مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 5017 - 2015 / 12 / 18 - 16:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يساء استخدام العدمية هذه الأيام , يوصف بها من هو أبعد عنها , الإسلاميون و خاصة الدواعش , و أحيانا اليمين المتطرف في أوروبا و أمريكا .. تبدو العدمية شتيمة مناسبة , محملة بزخم ثقافي ما , تعطي في نفس الوقت الانطباع عن وجود حالة "منطقية" , "طبيعية" , تصبح معها العدمية أشبه بمرض نفسي أو شذوذ ما أصاب هؤلاء , لكنه ليس مجرد مرض أو شذوذ عادي , إنه بلاء أسود , يذكرنا بساحرات القرون الوسطى اللواتي تحدث الناس يومها عن قدرتهن العجيبة على إحداث الأوبئة الفتاكة و الجنون و تحدي حتى إرادة الله .. بالنسبة لمن يصف هؤلاء الدواعش بالعدمية فإنه لا يريد فقط أن يستخدمهم لتبرير البلاء السائد , بل أيضا أن يبعد التهمة عن أسباب أخرى محتملة لهذا البلاء , يصر البعض مثلا أن داعش لا تمت بأي صلة للإسلام , آخرون يؤكدون أنها لا تمت باية صلة "لشرقنا" , آخرون يرون أنها غريبة حتى عن "الإنسانية" , بالنسبة للجميع داعش انحراف أكيد و غريب عن ثقافتنا , عن "شرقنا" , عن "قيمنا" , "عنا" , أو عن "إنسانيتنا" , "قيمنا" "الإنسانية" , "الثقافة الإنسانية" , "عنا" "كبشر" .. بعد افتراض أن داعش هي مجرد مرض , و مرض طارئ فقط , و بعد "إثبات" عدم وجود علاقة بينها و بين كل ذلك لا تبقى هناك أية حاجة لمراجعة أي شيء أو لأي نقاش أساسا : الإسلام بكل تفاصيله , بما في ذلك حروب الردة و الفتوحات , و أحكامه و منظومته العقابية "الصالحة لكل زمان و مكان" , الشرق و ثقافته و تاريخه الذي بدأ بالحجاج و انتهى بقراقوش , إنسانيتنا التي ترى الأوروبي الأبيض و تعجز عن رؤية الآخر أو العكس , التي تنسب حقوق الإنسان لجماعة بعينها و تسقطها عن جماعة أخرى حتى درجة الاستئصال , أو العكس , إنسانية كل من يبرر هيروشيما أو الهولوكوست أو أية حروب غزو أو فتوحات و تدمير و استعباد , جميعها تحصل على الفور على صك غفران و حكم براءة , من دمائنا و من دماء "الآخر" , من غبائنا و من غباء "الآخر" .. لكن نقد داعش أو نفيها كشيء عدمي لا يشوه هذه الحقائق فقط , بل يشوه حقيقة أهم ربما , هي حقيقة العدميين أنفسهم , ليس فقط تاريخيا , بل حتى على المستوى الأنطولوجي و المورفولوجي و السيكولوجي الخ .. على سبيل المثال : أراد العدميون قتل القيصر و حاشيته و جنرالاته وأسرته تحديدا , هم لم يقتلوا الروس العاديين في الشارع و لم يريدوا ذلك .. تقول بعض الروايات التي يمكن الشك في صحتها أنهم أوقفوا تنفيذ بعض عملياتهم عندما شاهدوا أطفالا في عربة القيصر .. هذا لا يشبه داعش , و لا يشبهنا حتى ... أيضا و هو الأهم : لم يرد العدميون إسقاط حكم القيصر الروسي ليبنوا سلطتهم أو أية سلطة على أنقاض عرشه , و لا دينا على أنقاض دينه , لم يموتوا من أجل "الوطن" , لم يقتلوا من أجل "الله" , لم تكن لهم قضية حتى , لقد كانوا ضد كل شيء .. لم ينتظروا مجدا , حوريات , أو جنات عدن , كانوا يعرفون جيدا أنهم "سيموتون" , فقط , لم يقتلوا أو يموتوا بأمر من جنرال ما و لا سياسي ما و لا بفتوى من أي رجل دين , قتلوا و ماتوا لأنهم كانوا مقتنعين بذلك , لأنهم اعتبروا أن من يريدون قتله يستحق أن يموت , لم ينتظروا شيئا من موتهم , سوى تدمير كل ما هو قائم , هذا يختلف جدا جدا عما تفعله داعش أو تنوي فعله .. إنهم أشبه بمرتكب الجريمة الكاملة , بالقاتل الحقيقي , كل القتلة و المجرمين الآخرين يقتلون بأوامر من غيرهم , لغيرهم , هؤلاء فقط يقتلون بأنفسهم لأنفسهم , إنهم المجرمون الحقيقيون , الوحيدون , في هذا العالم ... عندما تعتبر أن عدم الإيمان بأي شيء هو موقف "عدمي" أنت لا تجد في نفسك حاجة لأن تثبت حقيقة وجود مثل هذا الشيء , سواء كان إلها أو "قوانين طبيعية" .. لا يحتاج إلهك لأي دليل حقيقي على وجوده , يكفيك أن تطرح سؤالا في منتهى السذاجة و سيصبح محمد و يسوع و موسى و زينب و عائشة و أبي بكر و جبريل و بولس فورا أشخاصا حقيقيين بالنسبة لك , و لنا كما تفترض , قوانينك المفترضة للعالم لا تحتاج لأي برهان , سمها كذلك و ستجد أنك تستغرب بنفس السذاجة عدم إيمان الآخرين بها .. ما يؤمن به الناس اليوم سيكفرون به في الغد , لكنهم اليوم يصرون على قتل و سحل و صلب من لا يؤمن به , هذه هي ثقافة السلطة و ثقافة القطيع , مجتمعين في نفس الوقت ضد أي نزعة للتفكير أو الحوار الحر أو التمرد .. ما يؤمن به الناس اليوم ليس نتيجة لأية محاكمة عقلية أو أي تطور , إنه نتاج تلقين , إكراه , سلطان يتماهى مع قطيع يعيدان إنتاج بعضها البعض .. مشكلة العدميين هي أنهم لا يؤمنون لا بالقطيع و لا بالسلطة .. لهذا فهم كفروا بكل شيء , بما تؤمن به السلطة و القطيع الحاليان و المستقبليان و بأي سلطة و قطيع في أي مكان و زمان , إنهم يؤمنون إما بنسبية الحقيقة حيث تتحول "الحقيقة" أو "تفسير الواقع" من إيديولوجيا "كلية الصحة" إلى محاولة دائمة للحاق بواقع دائم التغير , أو "يؤمنون" بفردانية الحقيقة , كما قال السفسطائيون ذات يوم , حقيقة لكل فرد , حيث كل شيء حقيقي و مزيف في نفس الوقت .. السبب الفعلي وراء كفرهم بكل شيء هو أنهم كفروا بالرب الذي يعبده معظم البشر : عرش السلطة و سوط الجلاد و مقصلة محاكم التفتيش , لذلك فإنهم أكثر الكفار كمالا على هذه الأرض , و في التاريخ .. من الاختلافات المهمة أيضا أصالة ظاهرة العدمية الروسية , لقد نبتت في أرضها كنبات بري وحشي لم يزرعه أحد , داعش ليست كذلك , داعش مخلوق هجين , نصف مصطنع , إنها نتاج علاقة سفاح شرعي جدا , جدا , ( 1 ) بين رجل الدين و السلطان و بين كل ما هو أسود , غبي , قطيعي , داخلنا ... لم يملك العدميون الروس يومها أكثر من كتاب تشيرنيفيسكي ما العمل , لم يدعمهم أي سلطان أو قيصر أو خليفة أو إمام أو بابا , كل ما في الأمر أنهم كانوا فتية جننتهم كلمة الحرية , فخرجوا على كل القيود التي يفترض أن يخضعوا لها , و أرادوا تحطيمها كلها دون استثناء في نفس الوقت .. الغريب أن من يسمي هؤلاء قتلة و عدميين , هو نفسه يبرر أو يأمر أو يدعو إلى القتل و الموت في معارك و حروب تستهلك أرواح ملايين البشر , القتل و الموت في سبيل "الوطن" , "الله" , "الإنسانية" , الخ الخ هو أمر مبرر , أخلاقي , شرعي , قانوني , إلزامي , إنساني , الخ , و أن الموت أو القتل "دفاعا" عن المسجد الأقصى أو قبر يسوع أو مقام زينب أو علم الوطن هو عمل بطولي , الخ , بينما يعتبر في نفس الوقت أن محاولة اغتيال قيصر أو جنرال أو محاولة تدمير أسوار السجن الذي تراه أنت جنة لمسجونيه , أن تلك هي العدمية , العبثية و المجرمة الخ الخ ... هذه و "ربي" لقسمة ضيزى , أي أن هذا الكلام في حقيقة الأمر أكثر من علاك فاضي , إنه جريمة بحق ملايين البشر , ملايين "الشهداء" , "الأبطال" , الأغبياء جدا , الذين ليسوا سوى بيادق بيد السادة و كلابهم ......
( 1 ) بقدر ما هو شرعي و "حلال" أن يغتصب الدواعش سباياهم من الإيزيديات و غيرهن و ينفذوا حكم "الزنا" بحق امرأة في الخمسين لأنها "زنت" مع من تحب أو تشتهي
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟