أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كادي حكمت - جهاد















المزيد.....

جهاد


كادي حكمت

الحوار المتمدن-العدد: 5031 - 2016 / 1 / 1 - 13:38
المحور: الادب والفن
    


إنه اليوم الثالث على جوع أطفالي : عبد الرحمن النائم إلى جانبي الآن ، قرة عيني، أتم السادسة من عمره قبل شهر وهو ابني البكر، أما أصغرهم فاسمه أحمد لم يتم عامه الأول بعد، غادرنا والدهم بعد أن فجر نفسه في عملية استشهادية قبل ستة شهور تقريبًا، لقد فجّر نفسه في تجمع لمقاتلين إسلاميين متطرفين، بعدها – ولعدة شهور- أصبحتُ أنا زوجة الشهيد البطل! لم أكن أشعر حينها بما أشعر به اليوم من جوع وحزن وأسى وقلة حيلة، كنتُ وأبنائي موضع اهتمام الجميع، كانوا يغدقون علينا بالعطاء والزيارات تكريمًا لزوجي الشهيد .
كان الشيخ علي الذي يقود الجماعة التي التحق بها زوجي يبعث لنا كل احتياجاتنا من الطعام : سكر ، شاي، أرز ، طحين ، خضار وكل ما يمكن لعائلة أن تحتاجه،كنت أقول لنفسي حينها : لعلّ الله قبِلَهُ شهيدًا وعوضنا أنا وأبنائي برزق يكفينا، تواصلتْ أيضًا زيارات زوجات رفاقه من الجماعة على مدى شهرين بعد استشهاده، آنسني ذلك وخفف من خوفي وقلقي، لكنّ الحال تغير بعد ذلك، كلّ تلك العطايا والزيارات قد تلاشت بعد أن كانت قد استمرت لشهرين ثم صارت متقطعة لعده شهور لاحقة حتى انقطعت الآن تمامًا .
لم أعد أسمع أحدًا يناديني على نحو احتفالي بزوجة الشهيد عمار ولم أعد أسمع أحدًا ينادي أبنائي بأبناء "البطل"، أصبحت وأبنائي نقتات على ما يضعه الجيران وأهل الخير خلف بابنا بعد أن يطرقوه ثم يستمروا بطريقهم، لم يطرق الباب أحد منذ ثلاثة أيام، أبنائي- مثلي- صاروا ينتظرون بيأس أن يُطرق الباب ويستبشرون خيرًا و يركضون إليه إن سمعوا صوتًا خلفه فقد يترك هناك أحدهم ما يسد جوعنا أو يستر عرينا، بطونهم الصغيرة الجائعة ، وجوههم الشاحبة، عيونهم الباكية الراجية ، خواطرهم المكسورة و اليأس المحتقن في صوت كل واحد منهم، كل هذا يكسرني و يقتلني بالساعة ألف قتلة، .يجلدني أنينهم إن جاعوا ويكوي قلبي بنار جهنم.
يتسلق أحمد صدري باحثًا عن ثديي لعله يظفر بقطرة حليب، يبكي بكاء متواصلًا حين لا يجد إلا العدم، أهدهده وأقبله و أهرع إلى المطبخ لعلي أجد كسرة خبز أبللها بالماء و أطعمه إياها حتى يفرجها الله، لطالما أزعجتني فكرة الإنجاب المتكرر، قلت لزوجي مرة أنا بحاجة للراحة بضعة أعوام ، كنت حينها قد أنجبت الثلاثة الكبار إلا أنه أبدى انزعاجه قائلًا : "الرسول عليه الصلاة والسلام أوصانا بذلك، أوصانا أن نكثر أمته، أيزعجك ما أوصى به الرسول ؟" صمتُ حينها ولم أجرؤ على النقاش، أنجبت خمسة هم الآن سبب ألمي و عذابي، أنا أستطيع أن أحتمل بردي وجوعي أيامًا وأسابيع، لكني لا أستطيع احتمال جوعهم و بردهم لساعة واحدة.
مرة قالت "آمنة" زوجة أحد أصدقاء زوجي في الجماعة: "الحقي بزوجك إلى الجنة، نحن لا نستطيع العيش بعد أزواجنا إذ تصبح حياتنا جحيمًا حقيقيًّا، الحقي بزوجك واستشهدي كما استشهد، ترتاحي بذلك من الفقر وشقاء الدنيا من بعده وتكسبي معه جنة الآخرة كأي زوجة صالحة ". أفزعتني الفكرة، فكرة أن أفجر نفسي لأقتل بذلك عددًا من الفاسقين والكفرة! أفزعتني فكرة أخرى أهم، أن أترك صغاري للمجهول وأهرب من الفقر والتعاسة تاركتهم يعانونها وحدهم! لم أفكر لأكثر من دقائق، ولا أنكر أنّ الفكرة أزعجتني، وكرهت آمنة حينها، لمَ علينا أن نفعل كل هذا لترضى عنا السماء؟! قلتُ لنفسي .. . ناموا صغاري، خارت قواهم بانتظار لقمة ...
علمونا صغارًا أن في السماء رزقنا، علينا ألّا نفكر به كثيرًا، فالسماء تبعث الرزق من حيث لا نعلم، أما في الحرب فلا رزق ولا طعام ولا صدقات إلا نادرًا، في الحرب تنسى السماء الأطفال وجوعهم ووجعهم وخوفهم وبكاءهم، لقد نسيت السماء أطفالي تمامًا كما نساهم الشيخ علي!
رغم تشدده الديني، كان زوجي عمار حنونًا هادئًا أحيانًا، كان رجلًا صالحًا يصلي الفروض في المسجد ويحفظ القرآن،كان يوصيني بحفظه وتحفيظه لعبد الرحمن وإخوته، درس الحاسوب وتخرج من الجامعة رغم فقره وضيق حال أهله وظروفه القاسية، أما أنا فلم أكمل تعليمي، قالت أمي حين تقدم لخطبتي :"أنت بنت لا حاجة لك بالدراسة والشهادات، يكفيك من العلم ما يساعدك على قراءة القرآن وحفظه وفهمه وعمار شاب مهذب لا يعوض".
تزوجت ولم أكمل تعليمي كنت حينها بالسادسة عشرة من عمري، مع ذلك كنت سعيدة جدًّا بزواجي منه، فهو معلم يحبه طلابه وأهل الحي، كانوا يرونه شابًا وقورًا تقيًّا يكن له الجميع الحب والاحترام، يقضي ساعات طويلة أمام شاشة الحاسوب كان ذكيًّا جدًّا باستعماله، لكنّ الأمر زاد عن حده بعد أن تعرف في المسجد على عبد الله، صار يقضي هناك وقتًا أطول وأصبح أكثر تشددًّا وتدينًا، بعد فترة وجيزة أصبح وقته مقسم بالفعل فقط بين شاشة الحاسوب والمسجد .
بدأ يغيب عن البيت لأيام متواصلة برفقة صديقة الشيخ عبد الله، صارحني فيما بعد بأنه يذهب إلى تركيا ليسهل مجيء بعض المجاهدين الأجانب الذين يحلمون بقيام الدولة الإسلامية وإعلاء كلمة الله في سوريا، بدا خوفي وقلقي، شرعت بالبكاء ، احتضنني وقال : "يا أم عبد الرحمن هذه الدار فانية وأتمنى أن أرحل عنها شهيدًا، لا تبكي يا حبيبة، كلنا راحلون يومًا وبطريقة ما، المهم، لا تخبري أحدًا بأمر غيابي هذا" .
كان " الشيخ عبد الله" من عرّفهم بزوجي بعد أن التقيا عدة مرات بالمسجد ، كان حلقة الوصل بين الجماعة و زوجي، ثم أصبح زوجي حلقة وصل بينهم وبين المجاهدين القادمين من الخارج بفضل معرفته بالحاسوب والتواصل معهم من خلاله، خلال ذلك لا أنكر التحسن الذي طرأ على وضعنا المادي، لكن عمار في المقابل تغير كثيرًا، أصبح عصبيًّا قاسيًّا سليطَ اللسان شاردَ الذهن متسلطًا يصعب إرضاؤه .
أصبحت-مثل أولادي- أكره عودته للمنزل فقد تغير حتى في فراشنا، أصبحت أكره معاشرته، كنت أتظاهر حينًا بالتعب وأحيانًا أخرى بالنوم، غضب يومًا وضربني، قال : "عليك أن تقومي بواجبك وإلا لعنتك الملائكة حتى الصباح ، يبدو أنه بات من واجبي تأديبك وتذكيرك بعقوبة الناشز"، بكيت ليلتها واستغفرت ربي وطلبت منه الصفح ثم أصبحت بعد ذلك أسلّمُهُ جسدي دون أي محاولة للهرب أو الكذب .
صرخ الشيخ علي بعد استشهاد عمار بأيام : لقد كان مؤمنًا وبطلًا حقيقيًّا، حين اقتحم المتطرفون القتلة البيت الذي كنا فيه نناقش خططنا والمستجدات، صرخ فينا:"اخرجوا جميعًا ، حان دوري، أريد الشهادة خرجنا جميعنا على عجل وبقي هو، بعدها سمعنا صوت الانفجار ورأينا الأشلاء تتناثر وكانت رائحة شواء أجسادهم تملأ المكان لم ينجُ منهم أحد!
اليوم التالي :
استيقظت وأطفالي على صوت طرقات قوية على الباب، هرعنا إليه مستبشرين فقد اشتد علينا الجوع وأنامنا اليأس حتى الظهيرة، فتحت الباب وإذا بالشيخ علي وأحد رجاله يحملون الأكياس ويضعونها أمام البيت .
ذات المونة و ربما أكثر : الطحين والشاي والسكر والأرز و الخضار و اللبن و التمر، "السلام عليكم" قال، فرددت تحيته بفرح " وعليكم السلام يا شيخ"، بدأ الصغار هجومهم على الأكياس فخجلت، "عذرًا يا شيخ لم يأكلوا منذ أيام"، "لا بأس لن نتأخر عليهم في الأيام القادمة هذا وعد"، طلب للمرة الأولى منذ استشهاد زوجي شرب الشاي في بيتنا فلم أتردد " أمرك يا شيخ" قلت وأخذت بعض الأكياس وأسرعت إلى المطبخ .
بدأت تحضير الشاي واستدرت لتجهيز الأكواب، وإذا بالشيخ علي يقف خلفي، كاد وجهي يصطدم بصدره لولا أنّني تراجعت للخلف، أصبت بالذعر ! كان منظره مرعبًا وعيناه تمتلئان بالشر، اقترب مني و بدأ يتحسس جسدي، قال وهو يجذبني إليه بقوة: "فاطمة ، تعالي وجاهدي معنا "، دفعتُهُ بقوة : "ما الذي تفعله يا شيخ؟!!"، ردّ بهدوء :" لن يفيدك هذا يا فاطمة ولن ينقذك أنت وأطفالك مما أنت فيه سواي، تعالي وجاهدي معنا وسوف تكسبين آخرتك ولقمة صغارك"، "اخرج من هنا وإلا ..." قلت له، جذبني إليه مرة ثانية بقوة أكبر وقال : "لا تتعجلي، فكري جيدًا، لن يتفجر هذا الجسد الجميل اطمئني، ستجاهدين به وتكسبين الجنة، وقوت عيالك أيضًا، فكري جيدًّا وسأعود لزيارتك غدًا".



#كادي_حكمت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية ظل الأفعى ليوسف زيدان : الأنثى من القداسة إلى الدناسة


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كادي حكمت - جهاد