مزاج اكتئابي واحتراق نفسي

احمد الباسوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4975 - 2015 / 11 / 4 - 19:36
المحور: الطب , والعلوم
    

مزاج اكتئابي واحتراق نفسي
(بائع الأثاث)
صباح الخميس 4/3/2010
البداية عند زميلي الطبيب الذي جاء بنفسه للغرفة 8 وظهر خلفه شاب وامرأة ليبلغني عن حالة فريدة، شاب يعمل كاشير في أحد محلات بيع الأثاث يشكوا من النسيان من دون أسباب عضوية واضحة. وطلب تقييمه ومساعدته نفسيا في حدود المستطاع وغادر لمتابعة عمله بالعيادة المزدحمة جدا في ذلك اليوم. جلسوا قبالتي، شاب ضئيل، أسمر ثلاثيني، وجهه النحيل ينضح وسامة وحزنا وهدوءأً، وامرأة شابة جذابة، تلبس الحجاب. تتكلم كثيرا، وتلتفت كثيرا، وتعرف تفاصيل كثيرة، وتساعد المريض كثيرا، وكلما وجهت سؤالا للمريض أجابت نيابة عنه بسرعة ملفتة، استجابتها سريعة، ذهنها حاضر. تدخلها على هذا النحو أزعجني، حسبتها امرأته لكنه أخبرني أنها زوجة أخيه، وجاءت معه على سبيل المساعدة وأن زوجته تعمل، ثم استطرد متحدثا عن زوجة أخيه " هيه طبعها كده". ابتسمت، طلبت منها أن تترك الفرصة له لكي يعبر عن نفسه. ثلاثيني، متزوج منذ خمسة أعوام، ولديه طفل واحد فقط عمره أربعة أعوام. حاصل على دبلوم المدرسة الصناعية ويعمل بياعا بإحدى شركات الأثاث.
ذاكرة معطوبة نفسيا
يقول عن شكواه " مشكلتي النسيان، بقالي سنة وشوية أنسى باستمرار، كل ما أعمل حاجة أنساها، ممكن يطلبون مني حاجة في الشغل وأنسى على طول". استكملت بعض المعلومات الضرورية المطلوبة خلال الجلسة. تبين أن المريض يعاني من مشكلات تتعلق بالذاكرة المباشرة، وتعني القدرة على الاحتفاظ بقدر صغير من المعلومات وفي حالة نشطة واسترجاعه مباشرة من دون فاصل زمني بين التلقين وطلب الاسترجاع. كذلك الذاكرة قصيرة المدى وتعني القدرة على الاحتفاظ بقدر صغير من المعلومات وفي حالة نشطة واسترجاعه بعد فاصل زمني قصير مصحوب بتشويش أو تشتيت بين التلقين والاسترجاع. تم منح المريض موعدا للفحص النفسي من خلال الاختبارات النفسية الخاصة بالذاكرة للوقوف على حقيقة المشكلة ومداها. وتم عمل ذلك بالفعل ولم تظهر نتائج الفحوص المختبرية النفسية دلالات مؤكده على وجود اضطرابات في أي من نوعي الذاكرة المباشرة وقصيرة المدى، وبالتالي اتجه الاهتمام بالعامل النفسي أو ما يمكن تسميته بالضغوط النفسية سواء داخل المريض أو الوسط المحيط به وطريقة استجابة المريض لما لها من تأثير فعُال على قدرتي الانتباه والتركيز وبالتالي تثبيت المعلومات واسترجاعها. ونعرض في السياق التالي نماذج لبعض جلسات متابعة المريض سواء محددة البناء أو غير محددة البناء.
مشكلة زواجية
مساء الخميس 18/3/2010
(متابعة)
حضر اليوم بصحبة زوجته وطفلهما(3) سنوات. كان الطفل يلبس بدلة أنيقة مميزة وقميص وكرافت، وكان ملتصق بوالده، رفض المكوث مع والدته في الخارج لحين انتهاء الجلسة. وافقت على بقائه في الغرفة على الرغم من التشتيت الحاصل!. كان مزاجه غير طيب على أي حال. بادرني بسرعة " النسيان زي ما هوه، لا جديد ". ابتسمت، أخبرته أننا لم نفعل شيء بعد، أنها مجرد بداية، سوف التقي بزوجتك لاحقا ونضع خطة للعلاج. لم يستغرق جلوسي مع المريض فترة الربع ساعة حتى أخذ الطفل ودخلت الزوجة، قريبته من العائلة، حاصلة على دبلوم الثانوية التجارية. قالت " كان مرتبط عاطفيا قبل الزواج بي، أهلها رفضوا يتموا الزواج، لذلك أنا شايلاها له ". شكت من عبئ عملها في دوامين والارهاق الذي تلاقيه من جراء ذلك، شكت أيضا من عناده وعدم تفهمه لحالتها عندما تكون مرهقة، وأنه لا يراعي حالتها خاصة عندما يريد لقاء جنسي معها لذلك ترفض غالبا. واذا قبلت لا تشعر بالسعادة. قالت أنها تحبه جدا، لكنها عصبية وتعاني كثيرا من الضغوط العصبية،أصبحت سريعة الانفعال، تتمنى التخلص من هذه الاشياء. في بداية زواجهما وحضورها الكويت كان يعاني من مشاكل مالية كبيرة، عانت معه، ثم فاجأها مرض القلب وهي في هذا السن (23) عاما، اضطرت لإجراء عملية كبيرة في القلب، ما تزال تعاني من آثارها.أبلغتها بحتمية الهدوء في هذه المرحلة. وأن زوجها يعاني من ثقل كل هذه الضغوط خارج المنزل وداخله بالشكل الذي ترك تأثيرا جسيما على عمله الذي أصبح مهددا بفقده. المطلوب مساعدة كل منكم للآخر لتخطي الأزمات. اتفقنا على زملة من الاجراءات السلوكية لتغيير نمط الحياة الرتيب، ومحاولة التمتع بما هو متاح من الوقت لديهم في المنزل حيث يلتقيان.وجدتني في خضم معركة متعلقة بمشكلة زواجية وليست معركة مع الذاكرة والنسيان. حقا ما أقسى الضغوط النفسية حينما تدهمنا وتغمرنا وتستغرقنا ونكون من الغباء بحيث نستسلم لها وتضيع أجمل سنوات عمرنا. انتهت الجلسة. شعرا الزوجين ببعض الهدوء والراحة. اتمنى عليهما تنفيذ التعليمات.
نتائج مبشرة مبكرة (متابعة)
مساء الاثنين 12/4/2010
جاء بصحبة زوجته، قال بمجرد أن جلس امامي " النسيان بيزيد لا ينقص، كنت الاول أسجل الاشياء، وأبوص عليها وأفتكر، دلوقتي أنسى أبوص عليها أصلا، لو زبون طلع من عندي من خمس دقائق ورجع تاني أنسى شكله، أبن عمي توفى في البلد في مصر، كل ما أتذكر أتصل عليهم أعزي وأكون مشغول في الشغل الاقيني نسيت، ظليت أسبوعين لحد ما اتصلت عليهم أعزي، قالوا لي اخواتك كانوا هنا وسألناهم عليك، اضطررت أكذب عليهم، وقلت ليهم كنت في المستشفى عملت عملية، وفي الحقيقة العملية دي كنت عاملها من زمان، أموري حاليا أحسن مع المدام، اسلوبها اتغير معايا شوية، حاسس نفسي كأني في سجن، زي الاشغال الشاقة، ظروف شغلي واخدة كل وقتي، كنت أصحى من سبعة الصبح عشان أخدها مشي للشغل مكنش فيه مواصلات، وماكنتش أقدر أخد تاكسي، المرتب كده ها يروح على المواصلات، كنت أخدها مشي عشان أوصل الساعة تمانيه ونصف، وأظل في الشغل لحد الساعة حداشر بالليل. قعدت ثلاثة سنوات على الوضع دوه. لدرجة أن فيه ناس قرايبي كانوا يجوا الكويت ويمشوا وما أشفهم، طول العشرة سنوات ماكنتش أقدر اتكلم على حقوقي في الشركة، أخيرا تكلمت مع مدير المعرض، وعدني يكلم صاحب الشركة ويرد عليا. طلبت زيادة خمسين دينار. الاول كنت أتحرج أتكلم عشان أخويا كان في الشركة المدير المالي، انما دلوقتي خلاص لازم أتكلم، وكلمت أيضا شقيق صاحب الشركة، وعدني بالرد. همه يحبوني وواثقين في شغلي وكفاءتي. شغلي أعمله بدرجة الف في المية".
الاحتراق النفسي
أبلغته أن فقدان الذاكرة وما هو ملازم له من مزاج اكتئابي سيء حيث يشعر ليس نتيجة لأسباب عضوية، بل نتيجة لظاهرة نفسية تسمى الاحتراق النفسي. وهي عبارة عن حالة من الارهاق المزمن والكآبة والاحباط تنتج عن التفاني لقضية ما أو لنمط حياة ما، أو علاقة تفشل في تحقيق النتائج المتوقعة وتؤدي في نهاية الامر الى انخفاض الانخراط والأداء في العمل. وأن ذلك المزاج الاكتئابي الذي يعاني من تأثيراته يعكس ضغوطا نفسية شديدة المراس لم يعد قادرا على تحملها، هناك ضغوط تتعلق بعلاقته المضطربة بزوجته، والتي بسببها قررت استدعاء الزوجة في جلسة سابقة واتفقنا على زملة من الاجراءات وعدتني بتنفيذها. لكن حدث ثمة تباطؤ الأمر الذي جعلني أطلبها مرة أخرى اليوم، وأيضا ضغوطا متعلقة بعمله وتفانيه بإخلاص، ورغم ذلك لا يجد المقابل المادي والمعنوي الذي يستحقه سواء مع مدير الشركة، أو صاحبها في عدم تقديره، على الرغم من أنه يرى نفسه العماد الاساسي في الشركة في هذا الفرع، ومصدر الثقة والامانة الكبير بشهادة رؤسائه وصاحب الشركة. لكنه تحرر الآن من خلال الاعلان عن نفسه، حدث تحول دراماتيكي في شخصية المريض يستحق الاعتبار. أصبح أكثر غضبا تجاه ما يعتقد انها حقوقه المهدرة، وقيمته التي يتم تجاهلها، يقول " فعلا شعرت بارتياح كبير بعد هذه المواجهة وشاعر أني افضل حالا ". اذا تكشف الأمر بوضوح. أن ما يعاني منه ليس فقدانا للذاكرة، بقدر ما هو اعلان عن احباط وخيبة أمل في واقعه المعاش، وتجاه ضعفه وعجزه عن المواجهة، واعلانا أيضا لكافة مظاهر الاحتراق النفسي بكل صورها، وعلينا تجاوز هذه الامور، ومعالجتها على كل المستويات.

زوجة مختلفة وحياة مختلفة
قابلت زوجته لاحقا.بدت في مزاج طيب، مختلف تماما مقارنة بالجلسة السابقة. قالت " أشعر أني مرتاحة الان، أصبحت اهتم بنفسي، ضغوط الدوامين أرهقتني كثير لدرجة أنه (زوجها )تصور أني لا احبه، أنا كويسة الآن، ماعد ناش نتخانق زي الاول، بدأ يفوت لي، وأنا أيضا نفس الشيء، علاقتنا الزوجية تسير بشكل طيب. الاول كنت أبق تعبانة وفلقانه على الدوام الصبح بدري. دلوقتي أصبحت لا أهتم كثيرا " استحسنت طريقتها في التعامل في الوقت الحالي. شرعت في تنفيذ ما اتفقنا عليه منذ أسابيع، أخيرا قررت الالتزام بإرشادات العلاج النفسي، تقول "حياتنا مبقاش فيها شد زي الاول، لو حصل أي شيء نتكلم فيه عادي، النظام الصارم لحياتي اللي كنت عاملاه في الاول أصبح ينهكني، لم أعد استطيع ". ثمة علاقة بين الاستقرار الزوجي للمريض وخروجه عن المألوف للمطالبة بحقوقه. تخفف من الضغط الزواجي، أصبح أكثر حرية في التعبير عن صرخته في وجه أصحاب الشركة، ويعيش الآن أفضل حالاته النفسية والاجتماعية، تحسن المزاج العام، تحسنت علاقته بزوجته، لكن مسألة استعادة كامل ذاكرته لا تزال في حاجة للوقت والمتابعة وهذا ما نفعله على أي حال في جلسات العلاج النفسي غير محددة البناء.

#احمد_الباسوسي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات