أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - علي كريم: أول الفلسفة سؤال!















المزيد.....


علي كريم: أول الفلسفة سؤال!


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4934 - 2015 / 9 / 23 - 21:25
المحور: الادب والفن
    


علي كريم: أول الفلسفة سؤال!
(نصوص)
عبد الحسين شعبان

I
لا يمكن أن أستحضر براغ أو دمشق في ذاكرتي إلاّ ويقفز إلى ذهني، زملاء وأصدقاء وأحبّة، كانوا بالنسبة لي جزءًا من سرديّة المكان وسرديّة الزمان في الوقت نفسه. ومن بين هؤلاء الدكتور علي كريم سعيد (زاغي). وعلى الرغم من إنني لم أزر دمشق الحبيبة، خلال السنوات الأربعة الماضية ، لكن طيفها لم يفارقني. أما براغ فإنني أتردّد عليها بين حين وآخر وإنْ ابتعدتُ عنها، فعلى الكراهية أيضاً. بين دمشق وبراغ علاقة حميمة على حدّ تعبير الشاعر الكبير الجواهري، الذي عاش مثلما عشنا علي كريم وأنا في المدينتين الرائعتين.
ولا بدّ من كلمة سريعة في المدينتين اللتين وقعنا نحن الثلاثة في حبّهما وتطارحنا معهما الغرام، وهما يبادلان المحبة بالمحبة والرفقة بالرفقة والصداقة بالصداقة، فدمشق "الشام" ومدينة الياسمين والغوطة التي تحتضنها قال فيها المؤرخ ياقوت الحموي " ما وُصفت الجنّة بشيء، الاّ وفي دمشق مثله" وكتب الشاعر نزار قباني قصيدة يقول فيها : كتب الله أن تكوني دمشقا/ بك يبدأ وينتهي التكوين.
المدينة ذات التاريخ العريق والتي تعتبر من أقدم المدن في العالم والمعروفة قبل 2000 ق.م بـ "داماسكي" وقبل ذلك تيمساك أو تيماسكي أو دمشقا أو دمشقو (وتعني المكان الوافر بالمياه) وبعد الفتح الإسلامي عُرفت بدمشق الشام تمييزاً عن غرناطة في الأندلس التي سمّيت بدمشق العرب، وحسب التنقيبات الجيولوجية والآثار فإن غوطة دمشق ووادي نهر بردى كانا مأهولين بالبشر منذ نحو عشرة آلاف عام ، وضمّت المدينة أضرحة يوحنّا المعمدان – يحيى_ في الجامع الأموي وضريح السيدة زينب وأم سلمة وحفصة بنت عمر الخطاب وبلال الحبشي ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس ومحي الدين بن عربي والفارابي، مثلما دفن فيها الجواهري ومصطفى جمال الدين وهادي العلوي وعبد اللطيف الراوي وعبد الوهاب البياتي وعلي كريم، وشاء القدر أن تضم قبر والدتي أيضاً.
أما براغ وتكنّى بالمدينة الذهبية وتُعرف بمدينة المئة برج، لكثرة الأبراج فوق كنائسها وقصورها، وقد تأسست المدينة في أواخر القرن التاسع الميلادي وازدهرت إبان حكم الملك تشارلس الرابع، الذي بنى جسر جارلس (الحجري) وجامعة جارلس العام 1348 وهي من أقدم الجامعات في العالم ، عرفت الكثير من المشاهير ، منهم العالم اللغوي كومنسكي مؤسس اللغة التشيكية الحديثة وعالم الوراثة ميندل والروائي فرانس كافكا والروائي ميلان كونديرا،وبتراجشك المستشرق الكبير الذي ترجم القرآن، والموسيقار دفورجاك، كما اشتهرت براغ بالمسارح، مثل مسرحها الشهير " المسرح الوطني" والمسرح الأسود واللاتيرنا ماجيكا " الفانوس السحري"، وغيرها وامتازت بكاتدرائياتها القوطية وبنائها المعماري القديم، من الفن الباروكي وعصر النهضة والفن القوطي، إلى الفن الحديث.
وكنت مؤخراً في رحلة استشفاء إلى جمهورية تشيكيا وبصحبة صديق عزيز هو الدكتور عصام الحافظ الزند، الذي اصطحبني إلى مصحّ " بودي برادي"، وفي حين كنتُ مستغرقاً بالتفكير في ذكرياتي " الغالية"، وإذا به يفاجئني بسؤال مثير كعادته: متى تكتب عن علي كريم؟
شعرتُ إن الزند وهو يداهمني بسؤاله، كأنه كان يقرأ أفكاري، فبراغ التي قضيتُ فيها فترة من شبابي " الأول"، ظلّت تلهمني بالكثير من القصص والحكايات والنوادر والحِكَمْ، التي كنت أستعيدها مع نفسي، ومع الأصدقاء باستمرار، ومنها العلاقة مع أصدقاء رحلوا عن دنيانا، منهم موسى أسد الكريم (أبو عمران) وغازي فيصل وشمران الياسري (أبو كاطع) ومحمود البياتي وعلي كريم ومؤخراً عباس عبيدش وغيرهم.
جمعتني مع علي كريم مدن ومناطق وحارات، وأفكار وسجالات ومواقف، فقد عرفته في النجف في محلّة البراق، وعلى نحو متقطّع إلتقيته في بغداد في مطالع الستينيات من القرن الماضي، ولكن معرفتي الحقيقية به كانت في دمشق، ومن ثم في براغ، في السبعينيات، وبعد ذلك التقينا في الجزائر وفي مدينة لايدن الهولندية حيث أقام، وفي لندن، حيث كنت أقيم. وكان "رفيق" علي كريم " الدائم" وصديقه الحميم هو السؤال، وأول الفلسفة سؤال كما يُقال، وكان ذلك طريقه إلى المعرفة، ولأن الأسئلة كانت تتوالد لديه، فقد اختار دراسة الفلسفة في جامعة دمشق.
قلتُ له في النصف الأول من السبعينيات في دمشق وبعد مكاشفات ومصارحات وهموم، لماذا لم تصبح شيوعياً؟ قال أنتم السبب، قلت ولماذا؟ قال لأنكم لم تدركوا مزاج الناس، ولاسيّما وهم في أول الطريق، فقد أرسلتم لي من لا يستحق "اللقب" في حين أن الصورة لديّ " مثالية"، فأعرضتُ عنه وعن الذين يمثّلهم، مع إن أجواء العائلة كانت مع اليسار، كما تعرف.
وسألته متى أصبحت بعثياً؟ فأجابني بعد العام 1963 وسقوط تجربة البعث الأولى، وأضاف تصوّر أنا المعجب بمحمد موسى التتنجي أتوجه إلى حزب البعث بدلاً من الحزب الشيوعي. وبالمناسبة فمحمد موسى كان أحد الأبطال الشعبيين، الذين يمثّلون رمزاً شجاعاً للشيوعية في المدينة، وقد استشهد تحت التعذيب في العام 1963، وأُخفيتْ جثته ولم يظهر له أي أثر، وكان قد تعرّض للتعذيب في النجف والحلّة وبغداد.
لقد اختار علي كريم، حزب البعث بعد الإطاحة بحكمه لينضمّ إليه، وليس عندما كان في السلطة، وقد تكون تلك إحدى مفارقاته ، وكما أخبرني بأنه انشغل مع أصدقائه ومعارفه من البعثيين ومن بينهم مهدي الشرقي وحمد القابجي وصدقي أبو طبيخ بمراجعة التجربة ونقدها، وهو ما أقنعه بالمسار الجديد كما قال، ووجده وسيلة للتعبير عن طموحه وآماله، لأسباب تتعلّق بإيمانه بالوحدة العربية والموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية، ولكنه حتى وإنْ كان في ذلك الموقع، فإنه كان يتطلّع إلى يسار أكثر راديكالية، خصوصاً في قضايا التحوّل الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وهو ما كان يطلق عليه " الاشتراكية العلمية"، في موجة يسارية عارمة على صعيد الكثير من الحركات القومية والوطنية.
وفي المسائل التي يشتبك فيها الشيوعيون مع البعثيين، لم يكن ينحاز بطريقة مسبقة، بل كان يميل إلى الحقيقة أحياناً، كما يتصوّرها، سواء ضده أحياناً أم معه، فلم ينظر للمسألة من زاوية تعصّبية ضيقة، وإنْ كان لا يجاهر بها أو يعلنها صراحة بحكم الالتزام الحزبي، لكنه يهمس بها هنا، ويسرّبها هناك، وتلك مفارقة ثانية، خصوصاً عندما يتعارض فيها الأكاديمي مع السياسي لدى علي كريم، ويتناقض السياسي مع الحزبي، والحقيقة على ما سواها من التنظيرات والتبريرات.
قلتُ له في أحد المرّات أنه كيانياً وعاطفياً مع حزب البعث، وشعورياً وعقلياً أقرب إلى اليسار والماركسية، وقد استحلى تلك الفكرة، وأضفتُ أنت تجلس على مقعد وتتطلّع إلى مقعد الآخر، وكنتُ أشعر أنه يجد راحة له وطمأنينة أكثر بمثل هذا الاستبدال أو التناظر، بل إنه لا يجد غضاضة أو تناقضاً فيه، بقدر ما هو تفاعل وتواصل وتكامل، لاسيّما في البحث عن الحقيقة.
والحقيقة عند علي كريم ليست مقدّسة بذاتها، إنها سؤال قد يقود إلى رحلة مضنية، وتلك الرحلة في البحث عن الحقيقة هي الأكثر جدارة وصدقية والأقرب إلى روح علي كريم، حتى وإن كانت تعني تخلّيه عن راحة البال، فالبحث عن الحقيقة يستوجب مثل تلك التضحية التي كان يشعر بمتعة خاصة حين يقاربها حتى وإن امتزجت بالألم. لا توجد حقائق ثابتة أو سرمدية لدى علي كريم، فقد كان مسكوناً بالشك الديكارتي، والشك هو طريقه للمعرفة .
لا أدري إن كان علي كريم قد قرأ عبارة كافكا " العيش في الحقيقة" التي استخدمها في إحدى رسائله أو يومياته، وعادت وتكرّرت لدى كونديرا حين استخدمها في روايته الرائعة " خفّة الكائن التي لا تحتمل " ولكنني اكتشفت وأنا أراجع كتب فاسلاف هافل التي أعارني إياها عصام الحافظ الزند، وهي : كتاب مفتوح إلى غوستاف هوساك، وكتاب ضمّ مسرحياته الثلاث في فصل واحد " المواطن فاينك"، أما كتابه الثالث فهو بعنوان " قوة المستضعفين" الذي يتحدث فيه عن " العيش في الحقيقة" كوسيلة لمقاومة الوهم ورفض الزيف في نظم ما بعد الشمولية.
والثلاثة كان يهمّهم أن تكون الحياة حقيقية بعيداً عن الإكراه والقسر والتدليس. وقد يكون ذلك هو ما قصدته من بحث علي كريم عن الحقيقة، التي كان يتمنّى أن تنطبق مع قناعاته وآرائه، مع إن الشك يملأ قلبه، فيما إذا كانت الحقيقة بلا رتوش هي التي قصدها أم قريبة منها، وكم كان يقلق فيُهاتفني ليلاً ليسأل عن حادث ما أو اسم ما أو يصحح رأياً ما أو يعدّل استنتاجاً ما، خصوصاً عندما كتب عن " البيرية المسلحة" "
مفارقة ثالثة امتاز بها علي كريم، فهو وإنْ اختار التيار القومي بعاطفته وقد يكون بوعيه لاحقاً، لكّنه ظلّ مشدوداً إلى التيار اليساري الماركسي، لا بعقله فحسب، بل بحكم اشتباك علاقاته، خصوصاً وقد كان يعيش بأجواء يسارية: عائلته وأصدقاؤه وجيرانه، ناهيك عن وضعه الاجتماعي، لكنه فضّل البعث على سواه، حتّى وإن ظلّت عينيه تتطلّع إلى الآخر، بل وترنو إليه، فقد كان يميل إلى جوار الأضداد وحوارها.
وأعتقد إن جيلاً من البعثيين واليساريين تأثر بأفكار ياسين الحافظ، لاسيّما المزاوجة بين العروبة والقضية الاجتماعية، مثلما ترك الياس مرقص في قراءاته غير التقليدية للماركسية في وقت مبكر تأثيرات بالغة الأهمية على الحركة اليسارية والشيوعية ، على الرغم من اليقينيات التي كانت سائدة والجمود العقائدي المتحكّم ، وبقدر ما ينطبق الأمر على علاقة علي كريم باليسار، فإنه ينطبق أيضاً على نظرته للتيار الإسلامي وعلاقته به .
امتاز علي كريم بشجاعة وإقدام كبيرين، حتى إنه كان يتسلّل من سوريا التي كان فيها لاجئاً إلى العراق لكي ينقل بريداً حزبياً، أو يتّصل بعدد من العوائل البعثية اليسارية المقطوعة، ليوصل إليها بعض المساعدات كما أخبرني، وحصل ذلك معه لأكثر من مرّة، وقد أعلمني أن الأمر كان بتكليف خاص من أحمد العزاوي الأمين القطري للتنظيم العراقي، الذي اغتيل في مكتبه بالقيادة القومية في السبعينيات وفي ظروف غامضة.
قلتُ له ماذا تريد من عملك هذا أو بالأحرى ماذا تريدون؟ قد يكون الأمر مفهوماً بالنسبة لنا : نحن نريد إقامة نظام اشتراكي وفقاً للماركسية ، ولكن ماذا تريدون أنتم هل "استبدال البعث بالبعث"؟ في ممازحة مملّحة، فقال لي أن نجاحنا سيقرّبكم منّا، وعلى أقلّ تقدير فإن وضع الشيوعيين في سوريا وعلاقتهم مع السلطة أفضل من العراق، مع فارق نفوذ الشيوعيين العراقيين .
قلتُ له إن موقفكم من القضية الكردية لا يزال قاصراً حتى بعد بيان 11 آذار/مارس العام 1970، لاسيّما لمشروع الحكم الذاتي، وكان حزب البعث "اليساري" حتى أواخر العام 1971 لم يقرّ صيغة الحكم الذاتي، فقال لي إن في ذلك قيداً من التنظيم القومي مثلما لديكم قيوداً من المركز الأممي، أما علاقتهم مع الأكراد، فهم حلفاء لنا ونحن لدينا علاقات إيجابية معهم.
حين بدأتْ مجاميع مسلّحة تتكاثر في كردستان مع مطلع الثمانينيات أسّس اللواء حسن النقيب بالتعاون مع باقر ياسين الأمين القطري الأسبق لحزب البعث، فصائل الثورة العراقية بدعم من سوريا، وذهب علي كريم وشفيق الياسري وراضي الحصونة وأسعد الجبوري ومحمود شمسه وآخرين إلى كردستان لبضعة أسابيع أو أشهر، وهؤلاء جميعهم كانوا بعثيين ولكن خارج قيادة قطر العراق التي كان يقودها رسمياً عبد الجبار الكبيسي (حازم حسين). وفي تلك الفترة عرّفني علي كريم على محمد عبد الطائي" أبو يوسف" الشخصية المسالمة والراقية، والذي استشهد في مطلع التسعينيات في العراق، وكنتُ قد كتبتُ رثاءً عنه في حينها.
II
في السبعينيات كان علي كريم رئيساً للاتحاد الوطني لطلبة العراق في دمشق، وعمل على تأسيس جبهة طلابية مع المنظمات الطلابية التابعة إلى القيادة المركزية للحزب الشيوعي (بقيادة ابراهيم علاّوي بعد اعتقال عزيز الحاج) والاتحاد الوطني الكردستاني بعد تأسيسه في العام 1975 والحركة الاشتراكية العربية، وذلك بعد تأسيس "التجمّع الوطني العراقي"، وقد استضافني مع الصديق لؤي أبو التمن في مقرّ الاتحاد وأجرى حوارات صريحة معنا بحضور نخبة من الأصدقاء والقياديين بينهم "محمود" (رشاد الشيخ راضي)، كما عرّفني حينها على ضرغام عبدالله واسمه الحركي (ياسين) عضو القيادة القومية (الاحتياط) في حينها وذلك قبل عودته إلى العراق، ووجدته شخصاً متميّزاً، كما عرفت حسن الذهب ومحسن العسّاف وفاضل الأنصاري وكانوا من البعثيين القدامى، ولكلٍّ منهم مواصفاته الخاصة، كما ربطتني علاقة متميّزة مع الأمين القطري باقر ياسين، وكذلك مع فوزي الراوي وهو صديق قديم منذ أواسط الستينيات في بغداد وسهيل السهيل وكاظم لملوم الركابي (وهؤلاء جميعهم على ملاك القيادة القومية) وكذلك مع اسماعيل القادري وشفيق الياسري وحكمت الهلالي (وائل) ومهدي العبيدي " أبو صلاح" وحامد سلطان (القامشلي) وشناوة طاهر حنيّن (أبو رياض) وآخرين.
أخبرني أن السوريين اقترحوا عليه العمل في إحدى الملحقيات الثقافية (مساعد ملحق) بعد تخرّجه من قسم الفلسفة في جامعة دمشق، وكان معجباً حينها بأستاذه العروبي اليساري الدكتور "الطيب تيزيني"، الذي أصبح صديقاً لي فيما بعد، واشتركتُ معه في أكثر من ندوة ومؤتمر في دمشق والرقّة وفي العديد من العواصم العربية، وأخبرته أنني تعرّفتُ عليه قبل أن أقرأ له، من خلال علي كريم أحد طلابه في السبعينيات.
قلت لعلي كريم، الوظيفة زائلة ولها مشاكلها، أما الشهادة والعلم فهما الباقيان، فاختَرْ دراسة الدكتوراه وأنت مؤهل لذلك. بعد بضعة أشهر استلمتُ منه برقية يبلغني فيها أنه قادم إلى براغ للدراسة، وكان يريد قبل ذلك اختيار موسكو، وعندما سألني عن رأيي قلت له: اخترْ إما برلين أو براغ .
وصل علي كريم براغ هو وفؤاد الشيخ راضي، الشاب المؤدب الوسيم، الذي عاد بعد بضعة أشهر إلى دمشق ومنها إلى العراق، حيث توفّي في ظروف غامضة، وساد الاعتقاد حينها أن سبب وفاته لم يكن بعيداً عن السلطة في العراق، فمارست عليه ضغوطاً لم يتحمّلها.
في براغ استضفته لعدّة أيام وعملت على حلّ بعض مشاكله مع الجامعة بحكم كوني رئيساً للطلبة في تشيكوسلوفاكيا، وحصل نوع من التوافق، بالاعتراف بشهادته مقابل إعطائه عدداً من الامتحانات كبرنامج خاص، وهو الأمر الذي حصل معي أيضاً.
عرّفته على "أبو كاطع" (شمران الياسري) وموسى أسد الكريم " أبو عمران" والجنرال غضبان السعد ومحمود البياتي وعصام الحافظ الزند وحميد الياسري وآخرين، وتعرّف لاحقاً إلى علي الشوك الذي جعل من علي كريم أحد شخصيات روايته " مثلث متساوي الساقين" كما نبّهني إلى ذلك الدكتور الزند، وكان كثيراً ما يدخل نقاشات معهم إلاّ أنها وعلى الرغم من حدّتها أحياناً، تنتهي دائماً بالمودة وتعزيز العلاقة على الرغم من أن هناك من كان يحاول استفزازه، من خارج هذه الدائرة.
كان السفير السوري عبد الرحمن فرزات " أبو رشا" قد وصل براغ، وكنت قد تعرّفتُ عليه في المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي، حيث كان عضواً قيادياً مع ماجد هدّاد ومحمود الحسن وآخرين. وقد أخبرته بأننا رشّحنا "سوريا" لتكون عضواً في اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب العالمي، وذلك بعد قبول الاتحاد الوطني مباشرة في عضوية الاتحاد وهو ما تفاجأ به، وساهم ذلك في تعزيز جسور الثقة بيننا، حيث نشأت صداقة بين عبد الرحمن فرزات وبيني، وكان قد عرض عليّ فيما إذا احتجنا لأية مساعدات أو جوازات سفر أو الحصول على عمل في الشام ، فإنه سيقدّمها لي شخصياً أو لمن أمثّلهم دون أية اشتراطات، وتلك كانت توجيهات من قيادته (الرئيس حافظ الأسد) في السبعينيات كما أبلغني.
وشكرته على سخاء عرضه، وكنّا نجتمع أحياناً ويصحبنا علي كريم، ونناقش الوضع العراقي والسوري على الرغم من اختلاف النظامين، وقربنا من النظام العراقي حيث كنّا في جبهة وطنية معه في حين إن اختلافهم كان تناحرياً وإلغائياً معه، وعندما عاد فرزات إلى الشام أصبح مديراً لمكتب عبدالله الأحمر (نائب الأمين العام لحزب البعث) ومسؤولاً عن العلاقة مع حركات التحرّر الوطني. وكنّا نجتمع أحياناً في مكتب عبد الرحمن النعيمي (البحرين) وننسّق مواقفنا، خصوصاً عندما كنتُ مسؤولاً عن العلاقات مع القوى الأخرى في الشام.
وفي الشام تعرّف علي كريم على الكثير من الشيوعيين، وكان مستبشراً بوجودهم، وطرح على الكثير منهم أسئلة شائكة عن فترة الجبهة وعن توجّهنا الجديد، وكانت من اللقاءات الممتعة اجتماعاتنا ولقاءاتنا لدى الصديق طارق الدليمي بكرمه المعهود، حيث كان يتردّد عليه هادي العلوي وسعدي يوسف ومظفر النواب ومحمد عبد الطائي وعلي كريم وعدنان المفتي وأحمد الموسوي وماجد عبد الرضا وشاكر السماوي وعبدالله الركابي وجمعة الحلفي وفاضل الربيعي وشيركو بيكسه وكاظم السماوي ( عند زيارتها إلى دمشق) وآخرين.
كان علي كريم يبحث عن التكامل مع الآخر، وبدونه يشعر بالركود والملل أحياناً، فقد جُبلَ على النقاش والحوار والاختلاف بحثاً عن الحقيقة. تعاون مع المفكر العراقي حسن العلوي على إصدار "صحيفة الشمس" في الشام، مثلما كانت علاقته وطيدة مع المجموعات القومية العربية والكردية، إضافة إلى علاقاته الإيجابية بشكل عام مع اليسار والحركة الشيوعية على اختلاف مدارسها وتوجهاتها وقد استضافني في الجزائر ونظّم لي ندوة تحدثت فيها عن حركة المنبر الشيوعية والاختلاف بينها وبين القيادة الرسمية للحزب، كما ارتبط أيضاً بعلاقات طيبة مع التيار الإسلامي، وكانت صلته وثيقة بالسيد مصطفى جمال الدين، وكذلك بنوري المالكي وباقر صولاغ وصلاح عبد الرزاق وابراهيم الجعفري وآخرين.
كنت أمازح علي كريم بمقولة المفكر الفرنسي الماركسي ألتوسير: إن فهم التاريخ هو قراءة الوعي بضدّه أو كما يقول الشاعر علي بن جبلة "ضدّان لما استجمعا حسناً / والضد يكشف حسنه الضدّ"، فلو اكتمل العالم فأي معنى سيبقى لحياتنا، وأين سيكون سؤاله الفلسفي التاريخي في البحث عن الحقيقة، وقد حاول التعبير عنه بالموقف من الآخر في كتبه الثلاثة:الأول الموسوم بـ أصول الضعف - دراسة في الميل العربي المشترك وهو كتاب احتوى على ومضات جريئة قد يكون بعضها متسرعاً أو لم يكتمل أو يدقق بما فيه الكفاية، خصوصاً وأنها لم تخلُ من حماسة ثورية، وهي التي لاحظها مصطفى جمال الدين في تقديمه للكتاب.
والكتاب الثاني كان بعنوان: من حوار المفاهيم إلى حوار الدم - مراجعات في ذاكرة طالب شبيب، الذي كتبت عنه تقريضاً في جريدة الحياة (اللندنية) في حينها، وإضافة إلى أهمية مراجعة الذاكرة لقطب بعثي قيادي عريق ودبلوماسي متمرّس، فإن الأهم منها هي التعليقات والتدقيقات والشروحات التي قام بها المؤلف، داخل متن الكتاب.
أما الكتاب الثالث، فقد اختار عنواناً له: البيرية المسلحة - حركة حسن السريع ، قطار الموت 1963، وهو تسجيل لبعض وقائع حركة حسن السريع، نائب العريف الذي قاد انتفاضة شيوعية ضد حكم البعث الأول (3 تموز/يوليو/1963)، وأعدم هو ومجموعة من رفاقه. وقد اتّسم الكتاب بسعة المعلومات وحجم التعليقات والآراء التي أوردها المؤلف، والتي لها قيمة تاريخية وموضوعية لتوثيق حدث هام لم تتم عملية " أرشفته" أو توثيقه أو تدقيقه. وباختصار إنه لم يتم نقد ومراجعة التجربة بصورة كافية من جانب الشيوعيين. ولم تلقَ اهتماماً تستحقه من جانب المؤرخين حتى الآن، وقد يعود السبب في ذلك إلى نظرة التقديس أو التدنيس.
علي كريم بأسئلته المتواصلة وبحثه عن أجوبة لا وجود لها كان يمثّل دور الناقد للفكر السائد فهو لا يستكين ولا يسلّم بفرضيات جاهزة أو حتميات مسبقة، بل كان يبحث عن التجريب، في الخطأ والصواب وفي إطار منهج نقدي تاريخي مقارن.
عانى علي كريم في سنواته الأخيرة من مرض "الصدفية" ومشاكل الكبد التي استفحلت في السنتين الأخيرتين وعاش صراعاً بين اليأس والأمل، والأمل حسب الفيلسوف نيتشه "آخر الشرور، لأنه يطيل العذاب"، وهناك مثلاً شعبياً نردّده يقول " وقوع البلاء خيرٌ من انتظاره"، وهكذا فقد قرّر الرحيل بهدوء، بعد مقاومة شرسة، فقد كان يدرك أن العلاقة عضوية ومتداخلة بين الموت والحياة، وحسب الروائية رضوى عاشور : الحياة تؤطر الموت، تسبقه وتليه، وتفرّق حدوده، تحيطه من الأعلى والأسفل ومن الجانبين، وكان مثل هذا الاستنتاج حصيلة تجربتها مع المرض لحدود الموت، وقد دوّنته قبل رحيلها في العام 2013 برواية أقرب إلى سيرة ذاتية أو مقاطع منها بعنوان " أثقل من رضوى"، ورضوى اسم جبل في ينبع بالمدينة المنورة غرب المملكة العربية السعودية وهو من الجبال الوعرة، ويمكن اختيار رضوى عاشور الاسم عنواناً للكتاب تورية عن اسمها وعن المرض الثقيل الذي ألمّ بها.!!
توفّي علي كريم بعد عودته من رحلة لأداء مناسك الحج، في 25 شباط (فبراير) العام 2003، وكان حينها في أوج عطائه ونضجه. لا أدري إنْ كان قد استعجل في موته؟ ولكنه فعلها هكذا " أبو فراس" وغادرنا سريعاً. ربّما لم يرغب وهو المتطلّع إلى التغيير في أن يرى بلاده رهينة للاحتلال والمحتلّين فقرّر هو الرحيل، في حين كانت الجحافل تتوجّه صوب البلاد . وقد يكون ذلك سؤاله الأخير إلى أين أنتم ذاهبون؟ وماذا تريدون؟ وهل تتصوّرون أنّكم ستنعمون بشمس بغداد الذهبية؟
في لقائنا ببغداد الدكتور أحمد الموسوي وأنا وآخرين استعدنا ذكرى علي كريم العطرة بحزن وألم وتخيّلناه لو كان موجوداً، كيف سيدخل نقاشاً هنا وحواراً هناك وسجالاً واختلافاً، مع أن الأمر أخذ يزداد خطورة مع مرور الأيام. وبعد عام ونيّف من هذا اللقاء اختفى أحمد الموسوي (قسرياً حسب مصطلح الأمم المتحدة) حيث اقتيد إلى جهة مجهولة ولم يظهر له أي أثر حتى الآن وهو المدافع عن حقوق الإنسان والناشط في هذا المجال خلال العقد الأخير، فما بالك بالآخرين.
هكذا لم يدعنا القدر نلتقط أنفاسنا، فالموت صاحب حيلة لها دياميسها وطرقها الملتوية ووسائلها المعقّدة، " تعدّدت الأسباب والموتُ واحدُ". فهذا القدر الغاشم يُرسل إلينا باستمرار إشارات قد لا نعي مدلولاتها أو لا نعرف مغزاها، إنه يحاول " اللعب" معنا، يختبئ حيناً ويظهر حيناً آخر، وتارة يهجم علينا كوحش كاسر يريد أن يفترسنا في الحال، وتارة أخرى يتعامل معنا بمكرٍ ومراوغة ونعومة ليتمكن منّا، وذلك بعد أن يُقعدنا مرضى ومحبطين، والمرض يكسر كبرياء الإنسان حسب المسرحي سعدالله ونّوس الذي شرب المرارة بكأس التحدّي، وكم يكون قاسياً على المرء حين يشعر بضعفه وانكسار كبريائه، بعد أن تخور قواه البدنية.
حينما رحل علي كريم ورحل أصدقاء آخرون بعده، كنت أقول مع نفسي ما كان يردّده " أبو كاطع" مع الفارق في التشبيه– موتك بُطر يا حاتم السلطان، نقلاً عن أحد الفلاحين المعدمين، والذي جاء باكياً، بل لاطماً على صدره ورأسه، وهو يعيد العبارة الأثيرة، وعندما سأله أحد المعزّين عن درجة قربه من الراحل، أجاب: لماذا يموت؟ أهو محتاج إلى شيء كي يذهب حسرة وألماً فيغادرنا، لأن كل شيء لديه: العزّ والجاه والأبناء والأراضي ... فلم لماذا يموت إذاً؟ فالموت حسب هذه التورية " الحسجة" هو للفقراء والفلاحين وليس للأثرياء والشيوخ.
كان علي كريم غنيّاً بالقيم الإنسانية والنبل الشخصي، وكان بيته في دمشق وبراغ والجزائر ولايدن مفتوحاً لكل صديق أو زائر أو حتى طالب مساعدة ، فقد كان اجتماعيا وسخيّاً ومحبّاً للخير وخدمة الناس. بذلك كان علي كريم غنياً، وهو فخور بذلك الغنى على الرغم من فقر الحال أحياناً، لكنه غنى النفس وكرم الأخلاق وثراء القيم الإنسانية.
قلت مع نفسي بعد استعادة الحدث لماذا تتركنا يا علي كريم وأنت الكريم وترحل؟ ثم من يجرؤ على مغادرة هذا الكم الهائل من الأصدقاء والمحبّين؟ وأبقى عند كل فقدان وفداحة بصديق أستعيد تفاصيله الصغيرة، وأرسم عليها بالألوان صوراً ونقوشاً وأغزل منها "حكاياً" كثيرة، لأحيكَ بعدها نسيجاً قد يرضي الراحل وقد لا يرضيه.
لقد كان علي كريم شجرة باسقة ولكنّه كان دائماً بحاجة إلى ريح عاصفة لتهزّها، لتصبح قوية وسامقة ومؤهلة لكي تعطي ثمارها، فكثيراً ما كان بحاجة إلى التحدّي.وأستطيع القول أنه كان يبحث عنه.
علي كريم كان صاحب أسئلة، والشك ما بعد الشك طريقه إلى اليقين، وهذا الأخير ليس نهائياً، بل إنه مصدر شك أيضاً، وسؤال، وتلك واحدة من سماته الشخصية الإنسانية المتميّزة.
زمن تتقدم فيه الأسئلة وينهزم الجواب، كما يقول أدونيس.


في الصورة:
عبد الرزاق الصافي وعبد الحسين شعبان وعلي كريم سعيد



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفارقات السياسي والأكاديمي
- ورطة العبادي
- الحرب الباردة الجديدة
- بصمة حقوق الإنسان
- الفساد والحوكمة والتنمية
- تظاهرات العراق: من أين لك هذا؟
- فن الضحك والسخرية في أدب أبو كَاطع
- رصاصة الفراشة وصورة «إسرائيل»
- الديموغرافيا والجيوبوليتكا.. «المعجزة اليهودية الثانية»
- موسم استحقاقات العدالة.. ماذا بعد محاكمة حبري؟
- قانون التمييز والكراهية.. رسائل إلى العالم
- قتل المسلمين.. مسألة فيها نظر
- ماذا بعد ال«لا» اليونانية؟
- «النووي الإيراني».. هزيمة أم انتصار؟
- الثقافة واليسار والتبديد
- المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى /ح 16
- السياسة .. الوجه الآخر للحرب
- داعش وخطر تفكيك العراق
- سوراقيا مشروع خلاص مشرقي – فكر
- داعش وواشنطن وليل الرمادي الطويل !!


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - علي كريم: أول الفلسفة سؤال!