخرويّة المضادة في القرآن وفي السنهدرين