أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - الفلسطيني والاحتلال في رواية -أحلام بالحرية- عائشة عودة















المزيد.....



الفلسطيني والاحتلال في رواية -أحلام بالحرية- عائشة عودة


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4973 - 2015 / 11 / 2 - 19:58
المحور: الادب والفن
    


الفلسطيني والاحتلال في رواية
"أحلام بالحرية"
عائشة عودة
قبل اكثر من خمس سنوات قرأت هذه العمل وكتبه عنه بشكل موجز، إلا أن حصول الكاتبة على جائزة مؤسسة بن رشد لأدب السجون جعلني اتقدم من جديد لهذه الرواية، ومما دفعني ايضا حصولي وقراءة الجزء الثاني من الراوية "ثمن ألشمس".
هناك العديد من الروايات العربية التي تناولت موضوع ألاعتقال لكن ولا واحدة منها ـ إذا ما استثنينا رواية "أمهات في مدافن الأحياء" لوليد الهودلي وتحدثت عن تجربة امرأة وقعت تحت شراسة وقسوة الجلاد، فالكاتبة بهذه الرواية تجعلنا نقف أمام أول وأهم رواية نسائية عربية تتحدث عن الاعتقال، وهذا ما يحسب للكاتبة، وإذا ما أضفنا إلى هذا الامر حقيقة وواقعية الحدث، اضافة الى قدرة الكاتبة على تحويل تلك المأساة وقسوتها إلى عمل أدبي، فيه من المشاعر الإنسانية وما تحمله النفس من خوف وفرح، ومن شعور بالانكسار والانتصار، وأيضا حالات الانكفاء على الذات ثم التقدم في ألمواجهة من جديد، وحضور هم الاسرة والأم، ثم تغليب الهم الوطني عليهما، قسوة السجان وعظمة الارادة التي تكسر بطش وعنجهية ألجلاد، قدرة الكاتبة على التصوير الفني رغم غلاظة ألموقف، وضع مجموعة من المقولات تعبر عن خلاصة تجربتها تحت التعذيب، اللغة السردية التي تمتع وتسهل على المتلقي هضم هذا العمل، حضور الشخصيات على طبيعتها دون تدخل من السارد مما جعلها تظهر لنا على حقيقتها، إن كنا معها او ضدها، الموضوع الوطني الفلسطيني الذي لم يكن يتخيل بأنه سيكون طول عمر الاحتلال بهذا المقدار من السنوات، في كل المقاييس نحن أمام رواية تستحق منا أن نتقدم منها ونتوقف عند الكثير من تفاصيلها.
الزمن الذي تتحدث عنه الرواية هو 1/3/ 1969 وما بعده، من هنا سيكون هناك جانب مختصر تحدثنا عنه الكاتبة، يتناول واقع فلسطين في العهد الأردني، وكذلك أهمية الساحة الاردنية في تدعم مقومات المقاومة الفلسطينية، فهي كانت المورد للعديد من الاحتياجات المتعلقة بفعل المقاومة، أما مكان الحدث فهو تحديد "دير جرير" قضاء رام الله ومدينة القدس التي حدثت فيها العملية الفدائية، والسجون والمعتقلات المتفرقة على الجغرافيا الفلسيطينية.

مجزرة دير ياسين
بداية سنتحدث عن الدوافع التي جعلت بنت فلسطينية تقدم على فعل صعب ليس عليها وحسب بل على الرجال أيضا، تنقل لنا الكاتبة تفاصيل واقع مجزرة "دير ياسين" على الأقرباء، وتقدم لنا احد المشاهد من تلك المجزرة فتقول عن "زينب" البت صاحبة الخمسة عشرة عاما كيف كان حالها في تلك العملية البشعة، "واستطاعت زينب ان تخبئ خلف الحطب وترتجف خوفا، ثم شعرت بسائل دافيء يسري تحتها ويرنخ ثيابها، في تلك اللحظة التي ادركت أنه دم، هربت روحها، غابت عن الوعي، وبقي جسدها هناك مدفونا بالحطب غير مدرك لما يجري حوله،... أعتقدوا انها اسيرة، وعند البحث عن اسمها بين قوائم الاسرى لم يكن بينها، بدأت الضنون التي تغدت من الخوف البالغ حدوده القصوى على مصير فتاة جميلة في الخامسة عشرة من عمرها، تنهش كينونة الأهل، تسلل أخوها وكان يعمل مدرسا في المزرعة الشرقية إلى القرية ليلا بعد يومين، بحث عن زينب في ادق المخابئ التي يحتمل أن تتواجد فيها، دخل المخبز، سمع أنينا، كان أنين زينب، ولم تكن قادرة على النطق، حملها ونقلها الى مستشفى في القدس." ص42 هذه احدى القصص الكثيرة التي تناقلها الناس حول هول المجزرة، فالذين نجو منها لم يكونوا في قارة أخرى، بل بين أهليهم وأقربائهم، من هنا كان وقع الحدث/القصة اشد واعمق في النفوس، فما بالنا أن كان المستمع طفل وقريب الضحية؟، من المؤكد سيكون مثل هذا الحدث وشما لا يمحى ابدا الدهر، فهو راسخ في الذاكرة كما هي الروح، لن ينتهي من الذاكرة إلا مع صعود الروح الى بارئها.
ومن مشاهد تلك المجزرة الرهيبة، تحدثنا عن أم وطفلها الرضيع "قصة مريم الطبجي" وقد حفظت الاسم لاعتقادي أن له علاقة بالطبيخ! رويت القصة على أن اليهود ذبحوا زوجها أمامها، وكان طفلها الصغير على حضنها، وحين أرادوا ذبح طفلها أخذت تبوس اقدامهم من أجل إلا يمسوا الطفل بسوء، لكنهم اخذوا يساومونها، فقدمت لهم ما لديها من ذهب وأموال ليبقوا على طفلها، أخذوا كل شيء وتركزها مع طفلها وزوجها القتيل" ص42، إذن ذاكرة الطفل خصبة وتتلقي الحدث/الفكرة وترسخ فيها لكي تنمو وتزدهر، فهي تكون في أمان، لا شيء سيمحوها او يغير فيها، وهذا ما ستؤكده الكاتب ـ في العقل الباطن ـ عندما تجعل من هذه المذبحة مبرر لما اقدمت عليه، فهي تذكرها لنا وللعدو سبع مرات، وهذا مؤشر ودليل على شدة وقع المجزرة على الطفلة الفلسطينية.
فأثناء التحقيق نجدها تستحضر هذه الواقعة من جديد لتؤكد وحشية وقذارة وعدم إنسانية المحتل، الذي يظهر البراءة وفي داخله، وهو في حقيقة الأمر حش مفترس يتربص بالضحية، فتحدثنا عن هؤلاء القتله الذي خانوا جيرانهم، ومن تسامح معهم واستضافهم واعتبرهم أصدقاء، "..قل أن العلاقة جيدة كانت تربطهم بجيرانهم اليهود من (كبانية تل بيوت) كانوا يأتون لزيارتنا وشرب القهوة في بيوتهم وشاركوهم أفراحهم وأتراحهم، لكن اهل دير ياسين تفاجأوا من أن العديد ممن كانوا يتزاورون معهم، هم أنفسهم من قاموا باقتحام القرية ونكلوا بهم يوم المذبحة، "كوهين" اقتحم مع أذان الصباح هو مسلح ويلبس ملابس جيشية، بيت محمود جودة حين تعرف عليه محمود صرخ به، ماذا جرى يا "كوهين" ألم تشرب القهوة الليلة عندي كصديق؟ أم كنت تشرب قهوتي وتخطط لقتلي والاستيلاء على بيتي؟" ص74و75، بهذه المشهد تؤكد لنا الكاتبة طبيعة الصهاينة فهم لا يحفظون ودا لأحد، والخيانة والغدر يسري بدمهم، من هنا وجدنا هذه الحادثة تستحضرها الكاتبة أثناء التحقيق لكي تتقوى بها، ولا تأخذ بالشكل الإنساني الذي يظهره الجلاد، فهو ذئب بهيئة حمل، وعليها أن تكون أكثر حذرا من أولئك الذي لا يظهرون على حقيقتهم.
تعترف لنا الكاتبة عن تأثير هذه المجزرة عليها، بحيث تجعلها هي المحرك الرئيسي لما أقدمت عليه، فتحدثنا بما يلي: "هو لا يدرك أن أحدا غيرهم لم يرسلني لعمل شيء، ولكنهم هم منذ طفولتي فعلوا ذلك، منذ تفتح وعيي، ومنذ رأيت أسرة خالتي وأهالي "دير ياسين" في الأيام الأولى من تشردهم، وأنا أحلم بالقتال لإعادتهم الى قريتهم وإعادة اللاجئين الى بيوتهم وقراهم" ص78، أذن هذا هو الدافع الأهم والأبرز الذي نما وكبر في تلك الطفلة، وكأنه جنين في رحمها، حافظة عليه حتى نضج وأصبح قادرة على التكيف مع الحياة، فغذته بالعديد من المقويات ليكون اكثر قوة وديمومة، ويستطيع التكيف مع كافة الظروف، فهو كائن حر، لا يعيش إلا في حرية، يرفض السكون، يحارب الخنوع، هو فكر لا يخضع للتطويع او تقبل الواقع، من هنا ستكون "عائشة عودة" نموذج فريد في المواجهة.
تعود الكاتبة الى محاججة المحقق حول العملية التي اقدمت عليها فيصفها بالعملية الإرهابية فترد عليه "وهل قرية دير ياسين كانت ثكنة عسكرية وكان أطفالها ونساؤها جنودا؟" ص104، استخدم الذاكرة كجدار للدفاع والمواجهة يجعل صاحبها اكثر قوة، فهو بذلك يستطيع المحاججة وتقديم حقائق ووقائع تدعم فكرته وتزيد من صموده، وتفند قول الجلاد.
وتستحضر الكاتبة "دير ياسين" كعامل صمود ومواجهة عندما تستذكر عملية الاعلام الموجه التي استخدمها المحتل ليزيد من حالة الهلع والخوف عند الفلسطينيين، مما جعلهم يتسرعون ويخرجون هاربين من وطنهم نحو المجهول، "تذكرت ما كان يتم تداوله عن فعل الاشعات التي رافقت مذبحة دير ياسين عن الاغتصاب وقتل الاطفال وبقر البطون" ص153، إذن ذاكرة الطفلة أثمرت واستطاعت أن تستخدم الحدث "مجزرة دير ياسين" كدافع ومحفز عقلي للفعل المقاوم، وأيضا أن تكون تلك الفكرة أداة للتقدم اكثر من الهدف، ومواجهة الجلاد ومحاججته، ويضاف الى كل هذا الاستفادة من تلك التجربة/الحدث وجعلها لا تتكرر، أن لا يستخدمها العدو مرة أخرى لتحقيق أهدافه.
بهذا الشكل نكون أمام فعل/حدث روائي متنامي ومتصل ومترابط في ذات الوقت، وهذا ما يحسب للكاتبة التي استطاعت أن توحد فكرتها وتنثرها على كافة أجزاء الرواية، جاعله من "دير ياسين" ليس محفز/دافع لعمل المقاومة وحسب، بل قدمتنا منها، وجعلتنا نشعر بحجم الجريمة التي اقترفها المحتل، فهي أنعشت ذاكرتنا بما يجب أن لا يمحى منها أبدا، وأيضا جعلتنا نستفيد/نستخدم ذاك الحدث بشكل يخدم قضيتنا، نعري المحتل، ونعرف طرقه الخبيثة، لكي نتجنب الوقوع بالخطأ مرة أخرى، ونستطيع من خلالها أن نحاجج من يدعي الوداعة والمسالمة، ونكشف أساليبه القذرة والملتوية .

التعذيب
دول الاحتلال على مر العصور استخدمت اساليب غير انسانية بحق المواطنين، إن كان من خلال القتل لأي سبب كما يحصل الآن في فلسطين او الاعتقال وأيضا دون مبرر، أو التضييق على المواطنين بكل ما يتعلق بحياتهم كما يفعل الاحتلال اليوم.
ممارسة التنكيل والتعذيب حتى الموت احد الوسائل التي تتبعها دول الاحتلال، ودولة اسرائيل لها المثل الأعلى في هذا المجال، "عائشة عودة" تقدم لنا بعض ما تعرضت له من تعذيب وحشي على يد جنود دولة الاحتلال، فأول مقابلة مع الجلاد كانت بهذا الشكل،
"ـ بشوفك يا شرموطة مش مهتمة؟
راح أشلك، راح أخلع عيونك، راح أشوه وجهك، وأخليك مثل القرد" ص47، بهذا الشكل تتم معاملة المعتقلة الفلسطينية، وإذا ما عرفنا بأنها أنثى ومن مجتمع قروي محافظ، نعلم حجم وخطورة الكلمات الموجه لها، فليس من المستساغ أن يتم نعت بنت وتعمل بمهنة التعليم بهذه الألفاظ، لكن المحتل يمارس ساديته المطلقة بحق الفلسطيني.
بعد هذا الكلام البذيء ينتقل الجلاد الى الشكل المتعارف عليه في معتقلات الاحتلال، التعذيب الجسدي، الجسد الذي يرفض الاحتلال ويقاومه لا بد من الانتقام منه، وأهم جزء منه الرأس، فهو المحرك للجسد، مركز/قوة الفعل المقاوم، من هنا يجب التركيز عليه لكي يتم تخريبه، تحطيمه بحيث لا يعود يعمل كالسابق، "ناول الأنبوبتين للواقف خلفي، بدأ يضربني بهما على رأسي كما يفعل قارع الطبل، رفعت يدي لأحمي رأسي فضربني فوقعهما." ص56، بعد هذه العملية تصف لنا الكاتبة حالتها المزرية، حيث شعرت بأن صوت الضجيج أصبح ملازما لها، فلا تستطيع أن تتخلص منه، "هل أنتهى عالمي إلى ضجيج، هل يسكنني الى الأبد؟ هل فقد السمع؟" ص58، إذن الرأس وما فيه من مركز للسمع والبصر والتفكير هو الأهم بالنسبة للجلاد، وكأن هناك عملية انتقام منه، ناهيك عن الجسد، هذا الرأس الذي تجاوز المألوف وخرج متحديا الاحتلال، لا بد من النيل منه.
بعد أن يتم تجاوز المرحلة الأولى من التعذيب ـ الضرب على الرأس ـ وينتقل الجلاد الى شكل آخر شكل الضرب بالكرباج، "لوح بالكرباج عاليا وخبطه على كتفي ملتفا على ظهري، خرج الألم نارا من رأسي.
قال: هذه تحميلة فقط يا بنت القحبة" ص61، بهذه القسوة والوحشية يتعامل الجلاد مع ضحيته، فمثل هذه التفاصيل تبين حجم السادية والوحشية التي تسيطر على عناصر دولة الاحتلال، فهم لا يكتفون بالتعذيب الجسدي وحسب، بل أيضا يضيفون عليها التعذيب المعنوي، من خلال الالفاظ البذيئة التي لا يتقبلها الإنسان السوي ابدا.
وتكمل لنا الكاتبة جلسات التعذيب من خلال هذا المشهد، "صفعة قوية طيرتني عن الكرسي وأوقعتني أرضا.
هل صرخت؟ لا أذكر. لكني أحسست بأن جزءا من وجهي طار أو خسف. مددت يدي أتحسسه. كل شيء ما زال في مكانه" ص67، تفاصيل الصفعة وما تبعها من ألم تبين لنا قوة ووحشية تلك الصفعة، وكأن صاحبها متخصص في هذه الشكل من التعذيب، فقد اوقع الضحية عن الكرسي، وشعرت بأن وجهها لم يعد موجودا، وهذا يؤكد بأنها لم تكن صفعة عادية، بل هي شيء اكبر واخطر من صفعة.
ومن اخطر واقسى المشاهد التي تناولتها الكاتبة كان هذا المشهد، حيث تكالب عليها اكثر من جلاد وافقدوها ... "قاومت ولم تفد مقاومتي، أصبحت عارية كما ولدتني أمي تماما، شدت يداي خلف ظهري، وضع القيد فيهما، ألقوا بي أرضا، أنغرز القيد في عمودي الفقري فتصاعد الألم كخيط من نار تسري في نخاعي الشوكي، هجم القصير وثبت ركبته في بطني فزاد ضغط القيد على عمودي الفقري، كاد يقصم ظهري وأصبح الألم يفيض كشلال من نار، أمسك الطويل ـ عزرائيل ـ بعصا، باعد ساقي وثبتهما بركبته، وثبتت الفتاة رأسي بقدمها.
..."عزرائيل" يحاول بالعصا اختراق رحمي.
قاومت.
... يا الله كن بعوني "يا الله" قلتها في اعماق نفسي.
أخذ جسدي ينوس، ثم أنطفأ كسراج استهلك كامل زيته
أدرك (عزرائيل) أن شيئا حصل لي، رمى عصاه ونهض سريعا معطيا أمرا للآخرين. بسرعة احضرت الجندية كرسيا، رفعاني من كتفي وأجلساني عليه، أذكر أن جسدي لامس الكرسي ثم بدأ يهوي، لم أع لحظة أصطدامه بالأرض. غادرت روحي الجسد والمكان والزمان" ص124-127، من اقسى مشاهد التعذيب هذا المشهد، ولا ادري كيف استطاعت "عائشة عودة" أن تكتبه، أنه مؤلم حتى للمتلقي فما بالنا لمن تعرض له؟
نستنتج من المشهد السابق بأن الجلاد يعمل على سلب الضحية كل ما تشعر بأنه مهم لديها، فعندما بدأ ينعتها بالكلام البذيء، كان يعمل على أخذ شيء من كرامتها، تكسير المفاهيم الاخلاقية التي تربت عليها، وأكمل هذا الأمر عندما فض بكارتها بالعصا، وكأنه لا يريد ضحيته أن تملك أي شيء يجعلها مقبوله في مجتمعها، من هنا أصر على هذا الفعل القبيح والقذر.
التعذيب بالتعذيب
ومن الاساليب القاسية التي مارسها الجلاد بحق الضحية ما يطلق عليه التعذيب بالتعذيب، بمعنى جعل المعتقل يتعذب برؤية ومشاهدة وسماع شخص يعذب أمامه، إن كان معرف لديه أم مجهول، وهذه النوع من التعذيب أشد وقعا على الضحية، وأكثر أذية من التعذيب الجسدي، لما له من تأثير على المشاعر التي تخرج النفس عن انضباطها واتزانها.
أول مشهد من هذا التعذيب كان متعلق ب"بشير" رفيق الكاتبة فتصف هذه الواقعة "لأول مرة أشهد رجل يضرب دون أن يكون بمقدوره الدفاع عن نفسه" ص56، كان هذه المشهد يعد مقدمة لما هو قادم، بداية فقط ليس اكثر، فهناك المزيد من هذا التعذيب فهو أشد وقعا وأكثر هولا على النفس، "بدأت اصوت تعذيب تداهم سمعي من الغرف المجاورة، صراخ، أنين، جلد، ضرب، مسبات، استغاثة، كأنه يوم الحشر، أي جحيم هذا الذي يحيط بي؟
أصوات التعذيب تأكل أعصابي كمنشار يقرض جذع شجرة، لم استطع فعل شيء في مواجهة ذاك التعذيب الذي اسمعه ولا أراه" ص82، سنكتشف لاحق بأن هذا الشكل من التعذيب هو الاكثر ألما ووجعا على الضحية، فنجد الضحية تطالب بعدم تعرض زميلتها "رسمية" للتعذيب، وجعلها تتعرض للضرب بدلا منها، كل هذا لكي تحمي رفيقتها، وأيضا لتتخلص من قسوة المشهد.
"يواصل الآخر ضرب رسمية، أصرخ: أضربوني أنا! لكنهم يواصلون اللعبة، يدللونني ويضربون رسمية، أي سبيل يمكنني من الخروج من هذه الورطة، من هذا الجحيم؟ القرار عندي والضرب لرسمية؟ ورسمية تصرخ وتتألم، تشنجت يدا رسمية تماما، أصبحتا كقطعتي خشب، أنهما شلتا وصرخت رسمية بدورها "انشلوا إدي"" ص94، بهذا يتأكد انا قسوة تعذيب أي شخص أمامنا، فالمشهد يعد تعديا على المشاهد وعلى إنسانيته قبل أن يكون على الضحية، فالجلاد بهذا المشهد يرسم لنا صورته البشعة، فالإنسان السوي لا يستطيع أن يتحمل منظر او سماع صوت التعذيب، لكن الجلاد يستمتع وينتشي بالتعذيب، وهو تأكيدا على عدم سويته، فهو مريض وبحاجة الى معالجة نفسية.
وعندما تم تعرية الكاتبة وتكالب عليها ثلاثة اشخاص لكي يسلبوها بكارتها وصفت لنا هذا المشهد وأثره على المعتقلين الآخرين، "أمسك أحدهم بقدمي والآخر بذراعي، مسحا الأرض بجسدي ثم خرجا بي إلى الممر، صف من الشباب أوقفوهم إلى جانب الممر، أغمضت عيوني، ساروا بي في الممر ثم عادوا، أنفجر أحد الشباب بالبكاء، كان بكاؤه نشيجا، لكني لم أجرؤ على فتح عيوني كي لا تصطدم بعيون أحدهم" ص125، في هذا المشهد كان التعذيب مزدوج، للضحية التي تألمت بمشاهدة المعتقلين وهم مصطفين، وبصوت النشيج الذي خرج من أحدهم، وهي تألمت لألمهم، وكما تألموا لألمها، فالجلاد كان يعي شدة الوقع لمثل هذا المشهد على كافة المعتقيلن.
وهناك مشاهد أخرى متعلقة بأشخاص أخرين ذكرتهم لنا الكاتبة كتأكيد على ممارسة هذا الشكل من التعذيب فتقول عن "رسمية" رفيقتها: "عذبت رسمية أمام والدها، وأهينت أمهما وأختها فاطمة أمامها ثم اطلق سراحهم وهم في وضع صعب" ص148.

الوقت
مسألة الوقت، الزمن الذي يعيشه الانسان يتفاوت الاحساس به من شخص لآخر، والاحساس بالوقت يخضع لطبيعة الانسان اولا، ثم الظرف الذي يعيشه، فعندما يكون الوضع طبيعي يمر الوقت دون أن نشعر به، وكأنه شيء عادي في الحياة، لكن عندما نكون عرضة للألم أو في حالة انتظار وترقب يكون وقع الزمن طويل وطويل جدا، حتى أننا نشعر بأن الدقيقة تعادل ساعة، والساعة تعادل يوم.
حدثتنا الكاتبة عن الوقت وكيف يمضي أثناء التعذيب، فهو كائن بليد، لا يتحرك وكأنه ميت، فعندما طلب منها ان ترفع ذراعيها ووجهها إلى الحائط كان الزمن بهذا الوصف، "مر زمن من الصعب تقديره، فالزمن في مثل ذلك الوضع ثقيل الهمة لا يتزحزح إلا ليثقل النفس" ص63و64، بهذا الوصف كان الوقت لا يتحرك بالنسبة للضحية.
وهناك مشهد آخر بعد ان تعرضت الكاتبة للجلد بالكرباج وفقدت وعيها ثم سكب على جسدها الماء البارد، كانت تعاني من شدة الألم وقسوة البرد معا، فكان الزمن في تلك الحالة بالنسبة لها بهذا الشكل، "دقيقتان، ربما خمس دقائق، ربما ساعة وربما أكثر، الإحساس بالزمن غائب ولا حضور إلا للألم، وأنا على الأرض بلا حراك" ص72، بهذا المشهد يكون الوقت يثقل كاهل الضحية كما هو الحال أثناء التعذيب، حتى يمكن أن لا يكون هناك شعور بالوقت أثناء الجلد، لكن بعد الانتهاء منه، وتبدأ الضحية بالشعور بالألم يكون الوقت ثقيلا وبليدا.
هناك مشهد يختزل الزمن/التاريخ ويجعله حاضرا/موجودا وقت التألم والتعذيب، فكل ثانية كانت تمثل دهرا من الزمن الماضي، وكل ثانية تمثل قرنا من الزمن الحالي، بهذا الوصف كان الزمن بالنسبة للضحية "..كل المظلومين في الكون، عبر التاريخ استحضرهم وتحولوا إلى إرادة يصب في مقاومتي، وكبرق، أنبثق في وعي بأن إرادتي في تلك اللحظة هي إرادة المقاومة المطلقة لكل المظلومين من البشر عبر كل الأزمان والأماكن، كانت لحظات تعادل زمنا ممتدا منذ فجر التاريخ وعبر كل العصور" ص124، حالة الصراع مع الألم وقسوة الجلاد، تدفع بالضحية نحو استحضار مشاهد من الذاكرة/الفكر تدعم موقفها لكي تصمد أمام وحشية وقسوة التعذيب، من هنا كان اللحظة/الثانية تعد دهرا بالنسبة لها، فهي كانت تجمع فكرها وتركزه على نقطة واحدة، البقاء سالمة غير ملوثة، وفي ذات الوقت تريد أن يبقى جسدها صامد غير قابل للاختراق من قبل العدو، تريده جدارا منيعا لا يمكن أن يخترقه أي جسم غريب، فكان الزمن في تلك اللحظات من اصعب الازمان ومن أبطأها وأثقلها على الإنسان.
الصمود
الثقل الهائل على جسد الفتاة وعلى تفكيرها كان لا بد أن يتركا تأثيرا عليها، فهي عندما أقدمت على فعل المقاومة كانت محصنة بقناعة راسخة لديها، وبحقها فيما تقوم به، وأيضا بحتمية الانتصار، لكن الضغط الكبير عليها لا بد أن يترك أثرا ما في نفسها، فتميل أحيانا إلى الاتجاه الخطأ، لكنها بعد التفكير بما أقدمت عليه، تعيد تقيم الموقف من جديد، لكي تصحح خطأها وتكمل طريق المواجهة، وهذا الأمر يخدم فكرة الرواية التي لم تجعل من بطلتها امرأة خارقة لا شيء يؤثر فيها، بل امرأة، إنسانية لها مشاعرها وتفكر وتعمل بطرية إنسانية، من هنا كان المتلقي يتأثر بالحالة التي تمر بها، ويتعاطف معها، ويقف إلى جانبا، حتى لو اتخذت قرارا خاطئا.
بعد أن أخذوا بتعذيب "رسمية" أمامها، اعترفت بقيامها بوضع القنبلة في "السوبر سول" ودلتهم على مكان الاسلحة، وعندها طالب المحقيق المزيد من المعلومات حول من هم الاشخاص الذين جاءوا بالأسلحة، ومن هي القيادات التي تتعامل معهم، عندها تحول كل انكساراتها السابقة إلى دوافع وعناصر قوة لها، فلم تعد تريد تقديم أي معلومة تجعل أي شخص عرضة الاعتقال والتعذيب، إلا يكفي ما تمر هي فيه؟ "...أستبسلت وإرادتي كانت مطلقة، وأصبح لصمودي معنى، واجتاحني رغبة في التكفير عن خطيئتي في الاعتراف الأولى.
الآن لن يحصلوا على أية تفاصيل مهما صغرت بعد الآن." ص122، رغم أن التعذيب الجسدي في هذا الموقف كان اشد من السابق، إلا أنها قررت الصمود، وعدم تقديم أي كلمة يمكن أن تفيد الاحتلال، وهنا انتقلت من وقعها كضحية الى كائن جديد لا يمكن أن يهزم أو يتراجع.
فهي استخدمت الخطوة التي خطتها إلى الخلف كعامل قوة جديدة تزيدها اندفاعا وتصديا للجلاد. .
بعد أن يعروها من ملابسها ويتكالب عليها ثلاثة وحوش بهيئة بشر لكي يسلبوها ما تملك، تستحضر الواقع العربي ـ رغم بؤسه وهزائمه ـ لكي يعطها دفعة الى الأمام، "الهزائم العربية كانت حاضرة بقوة، رأيتها تتكثف في ذلك الوضع وتلك اللحظات.
"اللا"، صرخت رفض كانت، رفض للهزيمة ورفض لكل ما تمثله ذلك الوضع وتلك اللحظات.
أكرر "لا"، "لا" وأصرخ بها" ص125، من اقسى مشاهد التعذيب في الرواية، ولا يمكن للإنسان أن يتحمل مثل هذا المشهد، ومع هذا كان الصمود حاضرا، رافضة التعذيب، وفي ذات الوقت الهزيمة، سحق إرادة الإنسان، الكاتبة في هذا المشهد تؤكد مقولة "يمكن للعدو أن ينتصر على الجسد، لكن لن يستطيع أن تنتصر على ألإرادة" وفعلا كانت إرادتها اقوى من كل أشكال وطرق التعذيب.
بعد أن تفقد وعيها وشيئا مما في جسدها، لم يعد جسدها قادرا على التحمل، فقد خذلها، لكن روحها، إرادتها ما زالت حية وتريد أن تنتصر على عدوها الذي يريد إذلالها، فتصف لنا وضعها بعد تلك المشاهد المرعبة بهذا الشكل، "روحي تسبح في عالم من الصفاء، والحرية والنور لا تعرف الحاجة ولا الخوف، ترف في سماء صافية كطائرة ورقية في يوم صيفي، ترى ما على الأرض بوضوح وتحافظ على مسافة بينها وبينه، حرة لا تخضع لقيود الجسد أو البشر، تغسل بالنور! بلا حقد أو انتقام، لا هزيمة أو انتصار، لا أهل أو اصدقاء، لا أمة أو أعداء" ص131، رغم ضعف الجسد وعدم قدرته على مواصلة المسيرة مع الإرادة/الروح، إلا أن الانتصار كان موجودا وحاضرا، فقد ترسخ لدى عدوها بأنها لن تقدم أي شيء بعد الآن، فبعد أن أنتصر على الجسد، وعلم بأن ألروح/الإرادة لا تتعلق به، فهو شيء والإرادة شيء آخر، لم يكن هناك ما يستطيع أن يفعله أكثر، فقد حسمت المعركة بين الضحية والجلااد، الانتصار على الجسد فقط، أما الإراد فهي لا تهزم أبدا.


الصراع الداخلي
ما يميز هذه الرواية أن بطلتها إنسانة، تشعر وتفكير وتعمل، مرة تخطئ وأخرى تصيب، لكنها تتعلم من أخطائها، فهي ليست عالمة بكل شيء، من خلال هذه الاخطاء وتصويبها لاحقا، تؤكد الكاتبة على طبيعة النفس البشرية، التي تتغير باستمرار وتعمل على تجاوز مراحل/أفعال غير ناجحة في مسيرتها. وهنا تكمن أهمية الإنسان، فهو ليس إله، وليس شيطان، ليس دائما يفعل الخير أو الشر، يصيب ويخطئ، لكن أهم ما في الإنسان هو تأنيب الضمير، العقل الذي يجعله يتراجع عن الخطأ ويتقدم من جديد نحو الصحيح والصواب.
أعتقد هذا من أهم الأفكار الإنسانية التي تقدمها لنا الكاتبة، فبعد أن اعترفت بوضع القنبلة، وذهبت مع جنود الاحتلال لتحديد موقع القنبلة، كان لها هذه المشاعر، "آه ما أجمل الحياة في الخارج، لماذا اعترفت على نفسي لأحرم من ألحياة سأتراجع عن الاعتراف، ألم أعترف تحت الضرب والتعذيب" ص88، مسألة رائعة أن نجد هذا التفكير البسيط عن الكاتبة، فنجدها كطفلة بريئة، تريد أن تتجاوز خطأها لكي تحصل على هديتها من الحياة.
وبعد ان تصل إلى قريتها "دير جرير" لتكشف للاحتلال عن مكان الاسلحة، نجدها بهذه ألمشاعر "آآآه، ما أصعب ألموقف أي خجل سيجللني وأنا أشير إلى مكان الاسلحة، كيف سأجرؤ على النظر في عيون أمي وأهل الحارة وأبناء ألبلد، كم سأبدو متناقضة بين قيمي وسلوكي؟ كيف سيكون وقعه على طالباتي؟ كيف لي أن أسلم أسلحة نقلها الشباب على ظهورهم من شرقي الأردن؟ أي سكين بلعته؟ أي غباء أتكشفه عندي ولا شفيع لي شهادات ولا علامات ولا حل مسائل رياضية معقدة؟ ...ومازالت أؤنب نفسي وأخجل مما وصلت إليه حتى تمنيت أن تبتلعني الأرض او أتبخر عن سطحها" ص95، ليس من السهل الوصل لمثل هذه المشاعر الإنسانية، فهي كنز ثمين لا يمتلكه إلا الخاصة فقط، وكأن هذه المشاعر تعد كفارة عن الذنب، فهي وحدها كافية لنتعرف على حجم الألم الذي تمر به الكاتبة، وهذا يجعلنا نقف إلى جانبها، وأن نتجاوز عن ذنبها، وكأن هذه المشاعر لوحدها تعد تعذيب/قصاص لها على ما إقترفته من خطأ، فلا مجال لجلدها أكثر من هذا الجلد للذات.
وكأن الكاتبة من خلال هذه المشاعر تريدنا أن نتأكد بحقيقة/طبيعة الإنسان الكائن داخلها، وتريدنا أن لا نرسم لها صورة البطلة الخارقة (السوبر) كما هو الحال في أفلام الأكشن في هوليود، فتؤكد لنا على هذه المشاعر الإنسانية مرة أخرى من خلال: "بقيت بين توبيخ وتبرير لنفسي حتى وصلنا البلد. شعرت بخجل كأني أقف عارية أمام الجميع" ص96، بعد هذا المشهد لا مجال لنا ان نعتب عليها أو نطالبها بأي شيء، فقد اكتملت لدلنا القناعة بصدق توبتها، وأيضا اكتفينا بمحاسبتها لذاتها، وما مرت به من جلدها لذاتها.
الأم
العديد من الكتاب يميلون الى الأم أكثر من الأب، فهي الأقرب إليهم وهي من يعطيهم كل ما يحتاجونه من حنان وحب، من هنا ركزت الكاتبة على شخصية الأم وكانت حاضر في كافة المواقف التي مرت بها، وكأنها الروح/القوة الوحيدة التي تحميها، فنجدها بهذا المشهد الرائع، تقف أمام الجلاد لتمنعه من أخذ ابنتها، "قفزت أمي أمامهم كلبؤة معترضة: "وين بدكم تاخذوا بنتي؟ لا، فش تاخذوها. أو خذوني معها" ص33، ليس هناك قول يقال في هذا المشهد، فهو يبين لنا عظمة هذه الأم.
عدم التسليم للواقع والاستمرار في المطالبة بوقف/أخذ البنت وصفت لنا الكاتب حالة الأم قائلة عنها: "بقيت تندفع نحوي كسهم شد قوسه في لحظة انطلاق وهي تردد: "بخليهاش تروح لوحدها، بروح معها. كانت اشبه بلبؤة تحاول أن تخلص أطفالها من فم عدو، كانت تصارع الجنود الذين حالوا دون اقترابها، كانت مفجوعة ومزلزلة، كانت فجيعتها تستنزف قواي النفسية ولا استطيع مساعدتها" ص34، إذن الأم تكون شيء غير عادي عند تعرض ابنها للخطر، أو شعورها بأن شيئا ما سيحدث له، فيتكون لديها قوة استثنائية وطاقة هائلة تجعلها تندفع باتجاه الخطر المحدق بأبنائها.
ما يميز هذا المشهد طريقة رسمه والتشبيهات المجازية فيه، فالصورة حقيقة، وما قامت به الأم يمثل طبيعتها التي تحافظ على أبنائها رغم هول الموقف، وأيضا يصور ما تحمله من مشاعر، كل هذا أوصلته لنا الكاتبة بكل دقة.
بعد أن يتم اعتقال الكاتبة تأخذ في التفكر بحال أمها، وكيف كان أخر حوار بينهما، "قدرة أمي على الاشتشفاف تحيرني، أحيانا أعتقد أنها تقرأ الغيب!
أذكر .. ـ دير بالك يمه من الأحزاب. في بنات بورطوك.. ابعدي عن السياسة. السياسة خراب بيت" ص38، حرص الأم على الأبناء تجعلها تقول هذا الكلام، فهي كرست حياتها لأبناءها فقط، وكأنها تريد أن تعزل نفسها وأبناءها عن المحيط، مهما كان هذا المحيط بائس، المهم لديها أن يبقوا سالمين.
لكننا سنجدها في موقف لاحق تقف بكل صلابة أمام هؤلاء الجنود وكأنمها هي من علم/دفع ابنتها لفعل المقاومة. أثناء التحقيق وقسوة التعذيب تستحضر البطلة صورة أمها في الصباح: "أشحت بنظري عن الجندي وغرقت في تصور شاي أمي بكأس الصباحي وخبزها الساخن الخارج لتوه من الطابون، والزيت والزعتر" ص96، فحضور الأم هنا كان مصدر من مصادر القوة وعامل يعزز الصمود، وفي ذات الوقت يرح النفس من قسوة الوضع الذي تمر به الكاتبة.
وعندما جاء الحاكم العسكري لتنفيذ نسف البيت، وقال للأم "بنتك عايزة تكون فدائية، فردت أمي (بشرفني وبرفع راسي)" ص107، وهنا تنسف الأم كل الضعف الذي أظهرته عندما جاء الجنود لاعتقال عائشة، وتظهر أمامهم بمظهر الأم الداعمة والمساندة لابنتها.

الاسرائيلي
لا تكتفي الكاتبة برسم حقيقة هذا الإسرائيلي، بل توضح لنا طريقة تفكيره، المنطق الذي يفكر فيه، فهو بكل ما يقوم به يعمل على إلغاء الفلسطيني، شطب كل ما هو غير يهودي، أو تحويل/نسب كل شيء جيد لليهود، وتبرئتهم من كل ما اقترفوه من جرائم بحق الفلسطينيين. احدى اهم السمات التي تتحكم في تفكير الاسرائيلي مفهومه للقوة، فالقوة المادية هي من تسيطر على تفكيره، وهو لا يلقي بالا لأي شيء سواها، من هنا نجدهم دائما يتغنون بهذه القوة، "إسرائيل التي هزمت كل الدول العربية مش بستة أيام، وإنما بست ساعات، جاي أنت الحقيرة بدك تحاربيها؟ ...لازم تعرفي أنه كل واحد برأسه عقل هو إللي بتعاون وبشتغل معنا، مش بحاربنا" ص76، ما يحمله هذا الكلام يؤكد اعتماد هذا الكيان على القوة المادية وحسب، ويحاول أن يقفز على مسألة الإرادة وقدرة الشعب على الرفض كحد أدنى لمواجهة هذا الاحتلال، ونجد الاسرائيلي بما أنه يتميزة بالقوة فعلى الجميع أن يعملوا عنده كعملاء يقدمون له كل المعلومات التي تتعلق بأي عملية رفض/مقاومة يمكن أن تصدر من أيا كان.
وعندما تحاور الكاتبة الجلاد عن الجرائم الاسرائيلية في "دير ياسين" نجده يتحدث عن موضوع بسيط ليس بذي أهمية، وكأنه حادث سير، او معركة كلامية حدثت بين شخصين، "ـ حادث دير ياسين كان خطأ في تاريخ الصهيونية ويحب أن ينسى... لقد حاكمنا الذين أقدموا على حادث دير ياسين.
ـ لهذا السبب فإن "مناحيم بيجن" مسؤول مذبحة دير ياسين هو وزير في حكومتكم" ص104و105، ـ "مناحيم بيجن" لاحقا أصبح رئيس وزراء اسرائيلي ـ تغير واقع احداث المجزرة، وجعل عملية تظهير عرقي لشعب/لقرية بكاملها مجرد حادث، هذا يمثل كيف يتلاعب الاسرائيلي بالتاريخ وبالأحداث والحقائق، وكيف يحرفها حسب مصلحته.
التصوير الفني
هناك العديد من المشاهد تستحق أن نتوقف عندها، فمن خلال هذه الصور تعمق الكاتبة الفكرة التي تريد تقديمها، وهو ما اطفى على الرواية لمسة أدبية فنية، فرغم أن موضوعها قاسي وصعب تقبله من المتلقي، إلا أن تلك الصور سهلت وصول الفكرة وعمقتها في الذاكرة، وهذا الأمر يحسب للرواية، "تدفق الجنود إلى البيت كما يتدفق ماء السد حين ينهار جداره" ص14، توضيح الشراسة والوحشية التي دخل فيها الجنود إلى البيت.
"بقيت تندفع نحوي كسهم شد قوسه في لحظة انطلاق" ص34، رغم كبير سن الأم، وضعف همتها وقدرتها الجسدية، إلا أنها أمتلكت حيوية وروح شبابية بعد أن وجدت الجنود يقودون ابنتها الى المجهول.
عندما شاهدت احد الرفاق بحالة مزرية بعد أن تعرض للتعذيب، وصفت لنا هذه الحالة قائلة: "هل يعقل أن يحصل كل هذا التغير للإنسان خلال عدد من الأيام وربما عدد من الساعات؟" ص59، كناية عن القسوة والوحشية التي يعامل بها المحتل الفلسطيني، فهو يمارس ما لا يعين رأت، ولا أذنا سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من هنا وجدنا هذا الوصف لحالة المعتقل.
وعندما ذهب خيال الكاتبة بالتفكير عن مجموعة من الفدائيين يقتحمون المعتقل لينقذوها، وتجد الجندي يراقبها بعين الصقر وصفته: "أكان الجندي يراقب أحلامي؟ أم كان يبحث عن أمر خلف جفوني المطبقة؟ أم كان يطارد شبح النوم الذي قد يتسلل إليها؟ ص65، صورة توضح طريقة المراقبة والسيطرة التي يفرضها الجلاد على الضحية، فهو لا يترك أي حركة، أي نظرة دون أن يراقبها ويخضها للفحص والتفتيش.
وبعد أن تعبت من التعذيب وقلة النوم، وأصبح حاجتها إليه كالماء للضمآن، "لكن الجندي كان بالمرصاد يحرس النوم كي لا يقترب من جفوني" ص66.
الحلم الفلسطيني حلم بسيط، لا يحتاج إلى صناعة قنبلة نوويه، وهو حق لكل إنسان على وجه الأرض، وطن بلا حواجز أو وجود لجنود الاحتلال، وشعب حر، يسطيع أن يتنقل فيه دون أي وجود لهؤلاء الغرباء، دون أن يخضع للسؤال والتفتيش، دون أن يجد الحواجز التي تجعل المسافة بين قرية ومدينة كالمسافة بين القارات، فالحلم كان بسيطا جدا، "كثيرا ما كنا نحلم ببلاد حرة، نتحرك فيها وعلى شواطئها بحرية وليس كغرباء، لم يخطف أبصارنا لمعان الذهب أو زركشة ثياب، كنا نشعر أننا نتمدد خارج جلودنا فيغطي وجودنا أرض الوطن كله" ص79، من أروع المشاهد التي تمثل الحلم/الأمل الذي يسعى الفلسطيني لتحقيقه، فهو لا يريد قتل أحد ولا يريد أن يطرد أحد، فقط يرد أن ينعم بوطن له، ويكون حرا فيه.
بعد أن تم تعذيب الكاتبة بالاصوات المرعبة التي تطلق الصرخات وتتألم وتأن، تصف لنا حالتها بهذا الشكل، "شعرت أن أصوات التعذيب تغزني كإبر تنفذ تحت جلدي، ...إنه الحصار والقهر دون مفر، إنه الجحيم بعينه" ص82.
وعندما ذهب الكاتبة مع الجنود لتدلهم على مكان الاسلحة، قدمت نفسها المنهزمة بهذه الصورة، " شعرت بخجل كأني أقف عارية أمام الجميع" ص96.
الحكم
تجربة التعذيب وفي سجون الاحتلال لا بد أن يكون لها مفهومها الخاص، فهي تجربة غير عادية، من هنا سنجد الكاتبة تضع أمامنا مقولات مختزلة ومكثفة تبن لنا رؤيتها للعديد من الأفكار والأحداث التي تمر على الإنسان، "كيف للمرء أن يتعلم دون خوض التجارب؟ " ص97، "البكاء فرج، والغناء نعمة، والنوم رحمة" ص98، "الاعتراف بفعل المقاومة يحررني من الخوف" ص111. لكل من هذه الكلمات مدلولا يمثل حقيقة التجربة التي مرت بها الكاتبة، وهي تدعونا ألى الأخذ بما جاء فيها.
الرواية من منشورات مواطن المؤسسة الفلسطينية للدراسات الديمقراطية، رام الله، طبعة 2004.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دوافع المقاومة في رواية -أحلام بالحرية- عائشة عودة
- النخب العربية
- الطاعون
- التعريف والتنوع في ديوان -طقوس المرة الأولى- باسم الخندقجي
- مجموعة -امرأة بطعم الموت- أماني الجنيدي
- إلى من يتجنى على مفتي فلسطين
- دفاعا عن مفتي فلسطين
- الصراع في مسرحية -بيجماليون- توفيق الحكيم
- بجامليون في رواية -العطر- باتريك زوسكيند
- حل المشلكة اليهودية
- الشاعر منصور الريكان وألم المخاض في قصيدة -الأماني الضائعة-
- الواقع الفلسطيني بعد أوسلو في رواية -آخر القرن- أحمد رفيق عو ...
- التجربة الأولى في ديوان -سجينيوس- جمعة الرفاعي
- إلغاء الأخر في رواية -أمهات في مدافن الأحياء- وليد الهودلي
- هيمنة الثقافة الشخصية في رواية -الشعاع القادم من الجموب- ولي ...
- عبور الزمن والجغرافيا في رواية -بلاد البحر- احمد رفيق عوض
- الهروب من الماضي في رواية -القادم من القيامة- وليد الشرفا
- الابداع النثري في -من طقوس القهوة المرة-
- مسرحية -الهنود- أرثر كوبيت
- تألق الشاعر فراس حج محمد في ديوان -وأنت وحدك أغنية-


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - الفلسطيني والاحتلال في رواية -أحلام بالحرية- عائشة عودة