أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - عطر الصباح جنون الكتابة















المزيد.....

عطر الصباح جنون الكتابة


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4963 - 2015 / 10 / 22 - 15:31
المحور: الادب والفن
    


جنون الكتابة
إلى كل كاتب يحمل في عمقة جمرة، وهو يريدها أن تكون كلمة، أقول:
يولد مع الكاتب جني الكتابة، فيقتله بالقرآءة، ثم يحييه بالتجربة، والتأمل.
فما هي الكتابة عندي.؟
الكتابة هي صناعة للحروب التي تدك قلاع الدجل والخرافة والوهم بلا دماء.
ما معنى الكتابة في الذات.؟
تتوارد على صفحة عقلي مئات الأفكار الغازية، وعشرات الألفاظ الشاردة. وكأنني أعيش مخاض ولادة عسيرة، تحتاج مني إلى عملية قيصرية حتى يكون وليدها مستمتعا بالحياة الخالدة، وإلا، كان طيفا سارحا، يمر على الديار خلسة، ثم يغيب بلا أثر. فلِم تجلسني اللغة على أوراق السرخس.؟ لو كانت كل الأحاديث قادرة على أن ينالها الصوغ الأدبي، أو المعرفي، لكان كلام المقاهي بلسما لأزمات أدواء أمتي. لكن كثر المتحدثون عن آلامها، وأوجاعها، وقل المجيدون في حكاية أحوالها، وأذواقها.! أمر أدركته منذ زمان، وأنا طر اللحية، وبض اللمحة، تقودني أفكار المؤامرة إلى وقاحة الزمن الذي لم يرحم رغبتنا في الحياة الجميلة.
كنت في تلك اللحظة أستمتع كغيري بخطابات حماسية، تخلق لنا أفقا قريبا من آمالنا، وأحلامنا، وترسم لنا كونا آخر لا مقام فيه للشياطين، والأبالسة. أفكار، وأوهام، كلاهما سواء، لهما صولة، وجولة، يؤثران في فكرتي، ونظرتي، يؤديان بي إلى آماد بعيدة، وفضاءات غير متناهية. في تلك اللحظات كنت قادرا على كتابة ما أحس به من أحاسيس التفوق النفسي، والرقي الاجتماعي، وأشعر به من عاطفة فاقدة للوعي بحقائق الأشياء المكتنزة لرموز وإشارات تحمل سرا عميقا، وإن تظاهر مظهرها عندنا بثوب قشيب، ولون غريب. لكن حرفي وإن أطاق الإفصاح عن قهر الزمن لرغبتي في عافية أمتي، فإنه لم توجعه فصول الزمان الأجلب، ولم تعركه التجربة التي فاض كأسها بسم زعاف، شربته كمدا في مدينة تهاطلت عليها الشياطين في صورة الملائكة، فجعلوا أنفسهم قديسين، وغيرهم زنادقة منحرفين. فالحرف في تلك اللحظة كان غضا، طريا، ثم استحال مع جريان ألم الغربة يشتد قوة، وحماسا، ويمتد حزما، وعنفوانا. وكأنه بدأ يعيد ولادة ذاته من جديد، لكي يشرب خمرة الحياة من صخب الوجع، وجلب الورع.
كانت الحماسة برهانا على اهتمامنا بالدم المسفوح على أرض وطننا العربي، والإسلامي، ودليلا على إنكارنا للخراب والدمار الذي يدك حصوننا، وقلاعنا. لكن أنى للحماسة أن تكون برهانا على قوة الفكرة في الأذهان.؟ لا أدري لم أحسست بهذا الحرف منذ صباي.؟ فهل وهبه القدر لي عند تفريق الأرزاق على الخليقة.؟ أم هو المِلك الوحيد الذي سيكون لي حين لا يكون لجِرم الذات إلا ضيق مسام هذا الرصيف المتناثر الأوجاع.؟ أجل، لم أملك سواه بين حفر السؤال، وخنادق الشك، وقد ملك غيري ما يجعله مستغنيا بغروره المستعلي عن طلب الحقيقة، وملكت من الدنيا فكرا شقيا، ووعيا عصيا. فلا تلمني إذا دفعت ثمن اجتثاث ذاتي من الوهم بما ضاع من حسن الأحوال في حياة بدأت خواطر الموت تدوسها بخفافها الخشنة. فما الحزن بمعرة عندي، بل هو الشقاء عند من رأى لحظة الانتشاء بفرحه في بيع ذاته، وضميره، وغبن تاريخه، وأمته. كلا، بل العار لا يحس به من اقتطف وردة الحياة من مستنقع الخسة، والضعة، ولا من سفد أنثى عشقه على سرير النجاسة، والوضاعة. فما أشقانا، فملايين المشاعر المتألمة لم تتآلف بين ذواتنا، إلا حين أدركنا في الحب سلاما، وفي الجمال أمانا، ولم تتعارك في واقعنا، إلا حين أيقنا بكمال الصورة في هاتفنا بحرية الإنسان، وعدالة الكون، ومساواة الطبيعة. فأي غبن هذا الذي أصاب قوما اشتروا بقاء الذات بوسخ الحظوظ الحقيرة.؟ لم أرغب في يوم من الأيام أن أهجر ذاتي، ولا أن أحارب لذاتي، ولا أن أعاتب نصيبي، لأن شتات الحلم، وبعثرة الأمل، لا يؤدي بالهمم المتقدة بالشوق إلى اختراع مسوغات في الذهن العليل، لكي تستقبل الذوات المعلولة زهور الأماني بأيد عطشانة، وأنظار سكرانة.
قد نقاوم الآخر، ونجابهه، وننازله، وإن أدركنا هزيمتنا، وأيقنا بفنائنا، لكن حين تسكننا أوهام الحقيقة، فإننا نقاتل من أجلها، ولو خربنا الكون، وهدمنا قانون الحياة. تلك هي اللبدة التي لبسها الإنسان المنكسر الخاطر من زفير الصراعات، والنزاعات، واللغة التي احتفظ على لوثة رسومها، ونقوشها، لئلا تنفلت منه تلك اللحظة التي أحس فيها بأنها هي حقيقته، وحقيقة هذا الكون. ولعلنا إذا حاولنا أن نعارضها، أو أن ننازلها، فإننا لن نجد في طريقنا إلا صوت السجان، والجلاد، وظُلَم القبور، والكهوف. وكلاهما يتوعدنا بالموت، والفناء، ويغرينا بالصمت عن لاعج الحرية، لكي ننال في عبوديتنا سمو الموارد، ودنو الموائد. فإن قبلنا بالحياة كما هندسها من اخترع وجودنا بين الأرزاء، والأدواء، فلا محالة سنختال فيها بطيش الحظ، والنصيب. وإلا، فإننا لن نعيش اللحظة إلا بألم، وضجر، وكمد، ولن نحمل إلى رموسنا إلا بذل، وهوان. فما أبلهنا في كثير من لحظاتنا، لأننا نحمل في دواخلنا أفكارا تميتنا، ولا تحيينا، وإذا تجاوزناها، ترجمنا حقيقة ما وجدنا له في العنوان الأكبر للقضية. وهل وجدنا إلا لنتخلص من شقاء الحياة، وغول الأماكن.؟ قد ندمر الذات، لكي تعيش، ونقتل أرواحنا، لكي نحيى، وربما نغتال أبناءنا، وآباءنا، لكي نحس بأننا امتلكنا بطاقة الوجود، وسعادة الحياة، وربما نصارع الصديق، والرفيق، لكي نبني بغوائل الانهزام فسطاط الانتصار، وسرادق الأمان. لكن أي غباء هذا الذي يقودنا إلى غرس وردة الأمان بين مجاهل الأحلام، وغوائل الآثام.؟ لو أيقنا بأن ما تدعونا إليه أفكارنا من هواننا، وزوالنا، هو سبب في تعاستنا، وشقاوتنا، فإننا لن نكون معتوهين في مراودة الأماني التي تأسرنا، وتسجننا، ولن نتحول في مرآة الوجود إلى أشباح فاقدة لملامح الإنسان، ولو أعولنا بأننا صنف من أصناف النوع البشري.
إن صناعة السِّحر في جدائل الأشياء الجامدة، ليس هو السِّحر فيما نحن به موجودون حركة، وطبيعة. لأن تخيل حركة الأشياء الثابتة بقوتنا، ليس هو إحساسنا بحركتنا في الأشياء المتواطئة مع الزمان، والمكان. هكذا يكون الكاتب حين يملك فك لغز الطلسمات التي أنتجتها الطبيعة، ويعرف كيف يحرك صور هويات المعاني في باطنه، لا في خارجه، ويدرك طريقة صناعة جودة صوته الذي لا يحاكيه غيره. فلا عليه إذا أغرى العقول، وأسبى القلوب، لأنه لا يترجى ذلك بحرفه، ولا يتمنى أن يستعبد غيره بسطوة ذاته. بل ما في عمقه من قوة، هو سر ذلك الساحر العظيم الذي يستوطنه، وهو البريد الذي يقطع الآفاق لكي يوصل ألفاظه إلى غيره. وكل كاتب لا يمتلك هذه الطاقة السحرية في عمقه، لا يمكن لحرفه أن يكون زمنا طويلا، وعمرا مديدا. فما الذي يجعلنا نسير مع الزمن، ولو تهدم حصن الذات، وزال الجسد عن الكون، وذاب ملح الحياة، وغاض الأمل في الوجود.؟
لم يكن امرؤ القيس مؤمنا بما يؤمن به من ظن الحقيقة ميراثه من تاريخه، ولم يكن أنينه مسموعا في أذن من نجس معبد التاريخ، والحكايات. بل كان صوته أمميا تجاوز حدود الحجاز، والفرس، لكي يتحول إلى همس يتهامس به المحرمون، والمعذبون. فما الذي جعله اليوم يعانقني على كثيب هذه القرية الموغلة في البعد، والبين.؟ لم يكن يخطر ببال الملك الضليل أن يكون صوته مسموعا للجنادب التي تئز بأزيزها على شجرة "أركان"، ولا للجبال التي تفجر منها بركان الشراسة، والصلادة. لكنه سُمع هناك، ونحن نسير بالبغال من واد من واد، ومن ربوة إلى ربوة، لكي نقف على كهف "تقندوت" مسلمين للأرواح العلوية. فأي جنون هذا الذي أصاب المكان، وقد حمل في عمقه عشق الأسطورة.؟ لم أدر هل كانت تقندوت، هي عيشة قنديشة، فصحف الأمازيغ اسمها، كما حرف العرب حروفها، فصارت عائشة القديسة قنديشة هي العرب، وتقندوت عند الأمازيغ.؟ كل ذلك مروي عند من عرف جغرافية ما هو ميثولوجي في بطن طين حاحا العريقة. لكنني لا أستغرب حلولها بمغارات وأوحال بلدتي، لكي تحمل إلي قصائد امرئ القيس طرية، وأحمل إليها رسم تاريخ أدار عنه غيري ظهرَه، لئلا يبتئس بما فيه من غربة، وهجرة. فمن الذي أوحى إلي أن أستمتع بامرئ القيس في ظلمة الكهف، وأتعرف في عالمه الأسطوري على ما تحمله تقندوت من عقل جمعي، ووعي جماعي.؟ شيء كامن في حرفه، لا يحتاج إلى استدلال منطقي، هو الذي جعلني أتعرف في سواد الأماكن على النفوس الطيبة، والعقول البسيطة. ولولاه، لما اخترق شعر ذي القروح أصنام الأزمنة، والأمكنة، لكي نتعلم منه اليوم كيف يكون الكاتب عمرا طويلا. وكيف يكون دوران التاريخ مع حركة الأسطورة أمرا مقدورا.
لعل ما جاءنا به الزمن من كتب قديمة، لم تكن قادرة على الخلود في أبجدية العقول التي ناضلت من أجل لقمة الحرية، لو لم تكن فيها روح مقتبسة، تحيى به رمة الحروف إذا ماتت، وانتسب كل واحد إلى ديموغرافية تبعده عن وطن الحرف الأول، والكلمة الأولى، والمعنى الساري بين الوجود بلا انفصال. وكل ما في كتب الأقدمين من سر البقاء، قد يكون من إخلاصهم، وصدقهم، وقد يكون من قوة تعبيرهم عن أوجاعهم، وأفراحهم. شيئان متقابلان في مكررات المؤرخين، ومدونات الأدباء. فالأول يظهر لنا سر القضية. والثاني يبين لنا قوة الذات على صوغ أحداث الماضي في لحاف الحاضر. وهما عمليتان للكاتب الذي يعبر عن أناه بمقدار إحساسه بحرفه، فلا يستغني عن الأولى، ولا عن الثانية. فالأولى تجعله مهموما بما في أمته من فوادح الآلام، وتصيره محاربا لجهلها بما يرسمه من معالم مستقبلها الآمن. والثانية تجعله لسانا ناطقا بما لم يطق أحد البوح به من أحزان مكبوتة، وأفكار ممنوعة. وهنا تفرد الكتاب عن غيرهم، وتميز حديثهم عما ينبث بين الأجواء من بخور الخداع، والنفاق. وكل كاتب لا يمتلك في كيسه ما يقدمه من هدية لنبض أمته، ودموع مجتمعه، وأمل ذاته، فليس له إلا صديد فروج يصطاد منها لعاب قلمه، وريق حرفه. وكل كاتب لا يبوح بما صمَت لفظُه في حريق قلوب العطشى، والجوعى، والسكارى، والصعاليك، والمجانين، فلن يكون ترياقا في حوصلة الذين يبحثون عن الحقيقة، وعن البراءة، وعن البساطة.
قد يكون ما كتبه أبو الفرج الأصفهاني أو الجاحظ أو المبرد أو التيفاشي أو غيرهم ممتعا لي في عطر صباح يتهلل بين الزهور الذابلة، لأنني لم أتعود على جعل عقلي رقيبا على ما أقرأه، ولا حسيبا لما أستوعبه، بل أتذوق المباني، والمعاني، وأكررها، وأرددها، ولا أحمل ما فيها من سم المعتقد، بل أنتشي بما فيها من صوت الإنسان، وصورة المجتمع، وتناقض الحياة، وضلالات الكون، ورزايا الوجود. وقد يكون متفجر الألم الذي يغدو مع الطول شقاء يقودني نحو الهجر، والفقد، واليأس. شيء فريد كتبوه، وخلدوه، لكن أنى له أن يكون موقعَ فهمِ جلفٍ عِجلٍ لا يبتسم في وجه الطفل، ولا يحدب على اليتيم، ولا يعطف على المحروم.؟ لن يكون ما كتبوه نبراسا له في فهم مراتبِ وعيِ الإنسانِ بذاته، وبمجتمعه، لأنه غدا من شدة الاغترار مَعْبَدا توزع فيه حصة الحقيقة، ونصيب الجنة. فهو لم يرد أن يلج الإنسان جنة الدنيا، ونعيم الحياة، بل منَّاه، ووعده، وطالبه بنسيان الدنيا، لعله يظفر بما غُيِّب عنه في حياته، وحين نسيها، اغتال منه الأمل المتفجر بحرارة الآمال، لكي يصنعه بلا عقل يدرك به هبات الوجود، وبلا قلب يشعر بما في ذاته من وجدان. فيا ليته علمه كيف يتطهر في جنة الدنيا، لكي يكون أهلا لدخول جنة الآخرة. فلا غرابة إذا كان لهؤلاء المهمشين أثر فينا، لأنهم نطقوا باسم عقيدة الإنسانية، وباسم حياة البشرية. فحكوا المتناقضات، والمتعارضات، وسواء حكوا طاعة، أو حكوا معصية، فكلاهما في الإنسان موجود، وكلاهما حقيقته التي لن يسير إلا في عتمتها، أو في نورها.
فرق كبير بين ما كتبه الأقدمون في علم العقائد، والفقه، والأصول، وبين ما كتبه غيرهم في فنون الأدب، والتاريخ، والسير، لأن العلوم الأولى كانت معيارية، لا يأتي فيها المؤلف إلا بجديد في التخريج، أو التعليق، أو التحقيق. وهذا قصارى ما يفي به الجهد في علوم وُضع أسها بلا قبول للنقض، والنقاش، لأن لغتها محدودة، وإن تطورت في تركيبها، فمعانيها ما زالت كما هي في الأول. لكن الكتابة في النوع الثاني، هو استنباط من الذات، ومما فيها من لواعج، وسواطع، وأشجان، وأحزان، وأفراح، وأقراح. بل هي استنطاق واستظهار للصوت المحروم، أو المكتوم. وسواء كان وجعا في النفس البشرية، أو صمتا في الشجر، أو الحجر، أو صخبا في الغدران، والوديان. فالصوت هنا محصور، ومقصور، ولا يسمعه إلا من فقه ما في ذاته من أصوات تنطق بلا حروف. وقل من يناجي ما في الصوامت من شفوف ألفاظ الهمس، أو النجوى، لكي يكتشف لغتها في الفطرة، والطبيعة، فيحاكيها بما تفجر في عمقه من لغة سارية، وسارحة.
فالكاتب هو الذي يقرأ هذه الحقائق الخفية، ويدرك المسكوت عنه من المنطوق، ويتعرف على الضد في ذكر مقابله. لأن الكتابة صناعة، ولا غرابة إذا ألف ابن قتيبة كتابه "أدب الكاتب." أو ألف أبو هلال العسكري كتابه في "الصناعتين.". لأن الكتابة الحرة صناعة للجواهر، والصدف، والشظايا، ولكنها ليست معيارية كما حاول العسكري وابن رشيق وغيرهم أن تكون. لأنها لو كانت معيارية، لما نحت الإنسان صورا لمرائيه بلغته. بل لو كانت معيارية، لقتل الجمود عقيدة الكتابة، ولحطم الكساد قيمة الحرية في الإنسان. فالكتابة هنا استقراء، واستظهار، ولا يعول فيها إلا على حرف رصين، وفهم رزين، وذوق كمين. وأي تجاوز لهذا، وهو الذات في تجليات علاقتها بالأشياء المتنابذة، لن يجعل الكاتب معبرا عن حقيقته، ولا عن حقيقة حياته.
فالحرف يضايقني، ويعاندني، ولا أطيق أن أخذله، ولا أن أخدعه. فسواء كان نعمة، أو نقمة. فكلاهما يعبر عن الذات المكتنزة لأوجاع شتى. أحيانا، أقول: إنني نرجسي في قراري. فلم لا أكتب ذوات الآخرين.؟ وأحيانا أراني معتدلا في نظري، فأقول: إنني أكتبت ما يعانيه غيري، وما ذاتي إلا مرآة تنجلي فيها آلام مجتمعي، وأمتي. أجل، ليست هذه نرجسية في الكاتب، بل هي عقدة الاختلاف عن الآخر. شيء يحمله الكاتب، وهو جزء من جنون عظمته، ولكنه حق له عند من رأى أن الحرف لا يكون أثيرا إلا إذا حمل ذات كاتبه. لأن الكتابة قبل أن تكون نشوة في ذات منفعلة بما فيها من ألم، أو أمل، فهي الرسم الذي ينقش فيه كل ما يعانيه بين وقائع حياته من قضايا، ورزايا. أجل، إذا لم تكن في جعبة الكاتب معان يعتبرها قضيته الكبرى، فهو المتهم بجزئيات لا تخلق في الذوات أثرا، ولا تشعل في القراء حريقا. فالأثر هو أصل قضية الكاتب. لكن كيف يكون الأثر ورما.؟ شيء يستطيع الكاتب نحته على لوحته، ونقشه على صفحته. وإذا لم تـَجـُد لغته بما يجعل النقش مقروءا، ولا الهمس مسموعا، فهو المغيب بين ألفاظ متنافرة، ومعان متناحرة، وإن بدت له أنها متآلفة، ومتوائمة. والكاتب الذي لا تعتريه نوبة الوجع، فيتألم لما يحترق في ذاته من حروف، ومعان، لا يمكن له أن يكون لوحة كتبت عليها لغة الأشجار، وهزيم الوديان، وأثر العربات، وصوت الرياح، وانكماش الأفق عن الآمال. وما لم نطق أن نجعل القارئ متجاوزا لنقش الحروف إلى رسم المعاني، فلن نصافح كوامن الذوات الملتهبة بالعشق، أو بالهجران، أو بالصدود. شيء استحضره حين أكتب حرفي، فأحيانا تمنعني رمزيتي وسراليتي عن الوفاء به، وأحيانا تمنعني مثاليتي وميتافيزيقيتي عن الإقرار به، وأحيانا تمنعني سبة واقعي المنهار الجدوى من القيام بحمايته، لكنني كثر ما كتبت، وكثر ما أحرقت أوراقي، وقل ما أتملص من رقابة الذات، لكي أقول شيئا أحس به كما هو، من غير تعديل، ولا تحويل.
فواها، واها، إن الكتابة لا تبتغي عوضا عن عقائدها، ولا عن شعائرها، ومتى لم يكن حرفها صوتا نازفا من عمقك، فلن تكون معروفا به بين أقرانك. فالكتابة صوتك الذي يميزك عن غيرك. وإذا انهار حرفك، صرت بلا صوت في حقيقتك. ومن لا صوت له بين كون الطبيعة، فكيف سيخاطب الناس عن سمو الإبداع، وقيمة التميز.؟ بل كيف سيناجي الذوات المعذبة بالقهر، والظلم، والعدوان.؟
إن الكتابة حرفك الذي لا يشتد عوده إلا إذا عركته التجربة، وكان بعد نضارته صلدا، وبعد غضارته صلبا، لا تزلزله رياح الإملاق، ولا تُخنعه أيدي الإنفاق. ومتى كان الحرف صوت تجربتك، كان روحا تسبل رداء معانيها على الأشياء الهامدة، فيتيي أرواحها في الكون بعد انمحاء، واندراس. فأنت في الحرف موجود، لا الحرفُ بك موجود. ومن كان هذا شعار حرفه، وشعورَه، وديدنه، كان أدرى من غيره بجنون الطبيعة، وضمور الحقيقة. وما دام الحرف صوت الأشياء، ونطقها، فإنه لن يكون إلا لغة مشتركة بين الكائنات المتعاقبة على الوجود. وإذا أطاق الكاتب درك تاريخ البشرية بين تواريخ الطبيعة، كان حرفه صوتا معبرا عن البحر، والنهر، وعن الماشين، والجالسين، وعن المتقين، والفاسقين، وعن المعذبين، والبائسين، وعن الأحياء، والأموات. وما لم يحتفظ الحرف على هدوئه في مورد عفة جنونه، فإنه لن يعبر عن الأشياء كما رتبت في لوحة الوجود، ولن يكون دليلا على امتزاج صورة الحقائق المتناقضة بالإنسان. هذا الإنسان، هو تلك الحقيقة التي تحاربها الحقائق، وإذا أعاد الحرف إليها قيمتها، ومزيتها، كان الحرف نايا، ومزمارا، وإذا أخفق في تركيب اللغة بين وشائج الأشياء، فهو مهذار بسفسطة مجللة بالغبن على عتبة دير منكوب، ومنكوس.!
فالحرف يتزاوج مع ذات الكاتب في نكاح، أو في سفاح، ويولد منهما طفل نبيه، أو فسل حقير. وإذا كان الأول قادرا على طي المسافة، وغدا صوت الفرح، والقرح، كان ذلك دليلا على نقاء النطفة. وإذا عجن الإنسان في دجل الشاطحين، كان ذلك دليلا على فساد الأصل، وحقارة الفرع. هكذا الكتابة عندي، وهي الحرف، والإنسان، والحقيقة.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
- عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
- عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص ...
- عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية ...
- عقيدة الكاتب
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
- إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
- تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2
- مقالات في التصوف


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل حسين عبدالله - عطر الصباح جنون الكتابة