أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 4















المزيد.....



تأملات فلسفية 4


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5060 - 2016 / 1 / 30 - 12:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قد وعدت أصدقائي بالعودة إلى الماضي الذي يعبر عندي عن منطلق لجهد مبذول في حيازة صك النجاة من ألم الأماكن العاجنة للمتناقضات، والمغالطات، لكي تعبد طريقا يحميها من تلك الآفات التي تستحضرها في ذهنها، وتستريبها في واقعها، وكأنها في عمقها تبني عشا لذلك الحلم المخضرم الذي يؤسس معالم ملائكيتها بين عوالم بشريتها، ويرسخ مهاد المعنى المفقود عندها، والمهجور فيها، والمغبون لديها، لا لأنها تحب ما هي عليه من تناقض اندفعت إليها بحكم تجربتها المتطرفة في جانب من جوانب مركبها الفردي، أو الجماعي، بل لأنها تحب النجاة التي توسلت إليها بوسائل شتى، وتوسطت إليها بوسائط تخالها منجية لرغبتها من عذاب الضمير، وسؤال التاريخ، وعناء الهدف. ربما قد نتفق جميعا في تعريف المفهوم العام للحياة التي تتحارب غاياتها بين واقعنا بطريقة سلبية، لكن اختلافنا كامن في تحديد حقيقته، ورسم معانيه، وضبط ملامحه، وسيبقى هذا الاختلاف منبعا لكثير من الصراعات التي نعاني من أوجاعها في زمن فقد الجدوى، والطوبى. فمنا من جعل هذا المفهوم لطفا في الرغبة، فأتى من شهواته ما يحميه، ومن نزواته ما يقويه، إلا أنه درءا للتضارب بين ما حدده للحياة التي رسمها بريشة راهب منزو في دير الانتظار لفاجعة النهاية، وصدا لما هو منغمس فيه من آلام أفقدته لذة الانتشاء بالأشياء في كمالها النسبي، قد ألبس حقيقة انهيار محاولات مزج روحه بمادته، ما ظنه يفضي به إلى الأمن في مقام الخوف، والأمل في محل الألم، فكان مبلبلا، ومشتتا، لا يلوي على خيط البداية، والنهاية. فاشترى من سوق الوهم ما يخفف عنه عناء السؤال، وقلق الانتساب إلى حقيقة ما وضعه من رسوم للدلالة على حكاية الفداء، والخلاص. وهذا النوع من أتفه الأنواع التي تجبر ذاتها على محاربة خصائص كيانها المستقل، من أجل صناعة ذات أخرى، لا حقيقة لها إلا في ذهنه المختزن لمتاهات لا نهاية لها بين الحقائق الكلية، لأنه بمقدار ما استعصى عليه فهم إحساسه بضغط مبدأ لذته، استوهب من الإطلاق لبسة يستر بها عيوب إخفاقه، وهزيمته، ويخفي من ورائها مكنونه، ومكبوته. والأغرب أنه في صياغة مظاهر حركته، لا يتجرد عن غرور امتلاكه للحقيقة التي استحالت عنفا، بعد أن كانت وقاية للاحتماء. فهذا قد حرث رذيلة العهر في حديقة الحياة، وغرق في حب زرعه من أخمص قدمه إلى مفرق رأسه، وذهل عن غلته ببسوق هم خوفه من ضياعه. فكان نارا على فرحه، وسروره، وحربا على يقينه، وإيمانه. ومنا من ألبس قصده سمو الحقائق الأزلية، لا لرغبة فيها، وإنما لما أدركه من احتماء الخلق بها، فكان بذلك منكرا للحقيقة في ذاته، وإن ألزمه الزمن بإظهار الحفاظ عليها في الطبيعة. فهو من دناءته، وحطته، وخسته، وعريه، يرقص بين موارد الشهوة بزنار راهب، لكي يعمي عن حلمه المتهالك في حب دنياه، ويوري عن ضياعه بين مجهول الرغبات. ومنا من قام به الهوى بين الأماني الجميلة، فتشاعر، وتماجن، وهو لا يريد من الدنيا إلا أن يكون محظوظا، وأثيرا، لا يقض مضجعه ألم فقدان مشرب، ومطعم، ومسكن، ومركب، فامتزج فيه الحق، والباطل، ثم بدأ يفرق بين المساحات، فجعل لله مساحة، وللشيطان مساحة. ولا يضيره أن يكون في قسمته طائعا، أو عاصيا. ومنا كثير من أنواع أخرى متضاربة بين الوقائع الملتبسة في واقع لا يحتمل الارتفاع، ولا يقبل الخروج عن نظامه، وسياقه، لكن ما يلملمها، ويجمعها، أنها تتغيى غاية معينة في هذه الدنيا التي أتعبت من رفضها، وكرهها، ومن أحبها، ووَدها. فما هي الغاية المثلى عندما نرجع إلى بساطة الماضي، وسذاجة الحلم، وفطرية النيات.؟
لعل هذه الغاية النهائية للمعنى الأجود في كينونة الحياة الجميلة، قد لا يدركها كثير ممن يسوقون لغة الخلاص بين بؤر حياتنا الواجفة الحقيقة، والغاضبة الطبيعة، ويذودون بأنظار محصورة عن طرقها المحفوفة بالمظاهر الخادعة، والمخاطر الفاتكة، ويجهلون كيف يمزجون بين ألوان صورها التي هي في وضوحها غامضة، وفي سرورها مقرحة. لأن ما يتفجر بين أمدائها من مفاجآت، ومصادفات، يجعلنا نوقن بأننا لا نمتلك الخلاص لأنفسنا، فضلا عن أن نجعل ذواتنا محلا لنجاة غيرنا. فالسائر بين هذه المجاهل الغائرة، والمناكب الغامضة، ولو أدى به القصد إلى آخر النهايات المرغوبة ذاتا، أو عرضا، لن يطيق في غروره أن يحكي عما لفه بين خطواته من ضباب ساتر للفضاء، والمحيط، وما رافقه من عناءٍ ينسيه كثيرا مما طرأ عليه من غوائل المسير، وهزائم المصير، أو أن يدون نص الحكاية كما كتبها القدر في سيرته البشرية التي تآلف فيها النقيضان على اختلاف المدار، والمدى، لا لكون اللغة لا تفي فيها العبارة بالقصد الذي تجاوز الترقوة، وصار لفظه صوتا مسموعا لا يقبل الإبهام، ولا التملص، ولا الإنكار، بل لأنه أحس بالكدر في مواقع كان يخالها أمنا، فإذا بها قد غدت من شدة مؤنتها موئل خوفه، وحزنه. ولذا، لا يطيق السائر أن يستظهر كل المحطات التي توقف عندها بين مراحل كبده نحو الغاية المقدرة له في رحلة الحياة البشرية، ولا يستطيع أن يحكي إلا عن جزء ضئيل علق بالذهن من قصته التي تنافر فيها المبدأ مع الموقف، أو تآلفا، ولو أجبر على سرد الحكاية، ولم ينس ما حصل له بين أحشائها من مفاجآت، ومصادفات.لأن حكاية الموقف في الحياة، والوجود، مما لا يجيد صوغه إلا قلة قليلة، إما لكون كثير مما حدث، ووقع، مما طرأ عليه النسيان، وإما لكون ذلك مما لا يكون أمر الإفصاح عنه سبة، وعارا، وضررا. ولذا لا عجب إذا حكى المخلصون عما حدث لهم بلا تنكب عن صدق الصراحة، وهم لا يريدون إلا صياغة الكلام للدلالة، أو الإرشاد، ولا يزعمون أن في جمال تجربتهم دعوة إلى الاحتذاء، والاهتداء، لأنهم في ارتباطهم بالهدف الأسنى الذي وضعوه لجمال الحياة، عشقوا نجاة الإنسان، وفداءه من الآلام، وكرهوا أن يروه حطاما بين نيات تحجب سرها بما تتهلل به من نبل، وفضل. وهؤلاء، -ولنسمهم حكماء، أو صلحاء.- كان لهم دور في تاريخ البشرية، وأثر كبير في صناعة الإنسان. وأعظم برهان على ذلك، أنهم قد ضحوا من أجل الحياة السوية لهذا الكائن العاقل بين الكائنات الحية، لا من أجل أن يقيدوه بحدود التجربة التي تحدثوا باسمها، بل لتحريره من الأنامل العابثة في أحلامه، وآماله، والخادعة له في تبصيره، وتنويره. لأن الدليل الذي هيأته التجربة الفذة، ومهما اجتاز عقبات الحياة النكدة، وانتقل من فصل إلى فصل أكثر منه نضجا، لا يربط دلالة الخلاص بضرورة الالتزام بحدود تجربة ذاته، وإنما يجعل تميزها في الوصول إلى الهدف الأسمى محلا للاقتباس، والاستفادة. وإلا، فإنه إذا نظر إليها بنظر الكمال، واعتبرها ملزمة دون ما سواها من التجارب الإنسانية، فإنه يصير بارتفاعه عن حدود النسب والعلل والأقيسة إلها بشريا، يستحيل في حقه الخطأ في التقدير، وفي التدبير. ومن هنا، كانت خصوصية الهداية الكاملة إلهية محضة، وكان من غيره الإرشاد في جميع المراتب. ولا أخالني أعرج هنا على درج مقام يرتفع عن تأملاتي بمقامات، ومراتب، بل أرتبط في كلامي بالعالم النسبي، لا بالعالم الفوقي الذي تجسده الألوهية، وتوابعها من النبوة، والولاية.
وهكذا، فإن اعتمادنا على آلة الكذب في تقديم ذواتنا المخلصة لنجدة غيرنا، لن يستطيع أن يصنع من غيرنا رجالا أكفاء، يخوضون التجارب الذاتية بلا أمان فارغة، ويحمون الطبيعة البشرية، ويذودون عن المعرفة الإنسانية. لأن إخفاقنا في معرفة قصص حياتنا المخزونة بين أعماقنا المهتزة بضغطة حياتنا، وشدة واقعنا، والمتغيرة بما يثيره الذهن من أسئلة تبحث عن إدراك للعلاقة القائمة بين الأشياء والذات، ووعي بكيفية نشأة الأحداث في كياننا، وكيفية تكوُّن الحوار بين الذات والموضوع فينا، وكيفية تأثرنا بما نكرهه في طريقنا، وكيفية مفارقنا لما وددنا بقاءه في واقعنا، هو داءنا الذي نداريه بلعبة ما نكتبه على الغلاف الخارجيمن عبارة صدقنا ووفائنا للإنسانية المحترقة بآلامها، وعنائها. فهل كنا حقيقة صادقين في الادعاء الذي نبرز مظهره المتعالي.؟ إن أكبر دليل حقيقي على أننا نجحنا في وضع تخطيط للعلاقة القائمة بيننا وبين ذواتنا، وبيننا وبين عالمنا الخارجي، هو مدى قدرتنا على اكتشاف ذلك السر المخزون في أعماقنا، والمكنون في أكواننا، وما دمنا لم نكتشف هذا المعنى القائم فينا بالدلالة، والهداية، ولم نطق أن نتجاوز في حدود معرفتنا لهذه الفضاءات ما يحقق لنا أنانيتنا المتهالكة، والمتآكلة، فلا يمكن لنا أن نكون مركزا للتوجيه، ولا للإرشاد، لأن أجلى ما يحق لنا أن ننفع به غيرنا، هو صفاء تجربتنا من شوائب الإخفاق في عالم المادة المترع بالدوافع الغريبة، والنزوات الحقيرة. ومن هنا، فإن الانهزام في ربط هذه العلاقة بعالمها الباطني، وما يستوجبه ذلك من نظر حاد إلى ارتباطنا بأرواحنا، وبعالمها الإلهي، أو عدم فهم مكوناتها، ومركباتها، أو عدم القدرة على تجاوز مرحلة الصراع معها، لا يمثل إلا جهدنا الشخصي في الخلاص، ولا يحقق عندنا إلا ذلك البذل الذي نبرئ به ذممنا في تحرير الذات من علل الضياع، والفراغ. ومن هنا، فإن السؤال الذي يطرحه كثير من الحواريين في النقاش الخاص، أو العام، إما لرغبة في المعرفة الدقيقة بغوامض التجربة الروحية، وإما لهدف النقض لتلك المضامين المكتنزة في الحياة الآدمية، لا يحق لنا أغفاله، أو إرجاءه، لأنه دليل على وجود بقع سوداء في التجربة الذاتية، سواء في مجالها النفسي، أو الاجتماعي، وتحتاج إلى تجرد وموضوعية في نقاشها، والإجابة عنها، وإلا، فإننا إن لم ننزل عن اغترارنا ببعض النفحات الخادعة التي تلمس بعض الذوات، فتستحيل مع ادعاء كمال المعرفة أصناما، وأوثانا، فلا محالة، ستكون لغة إرضاء الواقع، أو صناعة الحشد، هي التي تحركنا في مسارنا العلمي، والمعرفي.
لا غرابة إذا قال قائل: قد كثرت الأصوات المنادية بالعودة إلى الدين، وضجت بها الأماكن المجللة بالأحكام المتناقضة، والأفعال المتصارعة، وغدت من حدة هتافها واقعا ظاهرا لا يقبل الاحتمال، والافتراض. لكن ما هي النتيجة التي وصلنا إليها، ونحن قد خضنا يمنة ويسرة في وحل ما نظنه مخلصا ومنجيا لهذه الأمة من عنائها، وألمها، واسوداد الأفق بين أعينها، وانتظارها لنهاية مفجعة، ومحزنة.؟ قد يثير هذا السؤال كثيرا من المتاجرين بالدين، وهم ينظرون إليه بعين الاحتقار، لا لكونهم يخشون على الحقيقة من الفوات، والزوال، والنهاية، بل لما يضيفه هذا السؤال من شحنة فكرية لكل من يريد أن يتعرف على تفاصيل هذه التجربة التي صارت مناطا للتحقق بمبدأ الدين، والتحصن بقاعدة الفرقة الناجية. لكن هل هذا السؤال له روافد في التجربة الدينية التي نتحدث عن بعض جزئياتها بما تقتضيه طبيعة التأمل الذاتي.؟ سأحاول الإجابة عن هذا من منطلق شخصي، لا لرغبة الوصول إلى فكرة يمكن أن تكون محلا للقبول، أو الرفض، وإنما لغاية نريد أن نتحرر من نتائجها، لعلنا نفي لضميرنا المحترق بألم السؤال عن جدوى كثيرمما ينسج من وهم في واقعنا، وهي لا تصنعنا إلا وجلين، وجبناء، وتافهين، وربما في بعض الأحيان حقراء، وأوغادا، وسفاحين، لا نملك في قراراتنا إلا لغة التعالي، والتسامي، ولا نقوى في ظاهرنا إلا بمكر الاستعداء، والحقد، وصناعة المؤامرات، والمكايد. ومن هنا، لا بد أن أجيب عن هذا السؤال بمقتضى تجربة كتب لها أن تعيش أكثر من عقدين بين مخاض عسر، كانت بدايتها أملا، ونهايتها ورما. بل طال علينا الأمد، فرأينا غرائب، وعجائب، لا نخالها إلا شرا مستطيرا، يثبط العزيمة، ويفند الإرادة، ويصيرنا أشياء نفقد في كل يوم جزءا عظيما من سمونا، وصفائنا، وإخلاصنا. وهذا وإن لم يشعر به بعضٌ ممن يريد بقاء الأرض عوجا، حتى لا تتميز مشية الأقدام السوية عن غيرها، أو حتى لا تتميز اللغة الصادقة عن هراء الدجل، فإنه قد كان شعورا حقيقيا لنا، بل لكل إنسان مستعر العمق، لم يجد فيما يُروَّج له دليلا يخلصه من رداءة زمن صار المعنى فيه ثمينا، وغاليا. ومن هنا، فإن إحساسنا به يتقابل مع إحساس كثير ممن نظروا إلى الحياة، فلمسوا جلي حقائقها في فنائها، فانزووا إلى ركن قصي من النظرة إلى نتائجها، لعلهم يخلدون للغد شيئا جميلا في المنى، فإن لم يكن نافعا بذاته، فحسبه أنه يؤرخ لزمن حارب فيه المعنى ذاته، وصار النقيض هو المعنى المراد، وغدت الحقيقة هي عكسها، وحدا فيه بالعير طالب موتها.
إننا في طور من الأطوار نحرد بسير حثيث من أجل أمرين:
الأمر الأول، التحصيل العلمي. والثاني، أن تكون لنا فاعلية في تغيير الواقع إلى ما تمليه علينا حقيقة ما نؤمن به من أفكار، وأنظار. فالأول، ومهما كانت الدوافع إليه قوية في الطلب، لم يكن بذلك المقدار الذي عشقناه حين أدركنا قيمة المعرفة، وتشبعنا بتجارب تفصل بين مدارين في المعرفة. مدار الرغبة في الابتلاع، ومدار الهضم، وهما محوران لصناعة الرأي، والموقف، لاسيما إذا صاحب ذلك اطلاع على ما أبدعه الفكر الإنساني من نظريات فلسفية، وعلمية. والثاني، كان في همه إفرازا لسياقات إيديولوجية اختصرت الحقيقة في مجرد الانتساب إليها، لا فيما يؤدي إليه السير من تحرير للتجربة، وترسيخ لمبدأ القرار الذاتي. ولهذا، لم يتح لنا أن نختبر مضمون تلك السياقات إلا بعد أن شعرنا بأن أحلامنا التي رضعناها بلا إدراك لمنابتها، كانت وساوس، لا حقائق، وسجونا، لا حصونا. لأن حقيقة التغيير التي رافقتنا في قفص الانتظار السيء لما هو مجهول النظر أمامنا، لم تكن نابعة من قراءاتنا لما يجب أن يكون الإيقانُ بجدواه سبيلا إلى بلوغ ذلك الافتراض المحموم بالمثالية، والطوباوية، بل كانت سلوى نداري بها هزيمتنا في هبوط المعاني إلى أدنى مستوياتها، ومستلزماتها، وصعودِ شهب لامعة في فضاءاتنا، وآفاقنا، وأشعة خلبت لبنا، وعربدت بنتائجنا في واقع لا نتفق فيه على خط مستقيم، ولا نجتمع فيه على رأي مصيب، بل تعارضت الآراء، وتضاربت الحقائق، وتناقضت المعاني، وتساوى من يتحدث بصدق، ومن يزيف الأقوال، والأفعال، لكي يصد النشء عن الآخرين، ويحشرهم إلى حياضه المترعة بأوهام الخلاص، والفداء. ولا غرابة إذا حصلت الحيرة، والشك، والارتياب، ونبتت في تلك الأفكار التي نافحنا من أجلها أغصان نافرة، وناشرة، تبدو لنا مع قطع مراحل الزمن ألما يدنف رؤيتنا إلى الأشياء، ويفتف في أعماقنا كآبة، وقتامة، وسوادا، لأن ما كان بالأمس جامعا للشتات، والفرق، هو السبب في تمزيق الصف، وتفريق الأمة. وهنا كانت صياغة الحقيقة مطلوبة في حدود معينة، لما تضيفه من استغلال واستهجان إلى من يزعم نص امتلاكها، لا لذاتها، ولا لغاياتها، بل لأعراض تلوثت بتصنيمها، وتأليهها، وشخصنتها، فحاربت نفسها بنفسها، ولم تستطع أن تخرج من جب الذات المتهالكة بالأثرة، والعنف، والهوس، والجنون. وقد كان من نتائج ذلك أن غدت الأشياء التي كانت محوطة برعاية أهلها مستباحة لكل دعي، أو متطفل، أو متفيهق، لا يملك إلا الشعار، وإن انعدم فيه المبنى، والمعنى. لأن العامة في كل الأزمنة، يحيرهم الجهل، وعدم إدراكهم للمعرفة التي لا يمكن شراءها بالمال، ولا بالجاه. ولهذا كانت المعرفة تحيرهم، وتشقيهم، وتعذبهم، لأنهم لم يستطيعوا البيع والشراء فيها، لما لحرص أهلها عليها من شدة، وحدة، لكن حين خرجت من يد النخبة، أو الصفوة، تحولت إلى نقاش عام، وجدال عقيم، فخاض فيها الدجالون، والأفاكون، ثم استحالت حربا، لا أمنا، وخوفا، لا أمانا. بل الأغرب أن أهل المعرفة فقدوا خصوصيتهم الذاتية، ومرتبتهم ومكانتهم الاجتماعية، فكان أمرهم بين حالين: إما مواطئة العامة، وبذلك ينالون فتات العيش بذل، ومهانة، وينال منهم غيرهم صك الغفران، أو تأثيث الفضاء، أو التعاويذ والترانيم التي تخفف وطأة الخوف، والندم، والشعور بسوء المغبة، والمصير. وإما الانطواء، والغربة، وفي ذلك شعورمترع بالقلق، والألم، وحماية من الابتذال، والاحتقار. ولذا، نتساءل، لم احتقر الإنسان المعرفة بعد هذا النقاش المسعور، وهو مفتوح الأبواب على الجميع، وكان من الأولى به أن يحصل معه الإجماع على الرأي، لا الخلافُ، والتقاتل.؟ لم يكن من نتيجة ذلك أننا تغيرنا إلى ما هو أكمل لنا في الطبيعة البشرية، بل وقفنا جامدين في دائرة، لا نتطور، ولا نتغير. وتلك هي الثلمة التي نفذت منها رياح التخلف إلينا، والتصحر، والتكلس، وسواء أحسسنا بذلك، أو لم نحس به، فما نتج عن ذلك من رداءة، ووقاحة، لن يُمَاثل بما كنا عليه من بساطة، ووداعة، وعدم تعقيد، ولو بدا لنا أن ذلك الماضيَ متخلف في وضعه، وواقعه. لأن الإبقاء على ثوابت الماضي، وخصوصياته التاريخية، والحضارية، ولو تورم جسده ببعض الأمراض، والأزمات، والنكبات، أجمل من الوقوع في حمأة الصراع حول التفاهة، والحقارة. فماذا استفدنا.؟ قد يكون هذا الوضع الآسن مدعاة إلى اليأس، والإحباط، وعدم الاكثرات، لكن تجليات الأحداث التي عشناها مغلولين بفكر متحيز إلى تقديس خرافة الحركة، والتغيير، تبين لنا في صفاء، أن الصوت الجميل، ينبت وراء الصراخ، والضجيج، والعويل، وأن الأفكار الحية، لا تولد إلا حيث يوجد التقليد، والجمود. ومن هنا، لا يدفعنا هذا الوضع إلى انتظار النهاية ما تعودنا على لسان من يصنع الموت بالدين، بل فيه من مقومات تكوين الشخصية المعتدلة، ما يجعل القدير متمكنا أمكن في معرفته، وذوقه، وحركته، بل في وسط هذا الزحام المضطرب حول باب المدينة المقدسة بتناقضها، لا باتفاق آرائها تزلفا، أو نفاقا، أو خداعا، يظهر النبيل الذي يستطيع أن يصنع له طريقا يوصله إلى منتهاه، من غير أن يتلطخ بآثار ما مر عليه من نتن، وعفن. ولذا، فإن الاختلاف في طي المسافة بيننا وبين أحلامنا، يمكن له أن يضعنا بين مجموعة من الخيارات، والاحتمالات، فهناك من وجد للآلام مخرجا في يأسه، وهناك من جعل يأسه لذة، تحول معها إلى عابث، وساخر، وهناك من جعل العبث لذة حارقة، وهناك من جعل اللذة نظاما، وهناك من جعل النظام قيدا، وهناك من صنع من القيد حرية، وهناك من جعل من الحرية أملا في الموت، وهناك من جعلها أمانا في الحياة. والناس مختلفون بمقدار شعورهم بالسعادة، أو الشقاوة. لكنْ حدث الاختلاف بين من أرادها سعادة لا تشوبها شائبة، وبين من أرادها سعادة مفتوحة على جميع الأهوية، والرياح. فمن أرادها سعادة محضة، فقد خالف سنن التكوين للمفاهيم في حقيقتها الروحية، ومن أرادها سعادة نسبية، فقد أحرز فيها دليلا يطوي به مسافات يقطعها بين دوامات الكون الفسيح. وهنا كانت الفلسفة برهانا، لا إرشادا، إذ تعلمنا أن العاطفة مهما كانت قوية، فإنها ليست إلا عاصفة هوجاء، سرعان ما تنتهي، وتعود الأمور إلى بداياتها، لأن نظام الكون متسق، ومنسجم، لا يقبل إلا ما كان متوائما مع قواعده، وإذا أصيب عضو بالشلل، نفته عن سياقاها، لكي تتحرك الحياة بنسب في تطورها، واختراقها لآلة الزمن. ومن هنا، يكون ما أعيد حوله السؤال، لا يتجاوز تلك الدائرة التي توقفنا عندها، وإن تجاوزَنا التاريخ، وقطع مراحل كثيرة في سيره بين أماكن أخرى، لم تجمد عندها آلية الزمن، بل تعدت ما هو محل نقاش عندنا، إلى مجالات معرفية أخرى، لكي تكتشف في محيط المفاهيم أنها قد تطيق عند حدوث الاختلال أن تقتل نفسها بنفسها، وتضحي بكلها من أجل جزئها. ومن هنا يكون الصراع عندنا متجها إلى تحديد الحقيقة بما ترسب عندنا من نتائج القراءات، والتجارب، بينما اختلف الأمر عند غيرنا، فهم قد بحثوا الألفاظ ، ودروا فيها خداعها، وأنها لا تدل على ذاتها، وإنما تدل على ما وضعت له في العام الذي يجمع المفاهيم، ويحدد لها مجالاتها، ومداراتها، ويفرضها بقوتها التي تحملها في إطار الكلي، لا في جزئيها الملتبس بجهاز اللغة، ومداليلها. وهنا يصير مفهوم الحقيقة، هو ما وضعت له في وظيفتها التي يغدو مدلولها جزءا منها، لا ما تبشر به من أفياء مديدة، يكتشف فيها الإنسان ذاته، لكي يبني وعيه الذاتي، وموقفه الشخصي، وهكذا الحرية، فهي عندنا تحمل معنى، ولكنها في سياق الذين يرفعون شعارها، تدل عندهم على نتيجتها التي تؤدي إليها في مجموع المركبات المكونة للقضايا الكبرى، والتي يصير مفهوم الحرية فيها مفرغا من محتواه، ولكن هيكله يؤدي وظيفة لا بد من بناء النسق العام.
وحقا، كانت تلك الرغبات نزوة في العقل الممرع بتعميمات لا حدود تفصلها عن غيرها، وتسويغات لا تبني سقف المعرفة بمكامن الذات، ولا بمفاتن الواقع، ولا بمباسم الحياة التي تذيب فورة جهودنا في طريق صناعة بهحتها، ومجدها،بل كان ذلك اندفاعا من جهة، ومن جهة أخرى، كان وسيلة دفاعية تنكمش وراءها النيات التي تحدد مظهرنا الخارجي في العمل البشري، لئلا نجسد حقيقة ما ذهبنا إليه من إنكارٍ لوجود معناه في نقص طبيعتنا المتعالية عن قوانين الالتزام بتناقض الشهوات المستعرة بين الوجود الإنساني. ومن هنا، فإن قضية التحصيل المعرفي، هي أهم ما يُسعف به صديقٌ رفيقا يسعى من خلال دلالته على المعنى المقصود، إلى أن يبين له وسائل الخلاص من العلل التي يعاجل مصيرُها المحتومُ الإنسانَ المتألم لتشابه الأوضاع المتباينة بين أمداء الحياة المادية. إذ لولا مخالطة أنواعٍ من البشر المختلفين حول ما هو واجب، وما هو ندب، لما أثرت فينا تجربة الماضي بما خلفته عندنا من قلق، وحزن، وغربة، لم تنشئ فينا بؤرة شاعر، ولا سجية فنان، حتى تسحرنا المعاني المتسمة بالأنوثة الطافحة، بل صهرتنا في مهاد التأمل، فأخرجت من غموضنا بركانا لا يجد لذته إلا فيما مُغرب، وصعب، ويبس. لأن التجربة إما تخلق عندنا حدسا صحراوي الطبيعة، لا يعشق إلا الفضاء الممتد إلى ما لا نهاية له، وإما أن توجد فينا لدونة مدنية، تستحيل مع الزمن إلى معان تغلب عليها أحاسيس رقيقة، وحزينة، لا تنتج عاطفتها المهتزة تأملا في المسائل العسيرة، والعويصة، بل تكتفي بما تحس به من ألوان تتبرج بين الأماكن في ثوب فاتن، وطاعن، فتشهد فيها نهاية خلاصها الذي يقيها إرهاق العقل بين متناقضات الحياة الغامضة.
إن إعادة القراءة لهذه الطاقة التي تشكلت من قوى عدة، ما هي إلا انفعال مع ما انفتحت عليه الذات من فضاء، وأفق، وانحسار عما توطأت الأيدي من دسم الموائد المترعة بأطايب اللذائذ الذليلة، والكئيبة. وتلك خاصية إلهية يمنحها الله من يشاء من عبيده، وقيمة تُكسبك قوانين معنوية تتحكم في سرك، وتشكل عقلك، وتمنعك من الاندثار، والتلاشي، وتهبك الحس القوي، والذوق الرهيف، وترغمك على أن تفكر في مصيرك المحتوم، وتقدم فص النهاية على نص النهاية. فإما أن يجعلك ذلك مدارا مفتوحا على التفاعل مع الوقائع التي تمر عليها واعيا، ومدركا، لا مقلدا، وخانعا، وإما أن يسد عليك منافذ الطلب لهذه الميزة التي تفصلك عن غيرك، فتكون موقوفا لأنانيتك، ومحصورا بين دائرة لا تنفك فيها عن غرورك، ولو دعاك داعي الحق إلى رياضه، وطالبتك الحقيقة بإقامة الحق في سرك، وعلنك. فالأمر عندي سر في شخصية الإنسان الذي قدمته التجربة إلى القنن الشامخة، وادخرته الإرادة الفاعلة لكي يكون كبش فداء للمعذبين، والمهمشين، والموتورين، والمفجوعين. وهذا هو الذي يهدينا إلى البحث عن تلك النهاية التي تجعل الصورة كاملة، أو متكاملة. وإذا هيأتها الأقدار، ودبرتها الإرادة، كانت منك إدراكا للحقائق الغامضة التي تاه فيها كثير من أهل الظاهر، وغاب عنها من أهل الجمود خلق عظيم. وإذا صارت عندك يقينا مكتسبا من داخلك، لا في خارجك، كنت الآمر بأمره، والناهي بنهيه، وغدا كل شيء فيك لا يحتمل إلا معنى واحدا. والأشياء في حقيقة التوحيدِ لها معنى واحد، يلتصق بها على الدوام، فإما حياة يستفيدها الإنسان منها، وإما موت يأخذك إلى مَبارك الفقد، والهجر، والضياع. وهكذا يتركب المنطق المختل في كثير من الذوات التي لا تقبل الانصياع لما فيها من مجنى، والانصهار مع ما وجدت له من معنى، ولا ترضى أن تقرأ من كونها آيات البيان.
الأمر الثاني، قد يكون تعبيرا عن رفض الفوضى بالفوضى عينها، أو رفض المعنى بالمعنى ذاته، لأن كثرة الأسماء، تبلبل الفكر، وتخلخل الميزان، وتصرف عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، أو إلى المعاني التي تتضمنها الألفاظ بلا قرينة، ولا رابطة. ولذا، لو بقي الهوان يسوقنا نحو هذه المقدمات الفكرية التي ترتبت عندنا بلا سياق، ولا نسق، لما عدونا دائرة الانتساب إلى منظومة لم نكن فيها إلا مُوَجَّهين، لا موجهين، بل بدا لنا مع الزمن أن غايتها هو صناعتنا ضحايا لفكرها العدمي، لا صناعة آمالنا التي نصارع الزمن من أجل نيلها، وبلوغها. لأن جوهر التغيير للواقع في هذه المنظومات التي اتخذت المطلقات حجة على قوتها، هو إيجاد الحشد القابل للصورة التي تفرضها عقول الدهاة من المرتزقة على موائد المعرفة، لكي يموهوا عن محل المعنى القائم بأنفسهم الماكرة. فلا غرابة إذن أن يصير موضع التغيير موضوعا منسيا مع الزمن في الأمل القديم، لأن موقعه في الحقيقة، هو الذات، لا ذلك الخلاص الذي يفترض وجود مخلص، يؤدي بنا إلى ما رسمه من آفاق لرؤيتنا، ونظرتنا. لأن عقيدة الخلاص الحقة، لم تكن فوضى، وقد انتهى المبشرون بها نيابة عن عالم السماء، ومن تنبأ من الآدميين، وزعم أنه جاء بخلاص آخر، فقد أراد أن يجعلنا حمما مستعرة في واقعنا. فالقضية عندي، ليست في رؤية الواقع ممزقا، ومشتتا، بل في رؤية الجماجم التي تحفنها أيدي العار بين الديار النكدة، لكي تحملها إلى مزبلة التاريخ، وهي لا تنسج لها كفنها بأيد آمنة، بل أربكت السير، وأهولت في الأمر، وادعت أنها عند انقشاع صبح ذلك اليوم الجلي، ستحمينا من معرة الأزمات، والنكبات. تلك عقدة أخرى، سيأتي محل بيانها. لكنني أراني الآن أشد غموضا، وإسرافا في التورية، والتعمية، فما الذي نريده من هذا الصديق المحتد صراع عقله، وهو يخالني سأنزل عليه رحمة تكفيه مؤنة قلقه.؟ لا أريد منه شيئا، ولا أحبذ أن يريد مني شيئا، بل حسبي أن أقول له: إن صناعة عقدة الصراع في العقول، تقتضي في حركة آلة التهجين، صناعة منطق تسويغ أقدار التغيير، لئلا نبرح ذلك الدائرة التي ترسم الكون متصارعا، ومنشقا إلى فسطاطين، وتجعل رؤية خلق الحياة بين الأشياء مستحيلة، وغير ممكنة. لأن إيجاد هذا المناخ في العقول، مما يفضي إلى عتمة لا تتضح في غبشها رؤية ذلك الغد المأمول، بل تصرفنا عن ضرورياتنا، وحاجياتنا، لكي ننسلخ من هويتنا البسيطة، فنترع بأشجان الحزن، والبكاء، والملل، والشقاء. وذلك ما تهلل به المنظومات المتناقضة في واقعنا العربي، وتدندن به كثير من الأبواق المتاجرة بمأساتنا، ومعاناتنا. فلا تهل، فالذي يتغير، هو أنت، وأنا، وغيرنا، وإن جعلنا التغيير هدما، فلن نجد بين أماكن قلقنا إلا رمة الأجساد المتفحمة. ربما ما زلت غامضا في تصويري لحقيقة تطلعي، واستشرافي، فيكفيني أن أصرح لك، وأقول صادقا: إنني قد ودعت كل الأفكار التي يغني بها كل رجل يريدنا أن نتحول من قَفْرنا الذي يكسبنا عزة إلى بساتين يوهمنا بأنها نزيف من جنانه الخالدة.! ربما قد اقتربت من التصريح، أو ربما في تلويحي ما يكفي، إذا أحببت أن تجعل كل القرارات في داخلك، لا في خارجك. وإذا سمت النظرة، وعلت المحبة، رأيت الكون كله جميلا، فتحب لأجل الحب، لا لكي تحلب شاة المنفعة المضرجة بدماء الأنانية. إذن كل شيء قائم فيك، وأنت قائم به، وإذا رأيت سموك في غيرك، أحبطتك الفواجع، والمواجع. ولعلنا إذا استطعنا أن نتصوف في حقيقة باطننا، لا في ادعائنا، وكان التصوف عندنا غاية مثلى، لكي ندرك كل ما قر في الإنسان منذ بدايته وإلى يومنا من جمال، فإننا لن نرى سبيلا إلا ما سار عليه الخلصِ الأفئدةِ من حب، وعشق.
إذا كانت هذه هي قيمة التجربة التي أودت بكثير من مبراتي، ومسراتي، فلا محالة قد أثبتنا لك أننا ندعوك إلى المعرفة الباطنية التي تمنحك قوة في التحصيل المعرفي، وحدة في تغيير الواقع الذي لا يتغير إلا بحركتك المتزنة في دائرة وجدانك الباطني. وهل تغيير الواقع أمر سياسي محض، لا بد أن نسلك فيه مسلك المتعاركين على أمر إصلاح المجتمعات البشرية.؟ ربما يوحي إليك كلامي بأنني لم أمارس السياسة في يوم من الأيام، وتلك هي الحقيقة، بل لن أمارسها أبدا، ولا أرغب في زمن أن أراني متحدثا باسم برنامج ينادي به تنظيم ديني، أو علماني، أو يساري، لكي أكون قادرا على استمالة عاطفتك، فتظنني مخلصا لك من براثن معاناتك. قد يكون هذا ممضا لأصدقائي، لأنهم يرون تغيير الواقع في إعادة رسم طرق حركة عجلاته بعقلانية مزعومة، ويسهبون في الأحاديث التي كرهت سماعها مع مرور الزمن بين تجارب متناقضة، لا لأنني أؤنب في عمقي عدم اشتغالي بأمر السياسة، بل لكونها فقدت المعنى في باطني، وصارت قصصها أحاديث للعامة في مجالس الرداءة. وأي شيء تحول عندي إلى تجارة ممكنة للواجد، والفاقد، صار البعد منه أولى عندي في دين قصودي. إذ قيمة السياسة، هي في نصها الفلسفي الذي حير لب سقراط، وأغرق أرسطو في متاهة المنطق، وأوغل بجياد بيكون في المادية. وإذا كانت المعارف التي تتوارى وراء الأشياء عامية، وسطحية، وجد فيها كل من تاه بين المجردات والحسيات أمله، ورجاءه، لأنها ترفع من هامه الوضيع الذي لم يرتبط بصلة مع التاريخ، والحضارة، ثم يغدو في ضحاه خطيبا مصقعا ينادي بالحرية، والعدالة، والمساواة. فما فائدة السكر بالمعاني، إذا كان المتواجدون فيها عصاة لمفهومها المستور بظاهره عن درْك حقيقته.؟
وهكذا، فإن منطق النبلاء، والمخلصين للإنسان، لا يتجاوز قدر التعريف، وصناعة المفهوم، ورعاية الحقيقة. ولا شيء أثمن في الجهد من تحرير العقل من بلابل القلق الذي لا يفضي إلى معرفة. ولذا، فإن انطلاقتنا من وعي ذواتنا إلى أحلام واقعنا، ليس هو الانطلاق من فهم واقعنا إلى آمال ذواتنا. إذ لكل واحد منهما مدار. فالأول يعني أن تغيير ذواتنا مستلزم لتغيير واقعنا، والثاني يعني أن تغيير واقعنا، يؤدي إلى تغيير ذواتنا. ربما قد يكون هذا استغراقا في الفردانية المتوحشة، والمتغربة. أجل، هو أمر الفردانية حين تكون نصيبا للإنسان الذي فقد سياجه في واقعه، فنظر يمنة، ويسرة، فلم ير إلا ذاته التي انصهر فيها نور السماء بظلمة الأرض. فانطوى، وانزوى، لا لكي يفر من علل واقعه، بل ليجعل جند ذاته أشداء في حراسته، وحمايته. كلا، بل لكي يبني العالم الجميل في ذاته، قبل أن يبنيه في خارجه، وإذا ما عنَّ له أن يلتصق بواقعه، كانت منه قوة المسؤولية في إنسانيته، وفي طرائق تواصله في عالمه المتكاثر بين عينيه. وإلا، فإن كثيرا ممن أظهر الجلد في صياغة الواقع، وهو محسن، وصبور، وعطوف، لم يدرك إلا لحظة بسيطة أودت بمهجة حياته، وأنهته إلى رفوف التواريخ المنسية. وتلك هي ضريبة الدفاع عن مصلحة من لا يعرف قيمة ما فقد، وما ضاع منه. بل هي ثمن التضحية من أجل البشرية. وذلك مما لا يدركه إلا قلة قليلة، وهم أفراد في الغالب، لا يأتي منهم فرد فيهدي قطرة دمه التي تسري على جدثه، إلا وكان ذكرى لمن يطيق فن الشكوى. لأن تخليص البشر مما هو معذبون به من مصائب، ونكبات، لم يكن عندي مفهوما مستغرقا في المثالية التي تبنيها الصور الذهنية للأشياء المحبوبة، والمكروهة، بل كان لطفا إلهيا لا يرتجف به إلا الكمل من خلقه، بل هو محض يقين فيمن اجتبتهم العناية للقيام بأمر الخليقة، لا بمقتضى ذواتهم، بل بتدبير الله الذي لم يجعل الكون خاليا من قائم بحجته. وهنا، يكون اللطف لطفان: لطف في المعنى، ولطف في المبنى. وكلاهما في أمر الاختيار سواء. فالحكماء، وهم الفلاسفة، لم يجدوا اللطف إلا في نور العقل، فاكتفوا بالقلق، والألم، لكي يحيطوا الذوات بأسوار المعرفة. وإذا كان الفلاسفة، لهم دوران، دور في الأرض، ودور في السماء، فإن الفلاسفة ليسوا كالأنبياء، فلكل واحد منهما معنى في الوجود. ولا أراني مشتغلا بأمر التفصيل، والتفضيل، بل للفلاسفة دور في تسوير العقول، وتجسير الذوات، وذلك حظهم، ومبلغهم، وإذا خاضوا في أزمات العقول، فإنهم يخوضون ضمنا في أزمات الوقائع، لأن ما يجمع بينهما، هو ما يجمع بين المعنى، وظلاله. وهكذا، فكما يكون المختبر هو الذات، يكون الدليل هو صناعة الواقع الشخصي بوشائجه، وعلاقاته، لما بينهما من تصاحب، أو تضاد. فأحيانا يكون الخارج ضغطا على العقل، لا على الذات، وهنا مكمن آخر للسر، وإذ ذاك يصير العقل باحثا عن طريق للخروج من علة التناقض بينه وبين ما حكم به عيش الذات في ضرورات واقع ملتبس، ومتنافر. ولذا، يلزمني في شعائر العودة أن أفصل بين كثير من المفاهيم المتلاصقة سفاحا، لعلي أقرأ من تجربتي مواقف المستقبل، وأفيد من ظن فيما أقوله معنى، وسرا، وأملا. وذلك ما سيأتي معنا فيما تبقى من هذه التأملات.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات فلسفية 3
- تأملات فلسفية 1
- تأملات فلسفية 2
- صيد الذكرى
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4


المزيد.....




- مكالمة هاتفية حدثت خلال لقاء محمد بن سلمان والسيناتور غراهام ...
- السعودية توقف المالكي لتحرشه بمواطن في مكة وتشهّر باسمه كامل ...
- دراسة: كل ذكرى جديدة نكوّنها تسبب ضررا لخلايا أدمغتنا
- كلب آلي أمريكي مزود بقاذف لهب (فيديو)
- -شياطين الغبار- تثير الفزع في المدينة المنورة (فيديو)
- مصادر فرنسية تكشف عن صفقة أسلحة لتجهيز عدد من الكتائب في الج ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن آثار تورط فرنسي في معارك ماريوبو ...
- بولندا تنوي إعادة الأوكرانيين المتهربين من الخدمة العسكرية إ ...
- سوية الاستقبال في الولايات المتحدة لا تناسب أردوغان
- الغرب يثير هستيريا عسكرية ونووية


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 4