أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - العبور الى أيثاكا















المزيد.....


العبور الى أيثاكا


سهر العامري

الحوار المتمدن-العدد: 4979 - 2015 / 11 / 8 - 11:43
المحور: الادب والفن
    


العبور الى أيثاكا ! سهر العامري
كلما مدت فنار بصرها ، ورمت به على الأفق المحمل بغبار أحمر داكن ، حملته رياح الهجير الحارة من أعماق الصحراء التي تطوق مدينة البصرة من جهات عدة ، تمنت أن ينجح زوجها وطفلتها في الوصول الى برلين ، فقد ظلت تعيش على هذا الأمل لياليا طويلة ، فهي تعلم أنها ستلتحق بهما في نهاية المطاف ، وعندها سترى أفاقا أكثر اشراقة ، وأنصع زرقة ، تزهو بألوان ضياء الشمس ، لا يلوثها نقع العواصف الكريهة التي كانت تهب من كل الاتجاهات حتى يخيل إليها أحيانا أن الأرض وما عليها قد تحولت الى عواصف ترابية لا ترحم .
لم تكن البصرة هكذا قبل هذه السنوات العجاف التي عاشت فنار فيها ، ثم صارت تبحث هي وأسرتها عن موطأ قدم أمين جديد ، فقد رحل الأمان عن المدينة ، وصارت عصابات الموت تطوف في شوارعها ، وزخرت ساعات الزمان فيها بعمليات القتل على الهوية ، فذبح المسيحي فيها لا لشيء إلا لأنه مسيحي ، وقتل المسلم السني لأنه سني ، وأزهقت أرواح الصابئة فيها للسبب ذاته ، ثم دارت في شوارعها وأطرافها معارك ضارية بين تلك العشيرة والعشيرة الأخرى ، وبذلك خيم الخوف على بيوت أهل المدينة ، وصار علي زوج فنار لا ينام من ليله ساعة ، عندها فر بنفسه وطفلة من بناته الثلاث ، وعلى أمل أن تلتحق به زوجته ، وبناته الأخريات ، وحين فشل في مسعاه الأول تحول الى بلد آخر غير الأردن ، ونزل بيروت العاصمة ، وعلى أرضها التحقت فنار به .
كان الأفق في أعين فنار ، وهي تمدها بعيدا على البحر المتوسط ، أفقا آخر عميق النقاء ، ملونا بألوان البنفسج والبرتقال ، فهو ليست ذاك الأفق الذي كانت تراها مغبرا كالحا في مدينتها البصرة ، حتى أنها في أحيان كثيرة تبحر في تاريخ سواحل هذا البحر ، فتتراءى لها من بعيد أشرعت سفن البحارة الفنيقيين المبحرة نحو الشواطئ الغربية من ذلك البحر ، تلك الشواطئ التي تنشد هي وزوجها النزول عليها ، فهي تدرك أن هذه الأرض ببحارها وجبالها وسهولها ووديانها هي ملك لهذا الانسان المسافر أبدا في حركة لم تحدها حدود ، ولم يمنعها توقف ، ورغم ذلك فقد عانت هي وأسرتها كثيرا ، وفشلت أكثر من محاولة عبور لهم ، فقد سدت أبواب الموانئ بوجوههم ، وأغلقت المطارات دونهم ، رغم أنهم حاولوا ثم حاولوا دون جدوى، حتى ظنوا أن العبور الى الضفاف الغربية من ذلك البحر صار ضربا من المستحيل .
تنقلت هي وأسرتها على طول الساحل الفينيقي ، نزلوا مدينة بيروت من مدنه ، عاشوا فيها أياما بين الأمل والقلق ، ثم انتقلوا منها الى صيدا ، ثم صور ، ثم الى بيروت ثانية، وحين تيقنوا أنه ليس بإمكانهم العبور من هذا الساحل شدوا الرحال الى سواحل شرقية أخرى ، وكان شعارهم الأرض وما عليها هي ملك الإنسان ، ولن تستطيع كل حراب الجبابرة أن تمنعه من الترحال في ربوعها.
إيثاكا منحتك الرحلة الجميلة.
لولاها ما كنت شددت الرحال.
وليس لديها ما تمنحك أكثر من ذلك.
حتى وإن بدت لك ايثاكا فقيرة،
فإنها لم تخدعك،
ما دمت قد صرت حكيما، حائزاً كل هذه الخبرة * !
نزلوا هذه المرة في مدينة اسطنبول على أمل الانتقال منها الى مدينة تركية تقع على سواحل البحر المتوسط بعد أن يجدوا طريقة ما للوصول الى احدى الجزرة اليونانية التي تتناثر في ذلك البحر مثل قطيع حيوانات خلق من صخور ، ولكنهم في بادئ الأمر فكروا بالسفر جوا حتى لو كلفهم ذلك مبالغ مالية طائلة ، ولهذا السبب راحوا يبحثون في المدينة عن مكتب سفر يحقق لهم هذه الغاية ، خاصة وأنهم سكنوا في منطقة تدعى"آكسراي" المكتظة بالعرب ، وهذا ما جعل الأتراك يطلقون عليها مدينة العرب الصغيرة فهي تشبه بعض الأحياء العربية القديمة في سوريا أو مصر أو العراق ، كما أن المنطقة تعج بالأحاديث عن الهجرة مثلما تعج بسماسرة الهجرة الغير الشرعية الذين يمنون المهاجرين بسفرة نحو بلدان الشمال الأوربي .

واحد من هؤلاء السماسرة التقاه علي وفنار ، وحين علم أنهما لا يريدان الرحيل عبر البحر ، وينشدان السفر جوا حفاظا على حياتهما وحياة بناتهما الثلاث ، قادهما نحو مكتب من مكاتب السفر الموجودة في الحي ذاته ، ويبدو أن هذا السمسار كان على علاقة بصاحب المكتب الذي يحمل الجنسية السورية ، والذي يحاول أن يظهر لزبائنه من أنه رجل على قدر كبير من الهيبة والاحترام ، وأنه رجل يتمتع بعلاقات وثيقة مع رجال المخابرات الذين يتحكمون بحركة السفر في مطارات المدينة .
- السفر عبر المطار يكلفكم كثيرا ؟ قال صاحب المكتب .
- نحن نريد سفرا آمنا ، هذا ما يهمنا . رد عليه علي ، وهو ينتظر إجابة منه تحقق له حلم العبور الى الضفاف الغربية من البحر المتوسط .
- الى أية دولة ترومون الوصول ؟
- ألمانيا !
- كنت أحسب أنكم تريدون السفر الى اليونان ، أو بلغاريا ، فالسفرة الى ألمانيا فيها تعقيدات كثيرة ، وتتطلب مبالغ كبيرة ، وانتظارا قد يطول عليكم .
- كم المبلغ المطلوب ؟ سأله علي ، وهو يتوقع أنه يستطيع أن يدفع له ما يريده .
- للكبير خمسة عشر ألف دولار ، وللصغير عشرة آلاف دولار ، هذه هي الأسعار السائدة الآن ، والمعروفة بين المهاجرين ، وعليكم أن تعرفوا أن المكتب لم يحصل من هذه المبالغ إلا الشيء النزر ، فهي ستوزع بين ثمن الجوازات المزورة ، وتذاكر السفر ، وشرطة المطار ، وربما غيرهم .

في محلة آكسراي ، التي تحولت الى حي عربي غابت عنه اللغة التركية ، وحلت محلها اللغة العربية ، كان الحديث يجري غالبا حول الوصول الى الضفاف الأخرى ، وحين يلتقي لاجئ بآخر مثله يأخذهما حديث طويل متشعب عن محاولاته التي بذلها في مواصلة الترحال ، وعن تجارب الآخرين الناجحة والفاشلة كذلك ، وعن أولئك الذين ابتلعتهم مياه البحر ، وعن تكلفة الهجرة، وعن أفضل المدن التركية التي يصل منها المهاجر الى احدى الجزر اليونانية، ثم تتوالى التحذيرات من غدر المهربين ، وسوء وسائط النقل ، فهذا يبحث عن مركب كبير الحجم ، فهو يخشى على نفسه وأسرته ، وآخر يبحث عن بلم أو زورق مطاطي فهو لا يملك من المال الكثير ، خاصة وأنه قد أمضى أياما ، وهو يجول في شوارع آكسراي ، يبيع علب دخان ، أو ملابس رخيصة ، أو بعض الفاكهة والخضار ، وكل هذا من أجل أن يجمع مبلغا من المال كي يضعه في جيب مهرب محتال .

كثيرا ما مرت فنار وعلي حذاء جامع والدة السلطان في آسكراي ، ولكنهما لم يشغلا نفسيهما بالسؤال عنه ، فسلاطين الامبراطورية العثمانية كثر ، ولا حاجة لهما بالسؤال عنهم ، فهما مشغولان بسؤال العبور الى أيثاكا ، أو أية جزيرة يونانية أخرى ، هما لا يريدان التمتع بجمال الرحلة ، يريدان الوصول فقط ، هذا هو شغلهم الشاغل ، ولذلك فهما لم يلتفتا الى تلك الشرفة التي كانت تطل منها والدة السلطان محمد الفاتح من أجل أن تمتع بصرها برؤية العمال الذين يحملون على ظهورهم الصخور التي سيشاد بها جامع يحمل اسمها دوما ، جامع يتجمع حوله الكسبَة من العرب والأفغان والايرانيين وغيرهم ، يعرضون في جواره ، وأمام زواره بضاعتهم المتواضعة ، ولا يبالي البعض منهم إذا ما نادى بلغته العربية ، فلقد اعتاد الاتراك على تسمية آكسراي بمدينة العرب الصغيرة حتى أنهم يشعرون بشيء من الغربة حين يتجولون فيها.
- لن يستطيع أحد أن يقلعني من هذا الرصيف ، لا الرئيس ساركوزي ولا غيره . قال بائع البطيخ العربي الواقف على الرصيف من ساحة سانت لازار في قلب باريس لمحدثه الذي استفزه بسؤال عن مناداة بعض الأوساط في فرنسا بإرجاع المهاجرين الى بلدانهم ثم أضاف :
- هذه أرضنا ، دافع آباؤنا عنها ضد النازيين ببسالة ! نحن نزلنا عليها قبل أن ينزل الرئيس الفرنسي عليها ! ليعد هو الى هنغاريا التي آتى منها قبل سنوات خلت .
- من أين أنت ؟ سأل بائع البطيخ العربي الجزائري محدثه .
- من العراق . قال محدثه .
مد بائع البطيخ يده الى صندوق كبير من الورق المقوى ، وراح يبحث عن أحسن بطيخة موجودة بين البطيخ الذي يحتويه ذاك الصندوق ، ثم رفع واحدة منه قائلا :
- خذها ! هي هدية مني لك ، فلقد خذلكم العرب والعالم أيها العراقيون !
لقد شاهد الأستاذ حامد الكثير من هؤلاء العرب الذين صاروا يشكلون نسبا كبيرة من سكان الدول الأوربية ، وإنهم لم يتركوا مهنة أو وظيفة إلا وقد رآهم فيها ، فقد يكون الواحد منهم أستاذا في أرقى الجامعات الأوربية ، مثلما تراه بائع فاكهة وخضار في ساحة من ساحات المدن الأوربية .
- نعم . يا أستاذ ! نحن اقتحمنا بلدانهم سلما ، ولم نقتحمها حربا ، وعلى عكس ما فعلوا هم ، فقد اقتحموا جل البلدان العربية بالقوة والسلاح ، ونهبوا خيراتنا وثرواتنا التي أشادوا بها حضارتهم الحديثة ، وذلك بعد أن قتلوا الكثير منا ، وشردوا وسجنوا الكثير كذلك ، هذه بلادي ، ولن يستطع أحد منهم أن يزحزحني شبرا عنها ، سأبقى على هذا الرصيف ، وأزرع البطيخ في هذه الأرض .
- انظر يا أستاذ أنظر ! قطع علال ، بائع البطيخ ، حديثه الأول ، وطلب من أستاذ حامد أن ينظر الى المقهى القريبة منهما ، والتي تصطف على رصيفها مجموعة من الكراسي ، كل كرسي يقابل الآخر ، وبينما طاولة صغيرة بيضاء ، تغطيهما مظلة تقي الجلاس من أشعة شمس الصيف ، كانت هناك امرأة فرنسية تجلس على واحد من كرسين ، بينما بقي الكرسي الثاني فارغا ، ولهذا بادر رجل عربي الى الجلوس عليه ، وفتح جريدة باللغة الفرنسية ، ولكن المرأة سرعان ما احتجت عليه قائلة : إذا لم تتركني أجلس منفردة على هذه الطاولة سأغادر أنا ، فرد عليها الرجل العربي : هذا المكان يسع شخصين ، وليس لك وحدك ، وبإمكانك أن تغادري ، فأنا لن أبرح مكاني !
- رأيت يا أستاذ ! رأيت هذه المراة القاورية** كيف ترفض الجلوس في مكان عام ، وعلى قارعة الطريق قبالة رجل عربي ، وقد بلغت بها الوقاحة الى حد هددت به الرجل بالمغادرة وترك المكان له !
- نعم . رأيت ! قال الأستاذ حامد وقد استبد به العجب .
- هكذا نحن معهم ، لن نبرح هذه الأرض ، ليغادروا هم إن أرادوا ، مثلما غادرت هذه المرأة مكانها بعد أن رفض الرجل العربي طلبها بحق في عدم الجلوس على الكرسي الذي يقابل كرسيها.
الجو في باريس بنسائمه الباردة ، وبقطع الغيوم المتناثرة علي جبين سمائها ، يذكر الأستاذ حامد بالجو في مدينة اسطنبول التركية ، تلك المدينة التي فشلت فيها كل محاولات فنار وزوجها علي في العبور منها الى شواطئ البحر المتوسط الأخرى ، وذلك بسبب من غدر مكتب السفر بهما ، فبعد مماطلات كثيرة من ابو ابراهيم السوري ، صاحب المكتب ، وبعد أن أخذ منهما ، ومن غيرهما ، آلافا من الدولارات ، بلغت أكثر من سبعمئة الف دولار ، فر هو ومن معه الى مكان مجهول ، تاركا وراء محلا مهجورا ، خاويا من كل شيء.
حلت بهما صدمة كبيرة ، فقد جاءا هما صباحا الى مكتب السفر أملا في الحصول على موعد سفرهما ، ذلك الموعد الذي ماطل ابو إبراهيم السوري اعطاءه لهما كثيرا بهدف أن يحصل منهما على أموال إضافية في لعبة كررها معهما أكثر من مرة ، وكان في كل مرة يطلب منهما عدم البوح لأي شخص كان عن ما كان يدور بينه وبينهما ، ولكنهما حين شاهدا المحل مغلقا صباح ذاك اليوم على غير عادته ساورهما شكك بهروب أبو ابراهيم ، وضياع المبلغ الكبير الذي سرقه منهما ، وهذا ما حدث فعلا ، وهو ذاته الذي دفعهما للعودة الى البصرة من جديد بعد أن طافا بأكثر من عاصمة دولة بحثا عن طريق يحملها الى بلد أوربي، هذه الأمنية التي قرر علي أن يحققها له ولأسرته رغم كل الصعاب التي وقفت في وجهه، فعلي ليس أوديسيوس*** الجوال الذي لم يهتم في الوصول إلى جزيرة إيثاكا اليونانية بقدر ما كانت تهمه متعة المسير في الطريق الموصل لها ، وأن يجرب كل ما يروق له من التجارب ، وحين يصل إليها لا يهمه إذا ما وجدها فقيرة ، قفراء ، جرداء ، فكل ما يكفيه هو أنها منحته متعة الدرب ، وتجربة الترحال .
لم يمكثا في البصرة طويلا ، فقد عادا منها الى اسطنبول بعد أيام قلائل ، ومن اسطنبول توجها نحو مدينة بودروم التركية الساحلية ، فهما قد قررا ركوب ظهر البحر بعد أن فشلت جميع محاولاتهم الأولى بالسفر جوا ، ولكنهما في هذه المرة قد أحاطا رحلتهم بكثير من الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس لهما خشية من عدم نجاحهما في العبور ، ولهذا فقد فاجأت فنار عمها حين أخبرته أنها عادت الى تركيا ، وأنها تتصل به الآن من مدينة بودروم الساحلية ، ووقتها أعلمته أنهما يريدان السفر عن طريق البحر ، ولكن على ظهر مركب خشبي ، وليس على ظهر زورق مطاطي خشية على نفسيهما وأطفالهما من الغرق .
كانت ليلة العبور ليلة ليلاء ، غاب عنها القمر ، ولف السماء فيها سجف من ظلام حندس ، مثلما نزل وقتها برد قارص بأجساد الحالمين في العبور الذين حملتهم سيارات عدة نحو منطقة جبلية تبعد مسافة ليس بالقصيرة عن مركز مدينة بودروم ، وحين وصلت تلك السيارات الى نقطة معينة في تلك المنطقة ترجل منها جميع الركاب من الرجال والنساء ، ومن الكبار والصغار ، وطلب منهم أحد المهربين النزول من قمة الأرض الوعرة والمرتفعة الى ساحل البحر حيث المركب الخشبي العتيق الذي ينتظرهم .
لقد تعرض الكثير من الركاب الى مشقة النزول نحو الساحل ، خاصة الأطفال الذين يعد نزولهم إليه أشبه بالمستحيل ، فانحدار الأرض الصخرية كان حاد ، يتخللها الكثير من الصخور الحادة والحفر الكثيرة ، يضاف الى ذلك ساعات من ليل مظلم مدلهم ، لا تتبين فيه عيونهم مواضع أقدامهم ، ولكنهم رغم كل ذلك وصلوا الى المركب الموعود الذي بدا هرما ، أغبر اللون ، بني على ظهره طابق آخر سيء الصنعة والصورة .
توزع الحالمون بالعبور الذين يعدون بالمئات على قاع المركب ، وعلى سطحه ، وكان كل واحد منهم يشد سترة نجاة حمراء على جسده ، ويحمل حقيبة صغيرة فيها ما خف حمله ، وقد ظل الجميع ينتظرون الوصول وقوفا ، فالمكان ضيق ، والمسافة الى جزيرة كوس اليونانية لا تتعدى خمسة كيلومترات ، لكن مناورات ربان المركب في سيره طالت من ساعات قطع تلك المسافة القصيرة ، فقد كان هو يناور خوفا من خفر السواحل التركية ، ولكن مع ذلك ارتكب خطأ فظيعا ، عده بعض الركاب أنه كان متعمدا ، وذلك حين بادر هو الى إيقاد مصباح من مصابيح المركب في عتمة الليل تلك.
- قف ! جاءه الصوت باللغة التركية من بعيد.
- اخرجوا أطفالكم ! دعوا حرس السواحل يراهم ! صاح الربان بالركاب.
بادر بعض من الركاب بعرض أطفالهم قرب أعطاف المركب ، كي يستدروا عطف خفر السواحل ، مثلما كان ربان المركب يعتقد بذلك ، فهو يعتقد أن الحراس أولئك لن يطلقوا النار على المركب حين يرون الأطفال فيه ، ولكن سرعان ما خاب اعتقاده بعد أن أصابت المركب الرصاصة الأولى التي أطلقها خفر السواحل عليه ، حين كان هو يواصل السير بالمركب دون توقف ، ثم توالت الرصاصة تلو الأخرى تاركة أكثر من ثقب على جسد المركب الذي تسرب منه المياه حتى امتلأ قاعه بها ، وهذا ما اضطر علي الى الاندفاع بواحدة من بناته الصغار الى خارج المركب ، ثم الى سفينة انقاذ حضرت حالا بعد أن تلقت اشارة طلب نجدة من هاتف راكب من ركاب المركب ، ثم بعد علي اندفعت فنار ، وهي تحمل الطفلة الثانية ، بعدها حمل الطفلة الثالثة راكب معهم ، ولكن علي وآخرون عادوا الى المركب ثانية لمساعدة ما تبقى فيه من الركاب ، وحين هدهم التعب والاجهاد لم يتبق من أولئك الركاب غير ثلاثين راكبا أخذهم المركب معه الى أعماق البحر ، وقد راع فنار وقتها صورة امرأة كانت واقفت في مؤخرة المركب وقد تعلقت بها ابنتان لها غطستا معها حين غطس ذلك المركب بدءً من مؤخرته ، بينما استطاع علي انقاذ البنت الثالثة التي ظلت تشتمه كلما التقت به ، وتلومه على أنه لم يتركها تغرق في البحر ، مثلما غرقت أمها واختاها الاثنتان .
كان الفزع والخوف يجتاح النفوس ، مثلما كان البرد يعصف بها ، هذا في الوقت الذي وقف فيه خفر السواحل التركي يتفرجون على هذه المأساة التي تسببوا بها هم لا غيرهم ، وفي تصرف خلا من أية نزعة انسانية ، وسلوك لا يعرف الرحمة والعطف وقد ختم المشهد ذلك كله باعتقال جميع الركاب صغارا وكبارا ، وحملهم الى الساحل التركي ، ومن هناك بسيارات خاصة بنقل السجناء الى معسكر أشبه بسجن يقع في مدينة أدنة الجنوبية.
لثلاثة أيام صمت هاتف علي ، مثلما صمت هاتف فنار ، عن التحدث لكل من يعرفهما ، أو لكل من كان يتواصل معهما قبل هذه الأيام التي انقطعت أخبارهم فيها ، ورغم المحاولات الكثيرة التي بذلها الأستاذ حامد في الوصول لهما عبر الهاتف ، لكن كل تلك المحاولات دفنها الفشل ، ولم تعد تنفع بشيء ما ، ومع ذلك لم يدع الأستاذ حامد اليأس يتسرب الى نفسه ، فهو قد ظن أن حادث ما قد تعرض له علي وفنار ، وهذا الحادث هو الذي أنزل الصمت بهاتفيهما ، ولكنه لم يقدر حجم ومقدار ذلك الحادث ، فقد اعتقد أن الرجل المهرب هو من قام بمنع الركاب من الحديث عبر هواتفهم خوفا من أن ينفضح أمره ، كما وردت له أخبار عن غرق زورق ركاب في البحر ، لكن هذا الزورق لم ينطلق من السواحل القريبة من مدينة بودروم .
- أهلا فنار !
- أهلا بك ، أنا بخير ، كلنا بخير !
- لماذا لم تتصلي بي ، ولا تردي على الاتصال بك طوال هذه الأيام ؟
- لقد وقعت منا هواتفنا بالماء .
- في أي ماء ؟ وكيف وقعت ؟
لم تستطيع فنار أن تخفي الأمر على الأستاذ حامد ، ولهذا راحت تروي له ما جرى لهم بنوع من الحماس ، والانفعال الزائد يشوبهما شيء من الخوف نتيجة لصورة الموت التي لا زالت تتراءى لها ، والتي استحوذت على مشاعرها ، وتظهر لها في أحلامها ، وهي ترى كيف ابتلع البحر المركب بما تبقى فيه من الركاب ، وكيف طوقت أيادي الفتاتين خصر أمهما ، وغصن كلهن مع ذلك المركب الى أعماق البحر الذي لا زالت تحمل له صوره في هاتفها المحمول ، ولكن مع حالة الرعب هذه ، فقد أظهرت هي وزوجها علي وآخرون من الركاب الشباب غيرهما قدرا كبيرا من الشجاعة ، فقد ساهموا جميعا في إنقاذ أطفالهما ، وإنقاذ بعض آخر من الركاب الذين كانوا بأمس الحاجة للخروج من بحر الموت الذي يحيط بهم من كل الجوانب .
بعد أيام قلائل مضت عليهم في المعسكر بمدينة أدنة أطلق سراحهم ، وعاد الكثير منهم الى مدينة اسطنبول بسيارة كبيرة اتصل علي ، وهو على ظهرها ، بالأستاذ حامد طالبا منه رقم هاتف لصديق يعرفه ، ولكن الأستاذ حامد فضل أن يعطيه رقم هاتف صديق آخر ، يمكنه مساعدتهما إذا ما قررا العبور من جديد الى الضفاف الأخرى ، فالصديق هذا على تجربة جيدة بأفضل طريق عبور ، إذ أنه استطاع أن ينقل ولده الى تلك الضفاف بسلام قبل أيام قلائل خلت ، هذا في وقت بادر فيه الاستاذ حامد بصديقه ذاك ، وأعطاه رقم هاتف علي وطلب منه أن يتصل به .
تم اللقاء في اليوم الثاني من صول علي وفنار الى اسطنبول بين علي وفنار وصدقاء لهم ، وبين صديق الأستاذ حامد الذي رحب بهم كثيرا ، وطمأنهم على سلامة الوصول الى واحدة من الجزر اليونانية التي نزل عليها ولده من قبل ، ولكن الخوف من البحر لا زال يطارد فنار حتى وهي تقف قبالة صديق الأستاذ حامد في شارع من شوارع مدينة اسطنبول ، ولهذا راحت تؤكد عليه المرة تلو المرة بأنها رأت الموت رأي عين ، ولا تريد أن تخوض تجربة فاشلة أخرى ، تعرض فيها نفسها وأطفالها وزوجها الى الغرق في البحر ، مثلما غرق الكثيرون غيرهم ، وهم ينشدون الحياة الكريمة في الضفاف الأخرى للبحر المتوسط .
- دع عنك ركوب البحر ، فأنت إنسان معوق ، تسير على عربة ، فكيف لك أن تركب زورقا مطاطيا في بحر هائج ، وأنت على هذه الحالة .
- ما الذي يعنيك أنت ؟ لقد جئت أنا من العراق من أجل أن أموت في البحر الهائج الذي تتحدث عنه أنت .
- ولكنني سأتحمل ذنوبك حين يأخذك البحر !
- قلت لك إنني أفضل الموت في البحر على أن أموت في البصرة التي يترصدنا الموت في شوارعها في كل حين ، فعلام ترديني أن أعيش في مدينة رعب متواصل ؟ هذا الرعب الذي وفرته على طول أيام السنة مليشيات الجارة المسلمة ، إيران ، التي ما برحت تطاردت العراقيين في عقر دارهم ، ولهذا أريد الموت في البحر ، أو العبور الى الضفاف الأخرى ، من أجل أن أشعر بإنسانيتي ، ومن أجل أن تزورني أحلام جميلة ، فأنا مللت كوابيس الرعب المستمرة كلما وضعت رأسي على وسادتي هناك في البصرة.
بعد يومين مضيا على هذا الحديث ، وردت مكالمة هاتفية من أحمد المعوق الى أبو جميل صديق الأستاذ حامد يخبره فيها أنه يسير مزهوا الآن على الأرض من جزيرة ليمنوس التي هاجرت لها القديسة ميليتيني ميتة على ظهر مركب منذ آلاف السنين بعد أن قطع رأسها حاكم مدينة ماركيانوبوليس ، أنتيوخوس ، بعد أن رفضت هي عبادة الأوثان ، ومنذ ذلك الحين ظل قبرها شاهدا على جرائم الحكام ، ومنارة لكل من يريد العبور الى الضفاف الأخرى .
فجأة ، وفي ساعة تقترب من ضحى يوم مشمس ، رنّ هاتف الأستاذ حامد ، وجاء صوت من علي يملأه فرح عظيم ، وسرور جم.
- وصلنا نحن ! قال علي .
- الى أين وصلتم ؟
- نحن على ظهر جزيرة ليمنوس الآن !
- كلكم ؟
- نعم . كلنا ، وهذان زورقان يقتربان من ساحل الجزيرة وراءنا .
بعد ذلك سلم علي التلفون لفنار ، كانت في غاية السرور والفرح ، وكل كلمة تغادر شفتيها كانت تنم عن غبطة لا يمكن أن توصف ، فقد نجحت هذه المحاولة بعد أن فشلت قبلها محاولات عدة ، وهي التي عاش قبل أيام ساعات عصيبة من الخوف حين أغرق خفر السواحل التركي المركب الذي كان يستقله المئات من المهاجرين .
- أهلا "عمو " وصلنا ، أنا سعيدة جدا !
- يعني يمكنني الآن أن أقول : هنا رودس ، هنا إذن نرقص ! رد الأستاذ حامد عليها مستذكرا المثل اليوناني القديم الذي ردده كل من هيغل وماركس من قبل وهو يعني اثبات وقوع الحدث ، فرودس جزيرة يونانية لا تبعد كثيرا عن الساحل التركي كذلك . وهي الجزيرة التي قفز عليها أحدهم قفزة هائلة حسب الاسطورة اليونانية .
ها هما يضعان الخطوة الأولى على الضفة الأخرى ، وعليهما أن يحثا الخطى تلو الخطى ، فالطريق ما زالت طويلة ، وعليهما أن يقررا على أية أرض ستقف أقدامهما في هذه الرحلة الغنية بالتجارب الكثيرة.
عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكا،
تمن أن يكون الطريق طويلاً،
حافلاً بالمغامرات ، عامراً بالمعرفة.
. . . . . . .
تمن أن يكون الطريق طويلاً،
أن تكون صباحات الصيف عديدة،
فتدخل المرافئ التي ترى لأول مرة،
منشرحاً، جذلا.
__________________
* هذه الأشطر الشعرية والأشطر في نهاية القصة هي للشاعر اليوناني ، قسطنطين كفافيس.
**الجزائريون يطلقون على الرجل الفرنسي تسمية : قاوري ، وعلى المرأة الفرنسية قاورية.
***أوديسيوس هو ملك إيثاكا الأسطوري، ترك بلده كي يكون من قادة حرب طروادة ، وهو صاحب فكرة حصان طروادة الذي ضرب به المثل .



#سهر_العامري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجرة الى دول الكفر !
- مرضان مستبدان في العراق : أمريكا وإيران
- الدين والحكم (2)
- الدين والحكم (1)
- لا وجود لدولة اسلامية أبدا !
- الحل في الثورة الشعبية !
- رحلة في السياسة والأدب ( 7 )
- رحلة في السياسة والأدب ( 6 )
- رحلة في السياسة والأدب ( 5 )
- البيت الذي طاردته شرطة الأمن !
- الأزمات في العراق تجاوزت الحلول !
- السقوط المذل !
- الى بلاد العم سام (3)
- الى بلاد العم سام (2)
- الى بلاد العم سام* (1)
- التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (3)
- التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (2)
- التعصب الطائفي صنو التعصب القومي (1)
- المالكي في أمريكا !
- الارستوقراطيون هم قتلة الحسين !


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهر العامري - العبور الى أيثاكا