أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصلح كناعنة - قصة بالألوان















المزيد.....

قصة بالألوان


مصلح كناعنة

الحوار المتمدن-العدد: 5026 - 2015 / 12 / 27 - 12:41
المحور: الادب والفن
    


دفَعَت بوابة الدار بعنف واندفعت إلى الشارع كالمجنونة. ركضت عبر الشارع وساقاها يلتفّان حول بعضهما كأنها تركض لأول مرة في حياتها. تعثرت وكادت تهوي على وجهها حين صعدت إلى الرصيف المقابل. ضمَّت طرفي فستان النوم الأحمر على صدرها وأحكمَت قبضتها عليه، واستمرت في الركض بمحاذاة السور. كادت تقع أكثر من مرة وهي تركض وتتلفت حولها بعصبية . اختبأت خلف جذع شجرة الزيتون الهَرمة في وسط الرصيف. كاد لهاثها يقطع أنفاسها. يداها تتخبطان، لا تعرفان بماذا تبدءان... وضعت يدها اليمنى على قلبها كأنها تريد أن تمنعه من القفز خارج صدرها... مسحت بكُمِّها الأيسر دموعها الممزوجة بمخاطها... رأت خطّاً من الدم على طول كُمِّها. تحسست وجهها إلى أن شعرت بألم الجرح على طرف الشفة العليا. نظرت إلى الدم على أطراف أصابعها وأجهشت بالبكاء. تلفتت حولها بذعر. تمالكت نفسها وكتمت صوت نشيجها. راحت دموعها تنهمر بصمت. أزاحت عن جبينها خصلة شعر تبللت بالدموع. نظرت إلى الخلف باتجاه البيت الذي خرجت منه، ثم عادت تمسح دموعها ومخاطها بطرف كمها. بدأ جسمها يرتجف بعنف، فأسندت ظهرها إلى جذع الشجرة وأحكمَت قبضتها على طرفي فستانها...تبكي بكاءً مكبوتاً كهَرير قطة مرعوبة، تتلفـَّظ بكسور كلمات معجونة بالدم والدموع، تختطف التِفاتات سريعة نحو البيت ثم تُحكِم اختفاءها خلف جذع الزيتونة الهرمة، ودموعها تسيل على خديها بلا انقطاع.

فتح البوابة وبيَدِهِ سيجارة مشتعلة، وفوق قميصه الأبيض المَكويِّ ربطة عنق زرقاء مفتوحة ومرتخية. وقف أمام باب الدار. تلفَّتَ مُنَقلا بصره في كل الاتجاهات. مرَّرَ أصابع يده اليمنى، التي تحمل السيجارة المشتعلة، من خلال شعره الذهبي اللامع الكثيف المردود بعناية إلى الخلف. تلفّتَ مرة أخرى يميناً ويساراً. نفثَ دخان سيجارته الرمادي الثخين بنفـَس طويل... طويل جداً. تلفـَّتَ حوله مرة أخرى. مشى ثلاث خطوات إلى اليمين ثم عاد ثلاث خطوات إلى اليسار وهو يسحب الدخان من سيجارته إلى أعماق رئتيه ثم ينفثه أمامه، رمادياً كثيفاً متراقصاً في الهواء. وقف أمام الباب. تلفتَ حوله. رمى عقب السيجارة على الرصيف وسحقه بمقدِّمة حذائه، مرة، اثنتين، ثلاث. استدار نحو الباب ودخل، صفق البوابة خلفه بعنف شديد... ارتجفت أوراق الزيتونة الهرمة في الطرف الآخر البعيد.

جلست القرفصاء وظهرها مسنود إلى جذع الزيتونة الهرمة. تبكي بكاء محموماً مكبوتاً بلا انقطاع... كل شيء فيها ينتحب، كل شيء فيها يرتجف. بين الفينة والأخرى تطل بطرف رأسها من خلف جذع الزيتونة الهرمة وتلتفت نحو البوابة الخضراء. تمسح سيل الدموع بطرف كُمِّها كي ترى البوابة، ثم تعود إلى الاختباء... إلى الاختفاء... إلى النحيب... إلى الارتجاف.

فتح البوابة وخرج، هذه المرة بجاكيت أسود وربطة عنق زرقاء مشدودة بإحكام. بيده حقيبة عمَلِهِ السوداء اللامعة. لم يلتفت. ضغط على زر الأمان فأطلقت السيارة صوت انفتاح الأقفال. اهتزت أغصان الزيتونة الهرمة اهتزازاً شديداً في الطرف الآخر البعيد. تقدم بخطوات ثابتة متزنة. فتح باب السيارة الخلفي ورمى الحقيبة على المقعد. فتح الباب الأمامي ودخل. جلس وأغلق الباب. لحظة من الصمت... لحظات... دقيقة... دقيقتان... ثلاث... خبطة داخل السيارة جعلتها تهتز. دار المُحرك. تحركت السيارة ببطء وهدوء... وببطء وهدوء سارت في الشارع. توقفت لحظة في وسط الطريق... لحظات، ثم عاودت التقدم ببطء وهدوء إلى أن اختفت خلف البنايات البعيدة.

اهتزت أوراق الزيتونة الهرمة، وبرزت من خلف جذعها بقعة حمراء صغيرة. اختفت البقعة الحمراء... ثم ظهرت، ثم اختفت، ثم خرجت وأخذت تكبر وتترنح. حاولت أن تركض، فالتَفَّ ساقاها على بعضهما وأوشكت على السقوط. توقفت، أزاحت خصلة شعر من على جبينها، مسحت سيل الدموع عن خديها، أحكمت قبضتها على طرفي فستانها الأحمر من الأعلى، وسارت ببطء على الرصيف بمحاذاة السور.

انشقت البوابة الخضراء ببطء، ومن الشق برز وجهٌ صغير. اتسع الشق، وخرجت منه طفلة حافية القدمين ترتدي بيجامة وردية مُقَلمة. مسحت دموعها بظهر كفها اليمنى ورَنَت إلى البعيد باتجاه الزيتونة الهرمة. رأت البقعة الحمراء تقترب وتكبر. انهمرت دموعها وتحشرج صوتها وهي تنادي: "ماما!" رددت نفس النداء بصوت يتردد بين الهمس والصراخ، تريد أن تسمعه أمها ولا يسمعه أحد من الجيران.

توقفت البقعة الحمراء قليلا، مسحت دموعها وجففت عينيها براحتيها ثم أخذت تركض بساقيها المتشابكين وجسمها المترنح بمحاذاة السور.

تقدمت الطفلة الحافية خطوتين إلى أن أصبحت تقف على حافة الرصيف وهي تتلفت بالاتجاهين.

توقفت البقعة الحمراء على الرصيف المقابل وصاحت بصوت دوَّى في أرجاء الحي كله: "لآ... خلّيكِ عندِك!" التصقت بالسور وهي تتلفَّت حولها كالمصروعة، ثم أشارت بيدها نحو الطفلة وقالت بصوت لطيف هامس مسموع: "خليكِ عندك ماما، لا تقطعي الشارع!"

اختلطت البيجامة الوردية المُقلمة بالبقعة الحمراء المرتجفة. انتصبت البقعة الحمراء واقفة، فطوقت ساقيها يدان صغيرتان، واختفى في طيات حضنها الأحمر وجه دامع وشعر أشعث. أمسكت اليد الكبيرة باليد الصغيرة، واختفى الأحمر المَهزوز والوردي المُقلم خلف البوابة الخضراء.

بعد ساعة توقفت سيارة أجرة برتقالية اللون أمام البوابة الخضراء. فتحت البوابة وخرجت، بقميص أسود وبنطال أسود وحذاء أسود وشعر أسود... وعينين اختفى سوادهما الفطري خلف احمرار عتيق. الشيء الوحيد الذي تنافر مع كل ذاك السواد، كانت رقعة صغيرة من البلاستيك الأبيض على طرف الشفة العليا. كانت تجُر حقيبة سفر سوداء كبيرة، ويدها الأخرى تمسك بيد طفلة ذهبية الشعر عسلية العينين ترتدي فستاناَ أحمر يلتفُّ حوله شريط ناصع البياض. ترجّل السائق من السيارة، ألقى التحية بأدب، فتح الباب الخلفي لهما ثم تقدم نحوهما يَتمايَل في مشيته كدُب قطبي. وضع حقيبة السفر في الحجرة الخلفية وعاد إلى مكانه. تحركت سيارة الأجرة ببطء وهدوء، وببطء وهدوء سارت في الشارع حتى اختفت خلف البنايات البعيدة.
في المساء توقفت سيارته البيضاء أمام البوابة الخضراء. أطل منها بقميصه الأبيض وبدلته السوداء وربطة عنقه الزرقاء وشعره الذهبي اللامع الكثيف المردود بعناية إلى الخلف. تناول حقيبة عمله السوداء اللامعة من المقعد الخلفي، أقفل السيارة ومشى بخطىً ثابتة إلى أن اختفى خلف البوابة الخضراء.

بعد لحظات انفتحت البوابة الخضراء وخرجَت منها بدلة بلا معطف، وقميص أبيض أفلَتَ أحد طرفيه من تحت البنطال بعبثية، وربطة عنق زرقاء ارتخت حول الرقبة وتراقصت على الصدر بهمجية. وجهُهُ أحمر ممتقع. شعره فقدَ رتابته وانطلق في كل الاتجاهات. يقبض على الهاتف المحمول بيد مرتجفة ويصرخ فيتطاير رذاذ بصاقه من فمه. راح يذرع الرصيف ذهاباً وإياباً على طول السيارة البيضاء وهو يصرخ في الهاتف ويده الأخرى تلوّح في الهواء، تهدد، وتتوعد، وتضرب، وتلكم. فجأة أصبح هِستيريّاً كطفل أبعدوه قسراً عن والديه، فقذف بالهاتف المحمول نحو سور الحديقة كأنه يرمي قنبلة على حشد من الأعداء. انشطر الهاتف إلى قسمين وتناثرت شظاياه على الرصيف. دار حول السيارة وهو يَلكمُها بقبضتيه ويَركُلها بقدميه. فتح الباب ورفسه بقدمه حتى كاد أن يوقعه من مكانه. جلس على مقعد القيادة وصفَقَ الباب خلفه فاهتزت السيارة بعنف. هدر المحرك وجأر وجَعَر، ثم انطلقت السيارة كالصاروخ، وبسرعة البرق راحت تنهب الإسفلت إلى أن اختفت خلف البنايات البعيدة.

*****

بعد أعوام، في إحدى عواصم أوروبا، كانت قاعة المحاضرات الكبرى في الجامعة تغص بالحضور، وعلى المنصة وقفت امرأة شابة شرقية... شعرُها ليلٌ وجبينها أفقٌ وفستانها ثلجٌ ووجها حديقة ورود، والسواد الفطري في عينيها عاد ليطغى على بقايا احمرار من عهد غابر. عشتار كانت، وكان الكلام الرزين الرصين يتدفق بهدوء من ثغرها المبتسم كما تدفقَ الكون من خصوبة رحمها أول مرة.

مقابلها، في وسط الصف الأول، جلست فتاة في أوائل سن البلوغ، ذهبية الشعر عسلية العينين ترتدي كنزة خضراء، وحول عنقها يلتفُّ شالٌ أخضر يمتد على طوله سِربٌ من الفراشات الصفراء. هادئة جلست، تحتضن نفسها بذراعيها، ترنو إلى عشتارها والبسمة لا تفارق عينيها الحالمتين.

دمعة عشق كانت، تلك التي مسحَتها بطرف شالها قبل أن تلتحق بالتصفيق الذي دوّى في قاعة المحاضرات.

*****

تحت الزيتونة الهرمة على الرصيف المقابل للبوابة الخضراء، ثمة بقعة حمراء أخرى ترتجف رعباَ وألماَ، وعلى طول كُمِّها الأيمن خط من الدم الأحمر القاني.



#مصلح_كناعنة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -حبيبتي بكماء-: مراجعة نقدية لرواية الكاتب السعودي محمد السا ...
- أخطاء الكتابة ومصير اللغة العربية
- تهنئة إلى الحوار المتمدن من فلسطين
- الموقع الجغرافي لأم ثابت (قصة قصيرة)
- فيروز ونزار... وأنا وغزة (قصيدة على قصيدة)
- اعتراف الرجل بخطيئته المقدسة - قصيدة
- قـتلتـني بحبـك- على لسان ضحـية من ضحايا -جرائم الشرف-


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصلح كناعنة - قصة بالألوان