أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - رسائل إلى السماء الرسالة الأولى















المزيد.....



رسائل إلى السماء الرسالة الأولى


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4966 - 2015 / 10 / 25 - 15:01
المحور: الادب والفن
    


رسائل إلى السماء
الرسالة الأولى: فهد الرئيسي من سلطنة عمان.

كم انتظرت لهذا الليل أن يطول علي بين ديار ذاتي المنتحبة، لعلي أشهد فيه صباحة ذلك الوجه المليح المنظر، والسريرة، فأحادثه بما تضمره الذوات من آمال، وآلام. لكنه ما إن استقر معي لحظة، حتى غدر بي، فأردفني هم النهار الأحدب، وجعلني أرقب على ضفة نهر زمنا ينتهي فيه غوص التماسيح بين أوحال الأمنيات الفاسدة. فما أقساه.! لو أدرك أنني ما رضيت زبيبة سواده، إلا لكونه كُنا لعرائس أحلامي المقهورة، ومرفأ لأحلام كثير ممن رأوا تنينات المكر بين دروب النهار، وهي تدهس جماجم البشر، وتمتص ما تبقى من رحيق الحياة بين ذوات الصغار، لما عاندني بجفلة تمنحني وردة يابسة عند تمام المراهنة على حصة الحياة البائسة. لو أدرك ذلك من صلاتي، وقيامي، والناس نيام، والسكون مقام، والصمت خطام، لما فجر، وفسق، وابتدع العهر في قدس المحراب، فحاد بذلك عن القضايا الأخلاقية التي نأنس بها نحن بني آدم في الأكوان.
فالليل الذي يفر من بين يديك بلا إخبار، لن يكون له نهار مبتسم المحيا، والإطلالة. والنهار الذي يعلمك فنون الاختباء من نوره، لن تكون له حقيقة في سواد الليل الأبهم. هذا الليل عندي شبيه بالنهار. فكما أرى ضوء القمر بين الدجى، فإني أشاهد نور الشمس بعيون الرضى. وكما أرى عتمة السواد، فإني أشاهد بياض الغمام على البلاد. فلم لا يكون الليل دليلا على النهار.؟ شيء مربك للعقل حين اعتبر الليل أصلا في الوجود، وهو ينتظر أن يولد من مشكاة السواد نور هذا المصباح الأبلج. هكذا قالوا، وكان الاستدلال عليه أمرا محمودا في رأي، لكن من رأى السواد منسلا من عجينة البياض، فقد رأى النهار كسبا، ومعاشا، والليل نوما، وكسادا. قيمتان في الوجود. فإلى أيهما سأميل.؟
في بداية الوجود الذي وضع الأوقات، والعلامات، كانت السماء، وكانت الأرض. وهل تمازجتا، ثم انفصلتا.؟ أم كان عنصر كل واحدة منهما مخالفا لعنصر الأخرى.؟ شيء لا تفيدني معرفته بين شعاب حرفي، ولا بين وهاد سِربي. لكنني أحسست بصفاء أهل السماء، وأدركت الخلائق متقابلين ومتعارضين في عالم الأرض، ولم أحتج إلى استدلال فلسفي على وجودهما في حقيقتي، وطبيعتي، بل لم أتذكر فيما عرض لي من عوارض المعرفة، كيف نشأت الصورة عندي، ولا كيف تركبت ملامحها مع مرور السنين على سياحتي في بيداء التيه، والضياع. فهل سبق نظري إلى سواد الأفق، أم إلى البياض المتخيل في الأرض.؟ وهل هل كان الليل مُدركا لي قبل النهار.؟ وهل كانت السماء رغبتي في أصالة قضية العطاء قبل الأرض.؟ أشياء لم أعرف كيف أدركتها، ولم أفكر في زمن أن أحدد السابق من اللاحق فيها، ولا أن أفرق بين لحظاتها، لكي أكتشف منها كيف كنت جاهلا بهذه الحقائق، وكيف عرفتها. لكنني أقررت بأنني لا أتواصل مع السماء إلا بنظري، وأنني لا ألاصق الأرض إلا بجسدي. ذلك ما أدركته، بل قيل لنا إن أصلنا من الطين، ولكننا كنا خلائق في السماء، ثم أهبطنا إلى الأرض، للعداء، والصراع. هنا تمازجت الفكرتان في ذواتنا، فنحن ولدنا في السماء، وعشنا في الأرض. فلا غرابة إذا كان ما فقدناه في أرضنا مرغوبا في سمائنا، وما ضاع فينا من نور محسوسا وجوده في ظلامنا. قضايا ميتافيزيقية ذات أبعاد روحية، وهي أشبه ما يكون بالدجاجة، والبيضة، أو بالماء، والنار. فلا عجب إذا كانت المانوية تعتقد بإلهين، لكي تخرج من مأزق السؤال الذي حير ألباب المفكرين، والمثقفين. لأن وجود الأصل المؤثر يفضي إلى السؤال الوجودي، والفلسفي، ولكل خوضه، لكن ما أدركته أن النور جمال عند من رغب في استواء الحياة للحلم الوردي، وأن الظلام مكمن لمن جعل الكون ملتبسا بين القضايا المتقابلة، والمتناقضة. ولولا الاختلاف في تحرير الأنظار، لما جعلنا الأديان مخرجة للإنسان من الظلمات إلى النور. فهل كثرة الظلم توحي إلى تفرد النور بالوحدة.؟ أم لكل ظلمة نور يعاكسها، والغلبة فيهما للأقوى.؟ أم لا وجود لذا إلا بذلك، فيفر الظلام من الأماكن بالنور، ويهجم الظلام على النور، فيمحقه، ويسحقه، ويلفه بين إبطيه.؟ أم الأصل هو الظلام، لأنه لا يحتاج في ظهوره إلى سبب، ولا سند.؟ كل ذلك قالوه، لكنني أدركت أن النور لا يعم الذوات إلا بسيادة العلم، والفكر، والنظر.! فهل هذا قبول لأسبقية الظلام.؟ قد أدركت ظهور النور في الليل بالقمر، وفي النهار بالشمس. وهنا يكون كل محتاج إلى سبب تابعا، لا أصلا. ولو قيل بهذا، فلا احتمال فيه للكفر، بل هو القول بأسبقية الشر على الخير في الإنسان.
تلك الرغبة التي نضمر وجودنا بها في عالم السماء، هي الأمل الذي نهتف به حين تضيق الأرض علينا بما رحبت، وتزول السبل، وتفنى الوسائل. وإذ ذاك نستكنه في السماء أهلا لنا، هم أقرب إلينا من عشيرتنا في الأرض. هذه الحقيقة لا يمكن لي أن أتجاوزها، وهي جزء من كياني الذي يتكون من عقائد لا تفصل بين عالم الأرض، وعالم السماء، وتعتقد بوجود الأطهار هناك، ووجود الأشرار هنا. وكلاهما ظل للآخر، ففي الأول نرسم صورة البراءة، وفي الثاني نكتب صك الإدانة. بل السماء، ما هي إلا مرآة تنعكس فيها صور ضياعي، وفراغي، وتنفجر في سجلها متع ضقت به ذرعا في كياني، وحياتي. ولا شيء في الوجود أقدر على رسم صورتي من ذلك الملاك الذي ينقل صلاحي وفسادي إلى عالم السماء. شيء مقدس، يحمل دنسي، وأوضاري، وذنوبي، وهزائمي، وانتكاساتي، وشيء مقيد يأسرني بين رغبات لا أغمض عيني عن واحدة حتى تمتد يدي إلى الأخرى. فهل وجدت لأعيش حروبا بين ثابت يعرفني بتعريف، ومتحول يصفني بأوصاف.؟
ذلك الملاك لو لم يكن موجودا حقيقة لنقشته في لهث طبيعتي، حتى أناجيه في لحظات أحتاج معها إلى أنيس يؤنس غربة دربي، ووحدة ظلي. فهل هذا الملاك يسمعني حين أناجيه بصراخ باطني، أو بذهول خارجي.؟ أجل، على شاطئ هذا البحر الساكن الأمواج، كنت موجودا بين الليل بأجنحة تخفق بين الآفاق، وعيناي على مصباح القمر الوضيء، وحدسي يخمن أنني جليس قوم من الطاهرين على خوان هذا الحلم، ونظري يرخي سهام شهوده في السماء، يستكشف ما وراء السواد من بياض، وما وراء الظلام من نور. رغبة جامحة، ونزوة جانحة، تدبر تأملي فيما يحوم حولي من أشباح، وأرواح، وسواء ما سمعت صوته، ورأيت أثره، أو ما سمعت صوته، وخفي عينه، أو ما أحسست بصوته، ولم أسمع له لفظا، ولم أر له جِرما. كل ذلك عندي يكتب سطر هذا الليل الذي أغازله بنفَسي، وحرفي، وأصارحه بهمي، وغمي. فالليل هنا قصير، وأنا غريب الذات، وقريب الألم. بل شريد بين الديار، وطريد بين الواحات، لا ألمس بحواسي شيئا يجوز لي أن أحس بأن له ذاتا، أو نفْسا، أو حراكا. بل هو شيء قابع في مملكة باطني، وجاثم على محيط كوني. كلا، بل هو الإمبراطور الذي يأمرني، ويوجهني، وأنا لا أملك إلا التزام ما يفرضه علي، أو ما ينهاني عنه. شيء هو نسيم في همس الليل يهدى إلى الإنسان الذي استبطأ الحلم، فرآه في السواد، وفي الكهوف، وفي القبور. أو هو نغمة ناي يصدح من وراء الشموع، ويزفر بأنينه في الجانب الآخر لنهاية الإنسان، ولا أدري، هل هو صوت الإنسان.؟ أم هو صوت الجان.؟ أم هو الكلمة التي توهب للشاعر حين يقف على هشيم المدار، فلا يجد له من سفينة تبعده عن خوفه، ولا من رفيق يصاحبه في أمنه.؟كل ذلك قد يحمله السواد، والليل، والظلام، ولو بدا البدر في ليلة تمامه مضيئا، يخترق الأكوان، لكي يبني للإنسان حلمه المفقود في صوت الملاك.
في تلك اللحظة، تغشى عقلي أفكار كثيرة، وآراء عديدة. تأملت فيها كيف ابتدأتُ كلمة، وكيف سأنتهي لعنة، وكيف كنت في عالم السماء أمرا، وكيف وجدت في عالم الأرض نهيا، وكيف حملت معي من غموض عالم مطلقي صوت الملاك، وكيف لازمني في خبط نفسي بين بيداء مقيدي صخب الشيطان. أفكار تدوسني بجفائها، وجفافها، وكأنها ما تواردت علي بين كوابيس ليلي، إلا لتعذبني بما فيها من احتراق، أو اختراق، وتمنعني من لحن بريء أسمعه من طفل يحكي عن لحظة عيد مرت عليه بين فصول زمن غادر، لبس فيه جبة بيضاء، واعتم بعمامة سوداء، ولبس نعلا أصفر فاسيا. خطر بين الدروب متبخترا، ومنتشيا. هرول، وجرول، ولكنه لم يدر أنه في غسق الأفق، سيقع في حفرة صاخبة بالوحل، ثم يعود إلى بيته متسخا، ومتذمرا. فهل ستلحاه أمه التي أرادت أن يكون منظره مظهرا لسمو جمال ذوقها.؟ أم ستتألم لنفسه التي أنفت أن تذبل زهرة فرحه في يوم عيده.؟ أم ستحبس غضبها، وينشرح صدرها، وتتهلل أساريرها، وهي تقول له: يا بني، إننا ما وجدنا إلا لنفرح، ونقرح.؟ كان الطفل بريئا في أغواره، فهو لم يخب بين الأماكن إلا بزهو طفولته، وفرح يوم عيده، وخفق قلبه بالقدرة على اصطياد لحظات الأمل في حياته. لم تكن رغبته في أن يتحسر على ما فقده من بياض، ولا أن تتألم أمه لما عارض أمنيتها في سمو أذواقها، وأخلافها. ولو رغب في صهيل حزنه، لغمس ثيابه في بركة الرماد، وإذ ذاك سيلام، ويعاب. كلا، بل أدرك بعد طول ألم أن الثياب المتسخة، لا بد من نزعها، وخلعها، وإذا ما لم يجد بديلا عنها، اكتفى بما كان له من لباس رث قديم. بل ينتظر من أمه أن تنسى فرحة يوم عيدها، لعلها تغسل أدران ثيابه، ثم يعود إلى لبسها من جديد. ربما قد يفوته صوت يوم العيد البريء، لكنه لا محالة سيلبسها مرة أخرى بذوقه، ويحس بأنها ما زالت جميلة على ذاته، ولو لم تكن لمتعته ما كان للفرح الأول من لذة، وانتشاء.
استمع إلى صوت الطفل بين أعماق الحقيقة. وهو لغة البراءة في الطبيعة. وكل شيخ هرم يقبع في كوعه طفل يعبث بوردة بيضاء. وكل طفل دليل على أننا في مرحلة نغدو بعدها أغرارا، ثم نشب، ونهرم، ونفنى أحرارا. تلك هي صورة الطفل الجاثم على عقولنا، وقلوبنا، وهو القائم بجلية فرحنا، وحزننا. وما لم نطق أن نتخلص من نكرانه، فلن نشعر بذلك الملاك الذي يجالسنا على فروة الليل البهي، حين نستطيب المقام مع أصص الزهور البرية، فنتذكر أوجاعا تدنيها عللنا، وأرزاءنا، ثم نخرج من صور ذواتنا الممتزجة من تراكيبَ مختلفةٍ صورتَه الطافحة بالصفاء في أعماقنا، وأبعادنا، لكي نخاطبه بما فقدناه في حياة يدبرها كهول لم يخلقوا بين عناصر الطبيعة إلا ليعذبونا، ويهينونا. هذا الطفل الذي ينبض في محيطنا الباطني، هو الملاك السجينةُ طاقتُه بين أقفاص ذواتنا المطمئنة. وهو القادم علي في جون هذا الليل الذي أفترش على صدره الأرحب سجادة الشوق، لكي أناجيه عند شجرة اليقطين بحلمي، وأخاطبه بما لا أطيق تذكره في نهاري. وهو الذي يحمل فراشات أملي إلى عالم السماء، وهو الذي يرفع همتي إذا هانت، ويحط من غمتي إذا رابت. فلم لا أتخيله حالا بداخلي، لعلي أحس فيه باللغة، والرجاء.؟
في ليلة من الليالي خاطبته مكافحة. وقلت له: إنني نفثة مكتومة في كون مصدور، أشاهده كعنقود عنب مسترخ على جدار عتيق، واللصوص حوله حائمون، والحرس عنه نائمون. فهل لهذا الكون من كحل يعيد عينيه جميلتين.؟ سكت طويلا، ومرت على ذهني أفكار، وأنظار، فقال لي: ما هو طلبك لأهل السماء.؟ قلت: ارفع إليهم أنني ركبت هودج الحزن منذ زمان. وأرجو أن ينزل من عالمهم عارض يزيل غربتي، ويذيب وحدتي، ويجعلني انظر إلى هذه النفوس الحائرة، والوجوه العابسة، والآفاق الغائرة، والأمداء الحالكة، وهي تعود إلى ببسمتها، وفرحتها، وتؤوب إليَّ حركتها، ونشاطها. فقال: ما هي أمنيتك.؟ قلت أن أرى الأطفال يسرحون، ويمرحون، وأرى الكبار يكدون، ويجدون، وأرى الأرض بساتين، وواحات، والكون صفاء، ونقاء، والحياة، أملا، وأمنا، والأرواح طليقة، وقريرة، ثم تعود الذوات إلى كمالها، وجمالها، لعلها تكتشف ما في خزائن الأرض من علوم، ومعارف. فقال لي: سأحمل أمنيتك إلى عالم السماء، ثم انصرف. ودعت ملاكي كما يودع كل واحد منا ملاكه، ومعه طفولته، وبراءته. وأحيانا يستعيد الذكريات في حضنه، ورحابه، لكي يتذكر تلك الرسالة التي يتحدث عنها بعفوية، وتلقائية، وهي تحمل فلسفته في الانتظار، وفي الخلاص، وفي الآمال الغازية لعمقه المنتحب بلوعة الأوجاع المجرورة بين الزمان، والمكان.
انبثقت من الآمال الدفينة فكرة طلبي من أصدقائي أن يكتبوا رسائلهم إلى السماء، لعلهم يستحضرون ذلك الملاك، وذلك الطفل، وتلك البراءة، وتلك اللغة التي تنفجر براكينها بأمنيتهم، ورغبتهم. لكن هل كنت وسيطا فيما بينهم وبين عالم السماء.؟ أم أردت أن يكتشف الناس رسالة هؤلاء الأصدقاء، لكي يعرفوا أن بيننا أناسا يحملون هما أوكد، وفي عمقه أنكد، ولكنه حقيقة الحلم الذين يحلمون به جميعا.!؟ شيء طري ينزف من صخرة الوجود بصمت الليل، وهمس السمار، ونخب الكؤوس، ونغم القيان، وصدى القصائد. فهل هو حرية الكلمة المسافرة في زمن الاغتراب بألم البوح الذي في عشقه سحر، وفي صوته أمر.؟
كان رسالتي إلى أصدقائي بمنزلة اعترافي بأن لهم من الهم ما لي، وبأن لهم من الآمال ما لي، ولذا قلت في طلبي إياهم:
السلام عليكم
في خضم هذه الحروب الدينية والطائفية التي تعاني منها أمتنا العربية، أرجو منكِ سيدتي وسيدي أن نتشارك جميعا حُمى الهم، والغم، لعلنا نحاول أن نؤسس لمفهوم مشترك في تغيير أوضاعنا الحالية، والراهنة، وذلك بما يلي: لو فرضنا أن ملاكا نزل من الفضاء، وطلب منك أن تكتب طلبا مختصرا إلى أهل السماء، فما هو نص طلبك، ورغبتك، وأملك.؟ أرجو منكِ سيدتي وسيدي أن تكتب طلبك هذا لأهل السماء في عبارات مختصرة، وتضمنها اسمك، وبلدتك، لعلي أقوم بجمعها، ونظمها، وأكتب حولها مقالات، وتعليقات، تستفيد منها النخبة المثقفة والعالمة والحكيمة في أوطاننا العربية. لكم تحياتي، وتشكراتي.
كانت هذه الفكرة بالنسبة لي استجلاء لذلك السؤال الفطري الجاثم على العقول أولا، وثانيا استظهارا لذلك البعد الفلسفي القائم وراء تطلعات كثير من المفكرين والمثقفين الذين تجمعني بهم روابط قيمنة بالتقدير، والاحترام. لاسيما، وأنهم يحملون في أعماقهم نزيف القلم الذي أحمله، ويدبرون معي من وراء الشاشات أوجاع هذه الأمة التي تئن، وتضج، وتصرخ، وتعول، وكأنها تستغيث بصولة أبنائها الخائرة، ويستنجد بهممهم الفاترة، وتستحث قواهم الكاسدة، وتستفز عمق وظيفتهم في هذا الوجود المربَدِّ الملامح. وهل وظيفة الكاتب سوى ما يجود به يراعه في خدمة مجتمعه، وأمته.؟ لم أكن أتصور أن أصدقائي الذين تظهرهم كلماتهم حيارى في واقع ننعى عجزه عن صناعة واقعنا الموعود، سيشاركونني زفرة هذا الهم الذي يسبل على حرفي سربال الحزن، ولم أكن أصدق في ذاتي أن كثيرا ممن أيقنوا اغترارا بامتلاك الحقيقة، سيعتبرون السؤال جرأة في مقام لا يستوجب إلا الاستسلام، والتفويض. والأدهى أنني لم أعثر لهؤلاء على رسالة تؤكد لي صحة زعمي، أو تظهر لي صدق يقيني. بل قصارى جهدهم أنهم ينتظرون ميلاد الأمة في نشر حكايات، وأقوال، وبسط لواء التهاني، وتكراره في كل أسبوع، ومناسبة.
تلك سبة على جباه هؤلاء الذين خالوا الحقيقة كلاما قديما، لا يحتمل منا أن نطور طرق فهمه، ووعيه، ولا أن نفجر من أذواقنا سلسبيلا يرقي أمراض أمتنا، وعللنا. بل الأغرب أن اهتمام هؤلاء مقتصر على أمور هامشية، لا تمس جوهر حيرة الإنسان، وخوفه، وألمه، ولا تبحث عن نبض المجتمع، وأحاسيسه، ووجدانه، ولا عن استشراف هذا الكائن لذلك الغد المغدق، والمستقبل المريع. تلك هي الحقيقة التي أذهلتني، ولكني لن أعدم أقلاما تحرك معي عجلة هذه اللواعج المضمرة، لكي نكتشف أمورا فائقة في رسائل أصدقائي، على اختلاف مشاربهم، ومسالكهم.
لن أحكم بالنقض، أو بالنفي، بل سأحكي كل ما أرسل إلي بأمانة في الرواية، إلا ما اقتضته دقة اللغة، وجمالية التعبير، لئلا أكون مغرضا في عرض الرسائل، والتعليق عليها. ولهذا لن أقتصر على فئة دون فئة، بل سأحكي عن ذا، وذاك، ولو اختلف ما تضمنته من أفكار تسوقني من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. لأن حقيقة رغبتي، لا تكمن في تصحيح العقائد، ولا في تعليم الشرائع، ولا في تقويم السلوك، بل تتجلى في استكشاف هذا الصوت الوجيء بين أعماقنا، والوئيد في واقعنا، ولو لم ننطق به، أو لم نستطع أن نظهره، ولكنه كامن فينا، وقائم معنا. وهو الذي يتضمن فلسفتنا في الأشياء التي تُنحر بين أعيننا. لن أغالي في تقديرٍ، ولا في احترامٍ، لكنني سأصرف وجهي عن أناس رفضوا هذا الطلب لأمور تخصهم، وتعنيهم. وتلك هي حريتهم، ولهم موارد فكرهم، ومسلك توجههم، ومشاعب اشتغالهم. لا لأنني لا أحب سماع الصوت الآخر، بل سأكتفي بمن يشاركني هم الحرف، والفكرة، ويسعى إلى ما أخطو إليه من كونيةٍ إنسانيةٍ تعم العالم أجمع بالسلم، والأمان.
قبل البداءة بالرسالة الأولى، لا بد أن أقول: إنني سأذكر اسم كل من رغب في ذكر اسمه، وسأحتفظ بكتمانه لكل من رغب في ذلك، فأول رسالة وردت علي، هي رسالة أخينا فهد الرئيسي من سلطنة عمان، وفيها يقول:
طلبي الوحيد، هو راحة البال، والعيش بكرامة، وحرية، و سيادة، تحت ظل حكم عادل... وأن نحول بوصلتنا نحو المستقبل، و نودع الماضي وصراعاته، وأكاذيبه.
صديقي فهد الرئيسي، تعرفت عليه في هذا الفضاء الأزرق منذ سنوات، وقد تابعته، وتابعني، وأحسست فيه بنبل، وعشق، وإنسانية أخلاقية، وأحس في حرفي بشيء من آلامه، وأحزانه. فكانت علاقتي به علاقة الحرف المتفجر بالأوجاع التي ينهلها من سوء الأوضاع، ومغبة الأشياع. فأخي فهد، وأنا، لم يسبق لنا أن تعارفنا فوق هذا الكوكب المثخن بالجراح، ولم يكتب علينا أن نلتقي على أطلال هذه المدينة التي بدأنا نبْنيها منذ زمن طويل، ثم طغى عليها أوباش خربوها، وهدموها، وحملوا أحجارها وأشجارها إلى محرقة التاريخ، ومزبلة الحضارة. بل تعارفنا بأصوات أرواحنا، والتقينا عند الباب الذي يقف على عتبته كثير ممن ينتظرون ساعةً تنتهي فيها الأوصاب الحيرانة، ثم نلج إلى عالم آخر نرفع فوقه شعار ما فقدناه من عز ضاع مع الدمار، والخراب.
لم تكن السلطنة التي ينتسب إليها بهذا المستوى الذي آلت إليه دول أخرى، ولكن كامنها الساكن في روحها، هو ذلك الوجع الذي يسكننا جميعا... هو جرح اللغة، والدين، والأمة، وحزن الأفق، والغد، والأمل. ربما قد نختلف في تشخيص الجرح الأول، لأننا تعددنا في مجتمعاتنا إلى أعراق، وأنساب، وأحساب، ففينا أمازيغ، وعرب، وفرس، وربما نختلف في تحديد الجرح الثاني، لأننا لم نتوحد على دين واحد في أوطاننا، ففينا يهود، ومسيحيون، ومسلمون، لكننا لن نختلف في مفهوم الأمة الذي يجمع جزئياتنا في كليته الجامعة. لأننا ولدنا أولا في محيط أسرنا، ثم نشأنا في تشكلات تبتدئ بالعشيرة، وتمر عبر القرية، والقبيلة، والدولة، والأمة. وعلى رغم انهيار بعض أسس مشخصاتنا بما دهمنا في زمن معين من مفهوم الدولة، فإن معنى الأمة لا يزال قائما، وواقعا، لأنه مفهوم جمعي، وكلي، يضم شتات أحلامنا، وآمالنا، ويحتوي على رغبتنا في إشراق صبح ذلك اليوم الذي يخلصنا من القهر، والظلم، والعدوان. وإذا كنا نتسابق جبلة إلى حماية أوطاننا، فإننا تبعا لذلك نهرع طواعية إلى نجدة أمتنا. تلك هي حقيقتنا البيولوجية، والسيكولوجية، وطبيعتنا الإنسانية، والكونية. فما الذي أترع جعبة أخينا فهد الرئيسي بما زفر به من أمنية.؟ لو لم يكن حس الأمة حاضرا لديه، لاكتفى بما في وطنه من أمن، وأمان، ولانزوى عما في أمته من جراح، وآلام. لكن ما فائدة صلاح الجزء إذا كان موضوع الكل فاسدا.؟ ذلك هو ألمي، وورمي. فوطني، ولو اجتاز مرحلة الخريف العربي، وتغلب على كثير من الأزمات التي ترسف في غلها بعض الدول الأخرى، فإنني أتألم لهذا الوطن الكبير، محضن عناوين أحلامنا الكبرى، وأنا أسمع صوته يلهج، ويضرع، وكأنه ثور يساق إلى مذبح جزار رهيب.! فهل سأقبل من نفسي أن نتركه قربانا للإلهة التي صنعها الجهل والدجل من الدم، والأشلاء، والجماجم.؟ لو كانت تلك الرغبة كامنة فينا، لبعنا ضمائرنا، وأذواقنا، ولانتحينا نِحو جهة من الجهات، ولاتجهنا في بعد من الأبعاد. لكن أنى لذلك أن يرد علينا، ونحن نترجى ذلك اليوم الذي يستعيد فيه وطننا الكبير عافيته، وسعادته، ويستظهر فيه صوته المغبون بين أغواره، وأنجاده. ذلك أمر مرغوب، ومطلوب، ولو فاجأتنا الغوائل في طريقنا، والدواهي في طريقتنا، ونازلتنا المصائب في دورنا، والفواجع في قرانا. وذلك هو أمل فهد، وأملي، وأمل كل عريق تليد وطيد رسيخ في أوطاننا. بل هو أمل كل متشرد بين الأوطان المنكوبة، والمحروقة، ومتبرم من علل الدور التي تبحث عن طبيب يداوي مرضها، ودنفها، وحكيم يناجي مكنون أصواتها اليابسة، والبائسة. فأي هلال هذا الذي سيمنحها صك الأمان.؟ فلو قتلوها كما خربوها بين أعيننا، لرحمونا، ورحموها، لكن تعذيبها تأليم لوجودنا فيها، وتجويعها تأثيم لحبنا لها. فمن هذا الذي سيعيد إلى العالم ضحكته، وبسمته.؟ ومن هذا الذي سيعيد إلى الطفل حكايات جدته التي ترويها عن تاريخ آبائه، وأجداده.؟ ذلك هو انتظارنا بين الفواجع التي تشرق عليها شموس الأيام الحالكة، وتتهلل بها وجوه غادرة، توقد في أجران أوطاننا نيران غبائها، وبلادتها. فهل سنستسلم للمصير.؟ أم سنواجهه بالأمل في الغد الوثير.؟ ذلك هو قرارنا، ونحن لا نرغب في تغيير لبدة ما عندنا بما لغيرنا، بل لا نغير ما عندنا إلا بما فينا. لأننا ولو ساقتنا الأرزاء في أجسادنا إلى الألم، فإن أرواحنا لن تساق إلى نار الخداع، والمكر، والدهاء.
قد نبتلى بحمى الصراع، والنزاع، فنفقد بعضا من هدوئنا، واتزاننا، لكن المفكر المثقف، والعالم المتقن، لا يموج، ولا يعوج. لأن الاهتياج دليل على النقصان، والاحتراب حجة على فساد البرهان. ومتى كانت لغة العقل هوجاء، وكانت صولة التراث حمقاء، وكانت رداءة الأفكار بغضاء، فإننا لن نخلق الأمل الذي نهتف به في أفراحنا، وأوجاعنا. ربما قد نكون طوباويين ومثاليين في تعبيرنا عن اللحظة الهاربة، وربما قد نطيق التعبير عن هويتها، ولكن لا نطيق العمل من أجل لحظتها، وربما قد تكبر فيها رغبتنا، ولكن تقل معها طاقتنا، وربما قد نأنس بأدوات البناء، ولكننا لا نرفع أعمدتها على أرض صلبة في واقعنا. كل ذلك، وغيره، قد يرد علينا في لحظة التيه، والشتات، لكوننا نفقد سر اللحظة التي لا نوافق شروطها، وفروضها. إذ غالب أقوالنا، وآراءنا، لا تعدو في جاذبية تلك العواصف البكماء، أن تكون تعليقا سارحا على ما يحدث من قضايا المرحلة، أو تحديثا بحديث لا يتأسس على دقة في المعرفة، أو تكليما بكلام أدبي، لا يمتلك عمقا فلسفيا، أو تحديقا بنظرة روحية، قد تفتقد إلى ماديتها في الوجود. كل ذلك أيضا يجوز له أن يذهلنا عن الحقيقة، أو عن بعضها، لكن ما نقر به جميعا، أننا نعيش لحظة بدأ تفكيرنا فيها يستوعب كل التفاصيل التي تقوم عليها لعبة الصراع. تلك هي الحقيقة.!
ستشهد معي قول صديقي فهد، وهو يرفع صوته إلى السماء، ويقول: طلبي الوحيد. هو رجاء وحيد. وكل مدرك للحقيقة التي يؤمن بضرورتها الوجودية، لا يقتصر في رغبته عند تناحر العزائم، إلا على الكلمة الجامعة التي تدخل تحتها كل أجزاء قضيته الكبرى. طلبي الوحيد: هو راحة البال. فأي ضجيج هذا الذي نسمعه، وأي صراخ هذا الذي يصل إلينا صخبه.؟ صوت البنادق، والأرامل، واليتامى. صوت القتل، والخراب، والدمار. صوت ذلك الوغد الذي ينسف أعشاشنا التي تعودنا على سكونها، وهدوئها، وأمنها. طلبي الوحيد: هو راحة البال. فأي منغصات هذه التي أقلقت البال، وأترعته بالخوف.؟ هموم الوطن الذي يهرول نحو الفناء، ويجرول نحو العناء، وكأنه ممسوس بوخز جني، يريد أن يسرق الكنز الذي يكمن في أعماق بطنه، ويهيل التراب على ما تبقى من حلمه. طلبي الوحيد: هو راحة البال، والعيش بكرامة، وحرية، وسيادة، تحت ظل حكم عادل. أجل، إن هذه الحياة التي نعيش هوس غرورها، وكبريائها، ما هي إلا لحظة نقرأ فيها أسطورة تبتدئ بالولادة، وتنتهي بالحياة. وأي قيمة لها إذا كانت كدرا، ومرضا.؟ فالحياة لا يحس بها حمقى الأصحاء، لأن الحمق ينزع من العمق عشق الجمال، والكمال. فلو أحسوا بها، لنعِموا بما فيها من فيوضات، وإشراقات، لكنهم عاشوها بهَمٍّ يجْنون من رقاعته سؤر حياة بائسة. كلا، بل الحياة، لا يشعر بها إلا ذلك الإنسان الذي فقد ثورة حرفه بين حياض حريته، وهو يبحث عن عودة ظله إلى شجرتها الوارفة في خلوده. وتلك هي السعادة التي يتنافسها العبيد، والأحرار. لكن الأحرار، ومهما وضعوا وراء القضبان، وأسكت صوتهم، وأحرق حرفهم، ونفيت أجسادهم، وأهريقت أرواحهم، فإنهم سيبقون صوتا يسمعه كل من عشق الفضاء، والمدى، والأفق. وهنا تبتدئ الحرية الحقة، وهي عشق المطلق في كل شيء. لأن الإنسان حين يولد في الوجود، لا تحده القيود، وإذا أرخى نظره، وأطلق بصره، وأدرك الأشياء على حقيقتها، فإنه لا يرضى أن يُقيد فيه ما هو مطلق لحريته، ولا أن يحد فيه ما هو امتداد لنظره. لأنه لا يحس بقيمة ذاته في عبوديته، بل يراها مستلبة لإرادة غير إرادته، وقوة غير قوته. فمن الفضاء الممتد إلى ما لا نراه من عوالم غامضة في أفكارنا، وخفية عن أبصارنا، نتعلم درس الحرية في الوجود، ومنه ننطلق إلى حقائق الكون، والطبيعة، والحياة. وأي إخراج لنا من الإطلاق إلى القيد، فهو تكثير لآمالنا، وتكسير لرغباتنا. فنحن نطلق من أعماقنا صوت الكرامة، وصوت الحرية، ونسعى إلى إخلاده، وسواء عشنا تحت ظلاله، أو لم نعش، وسواء حيينا معه، أو متنا، فالصوت سيبقى صوتا، يصل نسيمه إلى كل حر يعشق الإطلاق في نظراته، وعبراته، وآرائه، وقراراته.
تلك هي حقيقة الكرامة، والحرية، وبينهما تمازج، وتلاقح، ولا حقيقة للحرية من دون الشعور بالكرامة. وهكذا، فإن المفاهيم الكلية، لا يمكن تجزئتها، ولا تفرقتها، لأنها تتضمن كل المعاني التي تندرج تحتها، فمفهوم الكرامة مندرج في كلية الحرية، بل هي ثمرتها، ثم تزاوجت النسب منهما، فأنتجتا هذا الإنسان الذي يريد أن يعيش وجوده بلا صخب الطائشين، والمغرضين، والأفاكين. صخب إذا انطلق بين شرايين الأرض، فإنه يحدث في الأحرار زلزالا، وفي العبيد إذلالا. صخب يكدر مسير حياة الإنسان نحو لحظة التسامي عن أوضار إفلاس قيم التاريخ، والحضارة. ولا غرابة إذا احتاج الحر إلى حدو، لا إلى صخب، لأنه يمشي إلى ما غاب عنه، ويقطع المراحل من أجل بلوغ مجهوله، وهو يريد أن يقف بين المنازل بلا تعب، ولا شقاء. وكل صخب يبلبل الفكر، ويربك السير، فهو تضييع لوقت الوصول، ولحظة الانتصار على العجز، والنقص. ومن هنا تكون الحرية دليلا إلى راحة النفس، والعقل، والقلب، لعلها تنشط حركة كلياتها في ظل حكم عادل، يقيم المساواة بين الألوان، والأطياف. فأي نبل هذا الذي غرد به عصفور الاعتدال النفسي والاجتماعي في صديقنا فهد.؟ أجل، إن راحة البال، والحرية، والكرامة، والسيادة، لا يستقيم وجود أمرها إلا في ظل نظام ينظر إلى الاختلاف بنظر المساواة بين الناس، لا في ظلام الفوضى التي يتسلل منها اللصوص إلى دورنا، لكي يخربوا ما كمن فينا من اتزان، واستقامة، ويسرقوا ما بين أيدينا من مبرات، ومسرات. إذ الفوضى عودة إلى البَدائية، وكل فكر يهِم بأن يعيدنا إلى الوراء بلا غاية، فهو لا يترجى إلا لحظة فقداننا للاستواء في الطبيعة، لعله يستعبدنا بأوهامه التي يلبسها كثيرا قماش الدين.
إننا قد خلقنا في الأصل أحرارا، فاجتاحتنا جحافل المكر، ثم استرهبتنا، واستعبدتنا، لئلا نحس بذلك اليوم الجميل الذي نخطر فيه بين البساتين، فنقطتف زهرة الياسمين، ونطارد الفراش، والنحل، ونسمع صوت العصافير المزقزقة على أفنان الأشجار الباسمة. هكذا يتحول العالم من طبيعته الغَنَّاء بأصواته، وألحانه، إلى مسرح تتبارى عليه الديكة، والتيوس، والثيران، والقردة، والخنازير، والفيلة، والنمور، والسباع. فمن الأولى بالانتصار.؟ ومن الأقرب إلى الهزيمة.؟ شيء لا نحدسه، ولا نتخمنه، ولكننا نوقن بأن الرهبان لم يأتونا في صورة الذئاب، والثعالب، بل ولجوا علينا كالحملان الوديعة، وجباههم معفرة بالطين، ولحاهم ترشح قطرا، فأغرونا بما نعتقده في عالم السماء من خير عميم، وحين اندسوا في ملحمتنا، انسلوا من عجينة طينتنا، لكي يصنعوا لنا دينا غير الذي نعرفه، وعقيدة غير التي نعتقدها، فحكموا علينا بالاستعباد، والاسترقاق، وإلا كان مصيرنا الموت، والهلاك. هكذا تحول المشترك بيننا إلى وأد لأحلامنا، وقتل لآمالنا. ولا غرابة إذا ترجينا من عالم السماء أن يعيد إلينا بسمة هذا الدين، ونقاءه، وصفاءه.
لم يكن الرهبان أصدق منا لهجة حين نطقوا باسم المعبد الذي سرقوه، وباسم الهيكل الذي نجسوه، وباسم المحراب الذي لطخوه، بل أغرقونا بين معرات التاريخ، فأحيوا ما فيه من ثأر، وانتقام، وأوقدوا به نارا تحرق الحاضر، والمستقبل. وكيف لا نستشعر مع فهد الرئيسي أننا نحتاج في تحويل البوصلة إلى معرفة الاتجاه الذي يقودنا إلى الأمام، لا إلى الوراء،؟ لأن ما وراءنا، هو ما نحن قائمون به في الحقيقة، لا ذلك الوراء المستغرق في العماء، والمستوحش بالهباء. كلا، إن حرق الحاضر والمستقبل بالماضي، لم نلعن بلعنته إلا حين قاتلنا أوغاد على الاعتقاد به. وإلا لما قال فهد الرئيسي: وأن نحول بوصلتنا نحو المستقبل، ونودع الماضي وصراعاته، وأكاذيبه. شيء يعيشه الإنسان المتألم من عناء حاضره بسبة ماضيه، وهو لا يملك إلا أمنيته في أن يعيش هادئا وآمنا بين خضم الحروب التي أقامها الفكر المتوغل في الحاضر بصراعات الماضي، وأكاذيبه. أجل، لم يكن الحاضر الذي أهان حرية الإنسان، وكرامته، إلا نسخة من الماضي الذي دارت عليه رحى الصراعات القاتلة بشراسة، وعنفوان. فأين الحاضر المستبطن، والمستقبل المستكنه.؟ فالحاضر الذي يطلبه فهد الرئيسي من عالم السماء، هو الحرية، والعدالة، والمساواة، والمستقبل الذي يحفد إليه، هو غد المعرفة، والعلم.
دمت أخي فهد الرئيسي صادقا مع ذاتك، ووطنك، وأمتك، وأحيي فيك جميع العمانيين. ولكم مني ألف تحية، وملايين ورد المحبة، وبلايين حمامات السلام. تحيتي.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عطر الصباح جنون الكتابة
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - رسائل إلى السماء الرسالة الأولى