أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -4-















المزيد.....

حدث في قطار آخن -4-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4970 - 2015 / 10 / 29 - 23:32
المحور: الادب والفن
    


فتح صندوق البريد، أخرج رسالةً، أسعده العنوان، إنها من صديق، فتحها على عَجَل، وقرأ:

(( منذ سنوات كان لدي صديقٌ مُشتعلٌ، يسمّونه "أحمد"، يكاد يطير لشدة حرارته، يكاد ينطلق لقوة ضربات قلبه، يضع يده على صدره، وأحياناً نضع أيادينا كي نخفف اندفاعه، وفي كل مرة نجلس لنشرب النبيذ الأحمر، يمسك الزجاجة الحمراء بيده القوية، حتى تكاد تنكسر، يسكب منها حتى تطفو كأسه، يحملها باتجاه شفتيه وهي ترتعش، تسقط منها بضع قطرات، تلامس شفتيه القاسيتين، يتقطَّب جبينه الذي يعبر عن أفكار مسجونةٍ، مجنونةٍ، مشتّتةٍ... تريد الإفلات أو قتل صاحبها، أفكارٌ عن الإمكانية غير الممكنة، عن العمل غير العمل، عن الإنسان غير إنساننا، عن الطبيعة غير طبيعتنا، عن الله غير إِلهِنَا، ثم تنسكب الكأس داخل جوفه، وكأن النبيذ يبحث عن هكذا جوف... فإذ بالشفاه تتورد، والعينان تبتسمان، والجبين يهدأ، والأفكار تشفق على صديقي وترحمه من القتل، ويطير صديقي عالياً في السماء، ويطير، ويطير، ويحلق ليلتقي مع نفسه المشتاقة إلى الدنيا... كنت أقلق عليه، و أخشى أن يقع، فالبعض يراهن على حسن طيرانه، لكني أراه الآن يطير بأمان، ويجيد الطيران، وقد أصبحت ألوانه أكثر، كقوس قزح في سماء آمنة...))

أفرحته الكلمات، أدمعت عينيه، شعر برعشةٍ غريبة تسري في جسده وكأنها تغسل آثام رعشات الأمس، حمد الله بسرّه؛ فالرسالة أعادت له توازنه الذي خسره، عاد قوياً.

مضت الأيام التالية بطيئةً، حاول فيها الابتعاد عن سجائر بولمول وطعم الشوكولا وحنينه للمرأة ذات الفستان الأزرق، مضى عليه أسبوعٌ من الزمن، لم يصله منها هاتفٌ أو بريدٌ إلكتروني، جاء يوم الجمعة، مشى كلب بافلوف مرة ثانية باتجاه شركتها. كلّ النوافذ معتمة. لا أثر لأحد في الشركة. قَرع الجرس، ما من مجيب.

عاد أدراجه جارّاً أذيال الخيبة، بحث عن تركيّ يُطعمه، يُقدم له صحن دونر. مضى الأسبوع الثاني والثالث، والشوق يقتله. جاء يوم عيد الصعود، إنه يوم عطلة، إنه عيد الرجال في ألمانيا، في كلّ ناصية من الشارع تلمح عيناه تجمعاً من الرجال، يشربون البيرة ويغنّون... في حديقة كل بيت يلمح رجالاً اجتمعوا للشواء والسّكر والعراك حتى منتصف الليل، كلّما مرّ من أمام حديقةِ منزلٍ عائلي اجتمع به بضعة رجال، تصله رائحة تشبه رائحة سجائر بولمول، سجائرها، خاطب نفسه: "هل وصلت سجائرها إلى كل الرجال في آخن؟"

تابع رحلته إلى غرفته ماشياً على قدميه. فجأة وصلته رسالة إلكترونية إلى جهاز هاتفه، ضحكت عيناه لمّا أبصرتا رسالتها، كتبت له: "كل عام وأنت رجل".

وصله الثانية: "كنت في رحلة عمل، سأفرح إن نلتقي عصر الجمعة القادم، سآخذك إلى بيتي، هناك من يسأل عنك، هناك من يرغب أن يأخذ بنصيحتك".

جاء الشتاء سريعاً وقاسياً هذا العام. انتظر في اليوم التالي رسالةً منها توضّح فيها تفاصيل اللقاء، لم يصله شيء، وضّب حقيبة سفره الصغيرة وقرر المرور بمكتبها ومتابعة سفره إلى مدينة دورتموند القريبة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أصدقائه هناك.

اِلْتَقاها في مكتبها بأجمل حلّتها، سحرته رائحتها، نظر بعينيه إلى علبة سجائرها، رمقته بحنان، أخرجت السيجارة الوحيدة المتبقية في علبتها، أشعلتها وقالت: "لم يتبقَّ شيءٌ من سجائري لهذا اليوم". اقترب منها، حاول أن يشمّ رائحة سحباتها، رمت عليه من جديد نظرةَ رأفة ممزوجة بتسلّطٍ غريب، أعطته نصف السيجارة المتبقية ليدخنها.
تناولها شاكراً، دخّنها ثم سألها: "ماذا قررت لهذا المساء؟"
ردت على سؤاله بسؤال: "وأنت؟ أين تعتزم الذهاب؟ أراك وقد جلبت معك حقيبتك"...
تمتم: "أردتُ أن ألتقيكِ وأتابع طريقي إلى أصدقائي في دورتموند".
أجابته: "تستطيع فعل ذلك لكنّك ستمضي المساء في شقّتي، سنأكل سويةً، هناك من ينتظرك، سنتناول عشاءنا سويةً، ثمّ تتابع سفرتك حيث تريد".

أطفأت النور، أحكمت إغلاق أبواب شركتها وخرجت، مشيا حتى بلغا محطة القطار...

حدّثها مسلياً: "محطات القطارات هي من الأماكن الساحرة للتأمل والكتابة، أماكنٌ للعشق والتّشرّد والانتظار والنشوة، كل شعراء وكتاب العالم عرفوا ولمسوا هذه الحقيقة، وعلى رأسهم ليو تولستوي، ولمحطة قطارات آخن سحرها، أصالتها، غرابتها وظلمتها".

تقاطعه: "لقد قرأتُ منذ أيام أنّه كان باستطاعة الكاتب النمساوي جوزيف روت أنْ يبقى في منزله بكامل الرضى وطيب الخاطر لسنواتٍ عديدة يقرأ ويكتب فيه دون أن يغادره لو لم يوجد هذا الاختراع المسمى محطات القطارات، لكنّ المحطات الأوروبية أبت أن تحرمه متعة مراقبة البشر".

خاطب نفسه: "كم هي هزيلة، حزينة، فقيرة، وَ وَسِخة، قطاراتنا الوطنية! كم ظلم وأهمل كتّابنا المساكين محطات قطاراتنا العجيّة، محطة قطار اللاذقية، محطة قطار حلب، محطة قطار دمشق، محطة قطار دير الزور، ومحطة قطار الحسكة".

حينما تموت الحريات وتُهزم الأحلام، تموت شبكة الخطوط الحديدية حزناً وقهراً، كم هي بهيّة محطات قطارات هذا البلد الضخم!

تذكر قصيدةً لجاره الشاعر، جاره في القرية، حين دُعي ذات يومٍ للمشاركة في مهرجانٍ يُمجّد شبكة الخطوط الحديدية في وطنه بمناسبة ذكرى الحركة التصحيحية، صعد الشاعر إلى منصة الإلقاء: "سأخلع وجهي لأبصق في وجوهكم ووجوه محطاتكم يا سادة الصف الأول!"

وصلا محطة قطار آخن.

اشترت بطاقتها من الآوتومات، حمد الله في سرّه لمجّانية رحلته، فالطالب له حرية التنقل في هذه المقاطعة الكبيرة، وهو طالب الدكتوراه يتمتّع بهذه العطيّة. بطاقة تسجيله الجامعي تكفل له السفر والتجول مجاناً حتى في الضواحي البعيدة للمدينة، ابتسم ممتناً لهذه المكاسب الصغيرة.

صاح فجأةً مثل طفلٍ: يؤسفني أني نسيت، لقد كان مسموحاً أنْ أصطحبكِ معي في السفرة مجاناً، فبطاقتي تكفل هذا اعتباراً من الساعة الثامنة عشر وطيلة الويكيند...
أجابته: "لا عليك، لا داعي للتأسف".

في تلك الساعة عَلِم للمرة الأولى أنّ مجنونته "سابينه" تسكن في مدينة نوس. لم يتطفّل عليها بمزيد من الأسئلة، وصل القطار، أمطرت السماء، غزّا الخطو وصعدا إليه.

غمرته السعادة إذْ يجلس بجانبها يدفّئ جسده من جسدها، تحادثا بأمورٍ شتّى، كلّما قالت شيئاً فاجأته بقدرتها على التكلم باللغة الفصحى وباستخدامها لتعابيرَ لا يقرؤها المرء إلا في الصحيفة أو في الرواية.

أخبرته أنّ لها أخاً متزوجاً من امرأة روسية وأنهما يعيشان في موسكو سويةً. ابنتهما إيفيلين ذات التسعة عشر ربيعاً جاءت إلى ألمانيا، إنها في ضيافتها استحضاراً لترتيبات الدراسة في الجامعة. وأخبرته أيضاً أنّ إيفيلين ترغب برؤيته والحديث معه والتعرف إليه، وأنها تحتاج نصيحته في اختيار فرع الدراسة المناسب.

شعر بأهميته، نسي روائح سجائرها وشوكولاها، بدأ يستعرض أمامها معرفته بالاختصاصات الجامعية ومستقبلها.

وصل القطار إلى محطته الأخيرة في "منشنغلادباخ"، من هناك يتوجب عليهما تغيير القطار.

نظرت في ساعة يدها وقالت: "ينبغي علينا أن ننتظر ثلاثة أرباع الساعة قبل مجيء القطار التالي. دعنا نمشي، دعنا نتجوّل في محلات المحطة، أرغب أن أشتري شيئاً".

أطاعها، ومشى معها، دخلت إلى محلٍّ كبير يبيع السجائر بأنواعها والمشروبات والقصص والمجلّات والكتب والهدايا الصغيرة والشوكولا بكل أنواعها.
دخل خلفها!

قال لنفسه: "لا حاجة لي إلى التسوق".

راقبها، تابعها بعينيه تتسوّق، رآها تشتري جريدة، رآها تشتري ثلاث زجاجات خمرٍ غريبة الألوان، رآها تشتري نوعين محددين من الشوكولا، رآها تقترب من البائع، تحدثه بهمس، ثم تشتري ستة علب دخان بولمول.

دفعت الحساب، أتتْ إليه، مازحته قائلة: "علينا أن نسترخي في نهاية أسبوع العمل، فالحياة قصيرة، بل أقصر من سيقان امرأة صينية".

لم يفهم شيئاً. وكما يقول الألمان: "لم يفهم سوى /بانهوف/"؛ أي لم يفهم سوى محطة قطار.

دارت في ذهنه آلاف الأسئلة، مرت في ذهنه آلاف الصور، حاول أن يبدو أمامها متماسكاً مثل رجل وُلِد في بلدها، وصل القطار الثاني، صعدا إليه، بكت السماء، علت أصوات ارتطام دموعها بزجاج شبابيك القطار، انتابه إحساسٌ غريبٌ بأنّه يسافر للمرة الأخيرة.

جلس جوار جسدها الدافئ وهو يفكر بلوحة العشاء ما قبل الأخير، قبل اعتقاله ومحاكمته وصلبه عارياً، على ضوء الشموع ورائحة السجائر والموسيقى، العشاء المشترك لثلاثة ظلال تعود لثلاثة أجساد جميلة، سيقدم لهم خلاله خلاصة ما تعلمه في الحياة، ستكون جمعة الأسرار العظيمة، جمعة حافلة بغسل الأرجل والوعظ بالحب، ستكون جمعة الترتيل ثم الهروب نحو بستاتين الزيتون وغابات الحور.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -3-
- حدث في قطار آخن -2-
- حدث في قطار آخن
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -52-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -51-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -50-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -49-
- المرسم
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -48-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -47-
- يانصيب الفرح
- قصة فيسبوكية قصيرة 2
- قصة فيسبوكية قصيرة 1
- السرسكية
- حَسْنَاءُ بِسْنَادا
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -46-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -45-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -44-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -43-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -42-


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -4-