أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - غزال الكعبة الذهبي















المزيد.....



غزال الكعبة الذهبي


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 5011 - 2015 / 12 / 12 - 18:35
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



تقديم :
وقع فاضل الربيعي اثناء تنقيبه في كتب التراث الاسلامي على مروية ثمينة لم يسبق حسب علمنا ان انتبه لها الدراسون و الباحثون ، و هي مروية سرقة غزال الكعبة الذهبي ، و التي تلقي ضوء تفسيريا كثيفا على مضمون سورتي المسد والشعراء حيث من خلالها نفهم السبب الحقيقي لذم القرآن لابي لهب و زوجته .
لقد كان للكاتب ذكاء الالتقاط و الانتباه لهذه الرواية و عدم اهمالها و التي و ان بدت هامشية و غير مفصلية ، فإنها على العكس من ذلك تمثل حلقة رئيسية و هامة و منسية من حلقات تشكل الاسلام و ظهوره على مسرح التاريخ و لكن في المقابل فإن الكاتب عجز عن قراءة هذه الرواية القراءة الصحيحة و تحليل مضامينها بشكل صائب ، اذ ان اقصى ما استطاع ان يستخرجه منها هو انها تلقي الضوء على نظام القرابات في مكة . و هو ما حكم على تأويلاته بان تنحرف في اتجاه خاطئ و صوب اشكالية مضللة و سطحية . و لهذا قررنا في هذا المقال ان نعيد قراءة و ترتيب الروايات التاريخية المتعلقة بحدث سرقة الغزال الذهبي و التأويلات المتعلقة به ، لنضع الاصبع على الاشكالية الحقيقية لهذا الحدث ، و من ثم تفجير مضامينه الخفية .
اننا في هذا العمل بصدد اعادة بناء الواقعة التاريخية الخاصة بهذا الحدث معتمدين في ذلك على الترابط المنطقي للاحداث و ربطها باسبابها المادية . و لهذا سنقوم بعمل مزدوج يتمثل في مراجعة الروايات التراثية و تأويلات فاضل الربيعي لها ، بغية تقديم رواية تاريخية اقرب الى الواقع ، و امكن الى الحدوث . فما هي هذه المروية و ما مضامينها ؟


حادثة سرقة الغزال الذهبي : (1)
روى حكاية غزال الكعبة الذهبي عدد كثير من رواة الاخبار المسلمين كإبن الحبيب في (المنمق) و المسعودي في (مروج الذهب) و الترمذي في (الشمائل) الخ .. و هي تتحدث عن غزال من ذهب سرقته عصابة من سفهاء قريش كانت تشرب الخمر و تلهو و لهم قينتان (جاريتان) كانتا تغنيان في بيت احد شبان بني سهم . و ان هؤلاء حين نفذ الخمر لديهم قاموا بتدبير عملية سطو على اموال الكعبة ، و في روايات اخرى يجري الحديث عن سرقة غزال من ذهب كان في بئر زمزم استخرجه عبد المطلب عندما حفرها ، ثم علقه في الكعبة . و قد كان ابو لهب الذي التصق اسمه بحادث السرقة على رأس هؤلاء السفهاء ، حيث قام بمساعدة احد رفاقه بتسلق جدران الكعبة و سرقة الغزال. و حين علمت قريش بحادث السرقة ثارت ثائرتها ، و راحت تفتش عن السفهاء للاقتصاص منهم ، الى ان صادف ان العباس بن عبد المطلب (شقيق ابي لهب) مر قرب منزل مقيس فسمع صوت احدى جاريتين تغني ابياتا تسخر من الغزال الذهبي، فأخبر به ابا طالب الذي قدم مع الزبير و ابن جدعان و محزمة بن نوفل و العوام بن خويلد و سمعوا بدورهم هذا الشعر ، و دخلوا يفتشون عن الغزال المسروق فلم يجدوا سوى غمده الذي يوضع فيه ، كما وجدوا قرطيه في اذني الجاريتين . و لكنهم لم يعثروا على ابي لهب. اما الخادمان الخزاعيان ديك و دييك اللذان كانا معه ، فقد فرا ، لكن دييك سرعان ما وقع في قبضة رجال القبائل الغاضبة و جئ به الى ابن جدعان، فقطع يده . كما قررت قريش قطع يد ابي لهب ، لكن اخواله الخزاعيين –خصوم قريش- قدموا له الحماية .
اذن بناء على هذه الرواية ، يوضح الكاتب ان سبب نزول سورتي المسد و الشعراء هو اعتداء ابي لهب على الغزال الذهبي ، في حين ترد الروايات التاريخية ذلك الى شتم ابي لهب للرسول في اجتماع الصفا بقوله " تبا لك سائر اليوم " ، بينما يوضح الكاتب ان اية " تبت يدا " لا يمكن ان تكون ردا على شتيمة ابي لهب في حق الرسول ، لان " تبت يدا " تعني قطع اليد ، و "تبا" تعني " الويل لك " ،و بالتالي فإن سورة المسد لا تتحدث عن عقاب ستلقاه يدا ابي لهب في الجحيم السماوي ، بل تتحدث عن حادث ارضي دنيوي تاريخي شكل صورة ابي لهب الاجتماعية و بلور شخصيته الدينية قبل ان يبزغ فجر الاسلام ، و ان العرب كانت تعرف صورته هذه من قبل ان تنزل الاية ، و انهم كانوا يحتفظون في ذاكرتهم منذ عقود بصورة لابي لهب و هو مطلوب لقطع يده ؟
إذن من خلال المرويات الخاصة بابي لهب ، يمكن الكشف عن جانب مسكوت عنه من عبادات و معتقدات قريش و العرب و صلته بنظام القرابات . و بالتالي يتوجب القيام بتحليل منفصل لكل من سورة المسد و سورة الشعراء ، لتبيان حقيقة ان اية "تبت" لم تنبن قط على عبارة قالها ابو لهب (تبا لك سائر اليوم) كما افترض سائر المفسرين تقريبا ، فمحمد واجه صدودا و اذى من اقرباء اخرين لكن القرآن لم يذكر اسم اي منهم ، كالوليد بن المغيرة و ابو الحكم مثلا . و إذا كان المفسرون يقولون ان الاية " تبت " من سورة المسد نزلت في ابي لهب لانه شتم الرسول قائلا " تبا لك سائر اليوم" لانه كان مع بني هاشم و رفض دعوة النبي (انذاره) خلال اجتماع الصفا ، فلماذا اشرك القرآن في هذا الهجاء زوجة ابي لهب و هي لم تكن حاضرة في هذا الاجتماع ؟ و لم تتفوه ضده بأي شيء ؟ كما يضيف الكاتب ان هجاء القران لزوجة ابي لهب لا يعود كما قال المفسرون الى رميها الحطب في طريق الرسول، بل لكونها كانت تحرض عليه ، لأن معنى حمالة الحطب هو الماشية بالنميمة بين الناس ، فتلقي بينهم العداوة و تهيج نارها كما توقد النار في الحطب ، و العرب تسمي النميمة الحطب ، فيقال فلان يحطب على فلان اذا كان يغري به ، و يقال ايضا للمنافق الذي ينقل النميمة انه حامل حطب ، بهذا المعنى يرى الكاتب ان ام جميل كانت طرفا اساسيا ضالعا في عمل مناهض للاسلام ، اي انها اعادت تأجيج صراع قديم ثار ذات يوم كان ابو لهب ضالعا فيه، حيث كانت تقوم بتهييج مجتمع مكة بقبائله و اسره ضد الدين الجديد و نبيه، بل و بلغ من تحريضها ان طلبت من ولديها ان يطلقا ابنتي الرسول رقية و ام كلثوم.
إذن يوضح الكاتب ان هجاء النص القرآني كان ينبني على واقعة قديمة اعاد سلوك ابي لهب و زوجته تفجير مكنونها الرمزي و الديني و الاجتماعي مما فجر صراع القرابات الاسرية داخل مجتمع مكة الحائر ازاء الحدث التاريخي الذي فاجأه على حد قوله . و هكذا عبر الاحالة الى حادث هز وجدان العرب و قريش عندما سرق ابو لهب غزال الكعبة الذهبي يمكن فهم الاية " تبت يدا ابي لهب " ، و يمكن ان نستخلص ان هذا الهجاء جاء تذكيرا بحادث قديم يتجاوز سياق التنديد بشخصية قرشية قاومت دين العرب الجديد ، و هو ما يعطينا امكانية اخرى لقراءة الاية من منظور صلتها بالتحول الذي شهده نظام القرابات الاسرية ، فقد ارتبطت سورة المسد عند المسلمين بموقف ابي لهب و امراته من الاسلام و لكن من دون فهم كاف لدوافع هذا الموقف و محركاته و مضامينه .
يوضح الكاتب ان حكاية سرقة غزال الكعبة الذهبي ارتبطت بمجموعة من الاساطير الكبرى عند عرب الجاهلية دار بعضها حول دين عبد المطلب و مسألة الصراع على مكة و حول حفر زمزم . فهل قصدت الاية التذكير بشخصية ابي لهب القديمة يوم كان معارضا لالهة قريش و بحيث سطا على رب الكعبة غزالها الذهبي ام انها قصدت التنديد بشخصيته الجديدة كمعارض للنبي و دينه ، ام انها جاءت لتعيد صياغة نظام القرابات في مجتمع القبائل ؟ و لهذا يخبرنا الكاتب بانه سيقوم بمعالجة نص الحكاية كأرضية تاريخية ملائمة لتحليل سائر الاساطير المرتبطة بها لاجل استكشاف ما تخفيه من تاريخ منسي ، ذلك ان مروية غزال الكعبة الذهبي تكشف عن نمط من صراع القرابات الاسرية في مجتمع القبائل العربية كانت له صلة حميمة بالمعتقدات و الثقافة و التاريخ القديم و المصالح كان محوره المركزي هو الكعبة ، فالمرويات العربية القديمة ليست مجرد خرافات عديمة الاهمية بل هي الراسب الثقافي القديم الذي ظل متدفقا بقوة زخم تقاليد السرد ليدل المجتمع على جذور معتقداته و رؤاه و هويته الثقافية ايضا و واجبنا ان نعيد بناء اي مروية و ترميمها كما يفعل المنقبون و علماء الاثار لكي يتسنى لنا قراءة التاريخ بشكل علمي و صحيح و دون اهواء .
يبدو الكاتب موفقا في ربط سورة المسد بحادثة سرقة الغزال و ليس بحادثة شتم الرسول في اجتماع الصفا. و لكنه لم يتوفق في قراءة مضامين هذا الحدث ، اذ توقف عند اشكالية صراع القرابات داخل مجتمع مكة و لم يتعداها الى ما هو اعمق ، ذلك ان هذا الصراع لم يكن صراع قرابات بقدر ما كان صراع نقيضين مجتمعيين داخل مكة ، و هو ذلك الصراع الازلي الذي عاشته حضارات الهلال الخصيب اي صراع المزارع و الراعي و هو ما لم ينتبه له الكاتب . ان حادثة سرقة غزال الكعبة الذهبي تكشف لنا بجلاء عن صراع المزارعين و الرعاة داخل مجتمع مكة و ليس عن نظام القرابات ، فهذا الاخير هو مجرد تجل لهذا الصراع و ليس سببا له . بعبارة اخرى ، كان محرك الاحداث داخل مجتمع مكة هو صراع المزارعين و الرعاة داخلها لا صراع القرابات . و من هنا فقط يمكن فهم كل الاحداث التي جرت على ارضها من عهد اسماعيل جد العرب الاعلى الى عهد محمد رسول الاسلام ، و هو ما سنقوم بتوضيحه في هذه القراءة من خلال ترتيب جديد لمرويات التاريخ المكي و التأويلات المرتبطة به .















الغزال الذهبي و رمزيته : (2)
يزعم الاخباريون ان جرهم هي صاحبة الغزالين المدفونين في زمزم . و تقول الاسطورة ان هذه القبيلة ادخلت ممارسة الزنا في الكعبة (البغاء المقدس) وان اساف و نائلة كانا جرهميين ، و قاما اثناء الطواف بممارسة البغاء فمسخهما الله حجرين ، ثم ضجت قبائل العرب بعد ان فرض زعيم جرهم عمرو بن المضاض عبادة الصنمين ، و لذلك ثارت القبائل و قررت طردهم من مكة فحفر زعيم جرهم ابن المضاض قبل مغادرة مكة بئرا في زمزم و دفن فيه غزالين من ذهب و اسياف و خرج مع قومه. و الغزال في لغة العرب نوع من الظباء و الغزالة هي الشمس و قيل هي الشمس عند طلوعها و قيل الغزالة عين الشمس و الظبية فرج المرأة و في حديث زمزم : قيل له احفر ظبية ، قال : و ما ظبية ؟ قال : زمزم. إذن هذه المقاربة اللغوية يمكنها ان توضح على اكمل وجه علاقة الغزال بزمزم البئر المقدسة عند العرب و المسلمين التي كانت تسمي ظبية اي غزال ، كما توضح استطرادا صلتها بالكعبة التي تضم البئر التي في جوفها ، لأن من بين اسماء الشمس الغزال كما في كلام العرب . فقد يكون الغزال من آلهة الخصب الانثوية و اتخذت و الحال هذه رمز الشمس ، و ما يؤكد ذلك ان جرهم دفنته في زمزم . ولما كانت هذه القبيلة كما تقول اساطيرها من قبائل اليمن الكبرى التي هاجرت الى وسط الجزيرة العربية ، و فرضت سلطانها هناك فمن المؤكد انها كانت تعرف عبادة الشمس ، و هي من اكبر معبودات اليمن . و نحن نعلم ان جرهم قبيلة يمنية كانت من عباد الشمس ، و كان الوعل و الظبي (الغزال) من بين اكثر رموزها الدينية قدسية و لهذا تبدى العدوان على الغزال ضربا من ضروب العدوان على رمز الخصب و تجسداته الالهية .
نقول من جانبنا ان هذا العدوان هو عدوان مقصود و مبرمج من طرف اعداء ديانة الخصب ، و ليس وليد نزق شباب طائش. كما ان القرآن بانتقاده لحادثة الاعتداء على الغزال يعطي الدليل على ان الاسلام هو استمرار لديانة الخصب . و من خلال هذا الحدث يمكننا ان نقول ان توترا جديدا اشتعل بين مكونات قريش تمثل في رغبة القبائل المزارعة في التعبير عن ذاتها ، و منه نفهم لماذا عزم عبدالمطلب على حفر زمزم . ان حفر زمزم معناه احياء الزراعة داخل مكة و ليس فقط سقاية الحاج كما قالت الروايات . ان هذا الحفر لزمزم هو تدشين لعملية واسعة من حفر الابار و استنباط الماء و شق قنوات الري . و هو الامر الذي لم ينظر اليه الجانب الرعوي في قريش بعين الرضا فقاومه و عمل على ايقافه .ان حفر عبد المطلب لزمزم و اخراج الغزال الذهبي منه و تنصيبه على الكعبة ، هو اعلان سياسي صريح عن قيام دولة المزارعين و نهضتها . فهذه هي الرمزية التي يعبر عنها الغزال الذهبي الموضوع بكل اجلال فوق جدار الكعبة . لكن هذا التوجه الزراعي داخل مكة واجه رفضا شديدا من الطرف الاخر الرعوي فاعترض عليه ، و تمثل اعتراضه في قيام ابي لهب بالاعتداء على رمز المزارعين الغزال الذهبي . لكن الكاتب عجز عن قراءة هذا السلوك العدواني لابي لهب القراءة الصحيحة ، و انحرف الى اشكالية مضللة بالقول " ان تحديد اطار ناظم للعلاقات الدلالية في سائر هذه المرويات يمكن ان يساعد في تقديم فهم افضل للدور الذي لعبته القربات في تعطيل شرعة قطع اليد و فشل المجتمع الديموقراطي في معاقبة احرار قاموا بانتهاك قواعد الحرم "(3). فالكاتب لم يفهم اصل الاشكالية و انساق وراء اشكالية مضللة بحديثه عن نظام القرابات ، و هي اشكالية تخفي الاشكالية الحقيقية التي هي صراع المزارعين و الرعاة داخل مجتمع مكة ، فلم يكن هناك اي فشل من طرف قريش في معاقبة الجناة ، لانه عمل مقصود من طرفها ، و قد تم نسب ابي لهب الى عائلة الرسول لخلط الاوراق و التعتيم على الصراع الحقيقي الذي كان في مجتمع مكة ، و الذي من احشائه برز الاسلام الدين كانتصار للمزارعين على الرعاة ، و الذي تم قلب مساره فيما بعد.
و للتدليل على صواب اشكاليته ، يورد الكاتب نص اجتماع الصفا الذي انذر فيه الرسول عشيرته من بني عبد المطلب و عبد مناف و بني زهرة من عذاب شديد طالبا منهم ان يقولوا لا اله الا الله ، و كيف ان ابا لهب رد عليه " تبا لك سائر اليوم" . و يوضح ان النبي انذر قومه في هذا الاجتماع بأن نظام القرابات الاسرية القديم بات على طريق الزوال و ان نظاما جديدا يوشك ان يحل محله في حين نرى ان الكاتب اخطأ في تأويله و ان الانذار الرسولي لم يكن يخص نظام القرابات بل النظام الاقتصادي و نمط العيش ، اي الانتقال من الرعي الى الزراعة بعبارة اخرى يتعلق الامر بتغيير نمط الاقتصاد المتبع ، و الذي قاومه ابي لهب باعتدائه على رمز ديانة الخصب (سرقة الغزال الذهبي) ، الشيء الذي جعل القرآن يصب اللعنات عليه . كما ان تشبيه زوجة ابي لهب بالدابة (في جيدها حبل من مسد) هو اشارة الى نمط الاقتصاد الرعوي القائم على الثروة الحيوانية ، و هجاء لاصحابه و تلميح الى انهم كالدواب . ثم اذا فحصنا دلالة عبارة " حبل من مسد " في الاية القرآنية فاننا نجد انها تعني : حبل من ليف الشجر :أي حبل من اصل زراعي يجر حيوانا (بهيمة) ، في اشارة الى سيادة المزارعين على الرعاة و نظرتهم الدونية اليهم و الصراع المحتدم بينهما . اما ذا تاملنا في الاية بكاملها "سيصلى نارا ذات لهب و امرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد "فسنجد ان حرف السين قبل فعل يصلى يحمل معاني التوعد الذي يتوعده المزارعون للرعاة و زعيمهم و زوجته و بأن سياسته العدوانية اتجاههم ستنقلب عليه و بانه اذا كان ممثلا لديانة النار فإنه سيحترق بها و ان زوجته اذا كانت ممثلة لديانة رعي البهائم فإنها ستلقى مصير البهيمة على يد المزارعين . لكن هذا التحليل من طرفنا يفترض أن واقعة سرقة الغزال حدثت اثناء دعوة الرسول و ليست قديمة فما الدليل على ذلك ؟ دليلنا على ذلك هو ذلك الاضطراب الذي يطبع رواية سرقة الغزال الذهبي. ذلك اننا نجد ان خزاعة قد حمت ابا لهب و لم تحم الخادمين الخزاعيين؟ فكيف ذلك ؟ ثم ان خزاعة تحالفت مع عبد المطلب عند حفر زمزم ضد قريش (4) فكيف حمت اذن ابا لهب المعتدي على رمز زمزم ؟ بذلك نقول ان هذه الرواية هي تحريف لرواية اصلية و أن سرقة الغزال لم تكن بدافع شرب الخمر بل بدافع اهم من ذلك بكثير كما ان زوجة ابي لهب لم تكن حاضرة في عملية السرقة بينما تتحدث الاية عنها و عن زوجها في آن واحد بمعنى انهما مشتركان في هذا العمل بل كل قريش بحكم تحريض ام جميل لها ما يدفعنا الى القول باننا امام عمل جماعي تزعمه ابو لهب و زوجته و من ورائهما الجزء الرعوي من قبيلة قريش و هم بنو قيس بن عدي بن سهم و بني السباق بن عبد الدار بن قصي .
للاشارة فإن مقيس الذي جرى في بيته الاعتداء على الغزال ، كان حليفا لبني السباق بن عبد الدار بن قصي، و هؤلاء كانوا قد ورثوا من ابيهم السلطة في مكة و خاضوا صراعا ضد ابناء عمومتهم من بني عبد مناف بن قصي . و قد بلغ العداء بينهما ذروته عند وقوع حادث السطو على غزال الكعبة فهو غزال عبد المطلب بن عبد مناف ، و قد نشأ نزاع بين بني عبد مناف و بني زهرة الذين قرر عبد المطلب اخراجهم (بني زهرة) من مكة ، لكن عدي بن قيس شقيق مقيس من بني سهم رفض هذا القرار و استعدوا للقتال . بل و يوضح الكاتب ان جوهر النزاع كان يتعلق بمفاتيح الكعبة و كيفية اخراج بني عبد الدار من سلطة الكعبة الدينية (5). و هو ما عبر عنه ابو اليقظان قائلا : اراد بنو عبد مناف ان يأخذوا المفتاح من بني عبد الدار فأعانهم قيس بن عدي فلم يؤخذ (6).
و لأجل ترتيب جيد لاحداث الواقعة التاريخية سنقدم التحليل التالي : إذا وضعنا حادثة سرقة الغزال الذهبي من الكعبة في هذا السياق من تنازع بني عبد مناف و بني عبد الدار فسنفهم ان ازالة الغزال من مكانه و تحطيمه لم يكن بداعي السفاهة و شرب الخمر من طرف ابي لهب و رفقائه في بيت مقيس بل كان عملا مخططا له من طرف بني عبد الدار الذين ينتمي اليهم عدي بن قيس شقيق مقيس المشارك في سرقة الغزال الذهبي و اذا قمنا باعادة تركيب الحادث فسنقول ان بني عبد الدار بتحريض من مقيس ، ازالوا رمز بني عبد مناف الديني ممثلا في الغزال الذهبي و احتلوا الكعبة و اخذوا مفتاحها ، و اراد بنو عبد مناف استعادة المفتاح من بني عبد الدار اثر النزاع الذي نشب بين امية بن عبد شمس و وهب بن عبد مناف (7) ، و لكنهم عجزوا عن ذلك ، لأن عدي بن قيس بن عدي و قبيلته بني سهم اعانوا بني عبد الدار.









عبد المطلب و ابو لهب :
تتحدث روايات كثيرة عن عبد المطلب كأحد المشركين ، و ان الرسول ذكر بانه سيذهب الى النار. و نحن نتفهم الغرض الكامن وراء وضع مثل هذه الروايات من طرف الاخباريين للتعتيم على السبب الحقيقي لظهور الاسلام ، و حرف الانظار نحو سبب سطحي ممثلا في نبذ عبادة الاصنام . ان الغرض من هذه الروايات هو قطع الصلة بين عبد المطلب و حفيده محمد ، الذي هو في الواقع استمرار لجده ومشروعه السياسي ممثلا في إعلاء دولة المزارعين في وجه دولة الرعاة . لقد كان هذا هو التوتر الازلي الذي طبع حضارات دول الهلال الخصيب. ان تعاقب مناخي الخصب و الجدب ، كان يجر معه تعاقب دولتي المزارعين و الرعاة . و يمكن القول ان الاحوال المناخية تحسنت في مكة و ربوعها الشيء الذي دفع بمزارعيها الى اعلاء رؤوسهم ، و رفض هيمنة الرعاة عليهم و بهذا فإننا نقول ان عبد المطلب كان موحدا و ابا للمشروع الاسلامي الذي اتمه حفيده محمد لكن الروايات عتمت عليه و خلقت قطيعة وهمية بين الجد و حفيده . و لكن مع ذلك نجد روايات قد افلتت من مقص الرقيب العباسي تعترف بان عبد المطلب كان موحدا و مصيره الجنة كالرواية التالية :
يقول المسعودي : " فممن كان مقرا بالتوحيد ملبيا للوعيد تاركا للتقليد عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف و قد كان حفر بئر زمزم و كانت مطوية ... فاستخرج منها غزالتي ذهب ...و جعل احدى الغزالتين صفائح ذهب في الباب و جعل الاخرى في الكعبة و كان عبد المطلب اول من اقام الرفادة و السقاية للحاج و كان اول من سقى الماء بمكة عذبا ..." (8) و هي تقدم لنا دليلا واضحا على قيام عبد المطلب باحياء المشروع الزراعي و تنصيب رموزه في الكعبة و عدم شركه بالله ، كما انه من المعروف لدى كل المؤرخين ان عبد المطلب كان اكثر الموحدين في الجزيرة العربية قبل مبعث النبي و متحنثا في حراء الغار الذي خرج منه الاسلام مما يجعل من كون عبد المطلب مشركا و ابا لهب ابنا له يدخل في خانة السردية التاريخية المنحولة ، ذلك ان تلاعبات الاخباريين لا تقف -للتعتيم على اصل الدعوة الاسلامية- عند جعل عبدالمطلب من المشركين ، بل تتعدى اساليبهم في خلط الاوراق الى نسب ابي لهب الى عائلة الرسول و جعله عما له ، فهل فعلا كان كذلك ؟
ان عدم تنبه فاضل الربيعي الى هذا التلاعب من طرف اخباريي الدولة العباسية هو ما جعل تحليلاته تنحرف الى هدف خاطئ ، و يقول بأن اجتماع الصفا مثل نقطة تحول هائلة في فهم الاسلام لنظام القرابات ، و انه اعتبارا من هذه اللحظة لم تعد هناك من مكانة لهذا النظام في الجانب المتصل بالعلاقة مع الخالق و ان النبي لن يكون شفيعا لاقربائه يوم القيامة ما لم يكونوا على دين الاسلام و هذه قراءة في نظرنا غير صائبة لهذا الحدث فعبارة" انذر عشيرتك الاقربين" معناها : ابدأ بعشيرتك القريبة منك اولا . فليس المهم في الاسلام تغيير نظام القرابات من قبلية الى دينية ، بل المهم هو تغيير نمط الانتاج من رعي الى زراعة و لهذا ندد القرآن بحادث اعتداء ابي لهب على الرمز الزراعي غزال الكعبة الذهبي .ان السؤال الذي يجب ان نطرحه هو : هل حقا كان ابو لهب من بني هاشم ؟ هل فعلا كان عما الرسول ؟ فلنبحث ذلك .
تقول الرواية ان قريش فرضت حصارا على بني هاشم فهل يعقل ان تفرض حصارا عليهم و تعرض وحدتها القبلية للتصدع لمجرد دعوة دينية ؟ ثم تضيف الرواية ان ابا لهب كان يتولى بنفسه في هذه الآونة الرقابة الشديدة عليهم. و هنا نتسائل كيف يعقل ان يتخلى ابو لهب عن قبيلته ؟ ما قيمة المرء دون قبيلته ؟
اننا حينما نقرأ الرواية التالية : فإذا ما شاهد احد المحاصرين يتجه الى السوق ليشتري شيئا من الطعام لعياله يصرخ بالتجار قائلا : يا معشر التجار غالوا على اصحاب محمد ... و من معهم جوعا و عريا .. (9) نجد انها رواية غير واقعية ، لانها كفيلة بدفع ابي لهب الى الافلاس مهما تعاظمت ثروته ، لانه لن يستطيع تحمل تكاليف مؤنة قبيلته باسعار مضاعفة لمدة ثلاثة سنوات . هذا دون ان ننسى ان خديجة زوجة الرسول كانت اثرى شخص في قريش فكيف تفوق عليها؟ كما ان تضامن بني هاشم مع محمد و تحملهم اذى الحصار هو اكثر من تضامن قبيلة مع ابن لها ، بل هو قرار اتخذته القبيلة بملء ارادتها ، و محمد مجرد معبر عنه ، فهو استمرار لنهج جده عبد المطلب (دين عبد المطلب) الذي هو احياء الزراعة في مجتمع مكة الرعوي ، خصوصا اذا علمنا ان من كتب صحيفة حصار بني هاشم كان من بني عبد الدار المنافسين التقليديين لبني عبد مناف (10). لكن الرواية و بانعطافة غير متوقعة تخبرنا انه عند وفاة ابي طالب و خديجة بنت خويلد جاء ابو لهب الى الرسول و قال له : يا محمد امض لما اردت.. !! فهل هذا في نظر القارئ الفطن تحول مفهوم ؟ تعني هذه الرواية ان ابا لهب بعد كل المال الذي بذره في حصار بني هاشم أدرك في هذه اللحظة قيمة القبيلة و ضرورة التضامن معها !! بل و يبرر ابو لهب انعطافته السلوكية بالقول: "ما فارقت دين عبد المطلب و لكني امنع اخي ان يضام حتى يمضي الى ما يريد !! " (كما هو واضح فإن واضع هذه الرواية لم يحسن حبكته) ، ثم يعود مرة اخرى و ينعطف في الاتجاه المضاد و ينقلب عدوا للرسول حينما قال له بأن جده عبد المطلب في النار حسب الرواية التالية : في هذا الوقت ....فاشتد عليه هو و سائر قريش . (11)
نلاحظ اذن من خلال هذه التذبذبات السردية غير المفهومة و هي تروي ذلك الانعطاف الحاد لمواقف بي لهب اتجاه الرسول في فترة وجيزة من اقصى اليمين الى اقصى اليسار و من اقصى اليسار الى اقصى اليمين ان كاتب هذه السردية واجه صعوبة في توفير عنصر الحبكة لروايته ، لانه كان مضطرا لانجاز معادلة سردية صعبة تمثلت في اقحام ابي لهب في عائلة الرسول ، و جعله عدوا له ، و في نفس الوقت ابقائه غير متمرد على مبدأ التضامن القبلي . ان مشاركة ابي لهب قريش في حصار بني هاشم ستثير تساؤلات القارئ حول مصداقية هذه الرواية لان ولاء الفرد لقبيلته هو من البديهيات التي لا تهتز، و لذلك اختار كاتب هذه السردية لحظة وفاة عبد المطلب ليعيد التوازن لموقف ابي لهب باعلان هذا الاخير تضامنه مع محمد وفاء منه لمبدأ التضامن القبلي ، و لكن هذه السردية/الحبكة الروائية غاب عنها عنصر التوفيق ، لان سلوكيات الافراد لا تعرف الانعطافات الحادة بل التتابع المضطرد. ان شخصا تنزل فيه سورة المسد هو شخص له دوافع قوية لمعاداة الاسلام و نبيه و بالتالي لا يمكن ان يتراجع عن مواقفه لانه بلغ فيها شأوا بعيدا و لا يمكن له ان يتخلص منها . ان ابا لهب اذا كان فعلا يعرف قيمة الانتماء القبلي و واجب التضامن مع القبيلة فإنه سيقف مع بني قبيلته اثناء حصار قريش لهم لا العكس. و ما دام ابو لهب ساهم بحماس في هذا الحصار فإننا نرى بأنه ينتمي حقيقة الى بني عبد الدار لا الى بني هاشم . كما انه اذا انتقلنا الى الانعطاف الثاني حين انقلب ابو لهب على الرسول و عاداه بعدما اخبره بان عبد المطلب في النار، فاننا نجد مرة اخرى انها سردية غير موفقة لان ابي لهب غضب لمصير عبد المطلب و لم يغضب لمصيره هو . و الواقع ان دور هذه السردية هو ان تدق اسفينا بين محمد و جده لاخفاء الاسباب الحقيقية لظهور الاسلام و الايحاء بانه دعوة جديدة و ليست استمرارا لحركة و دين عبد المطلب، الذي بالمناسبة كان يتحنث في غار حراء و يصوم رمضان و يطوف البيت . اذن هناك اقحام غير موفق لابي لهب في عائلة الرسول و فصل دين هذا الاخير عن دين عبد المطلب لخلط الاوراق و اخفاء طبيعة الصراع الاصلي في مكة .
يصر الكاتب على ان اصل التوتر داخل مكة هو دعوة الرسول لتجاوز النظام القرابي القديم و تعويضه بقرابة اسلامية ، و هذا الاصرار يجعله لا فقط يغفل عن المحرك الرئيسي للصراع داخل مكة ، بل يجعله ايضا يقع في تناقضات من تلقاء نفسه ، فالكاتب يفسر هجوم ابي لهب رفقة اصدقائه على الغزال الذهبي بالقول بأن قريش كانت تطمع في ديانة توحيدية و انها ملت من الوثنية ثم في نفس الوقت نجد ان ابا لهب و معه قريش يقاومان دين محمد التوحيدي !! (12). لهذا يجب علينا لفهم جيد لاسباب الصراع ان نعيد ترتيب الرواية التاريخية من جديد ، فأبو لهب ليس عما للرسول ، و لا ينتمي لبني هاشم ، بل ينتمي للتحالف المناهض لهم ، و المكون من بني عبد الدار و بني سهم و عبد شمس و بني عدي، و حينما اعتدى على رمز المزارعين الغزال الذهبي فإنه كان يعبر عن ارادة رعاة قريش اي الطرف المناوئ لبني هاشم، و اما عبد المطلب فلم يكن مشركا و صاحب دين عائلي و الرسول موحدا و صاحب دين عالمي بل كلاهما على دين واحد و يكملان بعضهما البعض بدليل قول الرسول " يبعث جدي في زي الملوك " (13)، كما ان حادثة سرقة الغزال لم تحدث قبل نزول الاية بسنوات بل اثناءها ، و الا فإن الرسول ما كان ليصاهر شخصا مطلوبا للقصاص و يزوج ابنتيه رقية و ام كلثوم لولديه . لقد حدث الاعتداء اثناء تصاعد الدعوة الاسلامية و اشتداد عودها على يد الرسول و بعد شعور تيار الرعاة داخل مكة ان المزارعين على وشك ان يقلبوا موازين القوى داخلها . و اما عن حماية خزاعة لابي لهب فغير صحيحة ، لانها حليفة لعبد المطلب ضد قريش، و لو لجأ اليها لعاقبته . و كدليل على عدم انتماء ابي لهب لبني هاشم نذكر ان اسمه الاصلي هو عبد العزى ، و كان يتقرب لالهة العرب الكبرى (العزى)، و يحتفظ بعلاقات صداقة مع سادنها. و يوضح الكاتب ان هذا الجانب من الحكاية يفصح عن مستوى اخر من الصراع داخل النظام الديني الثقافي العربي بين الالهة الام العزى و الغزال و قد تكون العنزة و الغزال و سائر الظباء و الوعول عائلة طوطمية واحدة ارتبطت بحقبة الرعي فكلمة عزى هي ذاتها العنزة .
اذن ينتمي ابو لهب لنظام ثقافي ديني يعتبر العنزة (بمعنى المعزة و ليس الغزال) شعارا له ، و هو يرمز الى نظام الرعي بينما يرمز الغزال الى الزراعة نمط معيش الهاشميين. ان الكاتب بحديثه عن وجود صراع داخل النظام الديني الثقافي المكي بين الالهة الام العزى و الغزال يكون قد اقترب من تحديد الاشكالية الحقيقية لحادث سرقة الغزال الذهبي ، لكنه سرعان ما ينحرف عنها الى اشكالية نظام القرابة ، بينما في الواقع تمت سرقة الغزال الذهبي لاجل نصرة الاله العنزة . فالغزال و العنزة طوطمان متناقضان ، الاول يمثل الزراعة و الثاني الرعي ، و اشكالية نظام القرابة في مكة هي اشكالية سطحية تخفي تحتها اشكالية الصراع الزراعي الرعوي داخل مكة .
يجدر بالذكر ان هذا الصراع لم ينطلق بسرقة الغزال الذهبي ، بل كانت له اصول قديمة في تاريخ هذا المجتمع . لقد انقسم هذا الاخير منذ القدم الى رعاة و مزارعين ، و لهذا طلب ابراهيم من ابنه اسماعيل ان يطلق زوجته العماليقية الرعوية و يتزوج بامراة جرهمية مزارعة و التي سادت قبيلتها على مكة ، ثم انتقلت السيادة بعد ذلك الى خزاعة فقريش بزعامة قصي . ان هذا التداول القبلي في نظرنا، يعود في الاساس الى سبب سوسيو اقتصادي ، فحينما يشتد ساعد المزارعين فإنهم يزيحون الرعاة عن ولاية مكة و العكس صحيح . بل ان القبيلة بنفسها مع مرور الوقت تنقسم الى طرف مزارع و اخر راع ، فينشأ التوتر و الاستقطاب داخلها . و منه نفهم سبب الصراع الذي نشب بين بني عبد مناف المزارعين و بني عبد الدار الرعاة ، و منه نفهم ايضا لماذا اراد نوفل سلب ارض ابن اخيه عبد المطلب . انه لم يسلبه ابلا او بضائع ، بل سلبه ارضا لان عبد المطلب كان صاحب مشروع سياسي يهدف الى بعث نمط الاقتصاد الزراعي داخل مكة ، و لهذا رفضت قريش الرعوية نصرة عبد المطلب و قبلت الخزرج الزراعية التدخل لصالحه . و لهذا ايضا نقل نوفل بعد تدخل الخزرج لصالح عبد المطلب تحالفاته من بني عبد مناف المزارعين الى بني عبد الدار الرعاة .
اننا من خلال هذا الترتيب و التصنيف لمحركات الحدث داخل المجتمع المكي سنستطيع ترتيب و تصنيف شخصيات هذا المجتمع حسب سلوكهم و مواقفهم، فيصبح عبد المطلب هنا ممثلا للمزارعين و ابو لهب ممثلا للرعاة ، و بالتالي منتميا لقبيلة بني عبد الدار و ليس لبني هاشم ، و منه نستطيع ايضا بالعودة الى الوراء ، ان نفهم لماذا ازاحت خزاعة جرهم عن ولاية مكة، و عدم الانخداع بالتفسير المقدم من طرف الاخباريين من قبيل اباحة البغاء في الحرم . ان ربط اسباب الصراع بالعدوان على المقدس هو تمويه و تسطيح من طرف الاخباريين للسبب الحقيقي المتمثل في الصراع الزراعي الرعوي على ارض مكة . لقد هجمت خزاعة على جرهم لا لأن هذه الاخيرة طغت و اباحت البغاء علنا، فهذا البغاء هو من صميم شعائرها الدينية المعبرة عن ديانة الخصب، بل لانها قبيلة زراعية ضعفت فهجمت عليها خزاعة الرعوية ، و التي بدورها مع مرور الوقت تحولت الى قبيلة زراعية و اباحت نفس ممارسات جرهم ، بدليل ان حليل زعيم خزاعة عهد بادارة البيت الحرام لابنته حبى، لكنها (خزاعة) هي ايضا كقبيلة زراعية ضعفت فهجمت عليها قريش ، و طبعا المبرر الذي يقدمه الرواة كالعادة عن سبب الهجوم هو الاعتداء على المقدس ممثلا هذه المرة في تلاعب قبيلة صوفة بشعيرة رمي الجمار . لكن اذا وضعنا حادثة استيلاء قريش على مكة و ازاحة خزاعة عنها ضمن اطار مفهوم الامد الطويل ، فسنفهم ان هذا الحدث يأتي ضمن دورة تداول السلطة داخل مكة بين القبائل الزراعية و القبائل الرعوية، و ان الاعتداء على المقدس يأتي كتبرير سطحي لهذا التداول .
ان العدوان على المقدس يجب ان ينظر اليه على انه الحلقة الاخيرة من مسلسل الصراع السياسي بين نقيضين اقتصاديين (زراعة و رعي) ، لهذا يجب التعامل مع الروايات التاريخية كرموز تختزل داخلها احداث اضخم بكثير مما ترويه ، و من هنا نختلف مع الكاتب الذي توقف عند سطح هذه الروايات، و قدم تأويلات خاطئة، و اعتبر ان " جوهر العدوان على المقدس (الوثني) يرتبط بتنامي شعور العرب باقتراب عصر التوحيد ، و بان عصر الوثنية كان يوشك على الاحتضار ... لقد ضاقوا ذرعا بالوثنية ، و كانوا يتشبعون بطموح امتلاك ديانة عظيمة و جديدة ... ذلك ان سلوك اللامبالاة الذي يتميز به سفهاء قريش و شبانها المخمورين لا يعكس درجة استهتار جماعة صغيرة و معزولة برموز الوثنية بمقدار ما يشير الى تنامي كل اشكال التعبير عن معارضتها و رفضها ... تعاظم الشعور الجماعي باقتراب عصر التوحيد و زوال الوثنية و انحطاط مكانتها " (14) ، و يضيف قائلا " و نحن نعتقد ان صعود دور قريش الديني و السياسي يرتبط جذريا لا بصعود دور قصي 450م و انما بقدر اكبر و اهم من ذلك بتدهور الوثنية و اقتراب عصرها من الافول " (15). إذا كان الامر كذلك فلماذا غضب القرآن للاعتداء الذي تعرض له غزال الكعبة الذهبي ؟ و لماذا امتلك الرسول عصا العنزة ؟
ان هذه الاعتداءات على المقدس كانت بدافع سياسي مادي و اعلانا عن تغير في السلطة الحاكمة داخل مكة و لا علاقة لها بدافع ديني توحيدي . فهذه الروايات الخاصة بتاريخنا الاسلامي لا تفصح عن الاسباب الحقيقية للحدث التاريخي و تلجأ بدلا من ذلك الى اختزاله في اسباب فردية و سطحية ، فتصبح كالشجرة التي تخفي الغابة ، و واجبنا كمؤرخين لا ان نتوقف عند الشجرة بل ان ننظر خلفها . هكذا اذن نستطيع ان نقرأ تاريخ قصي مثلا و استيلائه على مكة . تخبرنا الرواية انه عاد من مضارب قبيلة امه الى مكة عند موسم الحج و خطب الى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى ، و حليل يومئذ يلي الكعبة و امر مكة (16) . و نحن بدورنا نتسائل ، كيف قبل حليل سيد مكة مصاهرة الشاب قصي و هو لا جاه و لا مال له آنذاك ؟ ! هل يتعلق الامر اذن بدخول قصي الى مكة ام بدخول قريش اليها و مصاهرة زعيمها لخزاعة، و ان قصي ما هو الا ترميز لقريش ؟. في المقابل نجد الكاتب يفسر هذا الحدث قائلا : " تبدو رحلة الحج بالنسبة لقصي تصميما مبكرا على استرداد الكعبة من ايدي القبيلة التي سيصبح صهر زعيمها باكثر ما تبدو مجرد استكشاف فضولي لشجرة انسابه و انه لهذا الغرض قرر الاستعانة باخيه غير الشقيق رزاح " (17)، في حين ان قصي هو مجرد رمز و اختزال لقبيلة قريش، و المصاهرة التي تمت مع خزاعة بعد التغلب عليها هي تماما ما حدث في مصاهرة الرسول لزعيم بني المصطلق. و يضيف الطبري عن قصي قائلا :" فلما انتشر ولده و كثر ماله و عظم شرفه هلك حليل بن حبشية فرأى انه اولى بالكعبة و امر مكة من خزاعة و بني بكر" (18). و نحن نتساءل كيف سينتشر ولد قصي و يكثر ماله و يعظم شرفه هكذا فجأة و في جيل واحد ؟ إنه في نظرنا يجب قراءة اسم قصي على انه اختزال لقريش و سيطرتها التدريجية على مكة . و نعود مرة اخرى للرواية التاريخية فنجدها تقول الاتي عن قصي : "فكلم رجالا من قريش و بني كنانة و دعاهم الى اخراج خزاعة و بني بكر من مكة ... كتب الى اخيه من امه رزاح بن ربيعة بن حرام و هو من بلاد قومه يدعوه الى نصرته ...فأجابوه الى ما دعاهم من ذلك " (19). في الواقع فإن ما حدث هو نتيجة لتدافع قبلي و ليس نتيجة لتخطيط شخصي من طرف قصي . و كدليل على صحة ما نقول هو ما نجده عند ان ابن هشام الذي يذكر ان زواج قصي بحبى تم بعد سقوط ولاية خزاعة (20). وهذا ما يؤكد ما قلناه سابقا ، اي ان المصاهرة كانت نتيجة غلبة قريش على خزاعة كمصاهرة الرسول لزعيم بني المصطلق .














قريش و البيت العتيق :
قد يطرح السؤال التالي : ما الدليل على رعوية قريش و بداوتها ؟ ما الذي يجعلنا نفسر هجوم قريش على خزاعة و ازاحتها عن ولاية مكة بالتناقض السوسيولوجي الذي طبع القبيلتين ، و بالتالي فإن الصراع الذي نشب بينهما كان ماديا في الاساس و ليس شعائريا ؟ جوابنا في ذلك هو انتباهنا الى سورة تشير بوضوح كامل الى بداوة قريش الجبلية رغم ان المفسرين يفسرونها بشكل مغاير و هي سورة قريش : "لإيلاف قريش ( 1 ) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( 2 ) فليعبدوا رب هذا البيت ( 3 ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( 4 ) ". توضح هذه الايات بقليل من التمعن ان قريش قبيلة بدوية تمارس الانتجاع ، فترحل شتاء نحو السهول و صيفا نحو الجبال ، و هو سلوك معتاد تمارسه جميع القبائل الجبلية ، لكن المفسرين عتموا على هذه الطبيعة الجبلية لقريش و فسروا الايلاف على انه رحلة التجارة الى اليمن شتاء و الشام صيفا . و لهذا نرى بأن هجوم قريش بقيادة قصي على مكة و طرد خزاعة كان بمثابة تداول للسلطة في مكة، بحيث قدم الرعاة البدو من الجبال المطلة على مكة و هجموا على ساكنيها عند السفوح . لكن شيئا فشيئا و مع الاستقرار الطويل بدأ قسم من قريش يكتسب صفات المزارعين و ينفصل عن اصله الرعوي، و ظهر هذا الانقسام اولا بين بني عبد مناف و بني عبد الدار ثم داخل بني عبد مناف ظهر توتر جديد بين عبد المطلب و عمه نوفل الذي تقول الرواية صراحة انه استولى على ارض لعبد المطلب و كانت ارضا خصبة و فيها ابنية في سفوح مكة و محيطها ، و هذه الرواية توضح لنا بجلاء التمايز الجغرافي لتضاريس مكة ، فهي تتكون من سفوح و قمم ، و في السفوح يسكن المزارعون و في القمم يسكن بدو الجبال . لقد أراد عبد المطلب استصلاح ارضه لكن عمه نوفل منعه من ذلك و حينما استنجد باخواله الخزرج المزارعين نقل نوفل تحالفاته الى عبد شمس المنتمين الى عبد الدار الرعاة ضد بني هاشم المزارعين. ان وثوب نوفل على ارض عبد المطلب ليس اعتباطيا او مصدره الطمع ، بل هو من صميم سياسة رعاة قريش المتبعة ضد مزارعيها لمنعهم من اعلان مشروعهم السياسي ، و نفس الامر تكرر بعد ذلك ، فحينما اراد عبد المطلب زعيم مشروع العودة الى الزراعة حفر بئر زمزم، فإن قريش اعلنت مرة اخرى معارضتها لهذا الحفر.
يجب ربط كلا الحدثين : الاستيلاء على الارض الخصبة و رفض حفر زمزم لتتضح الصورة بشكل افضل . و هو ما لم يفعله فاضل الربيعي ، فانحرفت تاويلاته نحو وجهة خاطئة . لقد فسر مقاومة قريش لحفر زمزم ب " ان حفر البئر المقدسة من جديد و هي التي حفرها اسماعيل و طمرتها جرهم بعد جلائها عن مكة عنى ان عبد المطلب سوف يحوز شرفا دينيا يؤهله للعب دور اكبر في الحياة الدينية للعرب لا لقريش وحدها " (21) ، في حين ان هذا غير صحيح لأنه لا دخل للشرف بالموضوع ، بل لانه سيعيد بعث نمط الاقتصاد الزراعي . و يضيف فاضل قائلا : " و خلال حادثة حفر البئر المقدسة وقع نزاع جديد بينه و بين قريش بسبب ما اعتبرته نوعا من عدوان على المقدس . فهذه البئر بئر اسماعيل و لا يجوز مسها و ان كان الغرض من ذلك اعادتها للحياة " (22) و هذا ايضا غير صحيح ، فما قام به عبد المطلب ليس عدوانا على المقدس بل بعث له. ان سبب معارضة قريش لحفر زمزم هو مادي صرف و لا دخل له بالمقدس ، فحينما حفر عبد المطلب زمزم و استخرج الغزالين الذهبيين و وضع احدهما على جدار الكعبة ، كان يعلن عن تنصيب رمز الزراعة داخل اشهر مكان في مكة معلنا عن تأسيس دولة المزارعين، و ان مشروعهم السياسي قد قطع خط الرجعة ، و لأن قريش عارضته بقوة فإنه عقد حلفا سياسيا مع خزاعة القبيلة الزراعية القديمة . هكذا في نظرنا يجب تركيب احداث الرواية التاريخية المتناثرة هنا و هناك ، و عدم الانجرار وراء اشكالية ثانوية . و لهذا نعود و نقول بان حماية خزاعة لابي لهب بعد اعتداءه على الغزال هي مجرد حكاية موضوعة و ضد منطق الاحداث .
ينظر الكاتب الى الاحداث ( الاستيلاء على ارض عبد المطلب ، حفر زمزم ، وضع الغزال الذهبي فوق جدار الكعبة ، سرقة الغزال ) بشكل منفصل غير متصل ، و لذلك فإن اشكاليته تخطئ اتجاهها الصحيح ، و يصبح محرك الاحداث لديه هو صراع القرابات الاسرية على المقدس ، اما خلف هذا المقدس فلا يفطن له، بل الاكثر من ذلك فهو يقوم بلي عنق معاني الاشياء حتى تتفق مع تأويلاته، و هو ما يتضح في تأويله لمعنى البئر المعطلة الواردة في القرآن ، فالتعطيل هنا يصبح اراديا و دليلا على القداسة و ليس نتيجة للظلم و علامة لخراب القرية صاحبته كما هو واضح في الاية التالية : " فكأين من قرية اهلكناها و هي ظالمة فهي خاوية على عروشها و بئر معطلة و قصر مشيد " سورة الحج. فهذه الاية تعني ان الدولة/القرية تخرب/تهلك بسبب الظلم الذي يؤدي الى توقف الانتاج و وسائله (بئر معطلة) و هجرة الناس منها (خاوية على عروشها) و بقاء قصورها المشيدة شاهدة على العمران الذي كانت تنعم به ، لكن فاضل يماثل بين البئر المعطلة المذكورة في القرآن و بئر زمزم بشكل مغلوط قائلا :
240 ص : بيد ان تعطيل الابار و ممارسة طقوس اهداء الحلي ...لها يتصل بتقاليد رائعة فالبئر في فلسفة العرب القدماء ...تترك فلا يقترب منها احد ...و تصبح مقدسة (محرمة) لا يقترب منها احد .
ص 241 : ان خوف قريش من اعادة حفر زمزم يقع في نطاق ...الخوف الغريزي من وقوع العدوان على المقدس .
ص 241 : كل هذا يعني ... لانه ماء مقدس اوقفته الجماعة المتعبدة لحيواناتها لا يجوز للبشر ان يقتربوا منه .
و نحن نرى انه اخطأ في فهمه لمعنى الاية ، فمعطلة لا تعني ابدا مقدسة او محرمة ، بل تعني شكلا من اشكال هلاك القرية كما ورد في الاية ، فالتعطيل لا يعني التحريم بل يعني تدمير البئر و منعها من الاستخدام بكل بساطة . كما ان معارضة قريش لحفر زمزم يندرج في سياق سطو نوفل على ارض عبد المطلب لمنعه من ممارسة الزراعة . ثم انه كيف يمكن للحيوانات ان تشرب من البئر و هي مردومة بدليل ان جرهم طمرتها و ان عبد المطلب اعاد حفرها حتى " انبط الماء في القرار "(ص242) ؟
ان فاضل يكاد في احدى المرات ان يلامس لب الموضوع بقوله : ص 247 و 248 : "رواية (حفر بئر زمزم) تتعلق بهذا الجانب المسكوت عنه في دين عبد المطلب فهو دين جديد يقوم على ابطال عقيدة (البئر المعطلة) السائدة و منع تقديم القرابين لها" . و تعليقنا على ذلك هو نعم لقد اراد عبد المطلب ابطال عقيدة البئر المعطلة بمعنى ابطال عقيدة القحط و اقتصادها الرعوي المحرم للزراعة اما عن منع تقديم القرابين فهذه مسألة ثانوية و لا اهمية لها . فما يهم عبد المطلب ليس ابطال شعائر تقديم القرابين للبئر المعطلة بل بعث الزراعة ، و تسييدها داخل مجتمع مكة الرعوي .
يبقى ان نشير الى ان عبد المطلب قام بعمل لافت بذبحه لمائة من الابل فداء لابنه عبد الله. لقد عنى من خلال عمله هذا على تأكيد المسار الذي اتخذه طواعية رفقة قبيلته ، و توجيه رسالة وضحة لخصومه الرعاة ، لأن ما قام به هو في الواقع اعدام للثروة الحيوانية و تبذير لها و اعلان بانه لا يخشى الفقر ، و بانه سيعوضها بالثروة الزراعية .















اصل الصراع :
لا يهمل الكاتب الصراع الرزاعي الرعوي ، بل يناقشه و يحلله ، و لكن وجه الاعتراض هنا هو انه لا يجعله محور اشكالية كتابه ، بل فقط مكملا لها . فماذا قال عن هذا الصراع ؟
يعود الكاتب بهذا الصراع الى اصوله الاسطورية الاولى ، اي اسطورة صراع هابيل و قابيل ، هابيل الراعي و قابيل المزارع ، و بقية القصة معروفة ، فقد تصارع الاخوان و قتل احدهما الاخر، حيث تقول الاسطورة العربية و قبلها التوراتية ، ان الله تقبل قربان هابيل الحيواني و رفض قربان قابيل الزراعي فغضب هذا الاخير و قتل اخاه هابيل الخ .. الى هنا يبدو قابيل المزارع شخصا مغضوبا عليه في الميثولوجيا التراثية فهل هذا صحيح ؟ اذا كان الامر كذلك فهذا يعني ان عبد المطلب كان يسير في الاتجاه الخطأ، و ان قريش كانت على حق ! فكيف يمكن اذن حل هذا الاشكال ؟ الجواب هو ان كلا الاسطورتين التوراتية و التراثية مزيفتان ، و انه بالعودة الى الاصل اي الى الاسطورة السومرية ، فإننا نجد ان المرضي عنه هو المزارع "انتين" و ليس الراعي " ايميش". فلنر ماذا تقول : (23)
يتخاصم اميش (المقابل لهابيل) و انتين (المقابل لقابيل) و يذهبان عند انليل ليحكم بينهما فيعلن هذا الاخير ان انتين المزارع هو المفضل لديه قائلا :
لقد اجرى انتين ماء الحياة في كل بقاع الارض
و اصبح للالهة كل شيء ، انه مزارع الالهة
فيا ايميش يا بني كيف تقارن نفسك بانتين اخيك
هذه كانت كلمات انليل المقدسة العميقة المعبرة
فانحنى ايميش و ركع انتين
و نجد في اسطورة سومرية اخرى "انانا" تبحث عن زوج فيتقدم لطلب يدها "دوموزي" الراعي و "انكمدو" المزارع ، فتفضل انكمدو قائلة :
انا العذراء سأتزوج المزارع
الفلاح الذي يزرع النباتات و يعطي الغلال الوفيرة
الفلاح الذي ينتج الحبوب الغزيرة
لكن دموزي الراعي لا يقبل بالامر و يهاجم انكمدو المزارع بينما يرفض هذا الاخير ان يبادله العداء و هو ما يذكرنا بالايات التالية من سورة المائدة :
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ-;- قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ-;- إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ-;- وَذَٰ-;-لِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30).
تقول الاسطورة :
ايها الراعي لماذا تريد ان تبدأ خصاما ؟
أي دموزي لماذا تريد ان تبدا معي خصاما ؟
ما يوضح ان قصة هابيل و قابيل في التوراة و التفاسير الاسلامية قد تم تحريفها و قلب ادوارها و ان الارادة الالهية كانت منحازة لقابيل/انكمدو المزارع و ان من قتل اخاه هو هابيل/دموزي الراعي و ليس العكس . لقد كانت التوراة لسان حال الرعاة و لهذا قلبت ادوار القصة . ثم انه اذا انتقلنا الى النص القرآني ، فسنجده يثني على المزارعين و يذم الرعاة بدو الجبال كما جاء في الايات التالية:
" أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) " سورة الشعراء. و يضيف القرآن ذاما اختيار قريش سكن الجبال بدلا من الاستقرار بالسهول مذكرا اياهم بمصير ثمود .
" وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ( 45 ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( 46 ) ." سورة ابراهيم
يصبح هكذا اذن، التمايز واضحا بين الفريقين داخل مكة ، فريق المزارعين و فريق الرعاة، فالفريق الاول له رمزه الخاص ممثلا في منحوتة الغزال الذهبي و شخصية قابيل المزارع ، و فريق الرعاة و رمزه العنزة و الهه هبل اله الرعي و الصيد (24) و الذي خلدته القبائل الرعوية بتصويره في صورة صنم ذكر الكاتب ان يده كانت مقطوعة (25) و لهذا تم تعويضها بيد ذهبية لتجسد فيها دلالات البركة و الخير، على حد قوله (26). اما في نظرنا فإن هذه اليد الذهبية هي تعويض ليد اصلية قطعتها القبائل الزراعية اثر صراع سابق يماثل اعتداء ابي لهب على الغزال الذهبي . قطع اليد هذه في نظرنا هو تنفيذ لعملية " التب " التي يمارسها المزارع ضد الراعي اللص.
و يبقى لنا حينما نحلل اسم ابي لهب ان نقول ان كلمة "لهب" يحتمل ان تكون قلبا لكلمة "هبل"، خصوصا اذا علمنا ان هبل كان ايضا اله المحرقات (27) و ان ابا لهب كان اسمه عبد العزى و العزى/ العنزة اله رعوي، و بالتالي فإن الاسمان لهب و هبل يشتركان في معان عديدة ، بل اننا نذهب الى القول بان ابا لهب يحتمل ان يكون سادن معبد هبل ، و لهذا قام بالاعتداء على الغزال الذهبي على اعتبار انه نقضيه السياسي و اللاهوتي ايضا . و نرى ايضا ان فاضل جانبه الصواب حين وصف هبل باله الماء ، لان من له علاقة بالماء هو الغزال الذهبي اما هبل فله علاقة بالنار و لهذا سمي باله المحرقات .
يتضح أننا بعد هذه المرحلة من التحليل ، نكون قد وصلنا الى احداث صراع من نوع اخر . لقد كنا في صراع الغزال و العنزة ، ثم صراع المزارع و الراعي ، ثم صراع هابيل و قابيل ، لنصل ربما الى صراع اخر و هو صراع ابليس و آدم . فابليس من نار و ادم من الطين ، و الطين مادة زراعية تتكون من رمل ممزوج بماء ،و ابليس رفض السجود لادم ، بما يعني ربما رفض القبائل الرعوية الانصياع للقبائل الزراعية . لنتذكر في هذا الصدد ذم القرآن المتكرر للاعراب و اتهامه لهم بالافساد في الارض.
نظن اذن انه من خلال هذا الترتيب للاحداث و الروايات و الرموز و الاساطير تكون الصورة قد اتضحت الآن ، أي صورة الصراع الازلي بين المزارعين و الرعاة ، و الذي ترجم نفسه على ارض مكة في صورة صراع بني هاشم و بني عبد الدار (28) و ممثلهم ابي لهب الذي حشره الاخباريون في خانة الهاشميين رغبة منهم في التعتيم على اصل الدعوة الاسلامية و المحرك الرئيسي للصراع داخل المجتمع المكي. لكن الكاتب و لأنه انطلق من فوضى سردية و لم يدرك الاشكالية الحقيقية فإنه اعتبر الرواية القائلة بان احد ابرز المشاركين في سرقة الغزال ينتمي الى فرع عبد الدار و اسمه مليح بن الحارث بن السباق عبد الدار و هو بالمناسبة الفرع الذي دخل في صراع مرير و متواصل مع ابناء عمومته من بني عبد مناف ، رواية غير حقيقية قائلا : "و يبدو ان اختراع هذا الشخص من جانب الاخباريين المسلمين و هو شخص لا وجود جرى تحت ضغط الشعور المتواصل بالنزاعات التي نشبت داخل شبكة القرابات " (29) رغم انها تشير بوضوح الى الدافع الرئيسي وراء سرقة الغزال الذهبي ، فهذا الشخص لم يتم اختراعه بل يعبر صراحة عن اعتداء الرعاة (بني عبد الدار) على رمز المزارعين (بني عبد مناف).











خاتمة :
نقول في الختام ان مشروع محمد كان استمرارا لمشروع عبد المطلب المتمثل في بعث دولة المزارعين في مواجهة خصومهم الرعاة . ان الكاتب باكتشافه لمروية الغزال الذهبي يكون قد عثر على الحلقة المفقودة من تاريخ الدعوة المحمدية ، فهذه المروية تجيب بوضوح عن السبب الحقيقي وراء ظهور الاسلام ، الذي لم يكن حركة شاذة في تاريخ البلاد العربية ، بل عبر بوضوح عن استمرارية الاشكالية التي عاشتها باستمرار شعوب الهلال الخصيب ممثلة في صراع المزارع و الراعي ، و هو صراع قديم جدا بدليل تخليده من طرف اساطير السومريين.
لقد كان الاسلام ببساطة انتفاضة المزارعين ضد خصومهم الرعاة و لكن روايات الاخباريين الاسلاميين تحت ضغط السلطتين الاموية و العباسية عتمت على اصل الدعوة الاسلامية ، و حرفتها الى مجرد دعوة لنبذ الاصنام .

يوسف رزيــــــــــــــــن





________________________
هوامش :
1. الربيعي (فاضل) ، غزال الكعبة الذهبي ، ص : 33
2. المرجع نفسه ، ص : 48 – 52
3. المرجع نفسه ، ص : 59
4. المرجع نفسه ، ص : 191
5. المرجع نفسه ، ص : 43
6. المرجع نفسه ، ص : 43
7. المرجع نفسه ، ص : 42
8. المرجع نفسه ، ص : 67
9. المرجع نفسه ، ص : 85
10. المرجع نفسه ، ص : 87
11. المرجع نفسه ، ص : 90 - 91
12. المرجع نفسه ، ص : 142
13. المرجع نفسه ، ص : 156
14. المرجع نفسه ، ص : 142
15. المرجع نفسه ، ص : 143 - 144
16. المرجع نفسه ، ص : 161
17. المرجع نفسه ، ص : 112
18. المرجع نفسه ، ص : 162
19. المرجع نفسه ، ص : 162
20. المرجع نفسه ، ص : 162
21. المرجع نفسه ، ص : 189
22. المرجع نفسه ، ص : 190
23. السواح (فراس) ، مغامرة العقل الاولى ، ص : 263
24. الربيعي (فاضل) ، غزال الكعبة الذهبي ، ص : 263-264
25. المرجع نفسه ، ص : 262
26. المرجع نفسه ، ص : 264
27. المرجع نفسه ، ص : 264
28. المرجع نفسه ، ص : 270
29. المرجع نفسه ، ص : 271



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي
- الاساطير المؤسسة للتاريخ الفاطمي
- تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور
- الاسلام في الأسر
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
- عبادة الماء في المغارب القديمة
- سوسيولوجيا الأعيان
- حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
- أحداث 23 مارس 1965
- الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات
- وداعا نابليون
- أنثروبولوجيا الحرام
- تاريخ المطبخ الفرنسي


المزيد.....




- إماراتي يرصد أحد أشهر المعالم السياحية بدبي من زاوية ساحرة
- قيمتها 95 مليار دولار.. كم بلغت حزمة المساعدات لإسرائيل وأوك ...
- سريلانكا تخطط للانضمام إلى مجموعة -بريكس+-
- الولايات المتحدة توقف الهجوم الإسرائيلي على إيران لتبدأ تصعي ...
- الاتحاد الأوروبي يقرر منح مواطني دول الخليج تأشيرة شينغن متع ...
- شاهد: كاميرات المراقبة ترصد لحظة إنهيار المباني جراء زلازل ه ...
- بعد تأخير لشهور -الشيوخ الأمريكي- يقر المساعدة العسكرية لإسر ...
- -حريت-: أنقرة لم تتلق معلومات حول إلغاء محادثات أردوغان مع ب ...
- زاخاروفا تتهم اليونسكو بالتقاعس المتعمد بعد مقتل المراسل الع ...
- مجلس الاتحاد الروسي يتوجه للجنة التحقيق بشأن الأطفال الأوكرا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - غزال الكعبة الذهبي