أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - يوسف رزين - يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي















المزيد.....


يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 4999 - 2015 / 11 / 28 - 23:14
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


يقارب فاضل الربيعي في كتابه هذا موضوع قصة النبي يوسف مقاربة تأويلية هيرمينوطيقية بحثا عن معانيها المضمرة حيث يقوم بوصلها بتراث الهلال الخصيب و اليونان و مرويات شعوب هذه المنطقة عن الخصب و الجدب ممثلة في قصة يوسف و زوليخا و قصص مشابهة لدى الاشوريين و اليونان تناولت حادثة وقوع امرأة في غرام ضيفها.
يجعلنا فاضل الربيعي نفهم من خلال مقاربته هاته ان احداث قصة النبي يوسف ما هي الا رموز لاحداث عظام عرفتها مجتمعات الهلال الخصيب(العراق و الشام و مصر ) تمثلت في تعاقب مواسم الخصب و الجدب عليها و هذه الاحداث الفارقة في حياة هذه المجتمعات تم تخليدها في قصص مرمزة و مجسدة في اشخاص و ابطال طبيعيين . هكذا اذن يخرج بنا الكاتب من أسار القصة المسلية و ينطلق بنا نحو الحفر الاركيولوجي الحذر و العميق داخل المرويات و الاساطير التراثية العربية و العبرانية بحثا عن المعنى الحقيقي لرموز قصة النبي يوسف . فالاسطورة كما يقول فاضل هي بلاغ سردي و نظامها و آليات ارسالها لا تنطوي على أي قدر من الاعتباطية او اللامعنى بل لها وظيفة استذكارية تتعلق بإحياء تاريخ منسي حفظته الجماعات و القبائل بأبجدية لم نعد نعرف عنها اي شيء و هي سجلته تاليا بلغة ميثولوجية سرعان ما نسيها الانسان . و بدورنا نقول ان الراوي القديم وجد نفسه امام معضلة تبليغ خطاب شديد التعقيد و الكثافة الى الانسان العادي فلجأ الى الترميز و الايجاز و الاختزال ثم ثانيا الى تصوير هذا الخطاب في شكل قصص مسلية و هو ما عبر عنه القرآن بالاية الكريمة "نحن نقص عليك احسن القصص" و تمثل ذلك في الاسطورة و الحكايات الشعبية و القصص الدينية . لقد اختار الراوي القديم تقنية انسنة و حيونة و طبعنة الاحداث و الجماعات البشرية و تاريخها . هكذا اذن تصبح القصة او الاسطورة جنسا ادبيا يتضمن عدة مستويات من الخطاب او الرواية او السرد. فهناك المستوى السردي الاول الذي يروي حياة يوسف مثلا و الاحداث التي عاشها و الشخصيات التي صادفها و المستوى السردي الثاني الباطني الذي يجعل من عناصر قصته رموزا لاحداث عظام عاشتها شعوب المنطقة الحاضنة لهذه الاسطورة/ القصة.
اننا في هذا المقال سننطلق مع فاضل الربيعي في مغامرة استكشاف مجاهل قصة النبي يوسف و تفكيك رموزها و لكننا في نفس الوقت سنشتبك مع الكاتب كلما اختلفنا مع تأويلاته رغبة منا في الدفع بهذه التأويلات نحو مجالات ارحب و استنطاق عناصر اسطورة الوقوع في غرام الضيف بشكل افضل.
يوضح الكاتب ان اسطورة الوقوع في غرام الضيف لا تنحصر في قصة يوسف بل هي ادب عالمي منتشر. ذلك ان البابليين و الاشوريين و اليونانيين القدماء تركوا لنا ادبا كاملا يمكن تصنيفه في ادب " الوقوع في غرام الضيف " حيث نشاهد النساء و هن يقعن في غرام ضيوفهن . لذلك يوضح الكاتب ان اسطورة يوسف لا يجب النظر اليها كواقعة تاريخية او دينية بل كجزء من ادب عالمي كان شائعا و مألوفا في العالم القديم و انتقل الى التوراة ثم الى القرآن و مرويات التراث العربي-الاسلامي . و لذلك قام باستعراض النصوص الميثولوجية العربية الاسلامية و التوراتية من اجل قراءة عميقة و جذرية في الدلالات التي ترسلها اسطورة يوسف حيث يقوم جهازها السردي بوظيفة محددة و هي تبيان العلاقة بين النبوة و غواية المرأة بوصفها علاقة تضاد و تنافر و ان يوسف سيتعرض لامتحان الغواية و سيجتازه بنجاح ثم سيتزوج صاحبة الاغواء بعد ان تكون قد فقدت جمالها و صارت هرمة حيث ان يوسف في رواية الابشيهي في كتابه " المستطرف من كل فن مستظرف" سيصادف امرأة العزيز بعد انتصاره على الاغواء و الدنس و سيتزوجها و يعيد إليها شبابها و يمتلكها هذه المرة دون الوقوع في الدنس الذي يمثل في معظم الاساطير كخطر داهم يهدد الافراد و الجماعات بالدمار و هو يتخذ في الميثولوجيا العربية الاسلامية هيأة امرأة صارخة الجمال و الفتنة.
يوضح الكاتب ان يوسف مثل في الخطاب الاسطوري اله الخصب العربي القديم بينما مثلت امرأة العزيز القربان الانثوي الذي تعرف عليه رغم تقنعه بقناع العبد. لكن السؤال الذي غفل عنه الكاتب هو لماذا رفض يوسف هذا القربان المعروض عليه بالحاح ؟ لماذا ؟ الجواب في نظرنا هو ان زوجة العزيز ترمز لأرض مصر الخصبة بينما يرمز زوجها الذي تذكر الاسطورة انه قائد جيش مصر الخصي الى جيش مصر المنهار و غير القادر على حمايتها ، ثم لدينا يوسف الشاب الجميل كرمز للقبيلة العبرانية البدوية و بالتالي يمكن تجميع هذه الرموز و تاويل رفض خضوع يوسف لاغواء امرأة العزيز بكون البدو العبرانيين رفضوا استباحة مصر على طريقة البدو الرعاة و فضلوا الاستقرار بها و تعلم الزراعة و هو ما عبر عنه القرآن بالاية الكريمة " رب السجن احب الي مما يدعونني اليه " فاستقرار البدو بالمدينة او القرية هو سجن لهم و هم الذين الفوا التنقل و الترحال. هذا السجن هو عملية انتقال انثروبولوجي قاسي من البداوة الى الحضارة و من الشساعة الى الضيق و المكان المحدود ، لكن الكاتب رأى ان امرأة العزيز عرضت نفسها على يوسف هذا الغريب المقدس كقربان لانها رات فيه امارات القداسة و نور وجهه الالهي منذ لحظة دخوله و نحن نعترض على هذا التفسير لانه لا توجد اية شارة نصية عن نور مقدس على وجه يوسف و انه مجرد تأويل متعسف من طرف الكاتب و ربط غير موفق برواية ابن هشام عن مراودة الكاهنة لعبد الله بن عبد المطلب . لهذا يجب قراءة اغواء امراة العزيز ليوسف بتحويل المرأة الى ارض خصبة و يوسف الى قبيلة مثلما فعل الكاتب في كتابه شقيقات قريش حينما اول ابراهيم و ابناءه الى قبائل و نفس الامر ينطبق على يوسف الذي بدوره يمكن تأويله الى قبيلة وافدة على مصر لكنها ترفض استغلال ظروف مصر السياسية و ضعفها العسكري (فوطيفار الخصي) فتستبيحها على طريقة القبائل الرعوية الغازية و هو ما تعبر عنه الرواية برفض يوسف الخضوع لفتنة الاغواء المدنس بل تقرر الاستقرار و اخصاب مصر بالطرق المباحة اي بالزراعة لا بالرعي .
ان الدنس من هذا المنظور لا يصبح مجرد ممارسة جنسية محرمة بين شاب و امرأة متزوجة بل تلك الاستباحة التي تقوم بها القبائل البدوية الرعوية للبلدان الزراعية ابان ضعفها العسكري و انه حسب منطوق الاسطورة اذا ارادت هذه القبائل ان تدخل لهذه البلدان فعليها ان تغير من سلوكها و نمط عيشها و تتحول الى قبائل زراعية . و هو ما نجده في الاسطورة التي اوردها الابشيهي في كتابه المستطرف حيث ذكر ان امرأة العزيز بعد ان صارت عجوزا انتظرت فوق رابية موكب يوسف بعد ان صار ملكا من اجل ان تعرض عليه عذريتها من جديد و انه في هذه المرة سيستجيب لها و ينجب منها ابنا . و مع ذلك لم يوفق الكاتب في تفكيك عناصر هذه الاسطورة و اول يوسف على انه إله ، في حين لم ينتبه الكاتب الى كلمة رابية و موكب الملك . فرابية تعني مكانا مرتفعا و موكب يعني صفا طويلا من الذكور و الملك يعني اكثر الذكور خصوبة و امرأة فوق رابية تعني المكان المرتفع الذي من خلاله لا يستطيع الوصول اليها الا اقوى الذكور و اخصبهم ، تماما مثلما يحدث عند موسم تزاوج النحل و بالتالي فإن امراة العزيز تكون قد عرضت موكب الملك يوسف للانتخاب الطبيعي و الذي لم ينجح فيه الا الملك . اذن هنا تقول الاسطورة ان اللقاء / الوصال/ الانتخاب صار ممكنا بعد ان تحول يوسف من بدوي عبراني الى مصري مزارع بعد ان مر بتجربة السجن التي صهرته و خلصته من طبيعته البدوية الفوضوية.
ينتقل الكاتب الى تأويل عنصر اخر من عناصر الاسطورة و هو يعقوب والد يوسف . يوضح بأنه كان في طور سابق على تطور شخصيته الدينية يجمع بين شخصية الاله الخصي و اله الخصب فهو امتنع عن اهداء راحيل ام يوسف هديتها الموعودة (الابناء) لكنه قام بتقديم الهدية المماثلة لاختها الجميلة ليئة التي انجبت له الكثير من الابناء ، فزواج يعقوب من راحيل يتضمن اذن من الناحية الرمزية كل الاشارات اللازمة و الضرورية لتصوير زواج اله العقم من الالهة العاقر و هذه بلا ريب صورة نموذجية من حيث طاقتها الرمزية لتصوير صراع الراعي مع الارض المجدبة التي ارتحل اليها . لكن راحيل اكلت من لفاح الحقل و جاء يعقوب من البرية فنام معها و انجبت له يوسف ، فراحيل اذن هي التجسيد الرمزي للارض القاحلة التي يخصبها الزرع و ابنها يوسف هو رمز للخصب حيث يوضح الكاتب انه ارتبط بعقيدة قديمة من عقائد القبائل العربية في طفولتها البعيدة تصوره كمقدس اي كإله من آلهة الخصب .
نضيف بدورنا الى هذا التاويل بأن زواج يعقوب من راحيل و ليئة الجميلة يعني انه قبيلة متواجدة فوق ارض خصبة و اخرى مجدبة و ان يوسف هو نتاج انتقال الزراعة الى الارض المجدبة و هو ما تعبر عنه عبارة" اكلت راحيل من لفاح الحقل " فأكلت تعني استبطنت (راحيل/ الارض المجدبة) البذرة داخلها .
و نطرح السؤال التالي : لماذا كان يوسف ابن يعقوب المفضل ؟ ما السر وراء ذلك ؟ نجيب ان يعقوب يرمز الى الى المناخ الخصب الذي يعقب المناخ الجاف (عيصو) . لقد انجب يعقوب ابناء لم يحبهم اي انهم يرمزون الى المناخ الجاف بينما احب يوسف لانه كان امله في عودة المناخ الخصب ، اما كره اخوة يوسف له و كيدهم له فهو ترميز لديالكتيك مناخي الجدب و الخصب و تصارعهما.
و اذا انتقلنا الى حادثة ارسال يوسف لقميصه الى ابيه فإننا سنجد ان ذلك يرمز الى انطلاق سحابة مطر الى بلاد العبرانيين ايذانا بعودة مناخ الخصب و ان عماء يعقوب يعني جدب ارض العبرانيين لان العين تحمل ايضا معنى منبع الماء و وصول قميص يوسف يعني وصول السحاب و هو ما تعبر عنه الاية " اني لأجد ريح يوسف " فالريح تسبق السحاب المحمل بالمطر ، ثم ان عودة بصر يعقوب معناه عودة الخصب الى ارض العبرانيين بعد وصول القميص/ الغيمة/ السحابة/المطر التي سقت العين/ النبع بالماء .
يستمر الكاتب في تفكيك عناصر الاسطورة و يشير في الفصل الثاني من الكتاب الى ضرورة اعادة قراءة الاسماء الواردة في النصين العبري و العربي لقصة يوسف بوصفهما اسماء و اماكن آلهة تتضمن شحنات رمزية عالية . فمثلا اسم مصر بالعبرية (مصريم) يحيل الى مشكلة اصل هذا الاسم و من اين جاء و ما صلته بالاسم (مضر) بالضاد المعجمة الذي تخيلته القبائل العربية القديمة ابا اعلى لها و قد تكون اعطته اسمه للبلاد التي دخلها ملوك البدو ابان المجاعة الكبرى فيما يعرف بعصر الهكسوس ثم اذا انتقلنا الى اسم فوط يفارع فإننا نجد ان مصر لا تعرف في سجلاتها التاريخية القديمة و لا في جغرافيتها اسم الكاهن فوط يفارع كاهن اون الذي وهب ابنته ليوسف بينما تعرف اليمن هذا الاسم جيدا و تماما كما في رسمه العبري (فوط) و فوط هذا جبل شهير بينابيعه الغزيرة و هو يقع حسب وصف الهمداني في بلد خولان و بالتالي يوضح الكاتب ان قصة زواج يوسف من ابنة كاهن اون تروي على مستوى الرموز وصول القبيلة المهاجرة يوسف الى بقعة غزيرة المياه هي اون و هو ما سبق ان اشرنا اليه على مستوى تأويل اسم يوسف .اما عن جبل فوط ، فيصفه الهمذاني و يرسم اسمه على النحو ذاته الوارد في التوراة من دون تلاعب " و من ذوات النبع اي الجبال الشهيرة بغزارة المياه خاصة من بلد خولان: فوط " اما كلمة يفارع – فارع التي يستخدمها النص فهي صفة الاسم لان فارع هنا بمعنى الطويل العالي المنيف المرتفع ( اي جبل فوط المرتفع العالي) كما يتضح اذن ان الجانب الرمزي من القصة يتجلى في تشابك الدلالات و في هذا الاطار توصف اصنت-ءسنات في التوراة بأنها ابنة كاهن منطقة اون التي وهبها زوجة ليوسف . ان صورة هذا الزواج اذا ما نظر اليها من منظور رمزيات المكان يمكن ان تكون نموذجا للعلاقة بين الارض و اله الخصب . كما انه اذا دققنا في اسم " عزيز" الذي يستخدمه النص القرآني نجد ان القرآن يستخدمه تارة في معرض توصيف الذات الالهية و تارة في الاشارة الى مكانة يوسف في مصر . لكن هذا الاسم لم يرد في السجلات الفرعونية المصرية ابدا لكنه يرد عند ماثنيون في صورة Asis اي عزيز-اسيس حسب راي الباحث د. لويس عوض ، لكن فاضل الربيعي لا يتفق معه ، اذ يوضح ان الثموديين عرفوا كما دلت النقوش و المكتشفات الحديثة اسم الاله عزيز الذي رسم في صورة عزيزو ، كما اوضح بأن د. مطهر علي الارياني ذكر بأن الاله عزيز كان الها خاصا باليمنيين من خلال نقش يمني قديم.
لقد احتل هذا الاله العربي القديم مكانة رفيعة في معتقدات العالم القديم اذ انتشرت عبادته من جنوب الجزيرة العربية الى بلاد الشام و هو يرتبط في الاصل بعشتار-عثتر مؤلفا معها نموذجا للزواج المقدس من خلال اقترانها بالخصب . ان اله الخصب هذا (عزيز) يعبر عن نفسه من خلال قصة يوسف الذي مات عدة مرات ، حين رمى في البئر و حين مات بعد تحقق حلمه و اصبح عزيز مصر . يوضح الكاتب ان شخصية يوسف تتماثل مع شخصية اوزيريس فكلاهما تعرض للغدر من طرف اخيه / اخوته مما يدفعنا الى القول الى ان تشابه اسطورة يوسف و اوزيريس يعود ربما لاجتياح القبائل البدوية العربية لمصر ابان حكم الهكسوس و حملها اساطيرها و دياناتها الى مصرو توطينها هناك .
وسيتمر الكاتب في عملية تفكيك رموز قصة يوسف و يذكر بان امراة العزيز هي تحريف و تعديل لصور الصحراء من حيث هي رمز الجدب على اعتبار ان امرأة العزيز كانت عاقرا غير ان هذا غير صحيح لان العاقر هو زوجها الخصي اما هي حسب رواية الابشيهي ستلد من يوسف بعد زواجها منه في اخر القصة . ان الكاتب يخطئ بتشبيهه لامراة العزيز بالصحراء و هذا غير صحيح لان امراة العزيز ترمز لمصر و مصر ليست صحراء بل يوسف هو الذي قدم من الصحراء ، لذلك فامراة العزيز ليست رمزا للصحراء بل لارض خصبة منهارة عسكريا . هذه المرأة كما ذكر فاضل فكرت برميه في السجن و السجن من المنظور الرمزي نفسه هو بئر (جب) لكن توقفت قدرته التاويلية عند هذا الحد و لم يدرك ان سجن يوسف دلالة على كبحه لنزعاته البدوية التخريبية و تحوله البطئ الى طور المزارع . يقول القرآن " و لما بلغ اشده اتيناه حكما و علما" و الزراعة ممارسة تتطلب الحكمة و العلم . ثم ان خروج يوسف من السجن/الجب/البئر دليل على امتلاء البئر بالماء اي ان الاخصاب يستلزم وقتا .
و نستمر من طرفنا في تأويل المساحات التي تركها الكاتب فارغة من اي تأويل و نقول ان تاويل يوسف لحلم الملك المزعج هو في الواقع حل من طرفه لمشكلة التعاقب المناخي بين خصب و جدب (سبع سمان و سبع عجاف) بابتكاره لفكرة التخزين و التدبير الحسن للموارد الغذائية . فيوسف هنا يمثل الاستجابة العملية للتحدي المطروح (الانقلاب المناخي) عن طريق فكرة الادارة الجيدة للازمة اي مقابلة الدورات المناخية بالدورات التخزينية . بعبارة اخرى تريد الاية ان تقول هنا ان على الانسان الا يقتصر على تمني عودة حالة المناخ الخصبة بالدعاء و الابتهال الى الله بل عليه ان يتعامل معها و يجد لها حلا من خلال استخدامه لعقله و استجابته لتحدي المناخ و تقلباته و ذلك باختراع اسلوب الخزن و حسن ادارة و تدبير الموارد .
نعود مع الكاتب في فقرة الاله الحزين في البئر الى طفولة يوسف و قصه لحلمه على ابيه و هو ما تذكره الاية التالية : " و اذ قال يوسف لابيه يا ابت اني رايت احد عشر كوكبا و الشمس و القمر رايتهم لي ساجدين " سورة يوسف اية 4. نجد ان الكاتب في هذا المقطع لم يفهم سبب تحذير يعقوب لابنه من رواية حلمه لاخوته و منعه من ذلك . لقد رد ذلك الى نمط ثقافي قديم يمنع رواية الاحلام و يدعو الى كتمها لانه حسب الكاتب فإنه من المهم للغاية حسب الاسطورة بالنسبة للحالم ان يبقى حلمه سرا مكتوما . بينما نرى ان السبب الذي دفع يعقوب ان يمنع يوسف من ذكر حلمه لاخوته هو ان هذا الحلم كان عبارة عن مشروع سياسي لدى يوسف و هذا المشروع السياسي كان في طوره الجنيني و يلقى مساندة من والده يعقوب لكنه يخشى عليه من الوأد من طرف اخوته و هو ما حصل فعلا ممثلا في رميه في غيابات الجب لكن ما هو هذا المشروع السياسي ؟ الجواب هو الانتقال من طور البداوة الى طور الحضارة ..من الرعي الى الزراعة و هذا يذكرنا برغبة عبد المطلب في حفر بئر زمزم و مقاومة قريش له ( راجع كتاب غزال الكعبة الذهبي ) . ان مشروع احياء الزراعة كنمط اقتصادي و سياسي لا يمر مرور الكرام في مجتمع رعوي و هذا هو اصل المشاكل بين يوسف و اخوته.
لقد اخطأ الكاتب في تفسير سبب ارغام يعقوب ابنه يوسف كتمان سره . لا يتعلق الامر بانتقال يوسف الى طور المقدس(الاله الحزين) بل بكتمانه لمشروعه السياسي خصوصا و انه في طوره الجنيني حتى لا يتعرض للاجهاض و قول يوسف في نهاية القصة " هذا تأويل رؤياي " معناه : ها قد تحقق مشروعي السياسي الذي ناضلت من اجله و تجسد على ارض الواقع و هو نقلكم من البداوة الى الحضارة و الزراعة . ثم فسر الكاتب امتناع يوسف عن لمس المرأة او الاقتراب منها بكونه صار في مرحلة ما من تطور شخصيته كإله خصب قمع و حظر عليه القيام بوظيفته و لهذا قام باستبدال هذا الحظر بنوع مقلوب من المنع قوامه ان يردع نفسه عن اداء وظيفته المطلوبة و لذا امتنع عن لمس المرأة !! في حين نرى ان السبب الكامن وراء امتناع يوسف عن مضاجعة امرأة العزيز في كونه بدويا يختلف عن باقي البدو و انه يرغب في التحول من البداوة و الهمجية الى الزراعة و الاستقرار و لهذا رفض استغلال ضعف مصر العسكري (فوطيفار الخصي) و استباحة اراضيها (مضاجعة امراة العزيز) و فضل بدلا من ذلك دخول السجن اي الانتقال من سكنى الخيام و الاراضي الفسيحة الى سكن المدن و المنازل و الدور و الاماكن الضيقة . ان السجن ليس عقابا ليوسف بل رغبة دفينة لديه . و لذلك قال : " رب السجن احب الي مما يدعونني اليه " ان يوسف البدوي يريد من اعماق قلبه التحول من البداوة / الحرية / الفوضى الى المدنية / السجن / النظام و هذا ما عجز الكاتب عن التقاطه .
يستمر الكاتب في حفره الاركيولوجي في تراث المنطقة القديم و يوضح في فصل "من اساف الى يوسف" ان اسطورة يوسف ترتبط بعقيدة النواح و البكاء على الاله الشهيد و لهذا يمكن القول ان شخصية الاله القديم يسف-يصف و عند العرب اساف نشأت في بيئة مشبعة بالاشواق الحقيقية للرخاء و الخلق و الخصب و الفرح . لقد عبدت العرب الاله " اساف-يسف" و زوجته "نائلة" في اطار عبادة اله الخصب القديم الذي تسمى يوسف تيمنا به و ان فكرة مسخ الالهين الى حجر اي الى صنمين هي مجرد تعبير عن تراجع هذه العبادة و تخلي العرب عنها قبل ان يظهر عمرو بن لحي زعيم خزاعة الاسطوري الذي اعاد الاعتبار لها بعد طرد جرهم . لقد كانت قبيلة جرهم اليمنية تستولي على مكة و تخضع البيت الحرام لسيطرتها بينما كان اسماعيل " ابو العرب" الذي رفع مع ابراهيم قواعد البيت صهر جرهم بعد ان طلق امرأته من العماليق ليتزوج امرأة جرهمية انجبت له احد عشر رجلا (احدى عشر قبيلة سبطا ) . و لذلك فإن عبادة اساف في هذه الحالة تكون سابقة على كتابة التوراة او ظهور اليهودية .
لا نستطيع ان نتفق مع الكاتب فيما يلي من الافكار ، فهو يقول ان العرب العدنانيين الشماليين الحجازيين بوجه العموم كانوا فلاحين و انهم كانوا يكنون كراهية شديدة للحكام اليمنيين المحليين القادمين من الجنوب (رعاة اغنام و ماشية) ممن فرضتهم حمير على ادارة البيت الحرام بعد غزو مكة و ذلك نظرا لغرور هؤلاء الشديد و استهتارهم و عريهم ، لكن أليس العري رمزا للخصب و الاحتجاب رمزا للقحط ؟ ان العري و كشف المفاتن هو دعوة لممارسة الجنس و بالتالي فهو رمز للخصب و ليس العكس و بالتالي فإنه ممارسة تعود للقبائل الزراعية و ليس الرعوية . ان القبيلة الرعوية بحكم ضعف مواردها الغذائية لا يمكن ان تشجع على الجنس حتى لا تكثر الافواه الجائعة و بالتالي ستمارس الاحتشام و ستر الجسد حتى لا تحدث ممارسة جنسية و لهذا فإننا نسجل اختلافنا مع الكاتب .
يقول الكاتب ان عرب الشمال بعد سيطرة يمنية طويلة على الجزيرة العربية اضطروا الى عبادة اله يمني جنوبي من الهة الرعاة كان رمزا للخصب يدعى اساف – يوسف . كيف يكون اله للخصب و رعويا في نفس الوقت ؟؟ المفروض ان يكون الها للقحط . ثم اننا نجد الازرقي يذكر انه لما طالت ولاية جرهم استحلوا من الحرم امورا عظاما و نالوا ما لم يكونوا ينالون و استخفوا بحرمة الحرم فمارسوا الزنا في الحرم . نشير في هذا الصدد الى ان الزنا في الحرم يذكرنا بالبغاء المقدس في اعلى مبنى الزاقورة المعبد البابلي المعروف كممارسة طقوسية لديانة الخصب . و هذا السلوك هو خاص بالمزارعين فكيف يقوم به الرعاة ؟ ان فاضل الربيعي لا ينتبه الى لكلمة " طالت ولاية جرهم " فهي تعني انه طرأ تحول انثروبولوجي على قبيلة جرهم فتحولت من الرعي الى الزراعة و هو ما بدا في طقوسها الدينية التي صارت تعبر عن ديانة الخصب و بالتالي فإن العري في الحرم و الزنا في هو ممارسة لديانة زراعية و ليس رعوية كما يقول . كما انه يذكر انه بعد سلسلة معارك انزاحت جرهم عن ادارة الحرم المكي و فرضت خزاعة سيطرتها فحرمت البغاء المقدس و فرضت الاحتشام ..اذن فخزاعة قبيلة رعوية و ما حدث هو انتكاسة الى عبادة القحط .
نقول في الختام ان فاضل الربيعي نجح الى حد كبير في استنطاق اسطورة يوسف و كشف دلالاتها التاريخية التي تعبر عن هم سكن شعوب منطقة الهلال الخصيب تمثل في الخوف من الوقوع في ازمة الجدب و انقطاع المطر و ما يستتبعه من جفاف و مجاعة و انهيار للحضارة و هجوم للبدو . لقد عالجت اسطورة يوسف تاريخ التقلبات المناخية في قالب قصصي تضمن توصيفا للازمة و تعاليم و ارشادات للخروج منها او التعامل معها . و الواقع ان اسطورة الوقوع في غرام الضيف لم تقتصر على قصة يوسف بل تجلت ايضا في اسطورة لقمان و نسوره السبعة التي تناولها الكاتب ايضا و هي تشترك مع اسطورة يوسف الى حد كبير في عناصرها السردية و ارسالاتها الرمزية اما اسطورة خالد بن سنان التي عالجها الكاتب في فقرة "العنقاء و النبي الضائع" فنرى انها مقحمة على الكتاب و بعيدة عن اشكاليته رغم كثافتها الرمزية .
ان اسطورة / قصة يوسف تحمل مغزى عميقا و رسالة اخلاقية و تربوية مفادها ان منطقة الهلال الخصيب معرضة لخطر التقلب المناخي مما سيجعلها في وضع عسكري حرج امام جيرانها البدو و الذين عليهم الا يتصرفوا حيالها بهمجية فيستبيحونها بل عليهم يحافظوا عليها حتى تعود الاحوال المناخية الجيدة فيستفيد الجميع حضرا و بدوا لانه في خراب الحضارة و الهجوم عليها دنس ما بعده دنس . و لهذا كان من رأينا ان العنوان الأليق بالكتاب هو " يوسف و السجن " و ليس " يوسف و البئر" ذلك ان الرسالة الاساسية لهذه الاسطورة هو انه على البدو ان يخضعوا انفسهم لتحول اساسي على مستوى سلوكهم الجماعي ممثلا في انتقالهم من البداوة الى الحضارة و هو امر لن يتأتى لهم الا بالتخلي عن حب الحرية المقرونة بالفوضى و القبول بالاستقرار و العيش في الاماكن ذات المساحات المحدودة ضمن شريعة يطبعها الخضوع للنظام و عدم الاستسلام لشهوة الدنس ممثلة في حب الفوضى و الاستباحة .
يوسف رزين



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاساطير المؤسسة للتاريخ الفاطمي
- تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور
- الاسلام في الأسر
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
- عبادة الماء في المغارب القديمة
- سوسيولوجيا الأعيان
- حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
- أحداث 23 مارس 1965
- الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات
- وداعا نابليون
- أنثروبولوجيا الحرام
- تاريخ المطبخ الفرنسي
- شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة


المزيد.....




- بيسكوف: نرفض أي مفاوضات مشروطة لحل أزمة أوكرانيا
- في حرب غزة .. كلا الطرفين خاسر - التايمز
- ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم -كروكوس- الإرهابي إلى 144
- عالم فلك: مذنب قد تكون به براكين جليدية يتجه نحو الأرض بعد 7 ...
- خبراء البرلمان الألماني: -الناتو- لن يتدخل لحماية قوات فرنسا ...
- وكالة ناسا تعد خريطة تظهر مسار الكسوف الشمسي الكلي في 8 أبري ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 795 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 17 ...
- الأمن الروسي يصطحب الإرهابي فريد شمس الدين إلى شقة سكنها قبل ...
- بروفيسورة هولندية تنظم -وقفة صيام من أجل غزة-
- الخارجية السورية: تزامن العدوان الإسرائيلي وهجوم الإرهابيين ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - يوسف رزين - يوسف و السجن قراءة في كتاب - يوسف و البئر- لفاضل الربيعي