أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عادل زكي - الهروب من الوطن (2)















المزيد.....



الهروب من الوطن (2)


محمد عادل زكي

الحوار المتمدن-العدد: 4970 - 2015 / 10 / 30 - 08:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفصل الثالث
الكل التاريخى
ذكر الحسن بن محمد الوزان فى كتابه"وصف أفريقيا"(32) فى القرن الخامس عشر:"أن أرض السودان يبتدىء بمملكة كاوكة، ويمتد غرباً إلى مملكة ولاته، ويتاخم فى الشمال صحراء ليبيا وينتهى جنوباً إلى المحيط فى مواقع لا نعرف عنها غير ما يرويه التجار الذين يأتون إلى مملكة تنبكتو، وهو كثير". أى أن الوزان يصف الأراضى الممتدة من بحيرة تشاد إلى نهر النيجر حتى نهر السنغال، أى أنه يتكلم، على الأقل، عن البلاد الحالية (بعد التقسيم الاستعمارى) التى تسمى تشاد، والنيجر، ومالى، ونيجيريا، والكاميرون، وبنين، وغانا، وفولتا العليا، وساحل العاجل، وغينيا، والسنغال. وأنا أفهم من ذلك أن أرض السودان، الدولة الحالية، على الأقل فى لحظة تاريخية معينة، لم يكن تحده الأراضى المصرية؛ فلم تنشأ هذه الحدود المصطنعة، ومن باب أولى لم يكتسب الشمال هذه الصفة"السودانية" إلا مع ظهور"القفص الكبير" الذى وضعت بداخله جماعات وديانات وثقافات وأعراف وأخلاق مختلفة، وربما متنافرة، أُطلق عليه اسم السودان الحديث(33)!
وسنعمد هنا إلى تجاوز الحديث، الموسع، عن الكُل الأقدم (إذ لا يعنيّنا مباشرة) ابتداءً مِن حضارة "الكرمة"والتى انتشرت أثارها مِن منطقة دنقلة شمالاً وحتى جزيرة أرجو جنوباً، وحضارة "كوش"التى امتدت مِن 1580و750 ق.م، وحضارة"مروى"(الأصول التاريخية للرق فى السودان) وبعد مروى حقبة لا يُعرف، كما فى كل الكتب التى رجعنا إليها، عن أخبارها إلا معلومات ضئيلة، حيث حَكم البلاد مجموعات سكانية لم يَتمكن علماء الآثار، كما يُقال كذلك، مِن معرفة إنتمائها العرقى، ويسمونها المجموعة الحضارية، ويَمتد عصر هذه المجموعة مِن سقوط"مروى" فى القرن الرابع الميلادى إلى ظهور المسيحية فى السودان فى القرن السادس الميلادى وسيادة مذهب"اليعاقبة" والمذهب "الملكانى"، ثم مواجهة التوسع الإسلامى على يد صلاح الدين الأيوبى، وستكون اتفاقية البقط (التى تم توقيعها فى العام 652م بين عبد الله بن أبى السرح، حاكم مصر فى زمن الخليفة عثمان بن عفان وبين قليدروث، ملك النوبة) مِن قبيل الحكايات التى تروى للبرهنة على الاجتياح الإسلامى العربى للمجتمعات المستقلة، وللتدليل على ترسيخ الإسلام، من خلال خلفائه، لثقافة الاسترقاق(34).
إن تجاوزنا الحديث عن تلك المراحل التاريخية، المهمة بلاشك والجوهرية، إنما يرجع إلى الرغبة فى الولوج مُباشرة فى درس الهيكل(المتعيّن دراسته) وليس(التاريخ) الذى بَرع فيه البعض، أو تستّر به، بدعوى الحديث فى الاقتصاد السياسى، استكمالاً لمسيرة الابتذال، والهزل العِلمى. والأبحاث التافهة.
إن اهتمامنا بالتاريخ، فى حقل عِلم الاقتصاد السياسى، يَتعين أن يقف عند الحدود التى تبلورت عندها الظاهرة المتعين فهمها، وهكذا أفهم معنى"ما هو تاريخى" فى عِلم الاقتصاد السياسى. ولذا يتعين البدء مِن أول عدوانية للرأسمال الأجنبى (أجنبى عن الوطن) على الاقتصاد المعاشى بكامل خصوصيته فى السودان، تلك العدوانية التى تَمثلت فى: السيادة العثمانية المصرية على السودان فى الفترة من العام(1821) وحتى الاحتلال البريطانى لمصر فى العام (1882) وهى الفترة التى كانت فيها مصر تحت السيادة العثمانية، وعملت فيها الدولة العثمانية على توسيع نفوذها بالتوسع جنوباً، بالتعاون مع حاكم مصر محمد على، الباحث عن الذهب والرقيق (الجنود) وهو الأمر(أى تجارة الرقيق) الذى تم تجريمه، شكلياً، مع الاستعمار البريطانى لمصر، وهو الاستعمار الذى من ثم امتد إلى السودان.
1- القرن التاسع عشر(35)
قبل أن ننتقل إلى تكوين الوعى التاريخى، ثمة ملحوظتين يتعين ابرازهما، الأولى: وهى تلك المتعلقة بالمنظور الحدودى للسودان، فقد جرت العادة، دون أدنى مراجعة، حتى باتت من الأمور المستقرة، على الأقل أكاديمياً؛ أن يتم تناول السودان ككل، على أساس الحدود الاستعمارية، التى تم ترسيمها بعد الاجتياح الاستعمارى الإمبريالى للسودان، بدءاَ من الهجمة الاستعمارية التركية/المصرية، وانتهاءً بالهجمة المصرية/البريطانية، ومن ثم سيُصبح صحيحاً لدى البعض، وما هو بصحيح، النظر إلى الأجزاء المختلفة وبصفة خاصة فى الجنوب كأجزاء متمردة وخارجة عن سلطان الدولة، على الرغــم من أنها لم تكن لتخضع لتلك السلطة فى يوم من الأيام قبل تلك الهجمـات الاستعمارية وترسيم الحدود وفقاً لمصالح الرأسمال الغربى فى تحركاته المقسّمة للقارة الأفريقية.
نود القول إن على الحكى التاريخى أن يكون على هدى من فهم مدى الاستقلالية التاريخية لتلك الأجزاء المكوّنة للسودان قبل الاستعمار، ومن ثم فهم مدى الإدماج القسرى لتلك الأجزاء فى كيان واحد غير متجانس على الإطلاق وإنما هو متناحر ومتصارع دوما،ً ومن ثم استغـــلال هذا التناحــــر وذلك الصراع من أجل أن تحفاظ الحكومـــــة المركزية على وجودها من خلال الاستفادة بتلك الصراعات بل ومحاولات تأجيجها. فحينما يمر بنا أن الحكومة أخضعت دارفور مثلاً، يجب الوعى بأنها أخضعتها ابتداءً من عملية توسع إمبريالى، وليس كأحد الأجزاء السودانية الخارجة على الحاكم، أو المتمردة على السلطة، كما يُقال. فنحن لا نفهم معنى كلمة "تمرد" التى كانت تستخدم فى زمن الاستعمار، وبصراحة لم نستطع حمل النفس على فهم الكلمة ذاتها بعد الاستقلال. والآن بصفة خاصة.
أما الملحوظة الثانية: فهى المتعلقة بتكوين الوعى بشأن تاريخ مصرالحديث(36) ابتداءً من الحملة الفرنسية؛ لأن قراءة تاريخ السودان الحديث لا يمكن أن يتم، صحيحاً، دون الوعى بتاريخ مصر، المستعمِرة، والمستعمَرة. ونحن هنا لا نقرأ تاريخ السودان ابتداءً من تاريخ مصر نفياً لتاريخ السودان، وخصوصيته، وبصفة خاصة الجنوب، وإنما محاولة فهم طبيعة الصراع بين قوى الرأسمال على موارد المستعمرات، فى مصر والسودان معاً؛ ويمكننا القول أن المجتمع المصرى، بتركيبته الاجتماعية بكُل خصوصيتها، لم يكن ليتعرف فى فترة تاريخية مبكرة على السوق الرأسمالية الدولية فى توسعها المستمر؛ إلا من خلال الحملة الفرنسية، والتى مثّلت أول تُعارف، عدائى رسمى وصريح، بين المجتمع المصرى والاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، وتحوله إلى أرض معارك ضارية بين قوى العالم الرأسمالى آنذاك، فقد جاء بونابرت إلى مصر فى أول يوليو1798، واستولى على القاهرة بعد انتصاره على جيوش المماليك، ولكن القوى الإمبريالية الأخرى أى بريطانيا، لم تجعل الأيام تمر حتى تمكن الأميرال نلسون من القضاء على الجيش الفرنسى فى معركة إبو قير، واستمر هذا الصراع بين قوى الرأسمال الدولى، من أجل فرض الهيمنة على سوق المواد الخام، والموقع الاستراتيجى، ولم ينته، ظاهرياً، إلا بإعلان انتهاء الحماية البريطانية على مصر فى عام 1922.
وإذ كان من أهداف الحملة الفرنسية تعويض الخسائر الفادحة التى لحقت بها فى حربها الاستعمارية مع إنجلترا، مع ضرورة توفير الغذاء بعد ازدياد السكان وبصفة خاصة فى الجنوب، بتحويل مصر إلى مزرعة هائلة، تمد الصناعات الفرنسية بما يلزمها، بالإضافة إلى جعلها منطلقاً استراتيجياً فى البحر المتوسط، فإنه يتعين اتخاذ عدة إجراءات تخص إجراء المسح الشامل للأراض المصرية ودرسها بمن عليها، وهو الأمر الذى تحقق عملاً من خلال: وصف مصر، كمجموعة من الأبحاث الاستعمارية، وهو الأمر كذلك الذى استلزم عدة أفكار وإجراءات تخص تنظيم الملكية والإدارة ونظم الضرائب؛ بما يحقق السيطرة على الفائض، ويكفل تعبئته (تسربه) نحو الخارج.
ويمكننا التعرف إلى التكوين الاجتماعى المصرى والطبقات المهيمنة حينما نزلت جيوش بونابرت إلى أرض مصر، من خلال التعرف إلى الفئات والأطياف والطبقات التى ظهرت على المسرح الاجتماعى آنذاك، فسنجد أولاً: المماليك الذين كانوا الفئة الحاكمة، ولم يكن موقفهم من الفرنسيين يختلف عن موقفهم من العثمانيين، وهو الوصول إلى نوع من المشاركة مع القوات المعتدية. ونجد ثانياً: البورجوازية الناشئة ممثلة فى العلماء والأعيان من جهة، والأقباط من جهة أخرى، أما العلماء والأعيان فكان من الواضح، باستثناء عمر مكرم، نقيب الأشراف، والسادات، أحد كبار مشايخ الصوفية، والمحروقى، كبير التجار، وأتباعهم، مقدار تفاهمهم مع الفرنسيين وبصفة خاصة الشيخ الشرقاوى. أما الأقباط، وعلى الرغم من أنهم إستبشروا خيراً مع قدوم الحملة ومعها الفكر العلمانى، الذى ربما يعيد صوغ وضعهم الاجتماعى، بعد أن قاسوا فى أوقات كثيرة من المعاملة التمييزية ضدهم من قبل النظام العثمانى؛ إلا أن المكاسب التى حققوها على الصعيد الاجتماعى قد أصبحت مهددة، الأمر الذى أدى إلى إرتباك العلاقة بين الاقباط والفرنسيين فى بعض الأحيان، ونجد فى موقف المعلم يعقوب حنا شبه بلورة لموقف الأقباط المصريين، حينما قام بقيادة أول وفد مصرى يطالب بالاستقلال لدى فرنسا وانجلترا. وثالثاً: نجد أصحاب الطوائف الحرفية، أمثال محمد كريم، وحسن طوبار، ويرى صادق سعد أنهما أقرب إلى الأعيان، وأن مواقفهم من الفرنسيين كانت تمثل سياسة الأعيان وأصحاب الثروة المصريين أكثر من أنها مثلت سياسة الطوائف الحرفية. أما البدو، رابعاً، فنراهم يشتركون فى جميع معارك المقاومة الوطنية المسلحة ضد الفرنسيين. خامساً: الفلاحون: وإذ ما استثنينا كبار الملاك، ودققنا فى حالة الفلاح المصرى فى ظل النظام العثمانى، ربما نفهم أسباب مقاومة الفلاح للمستعمر الفرنسى؛ فلقد ساء وضع الفلاح كثيراً فى ظل النظام العثمانى، ثم أتى الفرنسيين بقسوة لا تقل عن قسوة العثمانيين فى جباية الضرائب المتعددة، والأمرّ من ذلك أن الفرنسيين لم ينزلوا قرية إلا تقريباً خربوها وأعدموا المعترض.
وإذ ما أخذنا الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى مجموعه إبان هجوم الرأسمال الاستعمارى يمكن أن نلحظ أنه فى سياق الزراعة والعمل الزراعى، كان استخلاص ريع الأرض من الفلاحين يعتمد على الحكومة المركزية، وليس على الوجود الإقطاعى. كما يُلَقن للطلاب، وكان استمرار الإنتاج فى هذا النظام يرتكز على التعاون النشط من جانب أغنياء الفلاحين، والذى يتعين عليهم توفير وكفالة حاجات الزراعة، وربما معيشة المزارع نفسه، مع الاستئثار بالفائض.
وكان قطـــاع التجـــارة مقتصراً نسبياً على القاهرة دون باقى الأســـواق فى مصر، كما قام هذا القطاع منذ أيام الأيوبين وحتى مطلع القرن السابع عشر، بوظائف التوزيع والتمويل للطبقة الحاكمــة، والتى تمثلت فى نُخبة المماليك، من جهة، وأثرياء التجــــار من جهة أخرى.
وإذ تنطلق الثورة الصناعية فى غرب أوروبا، تأخذ قيمة الأرض فى الارتفاع، إذ كانت تمد المصانع بمواد العمل، كما زادت المنافسة فى قطاع التجارة خصوصاً بعد وصول التجار الأوربيين، والتجار السوريين المسيحيين، الذين قاموا بدور الوكيل للرأسمالية الفرنسية، وكان عام 1760، عام تولى على بك الكبير مشيخة البلد، أى حكم مصر، علامة فارقة على طريق الصراع من أجل الفائض، كى تبدأ مقدمات تأهيل المجتمع لتلقى أول عدوانية مباشرة للرأسمال الأوروبى على يد الحملة الفرنسية، التى لم تتمكن من الاستمرار العسكرى أكثر من ثلاث سنوات، لكى يتولى محمد على حكم مصر، وتبدأ إذ ذاك سلسلة طويلة، من الاحتكاك والتفاعل مع السوق الرأسمالية الناشئة فى بُعدها العالمى. فإذ يتولى محمد على الحكم فى عام 1805، فإنه يحصر أهدافه فى أمرين محددين بدقة: أولهما: إبادة الطبقة الإقطاعة المهيمنة على الأرض، والتى تمثلت فى المماليك، بصفة خاصة. ثانيهما: تصفية الإقطاع نفسه، وقد نجح محمد على، فى تحقيق كلا الهدفين فى زمن قصير، إذ حقق هدفه الأول فى مذبحة القلعة والثانى من خلال مجموعة من الإجراءات التى تمكنت من ضرب النظام الإقطاعى ذاته.
عرف النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديداً فى الفترة من (1811 حتى 1840) تجربة للدولة فى مصر ابتغت، إقتصادياً، بناء اقتصاد سلعى مُستقل فى إطار السوق الرأسمالية فى صيرورتها نحو العالمية. يتم ذلك عن طريق إعادة تنظيم النشاط الزراعى، على نحو يُمَكِن من تعبئة الفائض الزراعى، الذى يُستخدم مباشرة، أو على نحو غير مباشر، من خلال التجارة الدولية، فى تحقيق نوعاً من البناء الصناعى، بما يعنى الإنتاج إبتداءً من طلب السوق، والسوق الدولية على وجه التحديد.
وكانت الدولة، فى هذا الوقت تُهيّمن على ملكية الأرض، ولم يَعد الأمر يتعلق بمجرد استقطاع الجزية من الإنتاج. فقد كانت السمة الجديدة هى(احتكار الدولة للإنتاج) هذا إضافة إلى احتكارها لتحديد الأثمان داخلياً وخارجياً، بما يحوى بين طياته فك الروابط التى قد يصنعها السوق الرأسمالى العالمى. إن هذا الاحتكار الذى فُرض إبتداءً من 1808 على الحبوب، سوف يمتد فيما بعد ليشمل جميع المنتجات القابلة للتصدير، فى محاولة للسيطرة على شروط تجدد الإنتاج، وخلق نوعاً ما من الاستقلالية المستندة إلى فك الروابط وعزل الأثمان، وقد نجحت التجربة حتى كادت أن تُهدد المصالح الأوروبية (التى هى متناقضة بطبيعة الحال) على صعيد السوق الرأسمالية العالمية، وبصفة خاصة تهديد الرأسمال البريطانى فى شرق البحر المتوسط، الأمر الذى قاد إلى التدخل العسكرى ضد مصر ابتداءً من 1840. وتوقيع معاهدة لندن، بين الدولة العثمانية وكل من روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا، ثم إنضمت فرنسا، لكى يُقضى على تلك المحاولة التى سعت نحو بناء الاقتصاد المصرى المستقل فى إطار السوق العالمى.
وعلى الرغم من أن العدوان الإمبريالى العسكرى على مصر قد حقق أهدافه؛ وقضى على فكرتى الاستقلالية الاقتصادية والتوسع الاستعمارى، فإن محاولة السيطرة على تجديد الإنتاج وخلق تلك الاستقلالية تجاه الاقتصاديات الرأسمالية الكبرى، ونجاح تلك المحاولة إلى حد ما؛ قد ساهمتا بفاعلية فى تهيئة الاقتصاد المصرى وسرعة دمجه فى السوق العالمية وإنما كاقتصاد تابع، بعد أن كان مستعمَر، كى يخضع لسيطرة الرأسمال البريطانى، الذى سَينشَغِل بإجراءات إلغاء الاحتكار الذى فرضته الدولة فى عهد محمد على، الأمر الذى سوف يَستتبع إعادة النظر إلى الأرض، بجعلها سلعة يُمكن طرحها فى مجال التداول بيعاً وشراءً ورهناً وإيجاراً، أى اخضاع الأرض لمنظومة قانونية تنتمى إلى أحكام القانون المدنى الذى فيه يفرض الأقوى شروطه وفقاً لصنمية العقد شريعة المتعاقدين. وذلك بعد أن كانت القوانين العثمانية تحدد معظم الأراضى القابلة للزراعة على أنها مملوكة للدولة وليست ملكية خاصة للفلاحين، أى لم تكن تندرج تحت أحكام الشريعة الخاصة بالملكية، ومن ضمنها أحكام الإرث فى الإسلام.
من هنا يَبدأ الرأسمال الأجنبى فى التغلغل، أساساً فى شكله المالى، فى مجالات البنية الأساسية للخدمات والتجارة، الأمر الذى يُؤدى إلى فقدان المجتمع للسيطرة على شُروط تجديد إنتاجهِ، على الأقل من جهة الأرض التى صارت محلاً للتداول من خلال الرأسمال الأوروبى. ويتعمق تغلغل الرأسمال المالى الدولى فى الاقتصاد المصرى، بعد إتجاه الدولة إليه كمقترضة فى عهدى سعيد وإسماعيل.(37)
يشهد القرن التاسع عشر إذاً فى مجموعه، إتجاهاً عاماً لحركة الاقتصاد المصرى كإقتصاد فى طريقه لأن يكون إقتصاداً رأسمالياً فى إطار عملية لتراكم الرأسمال، بفعل الإنتاج من أجل السوق الدولية، وتوليد القيمة الزائدة، فى إطار من التعامل مع الأرض كسلعة تَخضع لجميع التصرفات القانونية الناقلة للملكية. يبدأ التراكم ذاتياً، بل مستقلاً، ثم يتحول مع العدوانية المباشرة للرأسمال الدولى، البريطانى تحديداً فيما بعد، إلى نوع من التراكم الرأسمالى(38) الذى يهدف إلى تعبئة (تسرب) جُل الفائض الاقتصادى نحو الأجزاء المتبوعة، المستعمِرة، الرأسمالية المتقدمة. بعد أن أصبح الإنتاج ليس من أجل الإشباع المباشر، أو الاكتفاء الذاتى، أو التصدير من أجل التراكم، وإنما من أجل حاجة الاقتصاد المستعمِر. معنى ما سبق أن تطور الاقتصاد المصرى، وتخلفه "التاريخى" الذى تُهمله النظرية الرسمية، ونمو الطبقات الحاكمة كان دائماً فى ركاب الرأسمالية الإمبريالية، التى تمكنت من إنتزاع القيمة الزائدة، والفائض العينى، بطريقتين: الطريقة الأولى: استعمارية/عسكرية، ابتداءً من الحملة الفرنسية، وانتهاءً بالاحتلال البريطانى. أما الطريقة الثانية: فهى، وعقب استقلال المستعمرات، بخلق طبقة حاكمة موالية داخل البلد(39) (وهى غالباً التى تلقت تعليمها فى عواصم البلدان الاستعمارية) تكفل الاستمرار باتجاه إتمام عملية تسرب المواد الأولية نحو الخارج. وفى المقابل توفر لها الرأسمالية الإمبريالية، مع غض بصر متعمَداً عن مظاهر الفساد المستشرى، مع تدعيم مستمر فى سبيل ترسيخ الوجود السياسى، وإكسابه الشرعية (المزيفة عادةً) طالما ضمنت تلك الطبقات الحاكمة، البورجوازية فى الغالب، انسياب المواد الأولية نحو الأجزاء المتقدمة.
ابتداءً من هاتين الملاحظتين يمكن أن نتقدم لبحث الوضع فى السودان مع أول عدوانية للرأسمال على الاقتصاد المعاشى فى السودان بكل خصوصيته الاجتماعية، والتى تمثلت فى أول حملات محمد على، إلى الجنوب وفتح السودان ضمن مشروع توسعى إمبريالى، وإن ذهب البعض(40) إلى إكساب حملات محمد على الشرعية لأنه سعى إلى حماية منابع النيل، إذ هو النهر الذى تتوقف عليه حياة المصريين، بعد أن جاءه الخبر بأن منابع النهر مهددة من بعض الدول الأوروبية التى تسعى من أجل فرض سيطرتها عليها، فبادر إلى إرسال الحملات العسكرية كى يحافظ على حياة المصريين، بالحفاظ على منابع النيل!
وعملاً، فقد تم غزو السودان بثلاثة جيوش على فترات متقاربة (فى الفترة من 1820 وحتى 1823) فهناك حملة إسماعيل باشا، الابن الأصغر لمحمد على، ثم حملة إبراهيم باشا التى بلغت حدود قبائل الدّنكا فى الجنوب، ثم حملة صهر محمد على باشا، أى محمد بك الدفتر دار، وتظل الحملة التى قادها إسماعيل، هى الأهم والأشهر تاريخياً، إذ أنه تمكن فى منتصف عام 1821 من فرض سيطرته العسكرية على أجزاء واسعة من الأرضى السودانية (بربر، وشندى، وسنار) وذلك بمساعدة من الشايقية التى كانت أهم القبائل المكوّنة للجعليين، كما سنرى تفصيلاً فى موضعه، الذين أحكموا سيطرتهم على مجمل المساحات المتأخمة لنهر النيل، من شماله حيث الدناقلة إلى جنوبه حيث البقارة- رعاة البقر. ومن المعروف تاريخياً أن الشايقية قد ارتبطوا برجال الإدارة المصرية منذ عام 1821، وذلك عقب هزيمتهم بصعوبة بالغة على يد حملة إسماعيل باشا، فلم يستسلم الشايقية إلا بعد حرب ضروس. وكان لوقوع صفية ابنة صبير أحد ملوكهم فى أسر إسماعيل، وإكرامها وإرجاعــها إلى أبيها الملك صبير الأثر الواضح فى إنشــاء العلاقة بين الشايقية وبين الإدارة المصرية، فقد كان لتلك الواقعة الدور الرئيسى فى دخول صبير تحت لواء الإدارة المصرية وتبعه فى ذلك باقى الشايقية، والذين أصبحوا منذ ذلك الوقت منضوين تحت لواء الجيش المصرى واشتركوا فى غزو سلطنة الفونج وفتح الجزيرة، كما منحتهم الإدارة المصرية مساحات من الأراضى قرب مصب النيل الأزرق، وكان جنود الشايقية غير النظاميين الذين التحقوا بالجيش يرافقون حملات الاسترقاق التى يقوم بها الفرسان والمشاة، وكان جنود الشايقية ينالون نصيبهم من الأرقاء، إما يبيعونهم أو يرسلونهم إلى منطقة الشايقية، وبوجه عام كثيراً ما يخرج الشايقية بالربح الوافر من الغنائم. وقد ظل الشايقية على ولائهم لنظام محمد على بعد أن ضمن لهم هذا الولاء الهيمنة على الأرض وبسط النفوذ الحربى، حتى بعد أن اشتد إعصار المهدية الجامح، كما سنرى، وسقوط الخرطوم فى يناير 1885.
لم تكن فترة إسماعيل باشا، قائد الحملة، من الفترات الطيبة بالنسبة إلى لسودان وبصفة خاصة بالنسبة إلى الفونج، فقد مارست الإدارة المصرية سياساتها الضريبة على نحو قاس أدى إلى إنهاك الناس وهجرتهم وتركهم لأراضيهم وبيوتهم، الأمر الذى أفضى فى المنتهى إلى ثورة عارمة أودت بحياة إسماعيل باشا نفسه، ولم تكن أحداث تلك الثورة لتمر بتهدئة الثوار الاستماع إليهم وإصلاح النظام الضريبى، وإنما أصدر محمد على قراره بقمع الثورة وأمر بتحرك الجيش (ومن ضمنه الشايقية) بقيادة الدفتر دار، لتدمير تلك الأجزاء التى ثارت وقتلت ابنه إسماعيل، وبمرور الوقت، وبعد قمع الثوار، أدرك محمد على أن السودان لا يمكن حكمه من المركز فى القاهرة، وإنما يجب تعيين حاكم عام، قوى، يتولى أمرها، إذ كانت الفترة من 1821 وحتى 1826 فترة مرتبكة فى حكم السودان، تخللها إنشاء الخرطوم عام 1825.
أ- الحاكم العام
قرر محمد على تولية خورشيد باشا حاكماً عاماً للسودان. وقد إستأنف خورشيد سياسة سلفه عثمان بك الإصلاحية الهادفة إلى ضمان انسياب القيمة الزائدة المنتَجة محلياً إلى القاهرة، فعمل على إعادة الهدوء إلى الأرض وتشجيع مَن هجرها على العودة إليها فقد قام خورشيد باشا بأن وضع لهذا الغرض نظاماً ضريباً يُشجع على الرجوع إلى الأرض، وهو الأمر الذى يعنى من الوجهة الثانية تنشيط حركة الاتجار فى العبيد لأن السادة لا يعملون بالفلاحة والنشاط الزراعى بوجه عام، بل العبيد هم فقط الذين يقومون بتلك الأعمال، فمعنى الرجوع إلى الأرض أن يتم تنشيط تلقائى لتجارة العبيد؛ لأن ركود تلك التجارة إنما يعنى ضعف الإنتاج الزراعى وربما توقفه، وتوقف الإنتاج الذى يتم ضخه إلى الخارج عن طريق الإدارة المركزية فى القاهرة إنما يعنى زعزعة المركز الذى تسعى الإدارة إلى احتلاله فى تقسيم العمل على الصعيد الدولى. ومن ثم فقد قام خورشيد باشا نفسه بقيادة مجموعة من حملات القنص فى أعالى النيل وعلى طول حدود إثيوبيا فى الفترة من1827وحتى1833(41).
تعاقب على منصب الحكم العام بعد خورشيد عدد آخر، ولكن الضعف كان هو السمة السائدة فيهم جميعاً، فأحمد باشا أبو ودان الذى كان بمثابة صورة مهزوزة لمؤسسة الحكم المصرى فى السودان، فلم يكن فى مخيلته إتمام المشروع التوسعى، وكان معظم همّه محاولات يائسة وبائسة فى السيطرة على حركات (التمرد!)
وبعد وفاة أبو ودان فى عام 1843، شهد السودان حالة من الفوضى، تفاقمت عقب وفاة محمد على، الذى خلفه إبن أخيه عباس الأول الذى تردت الأوضاع فى عهده وساءت إلى أقصى الحدود، وأصبح السودان مكان المغضوب عليهم من رجال الإدارة فى القاهرة، ولم يكن فى ذهن عباس على الإطلاق المحافظة على فتوحات جده محمد على، ومن ثم لم يكن لديه أى تصور عن أى شكل من أشكال التوسع.
ب- المديريات الخمس
بعد وفاة عباس الأول فى عام 1854، خلفه فى القاهرة الخديوى سعيد باشا، وقد قرر إصلاح ما أفسده سلفه، وفي ما يتعلّق بالسودان، ذهب إليه فى يناير عام 1857، واطلع على الوضع البائس فيه، فقرر إعادة تنظيمه بأن قرر تقسيمه إلى خمس مديريات: سنار، وكردفان، والتاكه، وبربر، ودنقله. ثم أصدر منشوره الإصلاحى القاضى بنزاهة القضاء، وتخفيف عبء الضريبة، ومحاولة القضاء على السخرة. وفى آواخر حكمه عين موسى باشا حكمداراً عاماً للسودان، فنشطت الفتوحات جنوباً حتى امتدت إلى منابع نهر النيل فى ألبرت وفيكتوريا، بيد أن تلك الفترة كذلك شهدت تطوراً ملحوظاً فى تجارة العبيد وتكون مؤسسات تمتلك السند الشرعى لتلك التجارة وترى أن محاولة التحريم مناقض للشريعة، وأن أية محاولة للتجريم إنما هى تدخل غير مشروع من قبل السلطة فى تجارة مشروعة.
ولا يمكن القول بأن سعيد قد تمكن ولو جزئياً من القضاء على تلك التجارة، بل إنها لبثت حتى مجىء إسماعيل باشا كخديوى لمصر، عام 1863، حين بدأت حرب شعواء ضد المؤسسة التى كوّنها أمراء الرق، والتى صارت طبقة مهيمنة وذات تنظيمات وتركيبات معقدة، استطاعت أن تفرض نفوذها فى شرق بحر الجبل وبحر الغزال وبصفة خاصة غرب بحر الغزال، حيثكون الزبير بن رحمة، كما سنرى حالاً، إمبراطورية لتلك التجارة، للدرجة التى تنازلت معها الإدارة المصرية عن سلطانها فى إقليم بحر الغزال، وإعتبرته حاكماً له، إعترافاً منها رسمياً بمقدار السلطة والهيمنة اللتين بلغتهما واحدة من أهم الشخصيات التى تُلهم سيرتها تتبع التاريخ الموازى للسودان الحديث. إنه الزبير رحمة ولسوف نتحدث عنه فى موضعه، بعد قليل.
ج- عصر إسماعيل باشا
تولى إسماعيل باشا الحُكم فى القاهرة خلفاً لسعيد باشا، ويمكننا القول بأنه من الحكام الذين أثاروا الجدل؛ ففى عصره شهدت مصر نقلة نوعية كبيرة وتطوراً اجتماعياً بارزاً، تمثل فى إتمام حفر قناة السويس، وإجراء إصلاحات شاملة على الصعيد الإدارى والقضائى، كما تغيرت معالم القاهرة والإسكندرية فصارتا أشبه بالمدن والعواصم فى أوروبا وبصفة خاصة فرنسا.
وقد قام إسماعيل باشا بمد وتوسيع شبكة المواصلات والبريد، وإنشاء العديد من معامل السكر، ومصانع النسيج، كما وسع نطاق المطبعة الأميرية، وجدد إرسال البعثات العِلمية، وأنشأ الجمعية الجغرافية المصرية، ودار الكتب المصرية، كما شهد عصره ظهور الصحافة الحرة حيث أصدر يعقوب صنوع، وهو يهودى مصرى، بالاتفاق مع جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده جريدة "أبو نظارة" فى عام 1877لانتقاد أعمال إسماعيل نفسه بعبارات تُكتب باللغة المحكية، كما الأخوان سليم وبشارة تقلا جريدة "الأهرام" فى عام 1876، وأصدر إبراهيم اللقانى"مرآة الشرق" فى أوائل عام 1879، وأنشا ميخائيل عبد السيد جريدة "الوطن" فى أواخر عام 1877، إلى غير ذلك من مظاهر النهضة، ولا نغفل بالطبع تسببه، بالاستدانة، فى وضع الاستعمار البريطانى فى حالة تأهب كى ينقض على البلاد!
أعاد إسماعيل تسليح الجيش مكوّناً جيشاً قوياً لإعادة الروح إلى المشروع التوسعى الاستعمارى الذى بدأه محمد على، فقد استعان بالجيش والأسطول التجارى فى خطة توسع شاملة فى الجنوب، فأرسل فى عام 1868 حكمدار السودان إسماعيل باشا أيوب قائداً لجيش قام باحتلال أعالى النيل ودارفور، وكلّف فى عام 1869 صمويل بيكر بتوسيع الإمبراطورية فى الجنوب والقضاء على تجارة الرقيق، وتولّى المهمة، تحديداً حكم المديرية الاستوائية بعد ذلك إنجليزى آخر هو تشارلز جوردون، الذى تمكّن من إخماد التمرد فى دارفور، وإعادة الهدوء الى الحدود الإثيوبية بعد أن فشل فى غزوها، كما استطاع الى حد ما من تقليص حجم تجارة العبيد فى الجنوب.
ولم تكن إصلاحات إسماعيل وعمله المتواصل على تطوير المجتمع، من دون إهتمام بالدائنين الأوربيين، إنجلترا وفرنسا، إلا خطوة على طريق الإقصاء، إذ أصدر السلطان فى إستنابول قرار عزله فى 1879، ولما علم جوردون أن إسماعيل تم عزله قام على الفور بتقديم استقالته(42)، الأمر الذى بدا أعلاناً لتراجع الدور المصرى فى السودان، وربما إنتهائه؛ إذ نهضت المهدية معلنة عن نفسها كحركة دينية ثورية هدفها إعادة صوغ الوعى الدينى وتصحيح الأوضاع بالتصدى للفساد الفقهى الذى جاء به الغزو العثمانى، ومن ثم التصدى، كذلك، للوجود الأجنبى وبصفة خاصة فى الشمال.
د- محمد المهدى والتعايشى
بعد ستين عاما مِن الحكم التركى للبلاد، قام محمد المهدى لمحاربة الأتراك مدعياً أنه المهدى المنتَظر، ووقعت أولى معاركه مع الجيش التركى بقرية الجزيرة أبا عام 1881 واستطاع بعد معارك عديدة أن يُسيطر على الخرطوم عاصمة البلاد فى يناير 1885 (وقتل جوردون، الحاكم العام) وبعد شهور قليلة من السيطرة على الخرطوم مات المهدى ودُفن بمدينة أم درمان، فتولى الحكم بعده خليفته عبد الله التعايشى، وسط معارضة واسعة مِن أنصار المهدى وأهله الذين رأوا فيه شخصاً غير مناسب طبقياً، لكن التعايشى تمكن بمزيد مِن العنف مِن إحكام قبضته على البلاد، واتسمت فترة حكمِه بالاضطراب والعنف والقلاقل؛ فقد حرص التعايشى على هدم الزعامات القبلية وعمل على تحويل الولاء القبلى إلى ولاء دينى، وذلك بعد أن إعتبر زعماء القبائل عقبة كأداء فى سبيل بسط سلطانه على القبائل المعارضة. ولقد ذكره سلاطين باشا بقوله:"... إتصل بالمهدى وهو فى سن الخامسة والثلاثين... كان يعتقد أن الصدق والأمانة لا وجود لهما مطلقاً عند أى مخلوق وكل ما يظهره الإنسان من ملق ومداهنة إنما لقضاء الحاجات والمآرب دون سواها، وكان بطبعه محباً للملق والمداهنة... ويا شقاء مَن يمس كرامته، وكان مغروراً جداً بقوة جيوشه معتقداً أنه فى وسعه أن يعمل كل شىء ويغزو أى بلاد. وكانت أخلاقه خليطاً من اللين والشدة، وما كان يسير إلا إذا أحدث ألاماً لآخرين كمصادرته أموالهم أو تعذيبهم. وكانت خصاله حتى أيام المهدى نفسه. وكان كل مَن يدخل عنده يقف مكتوف اليدين مسبلاً عينيه إلى الأرض ينتظر أمره بالجلوس...". (43)
لم يكن مَقتل جوردون ليمر دون أن يشتعل الموقف فى بريطانيا العظمى والمطالبة بالانتقام؛ وبالفعل، تم إرسال حملة قوامها 10 ألف جندى مصرى، وبقيادة الضابط الإنجليزى كتشنر. وبمباركة اللورد كرومر المعتمد السامى البريطانى فى القاهرة، تحرك الجيش نحو السودان، ولم يلق أية معارضة تُذكَر، وكانت أولى معاركه الحقيقية مع جيش المهدى هى معركة كرارى (1889)، التى انتصر فيها الجيش المصرى، ولكن بعد أمجاد وأساطير، يحكيها البعض، عن الصمود والشجاعة والتفانى فى الدفاع عن الوطن!
وفى عام1899 تم توقيع اتفاقية الحكم الثنائى بين بريطانيا ومصر، وتم بموجبها إعلان إلغاء سيادة الدولة العثمانية فى السودان.
وفى عام 1924،اغتيل الحاكم العام للسودان السير لى ستاك، فى شارع أبى الفداء فى القاهرة، فبدأت الأزمة بين الحكومة المصرية والبريطانية، بعد أن حملت لندن الحكومة المصرية مسؤولية الاغتيال؛ وترتب على ذلك إخراج الجيش المصرى مِن السودان. وممّا زاد الوضع تعقيداً تضامن عدد مِن الضباط السودانيين مع المصريين. واندلعت فى البلاد ما سُمى ثورة الــ 24 بقيادة على عبد اللطيف وآخرين. إلا أن الثورة أُخمدت وقُتل قادتها الميدانيون، وأُسر على عبد اللطيف، ثم نُفي لاحقاً إلى مصر.
هـ - الحركة المهدية
فى مارس 1881، وعلى أرض جزيرة "أبا" (150 ميلاً جنوب الخرطوم)، "جاءت محمد أحمد بن عبد الله الرؤيا فى المنام لمرات عديدة إختاره فيها النبى (صلى الله عليه وسلم) ليكون المهدى المنتظر". وفى أول الأمر أسرّ بأمر هذه الرؤية لصفيّه عبد الله بن محمد طرشان، ثم لحلقة صغيرة من تلاميذه، قبل أن ينطلق إلى "الأبيض" العاصمة التركية- المصرية لكردفان، وهناك أعلن على الملأ أنه المهدى المنتظر، ودعا الأعيان والناس فى عاطفة جياشة إلى نبذ هذا العالم من أجل عهد جديد سيأتى للتقوى والعدل. وقد اجتذبت دعوته هذه وشخصيته الكاريزمية أنصاراً كثيرين أدوا له يمين البيعة سراً. وبعد عودته إلى أبا، بعث برسائل إلى الزعماء السودانيين فى الشمال يزف إليهم فيها نبأ أنه حقاً المهدى المنتظر، وقد وصف سلاطين باشا المهدى بقوله:" كان يعد الأنصار المطيعين له بلذات النعيم التى لا يمكن عقلاً أن يصفها وينذر المخالفين بعقاب الجحيم... وكان يبعث للأمراء يطلب منهم ألا يبقوا أحد فى خدمتهم سوى أولئك الذين يحتاجون إليهم فى الزراعة، وأما من كانوا فى غنى عنهم فعليهم أن يرسلوهم إليه لينضووا إلى لوائه... وكان الأولاد والنساء والرجال يهرعون إلى الأبيض لكى يروا هذا الولى ويسمعوا ولو كلمة واحدة من وعظه. وكان الجهلة يرون فى وجهه ما يدل على الوحى وانه الرسول الحق من الله... وكان يلبس الجبة والسروالين ويتحزم عليها بحزام من قش ويضع على رأسه طاقية يتعمم عليها ثم يقف خاشعاً أمام أنصاره ويحضهم على حب الله والذهد فى هذه الدنيا. فإذا دخل بيته تغير كل هذا إذا كان يعيش فى ترف ونعيم بحيث تسترقه شهوة الطعام والنساء فينغمس فيهما إنغماس سائر السودانيين"(44).
وبتأمل أحوال المجتمع السودانى خلال تلك الفترة، التى ظهرت فيها الحركة المهدية، فمن الممكن أن ندرك الأسباب التى نفترض أنها الحقيقية وراء إنتشار دعوة المهدى وما إتصل بها من الطرق الصوفية، فقد عُرف المجتمع السودانى بالتدين الشديد منذ العهود السابقة، كما شهد السودان كثيراً من الحروب والصراعات الدامية والتى تركت آثاراً عميقة فى نفوس الناس، وهو الأمر الذى دفعهم للبحث عن الخلاص، لينقذهم من حالات الضعف واليأس، فكان الأمل فى المهدى الذى بشّر أتباعه بثواب الآخرة للمحرومين وسوء العاقبة للباحثين عن متاع الدنيا الزائلة.(45)
ويمكن إرجاع أسباب نجاح المهدى، وفقاً لجرجى زيدان، إلى عدة أسباب أهمها: ان الحكومة قد إستخفت به عند ظهوره، وترددها فى توجيه ضربة قاضية للمهدى وحوارييه، هذا بالإضافة إلى ضعف الحاميات المصرية فى السودان؛ فإن مجموع الجند الذى كان فى أصقاع السودان الواسعة من حلفا إلى خط الإستواء لم يكن يتجاوز 40 ألف رجل موزعة فى 15 مديرية وليس عندها معاقل حصينة، كما أن قيام العرابيين بالثورة فى مصر قد أهاج الخواطر وجرأهم على النهوض، بعد أن صارت الضرائب لا تُطاق، ولم يبقْ سوى الشهيق والزفير كى تُفرض عليهما ضريبة(46)، ويمكن أن نضيف هنا الدعم المادى والمعنوى الذى لقيته الحركة من قبل تجار الرقيق(47)وقبائل البقارة فى الجنوب، والدراويش(48)
فحينما نهضت الحكومة بمحاربة هذه التجارة والتضييق الشديد على المشتغلين بها، وجد التجار الذين يكونون طبقة اجتماعية لا يستهان بها(49) فى الحركة المهدية، الثائرة على الحكومة التى أرادت منع تجارتهم، أداة فعالة فى سبيل مواجهة الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى اكساب تجارتهم شرعية دينية بالدخول تحت راية المهدية التى لا تحُرم الرق.
وعلى حين إستفادت القبائل المجاورة للحدود المصرية أو لميناء سواكن وغالبيتها من قبائل الإبالة، رعاة الإبل، من عائد التجارة الخارجية، التى كانت تقوم بها بين مصر والسودان، وأجور النقل والعمل بالبريد أو الاشتغال بمهمة الدليل للقوافل وغير ذلك من الأعمال التى كانت تدر عائداً مالياً لهذه القبائل، فقد كانت قبائل البقارة التى كانت تشتغل برعى الأبقار سنداً كبيراً للمهدية، بسبب الرق أيضاَ، فتنقل البقارة فى الجنوب خلف الماء والكلأ جعلهم يتوغلون إلى المناطق الجنوبية مما جعلهم يشتركون فى نجارة الرقيق ومن ثم يدخلون فى نزاع مع الحكومة التى كانت تجرم تجارة العبيد وتطارد التجار. ومن ثم ستكون المهدية بالنسبة لهم بمثابة إطار منظم يستطيعون من خلاله إعلان الرفض والعصيان والتمرد على نظام يحاربهم فى تجارتهم التى توارثوها وكونوا من خلالها إمبراطوريات حقيقية.
كان محمد أحمد عبد الله من دنقله وحين جاهر بكونه المهدى المنتَظر؛ كان فى الأربعين من عمره، وقد إشتهر بين الناس بالفقه والورع، وذلك منذ انخراطه فى الطريقة الصوفية السمانيّة التى رأى أنها قد أصبحت دنيوية للغاية، فتركها إلى جزيرة أبا حيث عاش، كما يروى، حياة الزهد والتعبد، فاعتُبر من الاصلاحيين (المجددين) وقد منَحَ نفسه ثلاثة ألقاب إسلامية فهو الإمام، وخليفة رسول الله، والمهدى المنتَظر. وبفضل الانتصارات الحربية الساحقة المتتالية التى أحرزها المهدى وأتباعه على قوات الترك الجهادية المكروهة؛ والمزودين بالبنادق والمدافع؛ ترسخت الدعوى المهدية (الأنصار) وتمكنت من الانتشار وضم العديد من الرجال المتدينين وتجار الرقيق والعرب(البقارة).
وبالنسبة لرجال الدين والفقهاء الذين حازوا نفوذاً كبيراً فى الريف السودانى، فقد كانوا منذ زمن طويل يستهجنون الحالة التى بلغها الإسلام، وخصوا بذلك الإسلام التقليدى الذى جاء به الأتراك وإعتبروه نوعاً من الزندقة. وقد وجد هؤلاء الآن الفرصة مواتية لتنقية الإسلام فى السودان؛ بإعتبار أن المهدى حينما تكلم عن الفساد والحكم الفاسد فقد كان يعنى الفساد الفقهى لا السياسى. ومن هنا يمكن إضافة سبب آخر لنجاح دعوة المهدى؛ فلقد أحضر المصريون وبأعداد متزايدة معلميهم المسلمين وكبار المسئولين الدينيين أيضاً بينما إمتلك الإسلام السودانى شيوخه المحليين ورجال الدين الذين لم يوافقوا أبداً على الوافدين الجدد وأساليبهم المختلفة عنهم(50).
وهناك جماعة ثانية أيدت المهدى وهى الجماعة التى ضمت المنخرطين بشكل أو بآخر فى تجارة الرقيق، كما ذكرنا، وكان معظمهم من الجعليين، أو مثل المهدى نفسه من الدناقلة الذين فقدوا أرباحهم، بعد أن أُعلن رسمياً إلغاء الرق، والآن أصبح من الممكن لهم إخفاء بواعثهم الاقتصادية والسياسية وراء إصلاح إسلامى يتغاضى عن الرق، بل وينظمه، كما تمثلت جماعـة ثالثة فى البدو البقارة بكردفان ودارفور، كما ذكرنا، وقد كانوا أقوى الجماعات التى عُدت من أنصار المهدى.
وإذ تُصبح الحركة المهدية أمراً واقعاً وإذ يُصبح التمرد حالة سائدة؛ تُقرر بريطانيا بعد تردد الموافقة على فكرة أن يقوم الخديو بتعبئة حملة مصرية من عشرة آلاف جندى تحت قيادة ضابط بريطانى فى الجيش الهندى هو الكولونيل وليم هيكس، بيد أن الخلاف قد دب بينه وبين معاونيه من المصريين، وتمكن الأنصار من إبادة الحملة تقريباً عند سواكن جنوب الأبيض. وإذ تمر الأيام وتترسخ الدعوى المهدية كما تبرز أوجه المصلحة والتناقض بين التشكيلات البشرية المنخرطة بداخلها، حتى يظهر جوردون تارة أخرى على الساحة حاكما عاماً، كى يُقتل وتتحول مدينة الخرطوم فى الساعات الأولى من صباح 26 يناير 1885 إلى أنقاض بعد أن أُبيدت الحامية المصرية، وأعلن الأنصار عن أنفسهم بمنتهى القوة.
ولم تمض أيام كثيرة عقب الاستيلاء على الخرطوم حتى مات المهدى؛ فخلفه عبد الله التعايشى، الذى كان عليه أن يواجه صعوبات عديدة، منها احتواء الأعداء الداخليين، ومنها مشكلات الحدود الشرقية مع إثيوبيا. ولم تمض كذلك سنون كثيرة على وفاة المهدى حتى تفسخ الأنصار ودب فى صفوفهم الاختلاف والعداء، الأمر الذى ساعد على إنتهاء الدولة المهدية، ففى الأول من سبتمبر 1898 أقام كتشنر معسكره على الضفة الغربية من النيل أسفل سهل كرارى. وفى فجر اليوم التالى اقتحم حوالى ستين ألفاً من الأنصار الأسلاك الشائكة (فى بسالة نادرة، كما يقول روبرت كولينز) فى مواجهة قصفات مدافع مكسيم الفتاكة، فضلاً عن وابل الطلقات من الزوارق المسلحة.(51)
وحينما بدأ الضعف على الأنصار أصدر كتشنر أوامره بالتحرك، فتقدمت الفرق البريطانية- المصرية من دون توقف، ومع الصباح المتأخر كانت المعركة قد اكتملت، حيث قُتِل من الأنصار ما يزيد على 11 ألف مقاتل، بالإضافة إلى 16 ألفاً آخرين لحقت بهم إصابات خطيرة، فى حين بلغت خسائر الفرق البريطانية والمصرية والسودانية مجتمعة أقل من 50 قتيلاً، وعندما أدرك الخليفة خطورة الموقف توارى عن الأنظار فى غرب السودان الشاسع. وعبر كتشنر وحملته النيل باتجاه القصر المدمر فى الخرطوم لاقامة قداس تذكارى للقائد تشارلز جورج جوردون. وهكذا انتهت الدولة المهدية فى السودان. ولكنها تركت خلفها تاريخاً لا يمحى بسهولة.(52)
يبقى أن نشير إلى أن المهدية فى سبيل إقامة دولتها أباحت سبى المسلمين المتنكرين لدعوتها بعد أن قررت أن إنكار المهدية والكفر سواء، ويُسترق بحد السيف كُل مَن لم يهده الله إلى الإسلام مِن غير المسلمين أو يُنكر الاعتراف بالمهدى المنتظر، مسلماً كان أم غير مسلم. وبهذا إتجهت المهدية بالجهاد وسبى الحرب إتجاهاً غاية فى التطرف المبكر، أضف إلى ذلك الأحكام التى أصدرها المهدى والتى لا تُنبىء إلا عن ثيوقراطية وإمعان فى فرض السطوة المتسربلة سربال الدين، ومن ضمن تلك الأحكام: الحبس والزجر بعد الضرب 80 جلدة لمن سب والده واستهزأ به ولم ينته. و80 جلدة لأى شخص حر يسب شخص آخر، وقد جعلها الإمام المهدى، كما تقول د. هدى مكاوى، فى بادىء الأمر 100 جلدة، ثم نزل بها إلى 80 جلدة بعد أن استقرت المهدية فى السودان. أضف إلى ذلك: الضرب 27 سوطاً لمن تكشف وجهها من النساء الأنصاريات. والضرب 27 سوطاً لمن ترفع صوتها، والضرب 80 سوطاً، وحبس 7 أيام لمن يشرب الدخان والتنباك. إلى آخر الأحكام التى شرعها المهدى.(53)
وعلى الرغم من تمكن المهدية من فرض هيمنتها على الشمال، فإنها لم تنجح فى تحقيق سيطرة تامة على الجنوب، إذ توقفت سيطرتها جنوباً عند مناطق فى بحر الغزال وأعالى النيل. وبوجه عام فإن أكثر ما يتذكره الجنوبيون مِن المهدية هو سعيها لفرض وإطلاق العنان مِن جديد لتجارة الرقيق. تلك النظرة السلبية للمهدية لدى أهل الجنوب سبقها فترة تَوَسم الجنوبيون فيها الخير، وحسبوا أن المهدية جاءت كى تُنقذهم مِن عسف الأتراك! وإنما مع المهدية حلت الزكاة محل الضرائب وحل أمناء بيت المال محل جباة الضرائب وحل الجهادية محل الباشبوزق، بالإضافة إلى تكاليف أخرى جديدة مثل الهجرة والجهاد، ولجأت حكومة المهدية إلى أساليب مركزية أقوى مما كانت عليه أيام الأتراك، وهذا يعنى أن السخط العام عاد مرة أخرى فى صورة أخرى ولكن فى هذه المرة ضد سلطة جديدة قوية، تستطيع القيام، باسم الله، إقامة الحدود، ومصادرة الأموال والاخضاع بالقوة المسلحة(54).
و- الزبير بن رحمة
فى هذه المرحلة التاريخية، تحديداً الفترة من 1856 وحتى 1913، ظهرت، فى تصورى، شخصية من أهم الشخصية السودانية فى القرن التاسع عشر: الزبير بن رحمـــة، وسبب اختيارى العــام 1856يرجع إلى أنه تاريخ أول ظهور للزبير بن رحمة على الساحة السودانية، تحديداً ساحــة الجنوب، وبحر الغزال على وجه الدقة. ففى 14سبتمبر1856 إلتحق الزبير بالعمل عند على بن عمورى، أحد أشهر التجار آنذاك، فى رحلاته التجارية ما بين الخرطوم وبين بحر الغزال، ولم يكن هذا الالتحاق إلا رغبة من الزبير، كما يروى المؤرخون(55) فى مرافقة ابن عمه محمد بن عبد القادر، الذى ألحق من قبل نفسه بخدمة القوافل المتجهة جنوباً.
لم يجل بذهن الزبير أن تلك الرحلة ستمثل له مرحلة جديدة من حياته إذ سيتخطى دور التاجر، إلى تقلد دور الزعيم (الشعبى، والرسمى كذلك) بعد أن مثلت الرحلة الأولى تلك بداية سلسلة طويلة ومتصلة من رحلات الجنوب، تلك الرحلات التى تعكس بوضوح طبيعة الصراعات الجدلية بين القبائل، إذ كانت الصراعات والغزوات والحروب هى مميزات نمط الحياة، وبصفة خاصة فى الجنوب، فقد كانت القوافل دائماً محل نهب من القبائل المختلفة، الأمر الذى يعنى، فى المقابل، تأهب القوافل وضرورة إستعدادها الجيد لدرء أعمال السطو تلك التى قد تمارسها معهم أحد قبائل الجنوب.
وبالفعل، بزغ نجم الزبير بن رحمة كشخصية كاريزمية قادرة على خوض المعارك والانتصار فيها، من خلال قيادة مقتدرة على اتخاذ القرار الصائب الحكيم، فتمكن من أن يجمع حوله العديد من الأتباع والمريدين، حتى بلغ جيشه أعداد تمكنه من أن يحل دور الدولة المصرية فيما بعد فى إخضاع الجنوب، وبصفة خاصة قبائل الفور. وقد كانت نواة هذا الجيش500 فرداً من المحكوم عليهم بالإعدام، وكذلك من العبيد الفارين من أسيادهم.
وحينما اشتدت الحركة المهدية وفرضت هيمنتها كان اسم الزبير(والذى جعلته الحكومة المصرية رهن الاعتقال فى القاهرة) من أهم الاسماء التى طرحت آنذاك للتعامل، بأى طريقة، مع المهدى وحركته، إلا أن السلطة المركزية فى القاهرة خشيت إرساله إلى السودان كيلا يتحالف مع المهدية بدلاً من القضاء عليها.
وعادة ما يُقدم الزبير ولد رحمة، تاريخياً، إما كأشهر نخاس فى القارة الأفريقية آنذاك، أو محارب شجاع يمقت تلك التجارة، ولكل إتجاه براهينه التى لا تعنينا، إذ كُل ما يعنينا أن الجنوب السودانى كان معقل القنص البشرى وتصديره إلى مصر ومختلف الأنحاء فى أوروبا.
وقد كان الرق موجوداً فى السودان قبل دخول محمد على، وكان السودان يصدر الرقيق إلى مصر وبلاد العرب قبل أن تدخل الجيوش المصرية، كما مثلت تلك التجارة اقتصاداً كامل المعالم، وشكلت نظاماً اجتماعياً، كما سنرى، فقد كان العمل فى الحقول ورعاية الماشية من اختصاص العبيد وليس السادة (العرب).
ز- القوات البريطانية فى السودان
حينما أخذت دولة محمد على فى الضعف والتفكك وتحول الوجود المصرى إلى شكل خارجى ليس إلا، فقد كانت الأتاوى الجائرة والضرائب الباهظة سبباً مباشراً لقيام الثورات ضد الحكم المصرى العثمانى فى السودان، ففى عام 1881نَجح المهدى فى ثورته، وطرد الجيش المصرى العثمانى، وأقام حكومة سودانية وطنية، وإستمرت الدولة المهدية مِن1889 حتى 1898 وحققت وحدة نسبية للسودان، بما فى ذلك منطقة الجنوب. وبدخول القوات البريطانية إلى السودان، كما ذكرنا، بأوامر مِن اللورد كرومر المعتَمد البريطانى فى مصر إنهارت الدولة المهدية، بمعاونة الجيش المصرى فى ظل حكومة الخديوى، حيث كان الوجود المصرى إسمياً وشكلياً، والوجود الإنجليزى، كثانى عدوانية مباشرة للرأسمال الأجنبى بعد عدوانية دولة محمد على، كان هو الحاكم الفعلى فهو الذى يَحكم البلاد ويَنهب ثرواتها ومقدراتها. وفى عام 1899 وقعت مصر وبريطانيا، كما ذكرنا، اتفاقية ثنائية بينهما لحكم السودان، وبتلك المثابة أنهى الغزو البريطانى/المصرى للسودان فترة الاستقلال الوطنى القصيرة التى عرفها السودان فى ظل المهدية. بيد أن الإدارة الاستعمارية كانت متساهلة إلى حد ما، كما بذلت جهود ملموسة لتطوير البلاد، وإنما ابتداءً من رغبة الرأسمال البريطانى، وأهم الإسهامات فى هذا الشأن هى العمل على تنمية البنى الأساسية وإدخال نظام حديث للزراعة.
فلقد قام الاحتلال البريطانى للسودان ببناء الخطوط الحديدية والموانىء والسدود، وتتبدى مصلحة الرأسمال الإمبريالى هنا فى أن مد خطوط السكك الحديدية لم يكن إلا ابتداءً من أهمية استخدامها فى الحملات العسكرية من جهة، واستخدامها فى نقل المنتجات الزراعية من جهة أخرى.
وحينما أدرك الاحتلال البريطانى منذ البداية الإمكانات الزراعية الهائلة التى يتمتع بها السودان، بدأوا بزراعات تجريبية للقطن ليستكملوا الإنتاج المصرى من هذا المحصول، فلما أسفرت التجربة الأولى فى زيداب عام 1905 عن نتائج مبشرة، قاموا بتوسيعها حتى شملت سهل الجزيرة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض، وقاموا بوضع خطة إستعمارية طموحة لسهل الجزيرة، ومنحوا "الشركة الزراعية السودانية"، وهى شركة خاصة، امتياز زراعة القطن فى هذه المنطقة. فكانت الحكومة تستأجر الأراضى من ملاكها(56) وتوفر الرأسمال اللازم لحفر القنوات وإنشاء محطات الضخ. أما الشركة فلم تكن تتحمل إلا نفقات قليلة، بالإضافة إلى قيامها بإدارة المشروع ونقل المحصول وتسويقه. وأما المستأجرون فكانوا يقومون بالزراعة، وكان العائد من بيع المحصول يوزع على الشركاء الثلاثة كالآتى:40% للمستأجرين و35% للحكومة و25% للشركة، ثم عدلت أنصبة الحكومة والشركة تعديلاً طفيفاً إلى 38% للأولى و22% للثانية(57).
وكان مشروع الجزيرة يستهدف رى ما يقرب من 200000هكتار تزرع بالقطن والذرة الرفيعة والعلف. ولكن الحرب العالمية الأولى أدت إلى التأخر فى تنفيذ الخطة. وفى عام 1919 تم تعديل الخطة واستكمل بناء سد سنار عام 1925، ولتمويل هذه المشاريع تم استكمال نظام الضرائب باتفاقية بين بريطانيا ومصر، تقوم مصر بمقتضاها بمد السودان بالمساعدة المالية وبالقروض من أجل مشروعات التنمية وتمويل الميزانية. وقد بلغت مساهمة مصر فى ميزانية السودان 2.8مليون جنيه مصرى ما بين 1899و1916، بينما بلغ مجموع قروض مصر للسودان 5.4مليون جنيه فى الفترة ما بين1900و1910، وكانت الضريبة على الأرض تتراوح بين عشرة قروش ومائة قرش للفدان الواحد، وظلت ضريبة العشر جزءًا من نظام الضرائب طيلة فترة الاحتلال البريطانى(58).
ومن المهم أن نذكر أن الحركة المهدية، فى ظل الاستعمار البريطانى للسودان المصحوب بإدارات مصرية، تَمكنت، مرة ثانية، مِن تحريك مشاعر المواطنين وإثارة نقمتهم ضد البريطانيين، وحثهم على الثورة، ومِن أهم تلك الثورات ثورة الـ24 التى قامت عام 1924 وشملت أغلب البلاد، وفى عام 1936 وقِعَت اتفاقية بين مصر وبريطانيا تُكرس اتفاقية عام 1899 التى حكمت بريطانيا مِن خلالها السودان بإدارة مصرية، واستمر الشعب السودانى (فى المركز) فى حراكه الاجتماعى الرافض للاستعمار، والذى تلاقى مع تحول ذهنية الاستعمار نفسه مِن استعمار عسكرى دموى، إلى استعمار منهجى ثقافى، أقوى فى امتصاص الموارد، وأجدى لإطباق التبعية؛ بعد أن نجحت نسبياً، كما سنرى، فى تشكيل طبقة موالية من أبناء السودان نفسه، ففى 19/12/1955، أعلن إسماعيل الأزهرى (1901-1969) زعيم الحزب الاتحادى مِن داخل البرلمان السودانى، إستقلال السودان.
2- الحركات الوطنية فى السودان
ويُمكن القول أن الحركات الوطنية التى نمت كانت تحمل سمات ملفتة للنظر، فلقد إنقسم السوانيون إلى (استقلاليين) يُريدون الاستقلال عن مصر والانضمام إلى دول التاج البريطانى، وإلى (اتحاديين) يريدون وحدة وادى النيل ودولة واحدة تحت التاج المصرى. وبما أن السودان قد شكلته الطائفية على نحو أو آخر، فإنها سارعت، أى تلك الطائفية، كى تُشارك فى الوضع الجديد؛ فقامت طائفة الأنصار برئاسة عبد الرحمن المهدى باحتضان الأحزاب الاستقلاية وعلى رأسها حزب الأمة (رئيسه الحالى: الصادق المهدى) وقامت طائفة الختمية بزعامة على الميرغنى، باحتضان الأحزاب الاتحادية وعلى رأسها حِزب الأشقاء (فيما بعد: الوطنى الاتحادى، ثم الاتحادى الديمقراطى، وكان الأزهرى أول من تولى رئاسته).
ويمكن القول، كذلك، أن مؤتمر الخريجين، الذى تلا قيام نوادى الخريجين كان من أبرز الأحداث الاجتماعية والسياسية التى شهدها السودان فى الأعوام الممتدة ما بين 1936– 1948؛ فقد تزعم هذا المؤتمر، بعد أن كون وعيه الثورى، الحركة الوطنية الجديدة، وبث بذور الوعى الاجتماعى والسياسى، واتخذ مِن قضية نشر التعليم قناعاً باشر من خلاله عملية التوعية السياسية من أجل الاستقلال. وكان للأساتذة الدور البارز فى توجيه الفكر السودانى لا مِن حيث التعليم فحسب بل مِن حيث خلق النشاط الأدبى والذى تمثل فى ظهور الصحافة الأدبية فى السودان والتى مِن خلالها نادت هذه الطبقة الجديدة بتحرير الفكر السودانى(59) مِن قيود العادات المتأخرة والتقليدية الفاسدة وأوهام الخرافات التى ليست من الدين فى شىء ودعت إلى إقامة وحدة وطنية على أساس مِن التفكير الاجتماعى الحديث البعيد عن الولاء للتقليديين الغارقين فى خصوماتهم المحلية الموروثة، وفى سبيل تحقيق هذه الأهداف عمدت إلى أساليب النضال السرية والعلنية، وكانت نوادى الخريجين متعددة النشاطات.
وكان نادى أم درمان رأسها المتوج بحكم وجوده فى العاصمة، وبحكم الصلات الواسعة التى أقامها مع مفكرى البلدان العربية والأجنبية فكان مركزاً لمحاضرات المستشرقين الأجانب، والسياسيين والنقاد العرب، وملتقى رجال الفكر والأدب مِن السودانيين والمصريين ومنبراً للنثر والشعر فى مختلف المناسبات، ومنه ظهر قادة الرأى السودانى فى الصحافة والأدب والسياسة أمثال محمد أحمد محجوب، وعبد الحليم محمد، ومحمد يوسف مصطفى، ومعاوية محمد، وعلى نور، وغيرهم ممن كان لهم طابع واضح فى التفكير السودانى منذ بداية الثلاثينات حتى عهد الاستقلال.
نقول: منذ نوادى الخريجين، ومروراً بـ مؤتمر الخريجين كانت الحركة السياسية السودانية منقسمة إلى ثلاثة أقسام: القسمان الكبيران اتجه كل منهما إلى طائفة مِن الطوائف الكبيرة (الختمية، الأنصار) وكان لكُل منهما اتجاه سياسى إما (الوحدة مع مصر) وبدرجات متفاوتة بين الوحدة والاتحاد، والاتحاد الأسمى، وإما الاستقلال، وبدرجات متفاوتة كذلك (استقلال تحت التاج البريطانى) أو ضمن (التعاون البريطانى) أما القسم الثالث، فكان يرى الاستقلال التام عن مصر، وكذلك عن التاج البريطانى، وبعد أن بدأ النشاط السياسى لمؤتمر الخريجين، ظهرت الانقسامات بصورة كبيرة وتدريجياً بدأت الحركات السياسية والأحزاب تنشأ بعيداً عن المؤتمر حتى أفرغت المؤتمر مِن عضويته ومِن ثم مضمونه، إلى أن إغلق أبوابه نهائياً فى 1953.
وفى 4 نوفمبر 1945 أُعلن عن قيام حزب استقلالى آخر وهو الحزب الجمهورى، وبميلاد هذا الحزب نشأت علاقة جديدة بين الأحزاب والمستعمِر؛ لأن الحزب قرر الاتجاه اتجاهاً لا يعرف الدبلوماسية ولا يعرف إلا أن تحرير الوطن لا يكون سوى بالاتجاه إلى الجهاد، ومن ثم توجه الحزب اتجاهاً "جهاديا"، الأمر الذى استلزم المواجهات الدامية بين الأحزاب الوطنية والاستعمار البريطانى، وظهر محمود محمد طه كمناضل ثورى، وأول معتَقَل سياسى، بعدها بدأ الناس يألفون التوجهات"الجهادية"ضد الاستعمار، وبدأت حملات الاعتقالات التى طالت رجال المؤتمر والأحزاب في ما بعد.
ولخشية إنجلترا مِن انفراد مصر بالسودان، بعد أن وعدت بمنح المستعمرات استقلالها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد لعبت دوراً مهماً فى سبيل ترسيخ مفهوم وأهمية الاستقلال، ونجحت، طبقاً للروايات السائدة، فى استقطاب الرئيس الراحل إسماعيل الأزهرى وفى عام 1952 حدث الانقلاب العسكرى على الملكية فى مصر، إيذاناً بإعادة رسم الخريطة السياسية فى كُل المنطقة.
وفى أول يناير عام 1956 قرر جمال عبد الناصر استقلال السودان. وعلى الفور أَعلن إسماعيل الأزهرى، بيان الاستقلال السياسى الرسمى. بيد أن السودان سقط فى بئر أعمق، إذ تدهورت أوضاعه على يد الحكام المتتابعين، وفى مقدمتهم الرئيس السابق جعفر النميرى (1930- 2009) والرئيس الحالى عمر البشير، ابتداءً مِن قيام الجنرال إبراهيم عبود، بالانقلاب العسكرى ضد الحكومة المدنية المنتَخبة فى مطلع عام 1958، ثم اندلاع ثورة أكتوبر عام 1964، التى أطاحت به، وتشكيل حكومة وطنية برئاسة الصادق المهدى. بعد ذلك بخمس سنوات تم الانقلاب العسكرى الذى قاده جعفر النميرى فيما عُرف بثورة مايو 1969، حيث حَكم السودان منذ عام 1969 حتى عام 1985 بالحديد والنار فى ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية التى طبّقها طوال هذه الفترة، الأمر الذى حدا بالفريق فى الجيش السودانى عبد الرحمن سوار الذهب إلى تدبير انقلاب عسكرى عليه، أنهى حكمه العسكرى العرفى للبلاد.
وبعد فترة وجيزة لا تتعدى العام، تنازل الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، فى واقعة غير مسبوقة على مستوى العالم العربى، مِن محيطه إلى خليجه، عن السلطة لحكومة مدنية ترأسها زعيم الحركة المهدية فى السودان الصادق المهدى، واستمرت فى مهامها كحكومة مدنية إلى حين قيام عمر حسن أحمد البشير، بالانقلاب العسكرى فى عام 1989، وإعلان قيام حكومة إنقاذ وطنى، والتى عَجزت عن إيقاف الحرب الأهلية طوال عقد التسعينات مِن القرن العشرين(60) وفى ظل هذه الحكومة أيضاً (حكومة البشير) اندلعت أسوأ الحروب، إذ اشتعل الصراع، وتفاقمت الأزمة فى إقليم دارفور(المضمومة إلى السودان عام 1917، بعد أن كانت سلطنة مستقلة، وتلك ملحوظة غاية فى الأهمية فى مجرى التحليل) وأدت إلى حدوث انشقاقات جديد ونشوء حركات عسكرية مُسلحة ضد الحكومة السودانية (القاطنة الشمال) مع مطلع عام 2004، والتى كان أخرها الاضطرابات التي عمت بعض المدن السودانية، وبالذات فى الجنوب والعاصمة الخرطوم، بعد مقتل جون قرنق، زعيم الجنوب. وبعد جهد كبير، وتدخل الرأسمال الدولى، تم توقيع اتفاق سلام مع الحركة الانفصالية الجنوبية فى ديسمبر 2004، يَقضى بإعطاء مهلة مُدتها 6 سنوات تبدأ منذ توقيع الاتفاق، يشترك الجنوبيون خلالها فى السلطة، ثم يجرى استفتـاء شعبى فى المناطق الجنوبية فى نهاية مدة السنوات الست المقررة فى الاتفاق، يُقـــرَر خلاله مستقبل الجنوب بالانفصال عن الدولة الأم، أم بإبقائه مع الدولة الاتحادية بحكم ذاتى موسع. ولقد كان الانفصال هو القرار الذى اتخذه الجنوب. وهو ما سنناقشه فى حينه بعد قليل.
الآن وقد انتهينا مِن خطوتنا الفكرية الثانية بتكوين الوعى حول الكُل التاريخى، وصولاً إلى الآنى على الصعيد الاجتماعى والسياسى، ابتداءً مِن عدوانية الاستعمار المصرى وقانون حركته الذى يدور حول السوق والتبادل، الساعى خلف الذهب والعبيد، ومروراً بالعدوانية المباشرة للرأسمال البريطانى (وفرض المحصول الواحد) وانتهاءً بالسقوط فى وهاد الجوع والفقر والمرض، والقمع الفكرى. فيتعيّن أن نسير خطوتنا الفكرية الثالثة ببحث التكوين الاجتماعى ذاته، وإنما ابتداءً مِن تكونه التاريخى وبُعده الجغرافى السابق التعامل معهما، وصولاً كذلك إلى الآنى، وإنما بهدف محدد منذ البداية يتعلق بالبحث فى خط سير القيمة الزائدة التى أنتجها المجتمع السودانى خلال فترة زمنية معينة، فإنتقالنا إلى بحث التكوين الاجتماعى ابتداءً من الوعى بالكل الاقتصادى والكل التاريخى إنما يتعين أن يكون بهدف البحث عن مسار القيمة الزائدة التى أنتجها المجتمع السودانى فى فترة زمنية محددة، وبالتساوق مع الوعى بآلية تجديد التخلف.



#محمد_عادل_زكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهروب من الوطن (1)
- التوزيع عند الكلاسيك وماركس
- النظرية العامة للتوزيع في الاقتصاد السياسي
- الخلاصة في المسألة السودانية
- الموجز في تاريخ الاقتصاد القياسي
- نقد الاقتصاد السياسي: مقدمة الطبعة الخامسة
- ما القيمة؟
- أقدم ديموقراطيه في التاريخ، للباحث محمد عبد الحق
- هيكل الصناعة العسكرية في إسرائيل، للباحث هاني محمد وصفي
- نماذج تجديد الإنتاج عند كارل ماركس، للباحثة سحر حنفي محمود
- الاقتصاد في العالم الشرقي القديم، للباحث محمد عبد الحق
- لماذا اتخذ ماركس من إنجلترا حقلاً للتحليل؟
- الشركات دولية النشاط، للباحث أحمد مجدي الشرقاوي
- مقال: المقريزي، للباحث محمد جابر عامر
- ألفريد مارشال
- جون مينارد كينز
- الخلاصة في الإقطاع شرقاً وغرباً
- منهجية فهم التاريخ الاقتصادي
- التكون التاريخي لتخلف أمريكا اللاتينية
- تاريخ ضائع


المزيد.....




- جريمة غامضة والشرطة تبحث عن الجناة.. العثور على سيارة محترقة ...
- صواريخ إيران تتحدى.. قوة جيش إسرائيل تهتز
- الدنمارك تعلن إغلاق سفارتها في العراق
- وكالة الطاقة الذرية تعرب عن قلقها من احتمال استهداف إسرائيل ...
- معلومات سرية وحساسة.. مواقع إسرائيلية رسمية تتعرض للقرصنة
- الفيضانات في تنزانيا تخلف 58 قتيلا وسط تحذيرات من استمرار هط ...
- بطائرة مسيرة.. الجيش الإسرائيلي يزعم اغتيال قيادي في حزب ال ...
- هجمات جديدة متبادلة بين إسرائيل وحزب الله ومقتل قيادي في الح ...
- مؤتمر باريس .. بصيص أمل في دوامة الأزمة السودانية؟
- إعلام: السعودية والإمارات رفضتا فتح مجالهما الجوي للطيران ال ...


المزيد.....

- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عادل زكي - الهروب من الوطن (2)