أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2















المزيد.....


رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4970 - 2015 / 10 / 29 - 08:35
المحور: الادب والفن
    


على ضفة الوادي، نقف حيارى. فالصوت ليس هو همس الأمس، والنغم ليس هو لحن الأمس، والزمن ليس هو لحظة الأمس. فماذا الذي أصاب الرؤية، وأحبطها، وزلزلها.؟ شيء نتأمله، وقد ثقل علينا همه، وغمه، ولا صلة تصلنا به إلا هذا الوجود الجامع لفرح الأمس، وقرح اليوم. فما الذي ننتظره وراء الخيام التي توقف عندها الحلم في الطبيعة.؟ لم ننتظر شيئا يتسلل منها إلى صبحنا الشاحب. فالناس هنا يخرجون كل يوم إلى بطون الأدوية، يخلعون عذار اللحظة، وينتظرون قدوم المخلص الذي يشاركهم غصة الحياة الآثمة. وفي المساء يعودون إلى خيامهم المبللة بالآمال الخابية، وهم يترجون النسيان بين السواد المخوف سره، ولغزه. هكذا تمر الأيام علينا تباعا، وقد شب على فتنة كبريائها صبياننا، وشاب عليه شبابنا، وتاه من أجله كهولنا، وشيوخنا. ومن شدة الانتظار لهذه الحقيقة المجللة بالصور الكابية، غدونا نتآلف مع المكان، ونتصالح مع الأطيان، وربما في ثورة الأفكار، ونحن جلوس أمام هذا القمقم الذي خلناه سجنا للعفريت القابض براحتيه على أعناقنا، نقول: كل مكان يحتضن أجسادنا، فهو وطننا. ربما قد نتواءم على دقة التصوير، ونتوافق مع تحرير الفكرة، ولكن ما استوطن العمق من شجن، وحزن، سيبقى منتظرا ليوم الجلاء الذي يعود بنا إلى ديار الأهل، والأحبة.
تلك هي حقيقتنا، ونحن نقف على شط الوادي بفكر منهمك بما هو محدود له في الفكر، والنظر. وسواء عندنا في ذلك الهلع لون الأشجار، والأحجار، والزهور، والثمار، والحيوان، والمياه، والنبات. فكل ذلك متساو في الإحساس، والانفعال. فهناك من يقول: دعونا منبهرين بما مازجنا من شعور غامض. فما فقدناه من نسيب الأماكن، لن يعود مشرقا لتهومينا حول المعاني الشاردة. فلم لا نشتغل بالحاضر الذي نطارحه همنا، وغمنا.؟ وهناك من يقول غير هذا. لكنني أستمع بين عروجي على الصدور إلى زفير أنفاس محترقة تقول: يا تجار الحروب، وعشاق الدماء: كفانا قتلا، وتهجيرا. نريد لأطفالنا أن يعيشوا بسلام كباقي شعوب العالم. فلم لا تتوحد العقول والقلوب على المحبة، والأخوة، لكي ننعم بالسلام.؟ صوت الباطن المنحبس بين أغوار ذات ذاقت ألم الفراق، وحزن الوداع، وقفزةُ ذهن ينحت قصيدة العشق للكون الداكن الخفقات، والحالك البسمات. أجل، وهل يثري حاسة الجمال في البواطن إلا الآلام.؟ فالألم ينطق، وصوته جهوري، وصداه يخرق الأكوان، وينفذ إلى أعماق الإنسان الذي يصافح لون حلمه في كل مكان. فما أحيلاه.! لو لم ينفذ إلى شرايين دواخلنا، لما أحسسنا بأن من وراء هذه الأقفاص البشرية أصواتا تنز بالنداء، وتقول: كفانا قتلا، وتهجيرا. فالقتل قد استحر في بطن الأرض، وهو مورد الظامئين إلى دماء البشر. والتهجير هو اللغة القذرة التي ينطق بها الغزاة حين يسكتون صمت الأماكن، لكي تتعود على لغة أخرى، وفكر آخر، ولعب آخر.
هنا لا ننسى أن نداءنا المقرور في أغوارنا، ولو لم يسمعه هذا المتجبر بزنازينه، وزبانيته، فإنه مسموع في الفضاء، ومرفوع إلى السماء. كلا، هذا النداء، يعود بالقضية إلى أصلها الذي فارقته، لا إلى تابعها، لأنه يعلم أن مروض الخيول على السلب، والنهب، ما هو إلا طالب حليب الأبقار للقوة، والمناعة. فالبقرة، ومهما أظهرت تعنتا، وتمردا، وهيجانا، وثورة، فلا بد لها من أن تحشر إلى ضيق، وعناء، لأن وعاة خبر الحليب في الأبدان، يعرفون كيف كانت أوطاننا صولة، وكيف استحالت بقرة. فلا بد من نزع ما فيها من خيرات، ومبرات، لعل ضرعها يصير قفرا يصوح فيه غراب البين، والهجر، والفقد. فواعجبا.! لم يختر الخيرات، وترك لنا المسرات، بل عاملنا بقانون غابته، فلم ير للحمير والبغال إلا جر العربات، والحرث، والسقي، ولم ير للخيول إلا مرابد الترويض، والتهذيب، والتهجين. وهنا لم يكن للخيل عندي أي قيمة بين المرابض، والمرابع.! لأن قابليتها للباسٍ غير لباسها، لن يجعلها رحيمة بعشقنا، وشوقنا. ولولا ما فيها من دعارة، وعهارة، لما كانت محل نظر في عين من يهدم قبة تاريخنا، ويغور غدير حضارتنا، لكي نغترف طوعا أو كرها جرعة سم من تاريخه. بل لو لم تكن راضية بالاستعباد، لما ركبها من يضرب هذه الأجساد بسياطه، لكي يعلمنا كيف نكون عبيدا، خانعين. فأي قيمة للخيل التي تبارت على ميدان سئمنا جولاته، وصولاته.؟ سيكون ما نقش في صورة الأنا المستعلي بالطغيان، هو الرسم الحقيقي لكثير من مقاماتنا، ومراماتنا، لأن طريقة تصنيفه لشخصياتنا، تجعلنا بين خيارين: إما أن نختار ما لبساه من صفات في ذهنه. وإما أن نعاند ذلك، ويكون نصيبنا في التاريخ القتل، أو التهجير. فإن قبلنا زينة صفته، كنا عبيدا بين ضيعاته، وبساتينه، وإن عاندنا، فإننا قد انتزعنا صفته بالإنكار لها في ذواتنا. وحينئذ لن يكون للترويض فينا أي أثر، ولا انفعال. فسواء كانت رجولتنا فحولة في الشجاعة، والشهامة، أو كنا مخصيين، أو مخنثين، أو مؤنثين، فإن ما يفرق بيننا في عقيدة الأرض، والطين، والوطن، هو قبولنا للتدجين، والترويض، أو عدم قبولنا له، ولو نزفت الروح من الأجساد، وفني الجِرم ولم تفن الآهات، والأنات. فالجسد سيوارى التراب، وسيفارق الرضاب، لأن أرواحنا المعرورة سترفرف حول الأماكن المهجورة، ولن يستسيغ من تولاها بالغصب لذتها السابغة، ولو طال عليه الأمد بين قرانا، وزعم أنه نال المدر، والوبر، ولن يستيقظ في يوم على حلمه التي قاتلنا من أجله، وهجرنا لكي ينال سطوة على الأشباح، لا على الأرواح.
إن القتل والتهجير الذي مل محمد أبو الزيت صراخه، ونحيبه، هو الذي جعله يطالب السماء بتلهف، ولوعة، عساها أن تعيد إليه أمنيته في لعب الأطفال بين الجداول الوارفة، وفي رمل الأمهات بين الدروب الملونة برايات العيد الساحرة، وفي دخان الأفرنة المتهللة بين الأمداء الخلابة، وفي صدى الصوامع المخترق للأجواء الصاحية. شيء جميل حصل فيه النداء الهائم بين خمائل الأكنان، والأغصان. وأي نداء أجمل من طلب عودة الطفولة إلى مكامن كوكبها، ومجاري فتيات حلمها.؟ وأي سر في سديم هذا الكون، إذا لم يكن للطفل ملعب يجاري فيه نزوات لعبه، ومغامراته، ومشاكساته.؟ لم يكن الكون عادلا حين لم يمنح هذا الطفل طفولته، ولم يهبه نسيمها، ولا لونها، ولا أنسها. بل كان جائرا حين غدر بها، وتوهم أنه إن خفر عهدها، واغتصب سرها، سيكون في مأمن بين طيب هواء البلاد، وحسن جمالها، ووفرة كمالها. فما أبلهه، أَوَلَا يعلمنا القتل والتهجير إلا لغة الانتقام، والكره.؟ لو أدرك الكون أن المجازر الرهيبة التي تؤذي أرواح الأطفال، لن يكون لها مستقبل جميل في أوهامه الخابية، فإنه سيحمي هذا الملاك الذي ينطق فينا منذ زمنه الأول، وإلى نهاية الحياة بلعنة الظالمين، والجائرين.! لكن العالم أصر على نكران صوت الطفل بين صراخ الدهاة، وأضر به حين اعتبر صداه هينا، ضعيفا، وهو الغد، والمستقبل، وهو الأمل، والرجاء. فأي ضمير لعالم يقتل فيه الأطفال بالجوع، والمرض، والفقر، والحرب.؟ هل سيدعي في غبن طفولته أن نبع إنسانيته ثر في عمقه، فيقيم المحاكم من أجل حق هذا الإنسان.؟ فأين صوت هذا الطفل بين الأصوات المسجونة بين دهاليز الخداع.؟ أو لم يهنه حين خان وجوده.؟ كلا، إن صوت هذا الطفل الذي أسكت في فلسطين، وسوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، لن يخلق في الجون موتا، بل يحيي في جديلة الأمل حياة. فمن سيسكته إذا انتهى زمن الترويض، وفاض، وهاج، وثار.؟ لو درينا أن صوت هذا الطفل الذي رأى أبويه يموتان بين عينيه بلا رحيم، لن يكون صوت السلام فيما تبقى من فصول المؤامرة، لأيقنا أن ما ينظر إليه العالم من شاشة الكون المصنوع من جماجم البشرية، لن تنهيه المناظرات حول الحقوق، ولا الصراعات حول الجغرافية، ولا العبارات المحددة للأوطان، بل سيهل هلال روحها في يوم من الأيام بين قفر الديار المنكوبة، لكي يكون غصة في حلق المتجبرين، والمتغطرسين. لن ننكر أن في عمق الطفل دفق براءة، ولن ننفي أن ما يحوم في كونه، هو ما يرتسم في صفحة ذهنه، وإذا ما شب، ونضج، والتأم جرحه، والتحم صوته، فلا محالة، سيبحث عن خط مستو يقوده إلى روضة الأمان، والاستقرار. ولا عجب إذا كان صوت الطفولة فينا، هو قول محمد أبو الزيت: إننا نريد أن نعيش كبقية شعوب العالم بسلام.! فلو سمع المكر المبلل بالدهاء هذا الصوت المخزون بين النجوى، والشكوى، واستجاب لندائه، لكان ذلك أمنا للعالم. وإلا، فإن ما سيجنيه الظالمون في الغد، سيكون شرا وبيلا، ومستطيرا.
هكذا نطق محمد أبو الزيت باسم صوت الطفولة المعذبة، لكي يقول بين الغدران المترعة بالأسقام، والأورام: فلم لا تتوحد العقول والقلوب على المحبة، والأخوة، لكي ننعم بالسلام.؟ يا له من أمل فينا، وهو يحبو بين الدروب، ويقول: يا أماه، لو حييت، فإنني سأملأ صدرك لثما، وقبلا، وعناقا. كم انتظرها، لعلها تستيقظ من موتها، وكم حامت روحه حول قبرها، وكم زعم أن إشراقة شمس يومه، ستكون يوما عيد له. لكن أنى له أن يستمر في كتابة أحاسيسه، وقد أصم العالم سمعه عن صوته.؟ فيا ليته سمع ما يحاكي إحساسه الصادق، لكي يدرك أنه أخطا في حق الطفل الذي وشح صدره بأساور الذهب، وهو يكبل قدميه بأغلال صدئة. فهل سيعود حضن الأم محلا للأمان.؟ لم يشعر بذلك بين ثدي أمه الأرض، وهو يرفع عينيه إلى السماء، ليقول: لم لا تتوحد العقول والقلوب على المحبة، والأخوة.؟ هل نخسها شيطان بمسخ عشق القتل، والتهجير.؟ أم ماذا حدث.؟ لم يحدث بين صور عينيه إلا ما يراه بجفنه الهادر بالدموع، فلم يطق أن يتقن بأن الكون سيعود إلى عطر أنفاس المحبة، والأخوة، والسلام. فلو أيقن في شدة الألم بوجود البياض بين سواد العنان، لما كان تطلابه له حرى. لو أيقن بأنه سيأتيه شبح جده من وراء الشعاب والفجاج بغصن زيتون، لكان أقدر على امتصاص غصصه، لكي يمشي نحو حريته بلا قيد، ولا حد. فمتى سيكون لهذا الألم الكسيح من نهاية.؟ سيرفع محمد أبو الزيت، ومِن خلفه طوابير من القتلى والمهجرين أصواتهم للسماء، ليسألوها عن شيء كثر اللهاث خلفه في عالم الأرض، فلم يغث، ولم ينجد، فظنوا أنه موجود في العالم الآخر الذي نرسمه مداعبا لطفولتنا، وبراءتنا, بل نقشنا له تمثالا عند مداخل المدن، لكي يشهده كل من ولج علينا دور آلامنا، فيعلم أننا دعاة المحبة، والأخوة، والسلام.
تكلم الصوت الخفي، وأمامه مستقبل ننتظره. وأي شيء أعسر على الذات من لحظة الانتظار.؟ هي الزمن المهيب، والطويل، ولا يعلم عمق سكره إلا من وقف على شط الليل الأليل، وهو يرقب وضاءة الصباح بين الضباب، والغمام، ويأمل أن يأتيه وهو في صحو، ويقظة. فالانتظار هو الألم، فما أقساه.! لكنه فرض الوقت في زمن الخسوف، والكسوف، ولا قيام لنا في صلاة عشقنا إلا به، ومهما جعلناه غما، ونكدا، فإننا لن نسير نحو الظلال بإيمان، ويقين. فنحن وإن غالينا في الانتظار، فإننا لا نرقب حبيبا سيقدم علينا، أو رزقا سيحل بنا، بل ننتظر عشيقا نعشقه، وهو مستنكف عنا في بعض كوامن علته، ولكنه إذا رآنا، وآنس بنا، فإنه سيصير منادما لنا بين فوادح زمن كنا نحصره في عتمة دورنا، وقرانا. هذا المعشوق، هو الأمل في الوحدة التي تصنع معجزة السلم، والسلام، وهو الرجاء الذي نرفعه إلى عالم آخر بعد أن عيي منا الجناب، وضاق بنا الرحاب، ولم نجد من طاقة لتحمل عبئه، وتجشم نوئه، ولم نعثر على طريق يؤدي إليه، ولا رفيق يدل عليه. فلم لا نغني جميعا بالوحدة، لكي نفك غل الجرح عن أقدامنا الأسيرة.؟ كلا، لم يكن رفع شعار الوحدة لرغبة في أن تنحل عنا عقدة غربتنا، وتنكشف عنا أزمة وحشتنا، بل أحسسنا بأن الأصوات في الوادي إذا تلاحقت، وتتالت، كانت الكلمة السواء بين الأوطان، والأوطان. فهل سنتحد في يوم من الأيام، لكي نرفع شعار السلام.؟ كل ذلك يغدو مع طول الهم مستحيلا، لكنه حادث، وحاصل، لأنه لم يكتب علينا في الأزل أن نعيش بأرض الشتات أبد الآبدين، ودهر الداهرين. لا، لم يقدر علينا أن نموت بلا شكوى، ويهال علينا التراب بلا ذكرى. بل حين انفجرت منا شلالات الحقد، والكراهية، وانطلقت منا شرارة الغصب، والقتل، استوطننا ما يزقه من سمٍ في ذواتنا تجارُ الحروب، وعشاق الدماء، لو أدركنا أن الداء منا، لكانت تلك اللحظة الهاربة منا حقيقة في الطبيعة. فأين تتجلى مهمتنا، لكي يكون شعار الوحدة صوتا متوقدا بين الطين، والصلصال.؟
إن صوت محمد أبو الزيت هو جزء من تلك الأصوات التي تحكي عما في جونها من تلهف إلى السلم، والسلام، وهو في حقيقته كل تنتهي إليه أصداء الأطفال، والأمهات، والجدات. فلا غرابة إذا اتحدت الأصوات في الملمات، ومن بعدها تتحد العزائم في الممانعة، والمقاومة، ومن بعدها تكون للآمال المتحدة روح تسري في العالم، والأكوان. كلا، إن الصوت الذي نملكه، ولو تحرجنا من النطق به في عالم الأرض، ورفعناه إلى عالم السماء، لن يمر بين الديار عبثا، ولا هذرا، بل له مكمن مقرور في الوجود، وفي الكون. وسواء طال عليه الأمد، أو قصر، فالتاريخ يبني أقوالنا، وأفعالنا، ولن ينسى في غده أن صوتنا ولو كان كان بُحا مسموع في عالم الاستجابة التي ليس موقعها بين عالم السماء، بل في عالم الأرض التي وجدنا فيه ذاتا، وعقلا، وفكرا. فلا عجب إذا لم تسمع السماء إلا صوت من فجر بين همود الأرض صدى عشقه، لكي يكون نزيف الوجع أملا، ومنية، وطلعة، وثورة.
لم يكن الملاك حلما غامضا في أعماقنا، نستنزله في الأوقات العصيبة، والحسيرة، إلا لأننا ظننا وجوده فينا، قبل أن يوجد في خارجنا. وكل ما هو قابع فينا بصورته الجميلة، فهو موجود فينا حقيقة. فإن لم نصل إلى كنهه، وهويته، فإننا نخلق له صورة، وزمانا، ومكانا، ونصنع له ريشا، وأجنحة، وغناء. وما لم يكن الملاك بهذه الصورة الجميلة، فإنه سيكون شيطانا لقبحه، ودمامته. وإذا استحال صوت الطفل حدو إبليس في أوهام مصاصي الدماء، كانت لغة الغزاة في أرض الوغى الانتقام. وإذا نادمه شوق الاستحواذ على زهرة الخزامى، شرب خمرة الدم، واستنجد بالأشلاء، واستغاث بالجماجم. وتلك هي عبادة الشيطان التي استباحت القطط، والكلاب. وهي الخروج عما فيه روح الطهر إلى ما تعفن بالنجاسة، والوساخة. وكل عاشق للدم يحمل صفة العفن، والنتن، فكيف سيكون بانيا، ومتمما، ومكملا.؟ وكل ملاك لا يجالس صاحبه على حصير الحلم بالسلام، فهو خيال لا أثر له في الحياة، ولا في الكون. وما لم يكن الملاك أنيسا، ونديما، وجليسا، فلن يكون صوتا في اللغة، وفي الفكر، وفي النظر، وفي الرأي. أجل، لولا وجوده في ذات محمد أبو الزيت، لما قال: أما عن الفرضية وملاكها النازل من السماء، فلا داعي لا فتراضها، طالما أنها حقيقة وموجودة بيننا. وملائكتها أنتم وما تمثلون من محبة للإنسان. لأنه إنسان، لا لأي اعتبارات أخرى. وأنا لا أجامل.كلا، لا داعي للافتراض، ما دمنا نحس به رفيقا مصاحبا، ومتى طلبناه بالحضور، استجاب بلا تباطؤ، ولا تلكؤ. وهل الملاك سوى هذا الإحساس الذي تحس به تجاه أخيك الإنسان، وأنت تريد أن تهبه طوق ورد، يستهدي بأريجه في صون حريته، وكرامته.؟
هذا هو الملاك الذي يحمل أحلامنا، وآمالنا، وإذا رغبنا في تذكرها، أعاد الأسطوانة المبرمجة بين أحاسيسنا، وعواطفنا، والمخزنة في أذهاننا، وعقولنا، وكأنها سيرة لما كتبناه في السابق، ولما سنكتبه في اللاحق. وأي إخلال بمقام الملاك فينا، فإننا سنضيع معلومات تستكنه عقلنا الحيوي، والفعال، والمنتج، والمبدع. فنحن لم نكن صناعة مبتذلة، حتى لا يعرِّفنا معرف إلا بأزرار الآلة، ثم يزعم أن حدودنا مقيدة برسوم المادة، بل من ذواتنا انطلق الحلم، والأمل، وبها قطعنا المراحل، والمنازل، ولكننا، وإن لم نصل إلى ربع الهجرة، والرغبة، فإننا نرافق هذا الصوت الملائكي في دوربنا، ونلاصقه فيما يأتينا به الزمن من فجوات، وثغرات. ولولا وجوده، لزالت فينا كثير من الأفكار التي تدعونا إلى التحسر على العالم، والكون، والإنسان، والطبيعة.وهذا التحسر، هو الذي يلبسنا ثوب الرجاء، ويرغمنا على أن ننتظر لحظة النور الذي ينزف فيضه من الأزل، ويشرق مصباحه من الكلمة الأولى، ويضي ضوئه هذا الكوكب الأرضي. وتلك هي فرصة الالتقاء بين السماء، والأرض، وزمن التحرر من لعنة الكوابيس المفزعة، والمزعجة.
لا يهمنا ما نعيشه من هوان الزمن، ورداءته، لأن ما نعيشه ملك تاريخي كتب علينا أن نحيى فيه بلا إرادة، لكن الذي يهمنا، هو تطلعنا واستشرافنا للمسقبل. وكل واحد منا له أمنيته التي يهتف بشعارها إذا واتته الفرصة، ووافته القدرة، وإذا لم تسنح له، رسخها في ذهنه، وانتظر لها زمن ولادتها. ومهما كان الزمن طويلا، فهي حاضرة في الأعماق، لا تصرفنا عنها جدة الأحوال، ولا بلاء الأفعال. وما لم تكن لنا تلك الأمنية، وهي رغبتنا في وجود ذواتنا، وواقعنا، فإننا نعيش هملا بلا قضية. فأمنيتنا هي رأس مالنا، ومادة الخام التي نصنع منها أحلامنا، والنبع الذي تصدر عنه عزيمتنا. وإذا تغافلنا عنها، كان أثرنا في هذه الحياة سَلبيا، لا يتأسس عليه مجتمع، ولا نظام، ولا حق، ولا واجب. فلا غرابة إذا تقوت بما درسناه، أو بما قرأناه، ما دام اختبارها ضروريا، لكي تُمنح شهادة التجربة التي تقودنا بين طرفي الانتصار، والانهزام، أو بين القوة، والضعف. وما أثبناه منها بالتجربة، فهو أعمق، وأقوى، لأنه يدل على مراجعتنا لكثير من المطلقات التي وضعنا أقدامنا على أرضها، ثم استبنا أنها هشة، ورخوة، واستظهرنا أنها لن تكون محل إقلاع لحمامتنا، ولا لطائرنا. فما هي إذن أمنية محمد أبو الزيت.؟ تمنى، وقال: وأما عن الأمنية: فهي السلام، السلام.
لا أخال إنسانا سمع هدير الحرب إلا وتمنى السلام، وترجى أن يعود العالم إلى بساطته، وبراءته، لكي يفقد فيه صوت السلاح جلجلته، وصلصلته، ويصير لحن الأرض مسموعا، ونغمها ممتعا، لا تخالطه الضوضاء، ولا تنافسه الجلبة، ولا يؤثر فيه الصخب، ولا يؤذيه الصراخ. صوت السلام، هو أمنية كل واحد منها في هذا الكون الذي يطل علينا كل يوم بآلاف القتلى، والجرحى، ثم يختفي بين بؤس المأساة، والمعاناة. لكن كيف سنقتطف زهرة السلام من أيدي هذا المارد النائم على بيض، ولا ندري ما سيخرج منه بعد أن يفقس.؟ نحن بين أمرين: إما أن تبقى في وسط الوحل، وتقبل به، وأنت تنتظر من ينقذك، وينجدك. وإما تحاربه، وتعاند شأنه، ويكون مصيرك مفارقة مكان تعودت ذاتك على نفي أوساخه، وأمراضه. شيئان تفرضهما علينا راديكالية النشأة، والتربية، وطوباوية الحلم، والأمل. لكننا حين لا نقبل أن نكون تماسيح تعيش وسط المستنقعات، فإننا نريد أن نكون حماما يهفو إلى السلم، والسلام. وهذا هو الفرق بين من رضي بالذل، وبين من رفضه. فالأول يتفاعل مع الحقارة، ويتكيف معها، حتى تصير جزءا منه. والثاني ينبذ كل مكان ملوث، حتى لا يتزكم أنفه بالروائح الكريهة. فالذين رفضوا الذل، لم يكونوا بغاة، ولا محاربين، ولا متمردين، بل كانوا قوة المجتمعات التي تسير إلى زمن تعود فيه إلى الإنسان إنسانيته، وحريته، وكرامته. لكن التماسيح، لا تريد أن يوجد في الكون محل لا يستع لأحلامهم، بل أرادوا قطع الأشجار، وقلع الأحجار، لعل سطح هذا الكون يكون برازا لرجعيهم، وصديدهم. فهل سيفتح لهم القدر باب الأمنية، فيحولوا العالم إلى خراب يباب.؟ لا أظن أن هذه الأرض، ورغم سيادة الظلم فيها، لا تتمنى أمنية هذا الملاك الممزوج مع طفولتنا، وبراءتنا، بل هي أيضا تقابلنا، وتصافحنا، وتواصلنا، لأن خراب أمنيتها فيمن يريدها عوجا، لا فيمن يريد أن تستقيم فيها الأنصبة، فيكون حظ هذا مقبولا عند ذاك. وفي هذا نظامها، واستقرارها. فلا حرج إذا اعتبرنا الأرض في بعض الأحيان أُمَّنا، لأنها تبطش بأولئك الذين خسر حظهم في بنائها، وعمارتها، فتُرينا فيهم سوء المغبة، والعاقبة. وفي بعض الأحيان تقسو علينا، فتحولنا إلى خائفين من ظلامها، وظلالها، وكأننا لا نملك فيها إلا الوحشة، والغربة.
قد يقوى الحلم في الوصول إلى أمنيتنا، لكن ما هو الطريق إليها.؟ لو سألنا محمد أبو الزيت، وقلنا: كيف يمكن لنا أن نصل إلى تحقيق الأمنية والرغبة القابعة في بواطننا، فإنه سيجيب بقوله:
1- على الناس أن تعلم أن الدين ليس إيديولوجية فكرية، تصنف الناس على هواها. فمن تبعها، كان على صواب، ومن لم يفعل، وجب قتله. (إما معنا، وإما ضدنا.)
2- أن يعرفوا أن أساس الاختلاف، هو للتعارف وإحداث التوازن على هذا الكوكب، لا التنافر، وبسط نفوذ فئة على أخرى. فكما يعلم العلمانيون، ويقر الموحدون، أن تضاريس الأرض على سطحها وفي جوفها متطابقة، ومتساوية. لأن بينهما اختلافا في الشكل، (جبل، واد، سهل.) وتوافقا بالمضمون. وما بين موحد يقول: إننا خلقنا من طينها، وملحد: إننا بنوها. عليهم أن يتعلموا منها اتزانها، ودورانها. وإلا دارت علينا، وقلب سافلها، وعاليها، وواطيها.
يزحف بي عداد نبضي إلى الانتهاء، لكن قبل أن أستهلك شحنة ما في عقلي من أفكار تداعت إلي عند قراءة رسالة صديقنا "محمد أبو الزيت"، سأقف هنا وقفتين:
الأولى: إن كثيرا من خطاباتنا التنويرية، تنحو منحى إلقاء تبعات مسؤولية ما وقع في أوطاننا على الأديان. وفي ذلك ما فيه من فورة الشباب، وجرأة الطرح، والاعتداد بالذات، والشجاعة في الموقف، والإقدام على الخوض في طابوهات محرمة، وممنوعة. لكن ما أستخلصه من كلام أخينا محمد أبو الزيت، هو معاكس لهذا الإقدام الجريء الأفكار، والأطوار، ومفهوم من منطوق طلبه الرزين، والمتعقل، والمتبصر. لأن الأديان، ومهما أسرفنا في الاعتراف بقيمتها، أو النكران لها، فإنها ليست إلا صوت الإنسان. فهو الذي يمنحها قوتها، أو ضعفها، ومتى كان الإدراك لرسالة الدين قويا، كانت الحركة النفسية والسلوك الاجتماعي متزنا، وإذا فقد ذلك الاعتدال، والبساطة، وكان الواقع المترع بالأزمات النفسية والاجتماعية هو الذي يحدد النظر إلى الأديان، فإنها تلبس ما في واجهة الحياة من صراعات، ونزاعات. وهكذا، فإن الإنسان هو الأصل، وما يتبعه من أديان، إنما هو من اختياره. وإذا كان الاختيار فاسدا، كان التدين مؤديا إلى الفساد، والهلاك. والأديان إما أن تكون رسالة السماء إلى الأرض، وإما أن تكون إفرازا لما في الإنسان من أمراض، وأدواء. ولا أخالني سأعدو الحقيقة إذا قلت: إن أزمتنا هي في فهم رسالة السماء، لا في تعريفها، وتحديدها. ولعل هذا الفهم الضيق لمحاورها، وغايتها، هو الذي جعلها تفسر بالأنانيات الفردية، والجماعية، وتؤول بمقتضى ما تفرضه الأحداث من صراع على كسب القوة، والحظ، والخلد. وهنا لزمنا أن نفرق بين أمرين: الأول: الدين هو صورة السماء. وهي الغاية في الجمال. الثاني: الدين الذي هو صورة الإنسان المتعارك من أجل ذاته. ولكنه يستهدي على قوته بالاحتيال على السماء.
الثانية: إن الاختلاف بين الناس أمر طبعي، لكن متى يكون شذوذا وخروجا عن الحقيقة.؟ إن كل اختلاف لم يتجاوز مساحته في بناء الذهن، والفكر، والمعرفة، لن يصير نارا تحرق، ولا حربا تخرب، ولا فراغا يُضيع. ومتى تجاوز حده، وأفرط الإنسان في لي أعناق النصوص المقدسة، أو الحشود، والجماهير، والسواد، فهو الخلاف الذي يؤدي بنا إلى تضييع فرصتنا في الحياة الهادئة، والآمنة.
وهكذا يكون العلاج عند محمد أبو الزيت في أمرين: فهم الدين، وفقه الاختلاف. وإذا ضبطنا إيقاع هذين العنصرين، فإننا سنعيش التعدد والتنوع في سر رقي ذواتنا، ومجتمعاتنا، وإذ ذاك سنهتف جميعا بالسلام الذي هو شعار كل شخص يريد أن يعيش العالم الأمن، والأمان.
دمت أخي "محمد أبو الزيت" وفيا لهذا المبدأ الإنساني، والأخلاقي، ولك مني بليون تحية، وإلى أهل فلسطين، وأهل الأردن، وإلى كل الشعوب الإسلامية، وإلى كل إنسان يجد من أجل ميلاد لحظة الإنسانية، الكونية.




#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
- رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2