أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طوني سماحة - عهد قديم وعهد جديد -2- بين الطائرة والمدرسة















المزيد.....

عهد قديم وعهد جديد -2- بين الطائرة والمدرسة


طوني سماحة

الحوار المتمدن-العدد: 4952 - 2015 / 10 / 11 - 16:35
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الزمن هو أواسط ونهاية ثمانينات القرن الماضي. لبنان يعيش حربا مدمرة منذ خمس عشرة عاما. الوطن ممزق تحكمه دويلات طائفية والوصاية السورية تحكم الجميع. عناصر الميليشيات والجيش السوري يقمعون الناس ويذلونهم ولا من رقيب. المستقبل حالك. أكملت دراستي الجامعية وابتدأت العمل في التدريس. ابتدأت الليرة اللبنانية بالانهيار من ثلاث ليرات مقابل الدولار الواحد لتصل الى الالف وخمسمائة. عند بداية عملي كنت اتقاضى ما يوازي الاربعمائة دولارا شهريا وبعد مضي سنتين أصبحت أتقاضى ما لا يزيد عن خمسين دولارا شهريا. كان والدي يمتلك بيتا. كنا نسكن في الطابق العلوي فيما كان الطابق السفلي يحوي شقتين تم تأجيرهما في الماضي، وفجأة أصبح الايجار لا يتعدى الدولارات القليلة شهريا. حزمت أمري على السفر. حملت حقائبي بعدما كان عمي كفلنا وركبت الطائرة متوجها الى كندا. كنت كمن يمضي للمجهول. أذكر اليوم الثاني لوصولي الى وطني الجديد. استيقظت صباحا بعدما مضى عمي وزوجته الى العمل وخرجت للسير على الطريق. كنت أشعر وكأني أتنشق هواء الحرية. ابتدأت رحلة البحث عن العمل. عملت في التدريس لسنتين ثم انصرفت للتجارة قبل أن أعود للتدريس مجددا كيما استقر فيه.

تركت الهجرة والعمل التربوي بصماتهما على حياتي. فكل مهاجر يمر في مرحلة تسمى "الصدمة الثقافية". تمتد هذه الفترة لأشهر عدة يرى المهاجر نفسه فيها وقد انقطع عن بيته واهله وثقافته الى أن يبدأ بالتكيف مع واقعه الجديد. وفي حالات عدة قد تمتد هذه المرحلة لسنوات، حتى أن بعض المهاجرين يشتد بهم الحنين فيعودون مجددا لبلادهم الاصلية، قبل أن يجدوا انفسهم غرباء فيها فيقررون العودة لبلدهم البديل. لكن ما لفت نظري خلال هذه الفترة أن معظم المهاجرين يحافظون على ثقافتهم خوفا عليها من الاضمحلال في وجه الثقافة الجديدة، والبعض يخلق لنفسه ثقافة بديلة في بلد الغربة لأنه لم يستطع التخلي عن ثقافته الاصلية لصالح بلده الجديد. كان الناس يسألونني أحيانا آنذاك عن سبب الحرب في بلدي ويستغربون انغماسنا فيها. فالحياة في نظرهم قصيرة جدا كيما يحياها الانسان في ظل الخوف والدم. أما في نظري، فالحرب كانت قضية وجود وحرية واستقلال. لا هم كانوا يفهمونني ولا أنا كنت أفهمهم. اختلطت بالكثير من الناس مهاجرين وسكان بلد أصليين. كان لكل ثقافته وكان كل واحد يرى الحياة بحسب ما تمليه عليه ثقافته التي كان يظنها الافضل. تعلمت ان الهجرة تفتح ابواب النجاح للكثير من المهاجرين، لكنها لا تخرجهم من ماضيهم او ثقافتهم. تعلمت أن الثقافة تسجن الانسان في زنزانة الماضي ما لم يأخذ واحدنا القرار بكسر الاقفال وفتح الباب للخروج منها نحو الحاضر. كان اختلاف الثقافات يولد الكثير من المشاكل بين الاباء والابناء. فالاباء طبعوا على ثقافات اوطانهم الاصلية. أما الابناء فبعمظمهم كانوا يتنفسون ثقافة البلد الذي ولدوا فيه. فلا الابناء كانوا يفهمون آباءهم ولا الآباء استطاعوا ان يستوعبوا أبناءهم. حافظ الكثير من المهاجرين على تقاليدهم. فرجل السيخ كان يلبس العمامة على غرابتها في مجتمع غربي، كذلك المرأة المسلمة الملتزمة كانت تلبس الحجاب. لدى الاقتراع لانتخاب رئيس الوزراء، كان الكثير من المهاجرين لا يشاركون في التصويت، ليس كونهم ضد الديمقراطية، بل لأنهم قدموا من وطن لا قيمة للصوت فيه، فالرئيس في أوطانهم يصل الى الكرسي أكانت الاصوات لصالحه أم لا. كذلك الكثيرون يخشون رجل الشرطة ليس لأنه سوف يؤذيهم بل لأنهم قدموا من أوطان يمثل فيها رجل الأمن القمع والظلم. رأيت أيضا في المهجر كيف الكثير من النساء القادمات من مجتمعات ذكورية يعانين من ظلم أزواجهن وتعنيفهم لهن ويبقين صامتات ليس حبا بالظلم بل لأنه من العيب عليهن الخروج عن طاعة الرجل حتى لو كان سفاحا. كنت بين الحين والآخر أسمع عن جرائم الشرف التي لا تنتج إلا من شعوب المتوسط وشرق جنوب آسيا. كانت ثقافة الرجل تملي عليه قتل زوجته الخائنة او ابنته التي أقامت علاقة مع كائن من كان، وكان الرجل يشعر بالنشوة وغسل العار عند قتله المرأة، بينما المجتمع الغربي يرى في هذا العمل جريمة تستحق أقسى أنواع العقاب. وما يستحق التوقف عنده، هو أن ثمة سيدات كن يشاركن أزواجهن في قتل بناتهن غسلا للعار. وبالاختصار الشديد، علمتني الهجرة ان الثقافة قوية جدا جدا حتى ان الانسان احيانا يرفض التغير للأفضل ليس لأنه لا يرغب بالافضل إنما لأن الثقافة لا تسمح له برؤية الافضل، بل تبقيه غارقا في طياتها خائفة ان يفلت منها فتخسره.

أما الامر الآخر الذي غيّر فلسفتي في الحياة فكان الحقل التربوي الذي ما زلت أعمل به منذ ما يقارب الثلاثين عاما. تنقلت في التدريس في مراحل عدة وتعاملت مع أطفال من أعمار مختلفة وتعلمت أن كل طفل مختلف عن الآخر ولكل عمر منهجه المناسب. كان المنهج التربوي ينص على تدريس الطفل مفهوم الوطن والدولة في السنة الثانية الابتدائية. كنت أتفاجأ ببعض الاطفال الذين لم يكونوا يستطيعون التمييز بين المدينة والدولة والمقاطعة والقارة الخ. كان الامر بالنسبة لي بديهيا، فأنا أسكن في وطن ولا شك ان الكل يدرك ذلك. لكن الحقيقة أن الامر ليس بديهيا البتة. فالطفل يولد مجردا من المعرفة ويكتسبها مع الوقت تباعا. ثمة وقت في حياتي، نسيته مع تقدم الزمن، تعلمت فيه أني أسكن في وطن وأن الوطن اسمه لبنان وأن هذا الوطن جزء من تركيبة جغرافية واجتماعية وتاريخية وثقافية. كنت أحيانا أدرس الاطفال الرياضيات واستغرب كيف لا يستطيعون جمع واحد زائد عشرة على بساطتها. مرة أخرى، أدركت أن واحد زائد عشرة يساوي أحد عشر لأنني تعلمت هذا الامر في زمن ما في طفولتي وأصبح لدي بديهيا لدرجة أني نسيت أني تعلمته. علمني التدريس أنه لا يمكن للمدرس ان يطلب من طفل نظم قصيدة، ما لم تعلمه ما هي قواعد النظم. كما أنك لا تستطيع ان تطلب منه النظم ما لم تقدم له نموذجا مرئيا يستطيع أن يبني عليه. فأنت يمكنك أن تكلم الطفل قدر ما تشاء عن القصائد والشعر وشكسبير وغيرها دون ان يدرك من كل ما تفوه به شيئا، لأنه ببساطة لم يتدرب ولم يتعلم ولم يتهيأ نفسيا وفكريا وجسديا لاستيعاب كل هذه الامور. يستحضرني هنا زيارة قمت بها مع تلامذتي السنة الماضية لمبنى أثري بناه الرهبان الفرنسيون على مقربة من السكان الاصليين في القرن السابع عشر في كندا كيما يبشروهم ويعلموهم عن المسيحية. أخبرتنا المحاضرة أن الرهبان ابتدأوا يقصون على السكان الاصليين حياة يسوع. أخبروهم كيف ولد في مذود وسط الحيوانات، وكيف سمع الملك هيرودوس من المجوس عن ميلاده فقرر قتله لأنه خاف منه أن يخلفه على كرسي الملك، وكيف ارسل الجنود فقتلوا الاطفال كافة في مدينته من ابن السنتين فما دون. ثم أخبروهم كيف أن ملاكا ظهر من السماء ليوسف وطلب منه ان يأخذ الطفل وامه لمصر. لم يستغرب السكان ظهور الملاك، فأساطيرهم تعج بالكائنات الماورائية، لكنهم لم يفهموا ما هي الصحراء التي كان على يوسف أن يقطعها راكبا على حمار. فهؤلاء الناس لم يكونوا شاهدوا حمارا من قبل ولا ساروا في صحراء. ويجدر الذكر هنا انه حتى الحصان لم يكن آنذاك قد تم إدخاله الى أميركا، ولم يكن أحد من السكان الاصليين قد ركب على ظهر حيوان البتة. احتار المبشرون في امرهم، فأخبروهم ان الصحراء هي رديفة الارض المجمدة المكسوة بالثلوج عدا عن ان هذا الثلج يكون شديد الحرارة. ولكي يسهلوا عليهم فهم انتقال يوسف ومريم على الحمار اخبروهم ان يوسف نقل يسوع الى مصر على مركبة تجرها الكلاب فوق هذه الثلوج الحارة. وفي حادثة أخرى، قرأت عن ترجمة للإنجيل في إحدى البلاد الآسيوية، ولما أراد المترجمون ترجمة كلام يسوع "أناهو خبز الحياة" اعترتهم الحيرة. فالقمح والخبز غير معروف لأهل تلك البلاد. فما كان منهم إلا ان ترجموا الآية السابقة "أنا هو رز الحياة"، ذلك لأن الرز متوفر في تلك البلاد وهو الطبق الرئيسي الذي يوازي بالنسبة لهم الخبز في الشرق الاوسط.

من خلال عملي التربوي واحتكاكي بثقافات الآخرين، أدركت أمرين هامين: أولا مسيرة البشرية تشبه تدريب الاطفال. فالبشرية في خطواتها الاولى لم تكن تعرف ما نعرفه نحن، لأنه ببساطة نحن اليوم نختزن تجارب الاباء والاجداد. كذلك نحن في الزمن الحالي نقلّ معرفة عن أولئك الذين سوف يأتون بعدنا. لذلك لا أستطيع أن أطالب إنسانا عاش منذ ألفي عاما أن يدرك ما أدركه الآن في أي مجال كان، كما أنه لا يحق لإنسان سوف يحيا بعد ألفي عاما بأن يطلب مني أكثر مما أعرفه الآن. أما الأمر الآخر الذي أدركته هو أن القيم الثقافية والحضارية تختلف من شعب لآخر ومن زمن لآخر. لذلك ما قد يكون مقبولا لدى شعب ما منذ ألفي عاما ليس بالضرورة أن يكون مقبولا لدينا اليوم. خذ على سبيل المثال: تفرض القيم الحالية في الدول المتقدمة أن يقدم المتهم للمحاكمة وان يقوم محام بالدفاع عنه، وفي حال ثبت الجرم عليه يوضع في سجن تراعى فيه قيم تليق بحقوق الانسان. فالسجين يتم تأهيله ويعطى مسافة من الحرية داخل السجن حيث يحق له الاحتكاك (حسب ظروفه وشخصيته) بالمساجين الآخرين كما يعطى الحق في ممارسة الرياضة. أما في العصر الروماني، كان يلقى القبض على المتهم وكان الوالي او من ناب عنه يستمع اليه. فإن اقتنع بحجته أطلقه وإلا يتم سجنه. كان الكثير من المساجين يلقون في حلبة الصراع حيث يحضرالقيصر وسائر الاعيان في مسرح المدينة (الكولسيوم). ويتم زج السجناء اثنين اثنين في حلبة الصراع حيث يتصارع المجرمان اللذان قد يكونان من اعز الاصدقاء حتى الموت. فالخاسر يقضي والرابح يتم اطلاق سراحه.

كنت دائما أعيد تقييم فهمي للامور في حياتي وأقرأ صفحات الحاضر في ضوء ما علمتني إياه الهجرة والمدرسة . كانت معضلة العهد القديم ما تزال حاضرة في حياتي، لكنها كانت نائمة على الرف الذي وضعتها عليه في ذاكرتي منذ سنوات طويلة. كنت أوقظها بين الحين والآخر حسب ما تمليه عليّ الظروف مثل نقاش مع صديق أو كتاب أقرأه بعدما وضعه القدر على طاولتي.



#طوني_سماحة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عهد قديم وعهد جديد -1- البداية
- يسوع الثائر 10 - الخاتمة
- إنها الحياة-6- كلب على لائحة الشرف
- يسوع الثائر-9- يسوع والانسان
- يسوع الثائر-8- الرياء وازدواجية المعايير
- يسوع الثائر-7- نقد للتقاليد
- يسوع الثائر-6- رجال الدين
- إنها الحياة 5- الجنون فنون
- إنها الحياة 4- حرب البندورة
- إنها الحياة 3- شحاد ومشارط
- يسوع الثائر-5- رجال الدين
- إنها الحياة 2
- لبنان يا قطعة سما
- يسوع الثائر-4- من هو يسوع؟
- يسوع الثائر 3 مارتن لوثر كينغ والمسيح
- إنها الحياة 1
- يسوع الثائر 2 غاندي والمسيح
- أرجوكم،لا تكسروا زجاج السيارة!
- أتعهد بأن أحبك حتى الموت
- يسوع الثائر 1 تعريف الثورة


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طوني سماحة - عهد قديم وعهد جديد -2- بين الطائرة والمدرسة