أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قصي الخفاجي - القصة القصيرة جداً لماذا؟ بيان ونصوص















المزيد.....



القصة القصيرة جداً لماذا؟ بيان ونصوص


قصي الخفاجي

الحوار المتمدن-العدد: 5021 - 2015 / 12 / 22 - 13:10
المحور: الادب والفن
    


القصة القصيرة جداً لماذا؟
قصي الخفاجي
بيان ونصوص
إلى: هيثم بهنام بردى
تنفلق بذرتها (القصة القصيرة جداً) بإيحائها العالي الذي يستدرج إليه قارئاً نوعياً يحطّم البنى السائدة أثناء عملية التلقي/ فهو يهدم النص المقدّم ويهدم قراءته/ ويفكك ذائقته النوعية، ويفجّر رؤىً لم يعهدها هو نفسه ولا يعهدها قارئ نوعي آخر..
• إنّ الأزمنة التراتبية النمطية لا وجود لها/ لأنّ القاص والقارئ يعيشان معاً غياباً عن ذلك الهابط من الزمان والمكان حيث جمال القصة القصيرة جداً جمال بصري ظاهراتي مراوغ يطلّ عياناً إلى الخارج ثم يتحول إلى سراب رؤيوي جوّاني يغوص في الأعماق ويترك دهشته التي لا تكرّر نفسها/ تلك الدهشة التي تنسق المعنى العتيق القائم وتنتخب شكلاً يماثل الحلم الأبيض/ الذي يتفاعل وينصهر مع كل الألوان القويّة الباهرة: أولها الأزرق البارد وأعمها الأسود الذي يحجب عبر ظلامه ودكنته كل وضوح مسطح ٍ وهشّ..
• القصة القصيرة جداً غير معنيّة ( لا في البداية ولا في النهاية) بقدر عنايتها بالرؤيا المضببة الباهرة، المفعمة بالغامض والمجهول، وبالتالي عندما جابهت صدوداً وهي تؤسس نفسها فهي صدود مشروعة عند الغير/ أما عندنا فإنها لا تشرعن نفسها، فهي ضد الشرعنة، ولكونها تنتمي إلى غموض الزمن الانقلابي نفسه، وغموض الوجود الآني، والقادم فهي ابنة زمن سريع الجريان/ ومن حق الناقد والقارئ مجابهتها ومحقها/ وكاتبها نفسه لا يعلم كيف إنقاد إلى كتابتها ولا يعلم سرّ القوانين الخفية الجاذبة إليها/ فالزمن الانقلابي وحده كفيل بمحوها أو بقائها،،، حتى الموهبة الجامحة ممكن أن تنسق نفسها بنفسها ولكن البقاء للشمس التي تمحو الرؤيا الباهتة لكي ترسّخ أركان البقاء...
• لقد اندمج شكلها المحتدم بالحلم وعزّزت بصيرتها بالرؤيا (اللامكتملة) وبالتالي إنّ مقتلها في الصميم هو (النص المفتوح) وعليه يجب أن توجّه ضربتها الفنية في العلن والخفاء لكي تعزز كيانيتها الراسخة/ لا عبر التوصيل النمطي أو الابلاغي الحداثوي المهيمنان الآن إنما بإثبات رقعة المساحة البصرية ثم تعزيز شحنتها النفسية..
• إنها ضد التعرّض المجاني الدعائي والتحريضي/ لأنها صيرورة فنية قلقة ومتجلية تمارس خفائها الفوري...
وإنّ مفهوماً سلبياً يدّعي بأن القصة (القصيرة جداً) لم تفرض نفسها فناً قائماً مستقلاً نقول: إنها تنبثق من عناصرها اللامرئية المختزلة وتعلن عن وجودها الكثيف بضرباتها الفنية الخاطفة، المحتدمة/ فهي لطخة لونية سماوية تمتصها فوراً أوراق الكتابة والجدران الحجرية العارية وجذوع الأشجار وبالونات الأطفال المحلقة/ وإنّ فتنتها من فنية المجاز نفسه/ ولا تماس لها بقصيدة النثر أو جماليات السرد المستقل، الحديث/ إنما التركيب بين عناصرها المعلنة واللامعلنة هو الذي يقدح بروقها وجمالها: فهي صيرورة فنية دائرية تلتف على نفسها وتدور حول الأخيلة اللاقطة لمجسات الفن الصعب/ وحين تكمل دورتها البرقية تنسف نفسها وتنفجر مثل قنبلة فنية موقوتة تصيب مقتلها بالصميم...
• إنّ كاتب القصة القصيرة جداً يجابه/ ذاته فيجدها مقذوفة/ بل مرمية بشراسة في معتقل الوجود، لذا فإنه يكون كالفراشة المنفية تدور حول المصابيح لتنتحر/ أما هو ككائن مستلب فسيقطع رأس فكرة الانتحار ويبصق جمرته بوجه الوعي السليب/ إنه فيضٌ وخرق يلامس ما هو إبداعي وصوفي ليواجه القوانين الجائرة لهذا الناموس العجيب صانع الأغلال والمنافي لكل أنبياء الكتابة...
• إنّ هوسنا (بهذا الساحر من الفن) أشبه بصحراء غير مكتشفة ستعلن عن مخاضاتها اللاحقة/ سيختلط الضوء بالضباب/ التراب بالبحار/ النار بالغابات/ المدن بالبواخر/ العواصف بالصقور/ الدماء بالثلوج/ الأوقات بالخمور/ الهواجس بعذاب الإنسان: خليط لا يترك جيفتهُ إلاّ نهباً للضواري القارئة بنهم...
وستكون المعارك القادمة قاسية فنياً أمام الشباب القادم الذي سيدفع معول الكتابة بإصرار عنيد.

الخميس 13 آب/ 2015/ البصرة






(عَسَلا)
ندمتُ كثيراً في حياتي، ولم أندم على فعلة ٍ يوماً مثل تلك، فلم أكن منجذباً لامرأة ٍ مثلما انجذبت إلى (عسلا) ابنة خالتي، التي تكبرني بعام واحد فقط / تخرجتْ قبلي وصارت مديرة لمعهد إعداد المعلمات/ انجذبتُ إليها، وبادلتني الانجذاب،،، وحين ارتقت في السلم الاجتماعي والوظيفي، نفرت مني وأغرمت بابن عمها بعنف/ هذا الشاب يصغرها بثلاثة أعوام، فقد كان وسيماً بارعاً في فنون الحب، فطارحها الغرام/ كنتُ أعرف كل خلية من خلايا المرأة عندما تدخل في شرنقة العشق والغرام/ فجأة اندلعت الحرب، وقتل ابن عمها/ كنتُ اعتقد أنها ستعود إليّ،، لكني كنتُ واهماً حيث أغرمت بمدير الشرطة العام، وكان متزوجاً/ نال منها ما يروم الفحل من أنثاه، فانهزمت إلى الكويت،، ووصلتني أخبارها كاملة/ فقد أصبحت محظية لأحد الشيوخ هناك، أخذ وطره منها وأهانها/ تحولت إلى مومس متألقة/ ذات ليلة دخلت البصرة مع أحد العشاق/ رصدنا المكان الذي راحت تتردد عليه/ كانت ليلة شتاء، اقتحمنا مخدعها، أنا وثلاثة شبان محترفي الطعن بالسكاكين/ تناوبنا عليها،، بعد أن كتفنا الرجل الكويتي من ساعديه وساقيه/ قبيل الفجر أعطيتهم كل ما يبغون من المال/ وعندما أشرقت شمس الصباح الذهبية، لفظت أنفاسها بين ذراعيّ/ خرجت إلى النهر والأنسام، تزكمني/ لم أشعر انتصاراً عارماً مثلما شعرت به، وأنا أغادر البصرة إلى العاصمة عمّان.

(شجرة اللاجدوى)
أقوى شجرة في غابة الحياة هي شجرة اللاجدوى؛ هكذا صرّح الشاعر (ناصر الأمين).. وكان يريد أن يملأ الدنيا فناً وحكمة، وجمالاً وشهرة/ لكن اللاجدوى انبثقت من أعمق أعماقه المهشمة.. وبلا توقع منح دفتر أشعاره إلى صديق حميم، شاعر، وإنسان رائع: قال له تصرّف بالقصائد حيثما تشاء، فأنا، منذ الآن، رافض لكل شيء، سأهيم على وجهي في أرجاء العالم/ حين غادر (ناصر الأمين) البصرة نسي وطنه ونساه الناس/ وتألقت الأشعار التي تركها بين يدي صديقه المغمور (وضّاح الفقير) ذلك الشاب البسيط الذي كان يحلم بكتابة مقطوعة شعرية صغيرة ناجحة/ لقد حالفه الحظ وشعّ اسمه الشعري في الصحافة الثقافية، وفي الإعلام، والمقاهي والأندية/ مرّ ت الأعوام وغزا (الفقير) مرض خطير أودى بحياته فكان موته حدثاً ثقافياً وإلهاماً للناس، وخلوداً لذاته الشعرية/ ظلّ الناس يضعون أكاليل الورود كل عام على قبره الحزين..
ذات فجر، دخل المقبرة رجل غريب، يحمل باقة من الورود وضعها على قبر الشاعر (وضاح الفقير) فشرع يبكي ويتمتم: إنّ الله هو الذي ألهمني لكي أقدم أشعاري إليك يا صديق العمر، فما الشهرة والمجد إلا قدر من صنع الخالق العظيم/ منحتكَ القصائد لأضيع في ظلام النسيان/ هكذا كان يتمتم (ناصر الأمين) العائد من غابة الغربة..
(المتطوّع )
الأشياء مثل السحالي المشوّهة دوماً تزحفُ/ في أوائل الستينات أو قريباً من ذلك التاريخ تطوّع للجيش بعد أن كان راعياً للغنم/ فقد تطوّع لان مالك الأغنام همجي غول لم يخلق الله بخيلاً مثله... وفي معسكر التدريب جعلوه ينحني منذ أوائل الصباح وحتى المساء يغسل حمامات الضباط/ كان حلمه أن يجمع مالاً بسيطاً ويهرب صوب مدن يتوق إليها: ظلّ حلمه يتكرر كل يوم، بلا نهاية.. حين اندلعت الحرب أبقى عليه ضابط كبير أن يكون مراسلاً وخادماً لديه/ كانت الجيوش تذهب إلى الجبهات ولا تعود/ تناسل في أعماقه الحلم حين أصرّ أن يصنع ذاكرة يموت هو ولا تموت، لأنه هو نفسه سيكون ذاكرة باهتة/ وفي ليلة باردة لم يعد فيها الضابط الكبير/ واجهته المرآة الكبيرة فوقف قبالتها في الغرفة رافعاً السكين/ فقد عدّ النقود التي قبضها منذ أشهر، كانت كافية ليغامر بالهروب/ في الفجر كانت هنالك، في السماء، وحدها تتألق عارية: نجمة الصباح،،، وفي نوبة بهجة مشوبة بالغبطة والإنعتاق، والجنون، فتح سرواله لينتصب، وعينه عليها، ينغرز فيها بفخر،،، راح يمارس لأول مرّة عادته السريّة،،، بعد أن أحسّ بنشوة عارمة يمّم وجهه صوب الشمال/ اخترق المفازات المغبشة ليتوه في قلب العالم.

(ممرات)
ممراتٌ تلمعُ في الليل، لكنها لا تقود إلى البئر التي أبغي.. كنتُ أمشي وحيداً، وخطوط الدم تخط بريقها على طول المسافات/ كان يمكن أن أتراجع لكنّ نظرة ً شبه عمياء ومجرّدة من بصيرتي التي أتلفها التشرد والخوف هي التي تقودني حين لاحت على صفحة السماء بين النجوم غابة كل أشجارها ميتة/ وبين فرسخ ٍ وفرسخ قلعة من حديد..
إنني الآن بين هذه الممرات المظلمة يتلبس ذاتي ذئبٌ مصنوع من القش والحجارة ظل يعوي ليستدرج القمر البعيد للهبوط إلى تلك الممرات التي راحت تلتمع بحفاوة الليل العميق، رغم الصمت الذي يرفع ألف شراع وشراع... كنتُ أبغي الوصول إلى بئر ٍ وصفها لي عرّاف مندائي قبل عشرين عاماً، وقال لي: في تلك البئر البعيدة سيلوح مصيرك الكامل مرتسماَ في القاع المترع بالمياه/ أنا الآن أسير وحيداً، فلو كنتُ ملكاً لنفسي لما سرتُ في هذا الليل المخيف، عبر تلك الممرات اللامعة.. أنا أمشي واستمر في المشي/ لكن المصير لا يحدّد إلا قارئاً سيكمل الرحلة/ رحلة دربي أنا القصاص، صوب الحكاية التي قد أكملها أولا أكملها...

(حكايات)
تصفحت حكاياته المختزلة المبثوثة بين الصفحات الصفر العتيقة، المبعوجة، فهالني أن تبزغ من كلماته الألوان، والرمال، والدخان المتطاير في أقاصي الثلج/ إنها ألوان كالأقمار الطبشورية المرصوفة بعناية فنان بارع/ كنتُ أفكر فيه، ذلك الصديق الذي وقع أسيراً في الحرب/ كانت حكاياته قد تركها عند (سامية) التي أحبها: لقد وضعت حكاياته بين يديّ/ في كل حكاية نهاية مجهولة، مكتوبة بدقة/ تعلمت منه أنا القاص المبتدئ أن أصوغ الأحلام وأصهرها في قالب ٍ منضبط/ من الممكن أن أخوض التجربة بنفسي/ هيمنته الفنية كانت طاغية، ولاغية لصنعتي القصصية/ حين كنتُ أتأسى من تفوقه/ كنتُ أمنح (سامية) مزيداً من القبلات حتى شاءت الليلة الفريدة أن أقفز من سطح الدار الملتصق بدار جارتي وأدخل مخدعها في تجربة غرام رائعة/ كانت الليلة شتوية شديدة البرد/ إن تجربة كهذه صنعت لي فردوساً غرائبياً/ في الفجر تسللتُ عائداً إلى فراشي/ كنت أرتجف/ أفقت من النوم في ساعة ظهيرة/ نحيتُ حكايات الأسير،، فتدفقت كلماتي، غزيرة/ إن لحظات الغرام الرائعة هي الدفقات التي وضعتني على طريق ٍ، لأوّل مرة أراه صائباً/ طريق الفن الأصيل..

(هذا العالم)
بعيداً عن كل شيء: المصادفة الخرقاء والحظ السيء يعلنان وجودهما/ كنت أمشي في الظهيرة، غير معنيٍّ بما يصيب الإنسان... كنتُ أحسُّ نفسي منفياً، في تلك اللحظات الثقيلة الرثّة (المأساوي أدركهُ، وأتجاهلهُ، يجب أن أبصر الخطوة القادمة).. رأيت الحيطان مستقيمة ، في البداية، ثم أخذت بالتعرّج/ أمامي السوق وحزام من الضوء الذي تسكبه الشمس/ عندما وصلتُ، جلستُ في مقهىً عتيق، كراسيه متسخة/ لم أكن أتنبأ بقدوم (عدنان) الذي طفح وجهه يصطدم بوجهي.. أخبرني أنه متعبٌ ومريض/ شربنا الشاي،، تدهورت صحته، قال لي قدني إلى البيت، وهناك كانت أخته/ جلسنا في غرفة الاستقبال الصغيرة/ جلبت لنا الشاي/ رشفت قليلاً، فأحسّ (عدنان) بالدوار، وغاب عن الوعي...
في المستشفى، بحدود ساعة واحدة، أمضيناها أنا وأخته حتى لفظ أنفاسه/ قبل أن يغمى عليه في غرفة الاستقبال قال لي أمام أخته: قد أموت، فأختي أمانة في عنقك..
كان لديّ قليل من النقود ولديها الكثير/ اقتدتها إلى العاصمة عمان/ وبحدود شهر واحد قضيناه هناك أخربتني أنها مريضة مثل أخيها (عدنان) وقد تموت،،، سهرتُ في حانة وعدت إلى الشقة في منتصف الليل، قالت لي خذني إلى المستشفى/ هناك تركتها غائبة عن الوعي، لذا تركتُ المستشفى وقت الفجر حين أيقنت أنها ميتة وخبأت نفسي في الطرقات/ كانت الحشود في الشوارع مثل النسور التي فقدت بوصلتها/ حشود أحسّها عارمة فقلتُ لنفسي: من ذا الذي جاء بي إلى هذا العالم؟ لذا سأهلك نفسي في الخمرة القوية/ تركتُ أخت (عدنان) للغرائبي، والرعب، والدود، والتراب/ بعد خمسة أيام من غيبوبتي في بحر الخمرة يممتُ وجهي صوب ميناء العقبة وخلّفتُ شمساً رثة، أنا مثلها تماماً رث.
(مغترب)
أباح لي مغتربٌ عائدٌ تواً إلى الوطن: إنني ما أن اجتزت الحدود دخولاً لبلادي حتى أغمضتُ عينيّ/ فقد كان الخراب لا يصدّق،، حين وصلت العاصمة بغداد فتحتهما على مضض لأبتلع سم الحقيقة لأنّ القضية تتمثل بخراب الإنسان أولاً وأخيراً.. دخلتُ حانة فرأيتُ الوجوه تنشطر ثم تتناسخ،،، احتسيت زجاجة بيرة وخرجتُ إلى الشوارع فواجهني إله عارٍ كان يلتقط حبات المشمش الفاسدة من الأرض ويلتهمها مع النوى.. حاولت تجنبه فمدّ يده إليّ وقبض على كفّي ثم اقتادني إلى حانة أخرى خالية من الزبائن جلسنا على مائدة واحدة، هو العاري تماماً وأنا المرتعب.. أجهزنا معاً على زجاجة ويسكي/ حين خرجنا ليلاً، ظلّ معي سائراً، حيث الشوارع مكتظة بالناس/ همس بأذني: إني أرى الناس ولا يرونني، فلا تخشى، فأنت الكائن الوحيد الذي جعلتك تراني/ اقتادني إلى الساحة العامة وقبل أن أركب المنشأة قال: ها أنت تراني عارياً تماماً فسأجعل العراق أيضاً عارياً، كل نبتة وشجرة ستكون عارية من أوراقها وخضرتها وسأجعل البشر عرايا من الثياب ومن كل عدالة وخير وحرية...
إنك تبدو غريباً على هذه البلاد، أنصحك أن تعود إلى بلاد غربتك/ قلتُ له سأزور أهلي في البصرة ثم أعود/ قال اذهب في أمان الله.. كنتُ أفقتُ من كابوس أسود/ وصرتُ أبكي على ذلك الوطن المقهور، والمستباح...
(قطرة قص 1)

يمرُّ بي على مائدتي، في الحانة كل مساء، أعطيه مبلغاً للشرب، مقابل قصيدة أو مقطوعة لقصيدة/ فإذ مرّ بي، بلا شعر، لا أعطيه فلساً واحداً/ مرّة واحدة أعطيته مبلغ الشرب وقلتُ له هذه المرة الأخيرة أمنحك مبلغاً إذا لم تنجز شعراً/ استطاب القدوم.. أخذ يبكّر في الخروج صباحاً والسير على شاطئ دجلة، يصارع نفسه ليكتب بعد أن ضمن أني أنفحه مبلغ الشرب/ صار يكدح كأي عامل مكافح في كتابة الشعر/ ومن حيث لا يدري قتل وأجهز على التشرّد والضياع / صار شاعراَ منتجاً واسماَ لامعاً/ طلبتْ منه ذات يوم مجلة رصينة وشهيرة ملفاً شعرياً (كانوا يائسين من تبطله وتشرده وعدم إنجازه، رغم مواهبه الفذة) استعان بي فذهبتُ معه لأضع إضمامة من القصائد الرائعة بين يدي رئيس التحرير/ كان الملف علامة فذة من علامات الشعر في العراق...
وحين غادرت العراق إلى فرنسا،،، عاد هو إلى تشرده وضياعه في العاصمة بغداد/ حتى عثروا عليه يوماً، ميتاً على أحد الأرصفة. هاتفتُ الصحافة الثقافية من باريس عارضا عليهم قصائد مهمة له وضخمة لدي.. رحبوا بي فأرسلتها إليهم.. ولم تر النور مطلقاً فقد سُرقت في وضح النهار..

(سأدفن الماضي)
هو ذا اليوم الذي سأحيا فيه زمني/ أنا أدرك أنّ إلهاً خفياً، متربصاً بي، يرقب حركات وسكناتي/ سأعود إلى الحديقة القديمة ذات الأشجار العتيقة، وأجلسُ على مصطبة في أواخر الليل حتى طلائع الفجر/ أنا أدركُ أني منسحق تجت عجلات القوانين التي شرّعها ذلك الإله الخفي/ تركتُ أمي وأبي، وتركتُ المدرسة الثانوية، ميمّماً وجهي صوب الفن، كي ارتقي القمة التي من خلال ذروتها أناهض الموت/ جاءني أخي الصغير وقال لي أمي ماتت،،، ذهبت إلى ذلك البيت الفقير، وبكى أبي حين رآني مخطوفاً، ذابلاً، لكنني لم أكن مهزوماً/ وحين رجعتُ إلى تلك الحديقة القديمة لألقي عليها النظرة الأخيرة/ عندما رحلتُ وصلني خبر موت أبي،،، كنتُ أودّع وطني، وأدفن الماضي.

(شكل الحلم)
إنه شكل الحلم: أطوفُ بين المنازل الخالية من الناس، فأرى الابواب المشرعة / في الشتاء أجمع الحطب، وأدخل غرفة عارية، سقفها خفيض، جافة وحيطانها مقشرة/ سمعتُ همساً، وكأنّ خاطراً في داخلي، يشدني إلى حربٍ بعيدة، هي قادمة، وقد سقط الجليد على السطوح والممرات/ أحسستُ بالدقائق، سوداء، بطيئة، ومُقعّرة/ ما زلتُ أرقبُ شيئاً مجهولاً حين دخل ذلك المنزل المهجور، عجوز، مخيف، متهرئ الثياب، مقرور/ ناديتُ عليه،،، كانت النار تأكل الحطب بضراوة/ تدفأ معي بالنار، ووضع رأسه على كتفي، ومات...

(نداء)
هذا الأوان، لليل السريع، القادم، من ذلك المجهول/ فأنا أردّدُ كلمات ٍ قديمة جداً، أمام المرآة،،، لأنّ الروح الذي يتلبسني يجعلني أزيح الرموز الذابلة مثل السنابل النحيفة في الأراضي اليابسة/ سيمرُّ الوقت، يعقبه حدثٌ عصيب، فبعد أن ينقضي ذلك اللاعب مع المجهول، الذي أسميه الليل/ سأردّد ثانية تلك الكلمات الممهورة بالنداء: حتى إنّ نجمة ً تتلبس في الظلام ثياب جنيّة، ويغمر عينيها السهاد/ تمر صورتها خاطفة أمام المرآة فأجفل، وأضع كفي المرتخية على الزجاج المصقول، ويصرعني ظمأ شرس إلى ماءٍ، ينبع من عينٍ وحيدة تتدفق في الصحراء، فيشعُّ انعكاس روحي مثل الصرخة المكتومة/ حينئذ تتحطم المرآة، وأغصُّ بالخوف، غائباً عن الوعي.
(أيّها الفاسق)
قال لا شيء خلف الأبواب فجاريته وحين اقترقنا عدتُ/ كان الخواء سيد المكان فعثرتُ على عملة معدنية، عليها صورة ملك العراق فيصل الأول/ كانت مغمورة بالصدأ، دعكتها فشعّت جبهة الملك، ناصعة/ أحد الأشياء التي أثارتني إن الأبواب كانت مسدودة بطريقة صارمة، وبلا أقفال/ وأنا واقف كان الزمن واقفاً معي كأني رجل فاقد الرشد/ في تلك الساعة حطّت بومة رمادية فيها صفرة حنطية لاصفة/ رفعت نبتة ولوّحت لها بها فاستسلمت وحطّت على كتفي/ أدارت رقبتها الحلزونية ثم سكبت نظرة قزحيّة من عينيها الفضيتين على عيني/ مسّدت على ريشها وكان اليوم خميساً على ما أذكر/ أمسكت بها وتركتُ المكان متجهاً إلى غابة بعيدة، هناك رأيت بئراً، فتحتُ كفي وطارت لتنزل إلى الأعماق/ لبثتُ في مكاني أصيخ إلى أصواتٍ مبهمة تتطشّر في كل الاتجاهات/ كان الليل يزيحني عن المكان،، وحين عدتُ إلى المدينة خلعتُ كل ثيابي فسحبني شرطي إلى التوقيف/ نمتُ ولم أفق إلاّ في اليوم التالي على أصوات بتظاهر في الشوارع/ فتح لي باب التوقيف فرميت نفسي صوب المتظاهرين/ وصاح بي: ستندم طوال حياتك.. أيها الفاسق...


(نهاية)
هنالك نهاية (لا أحد منكم) يتوقعها: نهاية امرأة فاتنة، أم نهاية رجل عجوز.. نهاية سجين، أو قاتل محترف/ نهاية رحلة/ زمن عصيب، أو نهاية حقبة سياسية... كل ذلك يوجب منكم توقعه.. كنتُ أمشي في السوق/ عبر ممراته كلها، ثم عرّجتُ على ساحة ٍ فسيحة تطلُّ على نهر صغير شبه آسن/ رأيتُ صبية يمسكون جرذاً ضخماً، أعمى، مريضاً يرتجف،،، عاجلت أحدهم بصفعة خفيفة فسقط الجرذ من كفه وصار يتمرغل بين رجليه/ انحنيتُ لالتقطه بكفي التي غمرها الوحل والماء القذر/ كان الصبية يتطلعون إليّ باستغراب ٍ مشوب بالجنون/ أوقفت سيارة تاكسي أوصلني إلى مسجد موغل ٍ بالقدم/ نفحتُ السائق أجرته وهو ينظر إليّ بتقزز عجيب فلم يبرح المكان، وقد رآني أغسل الجرذ بماء الصنبور.. تركته يتجفف في الشمس إذ راح يجرجر جسمه المريض ويختبئ في جحر، في الساحة المتاخمة للمسجد/ قلت للسائق لِمَ لا تبرح المكان،،، وفجأة ً خرج الجرذ من الجحر وراح يمرّغ جسمه في التراب ثم يرفع قوائمه نحو السماء، وبطنه ينتفخ، ليموت: أيها السائق هذه نهاية من ملايين النهايات التي تحدث في هذا العالم..

قطرة قص 2
الواقعة جرت على مشارف الصحراء، قرب الكويت،،، تلك الحادثة وقعت وأصرّ بأنّ أسراراً تجري في هذا العالم أباح لي بذلك مهرّب قديم: إنّ أموراً لامرئية تحدث/ (كنت وقت الغروب مع جماعة من الإعراب، نروم الدخول إلى الكويت، ننفذ صفقة تهريب مهمة جداً، لمحنا رجلاً، طويل القامة، أشيب الشعر، دنونا منه مرتابين.. سمع أصوات خطواتنا وصاح بنا: أهلاً بالقادمين/ من أنت قلنا له؟ أجابنا بأنه سائرٌ على درب الله... لبثنا صامتين، كانت ملامحه صارمة، وبشرته شقراء، شاحبة.. قلنا له أنقدّم لك خدمة يا عمّ؟ كنا نجهل كل شيء، ولا نجيد إلاّ مهنة التهريب.. قدمنا له قربة ماء.. رشف منها قليلاً وقال أنّ الماء لا يُرد: سيروا على بركة الله فأنا بوصلتي صوبه.. قلنا من هو؟ هل يوجد غير الرب؟ أجاب.. وشرع يتجه يميناً، وإن الليل بدأ يطوي مظلته على الصحراء/ تداركنا أنفسنا، ونحن نكتشف أن الرجل كان أعمى/ صحنا بهِ أنعطيك قربة الماء؟ لا. لا، أجاب/ ولأول مرّة ذقنا طعم الخوف وحلاوته/ لقد اختفى كل أثر للرجل/ بعد ساعة كلفنا إعرابياً من المهربين أن يتبع خطاه/ حين عاد إلينا بعد وقت طويل قال لنا جبت الأمكنة والاتجاهات فتشت يميناً وشمالاً فلم أعثر له على أثر/ حين اخترقنا الحدود والمفازات كانت البصيرة العجيبة خرقاً / بصيرة ذلك الأعمى المجهول.

قطرة قص 3
لن ينسى أحد ذكراك عندما رحلتِ في زهو الشباب عن ذلك المكان، وذلك الشاطئ الذي يدعو إليه الماضي الحزين، ماضي طيفكِ الذي تصهل به الأمواج (كان الليلُ يخيّم على المكان حين انسكب ضوءٌ خافت من تلك النجوم المعلقة هناك فوق السماء البعيدة/ رحتُ أتطلع إلى محيّاكِ، وحضورك البهي: يا ابنه الخال الغالية على كل نفس/ لقد تحتّم عليّ أن أسكب دمعة ً/ دمعة ً خفيّة، لأنني كنتُ الوحيد الذي يدرك رحيلكِ المُحتّم عن عالمنا..)
كنتِ في الثالثة والعشرين ، فارعة القوام، شامخة، ببياضك البهي، وعينيك السوادوين بعد تركك الجامعة قبل ثلاثة أعوام، واعتكافكِ في غابة الصمت/ كنتِ تتباهين للتلحف بدثار العزلة والأسرار، ودخلتِ المتاهة، وانزلقتِ إلى الرمال المتحركة بعزوفك عن الزواج، والحضور الاجتماعي/
وذات فجر رأيتكِ سرّاً، تتطلعين إلى تلك الفيوض البعيدة، ثم تواريت في غرفتكِ/ وذهبتُ أنا إلى العاصمة/ سمعت إنّ طائراً مجهولاً دخل من النافذة، وحطّ على حافة سريركِ/ وفي الظهيرة دخلت عليكِ أمكِ، فاندفع الطائر يخرج من النافذة/ ثم خرجت أمكِ تعلن رحيلك الغامض/ كان الأهل أول مرة يضعون باقات الورود على تابوتكِ/...
أنا هنا أمام الشاطئ الذي كنتِ فيه معنا، تنعكفين،، وأنتِ على موعد ٍ مع الموت،،،..
هذه الأشياء، العائمة، باقية: مادام حضوركِ باقٍ مخلّفاً هالات الغموض بقوّة عجيبة.

قطرة قص 4
كانوا دنسوها: أرضاً بكراً ، مهجورة.. تلك المدينة التي ستكون مفترضة في خيال القاص/ كان الليلُ مثل المعدن الثقيل، وعلى طول الشارع ثمة صمت مشوب بثقوب الرصاص.. وحدث أن قاءت السماء مطراً خفيفاً/ ثم اندلعت انتفاضة 1941 التي رافقها نهبٌ وسلب وقتل/ وقام الإنكليز بدهم البيوت، واقتادوا مئة فتاة عذراء من بيوتات العشار ... كانوا عروهن في ساحة ثكنة المربد التي صارت لاحقاً مدرسة ابتدائية ، ولا زالت/ عرّوهن في المكان المسيّج والمنعزل،وتركوهنّ للهنود يغتصبوهن/ في اليوم التالي انطفأ ضوء الشمس،،،
بعد أسبوع واحد أعادوهن...
وصدر مرسوم ملكي بتأسيس أول مدينة (للقحاب) في جنوب العراق/ ذلك القاص يؤسس، بل هو المؤسس الأول لهذه المدن العاهرة.


(متاهة)
متاهة من الأنوار: عندما دخلتْ شاحنات الحرس الخاص من معبر رجال الكمارك ولا صوت سوى رنين المعدن/ كان الضباط الكبار قد فتحوا الدفاتر القديمة يتصفحون الأوامر والمراسيم القديمة الصادرة من مكتب الرئيس مباشرة/ فجأة خرجت امرأة من سيارتها المرسيدس السوداء وأطلت باهرة تضع على رأسها قماشة زرقاء مزخرفة بالعصافير والورود/ نطقت كلمات سريعة قاسية بلكنة خشنة/ ومن بعيد لاحت سكة القطار التي مرّت عليها عربات الكبريت/ ثمة عصفور صغير خطف يرفرف بجناحين شفافين/ ألقت المرأة نظرة صارمة فتحركت الشاحنات المعبأة بالأسلحة الثقيلة/ عمّ سكون مهيب مطبق/ مرّت كل الشاحنات وبقيت المرأة يرفرف القلق بجناحيه/ أحسّت وحدست، بل أبصرت أن السلطة/ سلطة وجودها، آنية / زاغت نظرتها عندما بقي الخطف بالجناحين الرهيفين يقضّ استقرارها،، بل يستفزها قلق لم تعهده أبداً.

(الأحلام)
قد تستعيد الأماسي في الشتاء شيئاً من شذرات النجوم، بينما هي تدور في حلقة حياتها المفزعة ولا تستعيد شيئاً سوى قطعة الذهب التي لبستها يوماً في عهد جدتها العجوز الصلبة، الصارمة التي داست بقدميها على رماد الأعوام هناك، في ظلام المدينة الفاسدة/ كل ليلة تضع مقاس الثوب المطرّز بخيوط الفضة، في المكان القصي، في الأعلى على جسدها: تتطلع لشبح ٍ لن يأتي/ كانت تكسّر كلّ ليلة ٍ قدحاً أو دورقاً وتغمض عينيها عن صورتها في المرآة/ كانت تواجه المال، ولا تواجه الحب، إذ أحسّت ذات فجر إن دوائر الروح ترسل نداءً خفياً إلى ذلك الشبح الذي لن يأتي، حتى إذا استشعرت أصوات سنابك الجياد، هناك في الشوارع الوطيدة، حيث يخرجُ من الممرات صبية يحملون الأبواق، يصيتون بها فتنهمر الأحلام مثل فقاعات زرقاء، برّاقة/ وأول شهقة تنبعث من فمها الصغير، الملموم، يشفع لها ذاك البكاء المكتوم، بين أركان حجرتها المعلقة فوق البيت، لكي تنسى أحزانها، فتغفو، إغفاءة طويلة، طويلة، لينحجب كل ما في هذا العالم..

(صوب الحانة البعيدة)
الباب مقابل الباب وبينهما مسافة قصيرة جداً وصمت.. كانت تخرج أوّل الصباح وتعود ظهراً.. لا يعلم إن كانت موظفة أو معلّمة/ لكنه صان نفسه، عزلها عن رؤية خروجها وقدومها: كل شيء يمكث في الظلال/ ظلال الأجساد، أو ظلال الجدران، والمرايا/ كان حضورها قد جعله ينسى عاداتٍ، كالثرثرة الخافتة مع النفس ينتظر حضورها ظهراً، إذ اعتادت أن تصفق وراءها الباب بقوة/ الباب ينصفق كردة فعل ما، أو نداء، إهانة ، أو تذكير/ لكنهُ عوّد نفسه أن لا يأبه لذلك/ ينحدر إلى مزيد من العزلة ثم اتخذ قراراً أن يصعد إلى السطح ليصيخ إلى الأصوات المائية، هناك فوق متون السموات البعيدة/ فلم يكن هو رجلاً عادياً، فقد كان ذا معرفة، ولكنّ الذات عندما تهمل وجودها الأصيل، تكون عرضة لنفايات الحياة/ فأحسّ في ضحىً مشمس بغبطة ٍ لم يألفها، حيث انغمرت فيه نوبة تأمل كثيفة، ولازمته لساعات طويلة/ استشعر الحاجة إلى كؤوس صغيرة من الخمرة/ قرر أن ينزل إلى المدينة، بعد عزلة ٍ طويلة، ليجلس في حانة هادئة/ استحمّ ولبس ثياباً نظيفة، وخرج/ رآها عائدة بالصدفة،أحنى رأسه، عندما صارت أمامه وجهاً لوجه.. قبل أن يجتاز عتبة الباب، دخلت دارها..،،..،، فلم تصفق الباب وراءها، الباب قبض قلبه بقوة، واتجه إلى هناك، صوب الحانة البعيدة.

(هل يأتي الحلم؟)
أنا العارف بالتوحّد ومجسات البصيرة المطوّقة من كل الجهات: كان شاغلي هو النور/ النور الداخلي( كنتُ بقيتُ وحيداً في البيت، تركتُ الوظيفة، أحلتُ نفسي على التقاعد براتب ضئيل/ كان هناك على الأفق قوسٌ عندما حانت ساعة الغروب) لأول مرّة استشعر الخوف في نفسي: ثمة قنوط، أسود لم أألفهُ فهبطتُ إلى صحن الدار/ فتحتُ الثلاجة وشربتُ ماءً بارداً/ حين عمّ المساء رصدت رؤيا سأستدرجها في أواخر الليل/ كنتُ هناك ثانية فوق سطح الدار.. وضعتُ الفراش والوسادة على السرير.. كان الفصل أواخر الخريف. تذكرت النهر والقارب، والموج الفاتر، والنسيم/ تذكرت الأشجار المنحنية وتذكرتُ وحدتي حينما تغلغل الحزنُ إلى نفسي وذهبتُ إلى بيت (عدنان) صديقي الذي لم يغادر البيت منذ ثلاثة أعوام، ترك الوظيفة والأصدقاء والقراءة. كل شيء تركه وأذعن للتأمل، ودخل دهليز القنوط/ شربتُ الشاي وكانت أمهُ بيننا/ شكت لي حال ابنها (عدنان) قلتُ لها سأكون مثلهُ، فشرعت تبكي بيننا.. مرّ الوقت ُ بطيئاً وأنا أرصد الرؤيا لكي تندمج في الحلم.. الوقت يمرُّ، وأنا أرصد الحلم.. شاغلتُ نفسي داخل الدار/ وعدتُ إلى السطح، أرصد الحلم.. لا أدري بنفسي حين نمت، وانشغلت عن العالم/ كنتُ نائماً ليومين متتاليين، لا أدري بنفسي، راصداً ذلك الحلم... فهل يأتي الحلم؟ هل يأتي؟

(صواعق)
عبرها تلك الرياح القادمة من الشمال عندما انتهت الحرب التي تركت دروسها فوق الرفوف/ وجدتُ نفسي بلا أقران ولا أصدقاء/ الكل غيبتهم الحرب.. بقيت الأيام جافة ً،ولا صوت بشري يعلن بدايات حياة ما بعد الحرب/ لقد أطيح بكل أمل/ كيف أأقلم حياتي الجديدة / فكل نافذة تترصدني، كل بئر تستدرجني لدفني/ سأواجه ذاتي تحت سماء الليل المفتوحة/ ثمة دوائر تطوّق رقبتي/ كل قدر يوجه ضربته الساحقة ليطيح بي/ واجهتُ المرآة العملاقة في البيت/ ألقيت نظرة على وجهي فصممت أن أتخلى عن كل أمل ٍ فأواجه الله/ تفصد العرق من جسدي، ورفعتُ وجهي صوب السماء، وسحقتُ بقدمي المكان الذي أقفُ عليه، فابتدأت الصواعق الباردة تهبط قرب وساتي/ في أول قطرة ٍ من قطرات الفجر المنسكبة على وجهي، نهضتُ ورفعت معولاً / كان وراء الباب/ رفعتهُ بكفّي، ومضيتُ إلى حقول المعركة.

(فصل في الجحيم)
كان الغبار الأسود قد أخفى وجهه عنا، في ليلة خريفية باردة.. جاء به (السرّاج) ومعه زجاجة خمر،،، كنا جلسنا على ربوة ٍ تحيطها ثلاث نخلات عجوزات عيطاوات/ جلسنا وكان يحمل معه قصائد (فصل في الجحيم) أجهزنا على الزجاجة وسرنا صوب المزارع، والقمر يرسل لنا زفراته النورانية الحمقاء/ وصلنا محطة القطار المهجورة، ثم تابعنا السير/ كان وجهه محجوبا تماماً بالغبار الأسود/ استمرينا في السير حتى النهر/ ركب معه السرّاج بالقارب، واختفى بعد عام/ لقد وصل مشياً إلى الكويت/ بعد عامين كان في (عبادان)- وتلاشت كل أخباره/ بعد أعوام بعيدة قيل لنا أنه في اليونان/ ثم اختفى كل خبر عنه، حتى جاء اليوم الماطر، في الليل عندما طرق بابنا (السرّاج) وكان ثملاً يبكي،، حيث أبلغنا أنه مات في (ميونخ)- ظلّ يبكي وقصائد رامبو (فصل في الجحيم) كانت في جيبه/ قال لنا عندما ودّعته أعطاني إيّاها للذكرى/ ظلّ السرّاج يبكي وخرج في الليل العاصف يستحضر ذكرى صديق مأساوي منذور للاغتراب..

(نداء)
أيّها الأصم إنّ ندائي ليس إليك فأنا (قشة غبراء) في الغابة الصامتة/ ندائي لنفسي أولاً..،، وظلّ يرسل إليّ نظرة ً، فصيحة ً، قاسية، ثم أطرق إلى الأرض فأحسست بقسوة ندائي إليه.. أدركتُ أنّ المعاني تصلُ بطرقٍ سريّة وخفيّة فانحنيت عليه لأقبّل جبينه/ قلتُ له إنّ ندائي ليس إليك، ولا إلى نفسي إنما هو للزمن الصارم، الجاثم على صدور الناس..
(درب مظلم)
بعد البرق المضيء الصارخ، اجتزنا الأحراش الكثيفة لندخل قرية ً مهجورة/ رأينا البيوت، مقوّضة، والأبواب محطّمة، والأغبرة متراكمة في كل الزوايا، والغرف، والممرات.. دخلنا حجرة في بيت خفيض مهدّم/ عثرنا على نجمة ٍ سقطت من السماء: كانت ميتة، ولونها أسود مائل إلى الرمادي/ كانت بحجم خفاش، بلا زغب ولا عيون.. نجمة بأضلاع ٍ ، وأرجلٍ ضامرة/ ذكّرتني بأخت لي، مريضة/ ومجنونة/ ذبلت، وماتت، كانت بحجمها يوم ماتت، وحملها خالي على كتفه/ ليدفنها.. سار وحده على دربٍ مظلم، موحش في الليل/ اختفى بها، ولم يعد، ولم نسمع عنه خبراً..
(طفل شريد)
في ليلة ٍ من ليالي الشتاء، دخل المدرسة المهجورة، طفل شريد، بلا ثياب/ اضطرّ الحارس الفقير أن يصعد إلى السطح وينزل علم البلاد من صاريته العالية، ويلحّفه به..
(المُهان)
قدّمتُ كفي، حين خرجتُ من التوقيف، لضابط الشرطة المسؤول مودعاً، وفيها، ورقة نقد، من فئة (المئة دولار) ترك كفي، وركع ليقبّل قدمي.. فقد كان وفيّاً لكرامة الشرطي...
(ذبابة)
حطّت ذبابة سوداء على ثياب رجل ملتح في المسجد، بعد الوضوء/ عاد الرجل إلى صنبور الماء يتوضأ من جديد فهمست الذبابة في أذنه: أنا مثلك أيضاً مخلوقة من مخلوقات الله..
(دهاليز)
رجلٌ وامرأة، والظل المسكور: كان بلون الكبريت الفاتح/ تركها تذهب لتعمل في بيع لوازم الحياكة.. وكان الدكتاتور قد أعلن الحرب ومعنى ذلك أن المصير قد جعله مطلوباً/ كان القبو ليس بعيداً عن الشارع: هنالك الباب الداخلي، والحجرات الأمامية شبه المظلمة/ لقد شلّه الخوف وشلته الرغبة، وحضور المدينة الطافية فوق سطح القبو/ إنه يتخيّل المؤامرة والدكتاتور الذي في القصر، والظلام المتسيّد: فهو أيضاً في القبو الرئاسي ينكبّ على أوراقه بلا مصابيح/ سيحلم الدكتاتور حتماً بالليل الرهيب الذي سيهمي على الوطن/ نحن أمام اثنين مواطن هارب من الحرب والسلطة يختفي في قبو البيت/ ودكتاتور غاشم يختفي في القبو الرئاسي، فسيهرب الاثنان: المعارض والدكتاتور/ عندما انتهت الحرب نجح المواطن بالخلاص من الموت، وأعدم الدكتاتور،، تلك هي المتاهات، في علوم السياسة ودهاليزها الفكاهية..
(بلا أمل)
امرأة فريدة في سجن النساء فهي بعين واحدة، واذن واحدة، وفم واحد و...، و...، و(ك) واحد... وأمل واحد أن تخرج لتموت.
(نهاية حرب)
جعلت أخي يرمي كفي اليمنى بالرصاص، و(فعل) كي أعفى من الجندية، ولا أشارك في الحرب،،
وفي منتصف نفس الليلة، أعلن في المذياع انتهاء الحرب..
(دفء)
وقت الفجر، في الشتاء، سرق المشردون تابوت الموتى قرب المغتسل في المسجد الكبير، ولاذوا هرباً صوب التلال البعيدة، هناك أضرموا به النار كي يتدفأوا وتتدفأ معهم كلبة جائعة مع جرائها العمياء..
(رغيف)
رغيف أسود، أجعد، مغبرّ، مثل وجه زنجي قادم من أسباخ الملح، كان في كفّ أرملة، طافت به الشوارع، فألهمت الشيوعيين في البصرة أن يضرموا انتفاضة تشرين 1952 العارمة.


(وداع)
الأقشاش سقطت من فوق أعمدة الكهرباء، وكان المطر يسقط رذاذاً، والوحل الخفيف يلتصق بالشارع الطويل/ كنتُ متجهاً صوب النهر، وكان الإحساس مقروراً، والجسد يرتعش،، إني إراها سقطت وغمرها الرذاذ البارد، تلك الأعشاش الملمومة، غير الكثيفة... لقد لمحتهُ من بعيد، عبر النهر، حسير الرأس، والمطر قد بلل ثيابه/ لوّحتُ له بيدي، ولوّح لي، وازداد انهمار المطر بدرجة كثيفة كأنّ ألواحاً من الزجاج فصلت بيننا/ بقي منه شكل الشبح/ عندما تراجعتُ صرتُ أحسّ إنّ الموت قرين للصداقات الجليلة/ مضى هو، لقد مضى، ومضيت، ومضى تيار الزمن مثلما تمضي الغيوم محلقة فوق الغابات/ كان هنالك رسول أبرق من بعيد/ وبعد ردح ٍ من الزمن أباح لي أن صديقاً لك دفن قرب الجدار الذي يفصل بين الألمانيتين...

(موت الأم)
كيف كان الزمن سريعاً؟ وكيف كان المصير؟ فبعد طول عناء، كان يبحث عني/ وأنا كنتُ مشدوداً إلى نغم ٍ خفيٍّ ينبض في روحي/ وصادفني في مقهىً يطلّ على النهر/ كنتُ مفتوناً باللون الأحمر، الصارخ، لذا أحببتُ (حبّات الرمان) والورد الجوري والتفاح الأحمر، والبطيخ الأكثراحمراراً، والحمائم الحمر/ أخذني إلى مقهىً آخر وقال لي: أمّي ستموت في المستشفى، وفصيلة دمك هي الوحيدة التي تطابق دمها/ ذهبنا معاً إلى مصرف الدم فتبرعتُ بلترين فصيلة AB،،، وحين عدتُ إلى المقهى شعرتُ بدوار/ لم أخرج من البيت، نمتُ ثلاثة أيام/ علمتُ أنه يسافر إلى (دُبي).. بقيت المدينة تواجه إشكالها/ كنتُ في حوض السباحة حين تراءى لي وجهه حزيناً/ لقد أدرك أنها ستموت/ حين علمت أمه برحيله انتكست/ واشتبكت الأشكال/ كان هو هناك/ ينزف/ كل يوم يواجه موتها/ حين لفظت أنفاسها لم يبلغه أحدٌ بالخبر..،، كانت حافات المصير تضيّف على الأرواح الخناق/ أتتهُ فرصة عمل مع شركة ٍ تسافر إلى البرازيل/ رحل معها، وفي منتصف البحر نزف دماً/ وقف فوق رأسه الرجال/ ظلّ يهذي وينزف: قبل موته بدقائق نطق هذه الكلمات: حتماً أمي ستموت-،، وأنا السبب في موتها...
(القدوة المجهول)
كلّ ما أعرفه عنه إلاّ القليل/ وضع في يدي ذات يوم كتاب وايلد (من الأعماق) مصادفة ً فاشتعلت البروق في دمي/ انسقتُ للفن،، هذا الذي أتحدث عنه كان بعمري، دون السابعة عشرة عمراً/ فجأة اختفى، فقرأتُ بعد غيابه كل أعمال أوسكار وايلد الملهم/ صرتُ من جماعة (الفن للفن)- جازفتُ وخضتُ حرباً لا هوادة فيها مع الجماعات التي أبحرت في السفن المتجهة صوب فن الرسالات: واقعية، اشتراكية، ماركسية، إنسانوية.. وووو/ اتخذتُ لي خليلاً فوشت بي كل الجماعات: صرتُ مضغة ً في فم المجتمع/ ذات يوم وجدتُ نفسي في السجن: كانوا يأخذوننا وقت الاستراحة إلى الحمامات فلمحتُ الفتى الذي ساقني دون أن يدري إلى طريق الفن/ كان من بعيد يبدو مهزولاً، شاحباً، ويائساً...
انتهت نوبة الاستراحة والاغتسال/ عدتُ إلى زنزانتي/ ثم نادوا باسمي واقتادوني إلى سجن آخر/ بعد عام علمت أنه شنق نفسه فجراً، في محجره الانفرادي..
(ضيعوني)
طرقتْ باب بيتنا امرأة محتشمة/ قالت إنّ زوجي في المعتقل، وأطلب المساعدة/ كانت أمي واجهتها وصدتها بطريقة لا تخلو من الحماقة، والبذاءة/ وفي منتصف الليلة نفسها، وقد كنتُ معارضاً سياسياً، دهم رجال الأمن بيتنا (وضيعوني) في غياهب المعتقلات..


(حمامة)
باع أخي يوماً حمامة بيضاء، ريش رأسها أحمر، يوم كنا صغاراً/ مرّت الأعوام، وفي ساعة غروب حزينة، وجدناها في مطبخ البيت، الذي كان أخي يربي فيه الحمام، في مدينة الفيصلية/ كنا رأيناها بشكلها الوديع، فبكينا جميعاً..
(مقبرة)
دخلتُ المقبرة مصادفة ً، ولما خرجتُ مغموماً، لم أدخلها ثانية ً ما حييتْ..
(حوذي)
هنالك عربة خشب بعجلتين خلفيتين مع حوذيها الذي يمسك باللجام/ كان يتطلع بحزن إلى المدى البعيد،،، ولا أثر للحصان..
(حميد الناعس)
مات (حميد الناعس) ومات معه الحصان بعد أن أطلق عليه النار قبل أن ينتحر/ حصل هذا بعد أن صُفي الرفاق في سجن (جلولاء).. كان الناعس قد مارس عملية التخفي/ فقد عمل حوذياً بين القرى الخلفية لمدينة البصرة/ وصلته شفرة المجزرة الدموية فسكب في فمه زجاجة بأكملها، كان ذلك بعد لقاء الرسول في منتصف الليل/ ثم انطلق بحصانه، يقود العرة بين المفازات التي تلتف عليها غابات النخيل/ تجاسر وعبر الجسر الذي يربط القرى بالمدينة المكتظة بالأنوار الساطعة والحانات/ لا يدري كم شرب من الخمرة، وآخر زجاجة دفع ثمنها وعاد ليغوص في أحشاء الغابات/ كانت الموسيقى تنسكب من السموات مثلما تنسكب الخمرة القوية في فمه/ وانطلق يغني، غناءً جارحاً بصوته القوي العذب يخدش وجدان الناس الشرفاء/ كلما مرّ سريعاً على قرية رفع الناس السهارى له تحيات الإعجاب/ عندما انهى الزجاجة وغاب تماماً عن الوعي، ودخل منطقة ً أخرى، فوق أرضٍ ترابية متمسرحاً مع أقصى طاقات الخيال، وفوق قنظرة ٍ مظلمة أودي بحياة الحصان، وأطلق النار على رأسه...
(قارب)
نهرٌ سريع الجريان، وقارب يتأرجح على الضفة الصخرية العارية/ غير مربوط، يرقص على إيقاع النسيم.. نامت فيه كلبة وانجبت فأراً أبيض لاصفاً كالملح..
(جثة)
رائحة زنخة، عفنة، ونسور في السماء/ ولا أثر لجثة في المكان.

(المعركة)
خلفه الضجيج البعيد، وهو يركب عربة ً تجرها الجياد/ يميناً يلتفت وشمالاً وضوء الفجر البارد، الشحيح يتغلغل في الشارع الترابي بين النخيل/ تمرُّ الصور المغبشة خاطفة ً/ قرب أول قنطرة يترجل ويجري باتجاه النهر/ يواجه تيار المياه العنيف، والاتساع الشامل/ وطيّات الموج الخابي/ فرش أوراق الكتاب أمام عينيه، فوق الضفة، فأحسّ بالنعاس، وبالخدر/ اضطرَّ أن يخلع ثيابه وينزل إلى الماء، رغم برودة الخريف/ أجبر جسده على مواجهة الموج: ولما خرج كان مفعماً بالعنف، بطاقة اليقظة الساطعة... ارتدى ثيابه وترك الكتاب على الجرف، وسار إلى اليمين، وأحسّ بجبرية المواجهة مع النفس/ هنالك ستبدأ المعركة مع الذات/ معركة حتى ولو كانت خاسرة ستمنح معنىً للوجود/ في الغرفة الفقيرة المعدمة، في أقصى جنوب البيت المبني من الطين/ وفي حدود الساعة العاشرة صباحاً صرخ بوجه السماء: الآن تبدأ معركتي..
(أرض اللاميعاد)
قطرة مطر ٍ واحدة، صغيرة جداً، سقطت مرّة واحدة، ثم ساد الجفاف لمدة ربع قرن من الزمان/ إنها أرض.. أرض.. أرض اللاميعاد..
(المُبحر)
في شمس الصباح كانت الدنانير الجديدة تحثه على الوصول إلى حارة المومسات/ في أوّل زاوية من ركن بعيد لوّحت القوادة بكفها،، اقترب، وقال لا أدخل إلاّ بشرط: أن أجد خمرة تكفيني حتى الفجر الثاني، في غرفة لا يدخلها العابرون/ كل شيءٍ كان جاهزاً/ الموسيقى نحيفة كإبرة الخياطة، وزجاجة ويسكي فرنسيّة فكّ سدادتها بأصبعه، وأصابع الخيار المملحة، وكومة المكسّرات، حيث جالسته القوادة/ كان حزيناً جداً، لذا أوصاها أن لا تدخل عليه المومسات/ وطفت الموسيقى نحيفة،خجولة، مرتبكة، ومقرورة/ كان هنالك نداءٌ من الضباب يستدرج الذكرى إليه: لا مكان لكَ، في هذه المدينة – ارحل" أجاب، "سأرحل/ ظلّ يرتشف خمرته مندمجاً مع الموسيقى، وصمت النفس: دخلت القوّادة عليه والدموع تغمر عينيها- خاطبتهُ: إني أخاف عليك من هذه البلاد/ في حدود منتصف الليل عاقرت الخمرة معه، وناما معاً/ كان يدفن وجهه في صدرها ويجهش في البكاء/ في مطلع الفجر لم تجده/ لم يجد نفسه/ لم تجده المدينة/ أفاق في صخب من نوبات الروح الراعشة فوجد نفسه في عمارة على مشارف اسطنبول عندما قاده ثلاثة رجال صوب السيارة التي أقلتهُ إلى البحر باتجاه أول سفينة مبحرة إلى ألمانيا...
(الآمال)
الماضي وضعهُ في علبة الكبريت فاحترق المستقبل وتلاشت الآمال.


(فنان)
كان فناناً محطماً تعرّض إلى لوثة (نوبة شيزوفرينيا)- ترك معهد الفنون في بغداد وعاد إلى ريف إلى (أبي الخصيب).. كل أسبوع يزور مركز البصرة، يمارس تسكعاً في الشوارع لعدة أيام/ ذات صباح كان يمرّ على زقاق من أزقة البصرة العتيقة/ واجهته عائلة تنحر خروفاً/ كانوا تركوا الدم ينسكب في مجرىً يصب في نقرة تجمّع فيها الدم/ واجهتهُ الجدران العتيقة الممتدة للبيوت الخربة والمهجورة بعتقها وصمتها، والفراغ العائم في الشمس ثم اندفع صوب مزبلة ٍ وجلب عوداً قوياً، من الخشب الرفيع غمسه في نقرة الدم وراح يخطُّ رسماً دموياً على أول الحيطان/ تدفقت خطوط الدم تلتصق بالجدار السميك/ رفع صوته بوجه السماء: أين هي الجذور؟ صار الماء يسقي الأراضي، وتلك الجدران المهجورة أين العشب منها؟ وأين الخيول التي كانت ترتشف من ماء الغدران؟ ومن هو الذي يهدي السفن التائهة؟ أنا محارب باللون، ووجه امرأة متورد قد يفصح عن عمق الأشياء/ تراءى له قرنا ثور، أسود، عنيف، بعينين وحشيتين..،،، كانت العائلة قد تركت صوف الخروف المذبوح، ووضعت اللحم بطشت،، وغابت/ امتدت الغابات بعيداً،،، حيث الشمس مع مرور الأيام تمتزج وبحفاوة بذاك الدم اللزج، وكان هو وقد تصاعد فيه، مسّ الجنون اقترب من الصوف ووضعه على رأسه وراح يطوف بين الأزقة مخلفاً وراءه لوحة غريبة، قاسية يختلط عبقها بعبق الماضي الحجري.
(خيار)
دخل القرية عشرة جنود غزاة، فلم يعثروا على أثر لشيء، سوى فتاة وحيدة، تقبع في بيت عتيق قصي/ وقد كانت فاتنة جداً/ خيروها أن تختار جندياً من بين الرجال العشرة/ فوقع خيارها على عشرتهم...
(نحر القطة)
كانت قطة نادرة، بيضاء الوبر، أنجبت سبع قطط عمياء/ في اليوم التالي وجد إن القطط قد نقصت واحدة، وفي اليوم الذي تلاه صارت خمساً/ وفي اليوم السابع لم يجد للقطيطات أي أثر/ فسارع في اليوم الثامن أن ينحر القطة الأم ويأكلها.
(انطفاء)
كان شاباً شاعراً طموحاً، يتوق لقراءة أعمال (بودلير) التي ترجمت مؤخراً/ غير أنّ سعرها غال جداً/ اضطر لسرقتها، وتم القبض عليه/ أودع السجن ولفقت حوله التهم/ حين خرج بعد عام، انطفأت موهبته إلى الأبد، وصار سائقاً لسيارة الأجرة.
(ذهب أمي)
لم أكن أعرف شيئاً واقعياً أكتبه سوى سرقة ذهب أمي/ كان ذلك في العام 1967/ كلفنا بالكتابة في موضوع الإنشاء معلم اسمه (جليل المياح) – هذا المعلم كان أديباً، أنجز رواية بعد عام واحد من تخرجي من المدرسة الابتدائية/ ويوم سافرتُ في شبابي إلى دمشق، وعشت شريداً، واجهتُ الفشل الكامل في أن أصير كاتباً/ عدتُ إلى البلاد أجرُّ أذيال الخيبة/ في تلك العودة اندلعت الحرب، واقتيد المعلم (جليل المياح) إلى المعتقل/ رأيتُ الطريق القاسية، والسماء الخضراء/ ورأيت الضياع في وجوه طلاب الجامعة التي انتميت إليها/ ورأيت لون الخمرة التي كانت بيضاء ثم فقدت لونها/ ورأيت مفتاحاً مجهولاً فتحتُ به باباً ودخلت الماركسية/ حين عثرت على الكف في الظلام المهيب هبطت قارات السماء لأنني نجحت بكتابة قصة ولم تكن ناجحة بمقاييس الطموح/ وفي ساعة غروب دخلت بيتاً للمومسات/ فعرفت شكل الصرخة، حيث انسكبت قطرة من عرين الله، فلذت هارباً، ولا زلت، من تلك الغابة المكتظة بالوحوش، والنمل الأزرق الدقيق، الزاحف على الجذوع والغصون/ وفجأة ً دخلت نهراً صغيرا، بارداً، اجتاحني الوباء إذ علمت بإعدام معلمي (جليل المياح) كان القلم بين أصابعي، ونكبة الخبر المر في مسامعي/ سارعت بالكتابة عن وباء ٍ لن يغادرني إلاّ ساعة دخولي القبر.
(المعزى الحمراء)
المعزى الحمراء، أنجبت ذكراً،،، حين ذبحها أبي في يوم العيد، لم نجد لحمها في المجمدة، صبيحة اليوم التالي/ .. جدتي أطعمت لحمها قبيل الفجر للقطط والكلاب..
(عراء موحش)
ثمة منخفض للقمامة خلف ساحة ألعاب الأطفال/ كان الفصل خريفاً على ما أذكر/ من ذلك المنخفض أطلّ رجلٌ عجوز، رث الثياب، والهواء البارد يداعب ثيابه ولحيته القصيرة البيضاء/ اقترب من الأراجيح، والخيول، وسيارات الألعاب/ اختار ارجوحة، وراح يسترجع إليه طفولة ، مرّت سريعاً، وانطفأ مصباح العمر/ كان صغيراً عندما ماتت أمه/ ظلّ عند الأقرباء، مهاناً/ مهملاً، جائعاً/ تزوّج الأب فجعلته الزوجة خادماً/ ترك المدرسة الابتدائية وهرب من البيت/ آوته قوّادة ليغسل لها البيت وتطعمه/ أدخلته مدرسة ابتدائية ففشل بالدراسة وتطوّع في الجيش/ هناك كسبه عريف إلى أول خلية ماركسية داخل الثكنة حيث كلفه العريف بمهمة دفع ثمنها غالياً/ قضّى أعواماً في السجن وعندما خرج وجد القوادة قد شاخت وذهبت إلى الحج/ هناك أراد أن يعوّض أشياء كثيرة/ أصابه السفلس بلوثة ٍ بالدماغ/ لم تأوه إلا المزابل والبراري الفسيحة/ صار أغنية يلوكها الوقت/ صار عشباً تقضمه النعاج/ صار حذاءً بالياً في أقدام المشردين/ تجمّع حوله الصغار: يغنون له فنهض ليرقص، رقصاً غريباً، فيه شطح وجنون/ حين حلّ الغروب، انفضّ عنه الصغار/ كل ذهب إلى بيته/ أما هو فقد اتجه إلى مزبلة بعيدة خالية/ ومات وحيداً في العراء الموحش البارد..
(تخطيط)
تخطيط لشكل الفتاة العذراء- شعّ وجهها يوماً في قلب الوردة البيضاء/ كان التخطيط على صحن الطعام الأبيض من الخزف الصيني/ بان الشعر الفاحم، والعينان الناعستان الزيتونيتان، والرمش الأيمن، ثم الفم العنقودي، يليه الأنف الرفيع الوردي/ إنه تخطيط أولي اندمج مع الخزف، فانبثق لون ٌ أبيض مفصّص/ كان البياض أمحى وجه الفتاة، فصار الصحن صلباً، تقوّس على شكل خنجر مؤهل للطعن...

(زيتونة)
الزيتونة يبست في الحديقة/ كانت قد ماتت في الصيف وحطّت على غصونها المحترقة بلهيب الشمس بومة غبراء اللون/ تركت بيضها وطارت/ تسلق أخي الشجرة ورفع ثلاث بيضات دفنها مع البيض الذي تقف عليه دجاجة البيت/ حين فقست بيوض البومة الثلاث مات أخي في حادث سير...
(صرتُ حرّاً)
المعلّم الجديد دخل الصف الخامس الابتدائي فلذت بالهروب تاركاً ورائي المدرسة: أنا أحمد الله وأشكره لأني أقرأ، ولأني أكتب... و.و.و... صرتُ حرّاً
(حامي الهدف)
حامي هدف الفريق، أثناء ضربات الجزاء، وقد كان الفريقان متعادلين 4 أهداف مقابل 4 أهداف/ في الركلة الأخيرة قبل أن يضرب الخصم الكرة، ترك الهدف فارغاً، معلناً اعتزاله اللعب...
(هجرات)
أمي لم تمت، قبرها، هناك، لم يحفر.. وابتدأت هجرات الجراد...
(إدمان)
في الصيف الفائت مات ذكري في الصحراء، فأدمنتُ تربية القمل في شعر العانة الأسود...
(الجنون)
ليلٌ لم يدم: فلا خمور، ولا قراءات، ولا سهر: لذا أسّسنا شركة ً لصناعة الجنون...
(حرفة)
حطّ طيرُ حمام أبيض، ناصع البياض على كتف رجل مصاص دماء، يحترف الطعن بالسكين/ دون كل الناس حطّ عليه/كفّ الرجل عن الطعن وامتهن حرفة السلام.


(عالم محتدم)
ينهمك في عراك مع الوقت وأحياناً يهذي بأشياء لا يعرفها أحد سواه/ كان مخلوب اللب، مشوشاً، وشعوره النزق بدواخله الحزينة: رغم رهافتها فهي تجعله منخذلاً، أمام نفسه/ إنه منذ الصباح الذي ذهب فيه إلى الساحل البحري، المتعرج، الطويل، حيث خطوط الموج صاعدة في الطقس المشمس، البرتقالي، الدافئ، للأوربيين، والبارد للعراقي بجلده النحاسي، المنكمش/ ودفقات الهواء الصباحي الجاف، تجعله يكزّ على أسنناه التبغية، ضعيفة، ومتقلقلة، رخوة/ لماذا ينفرد بالمكان ويستدرج إليه الوحشة/ ويواجه الفراغ بخفة روح خالية من المرونة، ويندمج بسيرورة غضب قاتم/ المسافة بينه وبين المستحمين بعيدة/ أحياناً يعاني إرهاقاً عنيداً، قاحلاً، فالنفس عبر انطوائها تحت مظلة الوقت، والفراغ، وصحراء الروح تختزل انتحاراً كظيماً، قاسياً، وإعداماً، لنحر الدقائق السريعة، ودفناً للوجود الساطع، الماثل بكيانية عالية تحت عنف الشمس/ لقد اندمج الوقت بجسده المديد، يستدرج إليه دفء الشمس، للقدوم المتطامن مع ارتسامة قوس الساحل الطويل/ ارتدى بلوزة سمائية اللون، وفوقها معطف قصير كحلي اللون، ثم صوّب نظرة عميقة نحو الساحل/ كان الرمل بكثافته، والهواء المتخثر بالرطوبة/ اقترب من النساء العاريات المندمجات بدفء المكان، ودفء الألفة الجماعية/ كم كان يوماً مصدوماً عندما وقف عارياً، خالعاً كل الثياب/ شعر أنه كائن شرقي ضئيل، مهزوم، وشاحب أمام شبح الطبيعة/ ذلك الحضور المنكمش في عالم ٍ محتدم، عنيف، مسموم/ والنساء بأفواه ٍ صلفة، دبقة، وشبقة/ فأحسّ أنه عائد إلى دوره المكان نفسه، وإلى قساوة الهزيمة.

(رحيل)
متحرجة جداً، يتبعها القط في مربع المكان/ إنها تتفتح عبر ذلك المكان لألفة القدوم الفسيح، للطريق الذي تعجّ به حدائق الربيع/ إنها ابنة من خالة أمي، فهي خالتي/ قدمت إلينا من العاصمة ففتحت مسامات المكان، وتكثف الندى في إطلالتها بأول الفجر/ كانت تطل من الشرفة وتتطلع إلى الأشجار التي تنحني على الجدران، قرب الضواحي التي تهاجر منها الغربان بعد رحيل الشتاء/ أحياناً تمرّ بها سورات صمت عميقة، منتظمة يذبل في أعماقها ذاك الشعاع البهي الخفي الذي لا ينطفئ إلا إذا تناثرت فيه تلك النجوم البعيدة، بين السموات/ لقد اسلم كل من في البيت إذعاناً لصمتها المهيب/ تمهيداً لعنائها، وفراقها الأبدي لبيتنا المسكون بالحزن.

(كلب مسعور)
كلبٌ مسعور، في البيت المهجور، أقفلوا عليه الباب،...،...، .. أي عائلة تلك التي هجرت البلاد، وتركته وحيداً ذلك الكلب المسعور؟ وباء الحرب في الأمكنة المكتظة بالأطفال ظلّ ينتشر بسرعة الضوء.. قبل أن يجهزوا عليه.
(الرياح)
الرياح الشرسة تأتي في الشتاء، تجففُ دموع عائلة ٍ كلّ أفرادها خرجوا من سجون الدكتاتور..
(غول)
بيضة ضخمة مرّقطة لطائر وحشي عجيب، عثروا عليها في الغابة البعيدة/ عندما فقست خرج منها غول العصر الحجري..
(وجهي)
وجهي السمح، الوسيم، كما أراه دوماً في المرآة/ وجهي الذي صار منبثاً ومنسجماً وملتصقاً بوجوه كل الأصدقاء/ لقد تعرضت يوماً لحادث سير فلم يزرني أحد/ بعد قضائي فترة النقاهة تطلعتُ في المرآة. إنك واهم فوجهك منذ خلقت ولا زلت ضائع بين الوجوه...
(بلادي)
قالوا لي في المدرسة إنك رسامٌ موهوب فاندفعتُ أرسمُ، وأمارس مراناً محموماً/ كلفني مدير المدرسة أن أرسم خارطة للعالم/ خضتُ التجربة ووضعتُ خارطة العالم أمامي، لم استثني بلداً لم أرسمه/ كانت خطوطي بارعة في رسم البلدان/ قال لي مدير المدرسة وأعضاء الهيئة التدريسية إنها رائعة حقاً ومعزّزة بخطوط حاذقة،،ولكن لماذا خارطة بلادك هزيلة الخطوط، وباهتة/ قلتُ له يا أستاذ:اعتقد أنّ بلادي شبه ممزقة، محطّمة، وخطوطها باهتة، لأنها صارت نهباً للضياع...
(لا تراه)
لم يكن يلهمها يوماً بوسامته وجماله مثلما يلهمها الآن/ كان يمشي ببطء بجوار الجدران العتيقة/ لم يكن يرفع وجهه إلى الأعلى، ولم ينظر بعين أحد/ كان يتلاشى في الزقاق.. أحسّ خفقة ًسريعة ً في القلب،،، إنه يختفي، هذه هي المرة الأخيرة التي تراه فيها...
(سلمونة)
سلمونة هي السمكة الصغيرة التي تعيش في مناطق القطب الباردة/ كان أبوها بحاراً يوم أنجبتها أمها وماتت أثناء الولادة/ فأمّنها الأب عند امرأة عجوز تمّت إليه بصلة/ أبحر، ولم يعد/ ولم يعرف مصيره أحد،، اختفى نهائياً/ أصاب سلمونة المرض أقعدها عاماً في المستشفى ثم ماتت العجوز فأدخلت في دار الأيتام/ في عمر السنة العاشرة توقف نموها، ولم تكبر، ولم تعد تستوعب الدروس، توقف إدراكها/ صارت مُهرّجة في الميتم.. أمهنوها التهريج لإمتاع الصغار.. أخذتها معها في ليلة عيد الميلاد إحدى المعلمات إلى البيت لغرض الغناء والرقص وإمتاع الصغار/ كان أحد الأقرباء يعمل بحاراً: حكت له المعلمة قصة حياتها ولما عرف أن أباها بحاراً، عرفه في الحال، قال أنه مات على الباخرة ودفن في البحر الذي أصرّ أن يأخذ سلمونة معه، فأبحر بها.. هناك في (نابولي) بإيطاليا أعجب بها السائحون/ عاهده عرّاف هندي أن يكون أباً لها لأن مهنته تتوقف نجاحها عليها/ حاول العراف شراءها فمنحها البحار هدية شرط البر بها ورعايتها ثم أبحر إلى كندا/ لقد تلاشى مصير (سلمونة) واختفى اسمها مثل غيمة صغيرة جداً/ وتفتت مصيرها في ذلك الكون الفسيح..
(القبح)
كنتُ قبيح الوجه بالفعل لكنني رجلٌ لا يعاب: كلما وضعتُ وردة ً في عروة سترتي سمعتُ قهقهة شامتة من إحدى النساء.
(كبرياء)
أتطلّع إلى طول ذراعي، وجبهتي العالية، وأنفي الأشمّ بينما تمرّ بقربي نملة، دقيقة، صغيرة جداً، نحيفة سوداء، تدبُّ على الأرض بكل كبرياء..
(تمرة واحدة)
عدتُ من الحرب، متجاوزاً الصحراء بعد انكسار الجيش.. قبيل عبورنا الذي دام أسبوعاً، عثرتُ على تمرة واحدة، شبه يابسة، أنقذتني من الموت جوعاً/
(حذاء)
جاءني فرحاً وقت الربيع، يحملُ علبة ً حمراء مغلقة.. قال لي: جاءوني بهدية ٍ من إيطاليا.. إنه أرقى حذاء، لكنه للأسف ليس على مقاسي فقرّرتُ أن أهديه إليك.. فجأة بزغت كلمة مرّوعة قالها لي يوماً سجّان، عندما كنتُ معتقلاً حيث نعتني بكلمة نابية وقحة:
اقترب مني أيّها الحذاء!
(جُبن)
حطّت يوماً حمامة زرقاء فاتنة على سياج البيت: ما إن نفشت ريشها الجميل حتى ذكّرته وداعتها بجبنه المستديم بين الرجال...
(حصان)
حصانٌ أسود في الاصطبل القريب من البيت صهيله في الليل يجعله هائجاً، شبقاً، وموتوراً حتى الصباح...
(قطيع الحمير)
في غابة الصنوبر البعيدة، وقت الفجر الندي، البارد، عثر صدفة ً على بيضة رمادية اللون فوق الأوراق اليابسة، المغمورة بالماء/ التقطها ووضعها في جيب سترته/ هناك في شقته العليا وضعها في علبة/ بعد أكثر من شهر فقست البيضة وخرج منها حمارٌ رماديّ حين أفاق في اليوم التالي/ أطلّ من النافذة فرأى تحت البناية قطيعاً ضخماً من الحمير..
(تصميم)
صمّمنا على الهروب من العراق: كنا مجموعة ً من المثقفين/ أوصلنا الدليلُ إلى خط الحدود وقال لنا: هناك في الغرب ستضيعون/ بعد أعوام ٍ طويلة جداً من الاغتراب عدنا في زيارة سريعة إلى الوطن، فلم نجدهُ: كان العراق قد ضاع...
(فراق الحياة)
بقعة ٌ من الأرض تمتص حزمة من الشمس: ذلك الدفء جلب (النفـّاش) الناعم الطائر في الهواء، وبعض الأطيار الصغيرة، والفراشات/ كان قد لمح امرأة ضئيلة جداً، هرمة، جاوز عمرها المئة عام/ اقترب منها، فوجدها كالنملة المريضة، تدبُّ فوق سيقان الأقشاش/ قرّب كفه منها فحطّت عليها خمسة فراشات خضر،، حين دنت كفه من كتفها طارت الفراشات ثم عادت لتحط على شعرها الفضي المنفوش/ رفعها بكفه وسار... تدفقت الفراشات والعصافير فجأة، واندفعت العجوز مثلها لتطير، ترتفع فوق رأسه، وراحت تهمي لتسقط في حفرة عميقة/ اقترب منها ليجدها في النزع الأخير/ رفعت كفها ووضعتها على التراب.. زرعت عينيها بعينيه، فأدرك معانيها/ راح يهيل التراب عليها ويدفنها، عندما فارقت الحياة...
(موت الملك غازي)
جدتنا المعّمرة قالت لنا ذات يوم: خرج جدّكم ليبيع سلاحه الذي شارك به في المعركة أثناء دخول الإنكليز/ ثم عاد مضطرباً، وخائباً، قلنا له ماذا جرى؟ قال لنا: مات الملك غازي.
(حفاء أخي)
سرق أخي حذاءً أنيقاً من محل لبيع الأحذية، فحكم عليه القاضي عاماً كاملاً ليقضيه في السجن/ يوم أنهى محكوميته وخرج من السجن عاش طوال حياته.. حافي القدمين.
(جرادة صفراء)
جرادة ٌ صفراء قزحيّة العينين فرشت جناحيها المرقشين فانصعق بجمالها عصفورٌ محلّق هوى وانصعق بجمالها مكهرباً على عمود من أعمدة الكهرباء.
(عزم)
فتحتُ النوافذ البيضاء وأزحتُ الستائر الزرقاء/ أمامي أوراقي وأقلامي على طاولة الكتابة/ كنتُ محتدماً بالآمال عندما سقطت قطرة من ضوء الشمس على كوب الشاي فانطفأ بداخلي عزم الكتابة...
(الإشارات الإلهية)
عثر يوماً في المكتبة العامة في البصرة على نسخة ٍ عتيقة، نادرة من كتاب الوحيدي (الإشارات الإلهية).. ارتكن زاويته القصية/ راح يتصفح الأوراق العتيقة الصفراء/ عثر بين الصفحات الأخيرة على فراشة ٍ سوداء، متيبسة، ومحنطة/ أعاد النسخة إلى الموظف وخرج من المكتبة ليدخل نفقاً طويلاً جداً، وحزيناً اسمه الرثاء...
(خراب الوطن)
ظلّ حزيناً، منكسراً، ويائساً داخل مستشفى الأمراض النفسية/ زاره عشرات الأصدقاء المحبين/ جالبين معهم الخمائل وباقات الورود/ لم تستطع روائحها الزكية أن تمحو جيفة الخراب الذي حلّ بالوطن...
(حفرة النسيان)
خرج من المعتقل وحده، وبقي أصدقاؤه الخمسة.. واجهتهُ الشمس، والهواء، والماء، والتراب/ ثم واجهه الناس بالصدود والجحود/ كان رفاقه مفعمين بالحياة، والحماس لكل ما هو أصيل ونبيل وعادل/ لم يكن يعلم أنهم سيقوا للإعدام/ ولم تكن حياته حين خرج أحسّ أنها تساوي شيئاً/ ولم يكن يعلم أنهم أعدموا ساعة خروجه/ لقد صعّد موتهم معاني البطولة في ضمائر الناس/ أحسّ أنه مات قبلهم ودفن في حفرة النسيان...
(نرسيس)
بعد طول غياب عن المدينة وعن البيت والأصدقاء/ عاد، وفي الطريق استوقفهُ جدول ماء، رقراق، فضي/ تطلع إلى صورته، وقال: كم كان وجهي بهيّاً، ومفعماً بالجمال، رغم عن الغياب والتعب/ ترك الجدول ومضى فاستوقفه صوت/ صوته هو،،، والصورة التي كانت قابعة في الماء، لاحقته/ لاحقه جماله المائي، فتوقف وزجرهُ، قال له عد إلى الماء، أيّها الوقح، المناكد، وإيّاك أن تخدش جمالي، يا شبحاً، زائغاً، قابعاً في أعماق الماء...
(أناي)
كنتُ واقفاً أمام واجهه ستوديو للصور الفوتوغرافية/ خرج صاحب الاستوديو وخاطبني: أيها الاستاذ يبدو أن صورتك القديمة قد راقت لك ( ولم أكن يوماً دخلت ذلك الاستوديو وأخذت صورة) استلطفت الفكرة، قلت لا بأس.. دخل الاستوديو وأخرج صورة قديمة لشاب آخر.. إنه يشبنهي تماماً وضعها بين يديّ، تمعنت بها.. إنه أنا.. أناي أنا.. فيا عجبي...


(هي الأشياء)
في شرفتها التي تحيطها شرفات الحي السكني، فهي تواجه الشارع/ وبنظرة ترسلها، ساهمة، خالية من القلق، ونبض الطقس رخو/ كانت ترقب صبيّاً، يتجه كل صباح إلى مدرسته/ تحتدم بأعماقها سورات غامضة من الندم.. كيف سقط الجنين ميتاً من رحمها/ ها هي الأعوام العشرين تمر سريعة كالغيمة التائهة، الشاحبة، الغبراء: إنها تتطلع إليه كل صباح وتعضّ على نواجذها، ترسم حركة فاترة/ لم تكن حركة السير والزحام قد بدأت... حين يغور دفء في المكان، تسير بلا رغبة، صوب المطبخ حيث تنطلق موسيقى الصباح/ إنها تبني جداراً، سميكاً يحجب الظنون، ويحجب الوقت الذي ينزرع، ويموت/ فالأشياء هي الأشياء، هي الأشياء، ابنة العدم.
(قلب)
أين ذاتي؟ ذاتك هي قلبك.. وأين قلبي؟ لقد أمسك كفي ووضعها على صدري في الجهة اليسرى التي ينبض بها القلب/ هذا قلبك.. أحست سريعاً، سريعاً، سريعاً جداً/ وفجأة توقف الخفقان.. إنّ الخيار الصعب يعمّق نفسه بنفسه/ كانت ذاتي ولا زالت تتشوّف لرسم أول كلمة في السطر العنيد العصي على الكتابة.. إنّ الشروع في الكتابة هو فاعلية صارمة، وجارفة لمواجهة العالم/ الشخوص موجودة والحبكات أيضاًَ موجودة، والمخيلة موجودة، لكن العزم هو الصرعة التي تهزم القاص أثناء الشروع بالعمل/ القص حياة عمودها الفقري ذلك العزم الخفي وإني استدعي لنفسي الآن (فوكنر) لصنع قصّاص خلاق...
إنا الآن اعتزم الشروع بقصٍّ قد يُرضي نفسي.
(قيمة)
عندما كان الإله سيداً على الكون،،، ومرّت القرون، والقرون، والقرون، أفاق الإنسان على نفسه،، فوجد قيمته بحجم الضرطة...
(رائحة)
قط أسود يصعد على قطة سوداء.. انقطع زبه وسقط على الأرض.. حين توارى القطان.. التقطت الزب ووضعته على غصن شجرة زيتون، في حديقة البيت.. في الصباح لم أجده بينما الهواء، في الحديقة كان عابقاً برائحة الزبوب.
(هل رأيت)
قال لي هل رأيت في حياتك (كساً) قلت لا.. قال سأريك إياه/ ضيفني في بيته... عندما خرجت أمه من الحمّام/ كانت عارية تماماً.. نظرت إليه، فسقطت كل النساء من نظري.
(دينار)
الشمس ضامرة، والشمس خريف.. كنتُ أمشي لوحدي ماسكاً العكاز.. رأيت ديناراً قرب حجارة عتيقة، وكان الدينار لاصفاً.. ذهبتُ به لاشتري علبة سيكار.. قال لي الحانوتي إنه دينار مزوّر.. مررتُ على عدة دكاكين،، قالوا لي نفس الكلام.. الحانوتي الأخير قال لي: أنت نفسك إنسان مزوّر، فسارع فوراً إلى قبر لتحتمي فيه، لأنه يحميك من نفسك المزوّرة.
(أرض وسماء)
السماء قطعة من الأرض.. ويلتحمان.. سأبول أنا على الأرض، وتبول السماء عليها.. زب السماء وكس الأرض عندما يلتحمان، سينبثق ويشرق فيض الوجود...
(الحمارة)
حمارة كحلية اللون، قصيرة ودميمة، نكحها جنود الثكنة، ورحلت عن المكان.. الجنود النياكون استجابوا لنداء قائد الثكنة، وهربوا كلهم من الجيش، حياءً من غفرانه العظيم.
(حدود البيت)
الجورب أين؟ وحذائي أين؟ لا طريق وراء حدود البيت: فقط هنالك سماء ٌ بلا مطر، ونهرٌ بلا ماء.. دفنتُ نفسي بطين النهر، علّه ُ لا يراني خالق الوجود.
(المومس العمياء)
مومس، عمياء، ضئيلة، وقبيحة/ وقفت بين يدي أمير البلاد/ قالت له أنا عمياء لكن بصيرتي تجذب كل نساء الأرض الفاتنات/ نفحها الأمير مبلغاً هائلاً من المال، فصارت قوّادة الشرق الكبير.
(إله خفي)
جاءت امرأة غريبة، خلعت ثيابها كلها/ أول مرة أرى فيها عري النساء/ رحلت هي، ورحلت أنا أيضاًَ عن المكان الذي تعرّت المرأة فيه/ في صالة محطة القطار رأيتُ الناس حائرين برؤياي/ حيّاني شرطي واقتادوني إلى المخفر/ وجدت نفسي عارياً مثلما خلقني الله/ قال لي ضابط المخفر أنك لست عارياً إنما العاري هو إله خفي لا يراه الإنسان.
(الجلاد)
الإله شهقة تنزل في الروح لا يرهبها إلاّ الجلاد.. أخي الكبير كان جلاداً في السجون/ زهق فجراً وانسكبت الشمس تعلن الميلاد/ ميلاد الذين يعيثون في الأرض ظلماً ودماراً.
(بائعة الحليب)
مرّت هي (مرّت) من تعنيني: الشاحنة. البقرة. الطائرة. القاطرة. المرأة.. من هي التي مرّت.. عندما انتصب ذكري أدركتُ أنها المرأة التي مرّت.. وكانت تبيع الحليب.
(صوت)
عندما صعقني صوت الضرطة: ضرطة الحصان في الاصطبل/ وصعقني أيضاً جاري الذي قتل أمامي بمسدس كاتم الصوت...
مسحت الأيام، بل أمحت من ذاكرتي صوت ضرطة الحصان.. وبقي الكاتم لا يخفت، وإيقاعه ينبض في أذني.
(سوريالي)
كنتًُ رساماً سوريالياً وبي خطف جارف.. قال لي مدير الشركة التي أعمل فيها: ارسم لي زب ابني، وقد كان ابنه في الثالثة من عمره... رسمتُ زب الطفل بدقة وإمعان..واجهني في الصباح، قال لي أنت مفصول من العمل، لأن الزب الذي رسمته ليس زب ابني.. إنه (أير حصان).. حملتُ عدّتي لأرحل.. قلتُ له: أيها الاستاذ الجليل: أنا لستُ واقعياً، فأنا فنان سوريالي.
(الحاكم)
واندلعت أعظم انتفاضات الشعب.. صاح انقذوني.. أطفالي وزوجتي بانتظاري.. كان في قبضتي (أنا) قائد الثائرين.. قلتُ له (أنا عبد العظيم) وأنت جلادي في السجن قرابة خمسة أعوام.. قال مكنني لأصلي صلاة الغفران.. قلت له: عدْ لاهلك وأطفالك وزوجتك.. فأنا، وأنت (الحاكم) بيننا هو الله.
(غرباء)
يصطرعون عبر الطريق الوعرة، يستحوذ عليهم الشوق إلى دخول المدينة/ كانوا قد تركوها، ولاذوا بالأرياف البعيدة، المكتظة بالأنهار، والغدران، والآجام الكثيفة، والشجر المزدحم/ كان الشيء الوحيد الباقي، بعد مزاولتهم العمل في البساتين، وقطف الثمر، أن يتركوا البلاد نهائياً في رحلة ٍ نحو أقصى أقاصي الأرض، ولم ير وجوههم أحد من تلك المدينة التي هربوا منها، في ليلة باردة جداً، بعد أن أضرموا النيران مع الثائرين في مراكز الشرطة، عندما استقلوا زورقاً طويلاً، وأنيقاً عبر النهر الطويل فقد أمعن مالك الزورق في وجوههم التي أنهكها الكدح والبعد وقسوة القلق/ كان صاحب الزورق رجلاً حصيفاً، يدرك أبعاد اللعبة التي تخوضها مدن البلاد/ قدّم لهم فروض الاحترام، مثيراً اهتمامهم/ وفجأة ً تمدّدت أشكالهم، وصارت غريبة، قاسية/ لقد بدا لهم مخيفاً، وهم بدوا له تعساء/ وحين وصلوا إلى الضفة الثانية للنهر.. خاطبهم بتهذيب عالٍ : أنتم ضيوف على زورقي، فلا تدفعوا فلساً واحداً لكنني أقول لكم: غادروا هذا المكان بسرعة ولا تتركوا أثراً، متمنياً لكم الأمان والسلام.. اقتربوا منه مقبّلين جبهته، واختفوا نهائياً عن تلك الأرياف، نحو المجهول.
(وراء خط الأشجار)
يثير فيه صمت الأرياف الرعب الدفين.. كان وجوده شبيهاً بوجود قرد متوحش داخل قفص في حديقة الحيوان.. أي تعاسة في ذلك القبح حين يثيره وجوده أعزلاً في ذلك الريف القصي/ لم يكن يسعى لشيء، سوى إيصال الرسالة الغامضة.. جاء قادماً على دراجة هوائية تركها قرب شجرة صنوبر عجوز.. وعلى قلق صار يهبط صوب جرف النهر.. لم ير سوى زورق قادم يجذف فيه رجلٌ على مهل.. كان الوقت متوقفاً، وقميصه الأبيض الناعم تبرز من جيبه وردة صغيرة صفراء منحنية على الزر اللاصف.. حين اقترب الزورق كانت مويجات الماء تنبض بخفوت.. وأورق الموج الصامت، وتألقت العينان/ أخرج من جيب بنطاله الخلفي رسالة سلمها إلى صاحب الزورق.. وتراجع ليركب دراجته، حيث الذكريات تثير فيه شيء من الحزن الدفين.. غاب هو متلاشياً مع دراجته وراء خط الأشجار.
(مدارات الصدفة العمياء)
في بداية الساعة الثامنة صباحاً، وقت افتتاح المتاجر في السوق الكبير دخل على زميله القديم تاجر الأقمشة والمفروشات وشهر عليه مسدسه.. رفع يديه مستسلماً، واستسلم له العاملان.. حشرهم في أقصى زاوية.. قال له التاجر اطلب ما تريد فأجابه شاهر السلاح أن يديروا وجوههم نحو الحائط، وفعلوا له ما أراد.. أخرج من جيبه زجاجة مملوءة بالبنزين وبدأ يرشها على الأقمشة والمفروشات وقبل أن يخرج أشعل عوداً من علبة الثقاب وأقفل باب المخزن.. قامت القيامة وانتهى كل شيء..
حكاية التاجر مع هذا السلاب: إنهما كانا مهربين وفي صفقة عمر تقدر قيمتها بالملايين.. نجح التاجر بعمليته وصار مليونيراً.. أما السلاب فقد كبست بضاعته وصودرت ودخل السجن الذي قضى فيه عشرة أعوام.. استمرّ صديقه بالصعود وبقي هو في العالم السفلي..
كانت لوثة الحسد والانكسار تنمون داخل السلاب.. وبعد ثلاثة شهور من خروجه من السجن جاء هذا الصباح ليشعل القيامة.. وحين حلّ الليل البارد حيث الريح تصخب في السماء تذكر أن الصدفة هي التي تغزل خيوطها في هذا العالم.. صعود التاجر وسقوط صديقه بالصدفة وقد يكون ذاك عكس هذا.. وقف الصديق الذي صار سلاباً يتمعن في السماء البارحة، وأطلق رصاصة على صدغه ومات في الحال.
(الحشرات تحت الوسادة العتيقة)
طفتْ على ذاكرتي: كانت في العليّة بين الكتب مغمورة بالغبار فاستحال لونها إلى الاخضرار الفاقع حيث الغبار ولون القماش/ فأزحتُ أكوام الكتب وتأملتُ الوسادة التي وضع عليها رأسه ذات يوم ونام، إنه صديقي (علي بدر) وفي صباح اليوم التالي اعتقل ثم أعدم.. دفنت الوسادة تحت الكتب: فكل شيء فيها، شكلها، طولها، قماشها،قطنها ظلّ يذكرني به.. رفعت الوسادة فرأيت كومة ً من الحشرات الدقيقة والناعمة ميتة، بل متيبسة.. كان اليوم الذي دفنت فيه الوسادة قبل عشرين عاماً.. حين أحصيتُ عدد الحشرات الرفيعة والدقيقة جداً التي تشبه الذباب إلى حدٍّ بعيد كان عددها سبعاً وعشرين حشرة.
(نهار للقبلات.. نهار للفضيحة)
ذهبت إلى بيت خالي الذي ترك الوطن وهاجر إلى المنفى بعد غيبة طويلة جداً. ذهبت إليهم كان أولاد خالي كلهم خارج البيت.. امرأة خالي تكبرني بعشر سنين.. طويلة القامة، بيضاء، ممتلئة الجسد، وشعرها فاحم لها شامة سوداء بحجم حبة الزبيب.. جلبت لي شاياً وقبلتني.. جلست جوار جسدي.. دفعت وجهي صوبها وغرست فمي في رقبتها البضة، اللامعة، الممشوقة.. طوّقت زنديها بكفي لأرصها على الحائط فتململ فخذاها على السجادة.. رفعت فمي من رقبتها ففاجئتني بقبلة طويلة عارمة حيث سحقت شفتيّ.. قضينا ساعة كاملة عرايا نتمرغ على أرض الغرفة المفروشة بالسجاد، ثم سحبتني صوب الحمام.. هنالك اغتسلنا معاً، ونشفت جسدي.. اكتفيت منها وخرجت فوراً صوب النهر.. خرقني إحساس عارم بالخطيئة، وكان الشتاء بارداً مشمساً.. خلعت ثيابي ودخلت النهر رغم البرد اللاذع.. طفتُ بجسدي تحت الماء الصافي.. حين خرجت يلهبني إحساس قاتم، والمرارة الهائلة التي يتركها فعل الزنا بالمحارم.. ظل الهواء يتناثر على جسدي.. ارتديت ثيابي وغصت في الأجمة الكثيفة على طول النهر.. رأيتُ امرأة عجوزاً تجمع حطباً، وقفت وراءها، وكتمتُ أنفاسها وقلت لها إن تكلمتي أو صرختي سأقتلك في الحال. عرّيتها تماماً واغتصبتها ثم مضيت إلى الشوارع يعتمل الحزن في نفسي.. عدتُ إلى مدينتي لأواجه بّراً خالياً من الناس. دفعتُ جسمي في حفرة عميقة وأهلت التراب على جسدي علّ التراب يطهّرني.. قضيت عاماً كاملاً أقرأ الأسفار المقدسة، ثم رحلت إلى أوربا.
(صبي أعور أغوته المزابل)
كان في العاشرة من عمره بثياب جوزية اللون وثقيلة، ينبش في المزبلة الشاسعة التي تقع على أطراف المدينة.. وهو قصير القوام، حسير الجبهة، أعور العين، وشعره أشقر ينسدل على جبهته وعينيه. كان لا يجمع سوى العلب الصغيرة .. علب البيبسي كولا ومعجون الطماطم وحليب الأطفال وعلب السردين والبازلاء.. كل العلب يجمعها ويضعها في كيس النايلون الكبير.. حين ارتفعت شمس الشتاء عالياً في عز الظهيرة راح يبني بيتاً دائرياً واسعاً على شكل سور.. لا يدري كيف فاجأه شابان زنجيان في العشرينيات من عمرهما.. بعثرا بأقدامهما السور وأوسعاه ضرباً.. وشرعا يخلعان ثيابه فبان عريه الأبيض لاصفاً في الشمس، وتبادلا عليه الأدوار.. ظلت تلهبه أحلامهم ثم تركاه يهرب.. يركض في الفضاء البرّي..ثمة كلبة كانت تركض وهو يركض وراءها.. دخلت كهفاً لتطعم جراءها فوقف هو في باب الكهف/ ساحت على جسمه الشمس فجلس على التراب يسحق مؤخرته في الأرض/ ظلّ يحتك بالتراب الخشن ويرفع عينه السليمة صوب الشمس يعوي بقوة فخرجت إليه الجراء تتمسح بقدميه حيث اندفع إلى الكهف مرتجفاً يلتحم مع أجسادها.

(قشرة الرمان اليابسة تذوي في الأعماق)
رماها بقدمه فطفت على ماء الجدول الصغير، الأشنات تغلغلت فوقها.. تغلغلت في النزول إلى العمق.. خلع سترته السوداء المضببة بالغبار، وخلع الحذاء الذي وضعه قرب الجرف ولم يخلع الجوربين.. هبط وراءها يتلمس دفقات الماء الباردة الشاحبة/ غاص بقميصه وبنطاله إلى القاع.. لبث لدقائق يتحسس طراوتها.. كان قد خرج من الجدول وترك كفه مفتوحة للشمس والهواء، حيث القشرة لم تكن قد يبست/ نقلها من كفه ووضعها على كومة من الحصباء البارقة.. نشر قميصه على غصن شجرة الصفصاف القريبة ونشر بنطاله على غصن آخر.. مضى مسافة عن الجدول ليجفف الهواء سرواله.. مضى إلى الشمس، ومضى إلى الهواء الصافي البارد، ثم عاد إلى الجدول الذي صار بعيداً.. نشر قميصه على جذعه وارتدى البنطال وتقدم صوب القشرة الحائلة ووضعها على كفه يتأمل المياه المتماوجة برقة/ كان الوقت في أوائل تشرين الثاني وحين قذف بقشرة الرمان ثانية بانتظار قدوم الليل لكي يغمره بظلامه الساحق، والقاتم.. لقد ترك الجدول الآن، ولا أحد يعرف شيئاً عن هذا الرجل الذي اختفى في الظلام، عندما حلّ الليل الذي يغلف هذا العالم.

(مصائر)
(كان جهداً استثنائياً: إنهاك، وإرهاق.. كنتُ أرقب الفضاء الفسيح) والمكان المهجور، بمواجهة المحطة الخالية، وسمعتُ صوتاً بعيداً.. وعلمتُ أنه القطار القادم قد صات وكنتُ أكنّ احتراماً كبيراً لسائق القطار.. حين توقف القطار ترجل منه عشرات الجنود المدججين بالأسلحة، اصطفوا رافعين الأسلحة ثم ترجلت أرتال من الرجال المكتوفي الأذرع.. فوجئت بسائق القطار يتلفت ويرسل صوبي نظرة عميقة، شائهة، فيها من المعاني العصية على التفسير،، قادوا أرتال الرجال المكتوفين نحو وادٍ عميق،، وتلاشت أشكالهم، ولم أعد أتطلع إلى السائق، إنما اختفيت لمصيري مثلما اختفت مصائر أولئك الرجال...
(كان معي في المدرسة)
كل شيء يمضي ببطء، وذلك الرجل الذي أصبح وحيداً، وقد كان معي في المدرسة المتوسطة إنه الآن على تلك الضفة الكالحة، شبه المعزولة، يمسك بصنارة الصيد ويرمي بها في ذلك النهر العميق،، يرسل نظرة صبر حادة جداً ، يراقب دوائر الماء،،، اقتربت منه وقدم لي سيجارة،، لبثنا نرقب الماء،، وفجأة سحب سمكة صغيرة، بل دقيقة جداً،، أعادها إلى النهر،، أعادها إلى الحياة،، علمت منه أنه يمضي الوقت في الصيد من منبع النهر إلى آخر ضفة بعيدة.. اعتذر مني وراح يتجه ببطء صوب عنق النهر المنحني، ودارت به الضفة دورة طويلة،، انكسر معها،، وكسرت خطاه بتعرج قاس ٍ/ أصبح في نقطة بعيدة، وألقيت عليه نظرة أخيرة واختفيت.


(خطف الظل)
كانت الأضواء ساطعة في ثكنة حراسة وحيدة في الصحراء حين خطف من قرب السياج ظلٌ شاحبٌ وفجأة انقطعت الكهرباء وانطفأت الأضواء/ ساد الظلام كثيفاً قاتماً وبعد ساعات اشتعلت الأضواء. خرجنا إلى السياج فلم نجد سوى قطرة واحدة بازغة مغروسة فوق التراب.
(وردة صفراء)
وردة صفراء في الحدائق الفسيحة ذات الخمائل ذات الخمائل الكثيرة.. مرّ رجل شريد رث الثياب قطفها وجلس على مصطبة خضراء خشبية أخرج من جيبه رغيف خبز ووضع الوردة فيه وشرع يقضم بشراهة.
(زنجي)
زنجي يتيم ترك المدرسة المتوسطة. أعطيته ذات يوم كتاب (ثورة الزنج) فصار شيوعياً ثم أعدم.
(القطعان)
كانت البراري مليئة بالأعشاب وتأتي يومياً عشرات القطعان من الأغنام والماشية. ثمة أصوات تأتي من أسراب العصافير والقبرات والغربان بينما كانت السماء تتعرج فوقها الغيوم البيضاء المتناثرة. ثمة رجل مجنون، يأتي يومياً هائماً على وجهه/ كان رجلاً هزيلاً ثيابه رثة جداً حين تمر قطعان الأغنام يمعن بالإمساك بالنعاج ويغرس فمه في ضروعها يمتص الحليب المالح/ ذات يوم سرح مع القطعان بعيداً في البراري الشاسعة،، فهجمت عليه كلاب الحراسة التي ترافق الأغنام في رعيها، وقطعت أوصاله وصار لقمة سائغة للنسور المحلقة، في الفضاء الكبير.
(الاستاذ)
بيوت من القصب والطين تطل على منخفضات أرضية يغمرها الماء والوحل والنبات المائي المشتبك/ حيث جاءوا يسألون عنه، ذلك التدريسي ذو الثياب الفقيرة.. كان قد انقطع عن الدوام والحضور إلى الثانوية التي يدرّس بها مادة اللغة الإنكليزية/ لم يعر اهتماماً لأي مظهر يعجب الناس/ وكان وجوده صارماً ومتدفقاً/ أحياناً يبدو أنه يمتلك عقلاً تجريدياً لم يعر للواقع المهيمن أهمية، وأحياناً يبدو حياً وألقاً يعيش في صلب الأشياء ودوّامة الأحاسيس/ جاءوه تلهج في أعماقهم الذكريات والشوق إلى لقياه.. بين الممرات الموحلة، والبيوت المكتظة، ذات الأبواب الصفيح والخشب،،، لقد ارتسمت على وجوههم غواية السكوت،، اقتادهم أخوه الصغير إلى غرفته المعتمة، يفضح عتمتها، ويلغيها ضوء الفانوس المعلّق بخيطٍ للسقف.. حيوه، وحياهم.. شربوا الشاي معاً وكانوا طلاباً أصلاء، وتدريسيين أذكياء،، لفت انتباههم لصفوف الكتب المرصوفة أمامه، ونبرة العزم في حديثه/ إنه ينصت لكل كلمة تخرج من أفواههم،،، وحين حثوه على العودة إلى المدرسة الثانوية فاجأهم بالعقد الذي أبرمه مع معهد تدريسي في العاصمة عمّان. نزل الغروب وودعوه آسفين على خسارة استاذ كبير ومربي موهوب/ حين خرجوا ظلت عيونه مرسومة على محياهم جميعاً.
(الحارس الأعزل)
كما لو كان في حديقة مهجورة يتركها ليدخل قاعة مقززة/ كانت رائحة المطابخ في البيوت المجاورة تجعله يحسّ بضعة ً لا نهاية لها وما أن يعود إلى البيت الكبير في عصر يوم العطلة، يحس بالجرح المرير من الأبكار فجراً بدخول الحمام وتصفيف شعره استعداداً لأخذ الصغار إلى مدارسهم/ لقد سرقه العمر وها هو يشارف على الخمسين/ قبل أن يهبط الليل ويجالس العائلة على مائدة العشاء يتذكر كيف يتقلب في فراشه/ مضت فترة العشاء وشرب الشاي فسارع إلى غرفته في أقصى أطراف الحديقة ليخرج الزجاجة من تحت السرير ويرشف خمرته فيشعر بلذعة ألم روحي/ ألم قاسي/ وقبيل منتصف الليل يخرج من غرفته ويجوس في الحديقة ذات الأشجار المعمّرة الضخمة/ وفي الفجر أكمل طقسه اليومي بانتظار أفطار الصغار وإكمالهم شؤونهم،،، ويتم الذهاب بهم إلى مدارسهم/ ويعود إلى الحديقة تتساقط على شعره الأوراق وأرياش الطيور،،، يدخل غرفته ويحدق طويلاً، طويلاً في المرآة/ وفي نفس الليلة تبلغه العائلة أنها ستغادر الوطن إلى اليونان وتطلب منه أن يكون حارساً للبيت/ لقد تداعت الأيام وشاخ بسرعة/ خاطبهم برسالة أن الوحدة والعزلة ستسحق حياته، تخاطبه العائلة: اختر حارساً أمنياً وتعال وراءنا إلى (أثينا) سنبعث لك ثمن التذكرة/ ولكنه بعد أيام قليلة، لا تتجاوز أصابع اليد يُعثر عليه ميتاً وسط الحديقة.
(الصوت الحي)
لم تكن سهلة القياد رغم أنها فتاة ضئيلة الحجم، صغيرة السن، بسيطة المظهر، ولم تكن من الفتيات اللائي يبحن بأسرارهنّ النسائية. كانت تذرع الشوارع تمرّ على كل المكتبات في العاصمة الكبيرة/ تفتش في الرفوف عن كل ما يثيرها من عناوين الكتب/ وفي لحظة صفاء ذهنها،، تنصت إلى صوت بعيد، كان حميماً،صافياً، فيه حنان الآباء والجدات، والمربيات الرائعات/ تنصت لصوت لم ولن تنساه ما حييت، فهو الذي سكب روحه في روحها وغاب يوماً/ اختفى صوته، وتلاشت صورته،، ثم عاد بقوة ليسكن بين جداران قلبها وروحها/ في آخر مكتبة، في نهاية الشارع الواسع عثرت على رواية (نيتوشكا) لدوستويفسكي/ لقد أشعلت فيها النيران وصدحت أصوات الشلالات، وعندما غابت نيتوشكا كل الأعوام والسنين ظل صوتها يصدح في حنايا روحها/ فتذكرت صوت الرجل الذي غاب يوماً وبقي صوته حيّاً عميقاً مغموراً بالنور.. إنه الرجل الذي أدخلها بيت الحكمة وارتحل..



#قصي_الخفاجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قصي الخفاجي - القصة القصيرة جداً لماذا؟ بيان ونصوص