أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد الباسوسي - البيت العتيق















المزيد.....

البيت العتيق


احمد الباسوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5048 - 2016 / 1 / 18 - 22:45
المحور: الادب والفن
    


حينما يشاء القدر فلا راد لمشيئته، ومشيتئه مختبئة هنا خلف جدران ذلك البيت العتيق الذي تهدمت واجهته الطينية ومع ذلك ما يزال قادرا على إخفاء أصحابه وأسرارهم. في الداخل ترقد إمرأتان في غرفة مظلمة من دون باب، سقفها الخشبي تآكل ويوشك على السقوط فوق رؤسهن، أرضيتها مفروشة بالتراب والكراكيب القديمة وقطعة من الحصير مهترأة فوقها مرتبة قطن قديمة، مهترأة تفوح رائحة العطن من كل جوانبها، غُيبت ملامحها بفعل الإتساخ والإهتراء. ليس هناك مجال لتقلب المرأتين أثناء رقادهما بفعل البدانة الشديدة وصعوبة الحركة. المرأة الأولى مليحة الطلة، شبابها كان صاخبا بالأحداث والرجال، ورغم ذلك نجحت كثيرا في سربلة حياتها بالغموض والأسرار، قضت رحلة زواج قصيرة خارج البيت العتيق قبل أن تعود اليه سريعا وكأنها إنفكت من سجن كريه، عادت لعملها، وزملائها، ومعارفها، وحياتها، وذاتها التي عشقتها بجنون، تتبخطر في الشارع بكامل زينتها وزٌَواقها، تنتشي وتستأنس بالعيون التي تطالعها وتتابع دييب كعبها الخشبي على الأرض، ورجرجة ردفيها المنتفخين من الخلف ويشُعٌَان في الشارع المتروس بالمقاهي والمتسكعين حالة مدهشة من الاثارة والدفء. خرجت ذات صباح من البيت العتيق وعادت عالقة، وبعد تسعة أشهر بالتمام كان هناك طفل جميل يملأ جنبات المنزل والشارع صخبا وأسئلة، لم يمتلك أحد الجرأة لكي يسألها عن هوية والده، لكن الجرأة كانت في ذلك السيل من الشائعات التي فرشت أرضية الشارع والبيوت الناعسة والفضولية والمتسكعين دوما على المقاهي القريبة من البيت العتيق، كثيرون قالوا إنه إبن "سفاح"، مجهول الأب، جاء نتيجة طلعاتها المتكررة وزياراتها للفنادق الرخيصة، ومقربون أشاعوا أنه إبن زواج عرفي من رجل خليجي حضر الى مصر من أجل المتعة ورجع لبلاده. لكن جدران البيت العتيق ظلت موصدة بإحكام على سر الطفل الذي لم يتم تسجيله في دفتر المواليد الرسمي. لم يتمكن أشد الفضوليين جرأة في التاريخ أن يهتك ستر البيت العتيق ويكشف عن سر والد الطفل الجميل للناس. ثم جاء صباح آخر ذات ليلة من ليالي الصيف المزدهرة بالصفاء والحب، عادت تلك الليلة للبيت العتيق عالقة أيضا، ومثل المرة الأولى دارت ماكينة الشائعات حول هوية الطفل ووالده، خرج للحياة بعد تسعة أشهر جميلا موفورا بالصحة والعافية، وجوانب البيت العتيق على عهدها تحفظ الأسرار، وتمنع الفضوليين من المعرفة. تحول الطفلين لمرحلة الصبى من دون ورقة قيد مولود، ومن دون أصحاب في المدرسة التي اوصدت أبوابها دونهم بسبب عدم وجود ورقة الميلاد، ومع ذلك لعبوا مع أقرانهم في الشارع الكرة، والسبع طوبات، والتريك تراك، وأصبحوا أصدقاء حميميين لنظرائهم ولأصحاب الورش التي عملوا فيها صبيانا نجباء، وفي الليل يزعم جيران البيت العتيق أنهم يسمعون أحيانا أصوات مشاجرات الأبناء مع أمهم وبقية أصحاب البيت العتيق حول هوية والدهم الحقيقي، ومطالبات ملحة بالكشف عن شخصية الوالد أو الوالدين، لكن أصواتهم تضيع دائما داخل زوايا وتشققات البيت العتيق الذي بدا من الواضح أن الوهن أصابه، وحوائطه تتآكل، وسقفه لم يعد يتحمل عواصف الخريف العاتية، ولا صعود الأبناء فوقه مع رفقائهم يطلقون طائراتهم الورقيه الملونة في الفضاء يحملها الهواء ويقودونها من الأرض بخيط رفيع قوي في لحظة الهام صاخبة مستثيرة للفرحة والمتعة وعدم الإكتراث بالبيت العتيق وأصحابه وأسرارهم البغيضة. الآن المرأة الأم لم تعد جميلة، صارت بدينة، تتشح بعباءة فضفاضة سوداء، وتخنق وجهها الأبيض بلون الحليب بالنقاب، وترابض كل يوم منذ الصباح الباكر أمام أحد الأسواق التجارية الكبيرة تحمل في يدها لفة من المناديل الورقية تترقب الزبائن الداخلين والخارجين، تتسول نقودهم وتعود في آخر اليوم الى البيت العتيق بنفس لفة المناديل الورقية، لكن جيبها متخم بالنقود التي تحصلت عليها، والأكثر من ذلك إنها على يقين من إنها دخلت بيت الأسرار حيث لا يُسْمَح لأحد بالمعرفة أو الفضول. والمرأة الثانية التي ترقد جوارها بدينة جدا، حصلت على فرصتها في الخروج من البيت العتيق والزواج من عجوز لديه أبناء في مثل عمرها في ذلك الوقت، ثم يرحل الرجل في هدوء بعد أقل من عام واحد فقط على الزواج. طردها أبناء زوجها الغاضبين بعد يومين فقط من الوفاة، وأعلنوا أن أباهم طلقها قبل موته، وأشهروا ورقة مختومة في وجه الجميع. خرجت بأسمالها التي ترتديها الى بيت الأسرار، زعم الناس حينئذ إن العجوز لم يمسها، وإنها ما تزال عذراء لم يثقبها أحد. لكنها صامتة، لا تبكي ولا حتى تغضب، أعادوا لها عفشها المكتوب في قائمة الزواج بعد يومين آخرين من خروجها من بيت الزوجية، تناثرت قطع الأثاث ما بين أحدى الغرف المهجورة الممتلئة بالكراكيب وعفش المرأة الأولى، وبين سطوح البيت الآيل للسقوط. كأنها تنفست الصعداء أخيرا، ازداد نشاطها وتوهجها في حضن البيت العتيق، احاطت الطفلين برعاية أُمومية خاصة جدا، اعتبرتهم أبنائها، إحتار الناس خارج جدران البيت العتيق، إعتقد الكثير منهم إنها امهم فعلا. غابت الحقيقة، ارتفعت درجة سخونة الأسرار. مع دوران الأيام لم يعد أحد يذكر من تكون الأم الحقيقية التي تم مضاجعتها وانجبت الطفلين. لم تعد قادرة على الحركة مثل زمان، جثمت البدانة على كامل تفاصيل جسدها الذي تورم بشدة، صارت مثل الفيل أو هكذا كان يطلق عليها الأطفال الصغار الذي يمرون من أمام البيت العتيق ويلمحونها جالسة خلف أحد الجُدر المتهدمة تطالع الشارع وحركة الناس من دون أن يراها أحد. كذلك نهشت الأمراض المعروفة وغير المعروفة جسدها، صارت تتألم في صمت، وتشكوا للجدران الطين في صمت أيضا، كثيرا ما شاهد الجيران أحد الأبناء يسحبها من ذراعها وهي متكئة بثقلها على كتفه، تنقل قدميها على الأرض بتثاقل وبطء حتى تركب التاكسي الذي أحضروه للذهاب الى المستشفى الحكومي. لم تعد تملك من عالمها سوى عقيرة مميزة تصرخ فيها على أبنائها حينما يغضبونها، ومساحة صغيرة من الأرض تستطيع التحرك عليها ما بين فرشة النوم حيث ترقد الآن معدومة القدرة على التقلب والمرحاض المتهدم مخلوع الباب، ومدخل البيت العتيق حيث تستأنس لحظات بمطالعة الجيران ومعرفة ما يدور في الشارع، والأهم تلك الصرة القديمة التي تفوح منها رائحة العطن والتي تجلس فوقها دائما، ومستحيل أن تغيب عن بصرها أبدا، يُشيع الناس إن بداخلها مئات الالآف من الجنيهات حصيلة عمرها من ميراث أبويها ومساعدات الناس، والتسول. تقلص لديها كل شيء، حتى نور عينيها بدأ في التلاشي، رغم النظارة التي أحضرها لها إبنها الأكبر وأركبوها فوق عينيها بعد زيارة لمستشفى الرمد في منطقة الجيزة، لكنها تشعر بقوة إن الظلام على وشك أن يلفهما. لم تقلق، كأنها توحدت مع هذا البيت العتيق وأئتنست برائحته وأسراره، بل ترسخ لديها إعتقاد يقين إنه ما يزال الحصن الحصين الذي يحميهم من الأشرار والكارهين الراغبين في فضحهم والعبث بأسرارهم. لم تعد هناك متعة في هذا البيت العتيق أو المقبرة كما يحلوا لبعض الجيران أن يطلقوا عليه أكثر من متعة الجلوس تحت صرة النقود، والشجار مع الأبناء الذين أصبحوا شبابا الآن بسبب رغبتهم في هدم البيت وبناء منزل جديد بالطوب الأحمر والأسمنت. لكن المرأتين ترفضان بشدة قاطعة، كأن حبل حياتهم السري معلق داخل هذه الجدران الطينية التي عمق الزلزال من جراحها، لكنهم أصروا على ترميم ما تهدم من الواجهة، وترك البيت العتيق كما هو على حاله من دون مٌس أو حتى إقتراب حتى يشاء القدر، هذا إن شاء القدر فعلا.
د. احمد الباسوسي
يناير 2016



#احمد_الباسوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صائد الذباب
- قلق اجتماعي واضطرابات انشقاقية وجسدنة (المنزل المشئوم)
- الانتكاسة والانهيار بعد العلاج /استغاثة قبل الخروج
- آليات الدفاع النفسية ونظرية في الادمان وعلاجه
- فتاة لا تغطي شعرها
- اضطراب قطبي من النوع المسكوت عنه (الطبيبة الحائرة)
- مزاج اكتئابي واحتراق نفسي
- كيف تحمي مؤخرتك
- - البدون - الحائر
- العجوز والحرب (قصة قصيرة)
- ممنوع عليك غلق باب الحمام
- الموكب (قصة قصيرة)
- لذة ممنوعة
- طلاق بالأمر (العلاج النفسي)
- تلاشي (قصة قصيرة)
- الصعيدي الذي قهر الفصام


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد الباسوسي - البيت العتيق