أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - جنان جاسم حلاوي وغابة النخيل الإنسانية















المزيد.....



جنان جاسم حلاوي وغابة النخيل الإنسانية


هاشم مطر

الحوار المتمدن-العدد: 5037 - 2016 / 1 / 7 - 08:49
المحور: الادب والفن
    


مدخل
اعتمدنا في هذه المطالعة لجهد القاص العراقي جنان جاسم حلاوي على ثلاثة او اربعة مباني اساسية تكوّن مدخلاً لروايته (أهل النخيل) الصادرة عن (الساقي) 2015، بحيث يكون بإمكاننا من خلالها متابعة مضامين اخرى لا تقل أهمية عنها. كان ذلك بسبب اهتمامنا بهذه الرواية التي تتمحور حول عدد من العناوين المهمة والتي ترتبط وحداتها بوشائج حوارية خاصة والتي استوجبت اعتماد اسلوب يسهل الدخول الى عالم روايته، مع وضع البناء النقدي على ما يقابله، قاصدين من وراء ذلك تسهيل المنهج ذاته وجعله في مكينة القارئ الذي هو اصلا لديه عدد لا يستهان به من الأسئلة.

محلية الحدث والعالمية
لا يخفى على اي قارئ بأن الكثير من الروايات اخذت طريقها للعالمية بواحد من الأسباب هو محلية الحدث. فهنا يسعى الروائي الى استخدام ثراء جاهزا كما استخدام المعرفة بلغات متعددة منذ الطفولة فهي جميعها لغات أم. أما محلية الحدث وبالتناظر مع مفردات الجغرافيا بمعنى تشكيل الذاكرة الإنسانية المحضة لدى اي إنسان، فهي تشكل احدى مقومات نشاطه الإبداعي والاجتماعي، وبالنسبة للكاتب هي الذخيرة الحية لمنتجه او بالأحرى المنجم الذهبي الذي يجعله واثقا من مادته الكتابية، وهي لحد اللحظة غير ابداعية إنما سردية عادية، تصبح اكثر إثارة عندما تخضع للروي والحكي. وهي مؤهلات القائل او الراوي ناقل الحديث العادي.
إما بالنسبة للكاتب او الروائي فالأمر مختلف من عدة جوانب، فهو يخضع المحلية الى سياق نظامي مختلف، يخترقه من عدة جوانب. بعض منهم يبقي على مقوماته كما هي فتكون واقعيتها محددة غير طليقة او لنقل قليلة الإثارة ذلك لتشابهها مع الكثير من الحكايات، ولا يسعى الكاتب في هذا الحال الى ادخال ادوات أخرى لتسخير مادته المحلية لنظام روائي معرفي. وهنا يقع كذلك بعض الكتاب بمشكل من نوع آخر هو رتابة القص او الاقحام في حالة عدم امتلاك، او افتقار الكاتب إلى حرفية تلقائية فيأتي النسيج مثقلا بالميكانيكية. أما التلقائية ذاتها فهي حالة ابداعية تأتي كما ذكرنا على غرار امتلاك اللغات منذ الطفولة، فهي سمعية وبصرية، مضافا لها قوة حركية تجعل التلقائية من الحكاية وهجا دائم الحضور لدى المتلقي سواء ان كان مستمعا او قارئا، وهذه ميزة للكاتب الناجح.

المكان لدى جنان هو الصورة المخبرية المنجزة ذهنيا بعدد من العقول، فبيت العجزة له بناء محدد يسقط على لوحه الحساس صوراً مختلفة، كذلك الحال بالنسبة الى دار الأيتام، فبيوت الدعارة، الاهوار وغيرها. واذ ما اخذنا واحدة منها على سبيل الإضاءة: فبيت الدعارة هو سبة بالنسبة للمتدينين، ورزق لساكنيه، ومعروف للمحرومين وطالبيه، ومصالحة مجتمعية بالنسبة لعامة الناس، وبالنسبة للكاتب سيضيف ما يعزز اشتراطاته كما سنرى بالنسبة لجنان. ولا يشترط بالمكان ان يكون واقعيا صرفا حينما يخضع لفكر الكاتب وعلى رأسه الصورة الوصفية المتصورة التي يفاجأ نفسه بها بعد ان أخضعها للخيال المتمرد على مستوى التغيرات التي تطرأ على سحنة الواقع، وهنا تكمن الإضافات الحسية الرقيقة والاوصاف الجمالية البديعة لتعيد المشهد او المكان الى واقعيته باختيار وظيفة ما فصار مقنعا، صافيا ومؤثرا. فالمتخيل في ذهن الراوي يصبح عند ذاك المكان الجديد (الملموس) بالنسبة للقارئ.
مدينة البصرة اذن هي منجم جنان الذي سيرفده بوقائع لا حصر لها، جعلته يختار منها ما يناسب تجربته، وجغرافيتها هي خارطته الكتابية، وابطاله وشخصياته هم ادواته الابداعية. ترى الى اي حد وصل الكاتب بمشروعه المحلي، وهل استطاع تجاوزه الى العالمية/الكونية بمعنى الفكرة الانسانية؟. ثم كيف تعامل الكاتب مع اكثر من اربعين مكانا ورد في روايته؟ هذا ما سنتطرق له اضافة الى ما سنبدأ به:

تقنية النص
دخل جنان حلاوي عالم روايته أهل النخيل من باب الضخ التتابعي القصير فأبقى القارئ على درجة من التلهف لمعرفة المزيد في فصول تالية. أما السبب غير المعلن هو فك جدران ذاكرة إسمنتية تلك هي الرابضة في التكوين والمخيلة يخاف عليها الكاتب من الضياع المفاجئ عندما يبدأ بتفعيل نظام القص. فيلجأ الى استخدام تقنية نطلق عليها بالتتابعية، وهي كمن يصعد السلم درجة درجة او بالأحرى لدى جنان هي سلالم متعددة تفضي الى هدف واحد هو البناء الروائي المحكم، وما بينه تتمدد عناصر القص من سرديات ولغة وبلاغة وتشويق وحتى الخيال وما الى ذلك حسب ضرورتها ودرجة اولويتها لدى الكاتب نفسه من جهة، ودرجة تحسسه لقارئه من جهة أخرى. وهذا يلزم الكاتب ملامسة مجسات مفرطة التحسس لذهنية القارئ وكلما اتسعت تكون الرواية ناجحة ومؤثرة وكبيرة. وهنا يكمن سر نجاح الكاتب: ان تمكّن من جعل نفسه قارئا لنصه، متأثرا حياديا حتى في اشد المفاصل التي لا تقتضي المعاينة باعتبارها خارجة عن ارادته وهو بالتالي هو الناقل للواقعة. وهذا توريط حدسي لا يحسد عليه الكاتب، سنرى كيف تعامل جنان معه، بل كيف كانت اسقاطاته المعاكسة عليه.

الجماليات
للغة أجنحة؛ وجمال استخدامات اللغة يكمن في اجنحتها، بانسيابية النص مع جسد الكتابة الابداعية وكأن اللغة طائر يطير مع الإضافات ، لذلك يتوجب على اي كاتب الانتباه لها، ذلك بالحد من السرد الشاعري خارج النص او بالأحرى جوهر الفكرة او الحالة التي هو بصددها. هذا ما نراه كثيرا يتردد بجهد القاص جنان حلاوي في نثره وعنايته على وفق مقدمات لفصوله، ومن ثم يقدّم الى رصد الحالة.
لا أقول ان هذا نقصا انما ضعفا على الرغم من التراكم الجمالي المفعم بالإثارة الذي يدهشنا جماليا/كتابيا، من حيث الابتكار اللغوي والتركيب والحس الذي يحسب لصالحه. ربّ سائل يسأل: ما الذي تريد من الكاتب؟ ان هو كتب بلغة ميسرة خارج الايقاع الجمالي فهو غير مقنع! وان اعتمد جماليات اللغة فهو غير مقنع ايضا؟ فأين المشكل اذن على وجه التحديد؟.
حسنا، نجيب عليه بأن النصوص الإبداعية، بمقدار تعلقها بالمصطلح ذاته، هي تلك التي تتعامل مع الفكرة كوحدة موحدة بمعنى المحمول السردي والجمالي في آن واحد، وهي حاملة بل رافعة لإنشائية رصينة وبعيدة عنها بنفس الوقت - لاحظ الرافعة الشوكية كيف تعمل- فأن اتت، الجماليات الوصفية، فأنها تأتي في سياق السرد وليس خارجا عنه. هذا اذا ما اردنا ان نجري تطبيقات اشمل على نص جنان تختص بالكفاءة والأداء كمستويين نقديين.
وهنا لابد من انصاف نص حلاوي بأنه يحمل الكثير من تلك الملامح، ويفقدها بين تارة واخرى بسبب حساسية الكاتب المفرطة وتدلهه بسلطة الجمال الأخاذة التي يتصف بها نصه اجمالا، فيغفل عن صوته احياناً، وهذا بالذات ما يخلق تعثرا لدى القارئ وكأنه يقرأ في مادتين مختلفتين. نضيف اليها مفهوم التعرية الجمالية الخاص بواحدانية الحدث بمعنى استقلاله، فأن لم تؤثر على سياق النص توجب على الكاتب حذفها او النظر اليها على أقل تقدير، واعادة ادراجها على نحو آخر. وسنحاول تبيان ذلك تباعا.

يبدأ جنان روايته بمشهد درماتيكي متوازي توراتي/قرآني عن الخراب الذي يحدثه الانفجار/الانفجارات بصور قوية مفعمة التأثير ومشحونة بالغضب محدثة الخراب. تلك هي التماسة النص الأولى التي لا لبس فيها بأن الشيء حصل فعلاً فلا مناص من استدراكه، ليس وصفا سائبا انما بمعية بطليه رمزي وأحلام، اللذين سينهي الكاتب بهما روايته لأسباب ستكشف عن ذاتها تباعا. وهذه اول اشارة مكانية موفقة، ووقتية تعنى بالحرب والاختلال بسبب الاحتلال.
وبنفس الوتيرة يتابع روايته لمشهد زواج اسماعيل ونادية مع مقدار من الوصف المكاني الريفي. تتفاجأ العروس نادية من الخيبة الأولى بعريسها، الذي يبدو بسن خمسيني، استاذ الإنكليزية اسماعيل الذي هو في سن 36 واقعا، ويبقى زوجها بالنسبة لها «مخلوقا شرساً»، ومن نتفة صغيرة يظهر فجأة عمر الحدث ذلك من خلال علبة دخان الـ(غازي) الذي انتهى عهده في أواسط الستينات، في اشارة موفقة اخرى للمكان والزمن فهو يثق بقارئه من اول لحظة،
ثم ينتقل الى مشهد ثالث هو مهيدي المجنون وزهور المربية في ملجأ الأيتام.. و(مهيدي) هو طفل قاصر مجهول الأصل يعمل لدى جودي الذي يؤدي خدمات دفن الموتى ويتخذ من دار العجزة القديم مكاناً لذلك. فالملجأ/المكان بالنسبة له حماية.
زهور التي تدخل حيز مغامرة المؤلف من خلال علاقتها بجوني البحار الأسمر الذي يبدو مترددا بالزواج منها على الرغم من مخاوف أمه من ملاحقة الملا جعفر الذي يحاول الحصول عليها بأي ثمن..

نتابع النظام الروائي الذي اختاره جنان على وفق الفصول المتجزئة، مع خيط رابط يكاد لا يبان، سنأتي عليه بعد قليل. فيدخل فصله الرابع في جو صاخب بالعواصف والأمطار مفعما بالوصفيات وجماليات المناظر المنتقاة ذات خصوصيات بصرية محضة، فيبدو بطله جواد متصارعا مع الطبيعة والخوف الذي يداهمه في «الوصول الى مبتغاه » لملاقاة صديقه حسين العامل، الذي يلجأ بتوصيفه كلاسيكيا في سياق محدد، ص48. حيث ينطوي المشهد على حدث سياسي بإلقاء القبض على رفيقيهما جبار اللاتيني، مع وصفيات سيناريوهية تتعلق بالمكان فحسب، حيث يتجهان بالأكياس المعبأة بالمنشورات الممنوعة بقصد اخفائها عند جودي الذي رحب بذلك بل كان حازما بتصرفه الايجابي. يحاول الكاتب هنا ان يعطي المكان من خلال الصوت والصورة تأثيرا مزدوجا هما الواقعة والحس اللذان لم يفتقدا الى الرابط الذي يجمعهما على نحو تأثيري صاف، فالمشهد الطبيعي الجامد ممكن تأمله جماليا صرفا، انما حركته مرهونة بالفعل الذي يحصل، وعندما يحسن الكاتب التأثير المتبادل بين الاثنين فأنه ينتهي الى شكل العاطفة التي تعطي المكان اهميته ودوره.
وعلى طريقته يترك الكاتب المشهد سائبا، بمعنى التواصل معه لاحقا، ويدخل حيز شخصية اخرى هي بدر، وكما يبدو ان بدر يبدو غريبا او وحيدا يستأجر غرفة عند عائلة معظمها من النساء. يطاله غضب السلطة فيترك وظيفته كأستاذ في اللغة العربية بسسب ميوله ومعاشرته لليسارين، ويعمل مديرا لإدارة سينما في المدينة، فيما يمارس كتابة القصة، وله علاقة بسلوى اخت زهور، وهي تعمل على ما يبدو كخادمة لدى (الخاتون)، سنأتي عليها، ويقوم رمزي الصغير بدور ساعي البريد بينهما.
في هذا الفصل يبدأ الكاتب بربط أولى مفاصل روايته، فرمزي هو ابن اسماعيل ونادية وعلى ما يبدو انهما اصبحا في مرتبة تتقدم على مرتبة عامة الناس «كانا يقفان بين جمهور ينظر اليهما في فضول ومهابة، فأناقتهما تدل على انتمائهما الى طبقة أرقى». اجاد الكاتب بالإخبار الضمني من خلال السياق في الوصول الى هدفه. فبطلاه يدخلان حيز التحدي المجتمعي والهوس الجمعي الذي عالجه الكاتب بصفة جمهور السينما البسيط غير المثقف، ذي الكلام البذيء، والذي تغريه مشاهد العنف والإثارة حسب، أما مضمون الفلم فهو شأن آخر. يعبر الكاتب عن مشهد اغتصاب (لورنس العرب) الذي حذف من قبل الإدارة بهتاف احدهم (ركبه) وهي إشارة اكثر من كافية للحالة. اضافة الـى استخدام الصوت الذي انبعث فجأة من مقصورة مجاورة لمقصورة (اسماعيل ونادية)، تشي بتواصل جنسي بين اثنين، فبضربة موفقة للكاتب في توصيفه للمشهد الكبير الرائع اعطى مغزى ضمنيا عن الحالة المجتمعية وقيودها مصحوبة بقوة الاستهتار في مجتمع صارم التقاليد، للحد الذي يثير الصوت المنبعث (المثقف) اسماعيل بطلبه من نادية زوجته ان يمارسا الجنس في مقصورتهما. هذه الإشارات المتضمنة للجماليات، التي يسعى الكاتب الى تكرارها، تختزل المعنى والتركيب وهي واحدة من شذرات القص المتقن وتعفي الكاتب من الإسهاب التقريري كالمقال والكلام العائم الذي نراه للأسف في روايات كثيرة. ولحد الآن نتمنى على الكاتب الاستمرار بنظام قصه.
وعلى أثر الموعد المرتقب بين بدر وسلوى في قصر النقيب اينما تخدم (هي) أرملة الباشا (شيرين خاتون ) ذات الأصل الكردي، والتي أصبحت «اقرب إلى المومياء منها إلى الكائن الحي» والتي سيكون لقصتها مكانة مهمة في الرواية فيما بعد، يكون الكاتب قد استمر بخلق واستكمال عناصر روايته من خلال الابطال الجدد الذين سيكون لهم دورا مؤثرا في مجريات السرد والقص على حد سواء. يكرر الكاتب هنا تقنياته بالسرد الصارم فيوحي للزمن من خلال توله العجوز بالإنصات الى اغاني تعود الى زمن آخر، وهو بهذه الإشارة يدخل حيز الفضاء الروائي المزدوج، الذي هو قيمة التمازج والانسياب المركب بين الزمان والمكان، فالزمن هنا هو تواصل حسي وفيزيائي، والمكان/البيت هو المشغل الحركي. ثم يدرج على دخول الحدث بحركة رشيقة وتأني الى عالم آخر هو زوج العجوز الإقطاعي (حامد النقيب) سنأتي عليها. غير ان الكاتب يعهد مرة اخرى الى توصيف سيناريوهي بوصف المكان، الغرفة التي جمعت الحبيبين، بما فيها تكرار مشاهد الجنس الوصفي الذي لم يكن له ضرورة، فالكل يعلم ما يحدث بعد اللقاء والعناق، كما انه سهل لا عقدة مركبة تحتويه. ومن المناسب ان نذكر ان تلك المشاهد تتكرر على مدار الرواية على سبيل المثال بين الشابين يوسف وسميرة، حسين العامل وأحلام، عدا مشهد الغرباء في السينما الذي أثنينا عليه سابقا، فهو باهر من حيث الشكل والمعالجة ويفرض نفسه بقوة في هذا المكان المنتخب لعدد من الأسباب الظاهرة، اهمها يظهر على نحو وحدة بنائية في العلاقات والتأثير المتبادل. عدا ذلك لم اجد في ذلك الوصف ما انصف الكاتب عليها للأسف. فهي في احسن الأحوال سياحة جنسية/روائية من نوع مغري.
هنا لابد من الإشارة الى أن الكثير من الكتّاب يلجأ الى لقطات مماثلة، لأي سبب كان، لكن مهما يكون السبب فأن الحدث الوصفي يبقى مجتزأ وهائما ان لم يسع الكاتب الى وضعه ضمن جملة معالجات تبادلية لها دور وهدف محدد. فهل اراد الكاتب اظهار العفة او عامل الزمن او الاغتصاب، ام التحايل، او غير ذلك من عقد ليست بوارد تفكيرنا ام انها هي فطنة الكاتب بسبب انطوائها على سر او عقدة ما؟ وبخلافه يستطيع أي قارئ مهتم بهذا الشأن ان يجد ما يناسب ذوقه في أماكن أخرى. وعموماً تبقى المعالجة الجمالية رائدة بمعنى العين السينمائية اكثر قوة وفتوة، وهذا قليل الحدوث بشكل عام في القص الروائي مقارنة بالفنون البصرية. ولا ضير ان استعرنا مقولة رولان بارت "أن الصورة لم تعد تساوي ألف كلمة" بإشارة منه الى تفوق العين على الكلمة في وصف محدد لا يستطيع القلم مجارات الصورة. بل ان اعادة انتاج المشهد قلميا يستوجب (ايقاظ) الالتماسات الحسية غير المرئية في الصورة. وعلى كل حال نتجاوز هذه الإشارة الى:

إنّ الحبكة الروائية المتقنة لدى جنان تتكرر في مفاصل اخرى من الرواية ، سنأتي عليها، على الرغم من بساطتها، وهو أمر مهم، تجعلنا نتأمل دور الكاتب وحرفيته بإنضاج المشهد الروائي الموصول وغير المباشر، وهذا ما تحدثت عنه تحت عنوان (ادارة النص ) في مقال منشور سابقا، أعرج عليه لأهميته لأجل اكتشاف وسبر البنية العميقة للنص. فأن ما يعني الناقد في تحليل الخطاب هو المبنى الحكائي، القوي والمؤثر، وكشف جوانبه اللغوية والجمالية والانسانية بدءًا «من الفقرة إلى الفصل حتى تشمل الكتاب بأكمله» حسب الجزائري بشير تاوريريت. فحينما نضع النص في نهج محدد للنقد فلا خلاف في تقنية الإدارة، لكن ما يتوصل له الكاتب من خلال سعيه الى احقاق تقنية خاصة، وهذا شأنه في طبيعة الحال، تجعله في مرمى النقد من زوايا مختلفة. وبقدر شمولية رؤيته كذلك يتسع المسعى النقدي ويكون في صالح الأدب بشكل عام. ومازلنا ضمن اطار ادارة النص فهو، اي الكاتب، في هذه الحالة يحمّل نصه اعباء مركّبة، وعليه يتسم البناء الروائي بمهنية عالية او ما دونها من درجات الإقناع. من هنا ارتضي لنفسي القول بأن جنان حلاوي يدير نصه بمهنية عالية، ولا غضاضة ان قلت: إن عمله غير سهلِ المتابعة في قراءة سريعة مقارنة بنصوص اخرى لا تقتضي التأمل والتوقف احيانا، بل يكون الكاتب يسعى بتدرج زمني/ كرونولوجي الى فك عقد روايته التي احب كتابتها واسهرته واخذت من صحته ربما. وعندما يكون اي كاتب مسكونا بهذا النوع من القص فأنه يحاول ان يضفي على نصه نوعا من الملحمية. وهنا تجدر الإشارة الى أن النص المركب، الذي يتطلب من الكاتب قدرة فائقة ومن الناقد ادوات مضافة لكشف النص ونقده وحتى تأويله، يصبح النص بحد ذاته مادة حية مطاوعة، وأن لم تكن فهذا يعني انه ينتمي الى النصوص المغلقة المفعمة بالرؤية الفردية المحضة، وليس السردية الأفقية وهو ما له علاقة بالتوالدية على وفق تراتبية رابضة في حركة تبادلية سعى جنان حلاوي لإحقاقها في عمله من خلال سيرة ابطاله. وهنا لابد من وضع علامة الاعجاب لقدرة الكاتب التركيبية/السردية بخلق الذهنية القابلة للاشتعال والاشتغال معاً بالنسبة للمتلقي الذي سنبقى منحازين له في بحثنا. ويتعمق الاستحسان مهنيا وذوقيا عندما يقدّر الكاتب مستوى عمله فيضع كل ما عنده في كل ما يريد من نصه. فهنا فكرة الإخلاص للنص تعطي الكاتب فرصة النظر الى جغرافية النص، بعيدا عن اية مضامين لغوية وجمالية اخرى، فلا سلطة للسرد مهما بالغ بها الكاتب مستخدما ادواته من دون اشتراطات أوليه تضع نصه على سلم النجاح الذي سيرتقي درجاته تباعا بتأني ومغامرة في ذات الوقت. نورد أمثلة لذلك سنجدها عند جنان: فالحب في النهاية لا يقابله الكره، والثورة لا تقابها الجريمة، والعهر لا يقابله الشرف ذلك ما سنشهدها ونتناولها وغيرها تباعا.

نعود الى تنقلات الكاتب في فصوله التالية، ذلك ليأخذ القارئ فكرة عن عمل الكاتب اضافة الى كسر الجمود النقدي ربما، مع إمكانية استكمال خارطة الكاتب الكتابية من حيث شخصياته الكثيرة ملحقة بالأحداث والأمكنة.
يلجأ الكاتب الى تمهيد متأخر عن موقع وخصوصيات بيت الملا جعفر المتوله بزهور التي تعشق جوني البحار، وتأزم علاقته بزوجته وبنته احلام. ثم بإقحام مركّز لشخصية اخرى هي أم يوسف (سليمة السعد) الفنانة المطبوعة النازحة بصحبة ذويها «من أرباض بلدة القرنة، شمال البصرة» تبيع لوحاتها الفطرية القريبة من السوريالية و«تخلق المال من لا شيء ». وبعد سياحة لغوية وصفية هادئة لأحد بيوت الدعارة كما يبدو والذي دخلته لتعرض لوحاتها على (البنات) والقواد (شريف) الذي ينصاع الى رغبتهن بشراء احدى اللوحات التي يجهد الكاتب بوصف محتوها المغامر ويعكس شخصية راسمها، يربط الكاتب شأن الرسامة بوصفها أم يوسف رفيق حسين العامل وجواد الشيوعيين.
ثم بحركة ملفتة يعقد المؤلف الكاتب علاقة حسين العامل بأحلام من خلال دخولها بيت ام يوسف الذي يتزامن مع وجود حسين مع يوسف في البيت في تلك الساعة، ربما هما على موعد فينتهي بتواطئ يوسف وأمه بترك العاشقين وحدين في البيت. وهذه الحركة هي توصيف صداقي محض بالنسبة الى يوسف، ومغامر يتناسب مع شخصية أمه سليمة التي تُظهر لوحاتها تألق خيالها، ومجازفتها دخول بيت الدعارة. وهنا اود التوقف عند مبدأ التواطئ الذي سعى جنان الى احقاقه ملحقا بأمكنة مختلفة، فإلى جانب ما ذكرناه بخصوص الصداقة والمجازفة، نجد ما يشابهه لدى ام جوني البحار بتسهيلها صعود زهور الى غرفة جوني، واباها الذي يفتعل عدم الدراية، كذلك الأمر بالنسبة الى سلوى وبدر الذي تسهل الخاتون (سيدتها) طريقهما للاختلاء، هذا الى جانب احداث مشابهه اخرى. لقطات التسامح هذه تعطي انطباعاً عن مصالحة ضمنية مزدوجة: الأولى: الشخصيات مع المجتمع، والثانية: الكاتب مع ما يكتب، ومع الاثنان يتنحى القانون الظاهر أمام العرف المخفي الذي يظهر بقيمة التحايل من اجل الحلول التي تأخذ من المنحى الانساني النبيل صفاتها كون النفس الإنسانية تبقى رائدة والمجتمع هو الأدرى والأوفى لحاجته وليس القيم الدينية والعشائرية التي تبقى محبوسة بإطار التقديس فحسب. فنحن امام ارادة انسانية صرفة، حاجة روحية جسدية لا تكبح بأية صفة من الصفات. رغم اطالتي لكني اجدها ثيمة مهمة ينبغي ملاحقتها فهي معالجة صريحة للكاتب وموفقة بشد عين القارئ نحو تغيير المفهوم السائد الذي ينبغي كسر قوانينه وتخطيه حتى يصير في حكم المنتهي. فإن لم يتوقف ناقدنا عندها فعلام النقد اذن، بل ولماذا الرواية او المنجز الأدبي اصلا؟، خصوصا ونحن في رواية جنان امام سرب من الممنوعات التي ستفضي الى الموت والقتل والانتحار.

نعود الى جماليات النص كما وعدنا بذلك. وعلى وجه الدقة في استهلاله على سبيل المثال لفصله الثالث (جوني البحار)، وهو واحد من الفصول الجمالية المتخمة التي بقيت على هامش السرد ولم تدخل في بنيته بقوة فجاءت الاوصاف الشاعرية لتشكل حالة مجتزئة عن النص الذي تصدى الكاتب فيه الى عُقده، فأورد بعض الأمثلة: «تخلو الأمكنة وتتمدد اهداب السكون.. تزحف العتمة وتغمر الوجود بروح الخلود.. البيوت تغرق بالصمت، منطوية على نفسها.. ».. وهكذا في مطلع الفصل الرابع وغيره من الجماليات التي لو ادخلها في السياق لكانت اكثر وهجا وأشد قوة، واكثر تأملا من قبل القارئ. فلا ندري على وجه الدقة لماذا يغير الكاتب من نظام قصه، في وقت نرى فيه سرده في مواقع اخرى مشفوعا بالإبداع الدلالي والانشاء اللفظي الجمالي اضافة الى التصوير الشاعري، عناصر متداخلة آسرة، ومؤطرة كما في إعلان فيلم لورنس العرب ص 60 الذي دخل فيه الروي الشاعري بعذوبة فائقة في سياق الحدث مع توصيف رائع لشخصية تومان الأسود الذي يقود عربة الحصان بالإعلان . نرى ان تجاور العمليتين امر يحقق المعنى والشكل في ذات الوقت، والتداخل يمنحهما القوة والتأثير الأخاذ الذي يسعى اي كاتب لامتلاكه. ولعل جنان هو شاعر لا يفصح عن نفسه كثيرا، وهنا اود الإشارة الى ان بعض جهده يضيع تحت سلطة الايقاع فملاحقة الحدث في الرواية هي غيرها في الشعر، بفعل الرغبة بملاحقة الحدث.

في فصله السابع يتابع الكاتب قصة أخرى عن علاقة علّاوي الأعرج ابن المؤذن ذو الميول اليسارية (صديق يوسف) بـ فاتن الغزالي (بديعة)، الفتاة التي «ابتلعتها مهاوي الفقر» فصارت «... تفتح ساقيها لكل طارق..». يعاود الكاتب هنا وصفيات كثيرة من اهمها بيوت الدعارة والهوى وتلك الدار التي تقدم فيها بديعة خدماتها للزبائن. ثم يكشف بشفافية عن رغبة علاوي بالزواج منها على اثر حادثة تتعلق بالاعتداء عليه بالضرب وطرده من بيت الدعارة، وهو ما له صلة بما تقدم، بأن الإنسان هو الإنسان وليس شيئاً آخر حتى يجري تدميره تماما.
ما يميز هذه الفصول هو صدق الحكاية، والإكثار الشاعري ورهافة الإحساس الذي يتنحى بسببه الحدث بما فيها الاحداث المتراكمة المستظلة بالعفوية والعناصر البيئية ذات العلاقة بالمدينة ذاتها، مع الإهتمام بالمكان ومنحه صفات ليست مألوفة فيخلع عليها جنان نوعا من المسالمة .
من المهم ان نهتم هنا بفكرة اشباع النص: سليمة السعد الفنانة المطبوعة، وعلاقة الحب بين علاوي الأعرج و(العاهر) بديعة: هما ثيمتان روائيتان مستقلتان لهما محمولاتهما الفنية والشاعرية والقصصية، ولهما جامع مثير: علاوي يبحث في بيت الدعارة عن حبيبته، وسليمة الانسانة الفاضلة تبيع لوحاتها في نفس المكان! القصتان سقطتا في فخ الإهمال العشوائي غير المتأمَل تحت وقع الشاعرية، كما نبهنا، والاختصار بسبب توسع النص العام. هنا القصة الضمنية بمفهومها الخادم للنص اصبحت، بعبارة أوضح، الهدف الذي اضاعه سهم الكاتب، بسبب الضخ السردي الهائل الذي لم يتناسب مع قيمة الحدث ومحموله بعناصره الوجدانية والمكانية، بحيث ما أراده الكاتب بتوصيف البيئة المجتمعية البصرية (نسبة الى مدينة البصرة) وحتى المكانية على وقع الشخصيات والأحداث لم يرق الى (نظام التلقي) الذي احد اظلاعه الأساسية القارئ، او على أقل تقدير اصيب بالوهن، حتى وان قصده الكاتب فلا يعني ان نعفي الكاتب تأخره ان لم يكن غيابه، وهنا نحن لم نكن اوفياء للنص بالقدر الذي نكون فيه لقارئه، فجاءت قصصه الضمنية وامضة قليلة التوهج بالرغم من الإشتغال اللغوي والكم الوصفي الشاعري الذي بقي عائما بشكل عام على هامش البنية الروائية، وهذا نقص سنظل ننبه عليه دائما لأهميته. ربما نقول هذا لأننا اردنا ان تكون خوادم النص اكثر قوة من اللغة وجمالياتها، والحدث اقوى من الوصف.
وعموما نجد في الآداب العالمية مشابهات لها حيث يعيد بعض الكتاب رواية احداثهم الضمنية بقصص وروايات أخرى وكأنهم على يقين من اهميتها بسبب امتلاكها عناصر روائية كاملة على نحو استعادة توافقية واستدراك ابداعي متأخر.
نجد ذلك على سبيل المثال لدى فوكنر وماركيز وغيرهم من الكتاب المرموقين.

في فصوله اللاحقة يتابع الكاتب سير ابطاله مشفوعة بدخول ابطال جدد مثل رزاق مدرب كرة القدم ذو «السمعة العاطلة » وعلى ما يبدو يقوم بتأدية واجبات القوادة وما يشبهها بالنسبة الى الفتيان، وسميرة الكلدانية وعلاقتها بـ يوسف، ثم يعود الى حال ابطاله الأولين زهور عاملة الميتم ومهيدي (المعوق/المعتوه) الذي اعتاد على الحضور الى الميتم يلاعب الأطفال، مع ظهور شخصية اخرى هو (الأستاذ منصور الخليفة) مدير دائرة الشؤون الاجتماعية في المدينة الذي يشتهي زهور ويحاول الاختلاء بها، فيدفع بسائقه الى طرد مهيدي الذي يلوذ بالفرار الى دار العجزة بعد الاعتداء عليه بالضرب. هناك يحاول جودي تهريبه بعد مداهمة الدار من قبل مفرزة عسكرية تطلب مهيدي الذي يهرب الى البستان، فيتبعه الشرطة ويردوه قتيلا.
هذا الانصراف المركب للفكرة ذاتها اصفه بـ (فتوة النص) فهو قادر على حمل وايصال اعباء كبيرة في وقت قياسي. هنا عناصر الحب، والوفاء، والضآلة والجريمة تجتمع بتوصيف ساحر يختزل المعنى بصفة ارهاق توالدي مهم يحسس القارئ بأنفاس متقطعة بأهمية الحدث الروائي، بل هي التعبير عن رؤية الابطال والشخصيات للعالم المحيط وطريقة تعاملهم معه. لنرى كيف جمع الحدث الواحد هنا تلك المضامين: مهيدي المعتوه من جانب التعلق المبهم بزهور، وزهور من جانب الانسانية المحضة والاخلاص للعشرة، جودي من جانب الولاء الضمني كون مهيدي اشبه بالأبن المتبنى المنقطع من شجرة، منصور الخليفة من جانب استخدام السلطة وحقه بالسطو على ما ليس له فـ زهور بالنسبة له جسد وجنس وليس من يسائله عن اي تصرف، السائق المأمور بتنفيذ الاعتداء الجسدي على مهيدي، حالة نزلاء الميتم الاطفال المرعوبين من بشاعة المشهد وتوتراته والمسنين في دار العجزة، ثم الشرطة المنفذة لجريمة قتل لم تعرف عنها شيئا سوى أمر من قبل قائدهم، والمذنبون جميعاً هم الأبرياء المعتدى عليهم وعلى سكينتهم. وهذا من نماذج السرد المتقن لدى جنان حلاوي والذي نجد له متشابهات مهمة اخرى على مدار النص سنأتي عليها.

لا يعفينا هذا من بعض الملاحظات عن هذه الفصول التي تشهد انفتاح النص على شخصيات وقصص جديدة، وغلق سير اخرى. على الرغم من جماليات الوصف المكانية ومحاولة الكاتب اذكاء النفسية منها على الواقع الوجداني، نقول ذلك انصافا، الا اننا نجد الكاتب كما لو انه فقد جزءا من سيطرته على النص. كيف؟
اننا نتعامل مع نص جنان كنص مهم في القص العراقي، بل العربي بل نصف وحداته بالكونية كون الظاهرة الإنسانية تقع تحت التأثير المكتسب لعدة عوامل، ولذلك نجري عليه تطبيقات نقدية يحتاجها النص اولا، وان القارئ وحسب ما اسلفنا فـ( النص المفتوح) مهيء للاستقبال والتفاعل، وعليه يتوجب علينا كشف ما يلحق بالنص من أذى، وأولها العلاقة التبادلية بين النص وقارئه، وبما أن «القراءة تعني ربط خطاب جديد بخطاب النص » حسب ايكور فأن جنان يقع أسيرا تحت سلطة الإكثار والتوصيفات، والاستعانة، تصل الى حدود الإفراط احيانا، بشخصيات ثانوية، تنقطع سيرها، وهذا ليس نقصا، انما تثقل النص وتخرجه من حركيته الى نوع من الفتور والملل ربما. واذا ما اضفنا الى شاعرية النص المقدمات الوصفية الهائلة المنتجة ذاتيا، فحسب، في ذهنية الكاتب المشتعلة بالامكنة والجمال والانحياز المتطرف حتى للقبيح منها، ربما بسبب عوامل الغربة والمنفى القسري، فنكون قد ارتضينا الملاحظة النقدية الميسّرة بأن الإرهاق ينال من النص كما الإنسان المثقل بالهموم، او الأثقال الفيزيائية ذاتها، وعليه فأن تخليصه من الأعباء يؤدي الى ترشيقه ومن ثم تفعيل العلاقة التبادلية الجمالية والنفسية مع القارئ، للحد الذي نضع المنتج في مكانه الذي يستحقه مع كل تقدير، وهو كذلك في تصنيفه النهائي.
اضافة الى هذا نجد حالة من عدم الاكتفاء، ظاهرة في الضخ الوجداني فيلجأ الكاتب الى تغريب عاطفي، شاعري سحري، خارج السياق في مشهد مقتل مهيدي على يد الشرطة، «انظروا انه يطير.. حلق مهيدي بحلمه بعيدا في مدارج السماء... »، فيما ينتهى المشهد بموته فعليا واسدل على السيرة وانتهى الأمر. لكن محبة الكاتب لأبطاله تجعله في وضع يخشى نفسه موتهم؛ بعض الكتاب المهمين يصل بهم الأمر الى شحنة عاطفية عظيمة حين يموت ابطالهم فيرجئون الكتابة لأيام وربما أشهر، وأظن أن جنان فعلها بعد موت مهيدي فالنص كاشف مضيء افضل من اي تصريح او تأويل. لكن ما اعطاه الكاتب في هذه الفصول هو الكشف المجتمعي الذي حدده بمسارات الألم والحرمان والتقاليد والأعراف والتحايل عليها سلبا وإيجابا، بمعنى الاستلاب. وفي الوقت ذاته منح نصه فرصة من المواربة على السلطة واخلاصها لنفسها، لنفسها فقط. ظهر ذلك في هجومها الشرس، اولها: على ملجأ الأيتام ودار العجزة، وثانيها: اعتقالهم لجوني البحار بتحريض ووشاية رجل الدين الملا جعفر بعد ان فاز الأول بـ زهور فأصبحت زوجته، فجاءت المعالجة انسيابية وهادئة، قوية ومؤثرة، مسبوقة بمقدمات من الحبكة الرصينة مشغولة بتأني وصبر، هذا مع تواطئ معلن وغير معلن بين رجل الدين والسياسة، وهذا ما يزيدنا من الثناء على نفس الكاتب الروائي، مع اشارتنا الى كم المقدمات الحسينية المنبرية والوصفية في فصل اليوم العاشر فقد سبق وان اشرنا لبعض السرد الوصفي المسهب الذي صاحب نص الكاتب.

التأويل
يحيلنا هذا النوع من الروي الى مبدأ التأويل في العمل، فعموم مجريات السرد لدى جنان من فُضاضة وفظاعة وتابوات ومحرمات وسلطة سياسية، ومبالغات منبرية نلمس تصرفات ومفردات بالضد منها، وهذا شيء مدهش يضعنا الكاتب فيه من دون تقريرية مجة، بل شيء من غياب وقتي للراوي وحضور الحدث على حسابه، وبمجموعها هي بالنسبة للكاتب حدسية من جانب، وادائية ذهنية متوقدة من جانبها الإبداعي، وبالنسبة للناقد حسابات رقمية/وضعية، وبأحسن الأحوال واقعية مناسبة للنص على اسس نقدية، وبالنسبة للقارئ تظهر على نحو ارتدادات قيمية وتوقعات وأسئلة. وهنا يجعل الكاتب من المفاهيم ما لا يقابها قاموسيا أمرا مقبولاً كما اسلفنا في البداية، وهي بتقديرنا اضاءات مهمة بل رائدة، سنحاول كشفها اكثر. اشير الى كتاب الناقد التونسي الكيلاني في كتابه ("الرواية والتأويل - سردية المعنى في الرواية العربية " ) يقول: « إن أسئلة المعنى ستظل في المعنى الروائي تحديداً، شبه مغيبة في مجال القراءة العامة ضمن اتفاق ضمني جماعي مفاده أن السرد عمل أقرب إلى المطابقة منه إلى وصف الايحاء». ولكننا نضيف انه من حيث التأويل لا ينتهي الوصف بالمطابقة حتما، ويكون الإيحاء هو التوصل الضمني، والسرد نظام توصيل كاشف للقارئ والقارئ الناقد، اشدد على مصطلح (القارئ الناقد)، ضمانة للدقة والحيادية فلا يمكن للنقد ان يدلي بمدلولاته النظرية من دون اسقاطات تتم عن طريق القراءة قطعا. وهذا ما له علاقة بإنتاج المعرفة التي لا يتوجب ان تكون على مستوى الاخبار انما ممارستها مع أبسط الوحدات الاجتماعية. وعلى مستوى الرواية تكون على شكل برقيات تقوم بها الشخصيات تنقلها الحبكة ويزيد من مفعولها السرد للحد الذي يكون فيه الكاتب متأملاً لخطابه وليس فاعلاً فيه كي لا يجرح نظامه المعرفي، فيكون التأويل عملا فرديا محضا للقارئ مشحونا بالعاطفة بحيث «لا يتوقف النص عن الإحالات وألا ينتهي عند دلالة بعينها» حسب أُمبرتو إيكو.
لنتناول على سبيل المثال نهايات ابطال جنان الخاصة بالموت، فقد وضعتنا تلك النهايات امام اخبار ملتبس وهذا ماله علاقة بالقاموس التأويلي الذي اوردناه قبل قليل، فالموت لا تقابله الحياة انما الإرادة كشكل من اشكال المنتج الذهني المعرفي، ومن المهم أن نلاحظ هنا كيف استطاع البعض من تغيير العالم او على اقل تقدير تكون مساهمتهم تصيب الملايين من البشر، مارتن لوثر كنغ، رواد الإصلاح الأوربي، ماركيز، نجيب محفوظ... الخ. بحيث يكون مستوى التأويل ليس بإعادة المعنى السردي الذي حدث وانتهى فعلا، انما اعادة صياغة المعنى على نحو أسئلة اشبه بحلم اليقظة الذي لا ينقطع صداه في مخيلة القارئ، بعد ان أصبحت، بفعل جودة الخطاب او العمل الروائي ونظام سرده، مهيّأ للمساهمة بحيث لا نستغرب ما اوردناه قبل قليل بأن تأثير الخطاب يصيب ملايين البشر كما مقولة «مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة».

في فصوله التالية يبدأ جنان تفعيله الدراماتيكي المشحون بالعاطفة متخلصا من الزوائد النصية، وتحديدا، حسب زعمي، عند قلب روايته الخاص بشيرين خاتون التي تخدمها سلوى كما ورد في البداية. مستذكرا نشأتها في مدينة السليمانية وتعرضها الى حادث اغتصاب من قبل آسوس هورامي زوج امها الأرملة دلسواز خاتون، بعد ممات ابوها سورجي اغا وتفقد عذريتها بسبب الحادثة. حادث اغتصابها من قبل زوج أمها تقابله جريمة اخرى هي قتله من قبل خادمتها، تتبعها جريمة اخرى لإخفاء أثره بعد تقطيع جثته، تقوم بها امها بواسطة خادمها. هذا التشابك الدراماتيكي يعطي قوة للمشهد الروائي الذي لم يتخلف عن المشهد البصري. نعود الى ملاحظتنا السابقة بأن جنان كمن يبدد ثروة روائية بعد ان يقوم بتجهيزها والعناية بها لتكون بتلك القيمة التي تحمل التوالدية والعطاء الميسّر، الملهم والمجزي والقابل للتأويل على حد سواء. وما يحسب لصالحه انه له قدرة خلاقة لتهيئة ارضية نصه، المقدمات، العناصر، الاحداث الجزئية ومن ثم الثيمة الروائية. ولسنا هنا بصدد سيادية الكاتب انما النص بحد ذاته، بل من المهم ان نلاحظ الاختفاء الشفاف للكاتب/الراوي فيما يبقى النص سيد الحبكة الروائية في الوقت الذي تظل فيه ادارته متصلة بخيوط يكاد لا يلحظها غير الكاتب نفسه، بعيدة عن التذاكي المصطنع، فنحتاج الى ادوات معرفية/ ابستمولوجية لكشفها. الثروة، المركز الاجتماعي، السلطة، الواقع ومن ثم الشهوات والرغبات، هذا بشكل اولي، ثم الخصائل الإنسانية التي هي جملة التوصلات التي تقابل بالعرفان والاجحاف احيانا. ويبدو الكاتب كمن يعرض نصه لإطلاق النار او اصدار العفو عليه، او العكس تماما بترقيته. وعندما نقوم بالكشف عن جملة المؤثرات والتواترات والقدرة على توزيع المشهد او القصة الواحدة حسب (الترتيب) الضروري للأحداث تباعا، وهو ما أثنينا عليه في (ادارة النص ) قبل قليل، نكون على مقربة من كشف حلقة الأجيال التي نلاحظ تطورها وخيباتها، وتجاربها المتشابهة. فسعادة باشا البصرة (عزّة النقيب) وفوزه بـ دلسواز خانم أم شيرين، تقابلها تجربة ابنيهما بالزواج شبه الفاشل وانقطاع النسل، والثروة المتراكمة يقابها التوزيع الإنساني العادل لها من قبل شيرين حسب وصيتها، حيث تنال سلوى جزءا مهما منها، ويتمتع زوجها بدر قبلها بإدارة املاك شيرين. واذا ما نظرنا الى تواطئ الكاتب مع سيرة شخصيتيه رمزي وأحلام بفارق عمر عشر سنوات تجمعهما الرتابة والاحاسيس كما فاجأنا بها الكاتب في فصوله الأخيرة كأنهما شاهدان متمردان فتتضح أمامنا صورة الأجيال الخائبة، بما فيها مآل الشخصيات الأخرى لحد الآن، فهي تتطور على نحو هادئ، انسيابي وفعال. نشير من بين قصصه الى الحدود المجتمعية اللئيمة لعدم استمرار قصة علاقة يوسف بـ سميرة إذ تقف الأعراف بالضد من الحب بل منع حدوثه، فيغادر يوسف حبيبته المسيحية، في الوقت التي تبقى العاطفة الإنسانية رائدة ومجزية وحاضرة في ذات الوقت.

وبسبب اثقال النص الملغم بالقصص واحداثها، عهد الكاتب الى التخفيف من اجل حرية النص والسرد المركز معا، ذلك ان بعض القصص نضبت او اعطت ما باستطاعتها كي تكون متألقة على مدار النص، وهذه دراية موفقة للكاتب، فهي في حقيقة الأمر اضحت حبيسة الكم السردي الهائل كما أسلفنا، فلجأ الكاتب الى وضع عدد من النهايات، حيث أنهى سيرة فاتن الغزالي (بديعة) (الفصل الخامس عشر)، بعد ان قتلت احد زباءنها زبائنها، الذي اساء معاملتها، بالمدية وتهرب، حتى يقبض عليها فيما بعد في احد بيوت الدعارة في بغداد، فيتم اعدامها بعد ذلك في سجن البصرة. بينما يتابع الكاتب ذيول نهاية قصتها من خلال العلاقة الإنسانية التي تربطها بـ علاوي، في فصل آخر، حيث يقدم على جريمة منظمة، ثأرية، بحيازته على مسدس ابيه لتقتل اطلاقاته القواد (كنش) في بيت الدعارة.
ثم ينهي سيرة الملا جعفر الذي يناصب في مواعظه الشيوعين العداء والتحريض «...الكفرة الملحدين الذين لا يتورعون عن إتيان الزنا بأمهاتهم وأخواتهم وبناتهم لعنة الله عليهم...» فيقتل مطعونا، في الفصل السابع عشر، على يدي جواد وعنتر الشيوعيّين. فيما ينتهي مصير جوني البحار الى مُخبر تحت وطأة التعذيب والتهديد، بعد اعتقاله واتهامه بقتل الملا جعفر من دون ادلة. ومن اجل موازنة النص يُقتل جوني البحّار ورزّاق الأحدب بوشاية من قبل اسماعيل زوج نادية في الفصل التاسع والعشرين ص335 كونهما مخبرين. وبسبب ارتفاع النهايات التقليدية على حساب المعالجة فأصابت الموازنة في بعض منها بشيء من القلق، بمعنى عدم الالتباس الضروري لنهاية القصة.
عموما كل تلك القصص كان بإمكانها ان تعيش وتعطي أكثر فأكثر اذا ما عولجت في سياق مضامين مختلفة في اعمال اخرى لا تستوجب كل هذا التوتر والانقباض السردي والضخ العاطفي الذي يلزم الكاتب بـ (التفكير ) في نهاية ما. فالقصة يجب ان تنتهي بعد سرد الحكاية. ولكن اي نهاية؟ هنا لا بد من التوقف. فعندما (يفكر) الكاتب هو في واقع الحال يرجئ العمل بالفعل اللا إرادي subconscious وهنا يجرح الكاتب نظامه الروائي المبني على التلقائية، وهذا ماله علاقة في النظام الخطابي التوالدي للغة، التي من خلالها يستطيع معالجة عدد لا حصر له من العقد، بما فيها الأمكنة واعادة تأسيس عالمها الواقعي والمتخيل، وبخلافه اي باعتماده على التفكير المحض فأنه يستعيض عن ذلك بخدمة single track (المسار الواحد او العقل المفرد) فيهمل لا ارادياً عدد كبير من المعطيات، فتأتي النهاية وكأنها منفصلة عن البيئة الروائية. وهذه العملية التي نطلق عليها (تبادل القوى الذهنية) هي في الواقع تضع العقل في مدار الإرهاق العضلي كالفعل الرياضي ان جاز التعبير، وهذا يعيدنا الى مبدأ التلقائية الذي يصطدم بفعل التفكير كما ارهاق اي عضل في الجسم.
لا أقول ان ذلك يظهر على مساحة واسعة في أدب جنان، انما استطيع ملاحظته بسهوله فأنبه إليه. كما في نهاية بدر زوج سلوى خادمة شيرين، فبالرغم من تمتعهما بجزء كبير من التركة غير اننا نلحظ ميوله المفاجئة نحو الإرهاب فيحرق حسينية الحي في ليلة يعود فيها الى ممارسة الجنس بشهوة مع زوجته «...حتى أخذ يطأ امرأته بقوة كأنه يحرثها على ايقاع النار التي راحت تلتهم المبنى المقدس...ص361» كما يفعل الفصاميون في وقت كنا نفتقد الى تلك الاشارة على مدار النص.
ومن باب الإنصاف يتوجب علينا ان نفرق في مستويات تلك النهايات التي تقف على رأسها ثأر علاوي فجاءت الدوافع مستوفية الشروط الى حد كبير تحت وقع السوداوية وحالة اليأس والإحباط للبطل، مفعمة بروح ثأرية لا جدل فيها لتبرر فعلته دراميا، على خلاف بعض القصص الأخرى. ففي الوقت الذي كان فيه القارئ متحفزا ومنتظرا نهايات رائعة جاءت باردة احادية التأثير خالية من الإثارة كما لم تجعل القارئ مسترخيا راضيا او متسائلا، هذا الى جانب قطع دابر مشاركته الا بالنزر اليسير. فيما كان لنهاية علاوي معاني كثيرة مشحونة بالأذى ومركّبة تحتويها القدرة على مواجهة مصيره غير نادم «...ذلك ان فاتن سترقد الآن مرتاحة ولن يداخل الأسى روحها...» و «...اليأس الذي أصابه عقب إعدام حبيبته فاتن جعل قلبه ميتا». حتى واجه مصيرا اختاره لنفسه لا يقوى على مقاومته حتى لو ندم، فأنه لا يعرف العوم فرمى بنفسه خلسة من العبارة الى الماء فمات مرتاح الضمير وفيا الى حبه ومعتزا بثأره. ولعل الكاتب انتبه الى ضعف شخصية علاوي او هكذا هي جاءت في نسق السرد بنقل الواقعة الى كلام، والكلام الى تأمل، فأستعان جنان بعدد من الفخاخ الاجتماعية ليضع شخصيته في حتمية لابد منها، وفي مرمى القارئ المتأمل واقعية صرفة، وبهذا سد الأبواب بوجهه الا بابا واحدا ان ينسى حبيبته بتلك الصفات المشينة، لكنه في حقيقة الأمر شغّل في ذات البطل مصاريع الغضب، فاستغلها علاوي ليختفي بهدوء. حركة النص الحية تجعلنا نخلص الى ذكاء البطل بتحايله على الكاتب في حركة غير متوقعة لكنها مقنعة، بل عالية بمحمولها العاطفي، صادقة وصادمة، تخترق سياق السرد. فتلك هي الإضافة الرائعة لهذا الجهد المنير، فالأبطال في النص الحيوي ليسوا بيادق شطرنج ولا هم جنود اوفياء للكاتب. بل مشاكسون وعنيدون بل مزعجون لحد احراجه، باختيارهم لمصائرهم.

من جانب آخر من المهم ان اشير الى قصة شيرين، وقصة يوسف كونهما مشمولتان بالكشف والقوة وسبر الآفاق، مليئتان بالتحدي، اضافة الى انفتاحهما على عدد من التأويلات الخاصة بالنهايات، وهذا النوع من القص، جوهريا، ما نحتاجه وما نفتقده. نتجاوز قصة شيرين توخيا للإعادة، فيما نواصل تجربة يوسف الخائبة مع حبيبته سميرة الكلدانية، حيث يواصل البطل هدفه الهلامي/الواقعي وهماً رائدا بواقعيته لان الحدث قائم بالتحاقه بفصائل الكفاح المسلح في الأهوار، فكانت رحلته سفرا جغرافيا مثيرا، مغامرا وضالعاً بالفشل من اوله وتنطوي تجربته على الاصرار بنفس الوقت.
يغادر الى الناصرية ليلتقي شبل بن سوادي في ناحية الدواية ومن ثم يواصل رحلته الى الأهوار ليلتقي برفيقه الياس وينظم الى مجموعة الكفاح المسلح المنشقة من الحزب الشيوعي العراقي في بداية السبيعينات، مما يظهر ان الحدث واقعا سبعينيا. مع ملاحظة مهمة ان الكاتب لا يعنى بتاريخ احداث روايته اجمالا حفظا منه على بنيوية النص.
كل ذلك مصحوبا بجمالية عنيفة، رقيقة أخاذة مصحوبة بالاسلحة والرصاص مع حضور الشاعرية الملهمة، هنا على وجه التحديد، كعنصر اساس دخل في بنية السرد خلافا لما هو عليه في فصول اخرى. حقيقة ضاعف جنان من احساسي بالتجربة بشكل مغاير لما وردت في معالجة (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر، فأجزم ان جنان وقارئه كانا مرافقين لـ يوسف في سفره هذا على مدار عدد من الفصول التي تناولت سيرته. لماذا؟ لسنا بوارد الجواب فأن ما قلناه لحد الآن يستوفي الإجابة على أي سؤال. ولعل الكاتب تعامل مع هذه القصة على نحو حيادي بالرغم من واقعيتها.
لكن من الملفت ان جنان تعامل مع الخوف بطريقة مدهشة بتجاوز بطله يوسف الشك والحد(the edge) معا في مواجهة المجهول. ظهر ذلك بعد حادثة المواجهة مع الشرطة، إثر قيام مجموعته من مسلحي الكفاح المسلح بالهجوم على مركز لها في الأهوار. انتهت باستيلائهم عليه وغنموا اسلحته وتركوا افراده موثقي الأيدي فيما هرب احد الشرطة. لكنهم في طريق عودتهم وقعوا في كمين عسكري، لم ينجو منه الا يوسف الذي استطاع الهرب والنجاة منه بأعجوبة.
تكمن العقدة هنا في مسعى يوسف للنجاة بنفسه «والعودة الى مركز التنظيم». فيعمد الى ارتكاب جريمة بقتله صياد مسالم من اجل الاستيلاء على زورقه لينجو بنفسه. في هذه الازدواجية المركبة بين المناضل وبين القاتل، يفضل الكاتب تحفيز سلطة الخوف والتمسك بالحياة وارتكاب اية جريمة تفضي الى الخلاص على وهم المقاتل/المناضل. مع تمازج الصورة النمطية بين الخوف والجنس في مشهد نومه او اغفاءته في قاربه مع حبيبته الغائبة التي هجرها لأسباب اجتماعية/دينية محضة.
هذه المعالجة التي تبدو غير واقعية هي في حقيقة الأمر بذرة انسانية مكتسبة تطغي على اهم المفاهيم احيانا. تُظهر ما يعتمل في نفس الإنسان في تجاوز الحد، بمعنى النجاح؛ لا يهم اي نوع من النجاح، ذلك بإطلاق كم هائل من الطاقات لتجاوز الحالة العادية الوسطية، التي تلتزم بالمفاهيم والأخلاق السائدة. فعندما نتعرض الى أهمية (النصر)، فنحن في الواقع نعني بالنصر بأنه كل شيء، وعليه تترتب الشجاعة والإقدام والجريمة معا. وهذا ما نشهده في تاريخ البشرية قديما وحديثا من تحولات، بما فيها الحروب والدمار والمجاعات، بحيث يبدو المجرم فيها احيانا شخصا محايدا بل ايجابيا، ولكنه في واقع الأمر هو ذا فعل اجرامي بامتياز. وفي بعض الأعمال يستمر التعاطف مع المجرم ولعلي مصيب هنا بأننا لم نلتفت لجريمة يوسف بالطريقة التي تجعله مجرما.. بسبب تلاشي الفاصل بين البطلين، البطل المناضل والبطل المجرم.
وبالمقابل يستمر الكاتب بنقل سيرة يوسف، في فصل اخير، الى ساحة اخرى هي الساحة النضالية الفلسطينية في لبنان اينما سينتمي لها يوسف كمقاتل مصطحبا حبيبته سميرة التي تتطوع فيها كممرضة، بإشارة لا تقبل الشك ان ميوله ليست نضالية وانما مصلحية/حسية. عززها الكاتب بموته متأثرا بجرعة زائدة من المخدرات تناولها يوسف هناك وليس ميتة بطل مقدام. مسدلا بذلك سيرة ملتبسة مازالت قابلة للتأويل في ذهن القارئ.
إما استمرار سيرة سميرة في مهجرها، وتعرض الكاتب للاجتياح الاسرائيلي للبنان، أجدها زائدة، ما كان على الكاتب ملاحقتها، فلم أرَ فيها غير وفاء الكاتب لحادثة او قصة لا تعنينا. ذلك لأن الحدث انتهى بموت يوسف فعلام الاستمرار في معالجة مختلفة تماما والرواية برمتها شارفت على نهايتها، اضافة الى ان مادة الاجتياح والحرب الأهلية/الطائفية اللبنانية، التي ربما عاش الكاتب بعض فصولها، هي مناخ مختلف يحتاج الى مشغل وشغل من نوع آخر. وعموما ان التوصل الى نهايات صارمة يبطل التأويل.
اضيف على هذا فصولا زائدة في الحبكة الروائية للكاتب المرموق جنان جاسم حلاوي، هما فصل ملاحقة حسين العامل الذي يحتوي على مشاهد تغريبية تخص الضابط، انقصت من سرده، والفصلين الخاصين بالكفاح المسلح في كردستان فلم تظهر فيها شخصية جواد الا مرة واحدة، على نحو كومبارس بائس يقتل وقتها كجندي في الربية الحكومية، هذا التحول في جهد الكاتب ادى فيما أدى الى ما أسميه او اصنفه ـ (بالقص البارد) الذي نطلقه على النصوص التي لو رفعناها او انقصناها لا يتأثر النص فجاء فصل (المطاردة) لمفرزة شرطة تداهم بيت حسين العامل، ضمن هذا التأويل.
بالإضافة الى ذلك دخول شخصيات جديدة لم يكن لها دورا في الرواية وتتابعا، وهذا امر طبيعي ذلك ان الحبكة اقفلت نفسها بنفسها واي فتح آخر من قبل الكاتب سيكون عصيا على الرواية ذاتها ان تقبله. هذا اذ ما تعاملنا معها كمادة حياة نابضة، وفتية مغامرة. فأستعير تعبير اجاتي كرستي عن رواية كتبتها فوجدت «ابطالها يختلطون ويتزاحمون » فلم تنشرها. واذا ما اعتمدنا حقيقة ان من يقوم برفع الرواية هم الاشخاص الابطال فيكون بامكاننا ترك ملاحظتنا بيسر بأن الإكثار من الشخصيات التي تناولها نص جنان عموما قد انقصت من اداء ابطاله المهمين واصابت نصه الكبير بالخدر والخمول في أكثر من موقع، واضعفت ربط مفاصل فصوله التي بلغت اربعة وثلاثون فصلا اضافة الى فاتحة وخاتمة اهتمت بالانبهار اللوني الكثيف (للّوحة) مستعينا بذكر الشخصيات والأمكنة.
عموما اسمح لنفسي القول على ضوء ما تقدم: إنّ جنان حلاوي كاتب من طراز ممتاز يضيع غلةً كبيرة كمن يتوهم موسم الحصاد في زمن ووقت محدد، فقد بدد للأسف تلك الثروة في رواية واحدة ارهقته كثيرا. وعلى الرغم من نجاحه الكبير فيها كان عليه ان يسدي معروفا اكبر لنظام القص العراقي لو جعلها في عملين او اكثر حتى؛ مرتلا اياها حسب المتشابهات او أي نسق آخر يختاره.
لكن (اهل النخيل) تبقى رواية ناجحة بامتياز وتعد من التجارب الراقية على الرغم من كل الملاحظات التي لو لا تعلقنا بالنص لما تناولناها بمنهجية صارمة احيانا، كان ذلك من اجل انصاف نص الكاتب وتصنيفه كواحد من النصوص المهمة والأثيرة، بل شكل من اشكال الكتابة العراقية الحديثة الساعية الى احقاق كونية الحدث.



#هاشم_مطر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غروب الوليد - الى وليد جمعة
- سودوكي (رحيل صباح المرعي)
- الزمان والسرد في النظام القصصي لشاكر الأنباري في روايته أنا ...
- الخيال: التقديم والنهايات - دراسة نقدية في أدب برهان شاوي من ...
- المدني في رحلته الأثيرية الى نبتون
- فاطمة الفلاحي: الصورة ومنجم الضوء ورحلة الألم وحداثة النص
- محاولة في فك لوازم العشق
- في نقد المشروع الديمقراطي
- كنت جميلا بما يكفي ان تغادر بصمت
- حداد
- زهرة
- سوسن ابيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر -البحث عن زمن جديد-
- أصدقائي والخريف
- «كيفك انت» :الرسالة التي تذكرها صاحبي
- مجزرة النرويج وفكرة المواطنة لجيلنا الثاني


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم مطر - جنان جاسم حلاوي وغابة النخيل الإنسانية