أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور















المزيد.....


تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور


يوسف رزين

الحوار المتمدن-العدد: 4948 - 2015 / 10 / 7 - 21:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تقديم :
يعتبر علم التاريخ نوعا من ادراك الانسان لمحيطه من خلال تطوره عبر العصور . لكن هذا الادراك يعاني من خلل اساسي يدعى التمثلات حيث تمنع صاحبها من الوصول الى حقيقة الامور و ادراكها ادراكا صحيحا . فالتمثلات هي ادراك مبني على الشبه من خلال بناء صورة مطابقة للموضوع الاصلي . و قد عرفها موسكوفيسكي على انها وسيلة لتحقيق استقرار حياة الافراد و الجماعات و لكنها في المقابل تشكل اداة لتوجيه ادراك المواقف و هي ايضا وسائط بين الشخص و الوضعية المتواجد فيها . فالتمثل دائما يرتبط بموضوع ما و يقدم له تفسيرا معينا و هذا ما يجعله يصبح في اساسه نسقا من القيم و المفاهيم و السلوكيات بحيث يشكل لدى الافراد قاعدة اساسية للفعل و التصرف . و هو يتضمن حسب جودليت المفاهيم و الانساق الاجتماعية و المواقف و الاتجاهات و الوقائع المنمطة و التصورات و الاتصالات و المعتقدات و الاحكام المسبقة و هو يمكن ان يكون حسب مانوني بيير حقيقة واقعية او خيالا وهميا او اسطورة . اما بالنسبة لجون بياجيه فيوضح بأن التمثل هو عملية استحضار اشياء غائبة امام حواس الفرد لأن سمة الموضوع المدرك في حالة التمثل هو الغياب و لتجاوز ذلك فإن الفرد يتمثل موضوعاته في شكل رموز و صور ذهنية . اما دوركايم فركز على التمثلات الجمعية موضحا بأنها الاكثر حضورا داخل النسق المجتمعي و قد عرفها بأنها " ادراك منسجم و مشترك بين اعضاء الجماعة الواحدة ، فهم يتكلمون نفس اللغة التي تمثل اهم اداة للتواصل بينهم و تتمثل وظيفتها في تقوية الروابط و الحفاظ عليها بينهم و تهيئتهم للتفكير و الفعل بكيفية موحدة ، و هي جماعية و تكونها يستمر عبر الاجيال و تمارس على الافراد ذوي السمات الاجتماعية المشتركة ضروبا من الضبط و الالتزام . و تظل التمثلات الاجتماعية في منأى عن اي تغيير نظرا لارتباطها بالوعي المجتمعي الذي يستمد صلابته و متانته من صلابة المجتمع و رصانته كما انها خارج ارادة الافراد و تحكمهم . أما دوفلاي فيضيف ان التمثلات هي الكيفية التي يوظف بها الفرد بصورة شخصية معلوماته السابقة لمواجهة مشكل معين خلال وضعية معينة .
و كخلاصة لما سبق يمكن القول ان التمثل يكون مرة فاعلا في اعادة انتاج المعارف حينما يشتغل في الذاكرة القصيرة المدى و مرة اخرى كمجرد ودائع و مخزونات في الذاكرة طويلة المدى التي لا تتميز بالفاعلية الا عند استدعائها من خلال التذكر لأن التمثل باختصار هو حضور صورة الشيء في الذهن بواسطة الرسم او النحت او اللغة اثناء الكلام . لاجل ذلك فإنه على اي دراسة تاريخية تروم التوصل الى ادراك صحيح لموضوعها ان تضع في الحسبان مسألة التمثلات و تعقيداته و الا فإن عمل المؤرخ سيعاني من عطب منهجي . انه قبل المرور الى دراسة ظاهرة تاريخية علينا اولا ان نعي تمثلاتنا عنها . و هذا ما نقصده في بحثنا الحالي حيث اننا نزمع تجميع تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء من العصر القديم الى العصر الحديث . لقد كانت هذه المنطقة من العالم مكانا يلفه الغموض حيث ان المجهول فيه اكثر من المعلوم مما جعل معرفة الاخر عنه اسيرة الاستيهامات و الصور الذهنية النمطية مما اعاق اي معرفة علمية عنها . و لهذا قررنا في بحثنا الحالي ان نطلع على تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء و ان نضعها على طاولة الفحص كمقدمة لمعرفة جنينية لكن علمية عن القارة السمراء .
تمثلات العصر القديم :
نجد بخصوص تمثلات القدماء عن افريقيا السوداء انه قد ساد الاعتقاد لدى جغرافيي اليونان و الرومان بأنه من غير الممكن التطواف حول الساحل الغربي لافريقيا لان قاع المحيط الاطلسي اذا ما ذهبنا جنوبا ضحل للغاية و كثير الطين و الحشائش فضلا عن ارتفاع درجة الحرارة التي تكفي لاحراق السفن . و قد روج لهذه الافكار جغرافيون كبار امثال هيرودوت و بطليموس . كما ساد الاعتقاد عندهم بأن الجزء الجنوبي للقارة قفر يابس و ان البحر الاحمر يتصل بالمحيط مكونا بحيرة مغلقة و هو ما يمنع الملاحة حول القارة السوداء حسب رايهم (1) (ص 2). و خلط الاغريقي القديم بين الاثيوبي و الهندي بسبب تشابه لون بشرتيهما ، فسماهما ب " الرجال ذوي الوجه المحروق" فنظام الفكر لدى الاغريقي القديم جعله يعتبر ان لون البشرة هو دلالة على اصل مشترك بين الهنود و الاثيوبيين . و قد تم هذا التمثل من خلال نظام فكري ينبني على مرونة مفهوم الرجل الاسود لدى الاغريقي و التفسير الفيزيائي للسواد بأثر الشمس و الانطباع غير العادي الذي تتركه البشرة الغامقة ، و هو ما اسس لفكرة وحدة اثنية و جماعة بشرية يتحدد داخلها الشعبان رغم اختلافاتهما . هذا دون ان ننسى دور الاساطير في هذا الخلط حيث ان مبدأ التماثل ينزع الى محو كل اختلاف و يركز الاهتمام فقط على العناصر المشتركة . و لم يقتصر الامر على هذا الحد بل ان مفهوم المجال هو نفسه ظل ملتبسا لدى الاغريق حيث انهم اعتبروا ان اثيوبيا و الهند تتواجدان في نفس القارة اسيا و كيف ان هاتين المنطقتين كانتا تلتقيان عبر الشرق و الغرب (2). اما عن صورة الاسود في الفن الغربي القديم ، فإن هذا الاخير قام بتمثيل الاسود كعلامة للتبعية و الدونية او على صورة الجوار العادي و تأرجحت صورة الاسود بين الانهزام و البطولة و لكن مع ذلك تبقى الصورة الرائجة عن الاسود في الفن و الادب الاغريقي الروماني على حد قول سنودن صورة نمطية لشخص ذميم و مثير للسخرية او كعدو يتربص بهم عند الحدود (3).
لكن الشاعر ليوبولد سيدار سنغور يرد على هذه الصورة النمطية (4) بأن السود لعبوا دورا لا يستهان به في المعجزة الاغريقية ، فلم تكن كلمة " اثيوبي " في الاصل تعني " الاسود" بل " الاحمر الغامق" و اوضح بأن نسبة السود بروما كانت اكثر من مثيلتها بباريس اليوم . ذلك ان السود كانوا يشغلون بها مهنا عديدة من جنود و ملاكمين و ممثلين الى مجالدين و طلبة و معلمين و كتاب الخ.. كما ان مستوطنات الاغريق في صقلية او شمال افريقية كانت مفتوحة في وجههم . اما هيرودوت فتحدث عنهم ك " رجال كبار الشأن و وسيمين" . و لم يكن السود ضعيفين على المستوى العسكري ، ذلك ان روما عرفت صعوبات بالغة في جنوب مصر مع الاثيوبيين بسبب مقاومتهم الضارية . و يضيف سنغور الى ذلك مسألة اللغة فيوضح ان هناك علاقة وطيدة بين اللغات المتوسطية و اللغات الزنجوافريقية التي بالمناسبة صدرت عنها اللغة المصرية القديمة . كما ان جميع اللغات الزنجوافريقية و المتوسطية صدرت عن لغة اثيوبية مشتركة مثلما اوضح تيوفيل اوبنجا في مقاله " اللغات المصرية القديمة و الزنجوافريقية" . و اشار سنغور الى ان السود لعبوا دورا هاما في الجيش الاغريقي و الروماني و كمثال على ذلك " ممنون" المقاتل الاسود قائد كتيبة الاثيوبيين الذي قدم لنجدة طروادة المحاصرة و الذي قتل على يد اخيل و انشد فيه هوميروس عدة اشعار. كما انه في جيش كزيريكس كان هناك 30.000 فارس اسود حسب المؤرخ أوشيل و حسب المؤرخ تيط ليف كان هناك 11.000 جندي اسود في جيش اسدروبال اخ القائد القرطاجي هنيبعل ، مما يوضح الحضور الوازن للعنصر الاسود في حضارات البحر الابيض المتوسط و انه لا يستحق تلك الصورة السلبية عنه .
تمثلات العصر الوسيط : (1)
ارتبطت افريقيا السوداء مع البلاد العربية عن طريق الصحراء الكبرى . لذلك فقد تمثلت لدى الجغرافيين المسلمين كبرزخ للاتصال و الانفصال بين عالمهم الشمال افريقي و بلاد السودان و الزنج(ص 4) . و قد عرف القسم الغربي من الصحراء الافريقية ب "الساحل" و هو استعمال مجازي يقيس الصحراء الواسعة برمالها و كثبانها بالبحر الواسع (ص 6) . اما الحبشة فقد كانت مادة اثيرة في التأليف العربي . فقد انغرز في اللاوعي الجمعي للعرب المسلمين بأنها ارض الهجرة التي قصدها المسلمون هربا من ظلم ذوي القربى و يصف ابن الجوزي الاحباش ب : الكرم و سهولة العبارة و عذوبة الكلام (ص 17). لكن صاعد الاندلسي رسم صورة سلبية عن السود في كتابه طبقات الامم حيث فسر جهل السودان بالعلوم بأثر البيئة و قربهم من خط معدل النهار حيث يقول : " فهم لطول مقاربة الشمس لرؤوسهم اسخن هواءهم و سخن جوهم فصارت لذلك اكثر جثثهم و اخلاقهم محترقة فاسودت الوانهم و تفلفلت شعورهم ، فعدموا رجاحة الاحلام و ثبوت البصائر و غلب عليهم الطيش و فشا فيهم النوك و الجهل مثل من كان من السودان ساكنا بأقصى بلاد الحبشة و النوبة و الزنج و غيرها (ص 19) . و هكذا نرى ان صورة الاسود في مخيال العربي المسلم تأرجحت بين الايجابي و السلبي ، لكن عموما اختلطت صورة الافريقي الاسود بصورة العبد لدى العرب المسلمين بسبب ان كثرة العبيد كانوا من السود (ص 21) . هذا و قد مارس بطليموس سلطة ثقافية حقيقية على قسم من الجغرافيين العرب و ذلك في ابرازه لدور التقسيم الاقليمي-الفلكي من اجل تحديد معالم المعمور و لتأثير اقاليمه على خصائص الشعوب المختلفة ، كما ان جالينوسس و ابقراط مارسا ايضا نفس السلطة عن طريق نظريتهما في الطباع و الكيوف البشرية و تأثيرها على تشكل طباع و كيوف السودان او الجنس الاسود ، بحيث تم حجزهم في صورة نمطية اعيد انتاجها في كتبهم المختلفة عن بلاد السودان فمارسوا نوعا من التبخيس على العرق الاسود (ص 27) و هو ما يتضح في كتابات الدمشقي حيث ذكر استنادا على جالينوس بأنه في السود خصال عشر و هي : " تفلفل الشعر و دقة الحاجبين و انتشار المنخرين و غلظ الشفتين و تحدد الاسنان و نتن الجلد و سود الخلق و تشقق الاطراف و طول الذكر و كثرة الطرب " (ص 29) .
و اذا انتقلنا الى تمثلات العرب عن تضاريس افريقيا فإننا نجدهم يتصورون ان انهار افريقيا تتفرع كلها عن نهر النيل . كما انهم تخيلوا ان الذهب ينمو كالنبات (ص 33) . فلقد ذهب اليعقوبي الى ان " النيل و السند نهر واحد" و هو يشارك في اعتقاده هذا كلا من الجاحظ و ابن الفقيه . و لعل مرد هذا الاعتقاد هو الاسطورة القائلة ان سيحون و جيحون و الفرات ينبعون من الجنة و ايضا لاعتقادهم ان التمساح لا يوجد الا في نهر النيل و نهر السند . و انفرد ابن الفقيه بالقول بأن النيل ينبع من الاطلسي – البحر المظلم (ص34) . و يفتتح المسعودي سرده لاخبار النيل بالقول " و نهرها النيل من سادات الانهار و اشراف البحار لانه يخرج من الجنة على حسب ما ورد به خبر الشريعة " (ص 35). اما البكري ف القرن 11 م فكان اول من دون (ربما بعد الاسواني) معلومات تشير الى ربط النيل بنهر النيجر حيث سماه نيل غانة (ص 36) . و بخصوص معدن الذهب فقد اكد ابن الفقيه انه في بلاد غانة ينبت في الرمل كما ينبت الجزر و يقطف عند بزوغ الشمس (ص 39). و ينقل العمري عن الامير ابي الحسن علي بن حاجي الذي كان يجتمع بكثرة مع السلطان موسى قوله :" و حدثني السلطان موسى ان الذهب في بده و في البلاد المجاورة التابعة له يوجد على نوعين : نوع ينبت في زمن الربيع عقب الامطار في الصحراء و له ورق شبيه بالنخيل ، اصوله التبر و النوع الاخر يوجد في جميع ايام السنة في اماكن معروفة على ضفاف النيل (النيجر) (ص 172) .
لقد ظلت افريقيا في مصنفات العرب موطنا للاستيهامات و الصور المجازية ، فذكر ابن خرذاذبة بان مسيرة ارض الحبشة- السودان هي سبع سنين (ص41) و تحدث الاصطخري عن ارض الزنج بطريقة تعكس الاعتقاد بامتداد افريقيا نحو الشرق حتى حدود الصين (ص 44) كما تحدث البيروني عن ان البحر الجنوبي (المحيط الهندي) يتصل بالمحيط الكبير (الاطلسي) عن طريق فتحة في الجبال على طول الساحل الجنوبي الافريقي (ص 46). هذا و قد تأثر الكثير من الجغرافيين العرب بما فيهم الادريسي براي بطليموس الذاهب الى ان شواطئ افريقيا تمتد حتى تتقابل مع شواطئ الصين الافريقية (ص 75) و ذلك بسبب ان الموروث الاغريقي مارس سلطته الادبية على احكام و تصورات العرب عن افريقيا السوداء خصوصا احكام بطليموس و جالينوس (ص 104).
اما فيما يتعلق بشعوب افريقيا السوداء في المخيال العربي فإننا نجد ان البكري يذكر ان افريقية تعني " صاحبة السماء" و في قول اخر يدعي انها " سميت افريقية لأن افريقش بن ابرهة بن الرايش غزا نحو الغرب حتى انتهى الى طنجة في ارض البربر و هو الذي بنى افريقية و باسمه سميت " الى ان يشير الى تسمية اخرى قائلا : " سموا الافارقة و بلادهم افريقية ، لانهم من ولد فارق بم مصريم " (ص 59) و يوضح كيف ان نوح قسم الارض المعمورة على اولاده فصار لولده يافث الصين و الهند و السند و الترك و الخزر و التبت و الديلم و خراسان " و لولد سام الحجاز و اليمن و باقي الارض و لولد حام المغرب و ما وراء الفرات الى مسقط الشمس ، فيجعل بذلك افريقيا برمتها لاولاد حام (ص 60).
و نجد ان المسعودي قد بدأ حيثه عن شرق افريقيا بالاسطورة القديمة من الهجرات الاولى التي قام بها ابناء كوش الذين استقروا بالنهاية في الجزء الشرقي الجنوبي (ص 85) . و بخصوص سكان شرق افريقيا فإننا نجدان النوبيين اقترن ذكرهم في الذاكرة العربية بأنهم " رماة الحدق" كناية عن تصدي النوبيين بنبالهم لحدقات عيون المسلمين الاوائل . و اما فيما يتعلق بعادات اهل مالي فقد تخيل العمري بأنه لا يدفن عندهم ميت الا اذا كان ذا قدر و حشمة و الا فكل من كان سوى هؤلاء ممن لا قدر له و الفقراء و الغرباء فإنه يرمى رميا بالفلاة مثلما يرمى باقي الميتات (ص 184) . و اذا انتقلنا الى الرحالة الوزان ، فاننا نجد انه ينشر عن اهل تنبكتو صورة مرحة حيث ذكر حبهم للمسرات و التخفف من متاعب الحياة بالمرح و عزف الموسيقى و الرقص عليها ، اذ يقول " و لاهل تومبوكتو طبع مرح ، و من عاداتهم التريض في المدينة اثناء الليل و هو يعزفون بالالات الموسيقية و يرقصون " (ص 194).
لكن و رغم هذه الصورة الايجابية التي نقلها الوزان عن مالي الا ان افريقيا السوداء ظلت في المخيال العربي وطنا لكل ما هو غريب و معاد للاستقرار البشري ، فقد سيطرت على كتابات العرب الفكرة القائلة باستحالة السكن في الاقاليم الحارة الجنوبية و انعدام الحياة في نقطة ما جنوب خط الاستواء . و قد دعم هذه الفكرة جهل العرب بشعوب هذه المنطقة و سطوة النظرة الفلكية الجغرافية الموروثة عن بطليموس ، حيث نجد ابو الفداء مثلا قد تحدث عن استحالة الحياة في الجنوب الافريقي و في بحاره دامجا بذلك رأيه براي الادريسي بقوله : " ان ماء البحر المحيط الذي بجهة الجنوب غليظ لان الشمس بسبب مسامتتها له و قربها منه حللت الاجزاء اللطيفة من الماء فغلظ ماؤه و اشتدت ملوحته و سخونته و لذلك لا يعيش فيه حيوان و لا يسلك فيه مركب (ص 205). كما روى برزك انه قد روى له احد البحارة انه رأى عند ملوك الزنج ريشة لاحد الطيور ربما طير الرخ الخرافي و انه سمع من احد الربابنة البحريين انه بسفالة الزنج من الطيور ما يأخذ الوحش بمنقاره او بمخالبه و يحمله الى الهواء ثم يرمي به (ص 207).
تمثلات العصر الحديث :
اوضح الكاتب ابراهيم ديوب في مقاله افريقيا السوداء كما نظر اليها الغرب (ق 15-18) (5) بين الاساطير و الحقيقة ، ان معرفة الغرب عن افريقيا في العصر الوسيط كانت مبنية على معرفة ادبية فقط ، ذلك انه كانت هناك عوائق متعددة تمنع الغرب من التعرف بشكل مباشر على افريقيا و هي تتعدد الى عوائق سياسية و طبيعية و ثقافية ، مما جعله يخلط افريقيا السوداء مع الهند و اثيوبيا بالاضافة الى انه كان يتخيل بلاد السودان على انها مليئة بالذهب . فلقد تم تخيل افريقيا على انها العالم الخاص بالذهب الوفير و الحيوانات الغريبة كما انها يمكن ان تكون حليفا مسيحيا لمحاصرة الاسلام ذلك انه نظرا لانعدام الاتصال المباشر كان هناك الكثير من التخيل و المخيال حيث قامت حواجز عديدة بين الغرب و افريقيا السوداء ممثلة في الدول الاسلامية و الصحراء و الساحل الاطلسي الذي يصعب الرسو فيه . لذلك فمعلومات الغربيين عن افريقيا تم اخذها من اشعار الاغريق و اللاتين ثم انطلاقا من ق 13 انضافت شهادات الرحالة و التجار المسيحيين المقيمين بالبلدان الاسلامية و بذلك تم تجميع عدد من الحكايات و الشائعات و الافتراضات منها على سبيل المثال ما ذكره ماركو بولو عن تشوه الافارقة و سوادهم و عريهم و ذمامتهم . و هكذا اذن القى الغرب استيهاماته و رغباته غير المحققة على افريقيا السوداء و سيطر عليه حلم العثور على الذهب الكثير و التحالف مع السود ضد المسلمين و العثور على القارة البريئة و الطيبة ذات الطبيعة التي لم تلوث بعد بالخطيئة .
لقد كانت معرفته بها يختلط بها الواقعي باللامعقول و الغرائبي ، فتمثل له النيل على شكل نهر يصدر من الهند و يمر تحت البحر الاحمر دون ان يختلط بمياهه، بالاضافة الى انه كان لديه شعور بوجوب اتحاد مختلف كنائس العالم لايقاف تقدم الاسلام . و اما عن اثيوبيا فتمثلت له بانها تمتلئ بالذهب الوفير و ان بها جبلا من الذهب الخالص . لكن هذه التمثلات الغربية عن افريقيا السوداء تغيرت تدريجيا فلم تعد اثيوبيا البلد الافريقي الوحيد الذي يمثل الثراء و القوة الاسطورية بل انضافت اليها دولة مالي . فتخيلها هي ايضا بنفس الثراء و الروعة و القوة . لقد كانت افريقيا السوداء تتمثل للغرب مرة بشكل ايجابي و مرة سلبي ، ذلك انه رغم هذه الصورة البراقة عن ثراء افريقيا السوداء فإن الغرب تخيل و نظر الى الافارقة نظرة دونية انطلاقا من مرجعيته اليهودية المسيحية التي تعتبر السود ابناء حام الابن الملعون لنوح و بالتالي فإنهم اشخاص مخلوقون للعبودية و السخرة ، بالاضافة الى ان اللون الاسود في اللاوعي الغربي يحضر كمرادف للظلام و الشر و الحداد و الحزن و الطاعون و اللعنة . لذلك فقد تمثل بلد السود للاوربيين كجحيم و كبلد للملعونين.
و الواقع ان هذه الصورة كان مردها ان الغرب كان يجهل كل شيء عن افريقيا في العصر الوسيط ، فقد كانت اتصالاته بها تتم بشكل غير مباشر عبر شمال افريقيا و الهند و هي اتصالات لم تأت بأي معرفة واضحة عن افريقيا السوداء . لكن بعد ذلك في ق 15 ستنقشع الاوهام و سيحدث الاكتشاف المباشر لها من طرف الغرب و ان كان ذلك راجعا لدوافع اقتصادية و دينية ، فقد كانت اوربا في ذلك الوقت بحاجة الى المواد الغذائية خصوصا بعد سيطرة الاتراك على حوض البحر الابيض المتوسط و نضوب مناجم الذهب بألمانيا، فنشأ انذاك لدى الاوربيين حلم التحالف مع مسيحيي افريقيا ضد المسلمين . لكن مع ذلك استمرت التمثلاث رغم تواصل الاكتشافات . فمنذ منتصف القرن 15 تم اكتشاف سواحل سينيغامبيا و غينيا لكن الاوربيين صدموا حين عثروا على مساجد كثيرة و اسلام قوي الحضور فبدأت تمثلاتهم تتغير تدريجيا خصوصا مع اكتشاف الساحل الاطلسي بشكل كامل حيث تركزت فيه المعرفة الدقيقة عن افريقيا لكن مع ذلك ظل الساحل الشرقي و جنوب افريقيا مجهولا لديهم هذا الاخير تمثلوه على شكل صحراء ممتدة . كما تمثلوا الانسان الافريقي في صورة الانسان المضياف و الحميمي و الامين و الكريم اي على صورة المتوحش الطيب . لكن مع اكتشافات ق 16 و 18 . حدث انقشاع للاوهام و نشوء نظرة جديدة ، فقد صدموا بوجود ذهب قليل و توابل ذات جودة متدنية بالاضافة الى وجود مسيحية افريقية ضعيفة، فتبخر لديهم حلم العثور على الذهب الكثير في افريقيا و حلم محاصرة المسلمين كما وجدوا تربة غير خصبة و امراض معدية و طبيعة معادية و امطار غزيرة مضرة بالصحة و غابات كثيفة و مسنتقعات و تربة هشة لا تساعد على الزراعة و حشرات مضرة و حيوانات متوحشة . اما عن حالة الافارقة فإن الاوربيين قد وقفوا على فقر غذائي و عري و تخلف تكنولوجي و انتاج ضعيف و اقتصار على الصيد و الالتقاط . اما عن تكنولوجيتهم الزراعية فتعود الى العصر النيوليتي كما ان مساكنهم بائسة و هشة (من القصب او القش) . كما لاحظوا ايضا تشابه المدن و البوادي بسبب التخلف العمراني و ان اثاثهم المنزلي فقير و بائس و ان مناخهم جد قاس . و هكذا نظر الاوربيون الى الافارقة على انهم اقرب الى الحيوانات منهم الى الانسان . لقد تمثلوهم في صورة حيوانية . اي انهم اقوياء و حمقى و قذرين و عرايا و متوحشين . لقد صدم عري الافارقة الشعور الديني المسيحي للاوربيين فاعتبروهم متحررين من منظور المسيحية كما وجدوا اعدادهم كثيرة كالحيوانات . لكن الكاتب ابراهيم ديوب يوضح في مقاله ان الكتاب الاوربيين نشروا هذه الصورة عن عري الافارقة و تخلفهم و كثرة اعدادهم رغبة منهم في تنشيط صناعة النسيج و تجارة العبيد في ق 16 -18 . و هو ما دفع الاوربيين الى نشر مزيد من التمثلات السلبية عن الافارقة السود فاعتبروا وثنيتهم علامة تخلف و ظلامية و صوروهم على انهم محتالون و في حالة حرب دائمة و انهم لصوص و كذابون و سكيرون و تسولون و آكلي لحوم البشر و بدون روح و اسنانهم حادة كالكلاب و انهم يتواصلون عبر الصيحات و اشارات الايدي و انهم سذج و اغبياء و رائحتهم نتنة و بحاجة لمن يقودهم و انهم محبون للصخب و الرقص كما انهم يسرقون و يقتلون و يخونون بدون ضمير. و من جهة اخرى تحدث كتاب اوربيون عن طيبة الافارقة و مهارتهم و كرمهم و وفائهم و مزاجهم الجيد و احترامهم للمسنين كصورة و تمثل عن البدائي المتوحش لكن الجيد و الطيب اما عن النساء الافريقيات فتحدثوا عنهن على انهن مثال للقوام الجيد و الجمال و الذكاء . لكن هذه الصورة المتراوحة بين ما هو سلبي و ما هو جيد كان الغرض من نشرها من طرف الكتاب الاوربيين هو تبرير استعبادهم دون وخز ضمير و نقلهم الى امريكا تحت مبرر خدمة المسيحية و انقاذ ارواحهم يوضح الكاتب ابراهيم ديوب .
خاتمة :
قمنا بهذه الجولة داخل مخيالات الاجانب و انتقلنا بين مختلف اشكال و ألوان الصور الذهنية عندهم عن افريقيا السوداء. لقد تمثلت داخل مخيال الاخر كوطن للغريب و العجيب و المخيف. غذى هذه الصور الاستيهامية صعوبة اقتحام مجالاتها الجغرافية مما ادى الى صعوبة التواصل مع سكانها . الا اننا نرى ان اهم عامل في صنع هذه التمثلات هو خصوصية اللون الاسود في الادراك الانساني . انه يحضر كرمز للقوة و الغموض و الشر و الخوف ، مما اعاق اية عملية تواصلية ناجحة بين افريقيا السوداء و بقية العالم . انه لحد الان مازالت وطنا للمجهول و اللامفكر فيه . لنتذكر ان حرب رواندا كلفت مليون قتيل و رغم ذلك لم تلق الاهتمام الاعلامي اللازم . ذلك ان المخيال العالمي مازال لحد الان يرفض اكتشاف افريقيا و لولا ان الصين صارت في الاونة الاخيرة تهتم بالاستثمار في افريقيا و استغلال ثرواتها الطبيعية و بالتالي صارت تهدد المصالح الغربية هناك لما لاحظنا بعضا من عودة الاهتمام بهذه القارة و الاعتراف المحتشم بقدراتها الاقتصادية و مواهب شعوبها .
ان هذا البحث المتواضع يندرج في سياق تحديد التمثلات الاجنبية عن افريقيا السوداء على مر العصور للتخلص من الاعاقات الذهنية التي عاناها الاخر في تعاطيه مع العالم الاسود و بالتالي وضعه على السكة الصحيحة نحو تأسيس تواصل سليم مع افريقيا السوداء .


__________________
مراجع :
1- شمس الدين الكيلاني ، صورة الشعوب السوداء عند العرب في العصر الوسيط
2- PIERRE SCHNEIDER, L ethiopie et l’inde. Interferences et confusions aux extrémités du monde antique -;- Aethiopica 09 (2006)

3- « L’IMAGE DU NOIR DANS L’ART OCCIDENTAL » par J. Vercoutter, J. Leclant, F.M. Snowden, J. Desanges (Bibliothèque des Arts, 1976) 350 pages.
Ethiopiques numéro 18 revue socialiste de culture négro-africaine
avril 1979 Auteur : Raoul LONIS
4- LES NOIRS DANS L’ANTIQUITE MEDITERRANEENNE
Ethiopiques - Spécial centenaire Contributions de Léopold Sédar Senghor à la revue 1er semestre 2006
5- L AFRIQUE NOIRE TELLE QUE L OCCIDENT LA PERÇ-;-OIT (XVème - XVIIIème SIÈ-;-CLES) ENTRE MYTHES ET RÉ-;-ALITÉ-;-S Brahim DIOP Maître assistant, Département d’Histoire Faculté des Lettres et Sciences Humaines, Dakar Paru dans les Annales de la Faculté des Lettres et Sciences Humaines, 2000, 30 : 23-48



#يوسف_رزين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاسلام في الأسر
- من بنى مراكش ؟ مقاربة مجالية لتاريخ المغرب
- علم العمران الخلدوني
- عبد الله العروي مضللا
- قراءة في كتاب : شدو الربابة بأحول مجتمع الصحابة ،خليل عبد ال ...
- كفاح بن بركة
- النظام الدولي : النشأة و التطور
- الحركة الوهابية النشأة و التطور و المآل
- الجزائر الفرنسية ..حكاية تطور مجهض
- عبادة الماء في المغارب القديمة
- سوسيولوجيا الأعيان
- حيرة شيخ - قراءة في مقال لعبد السلام ياسين -
- أحداث 23 مارس 1965
- الكتابة على الجسد..بحث في الدلالات
- وداعا نابليون
- أنثروبولوجيا الحرام
- تاريخ المطبخ الفرنسي
- شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة
- الحرية الجنسية في الإسلام
- نشأة علم التاريخ عند العرب


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - يوسف رزين - تمثلات الاجانب عن افريقيا السوداء عبر العصور