أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - عندما يجادل الدعاة في وجود الله 3















المزيد.....

عندما يجادل الدعاة في وجود الله 3


عبد القادر أنيس

الحوار المتمدن-العدد: 4973 - 2015 / 11 / 2 - 23:10
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقالتي الثالثة في سلسلة "عندما يجادل الدعاة في وجود الله" أتناول فيها بالنقد موقف الداعية محمد الغزالي من الإلحاد. سأعتمد أساسا على فصل ورد في كتابه "قذائف الحق" ص 197- 203، تحت عنوان "حوار مع ملحد".
https://ia700705.us.archive.org/28/items/WAQ45653/45653.pdf
بوسع القارئ أن يقرأ نص الحوار مباشرة من هنا:
http://urlz.fr/2Cxm
كتب الغزالي في مستهل هذا الفصل: "دار بيني وبين أحد الملاحدة جدالٌ طويل، مَلكتُ فيه نفسي، وأَطَلتُ صبري حتى أَلْقَفَ آخر ما في جعبته مِن إفْك، وأدفعَ بالحجةِ الساطعةِ مَا يُورِدُ من شبهات ..".
واضح من البداية أن هذا الداعية لا يريد الحوار بما يعنيه من أخذ وعطاء، من تجنب الحكم المسبق على الخصم إلا بعد إقامة الحجة عليه. لقد حكم، ومنذ البداية، على رأي محاوره بالإفك والشبهة، بينما نعت رأيه بالحجة الساطعة. لا يريد التمعُّن في حجج الخصم والرد عليها حسب ما يقتضيه أي حوار متمدن بين متمدنين.
لكني، من جهة أخرى، أتصور أن هذا الحوار تخيله الغزالي، لأنه كان حوارا مصمما على المقاس لخدمة هدفه لا غير، كلامه استحوذ على حصة الأسد في الحوار وأظهر الخصم بمظهر تلميذ غر لا حيلة له، فنسب إليه بعض الأسئلة البسيطة، وبعضها مغلوط أصلا، بحيث اقتصر دور الملحد في الغالب على طرح الأسئلة التي كان الداعية يجابهها بردود عنيفة فيها من الغرور والتبجح بالمعرفة الدينية والعلمية والعقلية ما يثبت أن رجال الدين غير مؤهلين لأي حوار عقلاني علمي، خاصة عندما يكونون وحدهم في الساحة ويكون خصومهم مكبلين بالقيود وعلى رؤوسهم سيوف القهر والتكفير والملاحقة بتهم خطيرة جدا مثل تهمة الإلحاد في مجتمع غالبية أهله مخدرون بالدين (الغزالي توفي عام 1996 أي قبل هذا الانفجار الإعلامي العظيم في عصر الإنترنت وما أتاحه من حريات كانت من قبيل الأحلام قبل ذلك).
ظل الداعية يرعد ويزبد ويصول ويجول طوال الحوار وحده في الميدان، باعتبار أن مجرد تمكين الملحد من التحاور معه هو عنده من قبيل المَنّ لا الحق. مع ذلك فهو ما ملك نفسه وأطال صبره، كما قال، إلا لسبب بسيط وهو أنه لم يكن يملك الخيار الآخر الذي كان يلجأ إليه أسلافه في (محاورة) المختلفين معهم، ناهيك عن الملحدين. لهذا عاش الغزالي ساخطا على الأنظمة العربية التي لم تكن تحكم بما أنزل الله باعتبارها تسامحها الديني خطيئة لا تغتفر. نقرأ في صحيح البخاري ما مفاده أن الصحابي معاذ بن جبل أرسله النبي محمد إلى اليمن للإشراف على نشر الإسلام فسار حتى التقى بأبي موسى الأشعري، الذي كان قد سبقه إلى هنالك "وإذا هو جالسٌ وقد اجتمع إليه الناسُ وإذا رجلٌ عنده قد جُمِعَت يداه إلى عنقه فقال له معاذ: "يا عبد الله بن قيس أيم هذا؟ قال: هذا رجلٌ كفر بعد إسلامه. قال معاذ: لا أَنْزِلُ حتى يُقْتَل. قال أبو موسى: إنما جِيءَ به لذلك، فانْزِلْ. قال: ما أنزلُ حتى يُقْتَل. فأُمِرَ به فَقُتِلَ، ثم نزل.." وفي رواية أن معاذا احتج بالحديث النبوي: من بَدَّل دينَه فاقتلوه.
https://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=7831&idto=7842&bk_no=52&ID=2248
الغزالي نفسه لم يشذ عن سلفه معاذ بن جبل عندما برر اغتيال المفكر المصري فرج فوده من طرف أحد الإرهابيين الجهلة الذي صرح للقاضي أنه لا يعرفه ولم يقرأ له شيئا. الغزالي دافع عن فعلة المجرم دينيا باعتبارها تغييرا لمنكر ورأى أن خطأ القاتل الوحيد هو أنه افتأت على سلطة الحاكم، وهو خطأ لا عقوبة عليه، رغم أنه سبق أن حاور فرج فوده قبل عدة أشهر فقط في حوار شهير حول العلمانية:
http://arabtimes.com/portal/article_display.cfm?Action=&Preview=No&ArticleID=35595
فما هي الحجة الساطعة التي انتصر بها الغزالي للإيمان بالله على الإلحاد؟
كتب الغزالي على لسان الملحد: "إذا كان الله قد خلق العالم، فمن خلق الله؟!"
رد الغزالي جاء متهافتا: "إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا في طريق رهيب، فتساؤلنا ليس في وجود العربة، وإنما هو: هل تسير وحدها؟ أم يسيرها قائد بصير..!!!"
وأضاف: "إنني -أنا وأنت- ننظر إلى قصر قائم، فأرى بعد نظرة خبيرة أنَّ مهندسًا أقامه، وترى أنت أنَّ خَشَبَهُ وَحَدِيدَهُ وَحَجَرَهُ وطلاءَه قد انتظمت في مواضعها، وتهيأت لساكنيها من تلقاء أنفسها ...".
وأضاف: "الفارق بين نظرتنا إلى الأمور، أنني وجدت قمرًا صناعيًا يدور في الفضاء، فَقُلتَ أنت: انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه. وقلت أنا: بل أطلقه عقلٌ مشرف مدبر."
وأضاف: "إنَّ الافتراض العقلي ليس سواء، إنه بالنسبة إليَّ الحقُّ الذي لا محيص عنه، وبالنسبة إليك الباطل الذي لاشك فيه، وإنَّ كفار عصرنا مهرة في شتمنا نحن المؤمنين ورمينا بكل نقيصة، في الوقت الذي يصفون أنفسهم بالذكاء والتقدم والعبقرية.
فلنتأمل، إذن، في سؤال الملحد ورد الغزالي عليه: "إذا كان الله قد خلق العالم، فمن خلق الله؟!"
سؤال الملحد وجيه جدا. من حق الملحد أن يعترض على ادعاء المؤمنين بأن لكل صنعة صانع، ولكل مخلوق خالق وعليه أن يقبله بدون برهان مقنع. من حقه أن يرفض طلب المؤمنين التوقف عند الله كآخر حلقة في سلسلة الأسباب والمسببات والالتزام بذلك كحقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، ويحجر على عقله، بينما وجود الله، كما قدمته لنا الأديان، يطرح تساؤلات وجيهة. فالله اختار التخفي عن الأغلبية الساحقة من البشر، بعد أن زعم نفرٌ قليل جدا من الناس (الأنبياء) أنه ظهر لهم أو أرى نفسَه إيّاهم، وأمرهم بتبليغ رسالاته إلى كافة البشر وعليهم أن يصدقوهم وألا يكون لهم أي حق في تأسيس اعتقادهم على قواعد متينة، بحيث فُرِضَ عليهم أن يعيشوا حيرة وشك دائمين لأنهم لم يروه ولا رأوا إحدى بيناته أو معجزاته، ولا سمح لهم بالاختيار الحر بين الإيمان وعدم الإيمان: فهناك ثواب وعقاب وجنة ونار في الانتظار كما جاء في كتبه. لماذا لا يظهر الله لعباده كما ظهر للأنبياء ولماذا لا يخاطبهم كما خاطب الأنبياء ويريهم نفسه كما أرى نفسَه الأنبياءَ. لماذا هذا التمييز؟ ما الهدف منه مع أنه يريد (حسب كتبه طبعا) أن يؤمن بوجوده كل الناس ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا؟ فما منعه أن يتجلَّى لهم على الأقل في كل جيل حتى تطمئن قلوبهم. وهذا مطلب سهل على الله تلبيته وليس فيه ما يخل بربوبيته.
في الواقع، فحتى الأنبياء، بوصفهم من المصطفين، طالبوا أن يروا الله لتطمئن قلوبهم، فكيف بباقي البشر؟ نقرأ في القرآن "وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ". ونقرأ فيه أيضا: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...". لماذا لا يكون من حق كل المؤمنين أن تطمئن قلوبهم برؤية الله؟ لا تفسير منطقيا عقليا يبرر لنا هذا التخفي الذي يغري بالشك وطلب الحجة.
وبالإضافة إلى هذا التمييز، فقد لاحظ الأذكياء في كل العصور أن الكتب (السماوية) المنسوبة لله حوت خرافات وشرائع جائرة وتمييز عنصري وجنسي وديني، وبررت كل صنوف العنف ضد المختلفين. المقارنة بينها وبين الشرائع البشرية الحديثة هي بامتياز لصالح شرائع البشر. (طبعا بالنسبة للملحد كل الشرائع صنيعة بشرية).
قول الغزالي التالي، ردا على سؤال الملحد، مردود عليه: "إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا في طريق رهيب، فتساؤلنا ليس في وجود العربة، وإنما هو: هل تسير وحدها؟ أم يسيرها قائد بصير..!!!"؟
فهل صحيح أن هذا الكون يسيره قائدٌ بصيرٌ مثلما يقود القطار قائد بصير؟ الغزالي هنا ينطلق من مسلمة يعتقد أنها صحيحة وأن كل الناس مقتنعون بها، وهي متهافتة.
سأل نابليون الفيزيائي لابلاس عن السبب الذي جعله يُهْمِل الخالقَ في مجلداته الخمسة في "الميكانيكا السماوية"، فأجاب العالم بدون غموض: "سيدي، لم أكن في حاجة إلى هذه الفرضية". فكل ظاهرة وراءها قوانين وأسباب مادية يمكن فهمها وتفسيرها ولا حاجة إلى قوة غيبية لذلك.
بعد لا بلاس بقرنين اصطف ستيفن هوكينغ وراء الإلحاد العلمي لسلفه الكبير. ففي كتابه "التصميم العظيم" استبعد أي تدخل إلهي في الصيرورة التي قادت إلى نشوء الكون.
وحتى بالنسبة لفيلسوف مؤمن مثل الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561-1626) فقد سخر من أحد القساوسة الذي كان يزعم بأن العناية الربانية هي التي تحفظنا، ولو غفلت لحظة لانهار العالم (تماما مثلما نقرأ في قرآن محمد عن الله: "لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم")، فقال العالم متهكما: هذا القس يتصور الله وكأنه مجرد عون صيانة مهمته الوحيدة أن يقف باستمرار وراء آلة سيئة الصنع لا تتوقف أعطالها، وكأن الله لا يمكن أن يكون مثل المهندس القادر على صنع آلة محكمة بوسعها أن تسير لوحدها دون عون صيانة واقف على رأسها ليل نهار!
عندما بدأ الإنسان حديثا التمرد على الخضوع المطلق لله وممثليه في الأرض ولم تعد (المعرفة) الدينية تقنعه قرر العمل على اكتشاف قوانين الطبيعة واستثمارها لصالحه وبدأ يرشد ويخرج من قصوره. قبل ذلك كان الناس ينسبون كل شيء لقوى خفية غامضة لا تتوقف عن التدخل لعرقلة الإنسان، بل حتى الله خلق قوى شريرة مثل الشيطان مهمته الوحيدة الإيقاع بعباد الله كجزء من الامتحان. هكذا راح الإنسان يتغلب على مشاكله الكثيرة وتمكن من الإيفاء بحاجاته الصحية والغذائية والأمنية وتسخير الطبيعة لخدمته، وكلما ازدادت معرفته بهذه القوانين، كلما استغنى عن انتظار المدد من الله ومن ممثليه في الأرض من رجال الدين والسحرة والمشعوذين والرقاة، باستثناء المجتمعات المتخلفة التي مازالت خاضعة للأديان. إن الأمراض التي كانت تنسب إلى قوى غيبية لم تعد كذلك بعد أن اهتدى الإنسان إلى أسبابها ووضع لها العلاجات الناجعة. وما نقوله عن الأمراض يمكن تعميمه على كل المُنَغِّصات التي ظلت على مدى الدهور تنغص حياة الإنسان وتوهمه أن وراءها قوى غيبية عليه أن يخضع لها أو لممثليها حتى يتفادى شرها. ما حققه الإنسان في كل المجالات لا يمكن أن نجد فيه أثرا لادعاء الغزالي بأن هناك مسيرا بصيرا للكون والطبيعة وحياة البشر. لا نجد دواء واحدا من بين آلاف الأدوية، لا تقنية واحدة، لا فكرة ذكية واحدة لإدارة شؤوننا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية نزلت من السماء.
مع ذلك يأتينا الغزالي بآية "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"، ويرى أنها تعلي من شأن العلم، وتغض من أقدار الجاهلين". فعن أي علم يتحدث؟
ثم يأتينا بآية أخرى "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ". ويفهم منها أن أولي الألباب، هم "أهل النظر في ملكوت الله، الذين يدرسون قصة الحياة في مجاليها المختلفة، لينتقلوا من المخلوق إلى الخالق".
يقول هذا الهراء وكأنه يجهل حقا أن نزول الأمطار مسألة متعلقة بقوانين الطبيعة يمكن فهمها والاستفادة منها، ولو صدقنا خرافة أن الله هو الذي يسير السحب وينزل الأمطار لكان مجرد التفكير في بناء السدود في المناطق الممطرة وتوجيهها إلى المناطق الجافة بمثابة تحدٍّ آثِم للإرادة الإلهية التي شاءت أن يكون منسوب الأمطار هنا عاليا وشاءت أن تترك مناطق أخرى تعاني من الجفاف. بل لو صدقنا أن هناك فعلا قائدا بصيرا لهذه الأرض فكيف نفسر هلاك ملايين الناس والحيوانات في شرق أفريقيا بسبب الجفاف بينما سمك الثلوج في القطبين يقدر بالكيلومترات. وما نقوله عن الأمطار نقوله عن النبات وكيف أن علوم الزراعة قد مكنت الإنسان من مضاعفة إنتاجه وتحسينه وتفادي المجاعات وغيرها لأن النبات يخضع في نموه إلى قوانين طبيعية صارمة يمكننا فهمها والتحكم فيها من تجاوز اللجوء إلى التفسيرات الوهمية التي يلجأ إليها الناس عادة بعد كل كارثة تحل بهم، فيلجئون إلى ممارسة طقوس دينية غير مجدية مثل صلاة الاستسقاء وغيرها.
هل يمكن أن نقبل في هذا العصر التفسير الهابط الذي يجعل كل المآسي والكوارث مجرد ابتلاء من الله حتى يقرر من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار؟
طبعا هنا قد يتصدى لنا مجادل، فيقول بأن الله هو الذي خلق الطبيعة ووضع القوانين والإنسان مطالب باكتشافها وتسخيرها لخدمته بحيث يستوي في الاستفادة منها المؤمن والملحد على حد سواء. وهذا رد حصيف ولكن بشرط أن نفهم منه أيضا نتيجة أخرى وهي أن حياتنا، إذن، لم تعد في حاجة إلى تبرير وجود الله، كما قال الغزالي، بهذه الحجة السخيفة باعتباره المسير البصير لمصائر الكون كلها. هذا النوع من الإيمان يمكن التسامح معه فقط كرياضة روحية حرة لمن أراد. عدا هذا فكل مستلزمات حياتنا تقتضي منا الاعتماد على أنفسها، وعلى ما نكتشفه من علوم، وعلى ما نتوصل إليه من أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ولا تسامح مع أولئك الدجالين الذين يعرقلون كل العلوم والمعارف والممارسات ويحرمونها إذا لم يجد ما يبررها في موروثهم الديني. لو فعلنا هذا نكون قد خرجنا من قصورنا المزمن، تماما مثل خروج الأطفال القصر من حالة القصور عندما يرشدون ويتولون إدارة شؤونهم بأنفسهم ويتحررون نهائيا من الوصاية المذلة.
مع ذلك يكتب الغزالي على لسان الملحد: "قال صاحبي -وكأنه سكران يهذي- الأرض صنعت ذلك!"
ثم يرد عليه ساخرا: "قلت: الأرض أمرت السحاب أن يَهْمِي، والشمسَ أن تشعّ، وورق الشجر أن يختزن الكربون؟"
فمن هو أحق بالسخرية يا ترى؟
يقول ساخرا: " الأرض أمرت السحاب أن يَهْمِي، والشمسَ أن تشعّ، وورق الشجر أن يختزن الكربون؟" وكأن هذا غير صحيح. وكأن القوانين الطبيعية ليست هي التي أمرت السحاب أن يَهْمِي، والشمسَ أن تشعّ، وورق الشجر أن يختزن الكربون، كأن السحاب لا علاقة له بنشاط الأرض من محيطات ورياح ودوران واقتراب وابتعاد من الشمس والقمر... هكذا يتحول الجهل إلى علم والعلم إلى جهل.
ثم ينتقل الغزالي إلى مجال آخر فيكتب على لسان الملحد: "أفلو كان هناك إله كما تقول، كانت الدنيا تحفل بهذه المآسي والآلام، ونرى ثراءً يمرح فيه الأغبياء، وضيقًا يحتبس فيه الأذكياء، وأطفالاً يمرضون ويموتون، ومشوهين يحيون منغصين ... إلخ؟"
ورد عليه الغزالي: "قلتُ: لقد صدق فيكم ظني، إنَّ إلحادكم يرجع إلى مشكلات نفسية واجتماعية، أكثر مما يعود إلى قضايا عقلية مهمة!".
وواصل: "قلت: آفَتكُم أنكم لا تعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا، ووظيفة البشر فيها، إنها مَعَبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكي يَجُوزُ الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه، لابد أن يُبتلى بما يَصقل معدنه، ويُهذبُ طِباعه، وهذا الابتلاء فنون شتى، وعندما ينجح المؤمنون في التغلب على العقبات التي ملأت طريقهم، وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء، فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة، ليقول لهم: "يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ".
هكذا صار احتجاج الناس على المآسي التي ظل يتخبط فيها البشر قرونا من الزمن مجرد "مشكلات نفسية واجتماعية" لدى الملحدين المرضى نفسيا، وليس مرده إلى أسباب جدية يمكن فهمها علميا واستغلال نتائج البحوث لتقديم الحلول لها. الإنسان، حسب الغزالي، عليه أن يتقبل مآسيه من فقر وجهل ومرض وظلم وبؤس على أنها ابتلاء من الله لحكمة أرادها هو وليس من حقه التساؤل حولها، وليست نتيجة جهل متواصل منذ قرون في فهم الطبيعة والمجتمعات وطبيعة أنظمة الحكم ومستوى المواطنة ودور الناس في التكفل بمصائرهم بدل الركون إلى إرادة قوى غيبية.
وحتى في هذه الحالة، حالة الابتلاء، فالغزالي يمارس انتقائية وتحايل مُخْزِيَيْن: خرافة الابتلاء الذي يجب أن يمر به الإنسان لا تستقيم مع حجة أخرى أقوى وهي أن الله قرر قبل خلق الأرض ومن عليها من هم أهل النار ومن هم أهل الجنة. فعند البخاري نقرأ: "فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ .قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ :وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ".
ومع هذا يقرر الغزالي، في الأخير، بأن: "أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم، وفي هذا يقول الله جل شأنه: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ".
يقول هذا الكلام وكأنه يجهل أن الله نفسه قال أيضا: "أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ-;- وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰ-;-ذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ-;- وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰ-;-ذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ-;- قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ-;- فَمَالِ هَٰ-;-ؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا". وقال أيضا: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰ-;-لِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ-;- مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ-;- وَاللَّهُ..".
يتبع



#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما يجادل الدعاة في وجود الله 2
- عندما يجادل الدعاة في وجود الله 1
- عندما يتحدث أعداء السعادة عن السعادة 3
- عندما يتحدث أعداء السعادة عن السعادة 2 القرضاوي نموذجا.
- عندما يتحدث أعداء السعادة عن السعادة 1
- بدوي في أمريكا 3
- بدوي في أمريكا 2
- بدوي في أمريكا 1
- حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 3
- حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 2
- حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 1
- تشريح مقولات جنت علينا 6: لا يَصْلُحَ آخِرُ هذه الأمة إلاّ ب ...
- تشريح مقولات جنت علينا 5: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما ...
- تشريح مقولات جنت علينا 4: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) ...
- تشريح مقولات جنت علينا 3:- من رأى منكم منكرا فَلْيُغَيِّرْه ...
- تشريح مقولات جنت علينا (2): -الحمد لله الذي هداني للإسلام قب ...
- عبد القادر أنيس - كاتب علماني من الجزائر - في حوار مفتوح مع ...
- تشريح مقولات جنت علينا (1)
- عندما يتعاون الإسلامي والعلماني على ممارسة التجهيل
- الملياردير الأمريكي والصياد المكسيكي


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - عندما يجادل الدعاة في وجود الله 3