أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا!















المزيد.....


محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4971 - 2015 / 10 / 31 - 11:55
المحور: الادب والفن
    


محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا!
عبد الحسين شعبان
أديب وأكاديمي عراقي
يا موت ، يا ربّ المخاوف والدياميس الضريرة
اليوم تأتي...
من دعاك؟
ومن أرادك أن تزوره؟
بدر شاكر السياب

I
سيكون هناك أكثر من كلام عن محمود البياتي، في ذكرى رحيله الأولى، فالبياتي قاص وروائي وكاتب وصحافي وناقد، وقبل وبعد كل ذلك إنسان يحبّ الحياة ويعشق ما فيها من خير وجمال، والصداقة عنده معيار قيمي وأخلاقي، لا تعلو عليها علاقة إنسانية أخرى، وحتى العلاقة بين الرجل والمرأة، فالصداقة والإعجاب أساسا ديمومتها واستمرارها. ولهذا كان يعتني بأصدقائه وينشغل بهمومهم وكأنه لا همّ له. كنّا نردّد: قل لي من أصدقاؤك ؟ أقل لك من أنت!
وفي الأسطورة يُروى إن ملكاً جبّاراً وظالماً، كان قد حكم على أحد الأشخاص بالموت رجماً، ليأتي " الناس" يرمونه بالحجارة حتى يفارق الحياة. ولكن الحاكم لا يأمر بالقتل فحسب، بل يريد التلذّذ بطريقة القتل، خصوصاً بإذلال الجميع على القيام بدور المرتكب، وإشراكهم بالتنفيذ. وعندما جاء دور أحد أصدقاء المغدور وكان عليه أن يرميه مثل الآخرين، فحمل وردة وألقاها على صديقه.
عندما وقعت الوردة على الصديق المغدور توفي في الحال، فقد كان وقعها وأذاها أشدّ هولاً وقسوة من الجميع، وذلك لرمزية العلاقة، فلم تقتله الأحجار التي قذفت عليه بقدر ما أصابته الوردة بالصميم وأثّرت فيه. كان محمود البياتي يستعيد تلك الحكاية معي، وقرّر أن يدرجها في إحدى رواياته.
II
لم يكن البياتي يحبّ الظهور، وكان أقرب إلى التواري، أو كان مستمتعاً بعزلته المجيدة، وكانت لديه اختياراتُه الدقيقة من الأصدقاء والكتب والموسيقى والأغاني والمأكولات والمشروبات. ولم يشارك في أماسي أو ندوات أو مؤتمرات أو اجتماعات أو منظمات، إلاّ نادراً، على الرغم من اجتماعيته، لكنه كان انتقائياً أيضاً، وظلّ حريصاً على هذه الانتقائية والتميّز، في حين كان قلمه حاضراً ومشاركاً ومطواعاً، واحتفظ حرفه بشبابه وأناقته ورشاقته، مثلما احتفظ صاحبه بابتسامته العذبة وصوته الشجي ووجهه الطفولي.
لم تتعبهُ السنوات، رغم المعاناة والألم، وكأن حلفاً بينه وبين الزمن قد انعقد، ولا أدري كيف حصل ذلك!؟ فهو لا يضجر من الزمن، مثلما لا يكلّ الزمن منه أيضاً. كانت علاقته مع الزمن علاقة استرخاء وتوافق على السير ببطء، إلاّ أن الزمن غافله وغدر به، وحاول ترويضه، لكن وجهه ظلّ مشرقاً وضحكته صافية، حتى اللحظة الأخيرة. وكان محمود البياتي طوال حياته وفي جميع المواضيع التي يخوضها يمتلك قدرة على الإدهاش والمفاجأة، فإذا بالمرض الذي لا يعرف الرحمة يفاجئه، لدرجة الذهول. المرض لم يمهله لينجز مشاريعه، خصوصاً وكان قد امتلك أدواته ووصل مرحلة النضج واختزن تجربة غنيّة، وقد بقيت حزمة من المشاريع الروائية والكتابية تنتظر من يضع اللمسات الأخيرة عليها، خصوصاً بعد انتقاله إلى لندن.
إلتقينا بعد مجيئه إليها قادماً من غوتنبرغ، في حانة كان يحبّها في نيومولدن (جنوب لندن)، احتسينا كأسين من الجعة، وفكّرنا كيف يمكن أن نعيد رسم مشاريعنا، ونعيد تنظيم بعض فوضانا وعبثَنا، خصوصاً إذا قدّر لنا، أن نقترب من بعضنا أكثر. وكان يقول ليس من المعقول أن آتي إلى لندن وأنت تكون قد غادرتها إلى بيروت، وقبل ذلك حصل أن جئت من بغداد إلى براغ، وأنت غادرتها إلى بغداد، وعندما جئتَ أنت إلى براغ مرّة أخرى وبعد غياب طويل، كنت أتهيأ للرحيل إلى السويد. ولكن هذه المرّة لا بدّ أن تعود إلى لندن. قلت له إن وجودك سيكون حافزاً لي للعودة وهو ما تلحّ عليّ به سوسن وسنا أيضاً.
قلت له عرفنا مدناً كثيرة جمعتنا: براغ، برنو، دمشق، اللاذقية، عمّان، بيروت، غوتنبرغ، لندن، الرباط، كازابلانكا، وكنّا ننوي تنظيم سفرة إلى جزر الكناري، إلى لانزورتي في إسبانيا. قال لي أتتذكر حين كنّا نردّد: المدن مثل النساء، لكل مدينة رائحتها وعطرها وطعمها وخفاياها وفتنتها وسحرها. قلت أكثر المدن سحراً هي التي لا تعرض جمالها. الجمال هو الذي تكتشفه بالتدريج حتى يملأَ أنفاسك، وليس عيونك وإحساسك فحسب. كتبتُ له مرّة من بودابست ثلاثة أشياء أفضلهم العتيق: الخمر والحمّام والصديق، وكنّا نتردّد على "الساونا" باستمرار، فقال لي لا تنسى النساء والكتب والموسيقى ، وعلّقت على ذلك، بدونها لا يمكن أن يتنوّر القلب وينفتح العقل وتتغذى الروح.
كانت رجولته وكبرياؤه مؤثرين لدرجة كبيرة، وكان بمقدوره إيقاع النساء بأسره على نحو عجيب وذلك بتواضعه، وتعامله الحضاري الإنساني الراقي. تمنيتُ أن يسمع هذا الكلام محمود البياتي لأستمتع بقهقهته الضاجّة، وهو يفتل شعره ويداعب شاربيه.
الموت هو الذي يفرّق الأصدقاء والأحبة، إنه يقتطف أعزّ ما نملك، بل يحصد أرواح من نحب، والصداقة التي حرصنا على إدامتها، على الرغم من الضغوط والتحدّيات التي تعرّضت لها، هي مثل الصحة لا تشعر بقيمتها النادرة، إلاّ عندما تفتقدها. ولكن ماذا نفعل فالموت يمشي إلى جوارنا، ويصاحبنا ويلاصق بيوتنا ويدخلها دون استئذان، يفاجئنا مثل ريح عمياء أو عاصفة هوجاء؟ والمحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق حسبما يقول جبران خليل جبران.
عندما وصلني خبر مرض محمود البياتي: كنت أريد أن أوقف الزمن أو أن أعطّله، مردّداً صرخة غوتة على لسان فاوست: قف، أيها الزمن ما أجملك؟ لكن الزمن "الجميل" يمضي سريعا دون أن يلتفت. إنه مثل النهر لا يعود إلى الوراء، أتراه متربصاً بطبيعته، لا يعرف التوقّف؟ أم إنه مخاتل وماكر ولعين؟ الزمن مثل الموت مراوغ ولئيم وخبيث.
يترك محمود البياتي كثيراً من الذكريات عندي، وكثيراً من الأسرار والهموم والأحزان، وكأننا عشنا سويّة طيلة العقود الأربعة التي عرفته فيها، أي منذ أن حلّ في براغ التي كنت أحضّر فيها للدكتوراه في أيار (مايو) العام 1974 . جاءها مرتاباً ووجلاً، وقرّر ألاّ يعود إلى بغداد مهما كلّف الأمر، فقد أعدم صديقه جواد الهماوندي الذي ألقي القبض عليه، كما أعدمت حبيبته ليلى قاسم حسن، وثلاث رفاق أكراد آخرين معهم. لم تبارحه تلك الحادثة ولم تمرّ بخاطره لحظة نسيان قط، فقد ظل يمضغ ألمها ويستعيد تفاصيلَها، كانت سبباً في فراره من بغداد وإلى غير عودة، لكنها لم تدعه يهدأ، وظلّ يستجمع المعلومات عنها ويسأل عن مصير عائلة صديقه الهماوندي، حتى تمكّن من إعادة بعض حقوقها واستحقاقاتها، عبر صداقاته الكردية، وكان يطلعني عليها ويأخذ رأيي فيها.
III
كل لقاء مع محمود البياتي يعقبه ذكرى، يتحفني بها أو يحيّرني أو يدهشني، فهو لا يستسلم إلاّ لبعض عادات خاصة إيجابية أو سلبية، ولم يكن تقليدياً أو نمطياً. كان دائم الإشراق والتفتّح والتجديد، ودائم السؤال ودائم الحيرة.
والهدى أن تهتدي إلى الحيرة،
لأن الأمر حيرة
والحيرة حركة
والحركة حياة
كما يقول ابن عربي
كلّ ما فيه كان صميمياً حتى أخطائه ونواقصه، وكنّا نسخر من حماقاتنا وأخطائنا ونواقصنا، وكل شيء فيه دالاً عليه بوضوح: ضحكتهُ، سخريته، حزنه، نقده، غضبه، خفّة دمه، كسله ، متعتهُ، كبرياؤهُ، عزّة نفسه، قلقه. لا يجرح أحداً ولا يصدم ولا يعنّف، يغفر ويسامح، ولم أجد مثل تلك الخصلة الإنسانية، إلّا لدى عدد محدود جداً من العراقيين، فضلاً عن عفّة لسانه ومروءته، وحتى لو اضطرّ للردّ فسيكون محدوداً ومحدّداً، بالحدث ذاتهِ دون سواه.
كان مسالماً، ودوداً ومرحاً ومزاجه معطراً باستمرار ، يثق بالناس، ويحبّ البسطاء منهم، ولديه أصدقاء من الطبقات الاجتماعية الدنيا، التي كان يحبّ الاستماع إلى حكاياها وقصصها ويحاول توظيفَها واستخدامَها في أقصوصاته وحكاياته وقصصه ورواياته، وكان يستعيد بعض شخصياتها مثلما في قصة " خليلو". كان مؤنساً بقدر ما كان قلقاً، حين يمزح معك ، كأنه يلاحق نجمة في السماء، أو طائرة ورقية، وبكل الحب والألفة، يحاول الإمساك بخيط المودة، وحتى لو شعرت بقلقه، فهو لا يريد أن يشغلك به.
ما الذي كان في باله وهو يتلقّى من الطبيب خبر إصابته بالسرطان، قد يكون قال ما قاله الكاتب الألماني الياس كانيتي الحائز على جائزة نوبل العام 1981، والذي قرّر أن يكتب كتاباً ضد الموت بعد وفاة والدته.
يقول كانيتي والنص يعود للعام 1960: وماذا عساني أفعل إذا قال لي الطبيب: أنت مصاب بالسرطان، ... ربما أجعل صوتي أكثرَ فرحاً، لكن أكثر إقناعاً. وبدلاً من ذهابي للتنزّه، أذهبُ إلى المقهى وأتناقش مع ذاتي. أكفّ عن شراء الكتب. ومساءً، وقبل هبوط الليل، أجلس إلى طاولة عملي وأنكب على الكتابة. أضع على الأقل عشر صفحات خارقة. وأعيش أخيراً، كما كان يجب أن أعيش دوماً، بنشاط، محموم، وحتى ولو لم يتبقّ لي سوى سنة للعيش، سأكتب أكبر رواية في عصرنا، حيث تكون كل كلمة غير مسبوقة، بالإضافة إلى أمور أخرى.
وهذا ما فعله محمود البياتي بالضبط حين أمضى وقته، بين المستشفى وبين استكمال روايته " الهارب" التي صدرت بعد رحيله.
IV

هل كان محمود البياتي سعيداً؟ وما هو مصدر سعادته؟ الإنسان السعيد يحتاج إلى أصدقاء حسب أرسطو، ولن تتحقّق الصداقة الكاملة إلاّ بين أناس فضلاء، لأن هؤلاء يتمنّون الخير بشكل مماثل لبعضهم البعض، وحسب تعبير سبينوزا: وحدهم الأفراد الأحرار يستطيعون الارتباط برباط الصداقة الوثيق.
ولكن أحياناً يتوجّب على الإنسان الشريف أن يكافح الجميع، ويتجرّع كل أنواع السموم التي يقدّمها الأعداء والأصدقاء "الأعدقاء" حسب كازانتاكي، الذي كان محمود البياتي معجباً به جداً، ابتداءً من رواية زوربا، والفيلم الذي شاهدناه في الستينيات وتأثرنا به، إضافة إلى كتبه الأخرى، مثل "الأخوة الأعداء" و"الثعبان" و"الزنبقة".
يقول أفلاطون: الصديق: إنسان هو أنت، إلاّ إنه بالشخص هو غيرك، وصديق كل امرئ عقله. وقد سُئل فيلسوف ذات يوم حسبما يروي أبو حيّان التوحيدي: من أطول الناس سفراً، فأجاب من سافر في طلب الصديق.
كنتُ ولا أزال أؤمنُ مع جبران خليل جبران، بأن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، وإنما يموت بطريقة الأجزاء، كلّما رحل صديق مات جزء، وكلّما غادرنا حبيب مات جزء، وكلّما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميّتة فيحملها ويرحل.
غاب محمود البياتي مثل غيمة فضّية مُسرعاً بعد أن أمطر كثيراً، لم يكن هلعاً ولم يتوارَ هذه المرّة، بل إنه واجه القدر بصدر مفتوح، وإنْ لم يكن ينوي القتال، لكنه أراد الموت الرحيم بدلاً من العذاب، لآخر لحظة ظلّت الابتسامة على شفتيه، كنت أتحاشى وأتجنّب الحديث معه في الأشهر الأخيرة بواسطة التلفون، ولم أكن أحبّذ اللقاء به حتى خلال زيارتي إلى لندن، لكن ابنتي سوسن ، التي كان قد أنقذ حياتها وهي ببطن والدتها الحامل بها، أصرّت عليّ على أن أزوره، لكي أملّي عيوني بمرآه الجميل ولكي لا أندم كما قالت.
استمعت إلى نصيحتها وحملت حالي، بعد أن ذرفت دموعاً في الحمّام، اتصلت بشقيقه محمد كامل عارف، وأبلغني إنه مع الدكتورة منيرة شقيقته، وسيتصل بي بعد خروجه من مراجعة الطبيب، بعد نحو نصف ساعة، تكلّمت معي منيرة، وقالت إن محمود يرحّب بزيارتك، بعد أن كان قد امتنع منذ أشهر عن قبول زيارات الأصدقاء والمعارف، نظراً لوضعه الصحي. عندما ودّعني في باب منزل شقيقته كانت عيناه تلمعان. شعرت أنه عاد كطفلٍ محمّلٍ بالوعود والأحلام والكثير من الأوهام. كما شعرت إن هذا آخر لقاء يجمعنا، فقد حاولت أن أتفحّصه، وأختلس النظر إليه. قبّلته وشممته وحضنته، وبقينا لأكثر من دقيقة نتعانق، ثم صافحته بقوة وأدرت وجهي مسرعاً.
نوبة الحزن التي أصابتني بعد رحيله أقعدتني أياماً بدوامة وكوابيس. قرّرت بعدها أن أتجاوز الأمر، فالقدر الغاشم متربّص بنا، وعلى صدى أنفاسنا حرسا كما يقول الجواهري الكبير. وفي هلوساتي ما بعد الموت الأول، ارتسمت ثمة صور أمامي، كانت تذهب وتأتي وأنا موزّع بين الرغبة في البقاء المبهم وصرير العالم الآخر، الذي كنت أسمعه بقوة في أذني، مرّ شعاع خاطف، ثم اختفى بعد ظلمة عميقة مثل بئر مخيفة، لم أميّز سوى ظلال صورة مشتركة لوالديّ، ثم مرّت بضعة صور أخرى لحبيبات وأحبّة، ولكن الأوضح كان وجه والدتي البلوّري، ووجه محمود البياتي باسماً.
لا يوجد شيء قضّ مضاجع محمود البياتي وكدّر عليه حياته، مثل الحرب على العراق العام 1991 وفرض الحصار فيما بعد، على الرغم من موقفه من النظام السابق وممارساته الشمولية الإرهابية، ولكن احتلال العراق العام 2003، كان أشدّ قسوة عليه ، حيث أدخله في حالة كآبة لبضعة شهور، على الرغم من أنه كان يعرف المقدمات: حروب عبثية وحصار ونظام عقوبات دولي واستبداد داخلي، لكن الوطن هو الوطن، وليس هناك جدالاً أو نقاشاً بشأنه، والوطنية ليست وجهة نظر، إنها انتماء وجداني ورابطة طبيعية.
في براغ منتصف السبعينيات، وأواخر الثمانينيات فيما بعد، جمعتنا أماسي وليالي وذكريات، ولاسيّما مع أبو كاطع وسعد عبد الرزاق زوج شقيقته منيرة، وكفاح شقيقته وعزيز زوجها ومي ابنة عمه، أو مع عصام الزند وعلي كريم ومحمد الأسدي ومهدي السعيد، وفيما بعد مع صادق الصايغ وسعاد الجزائري ومفيد الجزائري وماجد عبد الرضا ورواء الجصاني وعامر عبدالله وحميد برتو ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وأحمد كريم وخالد السلام وآخرين.


V
أتذكّر دعوة محمود البياتي لي ولوالدتي ووالدي وأختي سميرة وأخي حيدر، وكيف تعلّق والديّ به وظلاّ يتذكّرانه، وفي لندن لاحقاً وبعد نحو 30 عاماً وبيروت فيما بعد، إلتقى محمود بالوالدة ، وكان في زيارته قبل الأخيرة لبيروت قد قضينا معه نحو عشرة أيام، كان كلّ يوم يستمع إلى قصص من والدتي وشقيقتي سلمى، قلت لهما إنه سيدوّن كل شيء وستكونان بطلتان لرواية قادمة له. وعندما كنت أتعب وأنام مبكّراً، كان هو ووالدتي وشقيقتي سلمى يستمرون في السهر حتى الثانية عشرة مساء.
كنت أمزح مع محمود البياتي وأقول له: كنّا قد شاهدنا فيلماً في بغداد في مطلع الستينيات، بعنوان "صائد الفراشات " في سينما غرناطة، لكن الفراشات هنّ من يحاولن اصطيادك، بل والحمامات والفخاتي يتحلّقن حولك. أتراك تنثر حبوباً مغناطيسية لاصطيادهن؟ كان يشعر بالانتشاء ويضحك من كل قلبه، لكنه هو كذلك يحاول رمي الكرة في الملعب الآخر أيضاً. وعلى البُعد أحياناً كنّا نتابع كل منّا الآخر، وإنْ كنّا نلتقي بعد فراق سنة أو سنتين، وكأنها يوم أو يومين، فندخل في حديث، كأننا نستكمل ما دار بيننا الليلة الماضية، حيث تزدحم جلستنا بالقصص والحكايا والأخبار والهموم .
في كل مرّة يستقبلني فيها، يبقيني في بيته، ولا أتذكّر مرّة أنني زرت براغ دون أن أقضي أمسية عنده. زوجته ياسمين عمر تسبقه أحياناً لاستقبال الضيوف اليوميين، وولداه، فرح وزيد يودّعاني دائماً بقبلات حارة قبل نومهما، ونحن نستمر، نتسامر ونتبادل الهمّ ونتحدث في قضايا السياسة والأدب والثقافة والنساء والدين، وننتقد ذاتنا مثلما ننتقد الآخرين، ونعود ونعدّد أخطاءنا ونرثي لحالنا أحياناً .
تشعر مع محمود البياتي بالحميمية، خصوصاً وأنت تنفذ معه إلى العمق، بكلام حر وسخرية لاذعة، وكنّا نردّد إن أشقى من السقوط في الحفرة هو الاّ يعرف الإنسان أين هو: أفي داخلها أم في خارجها؟ أهو وقع فعلاً أم إنه على الحافة؟أحقاً يتيه البشر إلى هذا الحد وتتضبب رؤيتهم، أم إنهم يستسلمون لهذا المصير الخائب!؟
كنت أُلاطفه بالقول إن "إنثاك" المفضّلة هي الحقيقة، لأنك ترى الأشياء من خلالها بشفافية مذهلة وحساسية مفرطة، وتلك علاقة مركبة ومتداخلة عند محمود البياتي بين الحقيقة والمرأة وبين الجمال والحب، وبين الإنسان والخير، وكان قادراً على أن يقرأ ما في قلوب النساء حتى إذا قابلهن لأول مرّة.
كان محمود البياتي يسبح في بحيرة ضوء، ويرى الّلآلئ حوله بإشعاع بهيج، ويتأرجح بين الإقامة والسفر، وكأن هناك حبلاً سرّياً يصل بين الحياة والموت إنه النص الأخير والقصيدة التي لم تكتب، لسنّارة الحلم لهذا العاشق المعتّق، الذي ما زالت الذاكرة تأكلنا، كلما استعدنا تفاصيله الصغيرة.
بلغة أقرب إلى المباشرة تقول قصص محمود البياتي، العميق من الأشياء، بالبسيط من الحدث الفني كما تقول يمنى العيد (خالدة سعيد).المكان، سواءً في بغداد أو في المنفى له حصة كبيرة في سردية محمود البياتي، والموضوعات التي اشتغل عليها تشعرك باستمرار، أنك عشتها أو ساهمت ببطولتها، أو أنك تعرفها أو كنت قريباً منها. إن عمله الإبداعي هو محاولة جادة لإعادة اكتشاف الأشياء التي حولنا بطريقة كثيرة البوح وعالية الجمال. ومع إنه لا يمكن التعويض عن خسارة الوطن بمقايضته بالمنفى، لكن المنفى كان وطناً آخر للبياتي، لأنه عاش حرّاً وطليقاً على الرغم من المنغّصات الكثيرة والتحدّيات الكبرى والترهات الصغيرة.
تعرّض محمود البياتي للأذى والتنكيل فقد اضطرّ لمغادرة العراق بعد انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963 ومقتل ابن عمه وصفي طاهر، وعاش عام في بيروت وعامين في براغ وبرلين، ثم عاد إلى العراق العام 1966 وعمل بالصحافة حتى العام 1974، واضطرّ لمغادرة العراق كما ورد ذكره. وفي براغ لم تدّخر البيروقراطية الحزبية وسعاً بالتضييق عليه والإساءة له، وسحبت إقامته بهدف إرغامه على تقديم فروض الطاعة، ولولا تدخّلات مؤثرة من جانب شخصيات عراقية معروفة لدى السلطات التشيكوسلوفاكية وكذلك شخصيات فلسطينية، لكان قد تم رميه على الحدود.
وفي أكثر من معرض ومطالعة يذكر محمود البياتي الشخصيات التي وقفت معه، وخصوصاً نوري عبد الرزاق وعامر عبدالله وتيسير قبعة وآخرين، وقد تركت تلك الضغوط والإساءات، تأثيرات سلبية عليه، وكتب قصة بعنوان " المشبوه" علّق عليها شريف الربيعي في صحيفة الحياة، في حينها مشيراً إن الاتهام بالعمالة والشرف وتصفية الحسابات الشخصية، تجري على ذات الخلفية المفقودة المعبّر عنها بالسلوك السلبي والمشين في ممارسات الحزبيين، ليس ضد غيرهم فقط من معتنقي الأفكار الأخرى، وإنما أيضاً ضد بعضهم البعض، حسبما تقتضيه المصالح الشخصية التي تتقدّم على كل قناعة أخرى. وقد قال محمود البياتي إنه جمع كل ما يتعلق بواقعه تهديده بالطرد من تشيكوسلوفاكيا ومعه زوجته وطفليه، في تلك الظروف القاسية، حيث لم يكن بالإمكان الذهاب إلى العراق لموقفه المعارض للنظام السابق، وليس لديه مستقر يلتجئ إليه حينها. والسبب كما شرح هو تهديده بتقديم معلومات عن رفاقه وأقاربه وأصدقائه بسبب خلافات حزبية.
إن قصص محمود البياتي هي مزيج من السخرية والمرارة والمزاج المنفعل كان يحيكها بمهارة ويضعها في حبكة درامية "بالسهل الممتنع" وبلغة مفهومة ومؤثرة، وعلى الرغم من إنني قرأت كل ما كتبه، لكنني أميّز مجموعته "جغرافية الروح" وقصته "بغداد- طهران- ستوكهولم"، خصوصاً حين يُغلَّب الخطاب الآيديولوجي على الاعتبار الإنساني، لدرجة مثيرة للسخرية، والسخرية حسب ماركس تستوجب اتخاذ موقف جاد منها. لقد حاول البياتي مزاوجة الواقع بالخيال في كل ما كتبه، فيما يخص الزمان والمكان، وسواءً كان الأمر يتعلّق بالوطن أو المرأة أو الصداقة أو الإنسان.
VI
ختاماً كبطاقة تعريف نقول: ولد محمود البياتي في بغداد لعائلة بغدادية عريقة في 17 شباط (فبراير) العام 1944، واضطر إلى الهجرة لنحو أربعة عقود من الزمان، عاش في براغ نحو عقدين من الزمان ، وفي السويد عاش في مدينة غوتنبرغ نحو عقدين من الزمان أيضاً، وتوفي في لندن التي انتقل إليها قبل عام وبضعة أشهر على وفاته (31/10/2014).
عمل في الصحافة العراقية وكتب في القصة، وكانت أول مجموعة له هي اختراق حاجز الصوت التي صدرت في القاهرة، عن دار المستقبل العربي، العام 1984. كما نشر رواية بعنوان " رقص على الماء- أحلام وعرة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر العام 2006.
وله قصص وحكايات، " جغرافية الروح" بيروت، 1994 وارتباك، وهذيان خلف كواليس المسرح، ودراسات ومقالات متنوعة. كان ينشر في صحيفة المنبر باسمه أو باسم مستعار هو سنان علي أو بدون اسم أحياناً.
محمود البياتي أأسميك حلماً، أم ماذا؟ وهكذا يستمر محمود البياتي وكأنه لم يرحل، يظهر فجأة ويحيينا من عليائه، بابتسامته العذبة، ليختفي ثانية.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة
- من سيحسم معارك الأنبار وصلاح الدين : واشنطن أم موسكو؟
- جائزة نوبل والمجتمع المدني
- «الجنائية الدولية».. تغوّل السياسة على القضاء أم ماذا؟
- العراق و شعار الدولة المدنية
- الأب سهيل قاشا : الرافديني المسكون بهاجس الحضارة *
- تقسيم كردستان خطيئة أما الاقتتال فهو جريمة!
- إنعام رعد : يقينيات السياسي وتأمّلات المفكّر
- هوان العراق
- سرديات الحداثة الدينية في فكر السيد فضل الله
- كريم الملاّ- سردية الاختلاف ونبض الائتلاف
- جوهر الأزمة العراقية
- جدلية الثقافة والوعي
- علي كريم: أول الفلسفة سؤال!
- مفارقات السياسي والأكاديمي
- ورطة العبادي
- الحرب الباردة الجديدة
- بصمة حقوق الإنسان
- الفساد والحوكمة والتنمية
- تظاهرات العراق: من أين لك هذا؟


المزيد.....




- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا!