أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 2















المزيد.....

تأملات فلسفية 2


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5054 - 2016 / 1 / 24 - 16:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تستفزني بعض النقاشات التي تجرني مع بعض أصدقائي إلى طرح مجموعة من الإشكالات الفكرية، والمعرفية، وتدفعني إلى أن أخوض في معاناة العقل العربي، وآلامه، وأعبائه، فأجدني مضطرا إلى أن أفحص بعض الحقائق التي خبَّرتها بتجربتي، ودونتها بتربيتي، لعلي أعثر فيها عن حل، أو عن إجابة، أو عن أمل، قد أتعلق به، وأشد عليه، وأعتبره عصارة حياة قلقة، وخلاصة آفاق ضجرة، لكنني سرعان ما أنجاز إلى تلك اللحظة التي تعيدني إلى منطلقات قديمة، كانت وما تزال سببا في ذلك الألم المتراكم بين أحشائي، وأعماقي، وعلةً لازمة تسوقني إلى الشعور بالندم على ما انجدل من عمرٍ ربيعيٍ، كان ممكنا له أن يُحدث عندي ما أحدثه في غيري من علاقة مع حقيقة وارده، وطبيعة واقعه، فاحتوى فيه ما هو متيسر له من إدراك لخط البدايات، والنهايات، ثم انزوى في قفزته إلى أعماق التيار نحو نتيجةٍ صيرته شيئا منفعلا بقوة الأثر الضاغط على رأيه، وقراره، فكان منه السكون في جانب، والهوج في جانب آخر. وذلك ما أسكت صوت السؤال عنده، وأحيى لديه رغبة في ابتلاع أعقاب اللذات، والشهوات. تلك الرغبة التي افترقنا حول تصميم مفاهيمها، ومضامينها، هي أساس اختلافنا في التوجهات، والخطط، والمسارات، ولولاها، لما عَنَّ لنا سؤال، ولا استفسار، ولا استفهام. إذ لو كان ما أعانيه مروقا عن القصة التي حبك العقل فصولها بعنفوان، وفتل محاور لذاتها بين سطور العنوان، لما تألمت لشيء إلا لكوني لم أعترف بما نزف في ذاتي من حيرة فقدت بها مركز الحقيقة، وموردها. وذلك الاعتراف هو الذي لم يصرح به إلا قلة قليلة، واكتفى فيه آخرون بالاستعارة، وما تبقى من أفراد الجنس البشري، لم ير حرجا في لعبته، حتى يراها تستحق اللوم، والعتاب. لكن ذلك لم يكن صراعا كما تخيله من يقرأ الملامح الغائرة، وهو ساهٍ عما يعتمل في الوجدان من رغبات حددتها أقدار التنشئة، والتربية، بل ما يقلقني من افتراضات، ليس حالةً خاصة بي، ولا علامة على الرفض في مقام الإثبات، بل تآلفت مع غيري في صياغة هذا الهامش المتجرد من أنانية المعرفة، وصرت من شدة الارتباط بذلك الأمل في تحويل السؤال إلى ألمٍ مقتديا بكثير ممن أسسوا لسؤال الحقيقة.
قد تكون تلك العودة نوعا من العبث الخادع لنا، ونحن محتاجون إلى حدة فورانه في لحظة التجانس مع ذلك التناقض الذي انبنى على مؤامرة تجذرت بوأد منطق العقل، وإقباره في بحر المغالطات الذكية. وما أعسرها من لعبة قذرة استساغها العقل الفاتر عن مهمته، إذ لولاها، لما تركبت عندنا الحقائق تركيب مزج، ولما تحددت آثارنا في حقيقة الضحية التي تبحث عن الخلاص، والفداء. تلك العودة إلى التجربة، هي مغامرة في حد ذاتها، لأن ما تفاعلت معه الذات في لواحق العناء، قد يكون إنصافا لما هو كائن، وقد يكون خروجا عن مألوفٍ مقرور الحال، لا لكون ذلك كان دالاً على عدمية تؤدي إلى فوضى، بل لكونه كان قراءة واعية لما اختبأ وراء الخلفية من معان مسكوت عنها، أو ممنوع ظهورها، أو مراد لها أن يفهم منها نقيضها، لا هي في حقيقتها. ولذا كان من اللازم علينا أن نعود إلى مقدمات السؤال، كيف نشأ.؟ وكيف تطور.؟ وما هي نتائج بحثه عن ذاته.؟ لأن السؤال، ومهما كان دويه مزلزلا، ومزمجرا، لا يتقصى إلا حقيقته. وإذا وصل به البحث إلى إدراك فصه الثاني، كانت الجملة وافية في تركيب المعنى، ووافرة في الدلالة على المفهوم الجامع لأفراده، والمانع لدخول غيره فيه. ومن هنا، فإن طرح هذه الإشكالات، لم يكن لبناء دور ثان في التحري عن النسبة الكاملة للإجابة، لأن مدار السؤال، لا بد أن يتحدد بحدود، وإلا فرض مجالا بلا قيود، بل كان ضرورة ألحت علينا بأن نساير الواقع بكل تعقيداته، وتمطيطاته، لئلا نفترض كمال ذواتنا في توجيه الآخر الذي اندفع بحماسة إلى حزونة هذا السبيل الأوعر، لكي يستظهر بعض المعاني التي ضاعت منه في صوغ حقيقة ذاته، أو لكي يستحضر أناه في ترتيب بيته الداخلي، وتركيب مفاهيمه بلغة لا تحاكي إلا ما يئن في ديجور حرمانه من حيرة، ووله، وشك. وتلك هي لعبة الزمن التي نخسر معها جملة وافرة من رهاننا على الحظوظ السابغة. إذ ما يمكن لي أن أعتبره حشوا في التفكير الزائد عن حد الاكتفاء، قد يكون لدى غيري ممن مشى ببضعة خطوات ضرورة في عملية الصياغة الذاتية للمعرفة، لكن لا يجوز لنا في نسبية تكاملنا ألا نتواضع مع غيرنا، أو لا نصيخ السمع إلى حكاية أوضاره التي كانت ماضيا لنا، بل من فرائض خدمة الإنسان، أن نتحمل معه عناء متعة البحث عن ذاته، أو عن حقيقته، لئلا نكون مجردين من إيماننا بالحرية، والعدالة، وإلا، فإن من طبيعة الأفكار الراديكالية التي تدعي الشمولية، أنها لا تمنح التلميذ فرصة الأستاذية، ولا تهب الآخر عقد وصالها، إلا إذا تفانى في حبها، والذود عنها. لكن هل تطيق مثل هذه المعرفة المصطحبة لأنانية التاريخ أن تنشئ جيلا مبدعا، ومفكرا.؟
قد يكون مضرا بنا أن لا نحس بوجودنا في سياق من يريد أن يصنعنا رجالا أشداء، أكفاء، نواجه معضلات الحياة المعقدة، والملتبسة، ونناظر من أجل الإبقاء على حوزتنا، وصولتنا، لئلا يمسخ هويتَنا من يريد أن يركِّب فيها أمراضه، وأوهامه. وإذا لم نطق أن نحس بهذا الأمان فيمن نهب لهم مرآة عقولنا، ومرقاة قلوبنا، فإلى أي وجيه الرأي سنتجه بشكوى همنا، وغمنا.؟ ربما قد يلزمنا في حياتنا المعلقة على جُرن من نار، أن يكون لنا مكمن نؤوب إليه إذا ادلهم الخطب، واكفهر المكان، وغدت الهوة سحيقة بيننا وبين كياننا المكتوب عليه أن يعيش الخوف، والرعب، حذرا من السقوط في هاوية الضياع، والفراغ. وما لم يجد كل واحد منا هذا المرفأ الهادئ، والساكن، فإن ما نهلل به من حسن طالع الفكر البشري، لن ينتج في صيرورة الأحداث المفتعلة مع قلقنا إلا ساعات مليئة بالحيرة، ومترعة بالحسرة. وتلك هي معضلة الإنسان في عالمنا المعاصر. فقد انبثق من الأمن خوفه، وانفجر من الأمل ألمه، وانحبس قطر الاطمئنان إلى شيء نسميه في فطريته الساذجة حقيقة تحمينا، وترعانا، وتقودنا إلى شاطئ المبرة، والمسرة.
هذا الخوف قد مزج في فكرنا عدم معقولية صراعات نخوضها بلا رغبة في قلقلها، ونموج معها كما أُريدَ لها أن تكون محبطة لقوتنا، لا كما نريد نحن أن نكون فيها بسطاء، لطفاء، لا تدعونا إلى هلاكنا بين صراخ البداية والنهاية دواع، ودوافع، وحوافز، تخلق في طبيعتنا صورة وحش كاسر، لا يفتأ يبحث بشره عن فريسة يصطادها بمكره، ودهائه. وهذه الصراعات التي حميت وقدتها، لم نألف معها أن نحس بأننا قد وجدنا طريقا إلى تأصيل أركان نبوغنا في طرد الضياع من ذواتنا، بل أسرفت في إفلاس عقولنا عن التفكير، والتأمل، والاستنباط، والاستظهار، وأوغلت بسنابك خيلها في قاع صفائنا، ونقائنا، لكي تتعكر عندنا صورة الكون، والحياة، والوجود، وإذ ذاك، نقاد إلى ميولات خبيثة، ونزعات تسبب المرض، والوهن، وتبدد كل رجاء في تأثيل تاريخ يجمع بين حاضرنا، وماضينا، وتقوض كل شاخص أمام أعيننا، وأنظارنا، لكي نعيش بلا ثابت يقينا ويل المراوغة لحقيقتنا المكبوتة في بواطننا الخائفة من انتهاء الحياة بين بحار العدم، واللاشيء. ولعلنا إذا وصلنا إلى هذه النتيجة التي تجعلنا غرباء في مفاهيم ذواتنا، لن نجد بعد ذلك بابا نستفتحه، ولا ظلا نتفيأه، ولا أملا نقتدي به. وتلك هي لحظة التيه، أو الشتات، وفرصة الضياع بين مهامه تكبح عزمتنا عن مواجهة القلق بالشرب من معينه، لكي نتخلص منه به، إذ لا شيء يخلصنا من حرب المعاني إلا الانغماس في حقيقتها. ولا شيء أعسر على الإنسان من أن يعيش بلا مطلق يحد ملذاته الساذجة، والغير المتعقلة. وهنا إن لم نتجرد عن أنانيتنا القديمة، سيرمينا القدر إلى خيارين: إما الهوان، وإما الموت. وإذا كان اختيارنا للهوان أضمن لبلالة عيش نتبلغ بها في حمأة خطوة مستعرة بحروب النقص، والعجز، والكساد، فإننا سنعثر في نهاية طريقنا على حقيقة واحدة، لا تعدد فيها، ولا تنوع، وهي كوننا أضعنا حياتنا بلا خيط نربط فيه بين الماضي، والحاضر، وبين الحاضر، والمستقبل. وإذا انقطع هذا الحبل السري الذي يصل فيما بين ذاتنا، وكوننا، فما معنى أن نكون آباء، وأجدادا.؟ وتلك هي قمة المعاناة، والمأساة، وهي الفاجعة التي تصرف كثيرا منا عن وجود ذلك البرزخ الذي يخلصنا من العذاب، ويفدينا من سواد المنظر الذي ينتظرنا في زمن لا استعداد لنا بين غوائله، لكي نحتمي بلغة المعرفة، أو الفكر، أو الحلم، بل سنتجرد من كل المعاني، لكي ندرك الخلاص في العناء، لا فيما كنا نخاله لغة موجهة لمواقفنا، وآرائنا في التدبير، والتصريف. لأن أزمة الخلاص في طبيعتها كأزمة العقل، إذ هما متباينان في الصورة التي رسمتها الأفكار قديما، وحديثا، لكنهما شيء واحد، لأن الخلاص من العقل هو الخلاص عينه، أو إفراغ العقل من فكرة الخلاص، هو العقل عينه. ومن هنا، لا يمكن لنا أن نتخلص من الشيء إلا به، وإلا تعددت المعاني، وصارت الرؤية مفككة، والنتيجة متوهمة. ولعلنا إذا اخترنا الهوان، لكي نتخلص من سبة الواقع، فإننا لم نضف إلا جرعة سامة لحياتنا، لأن تعويذة الأشياء التي تقرأها العقول المكتشفة للظواهر، لا تمنحنا تلك اللغة السحرية لحقيقة وجودها، بل زوالها وموتها وحتفها وفناءها، هو الخلاص منها. لأن موتها في الذات هو نهايتها، ولا نهاية يمكن لنا الوثوق بها أكثر من حقيقة الموت، لما فيه من زوال الوجود عن الذات، وفناء الشخص بالبعد عن دائرة البقاء. وحينئذ لا ضير إذا أحسسنا بنسمة صوفية في زهدنا عن المعاني التي اختلطت بعقل الواقع، وامتزجت بالذوات التي أبرت الظاهر، وعقت الباطن، ونسيت أن اتصال العوالم فينا، لا ينطلق إلا من تجردنا منها، وتحررنا من إغراءات بريقها، ولمعانها. وإذ ذاك، نطيق أن نحمل الرسالة من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، بل نستطيع أن نكون سادة، وقادة، وحملة مصباح سؤال الحقيقة إلى من سيرث في غربة هذا الكون نكدنا، وضجرنا، وقلقنا. فلا غرابة إذا التبست المعاني بين من أخلد إلى الأرض، وابتغى خلدا ليس له في الوجود المطلق، وبين من شهد في وجوده صفاء مرآته، وأيقن فيها بعين عالمه الجميل الذي نقشه على لوحة مبادئه، وقيمه، وسلوكه.
وهكذا، فإن سر الكائن البشري في هِمَّة تحويل شعوره الإنساني بين الحيوات المتآلفة مع نظام العقل الكلي، فلا يكاد ولو مع غموض التجربة الذاتية، ينفصل فيها فرع عن أصل. وإذا انفصل مِلحها عن طعام حياته، وبردت جمرة مشاعره، فلا محالة لن نكون أهلا للبقاء، ولا أجدر بالوفاء، لأن بقاء شموخ رأس عقلنا في استمرار تلك العلاقة التي تربط بين العهود، والعصور. ومتى زال هذا العنفوان بتبسيط الصلة بتاريخ البشرية الأخلاقي، فإنه لن تتحقق تلك النية الطبية التي تمر على شط الحياة بهدوء، واطمئنان، ولن تتوطد لنا صلة بتلك الحقيقة التي تجمع شتاتنا، وتنظم جزئياتنا، وتوحد عوالمنا في مركب جمعي، يضمن سرَّ بقائه كلُّ ما يلتحم في جوننا من إرادة صلبة على مواجهة العدم بإيماننا بنسبية حدودنا بين محيط هذا الوجود المطلق. وأي رحمة في ذات لسانها عطوف، ويدها لا يقيدها ورع، ولا زهد.؟ وأي أمل في عاطفة فاترة لا تستوحي من سمو الإنسان سر علاقتها بالكون.؟ وأي حظ في قوة ننالها بسرطان الحقد، والموجدة.؟ وأي فائدة في ترف يصطحبه شره.؟ وأي خلد نرجوه إذا وهبنا الذوات لعذراء الشيطان، ونحن جثوم على مغازلة الملاك.؟ قد نتوق جميعا إلى أن نصنع ذلك العالم الجميل الذي يحمل نقيضه، أو ينفي ضده، ولكننا في الوقت نفسه، ننهك عقولنا في نحت ذلك التمثال الذي يدل على لحظة الحرية التي تجاوزت الموضوعي إلى الشخصي، وتحولت إلى فضاء خصب للتأمل المجرد، والخيال المنسرح، وهو في ذاته لم يرتق منه الفكر إلا من عالم الحس إلى الباطن، ولكن بطبيعة لا تمتلك في سذاجتها موقفا ذاتيا، وأخلاقيا. فبعضنا يصنع هذا المثال المتوهم للعالم الجميل من شمع أحمر، وإذا اشتدت حرارة الأماكن ذاب وهجه، وحينئذ يتأفف على ضياع زمن انصرم في نقش السرور على وجه لن تفيده البسمة إلا عبوسا، واكفهرارا. وبعضنا يصنعه من عجين قمح، وإذا جاع بطنه من سعار وهمه، جعله زادا له يستقوي به في سير رغباته الفاتكة بعقله، وقلبه. وبعضنا يصنعه من جبص أصفر، وإذا دهمه خوف، أو رهب، هشم رأسه حذرا من الارتجاف به، ثم عدا عليه يمزقه إربا، إربا. وبعضه يرسمه على ورق بردي، وإذا بغتته نخامة هائمة، بصق عليه ناسيا، وإذا تذكر ما فقده من سر الليل السارح بين أطياف المنى، لفه بعنف، وغضب، ثم عاجله برمي ما فيه من تاريخه بين أكوام القمامة. وبعضنا كون له علامة في ذهنه، أو في ذاته، ولكنه لم يجد في ملله وضجره وسآمته له محلا، لكي يحقق غموض وعيه الذاتي توازنا بين ضروراته، وكلياته.
أجل، هكذا صنعنا الحلم من ألوان شتى، وقد تفنن الإنسان في بناء هياكل ورسوم ونقوش له، لكن لم يتحقق شيء من ذلك في مرحلة التهكم على الواقع الممل الأنحاء، ولو تحقق لنا وجود الروح فيه، لما طافت بنا الأحلام نحو القباب، لكي نبحث عن سر تلك المثالية التي فقدها الفقر في مقام الغنى، والطهر في محل النجاسة. تلك هي أم الحقائق عندي، لأن خريطة ذلك العالم الجميل الذي نفدي فيه قلوبنا من قلب الواقع، لم توجد إلا في عقول مستعرة بالقلق، والشك، والسؤال. إذ لولا ما فيها شوق، وعشق، لما تركت المنافسة على حصة الشهوة، لكي تُدين ما ترفل به الطبقية الصلدة من ترف، ونعيم. فهي وإن أبت أن يعيش في هذا العالم أجناس متفاوتون، ومتصارعون، لم تطق أن تخرج عن دائرة الاختراع لتلك الصور الذهنية، لكي تؤسس لتلك السعادة المنتظرة، بل لا قدرة لها على صناعة عالم الفقراء إلى جانب عوالم الأغنياء. لأن طبيعة الحلم في طوباويته، لم يدرك حقيقة توالد المراتب داخل معانيها المحددة بمفاهيمها في التركيب الذاتي للقضايا الأخلاقية. ولذا جعل الفقر مرتبة، والغنى مرتبة، وأصر على أن يكون لكل واحد منهما وجود مستقل. وهما في حقيقة الاعتبار، لا يتناسل أحد منهما إلا من الآخر، بل تزاوجا، وصارا متسافحين بلا ضمير خلق، ولا قيم. وهل يمكن وجود صفاء لحظة الغنى بدون أنين عضات الفقر.؟ أم هل يجوز أن نحيى في صفاء الفقر بلا جشع وجبن الغنى.؟ لا أراني مدافعا عن ذا، أو ذاك، لكن مرتبة الغنى، هي مرتبة الفقر، وبينهما اتحاد، والتصاق. إذ لا يوجد الفقراء إلا حيث يوجد الأغنياء. وبدون وجود ذا، لا يجوز أن يحصل وجود الآخر، لما في ظهور أحدهما من سبب في ظهور الآخر. ومن هنا، فإن توقنا إلى صناعة العالم الجميل، هو نوع من الحلم الذي صنعته لغات الكون المحرفة، أو هو جزء من الصراع الذي يمد الحياة بطاقة الاستقرار، والاستمرار. فلا غرابة إذن أن يكون الصراع رغم قبحه في صور ذكرياتنا الطفولية حقيقة لا مفر منها، لكي يضمن الكون امتداده نحو الغد، وإلا، فإن كثيرا من أحلامنا، ما هي إلا أوهام شغلتنا عن طبيعتنا، وحقيقتنا، وإن لم تكن وهما، ومينا، فمتى تحققت هذه الطفرة في تاريخ الكون.؟ لو نظرنا إلى كل التواريخ، وحتى التي أقر الإنسان بجمالها، وكمالها، فإننا لن نجد ذلك العالم الجميل الذي يمدنا بطاقة القلق المطرد انعكاسا. فالإنسان قد قتل في أول وجوده، بل قصة هبوطه إلى عالم الأرض، وما لزمها من ثنائية الخير، والشر، وما رافقها من الذنب، والخطيئة، والمغفرة، والتوبة، لن تغرس فينا إلا فسيلة الإيقان بأننا خلقنا للصراع، والتدافع. وسواء أسميناه صراعا، أو تدافعا، فما هو إلا حقيقة جلية لن يأتي عليها زمن من الأزمنة، فننسى أننا خضنا معركتها، لأنها مغروسة فينا، وثمارها موجودة فينا بالجبلة، أو بالحقيقة الواقعية.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صيد الذكرى
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2


المزيد.....




- بآلاف الدولارات.. شاهد لصوصًا يقتحمون متجرًا ويسرقون دراجات ...
- الكشف عن صورة معدلة للملكة البريطانية الراحلة مع أحفادها.. م ...
- -أكسيوس-: أطراف مفاوضات هدنة غزة عرضوا بعض التنازلات
- عاصفة رعدية قوية تضرب محافظة المثنى في العراق (فيديو)
- هل للعلكة الخالية من السكر فوائد؟
- لحظات مرعبة.. تمساح يقبض بفكيه على خبير زواحف في جنوب إفريقي ...
- اشتيه: لا نقبل أي وجود أجنبي على أرض غزة
- ماسك يكشف عن مخدّر يتعاطاه لـ-تعزيز الصحة العقلية والتخلص من ...
- Lenovo تطلق حاسبا مميزا للمصممين ومحبي الألعاب الإلكترونية
- -غلوبال تايمز-: تهنئة شي لبوتين تؤكد ثقة الصين بروسيا ونهجها ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جميل حسين عبدالله - تأملات فلسفية 2