أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة















المزيد.....

السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1355 - 2005 / 10 / 22 - 10:41
المحور: الادب والفن
    


كان عالم النفس الشهير (كارل يونغ) – كما تقول محررة سيرته الذاتية (أنييلا يافه) – يكره عرض حياته الخاصة أمام الجمهور. ولمّا رضخ أخيراً لإلحاح أصدقائه – وكان قد تجاوز الثمانين من عمره – وافق ، على الرغم من طول تردده و شكوكه ، على سرد أحداث حياته لتكون مهمة محررة السيرة طرح الأسئلة وتدوين الإجابات فقط. وبعد عدد من اللقاءات بدأ يونغ يتخلص من تحفظه ، وراح يفتح ثغرات في القشرة الصلدة من ذاكرته ، ليطل على الأعماق – حيث الطفولة البعيدة بصورها و ألوانها و أحلامها ، وكذلك مرحلتي المراهقة و الشباب .. ثم ، بعد رواية كثيرٍ من ذكرياته المبكرة أبلغ المحررة بأنه يرغب في كتابة ذكريات طفولته مباشرة. وقد نسي يونغ تحت عبء الزمن و الشيخوخة معلومات محددة عن أحداث خارجية بعينها ، ولم يبق في ذاكرته إلاّ الجوهر الروحي لتجاربه ، كما يؤكده هو ، و محررة سيرته الذاتية(1).
ما ورد آنفاً يضعنا أمام جملة من التساؤلات: إلى إي مدى يستطيع المرء مراوغة النسيان بعد هذه السنوات الباهظة كلها ؟ وهل ستسعفه الذاكرة ، مع غياب الوثيقة ، ام إنها ستخونه ؟
عاش الشاعر الإسباني رفائيل البرتي معظم سنوات القرن العشرين ، وفي أواسط عمره كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية ، ولكنه لم يشرع بكتابة الجزء الثاني إلاّ بعد تخطيه الثمانين ، وأطلق على هذا الجزء عنوان (الغابة الضائعة).
في (الغابة الضائعة) يتذكر ألبرتي – أو هكذا يريد أن يوهمنا – أدق التفاصيل عن أشياء و حوادث قصية ( الألوان و الأشجار و الأزهار و الصخور و هزيم الريح و هدير البحر و هديل الطيور ..الخ) .. فهل يمكننا ، هنا ، أن نفصل بين رؤيا الشاعر ، و الواقعة الطبيعية و التاريخية .. بين الخيال و الحقيقة ؟
ينطبق الأمر نفسه على مذكرات بابلو نيرودا – الشاعر التشيلي الكبير – الذي أتم كتابتها بعد الستين .. لنقرأ هذا المقطع ، وهو يتحدث فيه عن مشهد ينتمي إلى سنوات طفولته الأولى:
((في دار السيد (كارلوس ماسون) كانت تجري الاحتفالات الكبرى في مناسبات الأعياد .. في كل وليمة كان يدعو إليها ، كان ثمة أوز مع كرفس ، خرفان مشوية على السفود ، و حليب مخثر مثلج في نهاية الأكل … رب العائلة ذو الشعر الكثيف المسترسل الأبيض كان يجلس في رأس المائدة غير المتناهية ، وإزاءه زوجته …. خلفه كان يوجد علم تشيلي كبير ، وقد ألصق عليه بدبوس راية أمريكا الشمالية ولكن بحجم صغير جداً…))(2).
هل بالمستطاع الثقة تماماً بتفاصيل ما كتبه نيرودا ؟
إن توجهنا لقراءة كتاب كتبت على غلافه كلمة (سيرة) أو (سيرة ذاتية) أو (مذكرات) تجعلنا أمام أفق توقع مغاير لذلك الذي يواجهنا مع كتاب آخر كتبت على غلافه كلمة (قصة) أو (ملحمة) أو (رواية) .. ففي الحالة الأولى نكون مهيئين لتلقي حقائق يُفترض أنها تنتمي إلى التاريخ ، أما في الثانية فيكون تهيؤنا لتلقي عمل أدبي نسغه الخيال قبل كل شيء.
صحيح أن كاتب السيرة الذاتية لا يقوم بوظيفة المؤرخ إلا بحدود ضيقة ، لكنه معني أساساً باستجلاء صيرورة ذات إنسانية بعمقها النفسي ، و محدداتها الاجتماعية ، و تكوينها الثقافي ، على خلفية واقع تاريخي / موضوعي. فكاتب السيرة الذاتية يقف بين الروائي و المؤرخ .. بين الفنان و العالم.. يستعير بعضاً من وسائلهما و أدواتهما و تقنياتهما ليدخل حقلاً آخر ، و يقول شيئاً مختلفاً. فالسيرة الذاتية تنتمي إلى الأجناس السردية ، و تأخذ منها بعض طرقها و قوانينها و أشكالها ، غير أنها تختلف عن تلك الأجناس في نواح عديدة منها – و أهمها ربما – الطابع الذاتي الذي يسم السيرة الذاتية ، و الصدق الواقعي / التاريخي افتراضاً .. أي ابتعادها عن تدخل الخيال الخلاق الذي يعد المحرك الأول لكتابة الرواية – على سبيل المثال – واعتمادها ، إلى حد كبير على الوثيقة.
خلال ثلاث سنوات قرأ الروائي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز آلاف الوثائق عن الجنرال بوليفار قبل أن يشرع بكتابة روايته (الجنرال في متاهته). وعند نشرها واجه اعتراضات كبيرة من قبل النقاد و غيرهم بحجة أن بطل روايته هو صورة مشوهة ، أو غير دقيقة عن الجنرال الحقيقي. وكان رد ماركيز أنه وجد الجنرال ورآه هكذا .. فهو لم يدَّع أنه يكتب سيرة ذاتية ، بل عملاً روائياً ، يعد التخييل قانونه البنيوي الأول على حد تعبير تودوروف. فكلمة (رواية) المدونة على غلاف الكتاب ستعفي ماركيز حتماً من المساءلة و محاكمة التاريخ.
إن كتابة السيرة الذاتية هي وسيلة دفاعية ضد الموت و النسيان .. ضد العدم الشاخص ، إذ يسجل الوعي ، في لحظة توتر وجودي إقتراحه البديل عن الخلود الفيزياوي المحال ، و يُنشيء خطاباً مترعاً بنبض الحياة و التاريخ.. وهي أيضاً ، محاولة لاستعادة ما تبدد وضاع تحت حوافر الزمان ، و رغبة في اقتناص المعنى – معنى ما حدث و جرى و مضى كله – و العثور على السر .. السر العميق الذي نعتقد بأنه أُس الحياة و الوجود – و الذي قد يكون وهماً في نهاية المطاف.
ومن خلال كتابة السيرة الذاتية تنشط الذاكرة ، لا في سبيل إلقاء مخزونها إلى العراء ، و إنما لمواراة و حجب ما تريد هي مواراته و حجبه من ذلك المخزون. فبقدر ما تفصح الذاكرة عن أشيائها الدفينة فإنها تناور أيضاً لتموّه و تخادع. وكتابة السيرة الذاتية هي الذروة في سعي الذات لتأكيد ذاتيتها و وجودها في هذا العالم ، لذلك من الصعب أن يكون المرء موضوعياً بدرجة كافية وهو ينجز كتابة سيرته الذاتية. فلا أحد يقبل أن يعطي صورة مشوهة عن نفسه حتى وإن كانت حقيقة تلك الصورة مشوهة في أساسها. فالنزوع إلى التسويغ و التجميل – بنسب متفاوتة – يطبع كل سيرة ذاتية ، لا محالة. و حتى أولئك الذين ارتضوا نشر الغسيل الوسخ من تفاصيل حيواتهم – مثل جان جاك روسو (على سبيل المثال) – إنما كانت الرغبة تحدوهم في رسم صورة استثنائية مميزة عن أنفسهم ، أو إعلان تذمرهم من / و تحديهم للقيم و المواضعات السائدة و الذوق العام. غير أن درجة الموضوعية تكون أكبر عندما يتصدى شخص آخر لكتابة سيرة امرئ ما ، لأنه يكون بمنجى عن تلك الوسائل الدفاعية الذاتية التي سيلجأ المرء للتحصن وراءها . ولكن ، و في الوقت نفسه ، ستبقى مناطق غائرة ، وغير مكشوفة من أعماق نفس و ذاكرة – بطل السيرة – لكاتبها.
عندما ينكب أحدٌ ما على كتابة سيرته الذاتية فإنما يحاول الإعلان عن فرادته – بغض النظر عن مشروعية ادعائه – ولاشك أن الإحساس بالفرادة يكون دافعاً مناسباً ليسترجع الإنسان ما مرَّ من حوادث في حياته (حكايات حب و مغامرات وصداقات و أسفار و حروب و أزمات .. الخ) لكي يقول كلمته الأخيرة قبل أن يمضي. أو يمارس نوعاً من تصفية الحساب مع الذات.
تدخّل كارل يونغ ليكتب فصولاً من سيرته ، على الرغم من الإرهاق الذي كان يعانيه بسبب الكتابة ، وهو في طور متقدم من الشيخوخة .. نقول ؛ تدّخل ، قبل فوات الأوان ، لأنه شكك ، ربما ، في مقدرة المحررة على إنجاز سيرته الذاتية ، أو ليتحاشى ما يمكن أن يلحق بتاريخه من تحريف و زيف و زوغان عن الحقائق.. أم تراه أراد أن يقطع الطريق على الآخرين في أن يكتبوا ما يروق لهم ؟ أم أنه سعى إلى إخفاء حقائق بعينها؟.
و بالمقابل ، ماذا حصل ، عندما لم يكتب إرنست همنغواي سيرته الذاتية ؟ .. كيف اختلفت الوقائع و الصور و التفسيرات بعد موته في كل ما يتعلق بمغامراته و كتاباته و علاقاته ، و أسباب انتحاره ، في كل محاولة ، من قبل كاتبي سيرته ، وهم كثر لاحتواء شخصيته و تاريخه ؟
لقد بث أجزاء من حياته في نسيج نصوصه الإبداعية ، ولكن هل يمكن استخلاص حياة امرئ ما بالحفر في الطبقات التحتية من كتاباته ؟ إلى أي حد يمكن فصل الخيالي عن الواقعي ، ها هنا ؟ و التصور عن الحقيقة ؟ و الأمنية عن التاريخ ؟.
إن السيرة الذاتية المكتوبة هي نص أدبي في نهاية الأمر ، منجزة بوساطة اللغة التي تستطيع أن تقارب الواقع و التاريخ ، بهذا القدر أو ذاك ، ولكنها لن تستطيع أن تتطابق معهما.
الهوامش:
1.ذكريات ، أحلام و تأملات – كارل غوستاف يونغ – ترجمة ناصرة السعدون ، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – ط1 / 2001 – مقدمة المحررة.
2.مذكرات بابلونيرودا – ترجمة د.محمود صبح – المؤسسة العربية للدراسات و النشر – ط2 / 1978 ص 16-17.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف وخانق السياسة
- نصف حياة - نيبول - نموذج للرواية ما بعد الكولونيالية
- أدب ما بعد الكولونيالية: إتساع المفهوم وتحديدات السياق
- إخفاق المثقفين
- خطاب السلطة.. خطاب الثقافة
- الفاشية واللغة المغتصبة
- الفكر النهضوي العربي: الذات، العقل، الحرية
- اغتراب المثقفين
- في الثرثرة السياسية
- ماذا نفعل بإرث إدوارد سعيد؟
- أدب ما بعد الكولونيالية؛ الرؤية المختلفة والسرد المضاد
- الأغلبية والأقلية، والفهم القاصر
- قيامة الخوف: قراءة في رواية( الخائف والمخيف ) لزهير الجزائري
- الرواية والمدينة: إشكالية علاقة قلقة
- المجتمع الاستهلاكي.. انهيار مقولات الحداثة
- العولمة والإعلام.. ثقافة الاستهلاك.. استثمار الجسد وسلطة الص ...


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد رحيم - السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة