والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأخير)

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4918 - 2015 / 9 / 7 - 09:25
المحور: الادب والفن
    

قدّمتُ لأشرف زجاجة عطر فاخرة بمناسبة عيد ميلاده الثالث والخمسين، اخترتها من جيفينشي، الماركة التي كان يفضلها طوال حياته ولا يستعمل غيرها.. أخذها ثم قبـّل يدي وجبيني، فصفق الجميع.

أطفأنا الشموع وقطعنا الكعكة . كان زميل أشرف البروفيسور الأمريكي دكتور جاك رونالد يزور مصر، فدعاه للالتقاء بأصدقائه وبالذات نديم، لأنه كان قد تعرّف عليه أثناء فترة دراسته في أمريكا، وكان عصام وزوجته نيفين أيضاً على رأس الحضور.

كانت نيفين دائمة السخرية من الحجاب، إلا أنها ارتدته بعد الزلزال الشهير الذي حدث في أكتوبر عام 1992، وكلما سُئلت عن أسباب ارتدائه والتوقيت تقول مازحة:

- أنا دفعة الزلزال بتقدير جيد جداً.

نيفين من الذين اعتبروا الزلزال غضباً إلهياً وقت حدوثه، ضُربت به مصر عقاباً على استشراء الفساد الأخلاقي وانصراف الناس عن دينهم. وهذا ما كان يتم الترويج له في الجوامع وعلى ألسنة المشايخ. ثم جاء وقت أصبحت تسخر من كل هذا الكلام، وكانت تخلع الحجاب عندما تأتي لزيارتنا، وفي حضور أشرف ونديم بلا أي شعور بالحرج. كانت نيفين طيبة القلب وعلى سجيتها، لم تعمل وظلت ربّة بيت، لكنها ذكية ولم تكسل عن الاطلاع، حتى تربي أبناءها - الذين تعبدهم - بشكل عصري، وكانت تذهب بابنها الأكبر إلى تدريب الهاندبول وتجلس في المدرجات تنتظره حتى ينتهي من التمرين، وكانت تنعس من شدة الإرهاق، وتصرّعلى أن يمارس الرياضة التي يحبها ويتفوق فيها، لصحته البدنية والذهنية.

كانت تقوم بنفس الشيء مع ابنتها، وتشجعها على الاستمرار بتدريبات الباليه، كما لو كانت تحاول تحقيق ذاتها من خلال نجاحات أبنائها، خاصة وأن عصام كان ناجحاً، ويُعتبر باحثاً دؤوباً متميزاً في عمله بأكاديمية البحث العلمي، وتتلمذ على يديه الكثيرون.

لذا لم تكن تكف عن الحديث عن أبنائها بمنتهى الاعتزاز، وعصام يقاطعها بسخرية قائلاً:

- العيال هيفطسوا في إيديها.. بتصحيهم من أحلاها نومة علشان توديهم التدريب. يعني لو ولادي طفشوا لازم تبقوا عارفين مين ورا الجريمة.

فنضحك كلنا وهي معنا.



كان نديم يحرص على حضور عيد ميلاد أشرف، وعادة ما يسهر عندنا معه بعد أن ينصرف عصام ونيفين، ويظلان يتحدثان في العديد من الأمور. كان الحديث بينهما لا ينقطع، وفي هذه الليلة بالذات حيث انضم لهما الدكتور جاك، امتدت السهرة واستمرت حتى ساعات الصباح الأولى، فملؤوا الجو سعادة في وقت كنت أحس بحاجتي إلى بعض الصخب والضجيج بالمنزل بعد أن أصبح كئيباً بسفر ابني كريم، وكثيراً ما كان ينتابني شعور بالوحشة، وخاصة مع انصراف أشرف إلى كتبه ومؤلفاته، وتحوّل حياتنا إلى الرتابة والملل، فقد تمرّ ليال كاملة ولا يُنبَس في بيتنا بكلمة.

التفت نديم باحثاً عني فلم يكن منتبهاً لوجودي حيث كنت أنصت لنقاشاتهم صامتة، وقال:

- عارفة مين في مصر اليومين دول واتصل بيا

- مين ؟

- بهاء.. بهاء رضوان رجع من السعودية إجازة الصيف بقى، إنتي عارفة إنه نقل حياته إلى الرياض بعد ما اتجوز، أهل مراته جابوا له شغل هناك فساب البلد اللى كان بيشتغل فيها، كان في بلد صغيرة في الصحراء ومدفون وسط البدو، على فكرة سألني عليكي ونفسه يشوفك قبل ما يسافر، قابلته وأخذته معايا التصوير، وكان مبهور جدا، قال لي يا بختك لحقت نفسك من بدري.. يظهر كان عاوز يتجه للفن هو كمان.

قلت وأنا أضحك مشيرة له:

- مش كفاية علينا فقدنا واحد.. وبعدين هو بهاء ده كان ممكن ينفع في أي مجال من مجالات الفن؟ ده طوبة.

فبادرني بقوله مندهشاً:

- طب بذمتك مش أحسن!! يعني عندك كام فنان في مقابل كام خريج علوم؟ أنا اللى مفروض أقول فقدناكِ لأنك توقفتِ عن الغناء.

ابتسمت وقلت له متجاهلة مسألة الغناء:

- انا بهزر يانديم، وعارفة إنك فنان كبير، وأكيد الجايزة اللي حصلت عليها مش ح تكون الأخيرة.. أكيد في غيرها كثير.

ظهرتْ بعض الجدية على تعابير وجهه، وقد فهم أني لا أريد التطرق لهذا الموضوع، فقال:

- بس أنا قلقان أوي على شيرين، ومحتار مش عارف إزاي أساعدها، دكتور ألبير قاللي عينكم عليها.. البنت بتمر بأزمة. وفات عليها فترة طويلة مضطربة وخاصة بعد إصرار بابا على أن تقطع علاقتها بهذا الأستاذ الذي دمر حياتها وعلمها الشرب.

عاجلته بردّي :

- ما تخافش عليها حتبقى كويسة ، شيرين بنت جدعة وانت مربيها بنفسك وعارف.

فتساءل بحيرة:

- نفسي أعرف عجبها فيه إيه؟ ده غالبا مجنون. شيرين كمان مجنونة لكن أختي وعارف حدود جنانها، أما هو فعلي أن أتلقى جنانه من خلال سلوكياته معاها واللى جايز تصل لدرجة القتل، حسب مزاج حضرته. شيرين كان من الممكن أن تفقد حياتها في العلاقة البشعة غير المتكافئة دي.

نظرت له بتعاطف وفي محاولة لنصحه قلت:

- الأيام القادمة ستحمل الكثير من التغييرات، واضح ان الخلاف وقع بينهم، وشيرين لو حست إننا بنلاحقها وعينينا عليها هتحاول تهرب مننا. أنا عاوزاك تفضل بعيد علشان ما تحاولش تخبي علينا حاجة.

اقترب أشرف من زاوية مجلسنا وقال:

- إيه كل الكلام ده؟ ما تخلوا شوية ليوم تاني وتيجوا علشان دكتور جاك عاوز يسألك على شوية حاجات يا نديم.. أما إنتِ بقى يا حلوة فمطلوب منك تعملي لنا قهوة بإيديكِ الحلوين دول.

فقلت بفزع:

- قهوة بعد نص الليل؟؟ وبعدين دي هتبقى رابع قهوة تشربها النهاردة يا أشرف وده مش كويس عشانك وخصوصا مع التدخين الحريقة بتاعك ده.

استدار وهو يضحك وقال :

- معلش يا ماما سلوى، آخر فنجان.

كنت أحياناً أشعر أن أشرف يغار من علاقتي بنديم، وتأكد لي هذا من خلال ما كتب بدفتر يومياته، بأنه يغار من صداقتنا وحميمية الحوار الذي يدور بيننا، والذي يكاد ان يكون مثل لعبة البازل، كلما قلت شيئاً كأني وضعت قطعة في المكان الصحيح، فيأتي نديم ويضيف شيئاً آخر وكأنه وجد القطعة المكمّلة لما وضعتُ! توافق شديد في أفكارنا، وتوارد خواطر عجيب بسبب طول زمن علاقتنا التي بدأت منذ الطفولة.

كنت أجد أشرف مجحفاً حين يقول:

- إنتِ كنتي مهتمة بنديم الليلة زيادة عن كل الضيوف، وزعي إهتمامك شوية، بعدين الناس كمان يشوفوا اللي أنا بشوفه في عينيكي.

فكنت أرد بانزعاج:

- مش شايف إن اللى إنت بتقوله ده كلام مش في محله؟ نديم صديق مقرب لا أكثر ولا أقل، ولا يتميز عن الباقين إلا بطول مدة معرفتي به، أرجوك يا أشرف لأن كمان بصراحة لو نديم لاحظ ضيقك اللي مش في محله ده، أكيد مش ح ييجي عندنا تاني.. إنت عارف هو حساس لأي درجة.

فرد وقتها بهدوئه المعتاد وقد رسم ابتسامة مفتعلة على وجهه:

- يعني كل اللي بقوله ده مالوش أيّ أهمية عندك إلا لأن نديم هايزعل.. خلاص يا سيتي، ولا كأني قلت حاجة.

واستدار وخرج من الغرفة يومها تاركاً إياي حائرة أتساءل:

- هل ما يقوله أشرف صحيح؟

- هل أنا فعلا أعطي نديم اهتماماً غير عادي؟

- لقد اقتربت من تصديق أني أحببتُه فعلاً.

وأهرب من مواجهة نفسي....!

***

لم تتوقف شيرين عن لقاء مختار، وعندما تكون متأكدة أن نديم ليس بالبيت، كانت أحياناً تبقى لديه حتى وقت متأخر من الليل وتعود في حالة بائسة، تلتف ساقاها على بعضهما البعض ولا تستطيع التحدث بصورة طبيعية، فلسانها ثقيل وعيناها زائغتان ووجهها محتقن محمر، ثم تدخل متسللة كاللص، تتحسس طريقها وتتخبط في قطع الأثاث لتتفادى أن يراها توفيق بك ، وتصل بصعوبة إلى غرفتها فتنام بملابسها حتى ظهر اليوم التالي.

- بتحبني يا مختار؟

- مافيش حاجة اسمها حب، في حاجة اسمها متعة في حاجة اسمها جنس في فن، أما موضوع الحب ده فموضوع سخيف وعايز ناس غير ناضجة.

- يعني إيه ؟ أمال إنت بتعمل معايا كل ده ليه ؟

- باعمل إيه ؟ بعمل اللى أي راجل وست بيعملوه.

هذا نموذج من بعض حوارات شيرين مع مختار، والذي كان صادماً لها بشدة. رجل غريب له علاقات نسائية متعددة، تثير غيرة شيرين عليه بجنون، مما كان يؤدي به لضربها في بعض الأحيان حتى تكف عن ملاحقته والتعدي على صديقاته، ومنهن تلك التي رأته يصطحبها يوم أقام معرضه. كانت تقف أسفل العمارة وتنتظر حتى تصل تلك السيدة وتتأكد من وصولها إلى شقته، ولما ترى الضوء المنعكس على سقف شرفته يزداد خفوتاً، تستقل المصعد إلى الدور السادس حيث يقطن وتنهال على الباب طرقاً وصراخاً، إلى أن يخرج إليها مفزوعاً شبه عار، فيكتم فمها وينهال عليها ضرباً، ثم يدخلها حتى لا يراها الجيران. فيقدم لها الخمر ويتركها تجلس قبالته مع السيدة في غرفة النوم لتشاهدهما معاً وهما يمارسان الجنس.. ثم يدعوها لتشاركهما.

كانت تحكي لي حين تأتيني منهارة، وكأني طبيب نفسي لها، أسمع دون أن أستطيع فعل أي شيء حيال هذا، فلقد كنت أخشى أن تهرب مني وتتوقف عن الثقة بي، وفي نفس الوقت عجزت عن التدخل بينهما، رغم أن كانت لي محاولة وحيدة فاشلة.

أتذكر حين اتصلتُ به لأحادثه بأمر شيرين، دعاني لكي نلتقي في بار بأحد الفنادق الشهيرة بحي الزمالك، وحين وصلت طلبت منه أن نجلس في كافيتيريا الفندق بدلاً من البار، فوافق بطريقة أشعرتني بأنه يتنازل ويقبل.

رجوته أن يبتعد عن شيرين وأن يرفض إلحاحها، فما كان منه إلا أن قال بمنتهى الوقاحة:

- شيرين دي مصيبة ونزلت على دماغي، دي عاملة لي فضايح في العمارة، كلّموها انتم خلوها تبعد عني.

رددت عليه بحنق شديد:

- وليه ما تتصرفش كأب وتحاول تقبلها كإبنة لك وبالطريقة دي هتقتنع بتعديل علاقتها بك من عشيقة إلى إبنة.

نظر لي بهدوء ثم ابتسم ساخراً وقال:

- إسمعي يا مدام.. سلوى.. مش كدة برضه مدام سلوى!! أنا ما عنديش وقت خالص أضيعه في الكلام ده وعندي معرض الشهر الجاي ولازم أتفرغ له.

فكرت لدقائق ثم خطر ببالي فكرة لا أعرف لماذا اعتبرتها الحل لكل هذه المعضلة، لكن هذا ما أوحى لي به حديثي معه، فقلت:

- لماذا لا تتفضل بإقامة معرضك في مركز النجار الثقافي المملوك لنديم أخو شيرين، بهذا تفقد شيرين أول جزء من شغفها بيك وهو تحدي نديم أو والدها أو تتحداني بأن تجدك بيننا بمعرضك بروّاده .. ويمكن تسألني انت هتستفيد إيه!! أقول لك هيتعرف على أعمالك رواد المركز الثقافي وهم كتير بالمناسبة، ويمكن نديم يقيم لك ندوة مخصوص لكي تتحدث فيها عن تاريخك الفني وأعمالك الفنية ....... إيه رأيك؟

كنت أحاول يائسة أن أستقطبه لجانبنا، مما قد يجعل شيرين تشعر بأن ليس لديها ما تخفيه عنا ويفقد الموضوع برمته جاذبيته، ومن الجائز أن يفتر حماسها تجاهه، حين تراه بيننا وترى حجمه الحقيقي. فكر لبرهة توقعتُ بعدها موافقته، وأن أكون قد جذبته من ناحية مصلحته الشخصية ، لكنه قال بعد تردد:

- فكرة كويسة لكن شيرين أذكى من أن لعبة زي دي تدخل عليها، دي مجنونة هيستيرية ممكن تعمل أي حاجة قدّام رواد المعرض فتسبب لي مشكلة، ومش لي لوحدي لكن للجميع.

قلت وانا أحاول ان أقنعه:

- هأحاول في اليوم ده السيطرة التامة عليها ولكن الأهم انك ما تديلّهاش السم الهاري اللي عوّدتها عليه.. إحنا ما صدقنا إنها وافقت تبدأ العلاج.

أخيراً وافق. ولكن.. كيف نقنع نديم بالفكرة ؟ هنا كانت المشكلة الحقيقية. فقد رفض نديم رفضاً باتاً وهدد بأن يقاطعني وأن يغلق المركز، وثار عليّ متهماً إياي بأني ألعب بموضوع في منتهى الخطورة، وأن أخته ليست حقل تجارب، واتهامات أحزنتني، خاصة أنها كانت المرة الأولى التي نختلف فيها ويحتد نديم عليّ بهذا الشكل، وهكذا ..، كل الذي استطعت أن أفعله للخروج بحلّ لي لهذه المشكلة، هو أن أكون قريبة منها.

***



أصبح أشرف سريع الغضب مؤخراً، وكنت أمازحه بقولي:

- إنت مفتقد كريم وعشان كده عصبي وبتطلع عصبيتك عليا علشان أنا الحيطة المايلة.

فكان ينظر لي بعد أن يسقط نظارة القراءة على أنفه وهو مبتسم ويقول بطيبته المعتادة:

- إنتِ الحيطة المايلة؟ شوف يا أخي الافترا، هو أنتِ في حد يقدر عليكي!!

لكنني كنت أشعر بحزن دفين يملأ عينيه لمجرد تذكر كريم، وشعور بالوحشة لغيابه فقد كان صديقاً له، يهتم بكل صغيرة وكبيرة تخصه، ويبذل جهداً كبيراً ليحصل على ابتسامة رضا منه.

كان كريم مصاباً بمرض التفوق، ولا يرضيه إلا الحصول على أعلى الدرجات، وأذكر،أنه أصيب بنزلة برد ذات يوم وارتفعت درجة حرارته، كان وقتها في الصف الرابع الابتدائي، ولم يستطع أداء الامتحان بامتياز كالمعتاد، وعندما علم أن أحد زملائه حصل على درجة أعلى من درجته، عاد إلى البيت في هذا اليوم، ورفض أن يتناول طعام الغداء وبكى بكاءً حاراً، وعجزت عن فعل أي شيء سوى أن أبلغت أشرف بالتليفون قبل أن يعود من الخارج، فما كان منه إلا أن عاد حاملاً صندوق كارتون، به مجموعة من شرائط الفيديو التي تصدرها مؤسسة ناشيونال جيوجرافيك، وتدور عن نشأة الحياة على الأرض، والأنواع المختلفة من الكائنات التى تعيش على سطحها، دخل لغرفته فوجده في فراشه يبكي فقال له:

- تعرف إزاي الحياة ظهرت على الأرض؟

فلم يرد ولكن فتح عينيه المحمرتين دون أن ينبس بحرف، فأعاد عليه أبوه السؤال ثم قال:

- عارف إزاي إتقسمت الأنواع إلى ثدييات وطيور وزواحف!! أهي مجموعة الأفلام اللي في الصندوق ده فيها الاجابة، أنا شخصيا عاوز أعرف تحب تيجي معايا علشان نشوفهم سوا؟ ماما بقى تروح تعمل لنا ساندوتشات علشان إحنا مش حنقعد عالسفرة.. إحنا النهاردة بالذات هناكل قدام التليفزيون.

ثم مدّ له إحدى يديه وبالأخرى كان يحمل الصندوق، فنهض كريم كالمسحور ومشى معه. وظلا قرابة ثماني ساعات يشاهدان الأفلام ويعيدان بعض أجزائها، يتناقشان حول تفاصيلها، حتى اكتفيا هذا اليوم بحلول موعد النوم. بهذه الطريقة كان أشرف يتعامل مع ابنه، بمنتهى الصبر، يأخذه دائماً لمكان أكثر رحابة من موضع مشكلته، ويريه العالم أكبر وأكثر اتساعاً من مجرد مشكلة سهلة الحل. نجح أشرف في تهدئة كريم هذه المرة كما في كل مرة . ظل كريم طوال الشهر في حالة من التأهب، إلى أن اجتاز امتحان الشهر التالي حاصلاً على أعلى الدرجات، وكانت معلوماته العامة جيدة بفضل الطريقة التي يتعامل بها أبوه معه.. فتمّ اختياره ليمثل المدرسة ثم المنطقة التعليمية في المسابقات المختلفة، فجعله هذا واثقاً في نفسه لا يهزم بسهولة.

لم يكن ليرضيه أي شيء، وكنا نحتار في اختيار هدية عيد ميلاده، لأنه كان دائماً له مطلب محدد لا يحيد عنه، وعادة ما كان ينشد الكمال في أمور حياته، في مظهره، كراساته، حقيبته المدرسية، أو غرفته وكل ما يتعلق به.

كان يتشاجر مع أم محمود لأنها حركت أشياءه لتنظف مكانها ولم تعدها لسابق ترتيبها الذي تركها عليه، فتظل تبرر له وهو يرفض كل مبرراتها ويقول لها:

- السبب هو إنك مش بتحاولي تشوفي أنا مرتبها إزاي على المكتب وتحفظي الترتيب في عقلك، وعلشان كده انا مش عاوزك تنظفي مكتبي تاني.

كنا نضحك أنا وأشرف، لكنه كان جاداً ولم يسمح لها بعد ذلك أن تقوم بالتنظيف إلا في حضوره. كان يملأ حياتنا وهو الوحيد الذي يستطيع أن يُخرج أشرف من قوقعته مهما كانت أهمية الأمر الذي يفعله، يكفي أن يقتحم غرفته ويسأل سؤالاً، لينهض أشرف ويقلب مكتبته رأساً على عقب ليجيب عن سؤاله بمرجعية علمية.

لما كان أشرف يسافر للخارج، كان يعود حاملاً آخر الابتكارات الموسيقية والكتب الأكثر مبيعاً التي تتناسب مع سنّه، في أوروبا أو أمريكا، حتى يجعل منه إنساناً عصرياً يستطيع أن يعيش ويستوطن أي مكان في العالم دون عناء.

الحقيقة حين بلغ كريم سن السادسة عشرة، كان قد قام بمراسلة جامعات أمريكية، وانتهى من اختيار الجامعة التي يريد الالتحاق بها، وحدد وجهته ومستقبله، وتلك الميزة اكتسبها من طريقة تعامل أشرف معه منذ كان طفلاً، إذ كان يضع أمامه المشكلة ويطلب منه حلها دون الاستعانة بي مثلا، ويحدد له الوقت لكي يقدم ما عنده من مقترحات، كما اعتاد أن يشارك في وضع حلول لمشاكلنا الحياتية نفسها. وكان أشرف يتعمد أن يناقشني أمامه في كل شيء ويشركه في الحوار، حتى يزداد ثقة في نفسه، وكان يدعوه للجلوس أحياناً مع أصدقائنا ويشارك في النقاش، ثم يستأذن وقتما يرغب ليذهب إلى عالمه داخل غرفته التي تعج بالألعاب والأفلام والكتب التي جلبها له أبوه من كل مكان زاره في العالم.

لذلك حين مرض أشرف لوقت قصير قبل وفاته المفاجئة، لم أخبره، لأني لم أتوقع أن النهاية ستحلّ بهذه السرعة، وأيضاً لأني خفت أن يعرف بالخبر وهو وحيد ببلاد الغربة دون سند أو صدر يتلقفه حين يبكي والده.

***

في صباح اليوم التالي جاءت أم محمود، دخلت تهلل كعادتها، سألتها عن صحة الست نبوية، فقالت إنها في أيامها الأخيرة، ولكن الذي يقلقها هو محمود، فقد زاد شحوبه وهزاله ولا تعرف السبب، فقلت لها:

- نوَدّيه لدكتور ونعمل له تحاليل، مش يمكن جاله كبد وبائي من الرمرمة وأكل الشوارع؟

فقالت باستسلام :

- الواد ده من يومه مدوَّخني، إن شاء الله آخده لدكتور ونشوف حيقول إيه.

قاطعتها بقولي:

- لأ انا اللى هاتولى الموضوع ده بنفسي بس أطمن على شيرين وبعدين أفضى لمحمود، الأسبوع الجاي إن شاء الله.

ذهبت في هذا اليوم لمنزل نديم، وقابلت توفيق بك الذي واساني بوفاة أشرف بكل صدق ومحبة، وقد كانت حالته سيئة للغاية ويبكي بين كل كلمة وأخرى خوفاً على شيرين. سألته عنها فأجاب:

- في مصحة الدكتور ألبير، إنتى عارفة إنه كان بيعالجها قبل كده وكانت تقدمت في العلاج جدا وخصوصا فترة الأعراض الانسحابية واللى هي أصعب فترة.

لكن عدم مواظبتها على العلاج النفسي خلاها تتراجع تاني.. شيرين بتضيع مني يا سلوى، أنا عاجز ومش عارف أعمل إيه.

أشفقت عليه جداً وأحسست بمدى حزنه، وخصوصاً في غياب نديم وسفره الأخير، الذي طال هذه المرة عن المعتاد، فقلت له:

- ما تقولش كده يا أونكل توفيق إن شاء الله حتخف وتبقى كويسة، أنا حاروح لها دلوقتي أشوفها يمكن ده يغير شوية من حالتها النفسية.

قال بيأس:

- الدكتور مانع الزيارة خالص الأيام دي لكن يمكن لما يشوفك يسيبك تطلّي عليها، الدكتور ألبير عارفك وعارف إنك زي بنتي.

قلت مشجعة :

- ما تقلقش يا أونكل وانا هاطمنك أول ما أشوفها.

ذهبت بعدها للمصحة بالمقطم. جو هادئ يغلب عليه الكآبة، أو من الجائز أنها حالتي أنا التي أُسقِطها على كل ما يقابلني.. طلبت مقابلة الدكتور ألبير، الذي رحب بي وتذكرني فوراً، وشرح لي حالة شيرين بحزن بالغ، قائلاً:

- شيرين كانت إتحسنت وسمحنا لها بالخروج، ولكن إهمالها للعلاج النفسي وعدم مواظبتها على الذهاب للطبيب، جعل من السهل رجوعها تاني لما كانت عليه وأسوأ، المشكلة في الانتكاسة إنها أخطر كثير من البدء في الادمان، لأنها قد تعرض المدمن الذي يتعافى لخطر الجرعة الزائدة.

المريض حين يعود للتعاطي في حال انتكاسته، يتصور أنه عليه أن يبدأ بالجرعة التي كان يتعاطاها في آخر أيامه قبل العلاج، وهي في الحقيقة تكون كمية كبيرة مقارنة بما بدأ به.

لذلك تعتبر جرعة مميتة ويدخل المريض في أعراض بائسة يكون فيها بين الحياة والموت، وهذا ما حدث لشيرين.

أخشى إني مش هأقدر أخليكي تزوريها، هي في حالة سيئة وخلينا ندعي ربنا إنه يقف جنبها وينجيها وتمر الأزمة دي على خير.

المؤسف إنها حاولت الانتحار.. بس أرجوكِ ما تقوليش لتوفيق لأنه مش هيستحمل.

خرجت من المصحة وأنا في حزن يشق قلبي كسكين وأتساءل: ما الذي أوقع بشيرين في أحضان هذا الرجل!! هل تفتقد أباها؟ لقد كان مهموماً بنفسه في شبابه، لكنه الآن يمكث في المنزل لمدد طويلة ويتصرف كالمسنين، رغم عدم تقدمه بالعمر لهذه الدرجة، لكن على ما أظن أنه يشعر بالوحدة، وأيضاً لا توجد بينه وبين نديم لغة حوار أو تفاهم، أما شيرين فقد تدللت كثيرا في أحضان أبيها وأخيها، قد يكون ابتعادها عن أمها هو الشيء الذي تسبب في حزنها وتمردها ووحدتها ؟.. لا أعرف.



لم يخطر في ذهني مكان أذهب إليه سوى المقهى الثقافي كما كنت أفعل في الماضي، فقد كان الملاذ بالنسبة لنا، لكن حين مررت به كان يبدو مهجوراً، فذهبت لأتفقده لعلي أتنسّم عبق الزمن الماضي.

دخلت وكانت البوابة مفتوحة، ويبدو أن المكان ما زال يستقبل الجمهور، فقد وجدت موائد ومقاعد في الحديقة، وإضاءة خافتة تدل على عدم وجود أنشطة في هذه الفترة.. كذلك بعض المنشورات الإعلانية عن حفلات قديمة، أو ندوات معلقة بإهمال ومنسية هنا وهناك.

جلست في الحديقة وبعد برهة جاءني عم صالح خفير الفيلا مرحّباً وانحنى ليصافحني بأدب قائلاً:

- شرفت يا ست سلوى، حمد الله عالسلامة.. البقاء لله يا بنتي، الدكتور أشرف كان راجل محترم، والله ما يتعوض والمفاجأة كانت صعبة علينا كلنا، ربنا يصبرك.

فرددت وقد اندفعت دمعة من عيني لم أستطع السيطرة عليها:

- حياتك الباقية يا عم صالح، ألف شكر.. هنعمل إيه الموت ما بيستأذنش.



ثم أتى الأستاذ سامي المدير المسؤول وفعل الشيء نفسه فشكرته، وسألته هل هناك أحد في البوفيه لأحتسي فنجاناً من القهوة في الحديقة، فرد بالإيجاب وأنه سيرسل في طلب القهوة من البن الخاص بالأستاذ نديم.

جلست تقريباً في نفس الزاوية التي كنا نجلس فيها معاً، أتأمل المكان وأتذكر كم كنا أنقياء، وسعداء ومنطلقين!! لا أعرف ما الذي حدث لحياتنا ولماذا استحالت إلى كل هذا البؤس.



***

عاد نديم من سفرته إلى ميلانو ولكن هذه المرة لم يكن بمفرده، بل كانت بصحبته شابة سمراء جميلة، ابنة لرجل أعمال إيطالي وأم مصرية، في منتصف الثلاثينيات من عمرها، ذات شعر طويل مموج، وملامح قوية ووجه مبتسم بثقة شديدة، درستْ المونتاج، والتقى بها نديم في أحد المهرجانات التي تقام للأفلام التسجيلية بإيطاليا، ثم جاءت معه لمصر للعمل كمونتير لأفلامه الوثائقية.

ضيّ وهذا كان اسمُها، تعرفت عليها في المقهى بعد عودة نديم إلى مصر بعدة أيام، وكنت ذاهبة للقائه لأول مرة بعد وفاة أشرف.

في هذا اليوم وقفت طويلاً أمام المرآة أتأمل وجهي، وأحاول وضع بعض اللمسات، التي تزيل آثار الاكتئاب الذي حفر بقسوته خطوطاً، صارت جزءاً من ملامحي. اخترت ملابسي بعناية شديدة، فوقفت أبحث عن أي شيء يبعث السرور في أعماقي، ثم اخترت فستاناً بألوان مبهجة وفي نفس الوقت يخفي الوزن الزائد الذي ظهر على جسدي مؤخراً، معلناً بلوغي الخامسة والأربعين، ومنبهاً إياي بأني لم أعد تلك الفتاة الصغيرة.

على الرغم من تزاحم تلك الأفكار داخلي التي حاولت أن أطردها كلها، كان يتملّكني شعور

أني ذاهبة للقاء حبيب، وليس نديم الذي عرفته طوال حياتي.

حين وصلت المقهى لمحتهما بمجرد دخولي من باب الحديقة، كان جالساً معها في نفس زاوية جلوسنا معاً في الماضي، وحين اقتربت منهما انتبه نديم وانتفض واقفاً مرحّباً بي وقدّمني لها قائلاً :

- سلوى أختي وصاحبتي وأحيانا أمي ههههههههه.

ثم أشار لها بيده قائلاً:

- ضيّ تلميذتي ومساعِدتى وتقدري تقولي خطيبتي باعتبار ما سيكون.

صُدمت للحظات !! لماذا ؟ لا أعرف.. الآن لا أريد أن أعرف، حاولت أن أخفي شعوري، فرسمت ابتسامة ترحاب، من المؤكد أن نديم أدرك - بحكم معرفته بي - مدى زيفها وافتعالها، وقلت موجهة كلامي لضيّ:

- أهلا ضيّ، نديم جوهرة غالية حافظي عليه، هو صحيح مجنون شوية، بس جنانه أحيانا بيكون مفيد.

رد نديم مدافعاً عن نفسه:

- أنا مجنون يا سلوى!! ونظر لضيّ وأكمل: أنا نسمة مش هتلاقي زيي تاني بسهولة.

ضحكت ضيّ وقالت معلقة على كلامنا:

- واضح إني ضيعت نفسي ودخلت سكة اللى يروح ما يرجعش.. واضح إنكم عصابة وانا بالتأكيد قدامي كثير على ما أفهم الدنيا فيها ايه.

قال نديم موجهاً كلامه لي:

- ضيّ درست مونتاج، والمونتاج عمل لا غنى عنه بالنسبة لمخرج الأفلام التسجيلية، زي ما انتِ عارفة أنا طول الوقت أجمَّع بالكاميرا مشاهد حول موضوعات بعينها، ولكن في النهاية رؤيتي لا يمكن إنها توصل للجمهور إلا لو إتعمل للمشاهد دي تجميع سليم وتقطيع مناسب.. هو ده اللى بيخلق إيقاع الفيلم وويبلور الهدف منه.. هو ده الدور اللى ضيّ بتقوم بيه في الأفلام التسجيلية.. يعني هي العين اللى بشوف بيها، وفي إمكانها تاخدني للهدف الذي أريده أو تتوهني أنا والجمهور.

كلمات نديم كانت كالمطارق على رأسي .. رغم أنه كان يتحدث عن مسألة تقنية، وربما لم يقصد المعاني التي وصلتني، إلا أنها كانت من وجهة نظري تدور حول دور ضيّ الجوهري، الذي تلعبه في حياة نديم وليس فقط في أفلامه.

لم يمتد اللقاء أكثر من ساعة، تركتهما متحججة بأني مشغولة بعمل مضطرة أن أقوم به للأكاديمية في الصباح. وأنهيت الحديث بأن عبّرت عن توقي للقائها مرة أخرى حيث يكون هناك متّسع من الوقت، وكذلك سيسرّني أن أستقبلها ببيتي هي ونديم وشيرين حين تتماثل للشفاء في القريب العاجل.



لماذا داهمتني هذه العاصفة من البكاء في هذه الليلة كما لم أبك أبداً في حياتي؟؟.. هل كنت أحبه كما كان الكل يتخيل وأنا أنكر؟ هل توقعت أن يؤجل مشاعره إلى أن يأتي الوقت المناسب؟ كيف سيفعل وهو الذي دفعني بكل قوته تجاه أشرف، ولم يبُح بشيء ؟.. يجب أن أتوقف عن هذا التفكير فوراً. نديم أخ ويجب أن أصدق هذه الحقيقة.

طيب .. لماذا أبكي ؟ لماذا ؟؟

التقيت بهما عدة مرات بعد ذلك اليوم، لم يكن الأمر سهلاً في بدايته، لكني اعتدت الوضع فيما بعد، ووصلت إلى قناعة أن المشاعر التي حيرتني طوال حياتي لم تكن إلا وهْماً في ذهني وحدي، لم أحاول أن أقيم صداقة مع ضيّ، بل كنت متحفظة للغاية وكأني أحصِّن نفسي من محبتها.. وحافظتُ على مسافة بيننا لم أسمح لها بتجاوزها.

حين سمعنا أن حالة شيرين قد تحسنت قليلاً وأصبح مسموحاً لها باستقبال ضيوف، ذهبنا معاً لزيارتها، كانت أفضل من قبل، مُقبِلة على الحياة وتضحك.. فقدتْ الكثير من وزنها وأصبح جسدها أكثر نحافة مما كانت عليه، لكنها على أي حال، قد بدأت تتفاعل بشكل إيجابي، وعبَّرَت لنا عن رغبتها في أن تبدأ صفحة جديدة من حياتها تنسى فيها كل أخطاء الماضي.

كنا قد سمعنا أن مختار سافر إلى فرنسا لأجَلٍ غير معروف، وقد أثلج صدورنا هذا الخبر، إذ أننا كنا نعتبر وجوده، حافزاً لشيرين لتعود ليس فقط إليه وإنما للإدمان أيضا فتضيع إلى الأبد.

تحدث معها نديم عن أهمية أن تتعافى لتنتهي من آخر سنة في الكلية، وتقيم معرضاً في القريب لأعمالها وتعبّر فيه عن ما مرت به من معاناة، وأنه يريدها أن تقيمه بالمركز الثقافي، وقال مضيفاً:

- عاوز أعيد إحياء دور المركز في المنطقة بيكي يا شيري وخصوصا بعد الاهمال الذي أصابه في فترات سفري المتقاربة.

ثم نظر لي نديم وسألني:

- لسة ممكن تغني يا سلوى؟ أنا نفسي شيرين تعزف عالبيانو وإنتِ ترجعي تغني تاني، بس المرة دي على نغمات عزف شيرين.

رددت مندهشة:

- إنتَ لسة فاكر؟ ما خلاص بقى.. ثم ده شيء محتاج لتدريب طويل وجهد، وانا كبرت خلاص وكمان نسيت الغنا من زمان.

بادرني نديم:

- إوعي تقولي الكلام ده تاني، ثم وجه كلامه لضيّ، على فكرة سلوى فنانة رائعة بس هي أهملت فنها علشان تقدر تعتني ببيتها وابنها.. وإن شاء الله هتسمعيها في يوم من الأيام، على فكرة تسجيلاتها لسة عندي، شيء لا يمكن وصف جماله وعذوبته.

ثم استرسل في الكلام:

- كانت لما تقف تغني تلاقي الناس بيصرخوا وبيرموا عليها الورود، ومرة واحد طلع لها على الاستيدج كان عاوز يبوسها، يومها كنا هنموته لولا الناس أنقذوه من إيدينا.. ههههههههه مش قادر أنسى رد فعل عصام والأصوات اللى كان بيطلعها، والا ريمون اللى كسر الاستيكس بتوع الدرامز على دماغه .. بهاء كمان كان يومها حاضر وراسه وألف سيف يفتح دماغه..هههههههه.. ثم نظر نحوي وقال:

- كانت أيام جميلة على فكرة.

ضحكنا أنا وشيرين من قلوبنا حين تذكرنا هذا اليوم، وابتسمت ضيّ، ثم قالت ببرود يتّضح منه أنها قد أحست ببعض الغيرة:

- ياه، خسارة بجد.. المفروض ترجعي تغني تاني.. بس هي عندها حق يا نديم الموضوع ده عاوز تفرغ تام وكمان جهد جبار.

انتبه نديم إلى انه أسهب في الكلام عني دون مراعاة إلى أن هذا قد يزعج ضيّ، فقال موجهاً كلامه إلى شيرين:

- على فكرة يا شيري، ضيّ هتبقى خطيبتي في القريب العاجل، يعني إن شاء الله أول ما تخرجي من المستشفى.

نظرت شيرين تجاهي وكأنها تريد الحصول على موافقتي قبل أن تعتمدها، فابتسمتُ لها برضى.. فما كان منها إلا أن قفزت واحتضنتنا جميعاً، وحين جاء دوري همستْ في أذني قائلة:

- بيحبك إنتِ والله، وإنتِ حب حياته.

خرجنا من المصحة في هذا اليوم ونحن نضحك جميعاً، صافحت نديم وضيّ ومضيتُ.

نظرت خلفي نحوهما فلمحت يديهما تتعانقان، استدرت واتجهت إلى البيت.. أغني وحدي همساً.

***

عادت ناهد من المستشفي تاركة محمود مع جدته التي تدهورت حالتها بشدة مؤخراً، وكان الوقت قد أمسى، فأحستْ بهدوء غير عادي بالبيت. نادت على أبنائها دعاء ورضا فلم يردّ أحد، وسمعت صوت تأوهات شوقي آتية من جهة غرفة دعاء ورضا، الغرفة معتمة والصوت يرتفع كلما اقتربت من الغرفة، مدت يدها تتحسّس مكان مفتاح الإضاءة وصعقت لما رأت.. كان شوقي ممدّداً فى بركة من الدماء على الأرض ورأسه ينزف بشدة ممسكاً بجزء من قميص نوم دعاء.

صرختْ بقوة، فهزّ صراخها المنطقة ، وتجمّع الجيران وطلبوا الإسعاف لشوقي، الذي كان في حالة من الإعياء الشديد بسب النزيف الذي على ما يبدو مرّ عليه وقت كبير.

فتشت النجدة كل أرجاء المنزل بحثاً عن الجاني، فلم يجدوا أحداً، وبعد أن انصرف الجميع، وصاحبت ناهد زوجها إلى المستشفي ليخيطوا الجرح ويأخذوا أقوالها، كانت دعاء ترتدي قميص نومها المقطوع من أعلى الكتف، وتحتضن رضا الذي كان يرتجف بشدة، ممسكاً بعصا غليظة ملوثة بدماء أبيه، يبكيان على سطح المنزل مختبئان أسفل عشة الحمام التي بناها رضا لتضمّ الحمام الذي يربيه.

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات