أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بشار إبراهيم - عن فيلم «الجنة الآن» للمخرج هاني أبو أسعد















المزيد.....


عن فيلم «الجنة الآن» للمخرج هاني أبو أسعد


بشار إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1358 - 2005 / 10 / 25 - 07:39
المحور: الادب والفن
    


أية «جنة».. الآن؟..
أعترف أنني، في كل مرة، كنت أعيد مشاهدة فيلم «الجنة الآن» للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، كان يشاغلني أمران اثنان، هما:
أولاً: السياق الموضوعي: من حيث إمكانية رؤية هذا الفيلم بمعزل عن السياق السينمائي الذي أخذ المخرجون السينمائيون الفلسطينيون (على تنوعاتهم الفنية، واختلافاتهم الفكرية)، بمراكمته منذ مطالع الثمانينيات. أي منذ أن حقّق المخرج ميشيل خليفي فيلمه الشهير «الذاكرة الخصبة»، الوثائقي التسجيلي الطويل (مدته 100 دقيقة)، عام 1980.
ثانياً: السياق الذاتي: بمعنى موقعه في السياق الفني الإبداعي الشخصي، الذي بدأ المخرج هاني أبو أسعد ببنائه، منذ مطالع التسعينيات. أي منذ أن قدم فيلمه «لمن يهمه الأمر»، الفيلم الوثائقي القصير (مدته 15 دقيقة)، والذي أنجزه في العام 1991، انتهاء بآخر أفلامه.
في السياق الموضوعي..
بالاعتقاد، الذي يصل إلى حدّ الجزم، أنه لا بد من الانتباه إلى أن الاتجاه الأساس، الذي ذهب على دروبه المخرجون السينمائيون الفلسطينيون، في السينما الفلسطينية الجديدة، التي أسّس لها المخرج ميشيل خليفي، بدايةً من خلال فيلمه «الذاكرة الخصبة» 1980، ووطَّدها بفيلمه «عرس الجليل» 1987، ولحقه آخرون في مجالها، إنما كان نحو السينما النقدية، التي تخرج بالفلسطيني من «صورته الافتراضية»، التي تم الإلحاح عليها، حتى غدت الشائعة والمألوفة، تلك الصورة التي تكوّنت بفعل الكثير من الأيديولوجيا: سواء القومية العربية، أو الثورية الفلسطينية، باعتبار الفلسطيني «فدائي، سوبرمان، لا يُهزم، يعيش القضية في ليله ونهاره»، إلى «صورته الواقعية»، التي تكشف عن حقيقة الفلسطيني، في زمانه ومكانه.. الفلسطيني باعتباره «إنساناً، أولاً وأخيراً، يمكن له أن يحب، ويكره.. وأن يكون شجاعاً أو جباناً.. ينتصر كما ينهزم، ويبكي للفقد، أو لقلة الحيلة، والعجز»..
في هذا الإطار، كان على السينما الفلسطينية الجديدة، التي اشتغل عليها مخرجون متميزون، من أمثال إيليا سليمان في «يد إلهية» 2002، أو توفيق أبو وائل في «عطش» 2004، أن تصطدم بصورة الفلسطيني، المُسبقة الصنع لدى المشاهد العربي، قبل المشاهد الفلسطيني ذاته، وأن تعاني من التعامل مع مشاهد، عربي وفلسطيني، مُحدَّد المواقف تجاه الفلسطيني، والقضية الفلسطينية؛ مشاهد يعرف أكثر مما يقدمه الفيلم من معلومات، أو قصص، وحكايات. مشاهد يريد «سينما التعويض»، في نزعة داخلية تتجلى في الرغبة برؤية صورة ما يتمنى، ويسقط ما لديه عليها..
وعلى الرغم من أن عدداً من المخرجين السينمائيين الفلسطينيين، لم يخرجوا أبداً عن تكريس الصورة السائدة عن الفلسطيني، وتضحياته، وكفاحيته العالية، ومأساته الموجعة، والتركيز على إجرامية الاحتلال، وممارساته البشعة، كما فعل المخرج إياد الداوود في عدد من أفلامه، وأهمها فيلمه «فن الحياة» 2003، أو كما صنع المخرج الممثل محمد البكري في فيلمه «جنين.. جنين» 2002، فإن هذه التفاصيل هي مفردات حقيقية، ترصد جوانب، لا يمكن نكرانها من صورة الفلسطيني.. التي لا بد من متابعتها في سعيها للتكامل المتفاعل، لا للاختزال والتنميط.
السينما الفلسطينية الجديدة، وهذا قدرها، كانت الأكثر جرأة، من بين شقيقاتها السينمات العربية، كافة، وتكاد تكون هي وحدها من تناولت صورة الفلسطيني بطريقة نقدية، تحاول تفكيك مفرداتها، والنظر إليها في واقعها، لا فرق إن كان بسبب ضغط الاحتلال، كما في فيلم «يد إلهية» لإيليا سليمان، أو بسبب العقلية الشرقية المحافظة، كما في فيلم «عطش» لتوفيق أبو وائل، أو بسبب حاجة المعيشة، كما في فيلم «دار ودور» لرشيد مشهراوي، أو بسبب فساد في السلطة، أو خلل في التفكير، كما في فيلم «عبور قلنديا» لصبحي الزبيدي!.. ويمكننا القول إن السينما العربية، في عمومها الغالب، ترددت كثيراً في مجال الاقتراب من هذا الحيز، بل لم تطاوله أبداً، خوفاً مما هو مُدرك أصلاً!..
وفي اليقين، إن عدداً من أفلام السينما الفلسطينية الجديدة، لو كان من حققها مخرج عربي، مهما كان اسمه، لقامت الدنيا، ولم تقعد إلا على حطامه، أو على انطفاء مستقبله السينمائي!.. مما يعني أن المخرج السينمائي الفلسطيني بدا كأنه يستثمر ما يمكن أن نسميه «حصانة المخرج الفلسطيني»، في مجال «نقد الفلسطيني».. إذ لا مجال لأحد هنا، أن يدعي «المزاودة»، أو يكون «ملكياً أكثر من الملك»!..
هكذا نجد أن السياق الموضوعي، في حال السينما الفلسطينية، خاصة الجديدة منها، يفتح المجال أمام بروز فيلم من طراز «الجنة الآن»، يمكن له أن يتناول أحد أكثر المسائل خطورة، وحذراً، في الواقع الفلسطيني، هي مسألة العمليات التي يقوم من خلالها أحد الفلسطينيين، أو أكثر، بتفجير نفسه، وسط عدد من الجنود الإسرائيليين، أو حتى في أحد المطاعم، أو المقاهي، بغية إحداث نوع من توازن الرعب، بين جانبين؛ أحدهما: هو الإسرائيلي المدجَّج بكل أنواع الأسلحة، والدعم المادي والمعنوي، وثانيهما: هو الفلسطيني المُجرَّد من كل شيء، حتى من قوة الحق الذي يدافع عنه، إلى الدرجة الذي غدا ملعوناً، منبوذاً، تماماً في الوقت الذي أصبح من المألوف أن يُمنح شارون صفة «رجل سلام»!..
وبهذا المعنى، فإن فيلم «الجنة الآن»، ومهما كانت نقديته جريئة، أو قاسية، ومهما كان موضوعاً مدهشاً، أو حذراً، لن يمثل قطعاً مع السياق النقدي الذي أنجزته السينما الفلسطينية الجديدة، ولا استثناء في إطارها، على الرغم من الحساسية الدينية التي تتعلّق بموضوع «الاستشهاد»، و«الجنة الموعودة»!.. فإذا كان المخرج إياد الداوود جعل من فيلمه «فن الحياة» محاولة في الكشف عن الوجه الآخر للاستشهادي، من خلال التأكيد على إنسانيته، ورغبته في الحياة، فإن المخرج صبحي الزبيدي، حاول مناقشة هذه الموضوعة، بشكل عقلاني، في «عبور قلنديا»، من خلال قراءة مردودها السياسي، وجدواها المقاوماتية، بما ينبئ برفضها، أو رفض جزء كبير منها!..
في السياق الذاتي..
ينتمي المخرج هاني أبو أسعد إلى جيل السينمائيين الذين شرعوا بالعمل السينمائي، في مرحلة الانتفاضة الأولى، (1987-1993)، فكانت ولادته كمخرج سينمائي في العام 1991، عندما أخرج فيلمه الأول «لمن يهمه الأمر»، وهو فيلم وثائقي قصير (مدته 15 دقيقة)، بإنتاج شركة أيلول للإنتاج السينمائي، التي كان قد أسّسها، في هولندا، بالتعاون مع المخرج رشيد مشهراوي، وعمل معه مخرجاً مساعداً، حيناً، ومديراً للإنتاج، في أحيان أخرى.
«فيلم لمن يهمه الأمر» يحاول قراءة في الموقف الفلسطيني، الذي بدا على صورة المؤيد للعراق خلال حرب الخليج، ذلك الموقف الذي بدا نافراً، وغريباً، للكثير من مؤيدي الحق الفلسطيني. والفيلم يقوم بهذه القراءة من خلال مواقف شخصين، اختارهما المخرج من مدينة الناصرة.
وإذا كان هذا الفيلم قد نال الجائزة الأولى لأفضل فيلم قصير، من معهد العالم العربي في باريس، فينبغي الانتباه إلى أن هاني أبو أسعد، المولود في مدينة الناصرة عام 1961، لم يدرس السينما أكاديمياً، بل كانت دراسته، أصلاً، في مجال هندسة الطيران، في هولندا، ولكنه مال عن اختصاصه، واختار السينما طريقة في الحياة، وأسلوباً للتعبير!..
فيلمه الثاني كان بعنوان «بيت من ورق» عام 1993، وهو فيلم روائي قصير (مدته 28 دقيقة). نال جائزة أحسن فيلم روائي قصير في بينالي السينما العربية في باريس 1994. ويتناول حكاية فتى فلسطيني، في مقتبل العمر (13 سنة)، اسمه خالد، ونراه وقد هدم الاحتلال منزل أسرته، فقام بتحقيق حلمه، بالتعاون مع أصدقائه الأطفال؛ الحلم الذي صار على هيئة بناء «بيت من ورق».
وعلى رأس الألفية الثالثة، في العام 2000، وبمناسبة زيارة البابا لفلسطين، والناصرة تحديداً، يعود المخرج هاني أبو أسعد إلى مدينته الناصرة، ليحكي حكايتها في فيلم جميل، حمل عنوان «الناصرة 2000»، وهو فيلم وثائقي طويل (مدته 55 دقيقة). ثم يجد نفسه يعود مرة أخرى في العام ذاته، لينجز فيلمه «تحت المجهر»، الوثائقي القصير (مدته 23 دقيقة)، والذي يحاول فيه تقصي الأسباب الحقيقية التي دفعت الفلسطينيين لإيقاد شعلة الانتفاضة، وتحديداً مشاركة فلسطينيي 48، تلك التي نجم عنها استشهاد 13 شاباً من مدينة الناصرة، والقرى المحيطة بها.
وفي العام 2002، حقق أبو أسعد أول أفلامه الروائية الطويلة، بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية، وكان الفيلم بعنوان «القدس في يوم آخر»، أو «عرس رنا» (مدته 90 دقيقة)، المأخوذ عن قصة ليانا بدر. الفيلم يتناول حكاية شابة فلسطينية، يضعها والدها بين خيارين، لا ثالث لهما: إما الزواج، أو السفر معه خارج البلاد. وإذ تختار رنا الزواج ممن تحب، تبدأ رحلة البحث عنه، في واقع فلسطيني مثقل بالحصارات، والإغلاق، والحواجز، والمعابر، ومنع التجول..
كما حقق فيلمه «فورد ترانزيت»، الوثائقي التسجيلي الطويل، والذي تناول فيه مرة أخرى موضوع الحواجز والمعابر، من خلال سيارة فورد، تنقل الركاب على حواف الحاجز، فيكون من ضمن الركاب، الذين استضافهم المخرج في تلك السيارة، عدد من الشخصيات الفلسطينية البارزة، منها الأب عطا الله حنا، ود. عزمي بشارة، ود. حنان عشراوي.. الطريف في الأمر، أن المخرج يأخذ موضوعة أن هذه السيارات كانت تُمنح للعملاء، لتأمينهم، وتأمين تنقلاتهم، ومن ثم بانفضاح الموضوع وجدوا أنفسهم على اضطرار لبيعها، فتحولت إلى وسائط نقل عمومية.. وبالتالي فإن عدد سيارات الفورد يدل على عدد العملاء، الذين كانوا!..
النظرة السريعة للأفلام التي حققها المخرج هاني أبو أسعد، في تجربته الناجزة، حتى عتبة فيلمه «الجنة الآن»، تبين أنه مخرج مهجوس بالحكاية الفلسطينية، يحاورها، ويداورها، ويأتيها من جوانبها المتعددة، سواء على المستوى الواقعي، أو الحُلُمي. وفي أفلامه كافة، يبدو مجدداً، على صعيد الفكرة، يسعى للقبض على السؤال الذي يشاغله، ويترك فضاء الإجابة مفتوحاً أمام الشخصيات، التي يتناولها، ويمنحها فرصة التعبير عن ذاتها، دونما أي إدِّعاء أو تصنُّع.
أما على الصعيد الفني، فإنه وفضلاً عن حقيقة أن هاني أبو أسعد يستطيع استخدام الكاميرا في تناول ما هو غير متوقع، من الحالة الفلسطينية، حتى المفاجئ منها، نجد التنوع في الخيارات الفنية، ما بين الفيلم التسجيلي الوثائقي، والروائي القصير، والروائي الطويل، من ناحية أولى، واعتماد أساليب الحوار واللقاء، حيناً، أو المتابعة والمعايشة، في أحيان أخرى، من ناحية ثانية، بشكل يجعل سينماه سؤالاً فاحصاً، كما هي تراكماً معرفياً، على القدر ذاته من المتعة البصرية.
المخرج هاني أبو أسعد، الذي بيّن خيبة «أبو ماريا»، الحالم بمصافحة البابا خلال زيارته إلى الناصرة، مدينة المسيح الأولى، حيث كنيسة البشارة. وخيبة «أبو عرب» الذي انتقل من عامل محطة للوقود في الناصرة، إلى عامل مطعم في المهجر. والمخرج الذي دخل في تشابكات النزاع حول مقام «شهاب الدين»، حتى كاد أن يتحول إلى صراع ديني، في مدينة الناصرة، فاضحاً دور الشاباك في التحضير والتعزيز لهذا النزاع.
والمخرج الذي تساءل عن مدى ازدواجية الهوية لدى فلسطينيي 48، وحول إذا ما كان ثمة انفصام في الشخصية لديهم، خاصة في المسافة ما بين حمل الجنسية الإسرائيلية، والانتماء للهوية الفلسطينية، أي ما بين الولاء للدولة، والانتماء للوطن!.. والمخرج الذي حاول تفحُّص الأجيال الفلسطينية، المتتالية، منذ العام 1948، مؤشراً إلى جيل الهزيمة النكبة، جيل الأجداد، الذين عاشوا النكبة، وتكيفوا مع نتائجها، وجيل الآباء، أي جيل السكون المتعلّل بمجرد البقاء، باعتبارهم أقلية في وطنهم، أو أكثر الأقليات سكوناً وخضوعاً بين أيدي محتليهم. وجيل الأبناء أو الأحفاد، جيل الثورة والتمرّد، وجيل الانتفاضة، الذي سيعود إلى لحظة تقديم الشهداء..
المخرج الذي فعل كل هذا، من قبل، في أفلامه التسجيلية الوثائقية، والروائية القصيرة، هو المخرج الذي من الطبيعي، ومن المنطقي تماماً، أن يمدّ مبضعه السينمائي لتشريح ظاهرة خاصة، في الحال الفلسطيني، فيحاول الغوص في جوهرها، وكشف مضمراتها، وتفكيك أسرارها.. هذا ما سنراه يحاول فعله، في فيلم «الجنة الآن»، الذي بين أيدينا، والذي نعرف أنه أُنتج بالاشتراك مع هولندا وألمانيا وفرنسا، وحصل على جائزة الجمهور، في مهرجان برلين في شباط 2005، وجائزة أفضل فيلم أوروبي، وجائزة منظمة العفو الدولية «آمنستي إنترناشيونال»، وجائزة قراء صحيفة «مورغن بوست».. وهو الفيلم الذي من المنتظر أن يشارك في مهرجان دمشق السينمائي الدولي، ومهرجان القاهرة الدولي، المزمع انعقادهما في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، القادم.. فإلى أي مدى استطاع هذا الفيلم النجاح فيما يريده، ويسعى إليه؟..
«الجنة الآن»..
ثمة مقولة، ربما قالها غي دي موباسان، مفادها إن «القصة الجيدة، هي تلك التي تبدو وكأن لها مقدمة طويلة، محذوفة». وفيلم «الجنة الآن» يبدو أن يتمثل هذه المقولة بقوة، فمنذ المشهد الأول نرى فتاة تودّ عبور الحاجز.. سنعرف عما قليل أنها «سها»، فتاة فلسطينية، «وُلدت في فرنسا، وترعرعت في المغرب»، وأصبحت «عائدة» من ضمن العائدين إثر اتفاقيات أوسلو، وبالتالي صار من الواجب عليها المرور بين أصابع جند الاحتلال، ومعابرهم.. «عائدة» إلى الوطن الفلسطيني، بعد سنوات من المنفى، (تؤديها الممثلة المغربية لبنى الزبال).
ننتبه إلى المشهد: الحاجز خال من المارة، يعمّه الصمت والهدوء. فقط الأصابع تتناقل بطاقة الهوية، والأيدي تفتش الحقيبة، وبندقية مدلاة على الكتف، وأخرى مصوبة إلى الصدغ، والعيون تتعارك بنظرات صامتة، وإيماءات آمرة، تسمح بالمرور، إلى حيث تبدأ الحياة على مفتتح الطريق إلى نابلس.
ينتقل الفيلم، مباشرة، إلى ثنائي من الرجال النابلسيين. شابان عاملان في محل «أبو سمير» لتصليح السيارات، وهاهما يتشاجران مع أحد الزبائن العنيدين. وبإشارة هذا الزبون إلى اعوجاج والد أحدهما، من خلال القول: طرف السيارة «مايل زي أبوك»!.. ومن خلال ردّ الفعل المدمّر لذلك الطرف، وفوران القهوة في ركوتها، يكون الفيلم قد رمى للمشاهد أولى مفاتيح رموزه، التي يتمّ إدراكها، فيما يأتي من أحداث الفيلم.
هكذا ينطلق الفيلم، في حكايته، من الكثير من التفاصيل والمعلومات والأحداث، التي تضمنتها تلك المقدمة المحذوفة.. فقصة الفيلم ستقوم بترميم الفجوات الموجودة في الحكاية، بتصاعدها، وتقدمها. كمشاهدين سنرى الرجلين يدخنان النرجيلة. يستمعان لأغنية. يتحدثان عن الحب، و«سها، بنت أبو عزام». وستأخذ أحدهما الغبطة، فيقوم للرقص..
هذا الثنائي الذي يبدو على تناسق ظاهري، في محل تصليح السيارات، وفي الجلسة الودودة العابثة، على تلّة تشرف على مدينة نابلس، سيظهر لنا متناقضاً في أعماقه، وفي ردود أفعاله، فالرجل الأول «خالد» يبدو مرحاً، ضاحكاً، مقبلاً على الحياة، ابن مدينة، (يؤديه ببراعة، علي سليمان)، بينما يظهر «سعيد» متحفظاً، يرفض الابتسام حتى أمام الكاميرا، ابن مخيم، (يؤديه ببراعة وقوة، قيس ناشف)..
يستغرق المخرج قرابة (12 دقيقة)، من فيلمه، في مجال تأسيس الصورة الذاتية للشخصيتين، وذلك قبل أن يأتي «جمال»، معلم مدرسة على قدر من التديّن، لا يصل به إلى مستوى الإسلاميين أبداً، (يؤديه عمرو هلال)، ليبلغ صديقنا «سعيد» بموعد عملية تفجيرية في تل أبيب، من المقرر أن يتم تنفيذها غداً، رداً على اغتيال القائد «أبو حازم»، واستشهاد «ابن أم جابر»!..
نعلم مع خالد وسعيد، بأن الاختيار وقع عليهما، ليقوما بتنفيذ العملية، تماماً كما طلبا، من قبل.. وهذا يتفق مع حقيقة أن طراز هذه العمليات، إنما تتم وفق رغبات من يقوم بالتسجيل، طالباً القيام بها، وهو ما كان قد تناوله المخرج إياد الداوود في فيلمه «فن الحياة»، حيث قوائم الراغبين بتنفيذ تلك العمليات، تتطاول على طريقة قوائم طالبي الحصول على مؤن الزيت والسكر، من الجمعيات!..
في التفاصيل المؤسسة، تبدو عائلة «سعيد» غير محافظة أبداً، ندرك ذلك من منظر والدته وشقيقته وشقيقه، وطريقة تعاملهم مع بعضهم البعض.. وستبدو عائلة «خالد» على الطراز نفسه، من حيث كونها عائلة غير محافظة، وإن كانت أكثر توازناً، داخلياً، وأفضل مستوى اقتصادياً.. (المخيم والمدينة، مرة أخرى)!..
ثمة علاقة ودّ خاص، تتوالد فيما بين سها وسعيد، سنرى واحداً من تعبيراتها، في ليلة الاستعداد للعملية، إذ عند قرابة الساعة الرابعة صباحاً، يتسلل سعيد إلى منزل سها، ويدَّعي أنه جلب لها مفاتيح السيارة!.. دون أن تنطلي هذه الحيلة على سها، التي تدعوه للدخول، وتناول كأس شاي.. وتدور بينهما ثرثرات من طراز سؤالها عما إذا كان يذهب إلى المقهى، أو يحضر أفلام سينما.. فيجيبها بأنه ذهب مرة من أجل «حرق سينما ريفولي»، بسبب إغلاق إسرائيل المعبر!..
«سها» ابنة «أبو عزام» أحد شهداء الثورة، ممن كانوا قيادة فيها، أيام الكفاح المسلح، تظهر على نحو الفتاة الواثقة من ذاتها، ومن ثقافتها، ومواقفها، ورؤيتها، تجاه الحياة والواقع، والاحتلال، والكفاح.. وتترك القلق والارتباك والتلعثم لـ «سعيد» الذي نراه يسأل أمه عن مشكلة والده، أي عمالته للاحتلال، فتبرر أمه قائلة: «إن ما فعله كان لأجلنا»!..
على خلفية «كتاب التحرير والمقاومة»، وهي طبعاً قوى افتراضية، غير موجودة في الواقع الفلسطيني، يقرأ خالد وصيته الأخيرة، التي تتمازج فيها القراءة الدينية، بالقراءة الوطنية، والموقف العلماني الديمقراطي، بالموقف السياسي الرسمي فلسطينياً.. كما يداخل الفيلم الجد بالهزل، حيث يميل المخرج إلى نوع من المفارقات، من طراز عطل في الكاميرا، والاضطرار لإعادة قراءة الوصية بشكل مختلف، أو تناول المشرفين على العملية (المتدينين شكلاً) شطائر الخبز خلال التصوير.. وهي مفارقات كان يمكن أن تؤدي إلى شيء ما، لو منحها المخرج عناية أكثر ذكاء!.. كأن يترك خالد القراءة التلقينية، المُعدة سلفاً، على طريقة الببغاوات، وينتقل إلى حديث بوح وجداني شفاف، يكشف عما في داخله حقيقة، ويمتلك مصداقية أكثر في التعامل مع الأشياء، ذاك الذي رأينا طرفاً منه في الحديث عن «فلتر» الماء!..
يدخل الفيلم في كواليس التحضير للعملية، من بوابة الدين حصراً، حيث الدعاء، والصلاة، وغسيل الجسد، والأكفان، على الرغم من أن الرجلين لم يبدوا متدينين أبداً، بل ولا يتجاوزا مفهوم التدين الشعبي التقليدي، عند عامة الناس، وهو التدين الذي لا يرقى إلى درجة المقرر الأساس في الحياة، أو الموقف، أو السلوك. بل إن «الجنة» لم تبد هدفاً بحد ذاتها عند أي من الرجلين، حتى أنه بعدما تكلم القائد «أبو كارم»، واعداً بإكرام ذكراهما كبطلين، كانت طلبات خالد تنحصر في توفير أفضل ظرف لأسرته من بعده، فيما لو تعرضا لانتقام من إسرائيل، كما طلب تعليق صورته وسعيد معاً..
«على الأكيد»؟.. سيكون هذا سؤال خالد، للمشرف على العملية، في مجال الحديث عن حقيقة قدوم ملكين من السماء، لأخذهما إلى الجنة، بعد تنفيذ العملية!.. وبمقدار ما في هذا السؤال من سذاجة، وطرافة، ففيه الكثير من الشك، الذي لا يليق برجل عنده الحدّ الأدنى من الإيمان!..
«فكرك بنعمل إشي صح»؟.. من جهته، سيكون هذا سؤال سعيد لصديقه خالد، مما يعني الشك الذي يختلج في دواخله، عن مدى صوابية هذه الطريقة التي ينخرطان بها، وهل هي الطريقة الصحيحة للنضال!...
وإذ تنغلق دائرة الشك على المستويين، كليهما: المستوى الإيماني العقيدي، بالسؤال عن حقيقة حضور الملكين، للانتقال بهما إلى الجنة، قبل التساؤل أصلاً عن وجود الجنة ذاتها!.. والمستوى الكفاحي الجهادي، بالسؤال عن مدى صحة هذه الطريقة، وجدواها ومردودها السياسي، وعن وجود، أو عدم وجود، طريقة أخرى أكثر جدوى!.. لا يكون من الرجلين إلا أن يتابعا حوارهما الأخير، وهما يبولان، تارة، أو يمجّان سجائرهما، تارة أخرى.
المصادفة التي لا معنى لها، تعيق الاستمرار على طريق تنفيذ العملية، فيفترق الصديقان هاربين، خالد عائداً إلى مجموعة المشرفين على العملية، حيث يتم تخليصه من الحزام الناسف، بينما يتوه سعيد هائماً في المكان. رجل يتجوّل، وعلى وسطه يلتفّ حزام ناسف!.. يستطيع الوصول إلى موقف حافلة ركاب إسرائيلية، بل والوقوف على باب الحافلة، دون أن يصعد، بسبب وجود أطفال ونساء.. ويذهب إلى المقر الذي تمّ فيه تجهيزه للعملية، فيجد الرجال وقد غادروا المكان. يأخذ بالبحث عن خالد، فيما هذا يبحث عنه، من ناحيته.
الدوران في المكان، يقود سعيد للالتقاء بسها، والانطلاق معها في سيارتها، وإذ تكتشف أن الشرائط التي تصور الوصايا الأخيرة للشهداء، أو اللحظات الأخيرة لتصفية العملاء، تباع في الأسواق، يبلغها سعيد بحقيقة والده، الذي كان عميلاً للإسرائيليين، وتمّت تصفيته خلال الانتفاضة الأولى، عندما كان هو في العاشرة من عمره..
والدوران في المكان، سيتجدد مرة أخرى، بعد أن يفرّ سعيد، فتلحقه سها وخالد، خلال حوار عنيف يدور بينهما عن القدرة على الحياة والموت، وعن سبل الكفاح العديدة، وعن الفارق ما بين التضحية والانتقام، وعن العلاقة بين الضحية والجلاد، وإمكانية الحلول المتبادل في موقع الضحية والجلاد، والخلل الكبير في موازين القوى..
هل الجنة موجودة فعلاً، أم هي مجرد فكرة في الرأس؟.. وهل يكفي أن تكون، حتى لو فكرة في الرأس، لتعوض عن حياة الجحيم هذه؟.. لن سيتمر النقاش طويلاً، في هذا المجال، إذ سرعان ما ينتصب الحاجز الإسرائيلي يسدّ الطريق في وجه السيارة، ويجبرها على الرجوع.. إلى حيث خالد ممدد جسده على قبر والده..
هل العار الذي تجلل به والده، والعار الذي عاشه سعيد، موروثاً عن والده، ومغموساً به منذ أن كان عمره عشر سنوات، هو الدافع الحقيقي وراء كل ما يفعله سعيد؟.. أم هي الرغبة بالجنة؟..
سوف يقدم سعيد مداخلة طويلة، تعود به إلى ولادته في المخيم، وعيشه في سجن كبير في قبضة الاحتلال، وقناعته بأن الاحتلال يمارس جرائم كثيرة، ولكن من أبشع الجرائم التي يرتكبها، هي استغلاله لضعف النفس البشرية، وإسقاط البعض في العمالة!.. كما يبين رؤيته لطبيعة هذا الصراع الدائر، وخلل القوة الذي لا بد من الاستعاضة عنه بتوازن الرعب، خاصة في ظل الصمت العالمي المطبق..
هكذا يخرج سعيد بنفسه من دائرة الحالمين بالجنة، ويدخل في دائرة الراغبين بالاغتسال من العار؛ العار الموروث بالهزيمة، والتخاذل، والعمالة.. عار الوقوع في قبضة الاحتلال وتذوق بطشه الموجع.. عار اللجوء والشتات، والوجود في مخيم.. عار الإحساس بانتقاص الكرامة، وافتقاد العدل، والعيش بحرية..
في تل أبيب، يصل خالد إلى قناعة بوجود طرق أخرى، للنضال وللتحرير، غير العمليات التفجيرية، مؤمناً بما قالته سها، ويختار العودة عن تنفيذ العملية، لكن سعيد (ابن المخيم) قرّر أن لا يعود إلى المخيم، مرة أخرى، أبداً، فيمضي إلى حتفه ذاهلاً، ممتطياً حافلة ملآى بالجند!..
هاني أبو أسعد، المخرج امتلك حرفية فنية جيدة، فبدا الفيلم في حالة فنية راقية، خاصة من ناحية إدارة ممثلين من المفترض أن ليس لدى كل منهم تجربة سينمائية ملحوظة، كما يمكن الانتباه إلى التصوير الذي عرف التقاط الكثير من جماليات المكان، وعلاقته مع الانفعالات الداخلية للشخصيات، ومن حيث ضيق الأماكن أو انفتاحها، والنور والعتمة والظلال، والنجاح في تنفيذ المشاهد الصعبة، السريعة والمتحركة والمتنقلة..
فيلم «الجنة الآن» ينضم إلى النسق الأول من الأفلام الفلسطينية، ذات المستوى الفني العالي، والذي يجعل منها ما يمكن تسميته «كلاسيكيات السينما الفلسطينية»، تماماً مع «عرس الجليل»، و«يد إلهية»، و«عطش».. وهو لن يقل عن هذه الأفلام إثارة للإشكاليات في ما يتعلق بالمضمون.
وبالعودة إلى ما كتبناه في بداية هذه الدراسة، يمكن القول بوضوح:
صحيح أن الغرب يريد رؤية هكذا أفلام، تتناول الفلسطينيين مباشرة، إلى الدرجة التي يبدو فيها الاحتلال فكرة مجردة، والمحتل ديكوراً في المكان، يحضر ذكره، وقد نراه، ولكننا لا نرى ممارساته!.. ولكن من الصحيح أيضاً أننا، كفلسطينيين وعرب، بحاجة أكثر لمشاهدة الفلسطيني، والتفتيش في صورته، وأفكاره، وقناعاته، وتفاعلاته، وتحولاته.. حتى لو استدعى ذلك الاصطدام بالمألوف، أو تناول المسكوت عنه..



#بشار_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بشار إبراهيم - عن فيلم «الجنة الآن» للمخرج هاني أبو أسعد