أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نائل الطوخي - سيدة السواد















المزيد.....

سيدة السواد


نائل الطوخي

الحوار المتمدن-العدد: 1360 - 2005 / 10 / 27 - 13:07
المحور: الادب والفن
    


1
أعطاني محمود مخطوطة الرواية ثم فتح النافذة و قال لي (هاتمطر). قلت له أنني أحب السير تحت المطر و سألته عن أقرب مكتب تصوير في المنطقة. وصف لي واحداً بعد شارعين و حذرني من النزول في هذا الجو.
سرت تحت المطر مخبئاً المخطوطة داخل سترتي خوفاً على الأوراق من البلل. حثثت الخطى نحو المكتبة التي وصفها لي. كنت أريد الوصول بسرعة حتى أتمكن من تصوير المخطوطة ثم الذهاب بها إلى دار النشر قبل أن تغلق أبوابها.
كان المكتب ضيقاً بشكل مبالغ فيه. على الحائط الذي في اليسار كانت معلقة صورة البابا كيرلس الخامس. فور دخولي المكتب تصفحت المخطوطة و وجدت بعض الصفحات قد ابتلت من الأمطار. كان ثم كلمات قليلة قد بدت غائمة بسبب ذوبان الحبر الأسود على الأوراق. لم تكن تلك الكلمات كثيرة. كلمة أو كلمتان و لم يكن الأمر خطيراً. تناولت مني العاملة في مكتب التصوير, ذات المظهر الذكوري و كأنه لرجل في الخمسين, المخطوطة و مضت تقلب صفحاتها بسرعة ثم حلت الورق من الدوسيه و أدخلته في ماكينة التصوير.
بدت الماكينة لي مضحكة لأمر ما. كانت تبدو عتيقة للغاية. كنت أراقب الماكينة من بعيد و هي تخرج الأوراق بسرعة البرق. فكرت في أن هناك أشياء كثيرة كتلك ذات مظهر خداع. إنتهى تصوير الرواية في دقائق. إقتربت لأتفحص النسخة المصورة. سرعان ما رفعت رأسي بدهشة و أنا أمسك بالنسخة و أقلبها بين أصابعي
- الرواية!؟
- مالها!؟
- مش هي..مش بتاعتي..
و كأنني لم أجد أفضل من هاتيك الكلمات لأعبر عما في داخلي فقد صمتُّ و أنا أنظر إليها شاكياً. أجابتني هازة رأسها (الماكنة عطلانة). لم أفهم. كانت في رأسي فكرة واحدة تدور حول كوني لن أدفع قرشاً واحداً إضافياً في نسخة من رواية ليست روايتي. إختطفَت الأوراق من يدي و كأنني انتهكتها. وضعت الأوراق في دولاب صغير ثم كشفت الغطاء عن ماكينة زيروكس جديدة في ركن المكتب و مضت تدس فيها أوراق الرواية الأصل.
2
ورثت نرجس مكتب تصوير و ماكينتي تصوير عن أبيها. كانت ماكينة منهما خربة منذ زمن بعيد. لم تكن تنسخ كما ينبغي, أو تنسخ بشكل مشوه غير أن أبا نرجس كان يفضلها عن الماكينة الأخرى, الزيروكس التي اشتراها قبل وفاته بشهر, و كان حريصاً طيلة هذا الشهر (و قبله أيضاً في الواقع إذا أبدلنا الماكينة الزيروكس بماكينة أخرى باعها فور شراءه للزيروكس) على تمرير الورق الذي يطالب بنسخه في الماكينتين على حد سواء, و في الماكينة اياها, الخربة, قبل الأخرى.
هكذا ورثت نرجس تلك العادة عن أبيها كما ورثت المكتب و الماكينتين, و إذا ما توسعنا في الحديث عنها فيمكننا القول بأنها لم تبدع شيئاً لذاتها بل كل ما تقمصته كان ميراثاً عن أبيها, جميل إرمياء, حتى بدت شبيهة به في مظهرها العام و سلوكياتها. تندر الناس إذ رأوها لا ترتدي إلا نفس البلوزة و الجيبة السوداوين قائلين بأنها قد ورثتهما عن أبيها, مع المكتب و الماكينتين و العادات الشخصية.
3
أستطيع الآن أن أقول واثقاً بأن الرواية التي لمحتها من بعيد تخرج من فتحة ماكينة التصوير كانت هي روايتي, إذا ما كان لرؤية من على بعد مترين أن يوثق بها, بنفس تقسيم الصفحات و الهوامش و كلمات العناوين المكتوبة ببنط كبير. أما فيما بعد, و عندما تقلص المتران إلى ثلاثين سنتيمتراً فقد كان الأمر مختلفاً. هل كان هناك من قال بوجود حياة خاصة للحرف, أي بتحركه على الورق بمرونة فيكون خادعاً و زمبركياً إذا ما أردنا له الثبات لتفحصه؟ أو هل من قال بوجود عدد من الأبجديات على حسب ما تسمح به حركة لحرف سيال لا يني يتراقص و يومض؟ أو هل من تحدث عن سواد الحبر؟
خيل إلى عندما تفحصت الرواية أمامي أنني أرى حروفاً كثيرة في حرف واحد تتبادل ذواتها. يتحول الحرف من أ إلى ب, في أبجديات مغايرة تماماً, بينما في نفس اللحظة يتحول من ب إلى أ, غير أن الأغرب كان السواد. يمكن للسواد أن يكون قاتلاً و قاتماً حال تعاملنا معه بهذا الشكل غير أنه قد يكون هكذا أيضاً إذا نظرنا إليه ببراءة أو, كما في حالتي, بدهشة خفيفة لم تتحول بعد إلى ذهول غامر.
خيل إلى أن الحبر الأسود يعنيني أنا و كأنه يهاجمني. غير أن هذا لم يكن يحدث. كان الأمر كأن عفاريت السواد تمثل مسرحية أمامي مبتعدة عني بكيلومتر غير أنها كانت تنظر باتجاهي بشيء من المكر و السخرية مما سوغ لي الشعور بالخوف منها أو كأن الأمر فيلماً ثلاثي الأبعاد مع كوني واعياً بأن هذا السواد مازال أمامي و أنه ما كان و لا سيكون يوماً بجانبي أو يسمح لي بمشاركته عبثه الصبياني و الشيطاني.
لم أستطع تمييز كلمة مما كتبت في الأوراق, و كانت الأوراق محتفظة بهويتها كأوراق بصرامة مثلها مثل الحبر و السواد. خطر لي الإمساك بأول الأوراق غير أنه حتى هذا الإجراء الفسيولوجي لم يساعد على تمييز شيء ما. كان أول الأوراق هو آخرها و قد تكون الرواية قد تكونت كلها في حرف واحد بسيط من هذه الحروف الزئبقية.
كانت العاملة في المكتب تنظر إلي بنظرة محايدة. كانت هي الشيء الوحيد الذي استطعت أن ألمحه فيما خلا السواد الوحشي الذي غزا عيني. و ذلك لأن السواد قد ارتبط بها مباشرة. لم يكن هناك فارق بين السواد في الأوراق و بينه في البلوزة السوداء التي ترتديها و أمكنني أن أقرأ بعد معاناة شديدة الصفحة 137 من الرواية تتبعثر على جيبتها, و في ملامحها رأيت ملامح ثلاث شخصيات من الرواية. كانت تقود السيارة و هي ترقص و تُغتَصب و تدخن الشيشة في الحسين, و كان صوت جميل إرمياء يأتيني ممزوجاً بروائح من أماكن لم أزرها و إن كنت مازلت أملك الجرأة للكتابة عنها.
4
لم تكن سيدة السواد, هكذا أطلق كاتب ما على نرجس جميل, سيدة سواد بالمعنى الكلي للعبارة. كانت هناك ورقة بريئة وحيدة خرجت, ناجية بعذريتها, من ماكينة التصوير. و هذا كان سراً أراد له جميل إرمياء أن يكون مدفوناً طوال العمر غير أن هذا ما كان بالإمكان. حدث ذلك منذ ثلاثة عشر عاماً. هكذا خمنت نرجس عندما تفحصت الورقة و هكذا خمنت المشهد كما حدث وقتها.
وضع جميل البطاقة الشخصية الخاصة بالشاب الذي على أهبة التجنيد في الماكينة و خرجت كما هي, أو كما ينبغي لنسخة مصورة من بطاقة شخصية أن تخرج, نقية و متطابقة مع أصلها. تأملها جميل بدهشة (و لنا أن نخمن: ممزوجة كذلك بغضب و خيبة أمل كاسحين) بينما امتدت يد الشاب لتقبض عليها. أمسك جميل بيد الشاب بعنف و أبعدها. إرتدت يد الشاب في صدره و كاد يقع و كاد يلكم العامل في المكتب لولا أن هذا ضغط على الزر مرة أخرى بعصبية حتى خرجت نسخة ثانية نظر إليها برضا ثم كرر المحاولة للمرة الثالثة في ماكينة أخرى, لم تكن زيروكس و لم تكن جديدة غير أنها كانت ملائمة, و عندما خرجت الورقة الثالثة أعطاها للشاب.
بالنسبة للورقة الثانية وضعها جميل في دولاب صغير خاص عرفت نرجس كل خصائصه أما الأولى فقد حفظها في مكان سري في برواز معلقة فيه صورة البابا كيرلس على جدار بالمكتب.
لماذا لم يعدم جميل إرمياء الورقة الأولى المارقة و قد كانت كفيلة بتذكيره بفشله لدى تطلعه إليها؟
تصعب الإجابة على هذا السؤال إذ نحتاج إلى معرفة عميقة بدخائل النفوس و إن كان الأصل في شخص مثله هو إعدام الورقة فقد يكون الأصل كذلك مغايراً تماماً إذا ما علمنا شيئاً عن طبيعة جميل إرمياء الإيمانية. نستطيع استنتاج أنه بما أن جميل إرمياء كان يؤمن, إيماناً نابعاً من الكتاب المقدس بالأساس, بأنه ليس من سر يظل سراً إلى الأبد, مع كل محاولاتنا الدائبة لإبقائه خافياً, فقد خبأ الورقة وراء صورة البابا, مضيفاً بذلك مزيداً من الغموض إلى غموضها الأصلي, كنوع من مد يد المعونة للرب كي يمارس حكمته الخالدة بدون عراقيل أو لجوء إلى المعجزات.
بهذا فقدت نرجس كل إيمان لها بالعطل الساحر لماكينة التصوير خاصتها, مما أوقعها في وساوس عديدة لم تهدأ إلا و الماكينة تواصل تشويهها لكل الأوراق التي تصلها بعنف لا يهدأ, مما حول نسخة البطاقة الشخصية إلي استثناء وحيد لا يعتد به, هكذا كانت نرجس تفكر في لحظات حبورها, غير أنه مازال لا أحد ينكر قيامه, هكذا كانت تفكر حال اغتمامها.
5
خطر لي اليوم أن أطالب بروايتي, أعني النسخة الأولى, الضائعة و اليتيمة, للرواية و التي خرجت من تحت يد سيدة للسواد لاقيتها مرة في مكتب تصوير. ذهبت إلى المكتب. لم أعرف كيف أصيغ كلماتي المرتبكة غير أنها فهمت في نهاية الأمر, بل و لم تتخذ رد فعل عدائي كما توقعت. جلست على الكرسي و مضت تفكر. سألتني في النهاية عما إذا كنت أطالب بالرواية فقط فأجبت داهشاً و هل هناك شيء آخر أطالب به. قالت لي أنها ستمنحني المكتب و ماكينتي التصوير هبة منها. لم تكد دهشتي تفرغ حتى وجدتها تخلع ملابسها. بلوزتها السوداء و جيبتها السوداء و ملابسها الداخلية. نظرت للباب المفتوح بذهول ثم إليها و خطر لي أن تكون تلك دعوة لممارسة الجنس معها. مددت يدي نحو أزرار المعطف بتردد شاكّ إلى حد بعيد حتى سمعتها تأمر (ما تقلع!). خلعت ملابسي في لحظة و بدأت هي تلبسني ملابسها بدءاً من السوتيان و اللباس و حتى البلوزة و الجيبة. و برغم ضآلة حجمي إلا أن ملابسها كادت تتمزق على و بدا أنها لن تصلح للارتداء أكثر ممن مرة. بدت ساقاي المشعرتان مضحكتين و هما تطلان من وراء الجيبة القصيرة. كانت سيدة السواد قد خرجت و لم أعلم كيف و لا ماذا ارتدت غير أنها قد تركت حقيبة يدها على ماكينة التصوير.
جاءني رجل مسن يطلب تصوير عدة أوراق. وضعت الأوراق في آلة التصوير و أخرجت مرآة صغيرة و إصبع روج من حقيبة اليد التي كانت متروكة على الماكينة. مضيت أصبغ شفتي الشهوانيتين بمتعة.



#نائل_الطوخي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بمناسبة عدم حصوله على نوبل! أي حظ! لن نسمع دفاعا عن شارون يل ...
- ما لم يفعله وزير الثقافة المصري فاروق حسني.. سلطات تحتمي ببع ...
- هل هناك -هوية يهودية-؟ .. قراءة في مقالة للأديب الإسرائيلي أ ...
- خطايا فيروز الكبرى... لماذا لا يسمع المصريون فيروز
- سرير الجيش.. السرير المحمول
- إمكانية السرطان
- الأمن المركزي المصري.. القاهرة المتشحة بالسواد و جدار السجن ...
- إعلان حسني مبارك ترشحه لانتخابات الرئاسة..الإفلاس البليد لبا ...
- رواية مرآة 202 لمصطفى ذكري.. هوس البدايات غير المكتملة.. الت ...
- نوال علي و سوزان مبارك.. كيف تستخدم -نسوية- النساء في مظاهرا ...
- - مجلة ميتاعام الإسرائيلية: الصهيونية كفر تعجز اللغة عن احتو ...
- سوزان مبارك.. الجبلاوي وقصر البارون.. كيف احتفلوا بمرور مائة ...
- ثلاث صفحات فارغة
- عبد مجوسي الذاكرة و قال كلمات
- لحظات لا يستحب فيها الإسهاب
- عن الفيلم الإسرائيلي (صهيون.. الأراضي).. ترجمة و تقديم نائل ...
- الشعر كائن ضعيف الذاكرة في ديوان منتصر عبد الوجود الأول..
- عن الشعر الإسرائيلي الرافض للاحتلال, دافيد زونشايم, ترجمة و ...
- لون الدم
- محاورات في الترجمة


المزيد.....




- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نائل الطوخي - سيدة السواد