أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصناعة والزراعة - عبدالله بنسعد - تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّامل والمعمّق- (ALECA) بين تونس والإتّحاد الأوروبي وتأثيراته المدمّرة على القطاع الفلاحي















المزيد.....



تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّامل والمعمّق- (ALECA) بين تونس والإتّحاد الأوروبي وتأثيراته المدمّرة على القطاع الفلاحي


عبدالله بنسعد

الحوار المتمدن-العدد: 5000 - 2015 / 11 / 29 - 00:43
المحور: الصناعة والزراعة
    


تصدير : "صبغ الدكتور -بورينغ- كل حججه بلون ديني عندما صرخ بأعلى صوته في أحد الاجتماعات : يسوع المسيح هو التبادل الحر والتبادل الحر هو يسوع المسيح ! لكنّ كل هذا النفاق لم يكن كافيا لكي يتذوّق العمّال الخبز بأبخس الأسعار. (...) هناك أحد أمران : إما أنه يجب التغافل الكلي عن الاقتصاد السياسي الذي يقوم على إفتراض وجود التبادل الحر أو أنّه يجب الإقرار بأنّ العمال سوف يصيبهم ضرر كبير من القوانين الاقتصادية في ظل التبادل الحر. وخلاصة القول : في الحالة الراهنة للمجتمع ، ما هو إذا التبادل الحر ؟ إنّه ليس سوى مزيد حرية رأس المال"
– كارل ماركس – (خطاب حول مسألة التبادل الحرّ ، كتاب رأس المال م 3 ص 297)
إنتظمت منذ السنة الفارطة وتكثّفت خلال الأسابيع الأخيرة عديد الندوات والبرامج الإذاعية والتلفزية للحديث عن "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" (Accord de libre échange complet et approfondi : ALECA) بين تونس والإتحاد الأوروبي (والتي حضرت أغلبها) حيث كانت الإنطلاقة بندوة 18 جوان 2014 التي عقدها مكتب مفوضية الإتحاد الأوروبي بتونس مع مكونات المجتمع المدني ثمّ الندوة التي نظّمتها "الشبكة الأوروبية/المتوسّطية لحقوق الإنسان" يومي 6 و7 ديسمبر 2014. ثمّ بعد الإفتتاح الرسمي للمحادثات بين تونس والإتحاد الأوروبي يوم الثلاثاء 13 أكتوبر 2015 من طرف وزير التجارة التونسي رضا لحول ومسؤولة التجارة الخارجية في الإتحاد الأوروبي "سيسيليا مالمستروم" وتنظيم "الحلقة الصفر" (Round zéro) من المفاوضات من 19 إلى 22 أكتوبر ، نظّم "المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية" يوم 13 أكتوبر ندوة علمية حول إتفاق التبادل الحرّ على الإقتصاد التونسي كما نظّم الإتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري بالإشتراك مع مكتب المفوضية الأوروبية بتونس يوم الخميس 29 أكتوبر 2015 ندوة علمية لتدارس نفس الموضوع وكذلك فعلت كنفدراليّة المؤسسات المواطنة التونسية يوم 2 نوفمبر 2015 ثمّ تلاها مركز الدراسات والبحوث الإقتصادية والإجتماعية (CERES) حيث نظّم ندوة لنفس الغرض بالتعاون مع مكتب مفوضية الإتحاد الأوروبي بتونس وجمعية "أفراس" يوم الإربعاء 11 نوفمبر 2015 وآخرها (قبل نشر هذا المقال) الإجتماع الذي ضمّ 3 غرف تجاريّة مشتركة هي الغرفة التونسية/الفرنسية والتونسية/الايطالية والتونسية/الإلمانيّة يوم 13 نوفمبر الفارط وينوي الإتحاد العام التونسي للشغل تنظيم ندوة علميّة في نفس الموضوع خلال الاسابيع القادمة. ولفضح هذا الإتفاق الذي أعتبره ثاني أكبر برنامج مدمّر للإقتصاد بعد برنامج الإصلاح الهيكلي الذي وقع تطبيقه بداية من سنة 1986 والذي تسبّب في غلق آلاف المؤسسات الإقتصاديّة وطرد مئات الآلاف من العمّال وتعميق مشاكل البطالة والفقر والتهميش ، أقوم بنشر هذه الدراسة لعلّ الأحزاب والمنظمات والجمعيات المدافعة عن الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والسيادة الغذائية تتحرّك قبل فوات الأوان وتتحمّل مسؤولياتها كاملة في التصدّي وبكلّ حزم لهذا المشروع الإستعماري الذي سيخرّب ما تبقّى من المكتسبات.
1. مقدّمة لا بدّ منها
لا يمكن فهم "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" إلاّ إذا وضعناه في إطاره العام أي في إطار العولمة الليبرالية الشرسة التي طفت على السطح بعد سقوط جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفياتي وإنفراط عقد بلدان أوروبا الشرقيّة في أواخر الثمانينات وهو ما يحتّم التعريف بالعولمة والتذكير بآلياتها.
ولو نعد قليلا لقراءة التاريخ نجد أن الإستراتيجيين الأمريكيين وضعوا سنة 1947 (بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) ما سمّي بـ "سياسة الإعتراض" (Politique d’endiguement) لمحاولة التصدّي للزحف الشيوعي في العالم. لكن بعد إنتصار الثورة المضادة في الإتحاد السوفياتي ، كلّف بيل كلينتون (الذي صعد إلى دفّة الحكم سنة 1993) مستشاره للأمن القومي المدعو "أنطوني لايك" للبحث عن سياسة جديدة تأخذ بعين الإعتبار التحوّلات الحاصلة ، فإستنبط سياسة جديدة سميت بـ "سياسة التوسّع" (Politique d’élargissement) أي توسيع نفوذ إقتصاد السوق (أنظر مقالنا بعنوان "العولمة الليبرالية : التعريف ، الآليات والنتائج" الصادر بجريدة الشعب بتاريخ 3 جوان 2006). أما الأسس التي ترتكز عليها هذه السياسة فهي الآتية :
-;- ضرورة سيطرة الولايات المتحدة على العالم سياسيا وإقتصاديا وثقافيا وذلك لفتح أقصى ما يمكن من الأسواق للشركات والإحتكارات الأمريكية لبيع منتوجاتها وتحقيق أقصى ما يمكن من الأرباح.
-;- ضرورة إعتماد الولايات المتحدة على المؤسسات المالية العالمية وتوجيهها لخدمة مصالحها : البنك العالمي وصندوق النقد الدولي (الذان كلفا بفرض ما يسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي للإقتصاد) إضافة إلى المنظمة العالمية للتجارة التي وقع بعثها سنة 1995 وتكفلت بالتحرير الكيل للتجارة العالمية.
-;- ضرورة إستعمال الولايات المتحدة للحل العسكري كلما لزم الأمر ولو دون موافقة مجلس الأمن (وهو ماحصل في العراق بالأساس)
-;- ضرورة التشهير والتصدي لدول الشرّ (Les Etats voyous) التي ترفض هذا النظام العالمي الجديد (كوبا ، كوريا الشمالية ، سوريا ، إيران ...)
نلاحظ إذا أن ما قام به الرئيس الأمريكي الأسبق بوش وخليفته حاليا أوباما ليس سوى تطبيقا حرفيا لهذه الأسس التي وضعها أنطوني لايك.
إذا يتضح جليا أنه لا يمكن فهم ما يحدث الآن دون الإشارة إلى التحوّل الإستراتيجي الذي حصل منذ سنة 1989 بإنتصار الثورة المضادة في الإتحاد السوفياتي وبقية بلدان أوروبا الشرقية وهو ما أدّى إلى إنفلات الرأسمالية من تحت عقالها حيث فسح لها المجال لمزيد نهب وإضطهاد الشعوب والأمم.
لكنّ الصراع بين الإمبرياليات (وخاصّة بين الولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمى والإتحاد الأوروبي كتكتّل كبير) للسيطرة على أسواق تلك البلدان التي إرتمت بكل قوّة في أحضان إقتصاد السوق وكذلك أسواق بقية بلدان "العالم الثالث" (التي تشهد تطوّرا ديمغرافيّا كبيرا وبالتالي سوقا كبيرا يفتح شاهية الرأسماليّة) وهو ما زاد في تسريع وتيرة البحث عن البرامج والإتفاقيات والإصلاحات التي تقف وراءها البلدان والكتل الإمبريالية لتحقيق أهدافها (برامج الإصلاح الهيكلي ، إتفاقيات الشراكة ، إتفاقيات التبادل الحر ، المناطق الحرّة للتصدير ، الشرق الأوسط الكبير ، الإتحاد من أجل المتوسّط ، إلخ). وقد إحتدّ هذا الصراع خاصّة بعد بروز أزمة الرهن العقّاري في قلب أمريكا سنة 2007 والتي لم تكن أزمة ماليّة كما روّج له منظّروا الليبرالية بقدر ما هي أزمة إقتصاديّة ولكنّها أيضا ليست أزمة إقتصاديّة بحتة بقدر ما هي أزمة تشكيلة إجتماعيّة/إقتصاديّة (الرأسماليّة) وهو ما تؤكّده الأحداث اليوم بسبب إشراف عديد الدول على الإفلاس (اليونان ، إيطاليا ، إسبانيا ، البرتغال ، إلخ) وبروز الحروب وبؤر التوتّر في عديد مناطق العالم (سوريا ، اليمن ، ليبيا ، الصومال ، نيجيريا ، إلخ) وهو ما أسقط نظريّة أحد أكبر منظّري الليبرالية الشرسة والمتوحّشة "يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما" وفضح كذبه وهو الذي تحدّث عن الإنتصار النّهائي للرأسماليّة بقيادة الولايات المتّحدة في كتابه "نهاية التّاريخ والإنسان الأخير" والذي يصوّر فيه نهاية للتّاريخ بإنتصار اللّيبراليّة على الشّيوعيّة (حسب زعمه طبعا) وكأنّ الشّيوعيّة سادت في يوم ما حتّى يقيّمها ويحكم عليها. فقد كتب يقول : « إن نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى إلى دون رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين ، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية ، إن الأفكار الليبرالية انتصرت بصورة لاتقبل الشك هي وحدها الرأسمالية من امتلكت وتملك الحلول الاقتصادية للعالم ، من خلال اقتصاد السوق الحر »(1). ولتحقيق أهدافها إعتمدت البلدان والكتل الإمبريالية على ثلاث آليّات يقع تطبيقها مرّة واحدة أو على مراحل حسب الظروف. فما هي آليّات العولمة الليبراليّة :
أ. برامج الإصلاح الهيكلي (Programme d’ajustement structurel : PAS): بقطع النظر عن الأهداف السياسية لهذا البرنامج التي لا تخفى على أحد فإنّ الهدف الإقتصادي الرئيسي يتمثّل في ضمان خلاص الديون المتخلّدة بذمة الدول الفقيرة (أنظر مقالنا بجريدة الشعب بتاريخ 24 جوان 1995 بعنوان "كيف يدفع الفقراء 250 الف دولار في الدقيقة"). إذ عرفت سنة 1982 بسنة أزمة الدين حيث أصبحت الأغلبية الساحقة من تلك الدول غير قادرة على خلاص ديونها وبدأ الحديث عن المطالبة بإعادة جدولة الديون أو إلغائها تماما مثلما طرحته بعض الأحزاب أو المنظمات التقدّمية في عديد دول العالم. فكان برنامج الإصلاح الهيكلي الحل الذي إبتدعته الإمبريالية لقطع الطريق أمام إلغاء الديون حيث ترتكز سياسة الإصلاح الهيكلي على خوصصة المؤسسات العمومية لتتمكّن الدول المدانة من سداد ديونها من مداخيل تلك المؤسسات.
ب. المناطق الحرة للتصدير (Zones franches d’exportation : ZFE) : هذه الآلية القديمة نسبيا حيث بدأ تطبيقها منذ بداية السبعينات وكان صاحب الفكرة "روبار ماكنامرا" وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ومدير البنك العالمي فيما بعد ، أصبحت الآن إحدى الآليات الأساسية للإقتصاد العالمي. ويتمثّل دور هذه الآلية في تسهيل إنتصاب الشركات متعددة الجنسيات التي تقوم ببعث المصانع في مناطق تقع تهيئتها للغرض ليقع فيها تحويل أو تصنيع مادة ما تكون المادة الأولية مستوردة من الخارج والبضاعة المصنّعة موجهة كليا للتصدير دون أن يقع توظيف أي معلوم جمركي لا على المادة الأولية الموردة ولا على البضاعة المصدّرة. كل ذلك في غياب كلي لقوانين الشغل ولظروف الصحة والسلامة المهنية حيث يتعرّض العمال (نساءا ورجالا) إلى أبشع أنواع الإستغلال والإهانة والإذلال مثلما بيّنته الدراسة التي أعدتها الكنفيدرالية العالمية للنقابات الحرة (CISL) سنة 2005 بعنوان "المناطق الحرة للتصدير إستغلال أعلى من أجل تنمية أدنى". ومن بين الإهانات التي يتعرض لها العمال والعاملات يمكن ذكر :
* الكشف عن العادة الشهرية لدى الإناث كل صباح من أجل طرد كل عاملة تكون في حالة حيض
* إختبار الحمل كل شهر بإعتماد تحليل الدم أو البول وبالتالي طرد كل عاملة يثبت حملها
* بالمقابل إجبار العمال الرجال على تناول المنشطات (التي أتثبتت التجارب أنها تسبّب أمراضا عديدة منها خاصة السرطان) لتحمّل ساعات العمل الطويلة والشاقة وكأنّهم "أحصنة سباق". أما عدد هذه المناطق التي كانت في حدود سنة 1975 لا تتعدّى 79 منطقة فقد شهد تطوّرا منقطع النظير إذ بلغ سنة 2012 أكثر من 4500 منطقة تشغل أكثر من 100 مليون عامل وعاملة بأجور زهيدة جدّا وكلّها موجودة بدول ما يسمّى بالعالم الثالث.
ج. إتفاقيات الشراكة ومناطق التبادل الحر (Accords d’association et de libre échange : AA et ALE) : تطبيقا لسياسة التوسّع التي قرّرها "أنطوني لايك" والتي تحدثنا عنها سابقا ، نقول بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي أوّل من أمضى سنة 1989 أول إتفاق للتبادل الحر مع كندا ثم تتالت بعد ذلك هذه الإتفاقيات لتشمل تقريبا كل مناطق العالم وهو ما يدل على تعميم هذه الآلية الهامة لتكريس العولمة اليبرالية. وبدون الدخول في تفاصيل هذه الإتفاقيات التي تختلف من واحدة إلى أخرى حسب خصوصيات الدول والمناطق إلا أنها ترتكز كلّها على التفكيك الجمركي ووضع حد للدور الحمائي للدولة وإعطاء إمتيازات كبيرة للمستثمرين أي الشركات متعددة الجنسيات بالأساس. هذه الإمتيازات تصل إلى حد إعطاء المستثمر حق تتبع دولة ما بينما بالمقابل ليس للدولة ، حسب إتفاق الشراكة ، حق تتبع المستثمر مهما قام به من تجاوزات. على سبيل المثال أقدم المستثمر البرتغالي الذي إشترى معمل الإسمنت بقابس بتغيير مصدر الطاقة للمعمل من الطاقة الكهربائية إلى الطاقة المعتمدة على الفحم الحجري Coke de) pétrole) هذه المادة الملوّثة جدّا رغم أنّ قابس تعتبر من أهمّ المدن الملوّثة في العالم وبها أعلى نسبة لمرضى السرطان في تونس. ورغم ذلك لم تحرّك الحكومة التونسية ساكنا ولم تتدخّل لإثناء المستثمر عن إرتكاب هذه الجريمة في حق سكّان قابس لأنّها تعلم بأنّ إتفاق الشراكة الذي أمضته سنة 1995 يمنعها من ذلك. حق التتبع يسير إذا في إتجاه واحد أي لصالح المستثمر فقط. فهل هناك صورة أخرى أوضح من هذه الصورة للدلالة على بشاعة وشراسة العولمة الليبرالية ؟
التطوّرالنظري لمسألة التبادل الحرّ
لإعطاء فكرة ولو موجزة عن نشوء التبادل الحرّ ومرتكازاته النظريّة وبدون العودة إلى الجذور الأولى والتاريخية للفكر الليبرالي يمكن أن نقول بأنّ ولادة هذا النوع من التبادل التجاري كانت في نهاية القرن الثامن عشر بردّة الفعل التي قام بها المنظّران الإنقليزيان "الكلاسيكيان" آدام سميث (1723-1790) ودافيد ريكاردو (1772-1823) على معتنقي "النظريّة التجاريّة البحتة" (Les mercantilistes) الذين يقولون بأنّ "التجارة ليست سوى لعبة محصلتها صفر" (le commerce n’est qu’un jeu à somme nulle).
فقد بيّن "آدام سميث" بأنّه بتقسيم العمل ، على مستوى المنشأة ، والتخصّص في المهام يمكن الربح في الإنتاجية وبالتالي التقليص في كلفة الإنتاج. ويضيف سميث بأنّ أيّ دولة لا يجب أن تتأخّر في الشراء من الخارج لأي بضاعة يكون ثمنها أقلّ من ثمن نفس البضاعة التي يقع إنتاجها محلّيا. لكنّ أهمّ تطوير لهذه النظريّة هو ذاك الذي قام به "دافيد ريكاردو" الذي أكّد على أن إحدى الركائز الأساسية للإقتصاد الليبرالي هي "الميزة المقارنة" أو "الفائدة المقارنة" (Avantage Comparatif) وقد أعتمدت تحاليله كمرجع رئيسي لإتفاقيات "الغات" (GATT).
ويفسّر "ريكاردو" ذلك مؤكدا بأنه من المفيد لدولة ما بأن تختص في إنتاج بضاعة تكون كلفتها أقل من كلفة نفس البضاعة التي ينتجها شريكها التجاري.
وهكذا إنبنت نظرية "التكامل الإقتصادي" (Intégration Economique) على مفهوم "الميزة المقارنة". غير أنه يجدر التذكير بأن عملية التكامل الإقتصادي محكومة بعدة عوامل لا إقتصادية فقط وإنما إجتماعية وخاصة سياسية لا يسمح المجال بالتعرض لها بالتفصيل.
ولكي نفهم معنى التكامل الإقتصادي يجب أن نعود إلى ما كتبه رجل الإقتصاد الليبرالي "بالسّا" (Balassa)(2) الذي ميّز بين 5 مراحل للتكامل الإقتصادي مرتبطة بمستوى العلاقة بين البلدان نوردها في الجدول التالي :
جدول عدد 1 : مراحل التكامل الإقتصادي والعلاقة بين البلدان الشريكة
مستوى العلاقة التقليص من تقييد التجارة إعتماد تعريفة خارجية موحّدة إلغاء تقييد حركة اليد العاملة تطابق السياسات الإقتصادية
منطقة التبادل التفاضلي نعم لا لا لا
منطقة التبادل الحر نعم لا لا لا
وحدة جمركية نعم نعم لا لا
سوق مشتركة نعم نعم نعم لا
وحدة إقتصادية نعم نعم نعم نعم
يتضح من خلال هذا الجدول أن منطقة التبادل الحر التي تهمّنا بالأساس لا تمكّن إلا من تحرير التجارة بينما بالمقابل لا تسمح بتنقل إحدى أهم عناصر الإنتاج ألا وهي اليد العاملة وهو ما يعني بأنّ هذا النوع من الشراكة ليس له أي بعد إجتماعي بل يخدم طرفا واحدا (الإتحاد الأوروبي) ضد طرف آخر (تونس) وذلك لا فقط بفتح الأسواق الخارجية أمام بعض المواد الفلاحية التي تنتجها تونس وإنّما فتح أسواقها أمام البضاعة الخارجية المزاحمة لها.
وهكذا فإنّه يمكن الجزم بأنّ التبادل الحرّ هونظام تجاري عالمي يرتكز على رفع الحواجز الجمركية والقانونية وعلى حريّة تنقّل البضاعة والخدمات دون تنقّل اليد العاملة.
المراحل المختفلة للتبادل الحرّ
أمّا التطبيق العملي لهذه النظريّة فقد حصل في إنقلترا سنة 1846 بما عرف بـ "إلغاء قوانين الحبوب" (The abolition of the Corn Laws). وقد تحدّث كارل ماركس عن ذلك قائلا : "إنّ إلغاء قوانين الحبوب في انكلترا هو أعظم انتصار حقّقه التبادل الحر في القرن التاسع عشر. ففي كل البلدان التي يتحدّث فيها المصنعون عن التبادل الحر ، فإنهم يقصدون في المقام الأول التبادل الحر للحبوب والمواد الخام. فمزاحمة الحبوب المتأتّية من الخارج والتصدّي لها هو مسألة غاية في القذارة وهو ما يعني بكل بساطة المضاربة على مجاعة الشعوب". ثمّ بعد ذلك قامت فرنسا في عهد نابوليون الثالث بالسير على درب إنقلترا ، بعد إمضاء إتفاق التجارة بين فرنسا وإنقلترا سنة 1860 ، حيث أصدرت قانونا يسير في نفس الإتجاه. وهكذا ساد نظام التبادل الحرّ في أوروبا إلى حدود سنة 1876. لكنّ الأزمات التي عرفها النظام الرأسمالي في بداية القرن العشرين وخاصّة بإندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 ثمّ أزمة 1928 التي أجبرت البلدان الرأسمالية إلى العودة إلى إعتماد نظام الحماية. ثمّ طفى نظام التبادل الحرّ على السطح والظهور من جديد بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية بإمضاء "الاتفاقية العامّة للتعريفات الجمركية والتجارة" (Accord général sur les tarifs douaniers et le commerce : GATT) بتاريخ 30 أكتوبر 1947 غير أنّ نظام الحماية بقي سائدا حتّى أواخر السبعينات. لكنّ أهمّ فترة وقعت فيها هيكلة التبادل الحرّ عبر إمضاء "إتفاقيات التبادل الحرّ" (ALE) ، التي شملت تقريبا كل قارات العالم ، بدأت بظهور "منظمة التجارة العالميّة" التي تأسست في غرة جانفي 1995 والتي أخذت على عاتقها تحرير التجارة على المستوى العالمي.
وإذا أردنا بأنّ نقيّم ولو من خلال نتائج الإقتصاد الكلّي فإنّنا يمكن أن نجزم بأنّ التبادل الحرّ لم يحقّق النتائج التي بشّرنا بها منظّروه ولم يتحقّق النمو الإقتصادي المرجو خلال السنوات العشرين الأخيرة بل بالعكس كان النموّ الإقتصادي العالمي ضعيفا جدّا على المستوى العالمي إلاّ في البلدان التي لم تنخرط في هذه المنظومة مثل الصين والهند التي حقّقت نسب نموّ بعيدة جدّا عن نسب نموّ كلّ البلدان الصناعية الأخرى إضافة إلى أنّ تلك النسب كانت أعلى بكثير خلال سنوات الستينات والسبعينات (عندما كانت الحماية سائدة) من الفترة الحاليّة. تقول ماجدة تامر "وبالرغم من هذا الفشل البائس فان العقيدة النيوليبيرالية حول فضائل التبادل الحر تستمر في فرض نفسها بفضل جهاز اقتصادي - سياسي – إيديولوجي ، ليس هناك ما يضاهيه في حجمه وسلطته"(3).
2. مراحل وآليات الشراكة بين تونس والإتحاد الأوروبي وصولا إلى مرحلة التبادل الحرّ
تاريخ علاقة الشراكة بين تونس وأوروبا ضارب في القدم فتونس هي أوّل بلد في شمال إفريقيا يعقد أوّل إتفاق تجاريّ مع الإتحاد الأوروبي وكان ذلك سنة 1969 بعد فشل تجربة التعاضد ونزوع نظام بورقيبة إلى إنتهاج نهج ليبراليّ صرف. أمّا الإتفاقية الثانية التي وقع إمضاؤها في 25 أفريل 1976 فقد أملاها توسّع السوق الأوروبية بإنضمام كل من بريطانيا والدنمارك وهولندا ليمرّ عدد بلدان السوق من 6 إلى 9 دول. ولمزيد توطيد تلك العلاقة التي بدأت تتجذّر نتيجة نجاح "التلميذ النجيب" (تونس) في تطبيق تلك الخيارات الليبرالية المملاة من طرف التكتّل الأوروبّي الذي بدأ في التشكّل في إطار "الصراع بين الإمبرياليات" (الذي تحدّث عنه لينين بإطناب) ، وقع فتح تمثيليّة دائمة للمجلس الأوروبي في 27 أفريل 1979 تحوّلت يوم 1 ديسمبر 2009 إلى مكتب مفوّضية الإتحاد الأوروبي بتونس. ثم بعد إنضمام اليونان سنة 1980 وخاصة أسبانيا والبرتغال سنة 1986 وقعت مراجعة الإتفاقية مرّة أخرى وإمضاء بروتوكول إضافي سنة 1987 (علما وأنّ الهدف من مراجعة كلّ تلك الإتفاقيّات عند كلّ توسّع للسوق الأوروبي هو حماية المنتوجات الفلاحيّة للدول الأوربيّة المنظمّة حديثا من مزاحمة المنتوجات التونسية المصدّرة لتلك السوق). غير أنّ النقلة النوعيّة في علاقة تونس بالإتحاد الأوروبي تمثّلت في إمضاء "إتفاق الشراكة" بتاريخ 17 جويلية 1995 والذي دخل حيّز التنفيذ يوم 1 مارس 1998 وكان يهدف إلى تركيز "منطقة للتبادل الحرّ" بداية من 1 جانفي 2008 لم تشمل إلاّ المواد الصناعيّة.
ولمزيد ربط الإقتصاد التونسي بالإقتصاد الأوروبي (في إطار تقاسم مناطق النفوذ بين الدول والكتل الإمبريالية) وبعد توسيع الإتحاد الأوروبي سنة 2004 بقبول 10 دول جديدة ، وقع وضع "برنامج عمل" (Plan d’action) سنة 2005 لمدّة 5 سنوات وقع فيه تحديد الأهداف الإستراتيجيّة لتلك الشراكة. وبعد إنتهاء صلوحية ذلك البرنامج وبعد إندلاع إنتفاضة 14 جانفي قام الإتحاد الأوروبي بوضع "برنامج عمل" جديد لفترة 2013/2017.
هذا هو إذا الإطار العام الذي يندرج فيه "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" لكنّ هذا الإتفاق ليس إتفاقا معزولا بل هو جاء نتيجة حصول تونس على رتبة "الشريك المميّز" التي أمضى عليها حمّادي الجبالي (رئيس حكومة "النهضة" السابق) يوم 19 نوفمبر 2012. فما هو "الشّريك المميّز" ؟ وما هي أهدافه وتجلّياته ؟
3. التعريف برتبة "الشريك المميّز" : "المزيد مقابل المزيد" (more and more)
تكتسي منطقة حوض المتوسط ، أهمية إستراتيجية على الأصعدة السياسية والإقتصادية والأمنية ، لإحدى أهمّ التكتلات الإمبريالية ألا وهو "الاتحاد الأوروبي" لذلك يندرج القبول بالنظام التونسي كشريك مميّز في إطار كبح المسار الثوري الحالي من جهة ومحاولة حل جزء من الأزمة الرأسمالية الخانقة التي يعيشها الإتحاد الأوروبي وذلك بفتح السوق التونسية على مصراعيها أمام البضائع الفلاحية والإستحواذ على قطاع الخدمات (البنوك ، النقل ، السياحة ...) خاصة من جهة أخرى. لذلك فإنّ منح النظام التونسي صفة الشريك المميّز يتطلب من حكومته الرجعية العميلة التزاما مميّزا هو الآخر يتمثل في تطبيق الشروط التي تقوم عليها تلك المرتبة والمتمثلة خاصة في تركيز ما يسمّى بـ "منطقة التبادل الحرّ" (Zone de libre échange) التي تعني أساسا المواد الفلاحية والخدمات. وللتذكير فإنّ إمضاء الإتفاقيات الخيانية مع الإتحاد الأوروبي (الذي كان يسمّى السوق الأوروبية المشتركة) بدأت مع العميل بورقيبة وتواصلت مع العميل بن علي (مثلما سنبينه لاحقا) لكنّها وصلت أوجها مع حكومات الترويكا الرجعية العميلة التي إلتزمت بمواصلة المهمة بإمضاء إتفاقية "الشريك المميّز".
ويقوم مشروع "الشريك المميّز" على فكرة توسيع دائرة العلاقات بين الإتحاد الأوروبي و النظام التونسي لتشمل معظم الأنشطة بإستثناء العضوية في المؤسسات التقريرية والتنفيذية للإتحاد الأوروبي، مما يتيح للنظام التونسي الحضور في بعض الوكالات الأوروبية من قبيل "المرصد الأوروبي للمخدرات" و"الوكالة الأوروبية للأمن". وللتذكير أيضا فإن أهم ما عرفته علاقات دول حوض المتوسط خلال السنوات الأخيرة خاصة سنة 2008 هو ميلاد الإتحاد من أجل المتوسط ، وهو في الأساس مشروع فرنسي طرحه نيكولا ساركوزي سنة 2007 قبل أن يتبناه الإتحاد الأوروبي سنة 2008 ليصبح مشروعا أوروبيا ضخما من أجل إتمام الشراكة الأورومتوسطية - ما يسمى بمسلسل برشلونة – ويتمثّل الهدف المعلن في "تجاوز الخلافات السياسية والتركيز على التعاون في كل المجالات التي تلتقي فيها مصالح الجميع" لكنّ الهدف الخفي هو خلق الأرضية المناسبة للتطبيع مع الكيان الصهيوني وإدامجه داخل الفضاء المتوسّطي.
فكل بنود هذه الاتفاقية لا تخدم بتاتا مصلحة الإقتصاد التونسي ومنها طلب إعادة النظر في اتفاقية تحرير المبادلات من أجل اتفاقية معمقة وشاملة. وكذلك طلب اتفاقية جديدة تتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر لمنحه المزيد من الامتيازات (سيقع تنقيح مجلة الإستثمارات وتمكين الأجانب من ملكية الأراضي الفلاحية) واتفاقية في الأسواق العمومية لتمكين الطرف الأوربي من المشاركة في الاستثمار العمومي وفي طلبات العروض وغيرها من البنود التي لا تزيد إلاّ في ربط القطر بالإستعمار. طبعا هذه الإتفاقية تجعلنا نؤكّد بأنّ المعادلة مختلة بين تونس والإتحاد الاوروبي بل هي تميل أكثر إلى ما يعرف بمنطق "المزيد مقابل المزيد" (more and more) كما أنها مواصلة لمزيد فرض الخيارات الليبرالية التي لا تخدم إلاّ مصلحة الإحتكارات الأوربية وحلفائها من الرأسماليين الكمبرادوريين في القطر. فما هو مضمون هذا الإتفاق الذي يعتبر "وصفة جاهزة" (مثل وصفة الإصلاح الهيكلي للبنك العالمي) يقدّمها الإتحاد الأوروبي إلى كلّ بلد يطلب إمضاء الاتفاق مثلما حصل مع الأردن والمغرب والكيان الصهيوني من قبل ؟
أ. من ينتهك حقوق الإنسان ، يطالب بإحترامها
وثيقة "الشريك المميز أو الوضع المتقدم" في البعد السياسي تركّز على الحوار السياسي الخاص بالتطورات والأزمات الجهوية والدولية وذلك عبر إحداث لجنة برلمانية مشتركة بين البرلمان التونسي والبرلمان الأوروبي وتشجيع التعاون بين الأحزاب السياسية ومكونات ما يسمى بالمجتمع المدني. لكن أهمّ ما وقع التأكيد عليه هو التركيز على جانب حقوق الإنسان (نحن دائما في وضعية المستعمر المالك للحقيقة الذي يعطي دروسا للمستعمر القاصر) حيث سيقع إعتماد عدّة آليات (سنتعرّض لها لاحقا) من أجل تكريس الإصلاحات في مجال حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات العامة وإصلاح الانتخابات وإصلاح الجهاز الأمني وإصلاح الجهاز القضائي وكذلك الإعلام ودعم ما يسمى "العدالة الانتقالية" والبحث الحثيث على ترسيخ الحكم الرشيد في علاقة الإدارة بالمواطنين والمؤسسات وغيرها.
لكن في الوقت الذي يتحدث فيه الإتحاد الأوروبي عن ضرورة احترام حقوق الإنسان وتكريسها على أرض الواقع ، نجده يمنع عبر القوانين المطبقة داخل كل البلدان المكونة له حق التنقل الذي تنادي به المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان (البند 13 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص على "حق أي شخص في اختيار مكان إقامته وحرية التنقل داخل أي بلد والعودة إلى بلده الأصلي متى شاء") ، كما تنتهك كل بلدانه الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والإقتصادية للمهاجرين المتواجدين فوق أراضيها شرعيين كانوا أم سريين بل تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية بامتهان كرامتهم بالتمييز العنصري (في الشغل وفي الشارع) والعنف البوليسي (إغتيالات ، تعذيب ، سجن ...) وغيرها من مظاهر الإنتهاكات.
هكذا إذا يستعمل الإتحاد الأوروبي مجال حقوق الإنسان والحقوق الأساسية والمواضيع ذات العلاقة كشعارات للإبتزاز والضغط على البلدان التي يريد مزيد إستغلالها ونهبها.
أمّا الآليات التي سيقع تطبيقها فتتمثل في :
• انضمام تونس إلى اتفاقيات المجلس الأوروبي في مجال حماية الحقوق الأساسية
• تقوية الحوار والتعاون في مجال محاربة العنصرية والعداء للأجانب.
• التعاون للإصلاح السياسي والتشريعي والإداري الضروري في مجال حقوق الإنسان
• المساندة الأوروبية للإصلاح التشريعي في مجال حماية النساء من العنف.
• التعاون من أجل تكييف التشريعات مع المعاهدات الصادرة عن الأمم المتحدة الخاصة بالأشخاص المعاقين.
• التعاون من أجل تقوية حقوق الطفل بتطبيق المواثيق المتعلقة بحقوق الطفل وبالخصوص تقوية التشريعات في مجال الحماية من تشغيل الأطفال.
غير أنه لا يمكن أن ننهي هذه الفقرة المتعلقة بالجانب السياسي دون الإشارة إلى إصرار الإتحاد الأوروبي على دعم "النمط البورجوازي للدولة" الذي يرتكز على أهمّية دعم أجهزة القمع المادي المباشر (الجيش، الشرطة ، المحاكم ، السّجون...) وكذلك أجهزة القمع الإيديولوجي المقنع (البرلمان ، الإعلام ، المدرسة...) وما التركيز الكبير على الانتخابات والتدخّل لصالح أطراف دون اخرى (عديد اللقاءات جمعت السفراء الأوروبيين وخاصة منهم السفير الفرنسي بالشيخين راشد والباجي) إلاّ دليل على نية الإتحاد الأوروبي إستثمار الإنتفاضة لصالحه وترويض كل المكونات السياسية المنخرطة في هذا المشروع.
ومن أجل تحقيق ذلك خصّص الاتحاد الاوروبي مبلغ 400 مليون أورو (حوالي 900 مليار من المليمات) عوضا عن 240 مليون التي كانت مقررة قبل 14 جانفي بدعوى "مرافقة الاصلاحات الضرورية بهدف إرساء دولة ديمقراطية...".
وفي إطار الصراع بين الإمبرياليات ورغم الإرتباط العضوي لحركة النهضة بالإمبريالية الأمريكية ، فإنّ الإتحاد الاوروبي سارع بتمويل عديد الشبكات والجمعيات ذات الأهداف الرجعية التي فرختها حركة النهضة بعد 14 جانفي وبذلك يمكن القول بأنّ هذه الحركة العميلة إستأثرت بنصيبها من "الدعم المسموم".
ب. لعب دور الشرطي لمقاومة الهجرة السريّة والتصدّي للعصابات الإرهابية
لا يختلف إثنان في أنّ الإتحاد الأوروبي يعلم جيدا واقع حقوق الإنسان في القطر وهو متيقن أنّ بلادنا تحتاج إلى سنوات عديدة إن لم نقل إلى عشرات السنوات من أجل الوصول إلى المستوى المأمول في هذا الجانب لذلك فإنه يمكننا الجزم بأنّ الخلفيات التي تحكم الدول الأوروبية في إيلاء تونس هذا الوضع تبقى خلفيات أمنية صرفة الغاية منها ضبط الحدود الجنوبية لأوروبا ، سيما في ظل تزايد وتيرة الإرهاب بعد سيطرة ما يسمّى بـ "القاعدة في المغرب الإسلامي" على مناطق عديدة جنوب المتوسط (ليبيا ، الجزائر ، موريطانيا ، الصحراء الكبرى ، مالي والنيجر وأخيرا تونس). فالهاجس الأمني في منطقة البحر الأبيض المتوسّط هو أكثر ما يشغل الإتحاد الأوروبي منذ أواخر الثمانينات (بداية ظهور تنظيمات إسلامية مسلحة في الجزائر) ، حيث جاء فـــي إعلان برشلونة (أو ما عرف بإسم الإتحاد من أجل المتوسط) الصادر في 28 نوفمبر 1995 مجموعة من النقاط الأمنية المهمة أكدت على ضرورة تعزيــز التعاون و احترام السلامة الترابية والوحدة الوطنية للدول المتوسطية والامتنـاع عن التدخل فــي شـؤونها الداخلية والخــارجية ومكــافحة الإرهــاب وإلتـزام بلدان جنوب المتوسط بمراقبة الهجـرة غير الشرعية بهدف الحد من التدفق الغير النظامي للمهاجرين السريين على بلدان الضفة الشمالية.
لذلك أصبح الإتحاد الأوروبي يركّز على ما يسمّى بالهجرة الانتقائية خاصة وأنّ تونس تمثّل البوابة الإفريقية في الاتجاهين (نقل وبيع سلع الإتحاد الأوروبي في إفريقيا وهجرة اليد العاملة الإفريقية إلى أوروبا) ، لذلك فإن الإتحاد الأوروبي محكوم عليه بالانفتاح على الجنوب لكن بشروطه ، أي عبر نقل السلع والأموال دون السماح لليد العاملة لدخول أوروبا.
لكن حريّ بنا أن نؤكّد بأنّ البرامج التي طرحت لـ "مكافحة" الهجرة السرية ترتكز على الجانب الأمني فقط (مثل تركيز معسكرات لاحتجاز المهاجرين السريين الذين يقع إعتقالهم على شواطئ الدول المغاربية) دون البحث عن أسباب الهجرة السرية المرتبطة بفشل أنماط التنمية التي انتهجتها بلدان جنوب المتوسط بتوصيات ودعم من بلدان شمال المتوسّط.
أما داخل البلدان الأوروبية فنفس التصورات الأمنية هي التي إرتكزت عليها السياسات المتعلقة بالعمالة الأجنبية والهوية والتنوع الحضاري والثقافي إذ تفاقمت أساليب وآليات الضغط على الجاليات الأجنبية وفرض الشروط والتأشيرات لمنع التحرك البشري نحو الضفة الشمالية إضافة إلى تنامي ظاهرة العداء للأجانب (العنصرية) نظرا للتوظيف السياسي لمسألة الهجرة من طرف بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة. هكذا إذا يفرض الإتحاد الأوروبي على الحكومة التونسية القيام بدور الشرطي المطالب بتأمين وحماية الحدود الجنوبية للمتوسّط من كل إختراق سواء من جحافل الهجرة السرية أو من عصابات القاعدة الإرهابية.
لذلك نقول بأنّ حل مشكل ظاهرة الهجرة السرية لا يمكن أن تقتصر على المعالجة الأمنية بقمع المهاجرين واعتقالهم وإمتهان كرامتهم بل يجب أن يقع فرض شراكة حقيقية لا تقتصر فقط على التبادل التجاري والسلعي الذي لا يخدم إلا بلدان الإتحاد الأوروبي وإنما تسمح أيضا بحرية تنقل الأشخاص بين الضفتين.
هكذا إذا ستجد تونس نفسها مجبرة على الانخراط في كل الخطط الأمنية التي يضعها الإتحاد الأوروبي في مواجهة أكبر الملفات الأمنية إزعاجا عبر الآليات التالية :
- إنضمام تونس إلى الوكالة الأوروبية لأمن الطيران (EASA).
- إنضمام تونس إلى المرصد الأوروبي للمخدرات (EMCDDA).
- إنضمام تونس إلى المعهد العالي لمحاربة الجريمة.
- إنضمام تونس إلى برنامج تنمية ميكانيزمات مراقبة الحدود.
- مشاركة تونس في عمليات تكوين ودورات المدرسة الأوروبية للشرطة (CEPOL).
- وضع اتفاق تعاون بين تونس والمكتب الأوروبي للشرطة (EUROPOL).
ج. من أجل مزيد نهب خيراتنا : التوسيع في الإمتيازات للإستثمار الأجنبي وتحرير قطاع الخدمات
البند المتعلّق بالإستثمارات الأجنبية ينصّ على ضرورة التوسيع في الإمتيازات الممنوحة للإستثمار الأجنبي لتشجيعه على الإنتصاب في تونس كالتخفيف من أعباء الجباية كآلية لتخفيف كلفة الإنتاج وتوفير كل التسهيلات الإدارية والتشريعية لإنتصاب المؤسسات الأجنبية في تونس وكذلك لتشريع مرونة التشغيل التي ترتكز على مسألتين هامتين : (1) إنتداب العمال عبر العقود محددة المدّة دون غيرها (2) عدم تدخّل الدولة لتحديد الأجر الأدنى مع التأكيد على حريّة المستثمر في غلقه مؤسسته كلما دعت الضرورية الإقتصادية أو الإجتماعية لذلك وهو ما يعني طرد العمال دون ضوابط. علما وأنّ تدخّل الرّأسمال الأجنبي المُباشر في الاقتصاد المحلّي ركيزة أساسيّة للنظام القائم. فتُونس خامس بلد إفريقي (والبلد 51 في العالم) من حيث رصيد الرّأسمال الأجنبي الذّي تجاوز 25 مليار دينار في بداية 2011. كما يُساهم بنسبة 24,7 % في إجمالي الاستثمار وبنسبة 7 % في الناتج الداخلي الخامّ. وبالتالي فإنّ إتفاقية "الشريك المميّز" سيزيد من رهن الإقتصاد التونسي للرأسمال العالمي وخاصة منه الأوروبي.
أما بالنسبة لقطاع الخدمات ، الذي إنطلقت الحكومة التونسية في تحريره بصفة تدريجية خاصة في مجال تحرير قطاع الاتصالات (إستحواذ الرأسمال الخليجي على جزء منه : الإمارات وقطر) تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي حيث زار رئيسي هاتين المؤسستين ومساعديهما عديد المرات تونس منذ صعود حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة التي أكد قياديوها في العديد من المرات إلتزامهم بالإتفاقيات والمعاهدات التي أمضاها نظام العميل بن علي فالإتحاد الأوروبي يريد الحصول على نصيبه من كعكة "القاطو" عبر مطالبة النظام التونسي بتحرير هذا القطاع الذي يمثّل مجالا هاما للإستثمار بالنسبة للإتحاد الأوروبي الذي تعاني مختلف بلدانه من ظاهرة تضخّم قطاع الخدمات لديها وبالتالي إنحسار مجالات الإستثمار فيه خاصة في ظل أزمة إقتصادية كبيرة تضرب الإقتصاد الأوروبي منذ سنة 2010.
فكان الحل في التوجه نحو تونس عبر إغرائها بهذه الإتفاقية اللامتكافئة. فقطاع الخدمات يشمل : الخدمات الإجتماعية (التعليم ، الصحة ، السكن ...) والخدمات المالية (البنوك ، التأمين ، الأسواق المالية ...) والخدمات الحياتية (الماء ، الكهرباء ، الطاقة ...) والخدمات اللوجيستيكية (الإتصالات والنقل البري والبحري والجوي). وبلغة الأرقام فإنّ قطاع الخدمات في تونس يستقطب حوالي 43 % من جملة الإستثمارات المحليّة ويشغّل أكثر من 50 % من اليد العاملة.
لذلك فإنّ عملية تحريره ستكون مدمّرة بكل ما في الكلمة من معنى سواء على مستوى التفريط في قطاعات إستراتيجية للرأسمال الأجنبي الذي لن تقوده المصلحة الوطنية للشعب التونسي بقدر ما ستقوده عقلية الربح والربح الأقصى وهو ما سيسرّع في تفكيك النسيج الخدماتي ويزيد في الرفع من نسب البطالة ونسب الفقر (25 %) التي لم تشهد تونس لها مثيلا منذ سنة 1956.
ففيما يتعلّق بتحرير النقل ، نؤكّد بأنّ تطبيق البند المتعلّق بما يسمّى بـ "الحريّة الجوية الخامسة" "أو السماوات المفتوحة " (Open Skies) ستهدّد مصير عمّال شركة الخطوط التونسية حيث أكّد وزير النقل الحالي في أحد البرامج التلفزية يوم 11 نوفمبر الفارط بضرورة تسريح 2000 عامل منهم 1000 عامل سيقع تسريحهم سنة 2016 كمرحلة أولى ثمّ 1000 آخر فيما بعد. فإتفاقيات السماوات المفتوحة ترتكز أولا على الترخيص لحرية العبور لجميع الخطوط بين كل الدول عبر عدد من الاجراءات الهادفة الى الانفتاح والتخلي عن القيود المانعة لحرية الطيران والسماح لكل الشركات الجوية بحرية النشاط في كل المطارات. أما الاجراء الثاني فهو في علاقة مع عدد الرحلات اليومية غير المحدودة على جميع الخطوط وهو ما يمكّن شركات الطيران من وضع استراتيجيات ما يسمّى بالمطار المحوري «hubs» والعمل دون قيود من كل مطار من أي دولة منضوية تحت الإتفاقية. وتبقى من اهم نقاط اتفاقية السماوات المفتوحة امكانية تحديد الاسعار بكل حرية هذه الشروط تمكن شركات الطيران الاكثر قوة من الاستحواذ على خطوط جديدة وزيادة حجم حصصها في السوق.
لكنّ قطاع النقل سيشمل أيضا وزيادة عن النقل الجوي ، حسب الإتفاقية ، المجالات التالي : البنية التحتية ، النقل البحري ، الإستراتيجية البحرية المستقبلية المتوسطية ، النقل البرّي ، أعمال النقل والقناة اللوجيستية. أما في قطاع الخدمات المالية فمن المتوقع أن يتم التحرر من القوانين والتشريعات الوطنية والقواعد والإجراءات المعمول بها حاليا. وبالتالي سنتجه بسرعة نحو التحرير المالي أو ما يسمى بالعولمة المالية. فبعد أن كانت البداية بإمتلاك البنوك الأجنبية لنسبة من رأس مال البنوك التونسية ستمكّن إتفاقية الشريك المميز من الإستحواذ الكلي للبنوك الأوروبية على البنوك التونسية الخاصة وخوصصة البنوك المملوكة من طرف الدولة لتقديمها لقمة سائغة للرأس مال المالي الأوروبي النهم. يقول لينين في هذا الخصوص : »إنّ وظيفة البنوك الأساسيّة والأولى في الوساطة في الدفع وأثناء ذلك تحوّل البنوك الرأسمال النقدي غير العامل إلى رأسمال عامل ، أي إلى رأسمال يدرّ الأرباح وتجمع العائدات النقديّة بشتّى انواعها وتضعها تحت تصرّف طبقة الرأسماليين. ومع تطوّر الشّؤون البنكية وتمركزها في مؤسسات قليلة العدد ، تتحوّل البنوك من وسطاء متواضعين إلى إحتكارات شديدة الحول والطول تتصرّف بمعظم الرأسمال النقدي العائد لمجموع الرأسماليين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الاكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معيّنة أو في جملة من البلدان. وتحوّل الوسطاء الكثيرين المتواضعين إلى حفنة من الإحتكاريين هو وجه أساسي من وجوه صيرورة الرّأسماليّة إلى إمبرياليّة رأسماليّة«(4).
في الختام نؤكّد بأنّ كلّ القوانين المطروحة للنقاش (وهي قوانين غاية في الخطورة على الجانبين الإقتصادي والإجتماعي) وأهمّها "إتفاق التبادل الحرّالشامل والمعمّق" الذي نحن بصدد دراسته و"قانون الإستثمار" الذي سيفتح المجال واسعا لمزيد نهب خيراتنا وفتح الباب أمام المستثمر الأجنبي لشراء الأراضي الفلاحيّة و"قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص" الذي سيؤدّي إلى إلتهام رأس المال (وخاصّة منه الأجنبي) آخر ما تبقّى من القطاع العام هي ناتجة عن تطبيق ما يسمّى بالشريك المميّز.
4. لماذا يرفض الإتحاد الأوروبي تقييم إتفاق الشراكة الذي وقع إمضاؤه سنة 1995 وبالمقابل يموّل دراسة إستشرافية لإتفاق التبادل الحرّ ؟
من المتعارف عليه في كل المجالات والقطاعات والإختصاصات أنّه بعد تنفيذ برنامج ما وقبل المرور إلى مرحلة جديدة أو دعم البرنامج الأوّل بأنشطة جديدة أو تنفيذ برنامج جديد يجب القيام حتما بدراسة تقييميّه لما وقع تنفيذه لإبراز نقاط القوّة ونقاط الضعف فيما وقع تنفيذه وإستخلاص الدروس من ذلك من أجل النجاح فيما هو مرتقب.
لكنّ إصرار الإتحاد الأوروبي على الدخول في مفاوضات مع تونس لإمضاء "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" دون القيام بدراسة تقييميّه لإتفاق الشّراكة الذي وقع إمضاؤه سنة 1995 (حيث مرّت عليه اليوم أكثر من 20 سنة) يدعو على الإستغراب والريبة خاصّة عندما نعلم بأنّه دفع ملايين الأوروات (جمع أورو) لإنجاز "دراسة مردوديّة" (Etude d’impact) لإتفاق التبادل الحرّ المزمع تنفيذه وكلّف بذلك مكتب دراسات هولندي "مكتب أيكوريس" (Cabinet Ecorys) في أواخر سنة 2012 وقد قام هذا المكتب أيضا بدراسة مردوديّة لنفس إتفاق التبادل الحرّ الذي سيمضيه الإتحاد الأوروبي مع المغرب (وهو ما يطرح عديد التساؤلات حول شفافيّة إختيار هذا المكتب بالذات والذي تفرّع عن "معهد الإقتصاد الهولندي" بميدنة روتردام المعروف بتوجهاته النيوليبرالية ، فأوروبا بثمان وعشرون دولة بها عشرات الآلاف من مكاتب الدراسات فلماذا هذا المكتب لينجز الدراسات للمغرب وتونس في نفس الوقت ؟ علما وأنّ النقطة 7 في جدول المفاوضات حول إتفاق التبادل الحرّ تتحدّث عن "الشفافية"!!! فهل مورست الشفافية من طرف من يريد أن يعطينا دروسا حولها ؟). هذا المكتب أصدر تقريره في 25 نوفمبر 2013 وقد إحتوى على 216 صفحة مع ملحق به 113 صفحة (أي 329 صفحة بالتمام والكمال). ورغم أنّ الإتحاد الأوروبي يتحدّث عن تداعيات إيجابية لإتفاق التبادل الحر على الإقتصاد التونسي إنطلاقا ممّا ورد في هذه الدراسة إلاّ أنّني قرأت بإستغراب كبير نتائج هذه الدراسة (5) التي لم تتحدّث مثلا في فقرة التداعيات الإجتماعية (وما أدراك ما التداعيات الإجتماعية) بالصفحة 185 (والتي لم تتعدّى صفحة واحدة من جملة 329 صفحة) إلاّ عن تأثيرات إتفاق التبادل الحرّ على المياه (هكذا !!!). فالكلام مبهم وليس علميّا بالمرّة فالقول بأنّ "الآثار الاجتماعية والاقتصادية يمكن أن تكون إيجابية حيث من المتوقع أن يكون الدخل أعلى" هو كلام يذكّرني باللغة الخشبيّة لسياسيينا في تونس.
ثمّ يضيف بأنّ "نوعية المياه لها آثار اجتماعية بالغة الأهمية في الواقع يمكن أن يكون لها آثار على اثنين من العناصر، ملوحة المياه وتلوثها". فهل يعقل أن يكتب مكتب دراسات قدّم على أنّه عالمي ومختص في الدراسات الإقتصادية والإجتماعيّة والبيئيّة (في ندوة 18 جوان 2014 التي عقدتها مفوضية الإتحاد الأوروبي بتونس مع مكونات المجتمع المدني) مثل هذا الكلام الإنشائي أقرب منه إلى العلمي ؟ وهل يعقل أن يتحدّث بلغة "يمكن ومن المتوقّع" دون تقديم أرقام حقيقيّة تدعم ذلك ؟ ثمّ لماذا لم يتحدّث عن الآثار الإجتماعية الخطيرة التي يمكن أن يتسبّب فيها إفلاس آلاف الفلاحين الصغار والمتوسطين ونزوحهم وعائلاتهم نحو المدن ؟ ولماذا لم يتحدّث عن مصير مئات الآلاف من المعينين العائليين (ذكورا وخاصّة إناثا) الذين يشتغلون في الفلاحة الآن بعد التدمير الذي سيضرب أولائك الفلاحين نتيجة تطبيق إتفاق التبادل الحرّ مثلما حصل في المكسيك ؟ ولماذا لم يشر إلى عشرات آلاف من الموظفين في قطاعات البنوك والإتصالات والنقل وغيرها الذين سيجدون أنفسهم على رصيف البطالة ؟ أفلا يدخل ذلك في باب التداعيات الإجتماعيّة ؟ ألا يفضح ذلك أسباب تكليف هذا المكتب بالقيام بهذه الدراسة التي أعتبرها دراسة موجّهة وليست دراسة علميّة ؟
أعود إلى الإتحاد الأوروبي لأسأل أوّلا عن سبب تمسّكه بدراسة إستشرافيّة ترتكز على مجرّد إحتمالات وأرقام إفتراضيّة ورفضه لإنجاز دراسة تقييمية ترتكز على وقائع وأرقام حقيقيّة لما حدث طيلة 20 سنة ؟ الجواب سهل وواضح فالإتحاد الأوروبي يريد أن يتحاشى تحمّل مسؤوليّة ما حصل للإقتصاد التونسي من تدمير بعد تطبيق إتفاقيّة الشراكة التي وقع إمضاؤها سنة 1995 ودخلت حيّز التنفيذ سنة 1998 وتوّجت بمنطقة للتبادل الحرّ التي شملت المواد الصناعية سنة 2008. ونظرا لغياب الدراسات العلمية حول هذا الموضوع فإنّنا لا نملك ، أوّلا ، غير تقرير وزارة الصناعة سنة 2008 الذي أكّد على أنّ ثلث المؤسسات الصناعية فقط هي من قدرت على المنافسة في ظلّ إتفاق الشراكة وثلث يجد صعوبات في المزاحمة (وهو ما أدّى بالنظام في ذلك الوقت إلى إستصدار قانون إنقاذ المؤسسات التي تشكو صعوبات إقتصاديّة) والثلث الأخير إندثر وخرج من النسيج الصناعي وخاصة المؤسسسات الصغرى والمتوسّطة وثانيا ما ورد في الندوة الصحفيّة التي إنعقدت يوم 12 أكتوبر الفارط في مقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والتي نظّمتها جمعيّة "الإستشراف والتنمية".
فقد أكّد السيّد محمود بالسرور رئيس الجمعية بأنّ "تطبيق إتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي منذ 20 سنة أدّى إلى تفكيك المعاليم الجمركية للمواد الصناعية وإرتفاع مهول في نسب البطالة وإختلال الميزان التجاري لصالح الإتحاد الأوروبي وإحتداد التداين إضافة إلى هروب رؤوس الأموال إلى الخارج).
أمّا رجل الإقتصاد جمال العويديدي فقد كان أكثر وضوحا عندما بيّن أنّ "تونس خسرت 55 % من نسيجها الإقتصادي ممّا تسبّب في فقدان 500 ألف موطن شغل كما خسرت تونس حوالي 24 ألف مليون دينار أي 2000 مليون دينار في السنة نتيجة عدم تطبيق المعاليم الديوانية على المواد الأوروبية المورّدة". وقد ذهب السيّد لسعد الذوّادي الخبير الجبائي إلى حدّ إعتبار "هذا الإتفاق مشابها لإتفاق باردو 1881".
5. التبادل الحرّ يخلق محكمة خاصّة به (Tribunal privé) تضرب سيادة الدول وتخدم الشركات المتعددة الجنسيّات
تطبيق إتفاقيات التبادل الحرّ منذ سنة 1989 أثبت بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ الرأسماليّة التي زادت توحّشا بعد سقوط جدار برلين) لا يوقفها أيّ شيء لإستعمال كلّ الحيل وكلّ الآليات وكلّ الطرق لتكديس الأرباح ولا تهمّها لا سيادة الدول ولا المواثيق ولا القوانين المتّفق عليها لتحقيق أهدافها الدنيئة. وأحسن مثال على جشع "الوحش الرأسمالي" هو تركيز محكمة خاصّة بإتفاق التبادل الحرّ تعرف بإسم "آليّة حلّ الخلافات بين المستثمرين والدول" (Mécanisme de règlement des différents investisseur-Etat : RDIE). ولقد وقع إعتماد هذه الآليّة لأوّل مرّة عند تطبيق أوّل إتفاق للتبادل الحرّ في شمال أمريكا ثمّ بعد ذلك وقع تعميمها على كلّ إتفاقيات التبادل الحرّ سواء كانت ثنائيّة أو ثلاثيّة أو بين عدّة دول. أمّا خطورة هذه الآليّة فتتمثّل في التعدّي على سيادة الدول وإحتقار سلطاتها القضائيّة بخلق محكمة خاصّة (Tribunal privé) يكون حكمها نافذا وغير قابل للطعن (هكذا وبكل وقاحة !!!). وهي محكمة أعلى من كلّ محاكم الدول المشاركة في إتفاقيات التبادل الحرّ وهي أعلى حتّى من محاكمها العليا. فهي إذا "محكمة فوق الدول" تسمح للوبي الأعمال وللشركات المتعدّدة الجنسيات بمقاضاة الدوّل بتهمة "إصدار قوانين تقلّص من أرباحها" (حتّى ولو كانت تلك القوانين تخدم صحّة الإنسان والمحافظة على البيئة) لكنّها بالمقابل لا تسمح للدول بمقاضاة المستثمرين مهما فقّروا ودمّروا أو قتلوا. عن هذه الفضيحة تتحدّث "دانيال فافاري"(6) قائلة »إنّها آلية تحكيم خاصة بين المستثمرين والدول ستحل محل السلطة القضائية القائمة ، مما يسمح للمستثمرين من القطاع الخاص بالتهرّب من جميع القوانين والالتفاف على القرارات التي من شأنها أن تكون محرجة لهم وهو ليس سوى تقديس لخصخصة السلطة التشريعية وإسقاط لمفهوم سيادة الدولة«.
ولأخذ فكرة عن الجرائم التي ترتكبها هذه المحاكم في حقّ بعض الدول نورد فيما يلي بعض الأمثلة عن القضايا التي حكمت فيها. لكنّ أوّل شيء تجدر الإشارة إليه هي معاليم التقاضي المرتفعة جدّا حيث تحوم حول 900 دولار للساعة الواحدة دون إحتساب أجور المحامين. وكمثال على ذلك إضطرّت حكومة الفلبين سنة 2010 على دفع مبلغ 58 مليون دولار (حوالي 120 مليار من المليمات) كمصاريف تقاضي فقط (خلاص المحكمة والمحامين) وهذه الوضعية جعلت عديد الدول تعمل على إيجاد إتفاقيات جانبية مع الشركات المتعددة الجنسيات لتفادي المثول أمام هذه المحاكم الغير عاديّة.
لكنّ الفضاعات لا تقف عند هذا الحدّ فقد عمدت شركة فرنسية سنة 2012 (وبعد سقوط نظام حسني مبارك إثر "الثورة" المصرية) هي شركة "فيوليا" (Véolia) ، وفي إطار إتفاق شراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) ، بمقاضاة الحكومة المصريّة بعد أن رفّعت في الأجر الأدنى للعمّال المصريين من 55 دولار إلى 95 دولار وذلك بتهمة "التقليص في مرابيحها بسبب إجبارها على دفع مبلغ 40 دولار كزيادة لكل عامل بالشركة" وطالبت بغرامة بخمسين ألف مليون دولار.
هناك أيضا الحكومة الكندية وفي إطار "إتفاق التبادل الحرّ مع أمريكا" تعتبر أكثر حكومة تعرّضت إلى المحاكمة من طرف هذه المحكمة العجيبة والغريبة حيث مثلت أمامها 37 مرّة منذ سنة 1994 ودفعت حوالي 6 مليار دولار بالتمام والكمال(7) لعديد الشركات المتعددة الجنسيات. ولا تتورّع الشركات المتعددة الجنسيات على البحث عن المرابيح حتّى داخل قطاعات الصحّة والبيئة حيث قامت شركة "إيتال كورب" (Ethel Corp) بمطالبة الحكومة الكندية بدفع غرامة تساوي 251 مليون دولار بسب قيام الحكومة بمنع هذه الشركة من إضافة مادّة كيمياوية إلى البنزين المعروف بإسم م.م.ت. وهي مادّة سامّة مضرّة بالأعصاب وبالبيئة. في نفس الإطار قامت شركة متعددة الجنسيات تعمل في مجال الكيمياويات هي شركة "دوو شيميكال" (Dow Chemical) بمقاضاة إقليم "الكيباك" في كندا الذي منع إستعمال مبيد حشري مضرّ بالصحّة والبيئة وطالبت بغرامة بمائتي مليون دولار. أمّا أطرف هذه القضايا فهي القضية التي رفعتها شركة "فيليب موريس" لصنع السجائر التي قامت بمقاضاة الحكومة الأستراليّة بسبب إصدار وزارة الصحة لقانون يعمل على المساهمة في مكافحة التدخين ويتمثّل في ترويج "السيجارة الالكترونية" حفاظا على صحة مواطنيها وهو ما لم يرق لتلك الشركة وإعتبرته قانونا يقلّص من مرابيحها وطالبت بغرامة تساوي 1 مليار دولار. ويرى عديد الملاحظين أنّ إقدام الشركات متعدّدة الجنسيات بهذه الحملة الكبيرة ضدّ عديد الدول التي أمضت على إتفاقيات تبادل حرّ هدفه الضغط المتواصل على تلك البلدان وغيرها للعدول عن إصدار قوانين منافية لمصالح تلك الشركات. هكذا إذا يمكننا الجزم بأنّ "المحاكم الخاصّة" كآليّة معتمدة لحل المشاكل بين المستثمرين والدول الممضية لتلك الإتفاقيات والتي لا يمكن إستئناف قراراتها هي آليّة متحيّزة ومناقضة لكلّ القوانين والتشاريع الدوليّة وأنّها ناتجة عن الجشع الكبير للرأسمالية المنفلتة من تحت عقّالها. فهل هناك ما هو أوضح من هذه الأمثلة لتعبّر عن رجعيّة وشراسة وخطورة ما يحتويه "إتّفاق التبادل الحرّ" مع الإتحاد الأوروبي الذي يبشّر به الساسة التونسيون ويطبّلون له منذ مدّة.
6. التدمير الذي حصل للإقتصاد المكسيكي بعد 20 سنة من تطبيق إتفاق التبادل الحرّ مع أمريكا وكندا خير دليل على خطورة مثل هذه الإتفاقيات ؟
من حسن حظّنا ، ورغم رفض الإتحاد الأوروبي إلى حدّ الآن إنجاز دراسة تقييمية لتداعيات إتفاق الشراكة السابق ، فإنّ هناك تجربة هامّة جدّا يمكن أن نستخلص منها الدّروس ونبني عليها موقفا موضوعيّا حول هذه المسألة وهي تتمثّل في تجربة تطبيق ما يعرف بـ "إتفاق التبادل الحرّ لشمال أمريكا" (Accord de libre échange Nord-américain : ALENA) بين المكسيك والولايات المتّحدة وكندا الذي وقع إمضاؤه يوم يوم 1 جانفي 1994.
لذلك نورد في الأسطر التالية البعض من النتائج المدمّرة التي تعرّض لها الإقتصاد المكسيكي بصفة عامّة والقطاع الفلاحي بصفة خاصّة بعد تطبيق إتفاق التبادل الحرّ المذكور لعلّ المهرولين وراء إمضاء هذا الإتفاق والمروّجين لهذا المخطّط التخريبي والمسوّقين له يتّعضون بما حصل لبلد تتشابه هيكلته الإقتصاديّة مع تونسّا ويفكّرون فيما يمكن أن يحصل لقطاعي الفلاحة والخدمات.
ورغم أنّ البنك المركزي المكسيكي نشر العديد من الأرقام على إثر إنجاز الدراسة التقييمية لذلك الإتفاق (خسارة القطاع التجاري طيلة العشرين سنة بلغت 377 مليار دولار ، الإنتاجيّة أصبحت أضعف بـ 8.2 % مقارنة بسنة 1990 ، المكسيك نزل من المرتبة 4 إلى المرتبة 23 عالميّا في إجتذاب الإستثمارات الخارجيّة بسبب فقدان الميزة المقارنة إلخ) فإنّنا سنقتصر على ذكر بعض المؤشّرات التي ستعطي فكرة عن الخراب الذي أصاب الإقتصاد المكسيكي(8).
-;- مداخيل العمّال شهدت نزولا حادّا والبطالة إرتفعت إرتفاعا لا مثيل له
العشرين سنة التي مرّت على تطبيق إتفاق التبادل الحرّ والتي أثّرت سلبيّا على القطاعات الثلاث للإقتصاد المكسيكي (الصناعة والفلاحة والخدمات) كانت لها تداعيات كبيرة جدّا على الوضع الإجتماعي لذلك البلد. فقد أصبح عدد السكّان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر يساوي 53.5 % من مجموع سكّان المكسيك أي حوالي 63 مليون شخص من جملة 120 مليون. كما شهد الأجر الأدنى للعمّال إنخفاضا كبيرا بلغ 27 % حيث مرّ من 78.84 إلى 57.04 "بيزوس" (Pésos) بين سنتي 1994 و2012. نسبة البطالة هي أيضا شهدت إرتفاعا لم يسبق له مثيل حيث قفزت من 3.6 % سنة 1994 إلى حوالي 15.5 % سنة أي أنّها تضاعفت حوالي 5 مرّات. هذه الأوضاع المأساويّة أدّت إلى إندلاع إضرابات تاريخيّة وإنتفاضات شعبيّة عارمة قابلتها حكومات اليمين النيوليبرالي التي تعاقبت على الحكم والتي كانت مرتبطة بالكنيسة الكاتوليكية وبالشركات المتعددة الجنسيات وبأباطرة المخدّرات بالحديد والنار حيث تعرّض القادة النقابيين إلى أبشع عمليات الملاحقة والسجن والتعذيب الذي وصل إلى حدّ القتل المتعمّد.
-;- القطاع الفلاحي تعرّض إلى ضربة قاسمة
المكسيك مهد زراعة "الذّرة" في العالم وبعد 20 سنة من تطبيق الإتفاق سيّء الذكر أصبحت فلاحتها في طريق مسدود بسبب تخلّي الدولة عن دعم الفلاحين (تقلّص الدعم من 28 % سنة 1994 إلى 13 % فقط سنة 2013) وتفكيك المؤسسات العمومية وشبه العمومية التي كانت تؤطّر وتدعم الفلاحين المكسيكيين وهو ما يعني إختلال المزاحمة لصالح فلاحي أمريكا وكندا اللّتان أمضى معهما المكسيك الإتفاق وهكذا تحوّل من بلد منتج للمواد الفلاحيّة إلى بلد مستورد لها حيث يستورد حوالي 80 % من غذائه الأساسي. وهكذا تخلّى المكسيك عن سيادته الغذائيّة لصالح الشركات متعدّدة الجنسيّات.
وحسب تقرير أصدره "مركز التحاليل المتعدد الإختصاصات" بكليّة الإقتصاد بالمكسيك سنة 2013 فإنّ 2.3 مليون فلاّح من جملة 5.1 مليون من الفلاحين الصغار والمتوسّطين أفلسوا وخاصّة منهم أولائك المنتجين للذّرة حيث لم تستطع أسعار الذّرة المحليّة مزاحمة أسعار الذّرة المعدّلة جينيّا (OGM) المستوردة من أمريكا. والنتيجة هي أنّ المناطق الريّفية في المكسيك شهدت عمليّات نزوح جماعيّة لم تعرف لها مثيلا حتّى في أحلك الفترات السابقة.
لكنّ الخطورة الكبيرة التي حلّت بالمكسيكيين بعد ذلك هي قيام الشركات المتعدّدة الجنسيات الأمريكية والكنديّة التي إستثمرت في القطاع الفلاحي في المكسيك وأصبحت تزوّد السوق بالمواد الأساسيّة بعد إفلاس ملايين الفلاحين بإحتكار تجارة المواد الفلاحية وبالتالي الترفيع الكبير في أسعار تلك المواد محقّقة أرباحا طائلة على حساب الشعب المفقّر وقد ساهم ذلك في ما عرف بـ "أزمة الغذاء" سنة 2007 والتي ضربت كل بلدان العام حيث تضاعفت أسعار الحبوب في السوق العالميّة (قمح ، أرز ، ذرة ...) مرّتان وثلاث وبشكل لم يسبق له مثيل.
يقول "دافيد لوزانو" مدير المركز المذكور أعلاه في هذا الخصوص "لقد وعدوا المستهلكين بالاستفادة من تحسّن نوعية الغذاء وانخفاض أسعاره ولكنّ النتائج تشير إلى عكس ذلك حيث عشنا إرتفاعا مستمرا في الأسعار إذ تضاعفت الأسعار مرتان وثلاث مقارنة بالسنوات السابقة للإتفاق وقد انعكس ذلك على زيادة الفقر وسوء التغذية والسمنة في المكسيك ، لأننا استوردنا أيضا نموذجا غذائيا أمريكيا يرتكز على الأكلات السريعة والمشروبات الغازية وهو ما تسبب في وباء السمنة الذي أصبح يضرب أكثر من نصف سكّان المكسيك".
تدمير القطاع الفلاحي لم يقف عند هذا الحدّ بل قامت الشركات متعدّدة الجنسيات التي إنتصبت في المكسيك بالإستغلال المفرط والجائر للأراضي والموارد الطبيعية الأخرى وساهمت في تجدّب الأراضي وتملّح التربة ونضوب المياه ووقع تعداد حوالي 2600 صنف من النباتات التي هي بصدد الإندثار. كما وقعت خوصصة أكثر من 30 % من الأراضي الدولية والقضاء على حوالي 82 % من غابات المكسيك.
-;- الهجرة القسريّة لملايين المكسيكيين
الأزمة الكبيرة التي أصبح عليها الإقتصاد المكسيكي بعد 20 سنة من تطبيق إتفاق الشراكة وإنحسار فرص العمل وعدم قدرة سوق الشغل على إستيعاب ملايين الفلاحين المفلسين والعمال المطرودين دفعت بملايين المكسيكيين إلى الهجرة وخاصّة السرّية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فبعد أن كان عدد المهاجرين إلى أمريكا لا يفوق 4.4 مليون مهاجر سنة 1990 أصبح سنة 2012 يتجاوز 13 مليون مهاجر (حوالي 18 % من اليد العاملة النشيطة) أي بزيادة قدرها 195 % في ظرف عقدين إثنين فقط. يقول "جون فيدر"(9) حول هذا الموضوع «الهجرة غير الشرعيّة من المكسيك إلى الولايات المتحدة الأمريكية إزدادت خلال السنين الأخيرة حيث أصبح يخاطر سنويا حوالي 700 ألف مكسيكي بعبور الحدود بحثا عن الشغل».
في الختام نقول بأنّ مثال المكسيك ليس مثالا معزولا بل عديدة هي الدول التي طبّقت السياسات النيوليبرالية المملاة من طرف المؤسسات المالية العالمية والتي تخلّت عن سيادتها الغذائيّة وأصبحت رهينة للشركات متعدّدة الجنسيات. ويمكن هنا أن نذكر مثال سيريلنكا التي أجبرتها تلك السياسات على التخلّي عن زراعة الأرز (الغذاء الأساسي لشعبها) وإستيردها من جارتها الفيتنام تطبيقا لنظريّة الميزة المقارنة. ونفس الشيء حصل للفلبين التي تحوّلت من أكبر مصدّر للغذاء في آسيا إلى أكبر مورّد في العالم للأرز حيث تستورد سنويا بين 1 و2 مليون طن لتسديد حاجيات شعبها(10).
7. أيّة تداعيات لتطبيق إتفاق التبادل الحرّ على القطاع الفلاحي في تونس ؟ ملاكم من وزن الريشة (تونس) سيلعب ضدّ ملاكم من الوزن الثقيل (الإتحاد الأوروبي)
1.7. لنحدّد المفاهيم : تبادل "حرّ" أم تبادل "لامتكافئ" ؟
هل يعقل أن نتحدّث عن تبادل "حرّ" ومزاحمة متكافئة بين بلد صغير مثل تونس لا تزيد المساحة الصالحة في الزراعة فيه عن 5.271 مليون هكتار وعدد فلاحيه لا يزيد عن 516 ألف ، مع 28 دولة تشكّل الإتحاد الأوروبي تبلغ المساحة الصالحة للزراعة فيها 175.815 مليون هكتار (أي أكثر بـ 35 مرّة) وعدد الفلاحين فيه يفوق عدد سكّان تونس حيث يصل إلى 12 مليون و54 ألف فلاح ؟ والأهم من كلّ ذلك فإنّ الأراضي التونسية مهدّدة بالتصحّر حيث نخسر أكثر من 20 ألف هكتار كل 10 سنوات إذ كانت الأراضي الصالحة للزراعة تساوي 5.295 مليون هكتار سنة 1995 فأصبحت سنة 2005 تساوي 5.271 مليون هك فقط بينما لا يطرح هذا المشكل في البلدان الأوروبية. مسألة أخرى ستحدّ مستقبلا من إنتاج وإنتاجيّة القطاع الفلاحي في تونس والمتمثّلة في التغيّرات المناخيّة التي لم نفعل شيئا للتأقلم معها خلافا للبلدان الأوروبية التي قامت بالدراسات اللازمة وبالتغييرات الهيكلية والتقنية الضرورية للتأقلم مع هذا المعطى الجديد. فالتغيرات المناخية ستكون كارثية على الفلاحة في تونس مثلما أكّدته الخبيرة في التصرف في الموراد المائية "روضة قفراج" خلال الملتقى العلمي الذي إتعقد بتونس يوم الخميس 5 نوفمبر 2015 حول "التغيرات المناخية والتنمية الرهانات والحلول".
فستقف تونس اليوم في مواجهة عدة تحديات مثلما أكّدته الدراسة التي قامت بها وكالة التعاون الفني الالماني في تونس وقدّمت نتائجها سنة 2006 وصيغت على إثرها "الإستراتيجية الوطنية لتأقلم الفلاحة والأنظمة البيئية التونسية مع التغيّرات المناخية"(11) سنة 2007 لكنّها بقيت حبرا على ورق ولم يقع تطبيق أي بند منها. فالظواهر المناخية القصوى مثل الجفاف والرياح القوية والفيضانات ستزداد تواترا وحدّة وخاصة منها سنوات الجفاف. ونقرأ في هذه الدراسة ما يغنينا عن كلّ تعليق : «إنّ التغيّرات المناخية في البلاد التونسية ستؤثّر بصفة جليّة على الموارد المائيّة والأنظمة البيئية والأنظمة الفلاحية (قطاع الزياتين والأشجار المثمرة وتربية الماشية والزراعات الكبرى) وكذلك على إقتصاد البلاد وعلى المجتمع. كما أنّ التّغيرات المناخية وحدّة الظواهر القصوى ستضاعف الضغوطات الإقتصادية المسلّطة على الفلاحين ومستغلاّتهم وبالتالي فإنّ الأنسطة الفلاحية وحتّى بعض المستغلاّت ذات القدرة التنافسيّة سوف لن تتمكّن من مجابهة الظواهر المناخية القصوى وسينجرّ عن هذه الظواهر مخاطر على الإقتصاد الزراعي وإنعكاسات لا يمكن تفاديها على المجتمع. من جهة أخرى فإنّ إرتفاع مستوى سطح البحر سيكون له أثر على الشريط الساحلي ومخزون المياه الصالحة للشراب وعلى المناطق الرطبة الساحلية والمياه الجوفية المجاورة خاصة من خلال إرتفاع درجة ملوحتها». فهل هناك كلمات أوضح من هذه الكلمات لتوصيف ما سيحصل للفلاحة في تونس إن لم نفعل شيئا ولم نطبّق الإستراتيجية المذكورة أعلاه ؟ وهل يعقل أن يقرأ المسؤولين في الدولة هذه الدراسة ثمّ يهرولون لمناقشة إمضاء "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" الذي سيساهم في القضاء تماما عمّا سيتبقّى من الفلاحة جرّاء التدمير الذي ستحدثه التغيّرات المناخيّة ؟ أليس من الأجدى تطبيق الإستراتيجية الوطنية لحماية الفلاحة من تأثيرات التغيرات المناخية للحفاظ على فلاحتنا وفلاحينا قبل الحديث عن أيّ إتّفاق ؟ وبلغة الأرقام تؤكّد الدراسة على أنّ الموارد المائية ستنخفض بنسبة 28 % مع حلول سنة 2030 وستتراجع المياه السطحية بنسبة 50 % وسيتراجع إنتاج الزيتون إلى 50 % وستتقلّص مساحة غراسة الأشجار المثمرة البعلية بحوالي 800 ألف هك أي بحوالي 50 % وسط البلاد وجنوبها. وعند تعاقب سنوات الجفاف (تواتر كبير منتظر) سيتراجع حجم القطيع (أبقار وأغنام وماعز) إلى حدود 80 % في وسط البلاد وجنوبها وبحوالي 20 % في شمالها. أمّا بالنسبة للزراعات الكبرى فإنّ الأنواع الجديدة ذات المردودية العالية ستكون أقلّ قدرة على مجابهة التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية مقارنة مع الأنواع المحلّية أو المتأقلمة وستعرف مساحات زراعة الحبوب في الوسط والجنوب عند تعاقب سنوات الجفاف ، تراجعا بحوالي 20 %. وفي المحصلة سيؤدّي كلّ هذا إلى تدنى الانتاج الفلاحي بـ 52 % ممّا سيؤدّي إلى تقلص مساهمة الانتاج الفلاحي في الناتج الداخلي الخام بـحوالي الربع أي 22,5 %. أمّا أحسن شهادة يمكن ذكرها لما يمكن أن يحصل في ظل التغيرات المناخية فهو الكتاب الذي نشره البنك العالمي هذه الأيام (نعم البنك العالمي المعادي للشعوب أطلق صيحة فزع عمّا يمكن أن يحدث خلال السنين القادمة) بعنوان "الموجات الصادمة : السيطرة على آثار التغيرات المناخية على الفقر"(12) (Shock Waves : Managing the Impacts of Climate Change on Poverty) حيث يتحدّث التقرير عن إحتمال مساهمة التغيرات المناخية في مزيد تفاقم الفقر في العالم بشكل كبير جدّا.
لكن وبعيدا عن هذه الإفتراضات لنقم بمقارنة بسيطة بين إمكانيات الفلاحين في تونس وفلاحي دولة واحدة من الإتحاد الأوروبي هي فرنسا وليس كلّ البلدان الثماني والعشرين في الإتحاد لنرى مدى "الندّية" التي تمتلكها تونس لمزاحمة فرنسا :
- أوّلا : الإستثمار في الهكتار الواحد في تونس لا يتجاوز 70 دينار بينما يصل في فرنسا إلى حوالي 1600 دينار (750 أورو) أي أنّه أكثر بحوالي 23 مرّة
- ثانيا : نسبة الإندماج في تصنيع العلف الحيواني لا تتجاوز في تونس 20 % بينما تصل في فرنسا إلى 100 %.
- ثالثا : إنتاجية هك الحبوب في تونس لا تزيد عن 14 قنطار بينما تصل في فرنسا إلى 60 قنطار (أكثر من 4 مرات ونصف)
- رابعا : معدل عدد الأبقار لدى المربّي الواحد في تونس لا يتعدّى 3 بقرات بينما يصل لدى المربّي الفرنسي إلى 50 بقرة (أكثر من 16 مرّة)
- خامسا : معدّل مساحة المستغلات في تونس لا يتجاوز 10 هك بينما تصل في فرنسا إلى 50 هك (أكثر من 5 مرات) بل أنّ الخاصية التي تميّز بلدا زراعيا متخلّفا مثل تونس هي أنّ ثلاثة أرباع الفلاحين يملكون مستغلات لا تتجاوز مساحتها 10 هكتارات بالمقابل يستحوذ 3 % من الملاكين الكبار على ثلث الأراضي الصالحة للزراعة مثلما يبيّنه الجدول التالي :
جدول عدد 2 : توزيع مساحات الأراضي وعدد الملاكين في تونس
المساحة
(ألف هكتار) النسبة % عدد الملاكين
(بالألف) النسبة %
أقل من 5 هك 556 11 281 54
5 ─-;- 10 هك 757 14 109 21
10 ─-;- 50 هك 2177 41 112 22
50 ─-;- 100 هك 651 12 10 2
أكثر من 100 هك 1127 22 4 1
الجملــــــــــــــــــــــــــــــــــة 5271 100 % 516 100 %
المصدر : وزارة الفلاحة ، 2006
ومن المعروف أنّ هذه المساحات الصغيرة تمثّل عائقا أمام الإستغلال الفلاحي العصري والمكننة الفلاحية ، فهل يقدر هؤلاء الفلاحين الفقراء في تونس (وهم يملكون تلك المستغلات الصغيرة) على مزاحمة "المقاولين في الفلاحة" أو الشركات متعددة الجنسية المستثمرة في القطاع الفلاحي في الإتحاد الأوروبي ؟ قطعا لا.
هذه الأرقام وغيرها تجعلنا نصرّ على أنّ ما يسمّونه بـ "التبادل الحرّ" هو ليس سوى "تبادل لامتكافئ" مثلما سنزيد في تأكيده لاحقا.
2.7. التبادل التجاري التونسي/الأوروبي : تاريخه ونتائجه
رغم أن تونس أبرمت إتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي منذ سنة 1995 (12 أفريل التوقيع بالأحرف الأولى و 17 جويلية التوقيع النهائي) إلاّ أنّ المواد الفلاحية ومواد الصيد البحري لن تشملها منطقة التبادل الحرّ إلاّ من خلال الإتفاق الجديد الذي هو بصدد النقاش (إتفاق التبادلالحرّ الشامل والمعمّق". فما هي آفاق الفلاحة التونسية في ظل منطقة التبادل الحر ؟
يعود تاريخ التبادل التجاري التونسي/الأوروبي مثلما ذكرنا آنفا إلى سنة 1969 ثمّ تتالت الإتفاقيّات إلى بلغت أقصاها بإتفاق الشراكة سنة 1995.
ومما يلاحظ فإن هذه الإتفاقيات حددت العديد من الشروط على الصادرات الفلاحية التونسية وذلك حماية للمنتجين الأوروبيين :
* إحترام السياسة الفلاحية المشتركة (Politique agricole commune) بإحترام الثمن/المرجع للخضر والغلال
* إعتماد حصص تحدّد الحجم السنوي لواردات السوق الأوروبية من بعض المواد
* إعتماد رزنامة محدّدة للتوريد من أجل حصر التخفيض التعريفي لفترة محددة من السنة إلخ.
ويجدر التذكير بأن أوروبا منذ أصبحت تضمّ 12 دولة سنة 1986 أصبح لها فائض في المواد الفلاحية التي تصدّرها تقليديا تونس مثلما يبيّنه الجدول التالي فما بالك وهي تضمّ اليوم 28 بلدا بالتمام والكمال:
جدول عدد 2 : إنتاج السوق الأوروبية من بعض المواد الفلاحية (%)
المادة أوروبا ب 9 دول أوروبا ب 12 دولة
زيت الزيتون 88 % 129 %
الخمور 98 % 114 %
الطماطم 94 % 110 %
القوارص 51 % 103 %
المصدر : منشورات الإتحاد الاوروبي
دول الإتحاد الأوروبي تعدّ أوّل شريك تجاري بالنسبة لتونس حيث يستوعب الإتحاد الأوروبي حوالي 64,5 % من صادرات تونس فيما تمثّل الواردات التونسيّة من الإتحاد المذكور حوالي 72,1 %. ورغم حجم هذه المبادلات فإنّنا نلاحظ إختلالا كبيرا في الميزان التجاري لصالح الإتحاد الأوروبي منذ إبرام أوّل إتفاقية وإلى اليوم وعلى سبيل المثال تضاعفت قيمة الواردات التونسية من المواد الفلاحية بين سنتي 1990 و2010 ثلاث مرات إذ مرّت من 9 إلى 27 مليار يورو بالتمام والكمال .
الجدول التالي يعطي فكرة عن الإختلال الكبير في الميزان التجاري لصالح الإتحاد الأوروبي :
جدول عدد 3 : حجم مبادلات المواد الغذائيّة مع الإتحاد الأوروبي (الوحدة : مليون دينار)
2010
2011 2012 2013 2014
الصادرات 1651.2 2126.3 2065.4 2431.3 2048.8
الواردات 2208.2 2828.3 3151.3 3544.9 3429.3
الناتج 557 - 702 - 1085.9 - 1113.6 - 1380.5 -
نسبة التغطية 74.8 % 75.2 % 65.5 % 68.6 % 59.7 %
المصدر : منشورات البنك المركزي التونسي
يبرز الجدول إذا أن الميزان التجاري بين تونس والإتحاد الأوروبي يشكو عجزا دائما لفائدة الإتحاد الأوروبي خلال المدّة المتراوحة بين 2010 و 2014 مثلما كان الشأن قبل دخول إتفاقية الشراكة حيّز التنفيذ سنة 1995 كما يؤكّد الجدول أيضا أنّ نسبة تغطية صادرات تونس لوارداتها من ونحو الإتحاد الأوروبي تحوم حول معدّل 60 % فقط وذلك منذ بداية التبادل التجاري بينهما سنة 1969. الملاحظ أيضا أنّ هذا العجز تفاقم خلال الثلاث سنوات الأخيرة وخاصة سنة 2014.
3.7. هل تقدر الفلاحة التونسية على مزاحمة الفلاحة الأوروبية في ظل منطقة التبادل الحرّ ؟
-;- لنحتسب "الميزة المقارنة" حتّى نفهم أكثر
لقياس الميزة المقارنة يقترح "جيرار لافاي"(13) (Gérard LAFAY) إحتساب مقياس المساهمة في الرصيد التجاري الذي يأخذ بعين الإعتبار موازنة مضاعفة من خلال التجارة الخارجية والناتج الداخلي الخام. وقد قمنا بتطبيق النموذج الرياضي (Modèle Mathématique) الذي يقترحه "جيرار لافاي" لإحتساب مقياس القطاع الفلاحي لسنة 2013 لتحديد الميزة المقارنة لهذا القطاع وتحصّلنا على النتائج التالية :
جدول عدد 4 : الميزة المقارنة للقطاع الفلاحي سنة 2013 (مليون دينار)
الناتج الداخلي الخام (Y) 76350.5 القطاع الفلاحي K سنة 2013
التصدير (X) 27701.2 2431.3
التوريد (M) 39509.4 3544.9
الرصيد الفعلي (X-M) 11808.2 - 1113.6 -
الرصيد المرتبط بالناتج الداخلي y = (X-M)x1000/Y 154.658 - 14.585 -
الرصيد الفعلي (X+M) 67210.6 5976.2
(G) وزن القطاع =(X+M)/(XK+MK) K 100 9.2
(Z) الرصيد النظري = Gxy/100 154.658 - 0.219 -
(F) ميزة أو لا ميزة (فائدة أو لا فائدة) = y-Z 2.385 -
نلاحظ بكل وضوح بأن النتيجة المتحصّل عليها تثبت أن الميزة المقارنة بالنسبة لكامل القطاع الفلاحي هي سلبية (2.385 -) في واقع الحال فما بالك في ظل منطقة التبادل الحر. بعبارة أخرى القطاع الفلاحي غير قادر على المزاحمة وهو ما يطرح أسئلة عديدة عن مستقبل عشرات الآلاف من الملاكين الصغار (الفلاحين الفقراء) والعملة الفلاحيين.
4.7. التكتل الإقليمي على المستوى العالمي وتأثيره على مستقبل تونس
نلاحظ بأن الإقتصاد العالمي الذي طغى عليه الفكر الأوحد ، فكر إقتصاد السوق ، يسير نحو التكتّل حول 3 أقطاب كبرى : القطب الأمريكي وتقوده الولايات المتحدة وكندا والقطب الآسيوي وتقوده أستراليا واليابان والقطب الأوروبي وتقوده فرنسا وألمانيا ويعمل كل قطب من أجل التكامل الإقتصادي بين البلدان التي تكوّنه غير أن مستوى هذا التكامل يختلف من قطب إلى آخر.
فبالنسبة للقطب الآسيوي ما زال التكامل في مرحلته الجنينية حيث أن علاقات التعاون بين البلدان المكونة له (اليابان ، أستراليا ، كوريا الجنوبية ، الفيلبين ، ماليزيا ، سلطنة بروني...) لم تتعدى مرحلة التبادل التفاضلي بينما نجد الصين ، أهم قوة إقتصادية صاعدة في العالم ، خارج هذه الدائرة إلى حد الآن.
بالنسبة للقطب الأمريكي حيث تقاليد التبادل التجاري قديمة نوعا ما ووصلت إلى مرحلة التبادل الحر بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك على الوجه الخصوص ، فقد بدأ العمل على المرور إلى مرحلة أعلى ألا وهي وحدة جمركية ثم سوق مشتركة لمحاولة بلوغ مستوى أوروبا.
أما بالنسبة للقطب الثالث الذي يهمنا في المقام الأول (القطب الأوروبي) فهو القطب الوحيد من بين الأقطاب المذكورة الذي بلغ المرحلة العليا من التكامل الإقتصادي وقطع كل المراحل الضرورية التي تعرضنا لها آنفا حيث بلغ مرحلة الوحدة الإقتصادية منذ الإعلان عن أوروبا الموحّدة سنة 1993 والتي توجت بإعلان عملة موحدة بداية من جانفي 2002 هي "اليورو" لتكون في مواجهة مباشرة مع الدولار واليان وهو ما يعطيها أكثر قدرة على المنافسة في السوق العالمية. وكما أسلفنا الذكر فإن القطب الأوروبي هو أكبر قطب من حيث عدد البلدان وأكثرها ديناميكية إقتصادية حيث يستحوذ على حوالي 40 % من مجموع التجارة العالمية. إلا أن أوروبا التي كانت لا تظم إلا 15 بلدا إلى عهد قريب تسير نحو التوسع ليصل عدد البلدان حاليّا إلى 28 بلدا بإنضمام 10 بلدان جديدة من أوروبا الشرقية خاصة بداية من ماي 2004.
وهذا التوسع يدفع نحو تغيير جغرا-سياسي وذلك بتحول مركز الجذب إلى شمال شرق أوروبا بقيادة ألمانيا عوضا عن مركز الجذب الحالي الأقرب إلى جنوب غرب أوروبا بقيادة فرنسا.
ولا يخفى على أحد ما يعنيه هذا التغيير من تأثير مباشر على بلدان المغرب العربي ويزيد خاصة في تعقيد الوضع بالنسبة لقطر صغير مثل تونس.
وقد تجسّدت هذه الوضعية من خلال جولات المفاوظات بين تونس والإتحاد الأوروبي وأهمّها تلك التي إنعقدت في أواخر سنة 2000 حيث كانت هذه المفاوظات صعبة جدّا ولم يتمكّن الوفد الحكومي من تحقيق نتائج ذات بل كانت الإتفاقية الممضاة مهينة بكل ما في الكلمة من معنى من وجهة نظرنا حيث لم تحتوي على أي إمتياز يمكن أن يفيد الفلاحة أو الفلاحين التونسيين وهو ما يمكن التأكّد منه من خلال الإطّلاع على محتوى الإتفاقية التي صادق عليها مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 27 فيفري 2001 ورغم ذلك فقد قال عنها النائب في البرلمان وريئس الإتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري ما يلي :"إنّ الإتفاق يعدّ مكسبا سياسيّا وضربة للبعض من الذين يتحاملون على تونس" هكذا !!!
ونورد في ما يلي أهمّ ما ورد فيها حتّى نفهم السياسة التي تقود الإتحاد الأوروبي والتي تعتمد بالأساس على حماية الفلاح الأوروبي بلامقابل فإنّ الهدف الأساسي هو فتح السوق التونسية أمام المنتجات الأوروبيّة وهو ما لم تفهمه لا الحكومة الرجعية العميلة ولا المسؤول عن المهنة الذي ذكرناه آنفا :
* زيت الزيتون : الترفيع في حجم الحصّة من 46 إلى 50 ألف طن
* الطماطم : التمديد في فترة التصدير بشهرين
* معجون الطماطم : الترفيع في حجم الحصّة من 2000 إلى 4000 طن
* زيتون المائدة : حصّة ب 10 أطنان
* عنب المائدة : التمديد في فترة التصدير بثلاثة أشهر
* الباذنجان والقرع والدلاع : إعفاء من المعاليم الديوانية
أمّا الجديد فهو الموافقة على ما يلي :
* لحم النعام : التصدير بدون تحديد سقف
* العسل الطبيعي : حصّة ب 50 طن
* الترفاس : حصّة ب 5 أطنان
* الهندي : بدون تحديد سقف
لا يمكن أن نعلّق إلاّ بإستهزاء كبير على المواد الجديدة التي شملها الإتفاق فتربية النعام في تونس لا يمارسها حاليا إلا 4 أو 5 مستثمرين (رأسماليين) وليس لهم علاقة بالفلاحة بإعتبار أن هذا النشاط يتطلّب إستثمارات كبيرة جدّا تعدّ بالمليارات وليس بالملايين. بالنسبة العسل الطبيعي فالكل يعلم بأنّه نشاط ثانوي جدّا ولا يرتّب ضمن النشاطات التي لها أولويّة في تونس أمّا الترفاس والهندي فإنّ مجرّد الحديث عنهما يدعو إلى العجب بإعتبار وأنّ النبتة الأولى هي نبتة تلقائية لا يمكن زرعها أمّا الثانية فهي شبه تلقائية وأبدى الفلاحون رفضا قاطعا لغراستها لأنّها تتطلّب نوعيّة جيّدة من التربة مثل تلك المخصّصة للأشجار المثمرة وبالتالي فإنّه من المضحك الحديث عن تصديرهما إلى الخارج.
5.7. ما هو مستقبل المنتوجات الفلاحية في ظل منطقة التبادل الحرّ ؟
خلال حوالي نصف قرن من الزمن لم يتغيّر كثيرا هيكل المواد الفلاحية المصدّرة إلى الإتحاد الأوروبي والمورّدة منه ، فتونس تصدّر تقليديا زيت الزيتون والتمور من دقلة النور والقوارص من نوع المالطي والخمور وبعض أنواع الخضر مثل الطماطم وبالمقابل تستورد الحبوب. أي أنّ تونس تصدّر المفتّحات والمحلّيات وتستورد الغذاء الأساسي.
« On exporte l’hors d’œuvre et le dessert et on importe le plat de résistance » أي أنّ تونس التي كانت تسمّى في السابق "مطمورة روما" بسبب الإنتاج الوفير بها والتي أنجبت المهندس الفلاحي "ماقون" الذي خطّ أوّل موسوعة علميّة حول الفلاحة في العالم ، أصبحت تأكل من وراء البحار.
مستقبل المواد المصدّرة
قبل أن نقدّم قراءة لمستقبل المواد التي يقع تصديرها نحو الإتحاد الأوروبي لنرى حقيقة ما يقع تصديره على مستوى الكمّ وهل يغطّي الحصّة المخصّصة له وقد إخترنا سنة 2010 كمثال على ذلك.
جدول عدد 5 : بعض المواد المصدّرة سنة 2010 والنسبة من الحصّة المحدّدة
المادّة المصدّرة الحصّة المحدّدة وحدة القيس الكمّية المصدّرة النسبة من الحصّة
خمور معلّبة 000 56 طن 273 0.49 %
خمور سائلة 200 179 هكتولتر 245 13 7.39 %
أزهار 120 1 هكتولتر 192 17.22 %
بطاطا 816 18 طن 639 4 24.66 %
طماطم 000 4 طن 540 13.50 %
معجون غلال 50 طن 2.8 0.29 %
زيت زيتون 700 56 طن 700 39 29.98 %
برتقال 338 39 طن 568 22 57.37 %
المصدر : منشورات الإتحاد الأوروبي بتونس
هذا الجدول يبيّن بما لا يدع مجالا للشك بأنّ تونس لم تستطع تصدير الحصّة المحدّدة لها بسبب الضعف الكبير للإنتاجية من ناحية وللمعايير المعقّدة التي يفرضها الإتحاد الأوربي من ناحية أخرى فكيف إذا سيكون وضعنا في ظل منطقة التبادل الحرّ مع الإتحاد الأوروبي الذي يضمّ 28 دولة ولازال يتوسّع ويتفتّح على عديد البلدان الأخرى التي تنتج تقريبا نفس ما ننتجه في تونس ؟
ولنتحوّل الآن لقراءة مستقبل هذه المواد المصدّرة حتّى نأخذ فكرة عن مدى قدرتها على المزاحمة في السوق الأوروبية علما وأننا سنستثني من ذلك الخمور والخضر التي تعتبر الكميات المصدّرة منها قليلة جدّا.
-;- زيت الزيتون : زيت الزيتون يعتبر أهمّ مصدر للعملة الصعبة حيث يحتلّ المرتبة الأولى في مجموع صادرات تونس من المنتوجات الفلاحية ويساهم بمعدّل 30 % من قيمة مجموع الصادرات الفلاحيّة لكنّ هذه النسبة تنزل إلى حوالي 3 % فقط عندما نقارنها بجملة الصادرات التونسية. من ناحية أخرى فإنّ الكميّات المصدّرة تختلف من سنة إلى أخرى بإختلاف الصابة المرتبطة بالأمطار علما وأنّ حصّة تونس التي كانت في حدود 46 ألف طن في السنة إرتفعت إلى 50 ألف طن سنة 2001 ثمّ أصبحت تساوي 56 ألف طن بداية من 2008 وهذه الزيادة ب 10 أطنان لا تساوي شيئا في حالة صابة كبيرة من الزيت مثل صابة 2014 التي بلغت 300 ألف طن بالتمام والكمال وهو ما يعتبر إنتاجا إستثنائيا بينما المعدل السنوي يحوم حول 160 ألف طن علما وأنّ الإستهلاك الداخلي السنوي لا يتعدّى 30 ألف طن فقط.
ويعود سبب ضعف حصّة تصدير زيت الزيتون إلى أنّ البلدان الأوروبية التي تنتج زيت الزيتون مثل إيطاليا وأسبانيا واليونان لها الأولوية في بيع منتوجاتها في السوق الأوروبية إضافة إلى جودة منتوجاتها بالمقارنة مع زيت الزيتون التونسي المعروف بحموضته العالية إذ أن جني الزيتون ونقله وخزنه وتحويله ما زال يقع بطرق تقليدية جدّا تؤثّر على جودته.
وبالنظر إلى أهم البلدان الأوروبية التي تستورد الزيت التونسي نلاحظ بأنّ إيطاليا تحتلّ المرتبة الأولى بحوالي 77 % من الصادرات تليها أسبانيا وفرنسا ثمّ بقيّة البلدان.
فإيطاليا التي تعدّ من أهمّ المنتجين العالميين لزيت الزيتون تستأثر بتوريد الزيت التونسي الذي يصدّر سائبا وليس معلّبا (سنة 2015 وقع تصدير 311 ألف طن من الزيت منها 20 ألف طن فقط من الزيت المعلّب وهو ما يساوي 0.065 % فقط) ورغم إرتفاع حموضته نسبيا فإنّه يتمتّع بنكهة خاصّة ناتجة على أنّ الإنتاج يكاد يكون بيولوجيّا لتقوم بعد ذلك بخلطه بالزيت الإيطالي ثمّ تكريره وتعليبه وإعادة تصديره بإسم إيطاليا وليس بإسم تونس وبالتالي فإنّ إيطاليا هي التي تستأثر بالقيمة المضافة للزيت التونسي على حساب تونس.
إنّ هذا الواقع يكشف مدى عجز المنتجين أو المحوّلين التونسيين على التأقلم مع الأسواق العالميّة ومتطلّبات المستهلك الأجنبي وإفتقارهم لروح الخلق والمبادرة. ويزداد عجز المصدّرين التونسيين وضوحا عندما نرى عجزهم على إكتساح كافة أسواق بلدان الإتحاد الأوروبي أو حتّى أغلبها فالأرقام تبيّن بأنّه هنالك حوالي 8 دول فقط تستورد زيت الزيتون التونسي من جملة 28 دولة !!!!كما نسجّل أيضا عجز الهياكل المشرفة على هذا القطاع (ديوان الزيت ومن ورائه وزارة الفلاحة ومصالحها المختصّة) في عدم قدرتهم إلى حدّ الآن على إحداث "معرّف تجاري للزيت البيولوجي" الذي سيرفع بشكل كبير إن حصل القيمة المضافة للزيت إضافة إلى عدم قدرتهم على وضع آليّة لإثبات "أصل زيت الزيتون التونسي" مثلما تفرضه شروط الإتحاد الأوروبي وهي آليّة ستمكّن من ترويج الزيت التونسي كمادّة بيولوجيّة صرفة يمكن أن تمثّل المخرج الوحيد والهام لمنافسة زيوت البلدان الأوروبية الأخرى (إيطاليا ، إسبانيا واليونان) التي لا تتمتّع بهذه الخاصّية؟
لكنّ الأهمّ من كل ذلك هو أنّ زيت الزيتون يعتبر مادّة متوسّطية (Produit méditerranéen) يقتصر إنتاجها وخاصة إستهلاكها على بلدان البحر المتوسّط وهو ما يعني بأنّ آفاق ترويجها في مناطق أخرى من العالم قليلة وصعبة جدّا.
أمّا المخاطر الأخرى التي تهدّد مستقبل زيت الزيتون في تونس وتنبأ بمخاطر جمّة فهي تتمثّل في ما يلي :
- أوّلا : إمكانية كبيرة لفقدان الأصناف التونسية للزياتين التي قام الفلاحون على مرّ الأجيال بعمليّات إنتقائها وأقلمتها مع مناخنا منذ آلاف السنين (توجد شجرة زيتون في منطقة الشرف من معتمدية الهوارية يفوق عمرها 2500 سنة) وأصبحت تعتبر "موروثا جينيا" لبلادنا يجب المحافظة عليه وذلك نتيجة قيام عديد الفلاّحين (دون أي تدخّل من الدولة) ومنذ حوالي 10 سنوات بغراسة صنف مستورد من إسبانيا يدخل سريعا في الإنتاج مقارنة بالأصناف التونسية لكنّ فترة إنتاجه هي قصيرة جدّا مقارنة بفترة إنتاج الأصناف التونسية. وهذه العمليّة تعتبر جريمة في حقّ الأصناف التونسية بدأت تحت ظل نظام بن علي وتتواصل حاليّا دون أي مبالاة من طرف المصالح المختصّة وخوفي هو أن يحصل ما حصل للفصّة القابسيّة التي كانت تملأ واحات الجنوب التونسي والمعروفة بإنتاجيتها العالية وتأقلمها مع المناخ الصحراوي ومقاومتها للأمراض لكنّا إندثرت تماما منذ بداية الثمانينات بفعل جشع "سرّاق الجينات" أي مخابر البذور التابعة للبلدان الإمبريالية ووقع تعويضها بصنف جديد أصبحنا نستورده بأموال طائلة.
- ثانيا هناك مرض خطير جدّا بدأ يضرب غابات الزياتين في أوروبا وهو مرض بكتيري خطير جدّا يسمّى "الإقزيللا" (Xylella fastidios) الذي وصفه الرئيس المدير العام لديوان الزيت بـ "داعش الفلاحة"(14) بسبب عدم وجود دواء ناجع ضدّه لحدّ الآن والذي ينتقل عبر الطيور وعندما نعرف بأنّ عشرات الملايين من الطيور المهاجرة تأتينا سنويا من أوروبا لتستوطن المناطق الدافئة عندنا فإنّ إمكانية إنتقال العدوى لغاباتنا كبيرة جدّا إضافة إلى تواصل عمليّات توريد الزيتون الإسباني إلى اليوم وإذا حصل ذلك (وهذا ما لا أتمنّاه) فإنّه يمكننا أن نتساءل عن مصير 310 آلاف فلاح مختص في إنتاج الزيت ومصير الخمسين مليون يوم عمل التي يوفّرونها؟ علما وأنّ هذا المرض يمكن أيضا أن يفتك بأشجار الكروم والقوارص.
-;- الغلال : الغلال المصدرة حاليا للسوق الأوروبية تتمثّل أساسا في دقلة النور والبرتقال المالطي بينما تعتبر الكميات المصدرة من بقية الغلال قليلة جدا وذلك ناتج على أن الإتحاد الأوروبي وضع حواجز هامّة غير جمركية أمام المنتوجات الفلاحية التونسية وذلك بتحديد فترة تصدير لا توافق بالمرة فترة نضج المنتوجات التونسية وعلى سبيل المثال فإنّ العنب لا يصدّر إلا بين 15 نوفمبر و30 أفريل (العنب في الليالي) والبطيخ من 4 جانفي إلى 5 جوان والدلاع من 11 جانفي إلى 31 ماي والعوينة والفراولو من 1 نوفمبر إلى 31 جانفي ألخ. وإذا نظرنا إلى هذه التواريخ فإن هذه المنتوجات كي يمكن تصديرها يجب خزنها في بيوت التبريد (من تاريخ نضجها إلى تاريخ تصديرها) وهو ما يرفع في كلفتها وبالتالي يجعلها غير قادرة على المزاحمة.
القوارص : يجدر التذكير بأنّ الكمّية المنتجة وخاصة المصدّرة هي في تناقص مستمر وذلك ناتج أساسا عن أسباب هيكلية تتمثّل في أنّ أشجار البرتقال في الوطن القبلي تقدّمت كثيرا في السنّ (35 % من الغراسات سنها يفوق 40 سنة و37 % سنّها بين 10 و39 سنة و28 % فقط سنها أقل من 10 سنوات) وهو ما أدّى إلى ظهور أمراض عديدة أضرّت كثيرا بالصابة. علما وأنّ 84.5 % من المستغلات مساحتها أقلّ من هكتارين إثنين أي من صغار الفلاحين الغير قادرين على مواجهة الآفات التي تظهر فجأة وتتطلب أموال طائلة لمداواتها وكذلك بروز مشكل نقص المياه بأكثر حدّة خلال السنوات الأخيرة والذي أثّر كثيرا على صابة البرتقال المالطي في السنوات الأخيرة. وخلافا لزيت الزيتون فإنّ تصدير القوارص إلى أوربا لم يسجّل ولو مرّة واحدة منذ تطبيق إتفاق الشراكة سنة 1998 كامل الحصّة المحدّدة له بأكثر من 39 ألف طن. بل لا تتعدّى الحصّة التي يقع تصديرها سنويا 7 % أي حوالي 20 ألف طن بينما معدّل الإنتاج السنوي يصل إلى حوالي 300 ألف طن. من ناحية أخرى فإنّ تصدير القوارص إلى أوروبا غير متنوّع لا على مستوى الأصناف ولا على مستوى الوجهة حيث أنّ 90 % من الصادرات هي من صنف "البرتقال المالطي" التي يقع توجيهها أساسا إلى أكبر المدن الفرنسية (باريس ، ليون ، مرسيليا...) دون غيرها. أمّا عدم إقتحام الأسواق الأوروبية الأخرى وخاصة السوق الألماني (أعلى قدرة شرائيّة في أوروبا) فسببه إرتفاع أسعار البرتقال التونسي مقارنة بالبرتقال المصدّر من المغرب وفلسطين بحوالي 30 %. سبب آخر يعيق تصدير البرتقال وهو تقريبا نفس المشكل الذي يعاني منه زيت الزيتون ألا وهو التعليب. فأغلب الكميات المصدّرة (حوالي 90 %) يقع تصديرها في صناديق ذات 15 كغ وهو ما يجبر الشركات المورّدة على إعادة تعبئتها ووضعها في علب وحزم صغيرة تجلب المشترين وهكذا تتحصّل تلك الشركات على القيمة المضافة التي كان من المفترض أن تحصل عليها الشركات المصدّرة التونسية. فالمسألة إذا ليست مسألة إنتاج أو إنتاجيّة بقدر ما هي مسألة قدرة على التأقلم مع متطلبات السوق الأوروبي.
التمور : يبلغ معدّل الإنتاج السنوي للتمور حوالي 155 ألف طنّ منها حوالي 103 آلاف طن من دقلة النور. ورغم أنّ دقلة النور ليست محدّدة بحصّة للتصدير إلى الإتحاد الأوروبي فإنّ الكمّيات المصدّرة سنويا لا تتجاوز معدّل 70 ألف طن أي حوالي 45 % من الإنتاج السنوي.
لكنّه يجب التأكيد على أنّه بالنسبة لدقلة النور وإن زادت الكميّات المصدّرة في السنوات الأخيرة نتيجة دخول العديد من الواحات الجديدة مرحلة الإنتاج وغياب تمور العراق عن السوق الأوروبية منذ بداية التسعينات من ناحية أخرى فإنّ مستقبل الإنتاج وبالتالي التصدير غير مضمون على المدى المتوسّط والبعيد وذلك ناتج أساسا عن النقص الكبير في مياه الري من ناحية والذي أصبحت تعاني منه أغلب الواحات التونسية والذي لا يؤثّر فقط على الإنتاج وإنّما على نوعيّة التمور مثلما حصل هذه السنة في عديد واحات نفزاوة والجريد رغم وفرة الإنتاج وخاصة الخطر الذي يتهدّد الواحات التونسية بإقتراب مرض "البيوض" (Fusarium oxysporum f. sp. albedinis) من الحدود التونسية من ناحية أخرى. فهذا المرض الذي يعرف بمرض "سيدا النخيل" لعدم وجود أي دواء لمقاومته إلى حد الآن ، يتقدّم بسرعة من غرب الجزائر إلى شرقها بعد أن قضى على أغلب نخيل المغرب. وأكبر خطورة تتمثّل في التوريد العشوائي عن طريق عصابات التهريب "لفسائل النخيل" من القطر الجزائري خاصة بعد إنتفاضة 14 جانفي ومن حسن الحظ أنّ ما وقع توريده متأتّ من منطقة لا يوجد بها مرض "البيوض" لكنّ ذلك غير مضمون دائما. وتزداد خطورة هذا المرض لمّا نعلم بأنّ السياسة التي وقع إعتمادها في إحداث واحات جديدة إرتكزت كلّيا على الزراعات الأحادية (Monoculture) أي على دقلة النور فقط المعروفة بعدم قدرتها على مقاومة هذا المرض الفتّاك مقارنة بالأصناف الأخرى وبالتالي فإنّ الخسارة ستكون مضاعفة ، في حالة وصول هذا المرض إلى تونس ، خسارة إقتصادية وخسارة تهمّ التنوّع البيولوجي الذي مثّل الركيزة الأساسية للواحات منذ وجودها.
لكنّ الأمراض التي تهدّد النخيل لا تقف عند حدّ مرض "البيوض" وإنّما هنالك خطر داهم بسبب مرض جديد بدأ يستوطن في تونس وهو سوسة النخيل الحمراء (Rhynchophorus ferrugineus) التي تعتبر من أخطر الآفات الحشريّة التي تهدّد النخيل. وقد دخل هذا المرض إلى تونس في عهد الوزير الفاشل محمد بن سالم (في عهده عادت عديد الآفات للظهور من جديد وضربت الإنتاج النباتي والحيواني على حدّ السواء) عبر توريد نخيل الزينة من إسبانيا.
وقد بدأ هذا المرض يفتك بنخيل الزينة في مدن تونس الكبرى علما وأنّه لا دواء لهذا المرض إلاّ تقليع النخلة وحرقها حتّى لا تتكاثر الحشرة. لكن رغم خطورة هذا المرض لم نرى أي برنامج عملي لمقاومة هذا المرض أو التصدّي له خاصّة وأنّ هناك صعوبة كبيرة في الكشف المبكّر عن الإصابة ولم نرى خاصّة حملات توعية كبيرة لحثّ التونسيين من سكّان الجنوب على عدم نقل نخيل الزينة من إقليم تونس الكبرى أين يوجد المرض إلى داخل البلاد لأنّه لو حصل ذلك لوقع القضاء نهائيّا على نخيل واحات الجنوب ولوقع القضاء على مصدر دخل عشرات الفلاحين في الجريد ونفزاوة. مسألة أخرى تستحقّ الذكر وهي تتعلّق بالتناقص المستمرّ لإستهلاك دقلة النور في أوروبا بسبب "إستقرار الإستهلاك" هناك نتيجة عدم إقبال الشباب من أصول عربية وإسلامية من الجيل الثالث والرابع على إعتماد نفس عادات وتقاليد آبائهم سواء من ناحية "نموذج الإستهلاك" أو من ناحية الإلتزام الديني حيث يكثر إستهلاك الدقلة خلال شهر رمضان. وقد تراجعت صادرات دقلة النور خلال 10 سنوات (من 2003 إلى 2013) بحوالي 45 % وهو ما دفع بالمصدّرين إلى البحث عن أسواق أخرى بعيدة (خاصة في آسيا) تزيد في تكلفة التصدير.
-;- منتوجات البحر : تعتبر منتوجات البحر وخاصة منها القشريات والرخويات هي الوحيدة القادرة ، من بين المنتوجات الفلاحية الأخرى ، على المحافظة على مكانها داخل السوق الأوروبية بحكم الطلب الكبير على هذه المنتوجات غير أنّ الكميّة المصدّرة إلى حد الآن تبقى محدودة جدّا حيث يبلغ حجم الصادرات التونسية معدّل 20 طن في السنة من جملة 120 ألف طن يقع إنتاجها عبر الصيد أو التربية أي خمس (1/5) حجم الحصّة المقرّرة (100 طن سنويّا).
وهذا راجع إلى تقلّص الإنتاج من هذه المنتوجات نتيجة العوامل التالية :
* الإستغلال المفرط لإمكانيات خليج قابس من القشريات والرخويات
* عدم إستغلال الإمكانيات المتوفّرة بمياه الشمال بالكيفية المطلوبة
* عدم تطوّر أسطول الصيد البحري وخاصة للقوارب الساحليّة كمّا ونوعا بل وتراجعه مثلما يبيّنه الجدول التالي :
جدول عدد 6 : تطوّر أسطول الصيد البحري
نوع القوارب 1995 2000 2013
الكركارة 373 362 425
قوارب صيد السردينة 709 344 365
القوارب الساحلية 13642 11885 11263
سفن صيد التن 65 38 51
المصدر : المرصد الوطني الفلاحي ، 2014
نلاحظ بكل وضوح بأنّ القوارب المعدّة لصيد القشريات والرخويات المعدّة للتصدير ، أي القوارب الساحلية ، هي في إنخفاض مستمرّ فقد مرّ عددها من 13642 قارب سنة 1995 إلى 11263 قارب فقط سنة 2013 (تقلّصت بنسبة 28 %) كما إنخفض أيضا عدد القوارب المعدّة لصيد السردينة (أي قوارب البحارة الفقراء) حيث تقلّصت بنسبة 49 % بالمقابل إرتفع عدد قوارب الصيد بالكركارة التي تضرّ بالثروة البحريّة حيث تطوّرت بنسبة 114 %.
ومن بين الأسباب التي تسببت في هذه الوضعية هي التهميش الكبير الذي يعيشه القطاع الفلاحي منذ تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي (PASA) الذي قضى تماما على دعم الدولة للفلاحين وخاصة منهم الصيادين. لذلك فإنّه من الضروري إعادة النظر في هذه السياسات وإعادة تأهيل نشاط الصيد البحري وتمكينه من الدعم اللازم حتّى لا تنخفض صادراتنا بل يجب أن تفوق صادراتنا حتى الحصة المخصصة لأنّ السوق الأوربية يمكنها إستيعاب كميات كبيرة جدّا. وكمثال على ذلك يصدّر المغرب حوالي 725 طن في السنة (36 مرّة ما تصدّره تونس) أي حوالي 62 % من إنتاجه الجملي إلى الإتحاد الأوروبي والذي يبلغ 1.17 مليون طنّ أي حوالي 10 مرات الإنتاج التونسي.
مستقبل المواد المورّدة
الواردات التي ستشهد ركودا أو تقلّصا
-;- اللحوم والحليب ومشتقاته : لا تستورد تونس حاليا إلا حوالي 5 % من حاجياتها من اللحوم والتي تقدّر سنويّا بحوالي 122 ألف طن ويرجع ذلك بالأساس إلى التطوّر السريع الذي شهدته تربية الماشية خارج الضيعة (Elevage hors sol) مثل تربية الأبقار والدواجن والأرانب والديك الرومي وكذلك بعض السّلالات من الضأن المستورد (سلالة "الدمان" المستورد من المغرب و سلالة "البرقي" المستورد من الجزائر). وبذلك تطوّر إنتاج اللحوم الحمراء من 92 ألف طن سنة 1997 إلى 123 ألف طن سنة 2013.
وبحساب الأرقام إستوردت تونس خلال الفترة الممتدة بين 2007 و2014 معدّل 5 آلاف طن في السنة من اللحوم الحمراء بمعدّل 60 مليون دينار في السنة. علما وأنّ معدّل إستهلاك المواطن التونسي من اللحوم شهد تقلّصا كبيرا خلال السنوات الأخيرة حيث نزل من 18 كغ سنة 1999 للشخص الواحد إلى 12.3 كغ حاليّا وهو ما يعتبر من أضعف المعدّلات في حوض البحر المتوسّط وهو دليل أيضا على الفقر الذي تفشّى خلال السنوات الأخيرة. علما وأنّ أسعار اللحوم الحمراء إرتفعت بحوالي 20 % منذ سنة 2010.
لكنّ تطوّر هذا الشكل من الإنتاج الحيواني المشابه للصناعة أكثر منه للفلاحة أدّى إلى إرتفاع واردات الأعلاف بشكل لم يسبق له مثيل وهو ما يدعونا إلى التعامل بحذر مع هذه مقولة "الإكتفاء الذاتي".
أمّا بالنسبة للحليب ومشتقاته فقد وقع توريد حوالي 18 آلاف طن كمعدّل سنوي بين سنتي 2007 و2014 تكلّفت حوالي 70 مليون دينار في السنة ويحصل ذلك في فترات تقلّص إنتاج الحليب بينما يقع إتلاف كمّيات كبيرة من الحليب خلال ذروة الإنتاج بسبب عدم وجود معمل لتجفيف الحليب. ورغم أنّه وقع الحديث عن الإكتفاء الذاتي في هذه المادة منذ سنة 1999 فإنّ الأزمات التي عاشتها بلادنا بعدم توفّر هذه المادة في السوق في بعض الأحيان واللجوء إلى التوريد مثلما حصل سنوات 2012 و2014 والإرتفاع الكبير لأسعار الحليب فضحت واقع السياسة المتّبعة في هذا القطاع التي إرتكزت على دعم القطاع الخاص على حساب القطاع العام حيث وقع بيع شركة ستيل للخواص الذين لا يبحثون إلاّ على الربح الأقصى ، غير مبالين بتوفير المواد الأساسية مثل الحليب المعلّب. فالكل يعلم بأنّ معامل تحويل الحليب التي يملكها الخواص (والتي وصل عددها إلى 43 وحدة) إتجهت إلى إنتاج الياغورت والجبن والمواد المشابهة التي توفّر لهم ربحا أكبر بكثير من الربح المتأتي من إنتاج الحليب المعلّب مثلما يثبته الجدول التالي :
جدول عدد 7 : تطوّر إنتاج الحليب وتصنيعه (الوحدة : مليون لتر)
2005 2006 2007 2008 2009 2010 2011 2012 2013 2014
الإنتاج 920 971 1006 1014 1030 1059 1096 1124 1175 1218
حليب معلّب 336 347 360 378 419 400 456 447 510 509
ياغورت 100 112 125 140 144 155 140 145 145 160
جبن 83 85 95 110 116 130 120 123 125 135
مشتقات أخرى 28 35 35 40 46 55 44 45 40 46
جملة الكميات المصنّعة 549 585 622 680 725 740 760 770 820 850
المصدر : GIVLait, 2014
قراءة هذا الجدول تمكّننا من إستنتاج ما يلي :
- أوّلا : مسالك التوزيع غير مهيكلة بصفة علميّة حيث أنّ حوالي ثلث إنتاج الحليب يقع تداوله خارج المسالك الرسميّة. على سبيل المثال سنة 2014 لم يقع تصنيع إلاّ 850 مليون لتر حليب من جملة 1218 مليون لتر منتجة.
- ثانيا : لم يقع تعليب إلاّ 509 مليون لتر سنة 2014 من جملة 850 مليون لتر وقع تصنيعها وهو ما يمثّل أقلّ من 60 %.
- ثالثا : 40 % من كميّة الحليب المصنّعة (341 مليون لتر) تحوّل إلى ياغورت وجبن وبقية المشتقات من طرف معامل الحليب الخاصة ليحصدوا أرباحا طائلة. لكن حتّى إذا تركنا جانبا السياسة المتبعة من طرف الخواص في هذا المجال فهل يمكن الحديث عن إكتفاء ذاتي في اللحم والحليب ونحن نستورد البقرة التي تنتج الحليب والعلف الذي تأكله ؟ قطعا لا ، فقطيع الأبقار سنة 2014 يتكوّن من 424 ألف أنثى منها 228 ألف مستوردة (54 %).
فالإكتفاء الذاتي يعني إنتاج مادة ما محليّا إعتمادا على الإمكانيات الذاتية ، أي أنّ نسبة الإندماج (Taux d’intégration) تكون عالية بما فيه الكفاية. فما الفرق بين توريد اللحم والحليب من الخارج أو إنتاجه محليّا إعتمادا على بقر مستورد وعلف مستورد ؟
ولإعطاء فكرة عن تطوّر قيمة وكمّية العلف المستورد نقدّم الجدول التالي :
جدول عدد 8 : تطوّر واردات أهم المواد المستعملة في صناعة الأعلاف
الكميّة
(آلاف الأطنان) القيمة
(مليون دينار) نسبة
التطوّر (%)
2000 2014 2000 2014 الكمية القيمة
الذّرة الصفراء 479 821 103 322 86 % 165 %
الشعير 224 435 63 195 97 % 154 %
بذور الصوجا 76 140 74 140 92 % 95 %
المجموع 779 1396 240 657 90 % 137 %
المصدر : المعهد الوطني للإحصاء (نشريات عديد السنوات)
هذا الجدول يغني عن كل تعليق بإعتبار وأنّه يبيّن بأنّه لا يمكن الحديث عن تحقيق الإكتفاء الذاتي في مادة الحليب مثلما يردّد ذلك ساستنا حيث نورّد أكثر من 90 % من مكوّنات العلف المركّز وعلى سبيل المثال شهدت سنة 2014 توريد ما قيمته 657 مليار من المليمات من العلف دون إحتساب المبلغ الذي خصّص لتوريد الأبقار.
لذلك فإنّه لا يمكن الحديث عن إنتاج الحليب (Production) في تونس وإنّما عن إستخراج الحليب (Extraction) من البقر والعلف المستورد نظرا لأنّ نسبة الإندماج لا تفوق البتّة 10 %. لكن رغم كلّ ذلك فإنّ مع مزيد تنظيم هذه القطاع وخاصة مسالك التوزيع يمكن أن نقضي نهائيّا عن توريد الحليب وبالتالي عدم صرف مئات المليارات سنويا من أجل ذلك.
الواردات التي ستشهد إرتفاعا
-;- الزيوت النباتية : إن السياسة الفلاحية المرتكزة على تصدير زيت الزيتون وتعويضه بالزيوت النباتية البديلة من ناحية وتدهور المقدرة الشرائية للطبقات الكادحة من الشعب من ناحية أخرى ساهمت بشكل كبير في إزدياد الطلب على الزيوت النباتية المدعومة من طرف الدولة وبذلك أصبح المواطن التونسي من أكبر المستهلكين لهذه المادة في الوطن العربي وفي حوض المتوسّط حيث يبلغ معدّل الإستهلاك السنوي للفرد الواحد حوالي 25 كغ بالتمام والكمال.
لذلك فإنّ ما ذكرناه من التفقير المتزايد للطبقات الكادحة من ناحية وتعوّد المستهلك التونسي على هذه المادة من ناحية أخرى يدفعان في إتجاه تواصل توريد هذه الزيوت بكمّيات كبيرة. وقد بلغت الكمّيات المورّدة خلال الفترة الممتدة من 2007 إلى 2014 معدّل 298 ألف طن سنويا بقيمة 450 مليون دينار كمعدّل سنوي علما وأنّ سنتي 2008 و2011 شهدتا توريد أكبر كمّية من الزيت النباتي بلغت 360 ألف طن في كلّ سنة بمبلغ فاق 600 مليون دينار للسنة الواحدة. لذلك فإنّ واردات الزيوت النباتية ستزداد إرتفاعا خلال تطبيق منطقة التبادل الحرّ مع الإتحاد الأوروبي غير أنّه يمكن أن يحصل تغيير في حجم التوريد وقيمته إذا أقدمت الحكومة خلال السنوات القادمة على تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي التي وردت ضمن الوثيقة السرّية التي أمضاها على العريّض يوم 7 جوان 2013 للحصول على القرض الإئتماني والتي أسميتها أنا ب"برنامج جديد للإصلاح الهيكلي" : (أنظر مقالي بعنوان "القرض الإئتماني يخفي وراءه برنامجا جديدا للإصلاح الهيكلي : نهاية حلم إسمه "الثورة" http://front-populaire.org/?p=2303) والمتمثّلة في تفكيك صندوق التعويض ورفع الدعم نهائيّا عن كلّ المواد.
-;- السكّر : يعتبر إستهلاك مادة السكّر في تونس كبير جدا حيث يبلغ الإستهلاك السنوي للفرد الواحد معدّل 35 كغ إلاّ أنّنا نلاحظ بالمقابل بأنّ الإنتاج ضعيف جدّا بعد العودة المحتشمة لزراعة اللفت السكّري بعد حوالي عقدين من غلق المركّب السكّري ببن بشير بباجة بعد خوصصته تطبيقا لبرنامج الإصلاح الهيكلي. وقد وقع بعث مؤسسة خاصة منذ سنتين وهي مصنع "جينور" ويرجّح أن تبلغ المساحة المزروعة حوالي 1500 هك في إطار عقود تربط المصنع بالفلاحين ويمكن أن يبلغ الإنتاج حوالي 10 آلاف طن وهي كمّية بعيدة جدّا عن حاجيات البلاد. ولهذا السبب فقد وقع اللجوء إلى التوريد المتواصل لهذه المادة التي مرّت الكميات الموردة منها من 117 ألف طن سنة 1995 إلى 420 ألف طن سنة 2014 أي بزيادة تقدّر بحوالي 359 % خلال 20 سنة بتكلفة تساوي 320 مليون دينار.
× الحبوب : تمثّل الحبوب أهمّ غذاء أساسي في القطر حيث يبلغ معدّل إستهلاك الفرد الواحد في السنة حوالي 245 كغ بالتمام والكمال وهو ما يمثّل أعلى معدّل بين دول البحر المتوسّط والثاني عالميّا بعد كازاخستان. وإذا عدنا إلى ما ذكرناه أعلاه من أنّ التونسي يستهلك أقلّ معدّل من اللحوم في السنة بينما يستهلك أعلى معدّل من الحبوب فإننا نستنتج بأنّ ذلك دليل على تردّي القدرة الشرائية بإعتبار وأنّ الدراسات العلمية تؤكّد بأنّ نموذج الإستهلاك (Modèle de consommation) الذي يرتكز على كثرة الحبوب وقلّة اللحوم يؤشّر على ذلك وبالتالي على الفقر. هذه الوضعية أفرزت طلبا كبيرا على هذه المادة تقع تغطية النسبة الكبيرة منه عبر التوريد كما يبيّنه الجدول التالي :
جدول عدد 9 : معدلات الطلب الداخلي والإنتاج والتوريد للحبوب لفترتين مختلفتين
(الوحدة : 1000 قنطار)
فترة 1985-1999 فترة 2000-2014
الطلب الداخلي 177.3 30 893.8 44
الإنتاج 003.3 15 932.1 17
التوريد 174 15 961.7 26
المصدر: المرصد الوطني للفلاحة ، 2014
الملاحظ بأنّ تطوّر الإنتاج خلال فترة 2000/2014 مقارنة بالفترة السابقة لم يكن كافيا ليستجيب إلى الطلب المتزايد على هذه المادّة الأساسيّة. كما أنّ نسبة تغطية الإنتاج للحاجيات بقي ضعيفا جدّا لذلك فإنّ نسبة الإرتهان للتصدير بقيت عالية مثلما يبيّنه الجدول الذي يغطّي الفترة الممتدّة بين سنة 2007 و2014.
جدول عدد 10 : نسبة الإرتهان للتصدير (% )
2007 2008 2009 2010 2011 2012 2013 2014 المعدّل
61.4 72 43.8 74.4 52.7 55.8 71.2 57.6 60.1
المصدر: المرصد الوطني للفلاحة ، 2014
كما أنّه طيلة تلك الفترة (2007/2014) خصّصت تونس مبلغ 1260 مليون دينار كمعدّل سنوي لشراء الحبوب وهو ما يمثّل حوالي 47 % من المبلغ الجملي السنوي المخصّص لشراء المواد الفلاحية. ونظرا لأهميّة الحبوب وتأثيرها الكبير على الميزان التجاري الفلاحي فإننا سنفردها بأكثر تحليل إعتمادا على دراسة إستشرافية (تهم هذه المادة في ظل منطقة التبادل الحر) إرتكزت على نموذج قطاعي يأخذ بعين الإعتبار التغيّرات المناخية حسب المقاربة التي تعتمد التخطيط الإتفاقي الحذر. وبدون الدخول في تفاصيل هذا النموذج الرياضي الذي يسمّى بالنموذج القطاعي الإتفاقي السّكوني واللاّخطي) ( Modèle sectoriel stockastique, statique et non linéaire الذي درس مستقبل المواد الفلاحية في ظل تطبيق إتفاقية منطقة التبادل الحر مع الإتحاد الأوروبي نقدّم النتيجة المتحصّل عليها بالنسبة لقطاع الحبوب الذي يعتبر القطاع المهدّد أكثر من غيره في ظل إتفاقية التبادل الحر مع الإتحاد الأوروبي وما يعنيه ذلك من تأثير على الفلاحين وعلى المرتبطين بهذا القطاع سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة (النقل ، التوزيع ، الخزن...).
بالنسبة للإنتاج يبيّن الجدول التالي النسب المئويّة لتغيّر الإنتاج لمختلف أنواع الحبوب :
جدول عدد 11 : النسب المئوية لتغيّر إنتاج الحبوب في ظل منطقة التبادل الحر
المادّة سنة ممطرة سنة عادية سنة جافة
القمح الصلب 72.7 75.5 28.6 -
القمح اللين 54.2 - 100 - 100 -
الشعير 16.5 83.5 - 71.6 -
إنّ قراءة الجدول السابق تؤكّد أن القمح الصلب هو المادة الوحيدة التي يشهد فيها الإنتاج تطوّرا بنسبة تفوق 70 % في السنوات الممطرة والعادية بينما يتراجع الإنتاج في سنوات الجفاف بحوالي 28 %. بينما بالمقابل نسجّل خطر الإندثار الكامل لزراعة القمح الليّن حيث تظهر نتائج النموذج المستعمل تراجع إنتاج هذه المادة بنسبة 100 % بالنسبة للسنوات العادلة وسنوات الجفاف وذلك نتيجة الإنخفاض الكبير لأسعار الحبوب في السوق العالميّة. نفس الشيء نلاحظه بالنسبة للشعير حيث تشهد نسبة إنتاجه تراجعا هامّا خلال السنوات العاديّة والجافة حيث يتراوح النقص بين 70 و 80 %.
بالنسبة للتوريد : لتسديد النقص الحاصل في الإنتاج يعتمد النموذج على توريد الحبوب أكثر فأكثر من الإتحاد الأوروبي عوضا عن بقية بلدان العالم وذلك بحكم إنخفاض سعر شراء الحبوب ونقلها من الإتحاد الأوروبي إلى تونس.
جدول عدد 12 : النسب المئوية لتوريد الحبوب من الإتحاد الأوروبي
المادة سنة ممطرة سنة عادية سنة جافة
القمح الصلب 0 0 41
القمح اللين 61.3 298.1 232.5
الشعير 0 123 366
مثلما بيّننا ذلك بالنسبة لتغيّر إنتاج مختلف أنواع الحبوب فإنّ القمح الليّن هو المادة التي يشهد فيها التوريد تطوّرا بنسب كبيرة جدّا حتّى خلال السنوات الممطرة وهو ما يعني بأنّ إنتاج هذه المادّة في تونس في ظل منطقة التبادل الحر يصبح شيئا معدوما. أمّا بالنسبة للشعير فإنّ التوريد يشهد تطوّرا كبيرا في السنوات العادية وخاصّة في سنوات الجفاف بحكم انّ هذه المادة تستعمل كثيرا لتعليف الحيوانات وخاصّة منها المجترّات الصغرى. لذلك فإنّنا نستنتج من خلال ما وقع إستعراضه بأنّ تونس ستصبح من جرّاء هذه السياسة مرتبطة إرتباطا شبه كلّي بالسوق العالميّة وبالتّالي بالسوق الأوروبيّة في خصوص مادّة الحبوب بإعتبار وأنّ التوريد سيقفز من حوالي 60% من الحاجيات حاليّا إلى نسب يمكن أن تفوق حتّى 300 % في ظل منطقة التبادل الحرّ ممّا سيؤدّي من ناحية إلى الإضرار بالفلاحين من خلال تدهور مداخيلهم وبالتالي مزيد تفقيرهم ودفعهم إلى هجرة الريف ومن ناحية ثانية إلى الإضرار بالعماّل الزراعيين من خلال حرمان أغلبهم من مواطن شغلهم وبالتالي الدفع بأعداد كبيرة منهم على رصيف البطالة. وإذا أخذنا بعين الإعتبار ما ورد في الجدولين 11 و12 فإنّ آلاف الفلاّحين الذين ينتجون الشعير وخاصّة القمح اللين سيتخلّون نهائيّا عن هذه المهنة ويجدون أنفسهم خارج الدورة الإقتصاديّة (مثلما حصل لأكثر من مليونين من منتجي "الذّرة" في المكسيك) وبالتالي سيقع خسران ملايين أيام العمل في قطاع الحبوب. وبحساب الأرقام فإنّ عدد الفلاحين المباشرين لزراعة الحبوب يساوي حوالي 240 ألف فلاّح (وهو ما يمثّل 46.5 % من جملة الفلاحين في تونس) وعدد أيام العمل التي يوفّرها قطاع الحبوب يفوق 2.5 مليون يوم كما أنّ المساحة المزروعة من الشعير تساوي حوالي 590 ألف هكتار (80 % منها في المستغلّات الصغيرة التي تقلّ مساحتها عن 20 هك) بينما تساوي المساحة المزروعة من القمح الليّن حوالي 125 ألف هكتار يوجد 80 % منها في المستغلّات الكبرى التي تفوق مساحتها 50 هك. وإنطلاقا من هذه الأرقام وإذا ربطنا بين عدد الفلاحين والمساحات المزروعة من الشعير والقمح الليّن التي ستتضرّر بشكل كبير من تطبيق إتفاق التبادل الحرّ ، يمكن أن يصل عدد الفلاحين الذين سيخسرون نشاطهم إلى حوالي 100 ألف فلاّح ستكون أغلبيّتهم الساحقة من صغار ومتوسّطي الفلاحين أي من الفلاحين الفقراء يضاف إليهم حوالي 38 ألف معين عائلي ليجد هذا الكمّ الهائل من أبناء تونس الأعماق على رصيف البطالة. أمّا بالنسبة لأيام العمل التي ستندثر بإندثار زراعة الشعير والقمح اللين فإنّها يمكن أن تفوق مليون يوم عمل أي فقدان أكثر من 12 ألف عامل موسمي لمورد رزقهم نهائيّا.
هكذا إذا سيؤدّي تطبيق إتفاق التبادل الحرّ لا فقط إلى تدمير أحد أهمّ القطاعات الإقتصاديّة ألا وهو القطاع الفلاحي وإنّما أيضا تصحّر الأرياف الذي سيؤدي بالضرورة إلى أكبر ثاني طفرة نزوح من الريف إلى المدينة بعد نزوح سنة 1969 علما وأنّ تقلّص مواطن الشغل وإرتفاع البطالة هي نفس النتيجة التي أفضت لها سياسة برنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي بفقدان حوالي 50 % من العمال الفلاحيين (خلال 10 سنوات : من 85 إلى 95) لمواطن شغلهم مثلما يبيّنه الجدول التالي :
جدول عدد 13 : تطوّر عدد الفلاحين واليد العاملة بين 1986 و 1995
1985/1986 1994/1995 نسبة التطوّر %
العدد
(ألف) النسبة
(%) العدد
(ألف) النسبة
(%)
الفلاحون 208 38 282 51 36 +
المعينون العائليون 265 49 230 42 13 –
الأجراء 73 13 37 7 49 –
المجموع 546 100 549 100
المصدر : وزارة الفلاحة ، 1996
هذه هي النتيجة الحتميّة لتطبيق برنامج ليبرالي فجّ من البرامج التي إبتدعها منظروا العولمة الليبراليّة الشرسة وفرضتها الدول والكتل الإمبريالية وأفضت إلى مزيد تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء أو كما قال "جيلوليتو شييزا" في كتابه حول "الإرهاب وكذب الولايات المتحدة" الأمريكية(15) «عدد الأغنياء يتقلّص لكنّهم يزدادون ثراءا وعدد الفقراء يتضخّم لكنّهم يزدادون فقرا».
الخاتمة : لماذا يجب رفض "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" ؟
إنّ إنطلاق الجدل حول "إتفاق التبادل الحرّ الشامل والمعمّق" وتوسّعه في الفترة الأخيرة يحمّل مسؤوليّة كبيرة لمكوّنات المجتمع المدني بصفة عامّة وللثوريّين بصفة خاصّة بضرورة تحويل وجهة النقاش لطرح سؤال أعمق وأشمل ألا وهو : "أيّة إختيارات إقتصاديّة نريد ، خدمة لأهداف الإنتفاضة" ؟. وشخصيّا لا أرى حلّا غير وضع إختيارات إقتصاديّة وإجتماعيّة جديدة وليس الإكتفاء ببعض الإصلاحات للمنوال التنموي الحالي الذي أثبت فشله وثار من أجله أبناء الشعب الكادح سنة 2011 (أنظر مقالنا بعنوان "المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد : القطاع الفلاحي نموذجا" والصادر بجريدة الشعب على 6 حلقات خلال شهري جويلية وأوت 2011 بداية بالعدد 1135). فالإقتصاد يجب أن يكون في خدمة جماهير الشعب الكادح وليس في خدمة الرأسمال الجشع.
علما وأنّ سفيرة الإتحاد الأوروبي بتونس "لورا باييزا" (Laura Baeza) لم تعجبها مواقفنا الناقدة للإتفاق فهي تريد منّا ، لكي ترضى علينا ، أن نقبل "بوصفتها المدمّرة لقطاعي الفلاحة والخدمات بتونس" دون نقاش. فقد قالت بالحرف الواحد خلال الندوة التي ضمّت الثلاث غرف التّجاريّة المشتركة (تونس/أيطاليا وتونس/ألمانيا وتونس/فرنسا) يوم 13 نوفمبر 2015 ما يلي : «تقديم إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق لازال سطحيّا ، إيديولوجيّا بل شعبويّا. وهناك حتّى من يتحّدث عن الإستعمار الجديد»(16). وأجيب "السيّدة" السفيرة : «نعم يا "سيّدتي" نحن نتبنّى إيديولوجيا تماما كما أنت تتبنين إيديولوجيا. لكنّ الفارق هو أنّنا نتبنّى إيديولجيا منحازة إلى العمال والفلاحين الفقراء ونحن ندافع عن برامجهم وطموحاتهم وأحلامهم بينما أنت تتبنّين إيديولوجيا منحازة للرأسماليّة وأنت تدافعين عن أهدافها وبرامجها ومشاريعها وذاك هو الفارق بيننا».
هكذا وعوض ان يكفّر الاتحاد الاروبي عن ذنوبه باعتبار وأنّه كان داعما للعميل بن علي وشريكا له في الجرائم المرتكبة في حق الشعب التونسي وثرواته طيلة 23 سنة وقبله العميل بورقيبة الذي صنعه لينصّبه على رأس دولة الإستعمار الجديد سنة 1956 ، نراه اليوم يصر على فرض "إتفاق تبادل حرّ" للهف ما تبقّى من مكاسب ومؤسسات عمومية أفلتت من شراك "إتفاق الشراكة" سيّء الذكر. فمنظّروا الليبراليّة الشرسة يقدّمون إتفاقيات التبادل الحرّ (التي فاق عددها حاليّا 150 إتفاقية موزّعة على كلّ مناطق العالم) على أنّها "دواء لجميع الامراض" وهي القادرة على الإستغلال الأفضل لوسائل الإنتاج غير أنّنا نجزم بأنّه على العكس من ذلك فإنّه لا يفضي إلاّ إلى نتائج إقتصاديّة وإجتماعيّة كارثيّة. وللتدليل على ذلك تقوم الأحزاب التقدّمية والمنظّمات العمّاليّة والفلاحيّة في الإتّحاد الأوروبي بصفة عامّة وفرنسا بصفة خاصّة منذ مدّة بالتعبئة العامّة للتصدّي لإتفاق التبادل الحرّ مع أمريكا (أنظر : https://www.collectifstoptafta.org/) الذي بدأت النقاشات حوله يوم 8 جويلية 2013 وسيبدأ تطبيقه سنة 2016 "إتفاق التبادل الحرّ عبر الإطلنطي" والمعروف أكثر بإسم (TAFTA) بالأنقليزية (Transatlantic free trade area). فهل من المعقول أن تقوم 28 دولة من الإتحاد الأوروبي بالتجنّد لرفض إتفاق شراكة مع دولة واحدة هي الولايات المتّحدة الأمركيّة بينما يهرول مسؤولو دولة واحدة هي تونس لعقد إتفاق شراكة مع 28 دولة هي دول الإتحاد الأوروبي ؟
فقد أصدرت 7 جمعيات ونقابات من أهمّ الجمعيات والنقابات الأوروبيّة كتابا هامّا في شهر أكتوبر الفارط حول خطورة هذا الإتفاق على الخدمات العموميّة في أوروبا بعنوان "الهجوم الكبير على الخدمات العموميّة" (La grande offensive sur les services publics) يمكن أن نقرأ منه ما يلي :"الخدمات العموميّة داخل بلدان الإتحاد الأوربي مهدّدة بشدّة من خلال إتفاق التبادل الحرّ مع أمريكا الذي سيجعل الحقوق الأساسيّة للمواطنين الأوروبيين مثل الحق في الصحة والمياه والطاقة تحت رحمة الشركات متعدّدة الجنسيات"(17). طبعا "مسؤولينا الميامين" لن يقرؤوا هذا التقرير ولن يهتمّوا حتّى بوجوده لأنّهم وبكلّ بساطة سينضبطوا لتوصيات وقرارات الإتحاد الأوروبي. بالمقابل وكردّ على هذه الآليّة الإمبريالية التي غطّت كلّ مناطق العالم ولتفادي السقوط بين مخالبها أقدمت الأنظمة اليساريّة في أمركيا اللاّتينيّة بمبادرة من الرئيس الكوبي السابق "فيدال كاستو" والرئيس الفنزويلي الفقيد "هوغو شافيز" على بعث إتفاقيّة شراكة سمّيت بـ "الشراكة اللاتينو/أمريكية للإندماج" (L’Association latino-américaine d’intégration : ALADI) التي تضمّ كوبا والأرجنتين والبرازيل وفينزولا وكولومبيا والشيلي والبيرو والأورغاواي. وقد مكّن هذا التكتّل الهامّ حماية إقتصاديّات بلدان أمريكا اللاتينية من تداعيات البرامج الليبرالية الشرسة.
هذا المثال يجعلنا نتساءل : «لماذا لا يقع التفكير في بعث إتفاق تبادل حرّ يضمّ بلدان الإتحاد المغاربي عوضا عن التمسّك بتلابيب الإتحاد الأوروبي ومشاريعه المدمّرة ؟».
وإذا عدنا إلى الواقع التونسي نقول بأنّ السوق الأوروبية أصبحت مع بداية هذا القرن أكثر تشدّدا بالنسبة للمواد الفلاحية المصدّرة من ناحية المواصفات المطبّقة (النوعية ، التكييف ، التعليب...) وأكثر مزاحمة من ذي قبل (توسّع السوق التي أصبحت تضمّ 28 دولة عوضا عن 15). فقد بلغت السوق الأوروبية إكتفاءها الذاتي في العديد من المواد وخاصة ما يعرف بالمواد المتوسّطيّة التي تصدّرها تونس (زيت الزيتون ، القوارص ، الخضر...) كما أنّ البلدان الأووربية المزاحمة لتونس لم تعد معنية بنظام الحصص أو بالسقف التعريفي بينما تونس ما زالت تعيش تحت طائلة تلك الشروط. ونظرا لكل ما تقدّم فإنّه يمكننا التأكيد وبدون تحفّظ بأنّ إرتباط تونس وإندماجها في الفضاء الإقتصادي الأوروبي سيزيد من إشتداد التفقير والتدمير. فالقطاع الفلاحي لن يتضرّر على المستوى الإقتصادي فقط (إندثار العديد من المنتجات) وإنّما على المستوى الإجتماعي (تهميش ، بطالة ، فقر...) وأيضا على المستوى البيئي (إهمال الأراضي ، تدنّي مستوى التنوّع البيولوجي...) فبلدان المنطقة لها إنتاج مزاحم وليس إنتاجا مكمّلا إضافة إلى أنّ الإمكانيات والموارد والبنية الأساسية والتجهيزات تلعب لصالح البلدان الأوروبية وليس لصالح تونس.
في الختام لا يمكن إنهاء هذه الدراسة دون التعرّض إلى أهمّ نقد لنظرية التبادل الحر ولأطروحات ”دافيد ريكاردو“ هذا النقد الذي قام به ”روني ساندرتّو“(18) في دراسة قيّمة حيث يؤكّد بأنّ البلدان التي تصدّر المواد الفلاحية مع تسجيل إنتاج متناقص تشهد تقلّصا في الأرباح وبالتالي في نسبة النمو ، بالمقابل فإنّ البلدان التي تصدّر المواد الصناعية مع الحفاظ على إنتاج متصاعد (بحكم التحكم في التكنولوجيا) تشهد تطوّرا في نسبة النموّ. وهذا هو بالضبط حال العلاقة التي تربط بين تونس والإتّحاد الأوروبي. وبذلك فإنّ التجارة العالمية تصبح في خدمة المقاولين في البلدان الصناعية على حساب المنتجين في البلدان الفقيرة. ويؤكّد ”ساندرتّو“ بأنّ التبادل الحرّ يعني في الحقيقة التبادل اللامتكافئ. ويختم متسائلا : "هل أنّ مدح وتمجيد التبادل الحر لا يخفي من جانب ”ريكاردو“ الدفاع عن مصالح خصوصية للبورجوازية ؟".
أقولها وبصوت عال هذا الإتفاق إن حصل وأنا متأكّد بأنّه سيحصل في ظل نظام رجعي عميل فإنّه سيقضي نهائيّا على الفلاحة التونسيّة وسيجعل غذاءنا الأساسي تحت رحمة الإستعمار يتصرّف فيه كما يشاء.
"أمامنا أهدافهم ومشاريعهم وأمامهم صمودنا ومقاومتنا فإمّا إشتراكيّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أوبربريّة".
تونس في 20 نوفمبر 2015
د. عبدالله بنسعد
المصادر :

(1) فرانس فوكوياما : نهاية التاريخ والإنسان الأخير. صدر سنة 1992 عن دار Free Press
(2) Bela BALASSA 1961, Typologie des différentes formes d’intégration économique
(3) ماجدة تامر - http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=55608
(4) لينين : الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
(5) http://download.ecorys.com/fuu/downloads/1Final_report_TSIA_EU_Tunisia.pdf
(6) Danièle FAVARI, 2014 : Europe / Etats-Unis : les enjeux de l’accord de libre-échange
(7) Nadia ALEXAN : http://www.mondialisation.ca/laccord-de-partenariat-transpacifique-la-souverainete-canadienne-aux-mains-des-transnationales/5482957
(8) http://www.anti-k.org/2015/01/03/le-bilan-de-lalena-au-mexique-ou-comment-le-libre-echange-impose-par-les-usa-a-detruit-un-pays/
(9) Jean FEYDER : La faim tue. Paris 2011
(10) http://esthervivas.wordpress.com/francais/
(11) الاستراتيجية الوطنية لتأقلم الفلاحة والأنظمة البيئية التونسية مع التغيرات المناخية ، وزارة الفلاحة/وكالة التعاون الفني الألماني ، مارس 2007
(12) https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/22787/9781464806735.pdf?sequence=13&isAllowed=y
(13)
Gérard LAFAY, 1997 : Comprendre la mondialisation
(14) أنظرملف آخر خبر الإقتصادية بتاريخ سبتمبر 2015 ص 27
(15) Giuletto CHIESA, 2003 : Guerre et terrorisme. Mensonge d’Etat américain
(16) http://kapitalis.com/tunisie/2015/11/16/le-debat-sur-laleca-est-ideologique-et-populiste-deplore-baeza/
(17) http://solidaires.org/IMG/pdf/ttip-ceta_la_grande_offensive_sur_les_services_publics_rapport_complet.1.pdf?3248/84a2b53181d1b278cdfe93aeea868189290c97c5
(18) René SANDRETTO, 2011 : Politiques commerciales des grandes puissances
La tentation néoprotectionniste




#عبدالله_بنسعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحي ...
- هل تعب -اليسار- في تونس من النضال حتّى يبحث عمّن يدافع عنه ب ...
- من جنون البقر إلى أنفلونزا الطّيور : مسار العولمة الليبراليّ ...
- هل إنتهى حزب البعث في العراق ؟ : لماذا يرفض حزب البعث التندي ...
- بين حزب البعث في العراق و-داعش- وبين الحقائق على الأرض والتض ...
- دستور 2014 : خدعة جديدة للعمّال وعموم الشعب وإنقلاب على مطال ...
- العولمة والتعليم في تونس : سلعنة المدرسة خدمة لرأس المال ، م ...
- في الذكرى 56 لإصدار مجلة الأحوال الشخصية بتونس : المطلوب مسا ...
- ميزانية 2012 : ميزانية تفقير المفقّرين والتخلي عن -السيادة ا ...
- على هامش الإنتخابات الرئاسية الفرنسية : لا علاقة لفرنسوا هول ...
- المشروع الفلاحي السويسري بالصحراء التونسية : هل هو حقا لإنتا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- المطلوب منوال تنمية أم إختيارات إقتصادية جديدة لتونس الغد. ا ...
- غرّة ماي مابين سنتي 1886 و1889 من إنتفاضة العمّال بشيكاغو إل ...
- الأهداف الإستراتيجية للحرب على الإرهاب
- الأهداف الإستراتيجية للحرب الإمبرياليّة على العراق (الجزء ال ...


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- كيف استفادت روسيا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية لصالح تطو ... / سناء عبد القادر مصطفى
- مشروع الجزيرة والرأسمالية الطفيلية الإسلامية الرثة (رطاس) / صديق عبد الهادي
- الديمغرافية التاريخية: دراسة حالة المغرب الوطاسي. / فخرالدين القاسمي
- التغذية والغذاء خلال الفترة الوطاسية: مباحث في المجتمع والفل ... / فخرالدين القاسمي
- الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي- الجزء ا ... / محمد مدحت مصطفى
- الاقتصاد الزراعي المصري: دراسات في التطور الاقتصادي-الجزء ال ... / محمد مدحت مصطفى
- مراجعة في بحوث نحل العسل ومنتجاته في العراق / منتصر الحسناوي
- حتمية التصنيع في مصر / إلهامي الميرغني
- تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّام ... / عبدالله بنسعد
- تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الطريقة الرشيدة للتنمية ا ... / احمد موكرياني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الصناعة والزراعة - عبدالله بنسعد - تبادل حرّ أم تبادل لا متكافئ : -إتّفاق التّبادل الحرّ الشّامل والمعمّق- (ALECA) بين تونس والإتّحاد الأوروبي وتأثيراته المدمّرة على القطاع الفلاحي