أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - آرام كرابيت - السلطمة العثمانية والجنوح نحو الغرب















المزيد.....



السلطمة العثمانية والجنوح نحو الغرب


آرام كرابيت

الحوار المتمدن-العدد: 4912 - 2015 / 9 / 1 - 21:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



كان القرن السادس عشر قرنًا عثمانيًا بامتياز تتموضع هذه الدولة الكبيرة على مساحات قارية هائلة, آسيا وأفريقيا وجزء كبير من أوروبا, خاصة البلقان, وتملك مفاتيح بحار واسعة كبحر آزوف والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ومسيطرة على ممرات التجارة العالمية سواء عبر أراضيها أو بحارها. وتمتاز باستقرار سياسي وانتعاش اقتصادي, وسيطرة كاملة في أماكن كثيرة ومهيمنة سياسيًا في أماكن أخرى كبولونيا وفرنسا وغيرهما, ومرعوبة الجانب من قبل دول عديدة في العالم كأوروبا الغربية واسبانيا والبرتغال والكرسي البابوي. يقول جيل فينشتاين:
" مما لا جدال فيه أن الأمبراطورية العثمانية تستحق أن توضع في مصاف أوسع الكيانات السياسية التي عرفها التاريخ العالمي" ,(1) ويضيف:
" ولكي نعطي فكرة ملموسة أكثر عن البنيان الكلي الذي تكون بهذا الشكل, لا بد من الإشارة إلى البلدان التي جرى ضمها, عبر أساليب مختلفة, كليًا أو جزئيًا, بأسمائها المعاصرة في أوروبا: المجر, رومانيا, بلغاريا, يوغوسلافيا, ألبانيا, اليونان, بيسارابيا, أوكرانيا, القرم. وفي آسيا: تركيا, العراق, سوريا, لبنان, فلسطين, واجهة شبه الجزيرة العربية على البحر الأحمر, اليمن الشمالي, عدن. وفي أفريقيا: مصر, ساحل السودان وأثيوبيا وليبيا, تونس والجزائر". (2)
وتقع على أراضي متباينة, وشعوب وقوميات متمايزة مستقرة تاريخيا إلى حد كبير, كل منها في بقعة جوغرافية لها لغتها ودينها وتراثها, كالعرب والأرمن والأتراك والفرس والأكراد والبربر والأقباط والألبان والرومان والسلاف والمجريون وغيرهم. لهذا سعى المشرع العثماني على وضع الأسس لإبقاء كل هذه القوميات في قبضته فتعامل معها بمرونة كبيرة فرضتها البراغماتية والحاجة للمال عبر الضرائب. يقول جيل فرنشتاين:
" إن ولايات السلطان تتآلف من بلدان كثيرة, لكل منها تراثه التاريخي المختلف, دخلت منذ وقت بعيد إلى هذا الحد أو ذاك, تحت سيطرة الهلال وتتميز علاوة على ذلك في الإطار العثماني بأوضاع قانونية متبانية تتراوح بين احتواء كامل وتبعية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال". (3)
إن رغبة السلطان في تعزيز بنيان امبراطوريته ونفوذ عاصمته دفعه إلى منح الطوائف غير الإسلامية تنظيمًا مركزيًا, " يهيمن عليه بطريرك مقيم في استانبول, وقد حدث ذلك بالنسبة لليونانيين منذ فتح القسطنطينية, وفي العام 1461 جرى نقل المطران الأرمني يواكيم إلى العاصمة ومنحه لقب البطريرك. وكانت هذه التدابير تعبر عن الرغبة في تأسيس نظام متماسك على نطاق الدولة". (4)
لهذا فإن التوسع الهائل في الرقعة الجغرافية للدولة, ضرورة سياسية, لدولة كبيرة, تكوينها السياسي, بنيتها السياسية قائم على التوسع والنهب وجني الفوائض المالية من البلدان التي تحتلها, يحقق لها وفرة مالية, ووفرة في الموارد الطبيعية والبشرية والثراء في كل جوانب الحياة, ويدفع الدولة والمجتمع للاسترخاء, والاستقرار, بمركزية سياسية وجيش قوي ومنظم, فتح مساحة كبيرة لحركة التجارة البينية داخل الأمبرطورية ضمن سوق واسعة, بيع وشراء, وحركة سوق غير مقيدين بقوانين تحد من حركة الاقتصاد, وفتح مجالات واسعة للتوسع باتجاه الشرق والغرب بسهولة ويسر. خاصة أن الأرض التي تحتلها السلطنة تتحول تلقائيًا إلى السلطان كمالك للأرض والموارد التي فوقها وتحتها. تقول نيكورا بيلديسينو:
" فبموجب القانون القرآني, يعتبر السلاطين ملاك الأرض وما في باطن الأرض. إلا أنهم, سعيًا إلى تأمين استغلال ممتلكاتهم, يتركون الانتفاع بها للفلاحين, بل أنهم يتركون لهم أحيانًا تملكها ملكية خاصة, مع الاحتفاظ دائما بامكانية التراجع عن هذه التنازلات: وهكذا فأن السلطان محمد الثاني لا يتردد في مصادرة مملوكة ملكية خاصة يحولها إلى تيمار.(5), ذلك أن جميع العقارات كانت بحكم القانون ملكًا للسلطان. /6/
فهذه الدولة, تعج بمئات القوميات وعشرات المذاهب, والكثير الكثير من الأديان. لقد تعاملت مع أغلبهم من موقع فوقي, وفق الشريعة الإسلامية, تاركة لكل دين ومذهب وقومية أن يحلوا مشاكلهم الاجتماعية وفق كل مذهب, وفق ما كان يسمى بنظام الملة. وكان في بقاء الرعايا على دينهم مكسبًا اقتصاديا للدولة, لأن الجزية كوارد مالي يشكل خمس دخل الفرد للمسيحي أو غيره من الرعايا الغير مسلمين, بيد أن المسلم يدفع العشر من دخله. وهذا النظام كان سائدًا في العصر الأموي والعباسي. لهذا لم تسع السلطنة على إجبار الناس على تغيير دينهم أو مذهبهم. بمعنى لم تطور مفهوم المواطنة, الحقوق والواجبات, والحرية وفكرة الاندماج الاجتماعي في جسد الدولة في تلك المرحلة. بقي المجتمع منفصلا عمليًا, كل قومية أو دين أو ملة أو عشيرة كيان منفصل, له علاقاته, رموزه, تواصله. هي كيانات لا لحمة بينهم, يمكن أن ينفجر في أية لحظة. وإن البناء السياسي بقي مسيطرًا على المجتمع دون أن يكلف نفسه دراسة الآثار الناجمة عن هذا الانفصال أو محاولة دمج هذه القطاعات أو الكيانات ببعضهم وربطهم بالدولة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
تموضعت السلطنة العثمانية على مؤسسات تقليدية, صيغت في ظل صيرورة طويلة لهذه الدولة منذ منشأها إلى حين زوالها, فرضتها براغماتية السياسة والفاعلين النشيطين فيها, والحاجة إلى تنظيم أوضاعها الداخلية وترتيب التوازنات داخل هذا البيت السياسي الكبير, للإبقاء على الاستقرار الهش الذي تكفله قبضة السلطة القوية عبر السيطرة الكاملة على كل مجالات الحياة, خاصة أنها أمبراطورية وجدت نفسها في وسط العالم القديم, عبر الممرات التجارية الرئيسية للعالم, وحركة بشرية واسعة, وجيوش. باختصار أنها منطقة العمليات السياسية الدولية, والصراعات السياسية الأولى في العالم, وغير مستقرة جيوسياسيًا نتيجة حيوية المنطقة, ونشاط الناس, وخصوبة الأرض واعتدال الطقس, وغناها بكل الموارد مما جعلها محط أنظار وطمع دول كثيرة, شعوب كثيرة, سواء في الشرق أو الغرب يبغون احتلالها ونهب ثرواتها.
أغلب دول العالم في هذه المرحلة, في القرون الوسطى, كانوا يعتمدون على القوة المجردة في تثبيت كيان الدولة, عبر السيطرة الكاملة, وبالوسائل العسكرية المباشرة, يتلوها نهب اقتصادي, نهب لجهود الفلاحين, كون الأرض كانت الوسيلة الوحيدة للإنتاج بالإضافة إلى بعض الحرف وأموال التجار. بمعنى, أن الدولة بالمفهوم القديم كانت دولة الرعية, تتموضع على انتماءات قبلية, عائلية, مذهبية, دينية, عشائرية, عسكرية بحتة. وبمعنى أخر, قبل بروز المسألة الشرقية وانتقال البشرية من مفهوم الدولة, الحاكم, الفرد, إلى المؤسسة, كان السلطان العثماني هو الدولة, سيدها, أبوها وأبو المجتمع والرعية, وهو عماد الخير كله, بيده جميع المفاتيح والقرارات, ولا يثق بأقرب الناس إليه, لهذا كانوا يضعون أناس من درجات دنيا في المرتبة الاجتماعية لضمان خضوعهم. ففي عهد السلطان محمد الفاتح:
"من تولوا منصب الصدر الأعظم, والذين سوف يتعاقبون كذلك الواحد في أثر الأخر بسرعة بالغة, كانوا قولات, عبيدا, للسلطان, ولم يعد افراداً منتمين إلى عائلات كبيرة, يمكنها تشكيل سلالات حاكمة, على أن هؤلاء الرجال, الواقعين تحت رحمة العاهل, كانوا يملكون قدراً أكبر من السلطة الفعلية". (7)
بالتأكيد سيكون لهم سلطة, بيدهم عصا السلطان يضربون به, يرتقون من خلاله درجات السلم الاجتماعي, فهم مجرد أدوات بيديه يحركهم وفق مشيئته ورؤيته, بيد أن الإحساس في دواخلهم يقول:
نحن مجرد أتباع, ولي نعمتنا, يرفع من شأننا أو يهبط بنا إلى الدرك الأسفل, ويمكن أن يعزلنا أو يعدمنا, متى أراد السيد الكبير. لهذا يتسابق الجميع في تقديم آيات الطاعة والتملق, والولاء, يغمرهم شعور بالذل والدونية والاستلاب. ولما, لا, فهم مجرد خدم.
والسلطان, سيد السلطة, قائدها, قائد الجيش والقضاء, بيده قرار الحرب والسلام, يستطيع عقد معاهدات أو فك الارتباط أو ربط أي علاقة مع الجوار او تعطيله. مكانته الدينية والزمنية, لا يدانيه أحد, فهو خليفة الله على الأرض, يستمد قوته منه, لهذا فإن قراراته مقدسة يتكئ على الشريعة في سن قوانينه ونواميسه التي تمس مصالحه, مصالح الدولة العليا والمجتمع المتعلق به في بلاد يعتبر الدين جزء حيوي من سيكولوجية الناس وتكوينهم العقلي والنفسي والروحي, مثل الهواء والماء والتنفس. هو منبع القيم والأخلاق, ويستمدون منه جميع المبادئ, والهوية, والانتماء, ووجودهم الوجودي والوجداني مرتبط به. لهذا يعمد السلطان على استثمار هذا البعد ليحوله إلى حركة, رافعة, طقس مملوء بالرموز لشق طريق سياساته ورؤاه وتوجهاته على كل المستويات والحاجات سواء مالية أو توزيع أو الحصول على الثروات أو توزيعها, والقبض على كل مفاصل السلطة. إن استثمار هذا البعد يريح الحاكم, يعطيه الزخم, التفويض الكامل للبقاء في مكانه, ومكانته المقدسة, خاصة بعد أن" يتوصلون إلى الاستحواذ على أراضي الإسلام القديمة هذه وإلى فرض هيمنتهم هناك على جميع الملوك المسلمين في زمانهم" (8) وبعد أن وضعوا جميع المدن الإسلامية تحت قبضتهم كمكة والمدينة المنورة والقدس والنجف وكربلاء, ووضعوا في قصورهم مخلفات النبي, كسيفه ورمحه وخصلات شعره. والسلطان ذاته يعلن نفسه, بهذا التنويع أو ذاك" سلطان سلاطين الشرق والغرب, قيل الأقيال, موزع التيجان على ملوك المعمورة, ظل الله على الأرض... " (9)
إن الدين, ليس بريئًا, أنه حمال مصالح, كثافة مصالح, داخله حمولات سياسية كثيفة, ولا يمكن تفكيكه وإزالته من الساحة الا عبر الدولة المتمركزة حول ذاتها كمفهوم, وانتقال الحمولة من كتف موزع على الجوانب, إلى كتف مركزي محدد.
فالحاكم, السلطان في دولة مشرقية, كالسلطنة العثمانية, هو اللحمة الاجتماعية والسياسية والوطنية, منه تستمد الرعية الثقة بالنفس والقوة, والخير والبركات, وهو سيد المجتمع, فوق المجتمع والقانون. هو القانون ولا يخضع للمسألة.
وأن جيوشه " هي قوات الإسلام منذورة للنصر"(10)
ومن خلال علاقات المجتمع المتوارثة, العلاقات الماضوية, القائمة على استقرار التقاليد, يتشكل العرف قوة حقيقية, له قوة الدستور والمؤسسات, تتحول إلى تقليد صلب مع تقادم الزمن, وعطالة جامدة أمام أي تحول أو تغيير جذري يطرأ على الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. فالعرف الذي ساد المجتمعات الشرقية له سلطان, مكن السلطان من التسيد والبقاء عدة قرون في سدة السلطة, "بين جميع الأسس الممكنة لشرعية العاهل, فإن الانتماء إلى, عشيرة مقدسة, هو ما يميز العاهل" (11)
والدين فاعل مهم, متمركز حول السلطة من كل النواحي, ويدخل في كل شؤون الحكم, يقول محمد فريد:
" إدخال الدين في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير" ويتابع كلامه" حتى أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون على هواهم, منها إدخال أمر تغيير اللباس في نطاق الدين" (12).
إنه سطوة مدمرة, قابع كجلمود صخر فوق الجميع ولا يمكن للفرد أو المجتمع كسره أو تجاوزه, وبالتالي لا يمكن كسر أو تغيير البنى الاجتماعية الصلبة المستمدة من علاقات البشر التاريخية وخضوعهم لذات, ليست بحاجة للتفكير بها, قائم تركيبها على بنى تقليدية مغرقة في القدم. حتى السلطان لا يمكن تجاوز هذا, " فهو محاصر بشبكة من الأعراف والتقاليد التي تصوغ سلوكه وتملى عليه في الأحوال المختلفة أبسط مبادراته وأقواله نفسها. /13/
فهو المدماك السياسي والاجتماعي والاقتصادي, حوله تتمحور كل مدافع السلطة, التوزعات, الانتماءات, التحالفات أو الخضوع. وقصره, قبلة, شهوة للناظر, أشبه بجبل الأولمب في الاساطير اليونانية, محط الاهتمام, الخير والشر, أنفاس الناس ورؤاهم, مستقبلهم ووجودهم الاجتماعي كله.
وفي هذا المكان, المقام المقدس, السلطة, المقام الأعلى, "يجيز السلطان لنفسه, سعيًا إلى تجنب نشوب حرب أهلية, قتل من لا يرتقون العرش. والحق أن هذا القانون يبيح قتل الأخوة"/14/. ويقول محمد فريد:
" أصبحت عادة قتل السلطان إخوانه أو أولاده, يوم يتولى العرش, أمرًا مألوفًا. وكأنه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير أن يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم. /15/.
يشعر الإنسان الشرقي بالغربة والتوحد والانفصال عن العالم بالرغم من الارتباط به, والحاجة الماسة له. فيه تتم صياغة ذهن الفرد والمجتمع, نمطية تفكيره ومنع أي تحولات تطرأ على تفكيره وذهنه, وإبقاء ثقافته, ثقافة خضوع دون أي تمرد إلا بحالات استثنائية جدا تكون تحولا نحو مقدس أخر في مكان أخر, بديلا, بيد أنه مشابه له في الجوهر. ففي عملية تقديس شخص هذا الموقع ينفصل الإنسان عن كونه كائن طبيعي ليتحول إلى مجرد شيء. يتشيء الفرد, يصبح كائن ضعيف لا وزن له.
إن اصباغ هالات ما بعد ورائية على السلطة, والسلطة الكامنة في رأس السلطة, تستدعي عمليات طويلة من الخضوع عبر صيرورة كاملة, يجري السهر عليها عبر ثقافة كاملة, متكاملة في كل الحقول, الاجتماعي, الاقتصادي, السياسي والنفسي, ليبقى المجتمع يستنسخ ذاته بذاته نمطيًا. فمنذ ولادة الطفل إلى حين بلوغه, يتشرب كل العلاقات الدونية وينهل كل صغيرة وكبيرة لها علاقة بالاستلاب والتغييب عن واقعه, " ويتبارى الكل في الإعلاء في نظر رعاياه من شأن الفكرة التي تتحدث عن الجوهر الديني للسلطان, من حيث كونه خليفة, وهو إمام عصره, وظل الله على الأرض, ومخلفات النبي معه تضفي عليه قداسة" /16/
إن وجود السلطة, السلطان في مكانه, في مجتمع ضعيف , مستلب, يمنح الرعية احساس مزيف بالأمان, باستمرارية الحياة وفق الرتابة والنمطية ذاتها, وايقاعها المتكرر. وكأن لسان حالهم يقول: لا وجود للوجود تحت الشمس إلا بوجوده, وهو الذي يمنحنا الوجود, لهذا لدى الناس اعتقاد " بأن السلطان يعمل على سيادة العدل بين الرعايا المسلمين وغير المسلمين الذين أوكل الله أمرهم إليه"/ 17/. "وأن المقر الأمبراطوري يسمى العتبة السنية أو عتبة السعادة أو محفل السعادة أو دار السلطنة. /18/"
إن التكوين الهرمي لدولة الاستبداد, تراتبية القوة, بيد رأس الهرم, تلتصق بشكل مباشر بقدرة السلطان, تكوينه النفسي والعقلي وإمكانيته الشخصية, ومزاجيته في توجيه دفة الحكم سلبًا أو إيجابًا. فإذا كان قويًا, دمويًا تخضع له الرعية دون شروط, ويسيطر على الجيش وبقية القوى المرتبطة به, الخادمة له ولتوجيهاته, وإن كان ضعيفًا فأن الفاتورة السياسية والاجتماعية يدفعها المجتمع والمهمشين والقوميات الملتصقة بجسد السلطنة أو الشرائح الأكثر ضعفًا في المجتمع الكبير. وهذا التكوين الهرمي الكبير للسلطنة تتكيف ذاتيًا مع نوازع السلطان سواء على التراخي أو انعدام الكفاءة أو عدم القدرة. يقول المستشرق لوبولد رونكه منبهرًا:
" إنهم, لم يكن لهم وطن غير السراي السلطاني, ولم يكن لهم سيدًا سوى السلطان العثماني, فلم يعرفوا إلا أوامره وإرادته, ولم يطمعوا إلا رعايته,... وإنهم لم يعرفوا حياة غير الانضباط الجاد, والطاعة العمياء, ولم يكن لهم عمل غير الحرب والقتال تحت قيادة السلطان, ولم تكن لهم رغبة إلا في العزة في الحياة, ودخول الجنة التي تفتح أبوابها للمجاهدين بعد الممات" /19/
كما أن عقدة التفوق أو انشغاله بالملذات, أو الانصراف للاهتمام بنفسه أو شؤونه الخاصة, تحيل بينه وبين رؤية حقائق الواقع أو الحكم عليه بالشكل المناسب. وفي أغلب الأحيان تكون العلاقة بينه وبين الرعية منفصلة, ولا رابط بينهما. كما لم تتبلور علاقة عمل, مصلحة بينية, ضرورة بين القاعدة والقمة. ولم تسع السلطنة على خلق مؤسسات تربط بين السلطة بالمجتمع, ببعضهما, لهذا بقي كلاهما في حالة غربة, انفصال, وعدم الإدراك الموضوعي أحدهما لمصالح الأخر, لهذا لم تعمل على إدماج قطاعات اجتماعية هائلة تابعة للسلطنة من قوميات مختلفة في الجسد الكبيرة ولم تكلف نفسها في حل هذا الجانب المعقد, بالرغم من التمردات والتوترات التي كانت قائمة بين المركز والأطراف, داخل الدولة الكبيرة الواحدة في هذا الجانب. لقد ابقت العلاقة الاقتصادية القائمة على الجزية, أي العلاقة الفوقية, مقتصرة على بقاء الجانب السياسي مسيطرًا على أغلب الولايات التابعة لها.
كانت السلطنة بحاجة إلى منظومة سياسية, اقتصادية اجتماعية تربط مصالح الناس والفئات الاجتماعية المرتبطة بها, ببعضها, بيد أنها لم تفعل أي شيء, ولم تكلف نفسها, مهمة البحث عن مستقبل العلاقة القائمة بين القوميات الكبيرة والعريقة المتجذرة في المكان تاريخيًا والقومية التركية. وتركت لرياح الحياة أن تأخذ كل شيء, تاركة الشروط التاريخية والظروف الدولية أن تتدخل وترمي بثقلها على الدولة والمجتمع.
تلذذ العثمانيون بانتصارتهم العسكرية الواسعة واستيلاءهم على مساحات واسعة من القارة الاسيوية والأفريقية ومن القارة الأوروبية, وتدفق الثروة والمال السائل والغنائم على مركز القرار السياسي للدولة في مدينة استانبول, يقول محمد فريد:
" بلغت الدولة أوج سعادتها وأخذت بعده/ السلطان سليمان القانوني/ في الوقوف تارة والتقهقر أخرى حتى وصلت إلى الحالة التي عليها الأن لجملة أسباب, منها زيادة الثروة بسبب الفتوحات العديدة والغنائم الكثيرة, ولا يخفى أن الثروة تورث غالبًا المفاخرة في المصرف والتغالي في الزهو والترف وكل أمة سادت فيها هذه الخصال لا بد لها من التأخر. /20/
لم تذهب هذه الأموال في بناء مشاريع اقتصادية قصيرة الأجل أو طويلة الأجل أو في أعمال استثمارية منتجة. كما لم يكن هناك خطط اقتصادية مستقبلية أو صناعية مدنية أو تم توظيف هذه الأموال في المجال الزراعي أو التجاري, أنما وظفت هذه الأموال المنهوبة في بناء القصور الباذخة واقتناء الجواري والغلمان والانصراف إلى الملذات والفخفخة والعيش في نعيم تلك الأموال الهائلة.
وتشكلت طبقة اجتماعية غير منتجة, انتهازية, فاسدة منفصلة عن المجتمع وملتصقة بالسلطة, تحصل على المال عبر تقديم خدمات عبر المحسوبيات وبيع الذمم. حصلت على أموال لا تأكلها النيران, تشعر بالزهو والنجاح, وتعيش حالة ترف ونعيم. والمحسوبية في ظل نظام سياسي هرمي يتكيف مع نزوات السلطان سواء تراخيه أو نزوعه نحو السلم أو الحرب, يكمل محمد فريد"
" أجاز للإنكشارية القتال تحت أمرة قائدهم الأكبر ولو لم يكن السلطان موجودًا, فكان هذا التغيير سببا في تقاعس أغلب من خلفه من السلاطين عن خروجهم من قصورهم الباذخة وتفضيلهم البقاء بين غلمانهم وجواريهم المختلفات الأجناس على الخروج للقتال وتكبد مشاقه" /21/
في دولة الاستبداد, ليس مهمًا انعدام الكفاءة أو عدم القدرة على التكيف مع الوقائع, المهم معرفة لعبة العلاقات, الاستزلام, بيع الذمة والضمير, أن يمشي المرء مع التيار مطأطأ الرأس, وحك لي أحك لك. بمعنى أن الطبقة الاجتماعية الغير منتجة, الطفيلية, مملوءة العطالة على كل المستويات, ليس لديها أي شيء تخسره في حال انهار المجتمع أو الدولة, أو وقفا على قدميهما.
كما هو معروف, لم تتشكل طبقة اجتماعية منتجة, ثورية, مالكة لوسائل الانتاج, تحرص على ملكيتها وتدافع عنه. ولم تسمح الوقائع, قبضة السلطة القاهرة, وجملة عوامل لها علاقة بالاستبداد الشرقي الذي منع أي تحول ثوري, منع قيام طبقة اجتماعية ثورية مالكة لوسائل الانتاج, تفرض شروطها وتفعّل المجتمع والعلاقات الناهضة بنهوضها. لذا بقيت السلطنة تدور في حلقة مغلقة, تديرها قوى, لديها عقدة البارانويا, عقدة التفوق التي حالت دون رؤيتهم للحقائق على الأرض أو الحكم عليه.
فالدولة الاستبداية, ليس لها القدرة أو هامش للمناورة أو البحث عن رؤية لتجديد ذاتها والبحث عن سبل للتغيير. ولا تستطيع امتصاص التناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأنها جزء منه, ومنتجة بنيويا له, بله تترك هذه التناقضات تكبر وتستفحل إلى أن تتعفن أو تقمع بشدة لإعادة إنتاج نفسها من جديد. لإن الاستبداد ثقافة, عرف قائم بذاته منذ آلاف السنين يجري إرواء شرايينه من الدين والعشيرة والمذهب, وكل المخلفات الماضوية, ويتكئ على نفسه بنفسه عبر منظومة متكاملة يسري في شرايين المجتمع من تحت, من الماضي, ليصل إلى القمة. ودولة الاستبداد تأخذ من ثقافة المجتمع تكوينها, هرميتها, تراتبية القوة وتستقر عليه.
وليس لدى الأفراد في المواقع القريبة أو البعيدة من السلطان القدرة على محاسبته أو مساءلته أو أخذ زمام المبادرة لأي تحول أو الوقوف ضد الممارساته الخاطئة, أو التي تدفع الأمور باتجاهات متعددة ليس أولها ترك الأمور تسير حسب الأهواء والامزجة, فتدب في مفاصل الدولة التسيب والمحسوبية والفساد والفقر وانعدام الشفافية في كل مجالات الحياة. ويدخل في الأمر الدسائس والتشوه. وفي هذه الحالة فأن قدرة السلطان, شخصه في هذه الفترة تحدد قوة الدولة أو ضعفها, لهذا فهو بارومتر أو مقياس كل شيء. ودائمًا نقول أن تبريرات خراب السلطة يعزى لأسباب شخصية دون الدخول إلى جوهر الحقيقة, أن بذرة الخراب كامن في دولة الاستبداد ولا تستطيع أن تجدد نفسها, يقول محمد فريد"
" وصار الديوان ينعقد تحت رئاسة أكبر الوزراء سنًا وهو الصدر الأعظم, والسلطان لاه عن ذلك, معرض عن دسائس الوزراء ومن يستعينون بهم من جواريه وأزواجه". /22/ .
ويقول في مكان أخر عن سبب عجز الدولة العثمانية:
" زواج السلاطين بالاجنبيات وتسلط هؤلاء الاجنبيات على عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأصلية وتحكمهن في مقدرات الدولة" /23/ ويضيف"
" تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية ثلث واردات الدولة. /24/, و" غرق السلاطين والأمراء في الترف", المصدر ذاته.
بهكذا تحليل يعزى خراب الدولة وأنهيارها, دون الدخول في عمق الأزمة, بنية السلطة, مفهوم السلطة, كتكوين رجعي, لا يتجدد, وبغياب البحث عن تطويرها ستبقى تتراوح في مكانها. ففي الوقت الذي اشتغل الغرب على مفهوم الدولة بكل جدية وتفان, أخذوه من سياقه القديم, الدولة الفرد, ووزعوه على مفهوم جديد, المؤسسة, وطوروه, حولوه إلى كيان مستقل, مرن, له آلية سريعة في ضبط وربط مصالح النخب, واعطاء المجتمع هامش واسع من الحركة, أن ينتقل من موقع إلى موقع. حيث جرى تحول عميق في مفهوم الدولة, وانتقل من حكم الفرد إلى المؤسسة. بمعنى أن مفهوم الدولة تمأسس, وأصبح أكثر قدرة على إدارة مصالح النخب, بينما بقي هذا المفهوم في السلطنة, بشكله القبلي قائم على إدارة الأزمة في الموقع ذاته.
إن تطوير الغرب لمفهوم الدولة, رفع قدرة مجتمعاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وحول نخب بلدانهم إلى نخب عالمية في المال والاقتصاد والسياسة, وجر شعوب العالم وراءهم, حولهم إلى مادة لاهثة, بحثا عن مكانة لهم في هذا العالم.
مفهوم الدولة, منظومة فكرية سياسية نخبوية, ساهمت في تعويم القوى الفاعلة فيها, لتأكيد أنها بنية, قائم بذاته, يمكنها أن تتطور من مرحلة إلى أخرى, ضمن البنية ذاتها. وحرق مراحل التاريخ السابق عليها.
ويبقى, مفهوم الدولة, المؤسسة, مرن جدًا, يتلون حسب التطورات التي تطرا على القوى. وتخضع النخب لها, بالرغم من أنها تخدمهم, وتحولهم إلى قوى فاعلة فيها, مستقلين عنها. وهذا المفهوم, مؤشر على بنية المجتمع ونخبه, انتماءه الى العصر أو الجلوس في قعر الماضي باسترخاء.
يقول محمد فريد في كتابه تاريخ الدولة العلية العثمانية بتبسيط هائل لسبب نكوص السلطنة:
"وترتب على ذلك أن صارت الأمور بيد الوزراء المغايرين للجنس العثماني أصلا ونسبًا, إذ أن أغلبهم ممن أسلم أو تظاهر بالإسلام من النصارى أو من غلمان وخدم السلاطين". /25/
بيد أن محمد فريد لم يسأل نفسه لماذا يبقى السلطان في موقعه, في قمة السلطة, ويمارس اللهو؟ من أعطاه هذا الحق؟ من أعطاه هذا الموقع؟ ولماذا يستمر فيه دون أن يتعرض للمحاسبة؟ هل هذا الموقع ملك خاص, شأن خاص؟ أم أنه موقع يتحدد من خلاله مصالح المجتمع والدولة والنخب؟ أين هي المؤسسة التي تأخذ على عاتقها حماية الدولة من لهو ومجون الأفراد؟ إن رمي المشكلة على الغلمان أو الذين أصبحوا مسلمين زيفا, لماذا يستلموا المواقع الحساسة إذا لم يكونوا في موضع ثقة؟ من هو المسؤول؟
الدولة هي مؤسسة نخب, ويجب أن يتوزع مهمامها على مختلف أقسام المجتمع حتى يتحول كل فرد إلى دولة في موقعه وله مصلحة في حمايتها. لقد سقطت أغلب الدول عبر التاريخ لهذا السبب بالذات. لهذا فإن الدولة التاريخية, هي القادرة على البقاء, التحول, ترفع من قدرتها وقدرة النخب على تجاوز الازمات العاصفة حتى يتم الانتقال النوعي في مفهوم الدولة كله.
كما قلنا أعلاه, أن السلطنة تتموضع على أغلب ممرات التجارة في العالم القديم, طرق وبحار وأنهار, كالبحر الأبيض المتوسط والأحمر والأسود. ومهما يكن من أمر, " فقد راحت الدولة العثمانية تلعب دوراً دوليًا محوريًا بين الشرق والغرب بعد السيطرة على مقر الدولة البيزنطية, التي كانت تمثل بوابة الشرق على الغرب وبوابة الغرب على الشرق". /26/
وكان لاحتلال هذه المدينة العظيمة, حجر الزاوية في تمركز القوى, الشرق والغرب, سببًا في القضاء على الجمود السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ساد العصور الوسطى منذ موت الخليفة العباسي المعتصم في العام 842م إلى العام 1453.
إن سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين حفز الجيوش على القتال وابتلاع المزيد من الأراضي في البلقان والأناضول, واحتلال سورية ومصر, والسيطرة على ممرات التجارة العالمية البرية, وحرك السياسة وانعش الاقتصاد وأجج النفوس وأخرجها من رتابتها, وفتح شهية النخب المالية والسلطة على جانبي المعادلة, إيران والمشرق, اوروبا والسلطنة على فتح الباب واسعا على الحرب والتجارة, لأن الحرب هي عصب السياسة وشهوة الحكام في ابتلاع الأضعف وفتح الباب على النهب, يقول الدكتور سيد محمد سيد محمود في كتابه, الدولة العثمانية, النشأة والأزدهار:
" تغيرات سياسية هائلة سواء في الشرق أو في الغرب, حيث زالت إمارات ودول ومناطق نفوذ وتشكلت تكتلات سياسية وعسكرية أخرى لعبت دورًا بارزاً في السياسة العالمية. /27/
استانبول, المدينة, العاصمة, المهابة القوية, الساحرة, قبلة العالم ودرة الشرق, مركز التجارة والسياسة والاقتصاد والمكانة. ملتقى العالم, ومركز العالم. في قصر السلطان تولد أو تموت, أو تتقاطع أو تنفك السياسات والعلاقات الاقتصادية العالمية التقليدية. ولها مكانتها الروحية والتاريخية والدينية في نفوس الشرقيين, لإنها أصبحت مركز الخلافة الإسلامية, وكانت سابقًا عاصمة الامبرطورية البيزنطية, والعالم المسيحي لفترة زمنية طويلة جدا, أمتدت إلى أكثر من ألف عام تقريبًا, بله يكاد الأوروبيون يختنقون حسرة على فقدانها. بين ليلة وضحاها, تحولت بيد الشرق, المسلمين, إلى مركز عالمي للاستيراد والتصدير, والانتاج والاستهلاك, منها تنطلق القوافل التجارية العالمية. منها وإليها أو عبر أراضيها كباب المندب والأحمر وتجوب البحار للوصول إلى البر. وهناك ممرات تمر عبر البلقان والاناضول وجزيرة القرم, طرق متعارف عليه, تمر عبر الكثير من الدول للوصول إلى روسيا وتحت الحماية المشددة من الطرفين, الروس والعثمانيين.
من خلال التطورات المتسارعة في العلاقات الدولية عبر التجارة, الصراع العسكري المسلح, الدوافع التي فرضها شروط الواقع, الحاجة لنقل البضائع والمعارف والتواصل والتقارب, دفع الدول إلى التواصل مع الأحداث التي جرت على الأرض موضوعيًا. كما فرضت الارتقاء بهذا الأمر لبناء إنشاءات كاستراحة للمسافرين والمتنقلين من مكان إلى أخر, ولتسهيل الأمور. هذه القضايا مجتمعة شجعت ودفعت لتسريع العلاقات بين الشرق والغرب, وإلى بروز وكلات تجارية وإنشاء مراكز لها في المدن الكبيرة والعواصم العالمية وخاصة استانبول. وفتح الطريق للرحالة والتجار والحركة التجارية للاستمرار بزخم أكبر من السابق. كان النقل يتم على البغال والجمال والحمير والخيول. وجرى تطور في صناعة عربات تحمل البضائع والسلع, مما شكل واقع عملي فرض نفسه على الدول, للسهر على حماية هذه القوافل وتشجيع الاستيراد والتصدير, وعلى إنشاء الطرق المعبدة وبناء الجسور ومحطات, وبناء المنازل والخانات والزوايا, فيها مكان للنوم والاستراحة والطعام والشراب وخدمة الماشية من علف واستراحة وماء, ومكان خدمة المسافرين والتجار على طول خطوط التجارة, تقدم المأوى والطعام والماء للناس والحيوانات لتامين السلامة والراحة والأمان لهم. يقول الدكتور سيد محمد سيد محمود:
" هي تلك المنازل التي كانت تقام على الطرق في المدن والضواحي. وما يميز هذه المنازل عن الخانات التي كانت موجودة على الطرق أيضًا, وهو أن تلك الخانات كان بها حجرات تشبه حجرات الفنادق اليوم إلى حد كبير. أما المنزل فهو استضافة عام يرد إليه المسافرون, حيث أي شخص يمكن أن ينزل في هذه المنازل بصرف النظر عن ملته أو دينه أو مذهبه, فكان له حق الأكل والشرب والنوم ثلاثة أيام. وكانت الدولة تضع على مثل هذه الأماكن أفراد مناوبة لحماية المسافرين والتجار من أي هجوم يمكن أن يتعرضوا له عند مرورهم من الأماكن الخطيرة. وكان هؤلاء المناوبون يقيمون بجوار طرق السفر" /28/
كانت للسلطنة شبكة من العلاقات العالمية في ظل سلطة مركزية قوية, أو تبدو من الخارج قوية, ومهابة وقابضة على مفاصل الدولة والمجتمع والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. واستطاعت إنشاء مراكز أمنية كما كان حال أغلب الامبرطوريات عبر التاريخ, لحماية كل مسافر من قطاع الطرق أو القراصنة في البحار, عبر الجزر المسيطر عليها في المتوسط أو في الحجاز على البحر الأحمر. وأغلب التجار كانوا من انتماءات اجتماعية متعددة, ولا يعنيهم موقعهم الطائفي أو الديني بقدر بحثهم عن المال, يقول جيل ايفنشتاين:
" كان وكلاء التجارة الكبرى جد مختلفين, بحكم موقعهم الاجتماعي, وحجم أعمالهم أو مستوى أرباحهم, عن أصحاب دكاكين الطوائف. فهولاء التجار, مسيحيون ومسلمون ويهود, ويتمتعون برؤوس أموال هامة, يسهم فيها عدد من أفراد القيادة السياسية العليا, عن طريق تعاقدات, توصية, )مضاربة). وعلاوة على ذلك, فعلى الرغم أنهم يتحدون هم أيضًا في طوائف, فأنهم يتحركون خارج الأطر الجد المحكمة وخارج الضبط الذي يشرف عليها المحتسبون. ويرجع ثراء الأقوى بينهم إلى تجارة السلع الترفية: الحلي, الأقمشة الثمينة, التوابل, الأصباغ والعطور". /29/
في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر, استطاعت القوة العسكرية التي تمتعت بها السلطنة من فرض شروطها على التوازنات السياسية على الساحة العالمية عامة, وأوروبا كلها خاصة, وأن يحسبوا حسابها سواء في علاقاتهم البينية أو كل واحدة على حدة, وهيمنت على مناطق كبيرة دون أن تسيطر عليها, كبولونيا على سبيل المثال.
ففي العام 1557م كانت بولونيا دولة تابعة سياسيًا للسلطنة دون أن تسيطر عليها عسكريًا, ولتكون إحدى القوى الحليفة لها في مواجهة النمسا وأسبانيا, في ظل توازنات أوروبية هشة يمكن أن تنهار في أية لحظة. كانت أوروبا, الدول المسيحية, غارقين في خلافاتهم, منقسمين على أنفسهم مذهبيًا وسياسيا واجتماعيا, خاصة أن الصراعات بينهم كانت على أشدها, بين البروتستنات والكاثوليك, وبقي هذا الصراع العسكري بينهم مدة قرن ونصف القرن من الزمن, وتكثف ذلك في حرب الثلاثين, من العام 1618 إلى العام 1648م, حيث كان مسرحها المانيا.
كانت الدولة العثمانية في علاقتها بالمجتمع تعتمد على بنى تقليدية لا رابط مؤسساتي يجمعهم, ينقسم إلى مستويين, منصب حكومي على علاقة مباشرة مع العاصمة, مركز القرار, يأخذ منها توجهاته, والولاء, وخاضع أمين, ينفذ ما يملي عليه كمفوض لتنظيم عملية الحصول على الضرائب في مقاطعته, وينظم عملية ولاء العشائر والقبائل والقوميات والأثنيات وإخضاعهم للسلطنة.
إن العلاقة الفوقية المحكمة بين السلطة والهياكل الاجتماعية التقليدية, العشائرية, المذهبية, الدينية, جعل كلاهما, الدولة وهذه الهياكل القديمة يقبضان على كل مفاصل المجتمع ولجمه وكبح جماح أية حركة اجتماعية اقتصادية صاعدة, والابقاء على الوسائل التقليدية في عملية الانتاج الاجتماعي, كالأرض, التي بقيت رهنًا بيد السلطة تمنحها حيازة للقوى الاجتماعية الأكثر خضوعا وولاءًا, كرؤوساء القبائل والعشائر والجيش. وبعبارة أدق أن تدخل الدولة المباشر في الملكيات الكبيرة فوت الفرص على إنشاء كتل اجتماعية نافذة يمكنها الاستقلال عن الدولة وفاعلة فيها. وبعبارة أخرى, أن المجتمعات الشرقية تتناسل الأسلوب ذاته في عملية الانتاج والتوزيع عبر الولات ذاتها, نتيجة ترابط المؤسسة الزمنية والروحية, والابقاء على آلية حركة المجتمع في مكانه. فالاقتصاد القائم على الحيازة, كرشوة مؤقتة, لا يسمح بالتراكم المالي أوالانفتاح على أفاق أخرى, وربما هي السبب في عدم تشكل طبقة اجتماعية ناهضة, ثورية.
إن الحيازة هي أكثر الأشكال الذي سادت في الشرق سواء في عصر الإسلام أو بعده أو قبله. وربما هي السبب في عدم انتقال هذه البلدان إلى الراسمالية, لعدم وجود ملكية خاصة, وفق سند يضمن مصالح الناس وورثتهم, التي من الممكن أن تتطور إلى رأسمالية تجارية وصناعية. فالحيازة المؤقتة, كنوع من الاستثمار تعطى كمنحة أو هدية أو رشوة يقدمها الحاكم, السلطان, لقائد عسكري أو غيره, ويمكن أن يستردها هذا الراعي في أية لحظة ويهمش الممنوح, ويجرده من كل شيء, وربما يعدمه وفق مشيئة رأس السلطة/ فالواقع أن الجزء الأكبر من الأرض الصالحة للزراعة, 87% في العام 1527 ينتمي إلى الدولة/ وهذه الأرض تسمى بالميري.* جيل فاينشتاين, الامبرطورية في عظمتها.
لقد كان هناك توازن في الصراع في العالم القديم, الاقتصاد متشابه إلى حد, الممارسات السياسية متقاربة, فائض القيمة يأتي من الأرض, المجتمعات بالعموم تعتمد على الفلاحين, وأغلب التمردات كانت فلاحية. والاحتلال العسكري هو عنوان التفوق دون أن يأخذ تطور الاقتصاد تلك المكانة التي تغير الموازين التجارية أو العلاقات بين البشر. وما تتميز به السلطنة أن الاقتصاد أقرب للموجه, أبوي, بالإضافة إلى أنه يعتمد على الاقتصاد الطبيعي في الانتاج والاستهلاك. كانت الدولة تتدخل في تنظيم التبادلات التجاري والسلعي بين جميع الأطراف, المنتج والمستهلك, من زاوية تأمين حركة السوق واستمرار الحياة الطبيعية. إن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي المدخل لأي تحول ومعرفة شكل الدولة القائم ونمط الانتاج السائد.
إن الاقتصاد الموجه, أشبه ببيت كبير, فيه أب عملاق, ومهتم برعيته ويسهر على تأمين مسلتزمات أطفاله, يقسو عليهم مرات ويؤمن طعامهم مرات, لضمان بقاء الدولة مهيمنة على المجتمع, ضمان سير الاقتصاد كالمعتاد بشكل يكفي الناس حاجاتهم وحاجة الجيش من المؤن الغذائية والسلع, لضمان تناسب الأسعار ضمن القدرة الشرائية المقبولة وحماية الناس من الانهيار الاجتماعي, من الابتزازات, الغلاء. يقول جيل فاينشتاين, الامبرطورية في عظمتها:
" التنظيم الصارم للإنتاج, تحديد الاسعار, الحصص المطلوبة من اليد العاملة ومن السلع بل ومن رأس المال, الجانب السلطوي لجانب التدفقات التجارية, القيود المفروضة على التصدير, وكل هذه التدابير لها هدف مزدوج, حماية رعايا السلطان من المظالم". /30/.
لقد كانت الحرفة مزدهرة في السلطنة, متقدمة جداً على أوروبا في القرن السادس عشر, وربما كانت رافدًا, رافعة للتطور إلى مرحلة صناعية لو وظف المال السائل أو النقدي فيها. فالملكية هي البنيان الأول, مرتكز, حامل قوى ثورية, تدفع إلى تغيير الشروط الموضوعية والذاتية, دونها لا يمكن أن تتطور القوى المنتجة أو وسائل الانتاج أو الشروط الاجتماعية. إن عدم توظيف رأس المال المالي في الصناعة وتوسيعها ربما عائد لعدم وجود قوانين تنظم الملكية أو خوف التجار أو الطبقة العسكرية في عدم ضمان أموالهم. وفي هذا الاطار فأن العمال الحرفيون التقليديون يستخدمون الخشب والمعادن والمنسوجات والجلود في أعمالهم بطريقة متقنة ومتقدمة على أوروبا في مدن السلطنة وفي شكل مبلور ومنمق وأكثر جودة, كتب في هذا المجال بيلون دومان:
" إن سلعهم ومنتوجات عملهم تتميز بدرجة بالغة من الحسن والاتقان الذي يكفل لها البقاء زمنًا طويلًا بحيث لا يوجد عندنا أي نظير له". ويضيف الكاتب في السياق نفسه:
" إن صناع الملابس في تركيا, إذا ما قارن المرء بين أشغالهم وما هو معروف في أوروبا, يؤدون كل شغل بشكل أفضل وأكثر لباقة". / 31 /
كانت الصناعة في السلطنة عريقة جدًا, ومرغوبة في العالم كله, كالزجاج والصابون والفخار والنحاس والشموع والورق. إن صناعة الأواني الزجاجية كانت مشهورة في العالم, ويضيف:
"إنتاج دمشق والأوعية النحاسية من سيواس". و"هناك المنسوجات, الحرير, الخيم من شعر الماعز, الحقائب والأغطية وأسرجة الخيول وصناعة المحراث الروماني والصناعة القائمة على منتجات صوف الأغنام والكتان والقطن". و"منسوجات أشرعة السفن, والسيوف في دمشق". / 32/
كانت الامبرطورية ورشة فنية وصناعية, تقليدية, كل مدينة لها تخصص موزعة على مختلف أرجاء البلاد أحدهما يكمل الأخر, وكل طرف يرفد الجانب الأخر, يتم نقل البضائع بين أرجاء البلاد عبر التجارة دون قيود أو موانع باستثناء الضرائب البسيطة.
في الحقيقة, كان هناك توازن في العلاقات التجارية إلى حد كبير في القرن السادس عشر بين السلطنة وأوروبا, حيث منحت الأولى, للتجار الأجانب تراخيص لتصدير المواد الاستراتيجية حسب معايير ذلك الزمن:
" كالأسلحة والجياد والبارود والذهب والفضة والرصاص والحديد والكبريت والمدبوغات والقمح, وسلع رئيسية حصل عليها التجار الفرنجة كالحرير والصوف والقطن والسجاد والتوابل والعقاقير والعطور ويستوردون الورق والقصدير والصلب من انكلترا, بيد أن الميزان التجاري مع الشرق كان خاسرًا خاصة مع الهند وفارس, وكانت تعاني السلطنة من تهريب الفضة والذهب". /33/
والحرفة هي عماد الصناعة الثقيلة والخفيفة, اللبنة التي يتموضع عليها التطور والانتقال إلى الأكثر تقنية. نقول دائمًا, أن السياسة هي الرافعة الرئيسية للحوامل الاقتصادية, لمنحهم القدرة على تطوير انتاجيتهم وضبط ذلك بالقانون والحماية.
في ظل البلدان الاستبدادية لا تسمح الدولة بولادة حامل اقتصادي, قوى اجتماعية سياسية تنقل الدولة والمجتمع إلى مرحلة جديدة. إن الاستبداد السياسي يلجم حركة المجتمع وتطوره ويقمع أي نشاط لا يخضع للسياسة, للشروط السياسية التي توافق عليها السلطة السياسية. أي أن يبقى الجميع تحت السياسة, تحت سطوة الدولةكمفهوم قديم, تحت ذراع السلطة الاستبدادية, الفردية. وبقاء مفهوم القبيلة والعشيرة والانتماءات العائلية هي النهج الذي يحرك السياسة في السلطنة. لم يتم تجاوز هذا المفهوم للدولة, لوجود الدين كمشرع, ضابط لإيقاع السلطة وتوازنات القوى السياسية فيها. وسبب أخر لانهيار دولة مشرقية عظيمة هو البنية الثقافية المغلقة التي لم تستطع إنتاج نظام سياسي مرن يفسح المجال لتطور قوى الانتاج, والارتقاء بالمجتمع الى الحداثة..
إن لجم انفتاح المجتمع, القوى, منع أي تحول في مفهوم الدولة من ذاتوية ضيقة إلى مفهوم موضوعي, نخبوي مستقل عن الأفراد وفاعل في خدمتهم. بمعنى أوضح, لم يسمح لمفهوم الدولة في الخروج من الذات, الأفراد: النخب المالية والسياسة والنفوذ/ إلى موضوع لخدمة/ النخب المالية والسياسة والسلطة/ عبر المؤسسة. وبمعنى أدق, لم يتم إخراج مفهوم الدولة من عبث الأفراد وأمزجتهم وسلوكهم ووضعها في يد مؤسسة ذات قدرة على حمل المسؤولية وعلى إدارة أفضل للدولة والمجتمع, أي أن مفهوم الدولة لم يتحول إلى جهاز مستقل عن النخب وفاعل وخادم أمين لهم.
إن عدم القدرة على الخروج من القوقعة الذاتية للسلطنة أو فتح أفاق على المستقبل سببه القبول بالأمر الواقع, ومتفق عليه لدى أغلب قطاعات المجتمع.
إن السلطان يجب أن يكون من الأتراك, من عائلة عثمان, ولا مانع أن يكون الصدر الأعظم من عامة المجتمع. لإن القرار السياسي الرئيسي يبقى في يد الراعي الأول, وقبول الجميع بالخضوع لإرادته وتوجهاته مهما كان شكل إدارته للحكم. حتى حالات التمرد السياسي كان جذره مطلبي, ثورة من أجل تحسين الظروف الحياتية, الشروط الاجتماعية, كتخفيف الضرائب أو تخفيف عملية النهب أو بروز نزاعات مسلحة بين الطوائف. أي أن الصراع لم يصل إلى المستوى السياسي الرئيسي. بقي تحت سياسي, لعدم وجود قوى سياسية تطرح بدئل بنيوية, أي برنامج مستقل له صفة سياسية, لهذا بقيت عملية ضبط المجتمع وفق آليات محكمة قائمة على الانقسام الاجتماعي الأفقي والعامودي, المعطى تاريخيًا كالعشائرية أو الدين. فكل دين أو مذهب أو عشيرة,عمليًا, هو كيان سياسي قائم بذاته في حالة كمون, ينتظر الوقت ليتحول إلى غول ينهش في جسد الأخرين, بيد أنه غير معلن, في الحالات العادية, عند استقرار السلطة, يقدمون ولاءهم للسلطان. فكل كيان, كيان مغلق, له رئيس, نواب الرئيس, نخب الملة أو الطائفة أو العشيرة, هم نخب مالية لهم نفوذ تحت سياسي, أعضاء, مرؤوسيهم يمتثلون لكلمتهم, على تنسيق كامل مع السلطة من موقع الخاضع, أن يقدموا الولاء والطاعة والضريبة مقابل الحماية والبقاء داخل كيان السلطنة الشامل.
إن المخلفات الماضوية, كيانات انتهازية, يتحينون الفرص للخروج من قوقهتهم, يتمحورون حول ذواتهم, حسب درجة وآلية حركة مركز السلطة في علاقة الخضوع أو الامتثال.
الطائفة أو العشيرة, الملة, بنية صلبة جدًا, مغلقة, متماسكة, لها علاقاتها, لا تفتح على الأخرين ولا يسمحون للأخرين أن يخترقهم, في تشابك خيوط علاقاتهم, وتعقيد خصوصياتهم التاريخية. فالاستبداد, كتلة متكاملة, يبدأ على شكل دوائرة مغلقة, ضمن دائرة كبيرة تسيطر على الجميع, ضمن إطار القوة المجردة التي تسيطر على الجميع.
يتم كبح جماح أي مجتمع عبر هذه الكيانات المغرقة في القدم التي لا تسمح باختراقها أو الحرية لأفرادها أن يخرجوا منها إلى الفضاء العام. وتتم داخل هذه البنية علاقة, اقتصادية من نوع خاص كاحتكارها لحرفة ما, وعدم إفشاء سر ذلك. إن إنغلاق البنية, يتلقى الدعم الكامل من السلطة المركزية التي تشجع هذه الظاهرة وتثني عليها ليحررها من التزاماتها ويبقيها تحت الوصاية. فهذه البنية تقوم بدور المؤسسة, كبديل عن الدولة, كالقمع والسيطرة وخضوع جميع افرادها لقوانينها وأنظمتها القائمة على العرف المجرد, كالاستزلام. ومن يشذ عن القاعدة, الجماعة أو القطيع يتحول إلى نكرة غير معترف به في علاقاته معها. فالمطلوب من الجميع أن يبقوا رؤوسهم منكسة, على مسطرة واحدة.
إن عملية ضبط المجتمع تم ويتم عبر السيطرة على رؤوساء هذه البنى, كالملة, الطائفة, العشيرة, المذهب, بحيث تتكفل كل واحدة على حدة أن تأخذ مكان الدولة في ضبط مجتمعها اجتماعيًا, أي أنها تتحول إلى مؤسسة, لها آلياتها, دولة مصغرة, دولة داخل دولة. وتأخذ الدولة كل كتلة بشرية على حدى وتتعامل مع زعيمهم أو المجلس الطائفي أو الملي أو المذهبي بتناغم متكامل في ظل مفهوم الرعية.
إن بنية الطائفة, العشيرة, الملة, المذهب, يحمل كل واحد من هذه المفاهيم هزيمته في بنيانه, في داخله, لانه لا يعبر عن مشروع مستقبلي ولا يخرج, من القوقعة. إنه نزوع نحو الحطام والدمار, نحو ماض هلامي غير محدد المعالم. إنه بنيان مريض, رافض لمفهوم الدولة, الاندماج في المجتمع الكبير. إنه تقليص المجتمع على مقاس نخبة منفصلة عن الواقع, تأكيد لحضور عاجز, لفئات أو شريحة, لا تستطيع أن تكون جزءًا من مفهوم واسع, دولة للجميع, دون حمولات قذرة. وما نعرفه أن الطوائف لا يكسبون المعارك, بله أنهم يكرسون الانفصال عن الواقع, ويفتتون المجتمع إلى أجزاء, ويدفعونه نحو الهزيمة في أبشع أشكاله. وفي ظل ضعف الدولة الاستبدادية, لا تتمزق هذه الكيانات الماضوية فحسب, أنما تترسخ في ظل جذور الأزمات الوجودية. والمشكلة الأهم فيهم, عقدة الاضطهاد التي يعانون منه عبر قرون, ولا يمكنهم أن يتخلصوا منه. إنهم في حالة بحث عبثي دائم عن هوية. ويحتاجون الى اعتراف الأخرين بهم. إنهم جزء من عقلية الغزاة, يؤكدون حضورهم بالعنف أو الخضوع التام.
إن بقاء البنية الطائفية والمذهبية والعشائرية مرهون ببقاء دولة الاستبداد, لأنه يعتمد على هذه المداميك, يتطور بها وعليها, ويستقر تحت ظلهم. يقول جيل فاينشتاين:
" تتجسد الطوائف التي تؤطر المهن المختلفة, وكان أفرادها ينقسمون إلى ثلاث مراتب: المعلمون, الزملاء والصبية. والواقع أن هذه الهيراركية تتطابق مع انقسامات اجتماعية واضحة إلى هذه الدرجة أو تلك بحسب الحالات. وضمن طائفة ما, فإن الجميع يعتنقون في الأغلب ديانة واحدة, لكن تلك القاعدة ليست مطلقة". ويضيف:
"وكان على رأس كل طائفة قيادة, وتضم هذه القيادة المسؤول الأول والمتحدث مع السلطات, ورئيس الصبية الذي يساعد الأول, والمسؤول بوجه خاص عن الشؤون الداخلية للطائفة, والشيخ وهو مرجع أدبي وديني بشكل خاص.
وبوجه عام, فإنهم يعملون على سيادة روح الأخلاق والشرف هذه, المشبعة بروح التدين إلى حد كبير, والتي ميزت مؤسسة الطوائف منذ نشأتها. ويلعب القاضي دور الحكم في حال بروز نزاعات داخلية في صفوف الطوائف. ومن داخله, وبشكل ثانوي, من خلال المحتسب, تكفل الدولة سيطرتها على النظام الذي تستخدمه لمراقبة الإنتاج والقضاء على المزاحمة" /34/.
"ففي المراكز الكبيرة على الأقل تمكن القادمون الجدد بفضل التوسع الديمغرافي من كسر احتكار الطوائف الذي حرمهم من أن يجدوا لأنفسهم مكانا, وذلك بالرغم من الاحتجاجات الغاضبة من جانب الطوائف". / 34/.
وكان هناك نظام أخر, يسمى نظام تيمار, يقول في هذا الصدد الدكتور سيد محمد السيد محمود:
" حيث يتولى كل أمير, مقاطعة, يلتزم بإعداد وتجهيز عددًا محددًا من الفرسان, فيخرج على رأسهم وقت الحرب, ويدير هذه المقاطعة وقت السلم, وذلك مقابل أن تترك له الدولة خراج هذه المقاطعة" /35/
وكان هذا النظام يوفر, " ييسر للدولة توفير أعداد كبيرة من الفرسان المحاربين من كافة ولاياتها وقت الحاجة, دون أن تتحمل الدولة أعباء مالية, وإدارة ولاياتها وحمايتها دون أن تلتزم بدفع رواتب دورية أو غير دورية للأمراء والجند, وزراعة أراضيها وتوفير احتياجات ولاياتها الاقتصادية والمالية, فكان نظام التيمار, بمثابة نظام عسكري اقتصادي اجتماعي مثالي لدولة قامت على سياسة الغزو والجهاد" /35/
فالاستبداد منظومة متكاملة من القاعدة إلى القمة, له ثقافته, مثقفيه, مفكريه, وتكوين نفسي وعقلي صلب, ولا يمكن تغييره الا عبر الفكر, حركة الواقع, الظروف المادية التي تفرض شروطها القاسية, الثقافة على المدى الطويل. عبر تفكيك هذه البنى وإعادتهم إلى المربع الأول الذي خرجوا منه.
فبنية العشيرة أو الملة, مرتبطة بالاقتصاد المغلق, الأرض, أو الحرفة, السوق الذاتي, يمارس الأفراد نشاطهم الاجتماعي داخله, كشكل من أشكال, الاقتصاد المنفصل عن بعضه, اي الاقتصاد العام للدولة, القائم على الاقتصاد الطبيعي, في عملية الانتاج والاستهلاك, حيث تنتج المزروعات المواد التي تستخدم للاستهلاك اليومي والموسمي, كالقمح والشعير والذرة والخضروات, العسل, والألبان والأجبان وبقية مشتقات الحليب كالسمن والزبدة والجبن وتأمين اللحم المجفف, والدواجن بمختلف أنواعه, الدجاج والديك الرومي, الأوز والبط والحمام والحجل. وصناعة المنسوجات والثياب والبسط والسجاد والفخار والمحراث ومواد البناء, وتشييد أبنية السكن. ففي كل قرية تابعة لعشيرة ما تقريبًا, نول يدوي للنسج الفردي أو الجماعي, لنسج الثياب والخيم والبسط والدخان. فالعشيرة, الطائفة, الملة, لها مصلحة حقيقة في أن تمارس دورها السياسي التحت سياسي أو اللاسياسي أو التورية السياسية, أو سوق سوداء للسياسة, بالرغم من أنه سياسي, بيد أنه غير معلن عبر انغلاق حلقتها على نفسها, واقتصار علاقتها بالسياسة العامة بدفع الضرائب وشراء بعض الحاجات الاساسية كالسكر والرز والثياب وسكة المحراث والحديد والنحاس. هذا الانقسام الاجتماعي, انفكاك الجزء عن الكل ضمن حلقة مغلقة, يشكل بنية اجتماعية وثقافية واقتصادية متكاملة مع المجتمع الكبير ومنفصل عنه. تستمر وتجر وراءها عطالة الذهنية الاجتماعية ولجم حركته, وفق علاقة محسوبة بعمق, قائمة على الاستزلام والمحسوبية وتراتبية شديدة القوة في الخضوع للحلقة الأقوى, يكون الدين والعرف رافدا كبيرا لهما.
فالريف, المكون من عشائر, عالم قائم بذاته, يرفد المدينة وقواها بقوى, تسعى بشكل صامت على التحكم بنفسها لتكون البوابة الخلفية للدولة, يعبروا من خلال ذلك عن مصالحهم.
لم تنعدم السلطنة من المعامل التابعة للدولة, خاصة في مجال الاسلحة, مصانع البارود, المناجم, ورش سك النقود وعربات المدافع. بمعنى أن السلطنة كانت ورشة كبيرة في العمل والانتاج والتصدير والاستيراد ومتموضعة في وسط العالم, وداخلها قدرات بشرية هائلة ملجومة, بيد أنها مقيدة الامكانات بسبب الشروط التاريخية, الثقافة التي تحد من الانفتاح على نفسها والعالم.
بالإضافة إلى أن الاقتصاد العثماني كان يعن ببنى تقليدية. فبعد أن وصلت الفتوحات العسكرية إلى الذروة في العام 1566 م, عند وفاة السلطان سليمان القانوني, لم يطرأ أي تغير يذكر على أي تحول في ذلك. كما ذكرنا أعلاه, سيطرت السلطنة عسكريًا على رقعة جغرفية واسعة جدًا في محاولة السيطرة على ممرات التجارة العالمية في وسط العالم القديم الذي يربط آسيا بأوروبا, ومحاولة التمدد أكثر فأكثر لاحتلال أوروبا كلها للاسباب الاقتصادية المذكورة.
لقد دب الرعب في السلطنة عندما تبدلت أولويات التجارة العالمية لدى الأوروبيين, عندما غيروا اتجاه سيرهم من الشرق عبر رأس الرجاء الصالح للوصول إلى الهند, وفي طريقهم وبحثهم عن أقصر الطرق للوصول إلى هناك أكتشفوا القارة الأمريكية الواسعة, الكنز الذي لم يحلموا به. وتدفقت الأموال والكنوز والثروات عليهم دون عناء يذكر, وتوسعت رقعتهم الجغرافية والمالية وانخفاض الأولويات لديهم في التنقل عبر طريق الحرير, سوريا والاناضول وأوكرانيا أو مصر أو باب المندب. ومن المؤكد أن الأزمة عميقة, كان لها بعد اقتصادي بشكل خاص, المنافسة الغربية, منافسة المنتجات, طرق التجارة الجديدة, والمشتريات من المواد الأولية. لكن الأزمة المالية, هي ثمرة أزمة سياسية في المقام الأول, استفحلت, " نتيجة أزمة عسكرية من نواح عديدة, يتابع روبير مانتران:
"ففي الجزء الأخير من عهد السلطان سليمان القانوني, كما في الحملات ضد النمساو وإيران في أواخر القرن السادس عشر, لم تكن الحرب حسنة الطالع بالنسبة للعثمانيين: فهي لم تعد تقود إلى فتوحات باهرة كما السابق, تجر إلى الاستيلاء على أسلاب خرافية". ويضيف الكاتب:
" بل إنها قد أصبحت عبئًا فادحًا بل ومدمرًا. حتى أن التقنيات العسكرية بدأت تختل لصالح الغرب, النمسا " فإن ظروف القتال الجديدة, كما فرضها التطور العسكري بشكل خاص, لآل هابسبورغ, تعلى من شأن المدفعية, وقوات المشاة المزودة بأسلحة نارية. وبحكم هذا الواقع, فإن سلاح الفرسان التيماري الواسع كان يعاني من صعوبات سير عمله في عهد سليمان, قد بدأ غير مهيئ وباليًا بشكل صارخ". "وكان الخطر الأكثر جسامة بالنسبة للتوازن المالي للدولة: زيادة عدد هذه القوات قد سارت جنبًا إلى جنب مع ظواهر أخرى كنمو البيروقراطية, وتضخم عدد أفراد القصر, والتزايد المفرط الكمالية للبلاط" /36/
" والرشاوي تكتسب طابعًا معممًا عند توزيع المناصب, ومعدلات الضرائب النقدية العائدة بشكل مباشر للدولة كالجزية والعوارض, ترفع إلى مستويات عالية" / 37/
وفي التكوين الداخلي لهذه الدولة, بنيتها قائم على" تشكيل الطبيعة العسكرية لها, ومن ثم في جعل كافة مؤسساتها تعمل في خدمة هذا الهدف المتمثل في عمليات الغزو والجهاد" / 38/
"وهكذا راح الغزاة العثمانيون تحت قيادتهم الموحدة, ومن خلال مؤسسة عسكرية ذات قوة ضاربة ومدد معنوي ومادي لا ينضب, يديرون دولتهم في الداخل ويحققون الانتصارات في الخارج, حتى استطاعت الدولة العثمانية خلال قرن واحد من الزمان أن تتبنى فكرة حكم العالم بنظام مركزي مطلق وأن توفق في تنفيذها عقب فتح القسطنطينية". / 38/
في هذا الوقت الذي كان الأوروبيون يشتغلون على الفكر والفلسفة والأبحاث العلمية. كانت خميرة النهوض قد بدأت في أوروبا, في هذه الفترة.
الخلاصة, لم يكن لدى السلطنة أي شيء يمنعها من تجاوز أوروبا في جميع المجالات الا تجاوز الاستبداد الديني والسياسي. استطاعت في السابق, التحكم في الصراعات الداخلية من خلال نقل الأزمات الداخلية إلى الخارج عبر الصراع المسلح على الحدود أو التوسع على حساب دول الجوار, لكن مع تطور أوروبا, لم يعد هذا مجديًا
هناك جملة عوامل أدى إلى تغيير مسار الصراع على المستوى الدولي في تلك الفترة, كل طرف له اتجاه, حاجات ومصالح وقوى داخلية تتحكم في مسار تحرك أو تطور الأمور سواء الكابحة, اللاجمة أو الدافعة, وحركة رؤوس الأموال أو استقرارها. ففي بداية الفتح العثماني استطاعت الدولة أن تحصل على المال الفائض القادم من النهب والتي أدت إلى الوفرة المالية, بيد أن الأمر لم يستمر إلى ما لا نهاية, فأي دولة تعاني من مد وجزر, وتناقض وتتعاضد الحوامل التي تتداخل في بعضها. وهناك مسؤوليات كبيرة تقع على دولة مثل السلطنة كونها كتلة كبيرة, حاملة هم العالم الإسلام السني, ومن هذا الموقع الايديولوجي تنطلق في ممارساتها السياسية الخارجية, خاصة بوجود قوة أو كتلة قوية نقيض لها على الصعيد الايديولوجي وفي حالة صراع عميق معها, أوروبا المسيحية, تلك الدول التي توحدهم رابطة الدين, مرجعهم البابا.
كما أن التمردات الشعبية, ذات الخلفية الدينية أو الاقتصادية كالفلاحين أو المهمشين على الصعيد الديني أو المذهبي, ضد السلطنة في أكثر من مكان وخاصة في البلقان, انهك الدولة اقتصاديا وسياسيا وعسكريًا. ففي النصف الأول من القرن السادس عشر, تمرد والي دمشق جانبرد الغزالي على أسياده العثمانيين, وتوجه لحصار حلب مما دفع السلطان سليمان لإرسال حملة عسكرية بقيادة فرهاد باشا وأوغلي علي لإعادة السيطرة على بلاد الشام وضمها مرة أخرى, والحرب الطويلة بين السلطنة والدولة الصفوية في إيران أمتدت إلى أكثر من عقدين من الزمن, من العام 1532 إلى العام 1553, جهز فيها العثمانيون حملتين عسكريتين عليها أدت إلى السيطرة على تبريز وضم العراق وبعض أجزاء من أرمينيا وجورجيا.
إن مسار التطورات العالمية, الداخلية والخارجية, على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لكل دولة فرض نفسه على السلطنة مثلما فرض نفسه على بقية الدول, وحتم على كل طرف مسؤولية أخلاقية ودينية وسياسية في تلك الفترة أن يجهزوا أنفسهم لمواجهة الخطر القادم من الخارج ومن الداخل وكل دولة وفق بنيتها السياسية والاقتصادية وقدرتها على ضبط أو السيطرة على نفسها ومواجهة العوامل التي تحرك الغليان الداخلي والخارجي, على كل المستويات. ومن هذا الأمر واجهت السلطنة الأخطار الخارجية القادمة من اسبانيا والبرتغال, الدولتان القويتان جدًا ومركز الثقل المسيحي في القرن الخامس عشر والسادس عشر.
إن مشروع طرد الاسبان للمسلمين من تلك البلاد شكل صدمة نفسية للعالم الإسلامي وترك آثاره على الجميع من هول الفظائع التي حدثت لهم. ولم يكتفوا بهذا الأمر, بله انتقلوا لاحتلال عدة مواقع استراتيجية متقدمة في البحر الأبيض المتوسط, للسيطرة عليه, للسيطرة على ممرات التجارة العالمية كلها, لهذا احتلوا مدن وبلدان إسلامية مهمة مطلة على المتوسط كطرابلس, بجاية, وهران, الجزائر وتونس. لهذا استنجد أهل الأندلس بالعثمانيين عبر" إرسال مملكة بني الأحمر سفيرها للدولة العثمانية طلبًا للمساعدة على مواجهة الضغوط الأسبانية على المسلمين في آخر معاقلهم في الأندلس في العام 1486م" / 39 /
وهذا الطلب كشف ضعف الدولة العثمانية في البحار, فتبين" عدم قدرة الإدارة العثمانية على تقديم المساعدات اللأزمة لتحسين أوضاع المسلمين هناك. فكان" سببا في تفكير الإدارة العثمانية الجدي لتطوير البحرية" / 39 /.
وبدأت تشهد تطورًا مهما في عهد بايزيد الثاني مكنها, " من فتح موانئ هامة مثل اينه بختي, ومودون وقورون. وعقب ضم أملاك دولة المماليك, أصبحت الدولة العثمانية تسيطر على كافة سواحل البحر الأحمر وسواحل الحوض الشرقي للبحر المتوسط: " فقام سليم بإنشاء ترسانة جديدة في ميناء الخليج في استانبول, حيث امر ببناء ثلاثمائة سفينة جديدة من الأحجام" / 40/
استمر الصراع في عهد سليمان القانوني على البحار والأرض بدوافع وغايات سياسية تستلزم الدفاع عنه مسؤولية أخلاقية, لهذا استجاب السلطان لاستغاثات المسلمين السياسية والإنسانية في أكثر من مكان. فأرسل قوة بحرية, أسطولا فحرر المدن, وهران والجزائر وتونس, وأضاف في طريقه احتلال مدن أخرى لتكون متكئ ومستند لقواته ومجالا حيويا لتحرك اسطوله لتبقى المنافذ البحرية والتجارة العالمية تحت سيطرة السلطنة, فاحتل بنزرت, وهران, غزه. كما احتل جزيرة ميوركا وكورسيكا ورودس وجزيرة القرم, واحتل رومانيا وعاصمتها بوخارست.
أقسى حروب السلطنة كان مع النمسا القوية, بعد ضمها دول كبيرة كأسبانيا وأجزاء من ايطاليا وهولندا وألمانيا مما دفع فرنسا الى التحالف مع السلطنة والدخول في صراع مسلح بحيث تهجم السلطنة من الشرق, وعمليا نفذت هذا الأمر, ودخلت نهر الدانوب بجيش قوامه مائة ألف جندي وثلاثمائة مدفع وثمانمائة سفينة حربية واحتل العاصمة بودابست وبلغراد. ومحاصرة فيينا عاصمة النمسا, بيد أن الأمر لم يحسم تمامًا. ففي العام التالي, حاولت النمسا استعادة المجر إلا أن السلطان عاد بجيشه إليها مرة ثالثة, حيث تحولت الحرب بين كر وفر, استيلاء واسترجاع.
التحالف الفرنسي العثماني أدخل الاضطراب والفوضى في الدولة الفرنسية, من موقع ديني, مما سبب مشكلة كبيرة للملك فرانسوا الذي اجبر تحت ضغظ الرأي العام في أوروبا على فك التحالف مع السلطنة وعقد هدنة مع النمسا المسيحية, فاستغلت هذه الأخيرة هذا الوضع وعادت جيوشها للهجوم على السلطنة.
بقي الصراع العسكري بينهما, النمسا بقيادة ملكها شارلكان, وتوابعها, أسبانيا وهولندا وألمانيا وجزءًا من إيطاليا الجنوبية, وجمهوية جنوا وفلورنسا والبنادقة, ووهران وجزيرة منيورقة وصقلية, والسلطنة مستمرا إلى أن عقدا اتفاقًا, معاهدة لمدة خمسة أعوام تدفع خلاله النمسا الجزية للدولة العثمانية. كما أرسل أسطولًا إلى الجزيرة العربية للسيطرة على ممر التجارة العالمي في باب المندب بالقرب من اليمن والتخلص من الوجود البرتغالي في تلك المنطقة. واحتل جيش السلطنة في طريقه اليمن وعدن ومسقط وحاصر جزيرة هرمز, وإغلق أبواب البحار والتجارة في وجه البرتغاليين. وأرسل أسطولا لاحتلال مواقع مهمة في الهند لتكون مركز استناد وسيطرة على التجارة العالمية التي كانت على أشدها بينهم وبين البرتغاليين, بيد أن الأسطول العثماني مني بهزيمة ساحقة على يد البرتغاليين في معركة ديو البحرية, واضطرارهم للإنسحاب خوفًا من الغرق في مستنقع الهند البعيدة عن مركز السلطنة السياسي.
كانت الغاية الكبرى من السيطرة على البر والبحر هي التجارة في المقام الأول.
إن العلاقات الفرنسية العثمانية توجت بعقد معاهدة تحالف مهم بينهما شملت ستة عشر بندا وذلك في العام 1536م. تعتبر هذه المعاهدة بمثابة دعم للمملكة الفرنسية من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية, وفي مواجهة خصومها خاصة آل هابسبورغ. وبموجب هذه المعاهدة حصلت فرنسا على امتيازات هائلة داخل السلطنة, كالتجارة عبر الشرق مرورا عبر أراضي السلطنة دون أن تتعرض لضغط البرتغال التي كانت تحتكر رأس الرجاء الصالح, وعلى حق حماية مصالح الدول الأوروبية, واحسنت توظيف بنودها في خدمة مصالحها السياسية والتجارية والعسكرية.
هذه المعاهدة فتحت الأبواب لدخول رياح التغيير في خاصرة الشرق. صحيح أنها جاءت في أوج قوة السلطنة بيد أن الأمور تحسب في النتائج, فقد كانت مدخلا تجاريًا في البدء, ثم تحولت لتكون موقعًا متقدمًا للغرب في جسد الشرق عبر الوكلات التجارية والامتيازات, وبداية الاختراق الاقتصادي والسياسي واختلال التوازن السياسي والاقتصادي, أو توطئة للسيطرة أو إشارة إلى بدء عصر وانحسار عصر الذي مهد لدخول الجيوش والقوات والبضائع والسلع والثقافة والوصاية.
إن هذه المعاهدات, هي المدماك التي تم البناء عليها لرهن مستقبل الشرق للغرب. ولم يتأخر الوقت حتى حصلت بريطانيا على امتياز تجاري في العام 1580م ثم هولندا في العام 1612م فالنمسا 1616م. فالسويد والدنمارك وبروسيا وأسبانيا.
كانت المعاهدت تمت, بالرغم من الصراع العسكري الذي كان قائما بينهم.
بدأت ملامح الضعف في مفاصل السلطنة تظهر بعد معركة ليبانت البحرية 1571 نتيجة الاجهادات التي تعرض لها الجيش ومؤسسات الدولة نتيجة هدر الأموال التي بدأت تذهب إلى قمع التمردات والحروب المجانية للحفاظ على حدود الدولة, وانخفاض العائدات المالية التي كانت تأتي من الفتوحات.
في مرحلة استقرار الدولة الاستبدادية, تبدأ المتطلبات الجانبية في البروز إلى العلن, منها تمردات الاناضول, الانتكاسات في المجر وجورجيا وأذربيجان.
عندما يكون جيش دولة ما قائم ومجهز على الفتوحات العسكرية فإن الحد من قدراته سيوسع الشق بينه وبين الجهاز السياسي وربما يؤدي إلى الاطاحة به, لإعادة إنتاجه مرة بعد الأخرى. وبغياب فكرة, ومفهوم الدولة, وقدرتها على امتصاص التناقضات الداخلية في كلا المؤسستين, الجيس والسياسة, سيعمل أحدهما إلى أكل الأخر, هكذا حدث في الأعوام التالية. فالجيش الكبير, عندما يكون مجهزًا للقتال والحروب المفتوحة, تكون آلته في حالة صعود يقطع دابر كل من يقف في طريقه, ويؤجل أزمته وأزمة المؤسسة السياسية إلى الأمام. وعندما يخوض حروب كثيرة, فأنه يؤجل تأكل نفسه وتأكل الدولة إلى المستقبل. وعندما تتوقف هذا الآلة عن القتال فأن الجيش يتمرد على نفسه أو على النظام السياسي أو يدخل في معارك جانبية بينية داخل البلد الواحد مما يؤدي إلى الانقسام السياسي والاجتماعي أو يتم التحكم بالمؤسسة السياسية أو الدخول بأي حرب أو معركة سواء في الداخل أو الخارج أو افتعال معارك جانبية داخلية أو خارجية للهروب من استحقاقات الأزمة البنيوية لدولة الاستبداد. من هذا القبيل يمكننا ذكر مثال على ذلك:
عندما خنُق السلطان عثمان الثاني في العام 1622م, دبت الفوضى في جسم الأمبرطورية كلها, لتضخم الانكشارية وعدم قدرة المؤسسة السياسية على الحد من طموحاتهم. هذا الانقسام بين المؤسستين, السياسية والعسكرية, فتح الباب على انشغال الدولة بنفسها, وعدم قدرتها على التحكم بمجريات الأحداث في ظل دول معادية تاريخيا, النمسا وإيران, للسلطنة وفي غياب الرقابة على كلا المؤسستين وعدم انضباطهما بقانون أو دستور. غاب العرف وضاعت هيبة السلطان والدولة.
حتى الاصلاحات التي قام بها بعض الصدارة العظمى هو محاولة لإعادة إنتاج الدولة المستبدة دون الدخول في حل جوهر الأزمة. ففي غياب دولة القانون, المؤسسات, لا تستطيع الدولة امتصاص تناقضاتها الداخلية وبناء علاقة سوية مع المجتمع, تحترمه ويحترمها.
فهذه الدولة, ومؤسساتها التقليدية, يعملان وفق آلية قديمة كانت سائدة في القرون الوسطى وما قبلها, بينما الواقع في أوروبا, بدأ في إنتاج وقائع جديدة على صعيد الفكر والفلسفة, وعلم السياسة. فكما هو معروف أن البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي لا تجدد نفسها عبر المفاهيم والأفكار التي تواكب كل عصر وزمان فأنها تتكلس وتنهار.
إن عدم قدرة الدولة على هضم, آلية حركة الدولة, المجتمع, نشاطهما, تقلبات السياسة, يكون لعدم وجود آلية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية لربط المركز بالأطراف, مما أفرز وقائع مؤلمة وأحداث جسيمة على أرض الواقع, كتمردات لها جوانب اقتصادية أو قومية أو دينية أو جوانب اقتصادية سياسية اجتماعية, تنحو نحو الاستقلال عن السلطنة, مترافقة مع بروز روسيا كدولة قوية تقع على خاصرة السلطنة ولها طموحات هائلة, ورغبة في الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وكسر احتكار السلطنة للبحر الأسود والمتوسط. وأنكشف هذا الأمر في حصار فيينا 1683 وفشلهم في ذلك وتقدم الروس في أوكرانيا والقرم.
كان التداخل بين مفهومي السلطة والدولة عبر التاريخ ملتبسًا على طول الخط, يجري دمجهما لتعويم القوى النافذة فيهما. على الأرجح, أن مفهوم السلطة كان سائدًا في منطقة الشرق عبر التاريخ ويجري تعويم مفهوم الدولة ظلما لمصلحة السلطة.
السلطة كانت تغلف نفسها, وتتوارى وراء مفهوم الدولة, هي السبب المباشر في صعود وهبوط دول كثيرة على المسرح العالمي. تؤدي كل سلطة دورها, في سحق الأخرين بقوة السلاح والنهب والسلب للحصول على الخراج, المال الذي يجنى بعرق وجباه المسحوقين على كلا الجانبين, المهزوم والمنتصر. فالسلطة, كمفهوم جرى تسويقه على أنه دولة, وهو كذلك, أي أنها سلطة, تسعى أن تكون متسيدة, قوية ومسيطرة على المجتمع. ولا يهمها سوى نفسها. إنها ذاتية, انانية, تتعامل مع الوقائع وفق منطق القوة والسيطرة. وإذا كان الحاكم, السلطان فوق القانون, أو هو القانون فأن مزاجه وشخصيته وعلاقاته وتكوينه النفسي والعقلي يسيطران على القرار ويوجهان الدولة والمجتمع بالاتجاه الذي يريد. أحيانًا وربما أغلب الأحيان تكون القرارات خاطئة, ممكن تؤدي إلى كوارث بحق الأخرين خاصة أن قراراته لا ترد أو تناقش.
إن قوة السلطة وتمركزها حول نفسها ليست دليل عافية, خاصة عندما تكون على مسافة بعيدة عن المجتمع. بالعكس تمامًا, كلما زاد قوتها وتمركز القوة بيدها, تكون أكثر انفصالا عن المجتمع. فالدولة القوية, هي التي تكون على تماس مع مصالح المجتمع, أن يرتبط مصلحتها بمصلحة جميع الفئات الاجتماعية. هذا الانفصال, انفصال السلطة عن المجتمع, جعلها كبنية, تبدو قوية من الخارج, بينما خرابها يكمن في داخلها, عبر القوانين الموضوعية التي تحكمها, وتحل صراعاتها مع شبيهاتها, وفق منطقها البنيوي ورؤيتها ومنظورها الضيق.
إن ضعف الامبرطورية بدأ يبان بعد توقف الفتوحات العسكرية, وبدأت في حالة الدفاع عن النفس من هجمات الأخرين. يهاجمها الشاه عباس من الخاصرة الشرقية ويسترد جورجيا وأذربيجان في العام 1603م, ويحتل بغداد في العام 1624. ويكشف ضعف السلطنة. هذا الانكشاف يفسح المجال للقوى الخاضعة في الداخل, المسيطر عليها بالقوة في التمرد ,كجانبولاد الكردي وفخر الدين المعني الدرزي.
ويتبين لاحقًا أن الجيش العثماني لم يستطع حسم معاركه مع الخارج والداخل بالقوة بالرغم من أن السلطنة كانت ما زالت قوية في القرن السابع عشر, بيد أنها بدأت تضعف رويدا رويدا, نتيجة تكوينها الداخلي كما أسلفنا, وبالرغم من علاقاتها الطيبة مع فرنسا عبر تجديد الامتيازات في العام 1606 ومع الانكليز وهولندا أيضًا.
بالعموم, تبدأ الدولة الاستبداية بالتفسخ لغياب الرؤية السياسية, وضعف الوارادت المالية, وعدم القدرة على إنتاج الفساد, مع تنامي المصاعب المالية وتضخم الجهاز الإداري والعسكري, وعدم فاعليتهما, وتضخم الأنا, والامتيازات للنافذين فيها, المحسوبية الفئوية والجهوية بالإضافة إلى تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة, تنامي الانتفاضات السياسية والاقتصادية في تخوم ومركز واقليم الامبرطورية, في القرم 1624 م وفي الاناضول ورومانيا 1626 م وفي اليمن ومصر ولبنان 1630 م. يقول روبير مانتران:
" ويتمثل هذا الضعف, في مرات مختلفة, في انتقال السلطة من أيدي السلاطين إلى أيدي السلطانات الوالدات وكبار المسؤولين عن الحريم, وتتطور الشللية, وتتشكل زمر, في حين أن المسؤولين عن الإدارة, بدءاً بمن يتولون منصب الصدر الأعظم, لا يتم اختيارهم دائما من زاوية ما يتمتعون من كفاءة, أنما من زاوية انتمائهم إلى الزمرة المهيمنة ساعتها. كما تزيد المصاعب المالية وتمردات الفلاحين في الاناضول من احتداد هذا التردي. / 41/.
كما دب التعب والعجز في مفاصل الدولة والمجتمع, عدم وجود مبادرات جديدة تجدد حيويتهما وتتحول الدولة والجيش إلى مجرد أداة قمع, وتنامي الفوضى والبيروقراطية في الإدارات الحكومية, إنعدام القدرة على تنظيم جني الضرائب, إنعدام الأمان في داخل الأمبرطورية نتيجة اختلال الوضع الداخلي والحروب, مما قلل صادرات وواردات التجارة من وإلى السلطنة, هذا الوضع مجتمعًا سبب ضعفا وانتكاسًا للدولة, كانت مقدمة للانهيار. يقول روبير مانتران:
" في العام 1648م يرتفع عدد موظفي الحكومة إلى اكثر من 100000 شخص أي بزيادة قدرها 40000 شخص عما كان عليه في العام 1640م, وتشير الميزانية الرسمية إلى عجز قدره 150 مليون أسبرة, وتنشب تمردات بين صفوف رجال السراي والسباهيين/ الفرسان/ الموجودين في الحامية في استانبول". / 42 /.
كان بناء السلطنة, توازنها السياسي والاجتماعي قائما على الخراج, على جني فوائض مالية لامتصاص تناقضات الدولة والمجتمع, والتضخم في جهازها البيروقراطي الكبير. وبعد منتصف القرن السابع عشر يبدأ اختلال موازين القوى يختل ويتأرجح لصالح أوروبا بعد تطور المانيفاكتورة, الصناعات الآلية, المنتج المعد للتصدير.
ففي السلعة الجديدة المصنعة عبر الآلة التي تنتج آلة, حمولة مالية عالية, وانتاجية عالية. هذه السلع المصنعة تبدأ بدخول السوق العثمانية دون إدراك مخاطر ذلك على مستقبل الشرق كله عموما, والأمبرطورية خصوصًا, وتبدأ الفوارق المالية بينهما يتسع, بين السلعة المصنعة يديويًا والصناعة المصنعة آليًا, وراحت الدول الأوروبية يفرضون شروطهم على العمالة العثمانية المنخفضة القيمة, يقول روبير مانتران:
"فهم يمارسون المقايضة السافرة أو الدفع بعملة جيدة, ولما كانت العملة/ العثمانية/ رديئة العيار قد أصبحت السائدة في الأمبرطورية ــ في العاصمة وفي الأناضول على الأقل ــ فإن التجار الغربيين, الايطاليين والفرنسيين, بل والهولنديين, يصدرون عملات من هذا النوع ويجعلون منها مادة تجارة حقيقية". / 43/.
انقلاب موازين القوى الحقيقي, أو لنقل الكارثة الكبرى بدأت تظهر للعيان عندما بدأت أوروبا تنتقل إلى نمط إنتاج جديد, هو النمط الراسمالي الذي خرج من رحم الاقطاعية الأوروبية. وإنتقال الاقتصاد من الاعتماد على الأرض, إلى الاعتماد على المصنع والمعمل والتغير كبير في مفهوم الدولة.
ربما للأقدار حساباتها, يسير التاريخ أحيانًا وفق منطقه, خارج إرادة الناس ورغباتهم. فقد شقت الأرض الأوروبية طريقها دون تحديد أية رؤية مسبقة أو تخطيط. فقد بدأ جنين صغير ينمو في عمق الواقع الاجتماعي السياسي الاقتصادي, ويخط طريقه بثقة وهدوء دون أن يعيقه أي شيء. فقد وفقت البيئة, الشروط الاجتماعية السياسية الاقتصادية بصورة مستقلة عن الناس, واقع جديد, غرس جذوره في القاع وبدأ يكبر ويشمخ, وجرت تحولات مهولة في الدين نتيجة الاصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر. وفي الأدب والفن والمسرح, والفلسفة والاقتصاد والسياسة والعلوم الطبيعية الأبحاث العلمية في الكيمياء والفيزياء والرياضيات, وصعد على السطح مفكرين وعلماء وأدباء وفنانين كبار, لا يحدهم حد ولا يقف في وجههم أي شيء. فيجري في الدين المسيحي ثورة تقلب أوروبا رأسًا على عقب, وتحمل قيمًا جديدة تتناغم مع تصاعد القوى الاجتماعية الاقتصادية الجديدة, التي تفسح المجال لنفسها أن ترتقي إلى الأعلى وتحمل المجتمع معها وتجبر القوى السياسية في الرضوخ لشروطها إلى أن تفيق أوروبا بعد قرون وترى أنها خلقت نمطًا للإنتاج, نمط أصيل, واقعي, فرض وجوده عمليًا, وشق طريقه نحو المستقبل. ولم يستطع أن يقف أمامه أي شيء. فتسقط قلاع القيم القديمة والثقافات السائدة والرموز الكبيرة, بينما بقي نمط الانتاج العثماني خراجي, في حالة دوران حول الذات, دون قدرة على الخروج من هذه الشرنقة, بينما أوروبا تتقدم في اتجاه اخر بقوة كبيرة لا يردها أحد.
عندما أنكشف ضعف الجيش الذي توجه إلى تكريس السيادة العثمانية على المجر ومحاولة احتلال فيينا في شهر آب من العام 1683م لإزالة أي خطر قادم من الغرب. فشل الحصار على المدينة, وبعد شهرين من هذا التاريخ ينسحب الجيش فاسحًا المجال للأوروبيين أن يأخذوا المبادرة وينقلوا معركتهم إلى داخل الأراضي العثمانية بعد أن شكلوا ائتلافًا سياسيًا, النمساويين والبولونيين والروس, انضم إليهم البابا لاحقًا, ثم البندقية, ترجم إلى قوة عسكرية, استولوا على أثينا في العام 1687م. الحقائق الجديدة فرضت شروطها على الأرض مما دفع ذلك إلى استنفار الدولة والمجتمع عبر اقتطاع كتل مالية كبيرة كضرائب من الفلاحين والمهمشين لتعويض الهزيمة ومحاولة إعادة الاعتبار لماء الوجه. يقول الدكتور سيد محمد السيد محمود:
" وهجر هؤلاء من قراهم وتركهم الأرض خرابًا, ربطها بهذه الأزمة المالية التي واجهت الدولة وتسبب في فقدان العملة العثمانية لقيمتها وفي إلحاق العجز بميزانية الدولة, ومن ثم الضرائب الدورية وتحصيل ضرائب/ العوارض/ الاستثنائية من الأهالي بشكل سنوي دائم. وهكذا, أدى هذا الخلل الاقتصادي والمالي في الدولة إلى اضطراب عام في الأوضاع الأمنية والاجتماعية في الدولة في أواخر القرن السادس عشر وعلى مدى القرن السابع عشر" /44/.
ويضيف:
" بعد انتهاء الحروب, زاد جند المركز وبالخاصة الانكشارية, واهتزاز نظام التيمار, وتحويل أراضيه إلى التزامات, وفرار القرويين نظرًا لثقل الضرائب الواقعة عليهم, واستعمال وظائف الدولة لجمع الثروات, واستيلاء قواد الفرق العسكرية على الوظائف المحلولة, وبيعها لغير المؤهلين بطريقة المزايدة, واختراق الفساد للمؤسسة العلمية, وتعيين القضاة في المناصب ببذل الرشاوى" / 45/.
اعقب, هذا الانهيار اقتصادي بعد هزائم عسكرية متتالية وتنازلات أقليمية ودبلوماسية هنا وهناك, في دلالة على أن السيطرة العثمانية على الكثير من المواقع المتقدمة في اوروبا وغيرها بدأت تشد باتجاهها إلى الانحسار. ويعقب كل ذلك تدخل النساء, زوجات أو أمهات السلاطين في الشاردة والواردة من موقع القرب منه, وتبدأ مرحلة اغتيالات السلاطين وتصفيتهم جسديا, لأن هذا الجانب أو ذاك لا يرضيهم, وتحول الانكشارية إلى جيش فوق جيش, فوق الدولة, جيش داخل جيش يفرض شروطه وقراراته على السلطة السياسية. واحيانا كثيرة يتم خلع السلطان, بحجة عدم الكفاءة. على سبيل المثال, تم خلع السلطان محمد الرابع من قبل كبار رجال الدولة في العام 1687م واحلال أخيه سليمان الثاني محله, ويتم اجتياح القصر الامبرطوري من قبل الانكشارية, ويقتل الصدر الاعظم وتنتشر الفوضى ويدخلون في صدام مع الشارع, يستولي النمساويين على بلغراد, وتحرك ضد السيطرة العثمانية في صربيا وبلغاريا وترانسلفاتيا. وجرى قضم الكثير من أراضي السلطنة والتدخل في شؤونها الداخلية. ففي معاهدة كارلوفيتز التي وقعت مع النمسا وبولونيا والبندقية والروس في العام 1699م تخسر السلطنة المجر وترانسيلفانيا وبودوليا وغرب أوكرانيا ومورة وكورنثة وجزيرة سانت مور وبحر أزوف في القرم وجزء من أوكرانيا.
تدخل رياح النخر في الدولة والمجتمع, وتتغلغل في جميع أجزائهما ومفاصلهما سواء من الداخل أو من قبل الخارج, وتبدأ مرحلة الهيمنة الأوروبية, بروزهم على الساحة الدولية, وقدرتهم على لعب أدوار كثيرة على مختلف المستويات, بمنتهى الحرفة, خاصة ببروز لاعبين أقوياء كروسيا, بطرس الأكبر, ثم كاترينا الثانية.
إن خسارة أقاليم ومقاطعات كثيرة سبب للدولة أزمة اجتماعية ونفسية واقتصادية نتيجة خسارة العائدات المالية القادمة من الجزية والضرائب المختلفة. هذا التدهور الاقتصادي يؤدي إلى انكشاف المجتمع العثماني, قوته, قدراته, تماسه وتدهوره.
عملت السلطنة, في محاولة التخلص من تبعثر السلطة, إيقاف الانهيار الداخلي, وإعاة تمركزها حول ذاتها. لهذا, أقدمت في التخلص من القوى الموزعة على أكثر من مكان, الانكشارية, الأغاوات, ملاكي الأراضي, زعماء العشائر والباشاوات, للحاق بالبلدان الغربية ومجاراتها, بيد أن هذا جاء من الأعلى من أعلى رأس في السلطة لتحسين شروط استمرارها سياسيًا واقتصاديًا. في الحقيقة, لم يكن لدى الدولة العثمانية الرؤية السياسية للخروج من النفق, ولم يدركوا عمق التحول التي مرت بها الدول الأوروبية, كنشوء قوى اجتماعية جنينية جديدة في المجتمع, تملك وسائل الانتاج, وتطوره في مجال الصناعة والزراعة وبقية العلوم. إن هذه القوى الجنينية ولدت من رحم الواقع الاجتماعي, وتطور في أوروبا, وأصبح له صوتًا في الدولة والمجتمع. واستطاع فرض شروطه السياسية والاقتصادية. أي أن حركية القوى الاجتماعية التغييرية في أوروبا جاء من القاع إلى القمة, تغيير أصيل وحقيقي, وقواه ثورويين, يملكون, ملكيات أصيلة, ويدافعون عن ملكيتهم عبر مؤسسات سياسية واجتماعية, وقوننة لكل تطور لهم ترعاها الدولة. وأضحت الدولة متكيفة مع مالكي الانتاج, وخاضعة لشروطهم. ففي 1789 قامت الثورة الفرنسية البرجوازية الكبرى, هزت الكيانات السياسية التقليدية كلها, وقطعت رأس السلطة القديمة, الملك لويس السادس عشر, وفي هذا القطع الدموي, قطعت أوروبا أشواطًا جديدة, هائلة باتجاهات أخرى في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وفي عملية تحديث شاملة لكل قطاعات الانتاج. وفي هذا القطع, قطعت علاقتها مع الاستبداد الفردي, وانتقلت نقلة نوعية إلى استبداد أخر, قانوني, مخفي, ولطيف, وناعم, مؤسساتي, حوامله القطاعات الانتاجية العمودية والأفقية. بينما السلطنة, كانت صدى, ففي محاولة اللحاق بالبلدان الغربية عمل السلاطين على أخذ البلاد باتجاه أوروبا, فبدلا من الاستفادة من تجاربها في بناء المؤسسات وتوزيع مراكز القرار عملوا على تكريس الاستبداد الشرقي أكثر فأكثر, عبر القضاء على مراكز القرار ومركزتها بيد السلطان ذاته, والغاء جميع الامتيازات القائمة لمصلحة استمرار ديكتاتورية فردية.
ففي العام 1789, جرى تحولين مهمين في أوروبا والسلطنة, الأولى قيام الثورة فيها, والثانية استلام السلطان مصطفى الثالث السلطة والسير باتجاه التغريب, وبداية التمزق التدريجي للامبرطورية العثمانية وانكشاف ضعفها وانحسار دورها السابق, وبداية بروز الدول العظمى وتنافسها في محاولة السيطرة عليها في البلقان والدول العربية وآسيا وغيرها من المناطق. هؤلاء يكبرون, والسلطنة تنحسر تدريجيا على كل المستويات, وأغلب الحروب التي خاضتها كانت خاسرة, كالبلقان والبلدان العربية.
عند صعود السلطان عبد الحميد الأول إلى السلطة في العام 1774, أدرك حاجة السلطنة إلى التغيير, بيد أن الأمر جاء من الأعلى, منه, ومن النخبة السياسية التي يمثلها, بمعنى لم تنبع من حركة المجتمع والقوى الدافعة لهذا الأمر. وكما هو معروف, أن النخب المتمركزة حول السلطة عبر التاريخ, هي الفئة الأكثر انكماشًا على الذات وتحب التقليد وتستمتع به, ومن الصعب قبولها بأي طرح جديد أو فكر جديد أو رؤية جديدة, لأنه يهز مصالحها ووجودها, لأنها فئة متمركز حول الذات, حول نفسها, ولا ترى العالم إلا من خلال منظورها الضيق. وهي أول من يضيع في خضم الأحداث العظيمة, ويفقد القدرة على رؤية نتائج أي تطور يحدث. وهي أكثر الفئات الاجتماعية خوفًا من كل ما هو جديد, وهي مذبذبة, توازن بين هوسها الذاتي, نرجسيتها, عصابها والعالم المتلاطم الأمواج, الذي يلح عليها ويهزها.
ربما يكون إقدام السلطان على التغيير بدوافع ونوايا صادقة, بيد أن هذا العملية, خطيرة, لأن الأرض التي يستند عليها هشة. ولم يدرك مخاطر التقليد, ونتائجه. ربما كان يعتقد أن الانزياح نحو الغرب سيجنب السلطنة التمزق ويأخذها إلى الحداثة دون فهم أبعاد الحداثة وتطورها والقوى التي تحملها وتمثلها. وربما يكون انبهارًا بالتطور الذي طرأ على أوروبا, جعلها تملك ناصية القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية والثقة والمكانة, وأراد أن يعوم السلطنة في بحر أخر, وملعب أخر له مقاس مختلف عن المقاس الذي حدث في الجزء الأخر من العالم. لقد وجه بلاده باتجاه أوروبا التي كانت في طور بناء منظومتها الرأسمالية التي تتجه في القبض على العالم كله, وفق مقاسات رأس المال الصناعي في ذلك الوقت.
في الحقيقة, لو أن السلطان لم يذهب إليهم من موقع التابع, لجاؤوا إليه. لقد سهل عليهم عناء الذهاب. حمل السلطنة بكامل ثقلها ووضعها في أوج الصراعات الدولية في ذلك الوقت يسانده ويدعمه طاقم يؤمن بما يفعل السلطان, مدفوعين بتصور أن التغيير الذي ينشدونه سيحول بلادهم إلى شكل شبيه بالغرب دون إدراك عطالة المجتمع والمؤسسات السياسية البالية التي تحتاج إلى إعادة إنتاج وتطوير ومشاركة اجتماعية.
لقد مارس الأوروبيون سياسة الترغيب والترهيب, لاستدراج السلطنة إلى موقعهم, لعلمهم علم اليقين أنهم تمكنوا من فهم وضع السلطنة بشكل ممتاز, من خلال دراسة وضعها, السياسي والاقتصادي والعسكري, من خلال الرحالة أو السفراء أو المهتمين بهذا الشأن, وعرفوا كيفية أختراقها, يقول الدكتور سيد محمد السيد محمود:
" اعتمدت أوروبا في تنفيذ هذه السياسة على عدة عناصر مرحلية, بدأت بالضغوط العسكرية لتمزيق أوصال الدولة العثمانية, والضغوط الدبلوماسية لترسيخ المكاسب العسكرية, وفتح الأبواب للتمثيل الدبلوماسي الدائم, وتوسيع محيط الامتيازات الأجنبية في أنحاء البلاد, وللسيطرة على الاقتصاد العثماني, وفرض تبعيته لأوروبا, وحماية رجال الدولة من غير المسلمين, وتشجيع السلاطين ورجال الدولة على إحداث التغييرات على النمط الأوروبي وبالخاصة في النمط العسكرية" / 46/ ص:
بيد ان السؤال يطرح نفسه في ردنا على الدكتور سيد محمد السيد محمود, هل كان لدى للدولة العثمانية خيار أخر للخروج من هذا المأزق على جميع المستويات؟ بتقديرنا, أن الخيارات كانت محدودة وضيقة, بعد أن خارت قوى هذا الرهوان العظيم, وضعفت مفاصله, ودخل المرض في كل مكان من جسمه.
وفي الحقيقة, بعد أن تمكن الأوروبيون من القبض على مفاصل القوة الاقتصادية والعسكرية في بلدانهم لم يكن بالأمكان للسلطنة أن تخرج من تحت وصايتهم بدءًا من القرن الثامن عشر, لإنها كانت تحت أنظارهم, وجميع بنى السلطنة أصابها النخر والخراب, ودخل السوس في الجسد الكبير.
لم يكن هناك قوى اجتماعية تعمل للتغيير الجذري. كانت الأرض السياسية للسلطنة صحراء سياسية وثقافية, عندما كانت في أوج قوتها. صحراء, جرداء غير منتجة للمفاهيم, الفلاسفة, المفكرين, للعلماء, الباحثين, المكتشفين, والفن والأدب.
وكان التصحر السياسي والثقافي والديني, سببا كبيرا في انهيار هذه الدولة العملاقة. وكما هو معروف, تتجمل حياة الإنسان بالموسيقا, بالرسم, بالنحت, بالمسرح, بجميع الفنون والآداب. من يعتبر هذه الأشياء نافلة, فليعتزل الحياة ويعود إلى صحراءه فهي أرحم وأرفق به.
إن الاستبداد الثقافي يصحر الروح والعقل, ويخرب الضمير ويدمر القيم, ولا يمكن قيام علاقة طبيعية مع المجتمع..
تحولت السلطنة مع الأيام إلى قزم اقتصادي, لأن بنية الدولة كان قائما على مفهوم الجهاد والغزو. وعندما أغلق الأوروبيون حدودهم السياسية والاقتصادية وحولوا بلدانهم إلى حاجز, جدار لا يمكن اختراقه بان عيوب الدولة, لعدم قدرتها على تحقيق توازن في الدولة والمجتمع. ولم يكن ورادًا إدخال مفاهيم اقتصادية جديدة إلى الدولة قبل القيام بتغيير مفهوم الدولة كله, لهذا جرى التفاف على الواقع عبر الأخذ بتجارب الدول الأوروبية, والذهاب إليهم عراة سياسيا واقتصاديًا, دون معرفة أبعاد هذه السياسة.
فعوامل الأنهيار كان داخليا وخارجيًا, في الوقت ذاته, والاصحلاحات التي طرحت لم يمس جوهر البنية السياسية لدولة الاستبداد. وبقدر ما كان الخارج فاعل حقيقي في انهيار الدولة بقدر ما كان سببا في بقاءها على قدميها. وجميع الاصلاحات كانت ضمن الجوقة ذاتها, تغيير وجه, سواء كان سلطانًا أو صدرا أعظم أو وزيرًا عاديًا. وهمهم الأول كان تحسين أداء السلطة, الذي جاء من الأعلى خلال القرن الثامن عشر, يقول روبير مانتران:
شهدت الفترة الممتدة من عام 1700 إلى العام 1774 ميلاد ذهنية جديدة في الأمبرطورية العثمانية بين صفوف الأوساط الحاكمة تدفعها, من ناحية, إلى الانفتاح على البلدان الأوروبية, ومن ناحية أخرى, إلى تدشين إصلاحات, إن لم يكن في الهياكل, فعلى الأقل لأسلوب عمل المؤسسات. / 47/
إذا, كان هناك حاجة ماسة لقلب المفاهيم رأسًا على عقب, خاصة في موضوع يمس فهم الدولة المعاصرة التي تبناها الأوروربيون. الدولة التي تضع حاجة المصالح فوق الأفراد, والانتقال إلى بناء دولة القانون والمؤسسات, وفك ارتباط السياسة عن الدين, والانفتاح الثقافي على منجزات العصر, السياسية والفلسفية والاقتصادية, والعلمية, وعزل الدين من هذه الميادين, وعدم السماح له بالتدخل في الشؤون البعيدة عنه.
ففي هذه الفترة كانت السلطنة في حالة كمون سياسي, وانحسار, وجميع الأقاليم التابعة لها يدينون لها بالولاء, وتمركز ذلك بيد السلطان سواء في الولايات الأوروبية أو الآسيوية أو الأفريقية, وعندما يحدث تمرد ما فيتم قمعه كما حصل في العراق حيث تمكن سليمان باشا من إعادة البدو إلى الخضوع للسلطنة مع منح بعض الولايات من اعطاءهم بعض الاستقلالية كالبلقان والمغرب العربي, ومساومة قادة بعض التمردات لإبقاء العلاقة معهم قائمة, بيد أن الدولة المسببة للسلطنة الاجهاد السياسي كانت روسيا القيصرية, الدولة الجار, القوية جدًا, المخيفة, ربما دفعت السلطان نحو تحديث الجيش نتيجة الكمون السياسي, العسكري الذي كان يسود العالم في القرن الثامن عشر, وانشغال الأوروبيين في بناء كياناتهم السياسية الاقتصادية قبل الخروج من المحلي إلى الدولي.
إن الصراع الأوروبي الأوروبي, في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر, انشغالهم بأنفسهم من أجل حيازة القوة والثقل والموقع في الجسد الأوروبي. هذا الصراع, خدم السلطنة أيما خدمة وقدم لها الفرصة أن تعالج قضاياها الداخلية العالقة, وأن تبقى دولة قوية منيعة وتفرض شروطها في معاهدة أو صلح أو مساومة على أرض أو قلعة أو موقع عسكري أو سياسي, بيد أن بقاء الامبرطورية العثمانية, تترنح على قدميها, مدة طويلة, لم يكن نتيجة قدرة السلطنة على إنتاج أو إعادة إنتاج ذاتها. كان ذلك نتاج عطالة المجتمع, والقوة العسكرية المتمركزة حول السلطة.
لقد قاد الملك السويدي كوستاف أدولف الثاني جيشه وتوغل عميقا في داخل أوروبا, واجتاح المانيا, حرق آلاف القرى والبلدات وعاث فيها قتلا وتدميرا, بله قضى على نصف سكانها تقريبًا, واستمر في طريقه جنوحًا في محاولة الوصول إلى فيينا واحتلالها من أجل السيطرة على أوروبا وفرض المذهب البروتستانتي. ولولا الأقدار, ومقتل الملك الشاب, صدفة لتوغل أكثر فأكثر, ولكان على مسافة تماس مع الامبرطورية العثمانية.
والتحول الأخر الذي طرأ على العالم القديم عندما قررت الملكة الشابة, القديرة القوية, كريستينا, إنهاء حرب الثلاثين بعد مقتل والدها كوستاف أودولف الثاني, والتوقيع على معاهدة ويستفاليا في العام 1648 وبذلك أنهت الصراع الأوروبي البيني والانتقال إلى التحالفات والتفرغ لبناء دولهم.
عمليا, خرجت أوروبا بنتائج باهرة, أدت إلى بناء منظومة سياسية أمنية جديدة قائم على تحالفات داخل كياناتها السياسية والاجتماعية. كانت هذه المعاهدة تمثل نقلة نوعية في العالم الحديث وربما على أثرها انتقلت أوروبا إلى عصر النهضة الحقيقي, وترسيخ موقع كل دولة. وبروز روسيا كدولة عملاقة تبحث لها عن موقع في العالم والرغبة في الوصول إلى المياه الدافئة. والانتقال نحو بناء منظومة سياسية عالمية بعد منتصف القرن السابع عشر حسب اتفاقية ويستفاليا في العام 1648 على أثر حروب الثلاثين, يقول سيد محمد السيد محمود:
"وكانت عناصر القوة الأوروبية التي راحت تتراكم على مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر, ومن خلال الأكتشافات البحرية, والتوسع التجاري, والتطور العلمي والتكنولوجي في الزراعة والصناعة, وإعادة بناء النظم الاقتصادية, قد بدأت تؤتى أوكلها عقب حرب الثلاثين بين الدول الأوروبية, 1618 ـ 1648 التي انتهت بعقد مؤتمر وستفاليا 1648 مما زاد أركان التحالف الأوروبي تماسكاً. وبذلك, تمخض الوفاق الأوروبي عن نجاح التنسيق بين هذه الدول لمواجهة الدولة العثمانية, ومحاولة طردها من أوروبا, وتجسد هذا الوفاق فيما عرف باسم "التحالف المقدس", "الذي جمع بين الأعداء من الدول الأوروبية ضد العثمانيين إثر هزيمتهم أمام فيينا في العام 1683". /48/.
وعندما تفرغ الأوروبيين من ذلك, بدأت أنظارهم تتجه نحو الامبرطورية بدوافع سياسية وطمعا في أن تكون سوقا سياسيا لتفريغ الحمولات السياسية الدولية, وسوقا لمنتجاتها, كون السلطنة كانت دولة طرفية ضعيفة في المنظومة التي كانت في بدء التكوين.
ربما لم يدرك العثمانيون هذا التحول في المعادلة الدولية في القرن السابع عشر بعيد معاهدة ويستفاليا. والآثار السياسية التي نتجت عن ذلك, اعتراف كل دولة بالأخرى وبحق الآخر في دينه ومذهبه, وإحلال سيادة الدولة محل سيادة الكنيسة, وخضوعها لها وخضوع الجميع لسيادة الدولة, وهي المعيار للجميع. بمعنى, أنهم انتقلوا إلى مفهوم الدولة, الوطن, كبديل عن المخلفات الماضوية كالدين والمذهب والعائلة.
لقد تقرر في ويستفاليا علاقة جديدة بين سيادة الدولة كمفهوم, ومصلحتها, وهي مرجع للسياسة المحلية لكل دولة. وهي التي صيغ التحالفات الجديدة كبديل عن الدين وقيمه. جرى تمييز, بين الحاجات السياسية للقوى السياسية والدين كعلاقة بين الإنسان وربه. إن مصلحة الدولة في هذه الفترة أضحت هي المعيار بغض النظر عن دين الحاكم أو الشعب. لقد تلقت الكنيسة في هذه المعاهدة انزياحًا كبيرًا في موقعها ودورها. حيث تم إبعادها عن السياسة, وجردها من التحكم بالدولة والمجتمع, وأعادها إلى المعبد خائبة, حزينة, وحيدة ومنعزلة.
لم يعد لمفهوم وحدة الدين له أهمية بعد هذا التاريخ, وبدأ تأسيس الفعلي والواقعي لنظام للحداثة الراسمالية والنظام الدولي القائم على المصلحة السياسية المجردة من العواطف والأخلاقيات والقيم والمثل المثالية.
بانتقال أوروبا إلى مفهوم الدولة العلمانية, قفزت قفزة نوعية إلى الأمام, كانت مدخلا إلى تحطيم القيم الماضوية, والمخلفات القائمة على الوهم والاحتمالات والخيال.
إنه انتقال إلى الحسابات الواقعية المجردة, أن تتحول الدولة إلى ناظم للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, لها مصلحتها وتتمحور حولها قوى سياسية فاعلة, فاعلة فيها ومنفصلة عنها. بهذا التجريد, دخلنا عصر التنوير, والعلم والفكر والبحث العلمي والانتقال من المصلحة الضيقة لمذهب أو دين أو عائلة إلى مفهوم الدولة الوطنية, الحامي للمصالح العلية للقوى النافذة فيه, النخب, في كل دولة, يحصنها من التذبذبات الداخلية والخارجية ومن التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية. وفي هذه الحالة, تحولت الدولة إلى لاعب ماهر في تعويم القوى والفئات الاجتماعية الداخلة فيها, ويتحول الفرد المتمثل بالحاكم إلى مجرد موظف, لاعب ماهر في إدارة مصالح الدولة والمجتمع, وإدارة الصراعات الخارجية من موقع المصلحة الداخلية دون حمولات دينية, تعبوية, أو ايديولوجية شمولية, تتحول إلى رافعة مرات وإلى اجهاد سياسي مرات أخرى.
بالانتقال إلى مفهوم الدولة, الوطن, القومية, ساد العقل, والتفرغ للعمل الجاد في صراع الإنسان من أجل إخضاع الطبيعة لمصلحته وبدأ عصر الاكتشافات العلمية الهائلة والصناعة والتجارة.
مفهوم الدولة أخذ حيزًا واسعًا من البحث على الصعيد الفلسفي والفكري وجرى السهر على تنظيم العلاقة بينه بين النخب الفاعلة فيه من حيث الحمولات السياسية والقوى, النخب الفاعلة فيه, حيث تم دفع الأمور إلى الأمام في تنظيم هذه العلاقة عبر قوننة المؤسسات وتحميل القانون حمولات اقتصادية وثقافية وسياسية, وأنتهت العلاقة, فترة التماهي بين الدولة والحاكم, لتصبح الدولة العقلانية, المتماهية مع نفسها, الصنم الجديد الذي لا غنى عنه في رعاية مصالح القوى النافذة فيه.
يمكننا القول أن التكوين النفسي للإنسان قبل معاهدة ويستفاليا كان بريئًا إلى حد كبير, لم تكن الدولة قد تغولت في حمولتها للنخب المالية والسياسية والنفوذ. ففي تحولها إلى تجريد عالي, حولت الإنسان إلى شيء, مجرد مسنن في مكنة كبيرة, يدور في فلكها وفلك قانونها ومؤسساتها. في هذه المرحلة أنتهى تاريخ الإنسان المشتت ضمن الدولة الماضوية, وبدأ تاريخ الدولة المنظم الأشد تنظيماً, ودخل الإنسان في الزمن السياسي, وضاع. في هذا الزمن لا يمكنه الحصول على الحرية كمفهوم عام, واسع وشامل, انما تقيد بالكامل وتم استلابه بالكامل لصالح مفهوم الدولة.
إن معاهدة وستفاليا كانت مقدمة كما اسلفنا إلى تشكيل الدول, ومفهوم السيادة واحترام الحدود, وبروز الدولة ككائن قائم بذاته, وكان تمهيدًا لبروز قانون السوق, والمكنة, المانفكتورة, الآلة كبديل عن الإنسان في الاستخدام العملي. والتمهيد لبروز القومية والهوية الوطنية الجامعة القائم على اللغة والسيادة . تحولت الدولة إلى بنية كاملة متكاملة لمساندة للتحولات الداخلية الكبيرة على الصعيد العلمي والفكري, وحماية أمن الاقتصاد الذي بين النخبة, ورافعة للتحديات القومية والازمات الاقتصادية.
وقد كرست هذه المعاهدة نهجًا ضمن البيت الأوروبي قائم على الآخاء وبروز فكر قائم على "السلام والحرب العادلة التي ترنو نحو تقيد الأسباب التي تودي إلى الحرب". ووضع الاساس لبعض "القوانين والأنظمة التي كانت تمهيدًا للقانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة الحالية", منها "السلام الآلهي" الذي يحيد الأطفال والمسنين والأماكن المقدسة والنساء ورجال الدين من الحرب.
وأدى فكر الدين المسيحي دورًا كبيرًا في هذه الرابطة بين الأوروبيين وتحويلهم إلى ناد مسيحي وتحجيم سلطة البابا الذي لعب في التناقضات الداخلية بين الدول, وتدخل في شؤون كل دولة من موقع الوصي, كان من آثار ذلك الاتفاق على طرد المسلمين من الاندلس وقبلها تجهيز قوة عسكرية صليبية, لغزو االشرق تحت حجج واهية وهي حماية البيت المقدس.
وهناك عوامل ساعد على تعويم أوروبا وتغيير الوقائع على الأرض, منها اكتشاف القارة امريكا وتغيير مسار التجارة العالية, وولادة مفهوم الاصلاح الديني, وبروز المذهب البروتستانتي على الساحة كمنافس للمذهب الكاثوليكي وما تبع ذلك من حروب طويلة وقاسية, وتزعزع مكانة البابا ولجم تدخله في في الشؤون الداخلية للدول والإمارات كما اسلفنا.
كانت وستفاليا تمردًا أصيل على الكنيسة التي رعت الملوك والطبقة الاجتماعية المالكة للأرض, ومارست القمع والسادية على الشرائح الاجتماعية المهمشة كالفقراء والمعوزين والفلاحين المنتجين, القنانة, وحولت الواقع الاجتماعي إلى وباء اجتماعي وأخلاقي, ووقفت إلى جانب الطغاة وباركت نهجهم بمنتهى القسوة. كما مارست التعمية والتورية على العقل عبر تغييبه في محاولة تخدير الناس لإبعادهم عن مصائرهم الحقيقة مقابل وعود كاذبة بالجنة.
ففي الداخل الاجتماعي, نغل تحول ما فيه, بطريقة لا تخطر في البال. ويفعل البؤس والقهر والأقدار فعلهم. لقد ولد من هذا القهر جرثومة التغيير, خرج من رحم القرون الوسطى, من ظلماته. هذه الجرثومة الحية القابعة في أعماق الواقع, نمت وترعرت وأصبحت واقعًا, دفعت المجتمع إلى البحث عن مخارج للأزمة العاصفة به. تحول المجتمع من حيث لا يدري, ولم يخطط له, بيد أن الحبل الحي في رحم الواقع, كان قد غرز جذوره في الأرض, فتحول إلى ورشة فنية, عملية, متكاملة موزع على جميع القطاعات الاجتماعية, مفكرين, كتاب فنانين, نحاتين موسيقيين, رسامين, أدباء مسرح ورواية وقصة, فلاسفة, علماء في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والبحث العلمي والسياسي, كل في موقعه للخروج إلى الحياة, وتنشيط دورة البقاء والتمرد على كل القيم الدينية والأخلاقية التي تعهدتها الكنيسة وعلى قراراتها. إنه تمرد على الكنيسة وقرارتها, تمرد على الانقسام الاجتماعي, على الطبقة العليا, النخبة المالية والكهنوت والسلطة.
كان روح الحرية, قد تغلغل في نفوس المثقفين للانتقال إلى عالم جديد دون تصور شكل هذا العالم الجديد, أدى في نهاية المطاف إلى نظام اجتماعي اقتصادي جديد, حرية مترافقة بامتلاك المال وتوظيفه في مشاريع اقتصادية بحماية الدولة, والتنافس بين مالكي رؤوس المال في زيادة القطاعات الانتاجية بقصد التفوق الاقتصادي الذي برز مع بدايات الراسمالية الصناعية, ونشاط التجارة والزراعة تحت وقع الاكتشافات العلمية التي وضعت في خدمة تطور القوى الجديدة المالكة للمال والآلات, ومطالبتهم بالاستقلال السياسي عن الاقطاع, ومساهمة البنوك القائمة على تنشيط الحركة المالية والاقراض بفؤائد ينقسم المجتمع بين فئات اجتماعية منقسمة ومتكاملة برعاية الدولة, الطبقة المالكة لوسائل الانتاج والبنوك والطبقة السياسية المتحالفة معهم وفتح الطريق لمسيرتهم.
لقد نشا مفهوم الحرية, المرتبط بالملكية الفردية, بالتوسع المالي لدرجة الشبق, والنهم الذي لا حدود له. وتطور رأس المال الصناعي وتمركزت رؤوس الأموال بيد القلة, وزادت الانتاجية. ودخول رأس المال التجاري على الخط, لعب دورًا مهمًا في تراكم رأس المال النقدي, عندما قام التجار بتشغيل الحرفيين لحسابهم وتمويل الانتاج الجديد.
هناك نقطة مهمة ساهم في التغييرات الجذرية وانتقال أرووبا إلى نمط إنتاج جديد هو كما ذكرنا أعلاه, الاصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر, فحسب تصور ماكس فيبر:
" ان النظام الرأسمالي الحديث الذي تطور خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا يعود في روحه الى الذهنية البروتستانتية التي انتجت قيما ومعايير عقلانية جديدة شجعت على العمل الحر والتنسك والادخار. وخلقت مناخا فكريا, ساعد بدوره على تطور النظام الاقتصادي الحر, وبالتالي على تطور ونمو الرأسمالية في أوروبا.
من الواضح أن ماكس فيبر يرى أن البلدان الأكثر تطورًا هي في الدول التي تسود فيها العقيدة البروتستانتية كهولندا وبلجيكا والسويد وانكلترا والولايات المتحدة واستراليا ونيوزلاندا. ويؤكد على أن العلاقة بين هذا المذهب والتطور الاقتصادي هي علاقة فريدة من نوعها, ويمكن ملاحظتها على المستوى الأرووبي, بينما البلدان التي تسود فيها الكاثوليكية هي أقل تطورًا من الناحية الاقتصادية والصناعية.
نما في ذهن الإنسان البرجوازي أثناء صعود طبقته, مفهوم التراكم بشكله البسيط, أي كما يقول ماركس, التراكم من أجل إرادة تراكم الثروة. أي التراكم من أجل توظيف المال لإنتاج مال مضاف إلى القديم, وتنميته ليتحول إلى رأس مال يوظف في تطوير المعمل وتوسيعه, يتحول مع الزمن إلى أكبر وأكبر. فالوفرة المالية التي يجنيها من خلال استغلال الطبيعة والإنسان يوظفها في مشاريع اقتصادية رابحة جدًا, أي تنظيم إنتاج فائض القيمة من خلل تدوير المال وتوسيعه.
لم تتدخل الدولة في ذلك, في ضبط التوظيف الاجتماعي للعمل, بله شجعته, وتركت التاريخ يأخذ مجراه, ولم تتدخل في آلية حركة البيع والشراء, الأجور والأسعار, وآلية السوق وحركته, تركته يسير نفسه بنفسه غير مبالية بالظروف القاهرة التي عاشها المهمشون والفقراء والكادحين, لكون هذه العملية تحل أزمة اقتصادية وتفتح مجالات على توسيع السوق, ودخول سلع جديدة إليه, وبداية الوفرة والرفاهية للنخب الاجتماعية المتحكمة بالدولة والمجتمع, على عكس السلطنة المرتبطة بايديولوجية دينية , ببناء فوقي ينظر إلى المجتمع ككتلة واحدة, حشد واحد, بيت واحد, له أب وراعي, وله الحق في التدخل في كل شؤون بيته, من الطعام إلى الملبس, إلى الحياة الخاصة, وفي شؤون اقتصاد الدولة والتجارة والصناعة, لكون متكئ على بنية, توجه الحياة من الأعلى وتتدخل في الإنتاج والتوزيع, وفي تحديد الأسعار والأجور, البيع والشراء, نوعية السلع, التدخل في التدفقات التجارية, نوعية السلعة التي تصدر, كل ذلك يدخل في بند بقاء الدولة حامية لشؤون المجتمع لضمان قوتها ووصايتها عليه.
رأس السلطة السياسية هو رأس المؤسسة العسكرية والدينية, أي بيده جميع السلطات. في بداية الاحتلال كانت الدولة تجني فائض القيمة من خلال الحروب والسلب, بيد أن هذا الأمر انتهى بنهاية قدرة السلطنة على فتح مزيد من الدول والبلدان, مع تضخم الجيش المعد للعسكرة والفتوحات. وعندما تتوقف الفتوحات يتحول التضخم في هذه المؤسسة إلى عملية معكوسة تمامًا, فبدلا من أن تأكل غيرها تبدأ في أكل نفسها. ولا يمكن تحجيم الجيش أو تخفيف عدده لهذا تلجأ الدول إلى المزيد من الضرائب على المجتمع وخاصة الفلاحين. وتتحول المؤسسة السلطانية إلى أشبه بحامي الكرسي وما يترتب على ذلك من فساد ومحسوبية. ويتحول الجيش الكبير كما أسلفنا إلى غول ياكل المؤسسة والدولة والمجتمع. ومع مرور الزمن يتحول إلى عصا, مجرد أداة لقمع الحركات الاجتماعية المتمردة على الشروط السياسية للدولة, السلطة, وحماية مصالح المؤسسة الحكمة والتدخل دائما لمصلحتها. هذا التدخل يحتاج إلى موازنة ضخمة جدا, لبقاء آلة القمع في طول الامبرطورية وعرضها.
إن حجمها الكبير يحتاج إلى السلاح والمعدات وقدرات لوجستية لتحركه. يجري نوع من التناغم بين وظائف الجيش والسلطة السياسية, كلاهما يتواطأن على نهب الدولة والمجتمع لصالح حماية المؤسسة, الصنم واستمرارها المكلف. وعمليًا بغياب الدولة الناظمة لعلاقة القوى بها أدى إلى نمو البيروقراطية, تضخم أفراده, أزدياد النفقات الكمالية المفرطة للبلاط. ولكون الدولة المتضخمة بجهازه العسكري والمدني فاقعا فان ذلك يشير إلى أزمة بنيوية, وبدلا من حلها, أو لعدم قدرة الدولة على حلها عبر وسائل سياسية واجتماعية فأنها تترك الأزمة تكبر وتتضخم أكثر فأكثر ويصبح الرأس مع الأيام صغير, ويزداد صغرا يوما بعد يوم, بينما الجسم يهرم ويشيخ. في هذه الحالة يتفسخ المجتمع والدولة معاً, ويتحولان بفعل عطالتهما إلى عبء على نفسيهما. وتزداد الرشوة والمحسوبية وزيادة الضرائب على المجتمع وخاصة الفلاحين, يضطرون إلى التمرد وتضطر الدولة للقمع وتتأكل الدولة والمجتمع وينفصلان عن بعضهما أكثر فأكثر, ويزداد الهروب إلى الأمام, وتبقى الدولة متسيدة بقوة الايديولوجية الدينية الكابحة أو اللاجمة لأي فكر خلاق أو وعي مدني. ويبقى الدين مسيطرًا على الوعي الاجتماعي من خلال تشجيع الدولة له, ولغياب وعي اجتماعي, فكر أو مفاهيم سياسية يمهد لولادة حامل اجتماعي يكون مشروع جنيني لبناء نظام اجتماعي جديد ينقل السلطنة إلى واقع جديد.
عندما تعيش الدولة على أمجادها القديمة ولا يطرأ أي تطور في بنيتها فأنها تتفسخ بالكامل. فالزمن يتغير ويتبدل, وتتبدل الشروط الاجتماعية في الداخل والخارج, ويفرض الواقع التزامات البحث عن مخارج. ولم تسمح السلطنة بولادة قوى اجتماعية تطرح مفاهيم اقتصادية واجتماعية لغيير الواقع. كان الجهاز في القمة متحجرًا, منه القرارات والأوامر وفي عملية ارغام كاملة للجميع للأمتثال لايقاع السلطة وقوانينها. بينما الخارج, أوروبا كانت في طور التفتح, الجنين بدأ ينمو في أحشاء المجتمع بوجود رعاية من قوى ناشئة لها مصلحة موضوعية في حمل مشروعها الاقتصادي والاجتماعي, وكان المذهب الجديد, البروتستانتية قد مهدت الأرض, جهزت القيم الجديدة والأفكار وأخلاق العمل والإدخار, وفتح الباب على مصراعيه لبناء منظومة جديدة على مختلف الصعد والاتجاهات.
الدين كثقافة, رافعة أو نكوص, مدخل إلى بناء منظومة فكرية متكاملة, يشكل قيم وأخلاق المجتمع, وسيكولوجيته, ويدخل في تكوينه النفسي والروحي, يوجه الناس نحو الأهداف التي وضعت من أجله. إنه معوم للنخب, لحامل اجتماعي سياسي, بني وفق إرادة قوى سياسية في فترة زمنية معينة, ونهل من تجربة وقيم تلك المرحلة, ودافع قوي لبناء هوية لقطاعات اجتماعية واسعة, ودافعا لبناء منظومة عقلية تكون رافعة للمجتمع أو مدمرًا له, وفقا للوقائع التي تفرضها الحياة والشروط التاريخية لكل مجتمع. وأي دين لا يتكيف مع الوقائع على الأرض, سيأخذ معتنقيه إلى الهاوية, يخلق لديهم عقدة الاضطهاد والدونية ويجعلهم ينفصلون عن المكان. فقبل أكتشاف علم الاجتماع كان فاعلا.
والتاريخ لم يلد بريئًا ابداً, كما لم يكن عادلا أو إنسانيًا. وإنه يتحرك وفق غايات وأهداف ومصالح. يتحرك في الأرض الرخوة, يفرض شروطه عندما يكون توازن القوى مختلًا لصالح الأقوى والأكثر قدرة على فرض الشروط.
كانت البروتسانتية فكرا ناهضًا, جاء استجابة لصراع قوى تحمل مشروع نما في باطن المجتمع, وحمل القيم الجديدة القائمة على معايير وأخلاق جديدة تحث وتشجع على "العمل الحر والتنسك والإدخار وتراكم الثروة". لهذا ربط هذه العلاقة الفريدة لا يمكن ادراكها بسهولة, التي تربط بين البروتستانتية والتطور الاقتصادي.
فالدين مفهوم متكامل, موجه نحو أهداف محددة, ضمن أطر مقيدة, مكون اجتماعي, قائم تاريخيًا وفق خصائص اجتماعية اقتصادية ينشطر أو ينقسم إلى مذاهب وطوائف وفق لتطور القوى المنتجة, وتطور الواقع الاجتماعي الاقتصادي, وبقدرة حوامله الاجتماعية على التعبير الدقيق عنه. إنه نتاج تفاعل اجتماعي اقتصادي, تكثيف لعلاقة المجتمع بنفسه, بالتحولات الذي يحدث في داخله. وعندما ينتج أخلاق أو وقيم يكون انعكاسا للواقع الاجتماعي, بالمكان والزمان المحددين وشروطه.
الدين بنية فكرية اجتماعية اقتصادية متكاملة, منتج اجتماعي يخرج من رحم الواقع, من قاع المجتمع, لقدرة هذا الواقع على تمثيل نفسه في هذا الفكر, الثقافة. وله علاقة بالمكان, بالفترة الزمنية وعلاقة القوى وقدرتها على انتاج ذلك والتعبير عن نفسها من خلاله, عملية أخذ وعطاء, تمثيل وإعادة إنتاج ذاته بأشكال مختلفة حسب تطور كل مجتمع أو تأخره. إنه منتج قيم وأخلاق ومعايير عقلانية أو دوغما, يخلق مناخا منفتحا أو انغلاق على العدم.
كل دين له مقاسه, تكوينه, بناه الاجتماعية, نهجه, وطرائق تفكير له علاقة بمنتجه, البيئة والواقع الاجتماعي وشكل الاقتصاد الذي كان يدار في عصره. وهناك علاقة بين التطور الاجتماعي الاقتصادي والبنية الفكرية لأي مجتمع. البنية التقليدية, وحوامله, لا يمكن أن ينتج مشروعًا الا على مقاسه.
عندما يدخل مفهوم الغزو في التكوين النفسي للإنسان, من الصعب تغييره مع مرور الزمن. إن هذا المفهوم سائد في عقل وفكر البشر, لدى شعوب كثيرة وقطاعات اجتماعية وكتل في هذا العالم.
يخرج المفهوم إلى العلن بعد أن يكون قد مر في مخاض طويل وعميق وصعب. بعد أن تكون الخميرة في قاع المجتمع قد تفاعل مع ذاته قبل أن ينبثق من حاضنته الذي فقس فيها. وعندما يستقر المفهوم ويعلن عن نفسه يتحول إلى محرك للتاريخ. دون بناء مفهومي للدولة والمجتمع لا يمكن لكلايهما أن يتطورا, ويؤثرا على بعضهما. فالفكر الذي ينبثق من الواقع يكبر به بعد أن يأخذ منه ويضيف عليه, يتحول إلى عمل, فاعل في تأسيس قيم جديدة وأفكار تؤسس للمستقبل. هناك علاقة عميقة بين الفكر والمكان الذي انتج منه, فيه علاقة تبادلية.
دخل الاقتصاد في العلاقات السياسية لأول مرة. هذا الاقتصاد الجديد المحمل بحمولة ثقافية واجتماعية وثقل سياسي مدمر, خلخل العلاقات السياسية على الصعيد المحلي والعالمي وبدأت مرحلة جنينية جديدة في التحولات التي ستشمل العالم كله. تحول الاقتصاد إلى رافعة, حامل لقوى اجتماعية جديدة ولتحولات ضمن العلاقات الاجتماعية الأوروبية في البيت والشارع وعالم السياسة, وبدا النهم لجني المزيد من المال من خلال تطوير الآلة لإنتاج سلع أكثر إنتاجة وأقل كلفة وأسرع, وتباع في السوق العالمية بسعر عالي ومنها السلطنة, كأكثر بوابة شرقية متماسكة سياسيا في وجه الغرب.
تعقلن التوحش أو تعقلن النهب, انتقل من النهب المباشر عبر القتل والذبح والحرب إلى النهب الغير مباشر. هذا النهب المبطن يحولك إلى تابع, ضعيف لا حول ولاقوة.
لقد فسحت الظروف للقوى الجديدة أن ترتقي مع الطاقات الجديدة, شجعته من أجل استثمار هذا التطور للحصول على الرفاهية والتمتع بالخيرات المادية التي تنتجها الآلة والتقنيات الجديدة, وتحرك الاقتصاد وانتعش السوق وزاد الطلب على اليد العاملة, وتدفق المال من الامريكتين وعن طريق التجارة وتوسعت هذه التجارة مع العالم كله. تحولت أوروبا إلى ورشة عمل, تنافس على الانتاج المعد للتصدير, بينما الشرق, السلطنة تغرق في دولة الاستبداد, انكماش الطاقات بله تعطيله والمراوحة في المكان, بله تراجع على كل المستويات. فدولة الاستبداد, لا تعطل الطاقات فقط, انما تحمل خرابها في داخلها لقصر نظرها, للجم حيوية المجتمع والناس. حالة دوران حول النفس, تنتظر أن يمسك زمام الأمور رجل قوي كما حدث في السلطنة بمجيء مراد الرابع, حيث انعشها بالقوة أيضًا بالقبضة الأمنية الشديدة القسوة, فأطال عمرها. قضى على كل تمرد داخل السلطنة وهزم أعدائها الخارجيين, وانتعش الاقتصاد القائم على تنفيذ ما يطلب منه, وفق تراتبية لا يمكن تجاوزها. فمعيار قوة دولة الاستبداد هي في الفرد, في قدرته على اخضاع خصومه أو منافسيه, على تنفيذ إراته وتوجهاته سواء الصائبة أو الخاطئة.
تحولت أرض السلطنة إلى مشروع استثماري, توظيف روؤس الأموال الأوروبية في مشاريع داخل السلطنة لتتحول العلاقة إلى تبعية, أحدهما يحتاج إلى الأخر, ولا يمكن أن يستمر دونه. ويدخل في ذلك السماسرة والقوادين والوكلاء والتجار ومختلف الطاقم الاستثماري الموظف في السوق.
السلطة كمفهوم, ولدت عاجزة, تستنجد بالقوة من خارجها لتحافظ على وجودها, وبالقوة تستمر عبر احتكاره لتهميش كل من يقف أمامها أو وراءها, وتعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة. فآلية القوة هي التي توحد المجتمع, والعلاقات, وتنتظم ضمن فعاليات وأنظمة, وبتطورها إلى دولة, قانون ودستور, تتقونن, ويتحول قانونها إلى قوة. فالقانون كتلة مصالح, مخبئ داخله, حسم النخب لمصالحهم وقراراتهم وقناعاتهم. أي هو تكثيف لقوة اقتصادية اجتماعية سياسية. حمولة حقيقية معبأ بكثافة. تحولت قوة الدولة, مؤسساتها, من الشكل المباشر إلى الشكل الغير مباشر. فالقانون هوعملية إخضاع المجتمع للمال والسلطة والنفوذ, خادم غير مرئي, مطيع وسلس ومحبوب من الجميع, ويقدسونه في سراءهم وضرائهم.
بانتصار القانون, تكون النخب قد حسمت قرارها وموقعها, وجلست في موقع الصدارة, المال والنفوذ والسلطة.
لقد كبل الدين المسيحي أوروبا في السابق, لجم حركة المجتمع, تمأسس وتحول إلى جزء من آلية الدولة, بمعنى دجن, بمعنى غير منتج لأي شكل جديد على صعيد الفكر والثقافة والفن والأدب. بهذه الحالة, غاب العمل الإبداعي, فردي وجماعي, ولم يستطع المجتمع معرفة عيونه أو محاولة رصد حركة المجتمع والدولة, بله تحول إلى مناطق محرمة, تحول الإنسان إلى كائن مستلب, ضعيف, يتحرك وفق ما يمليه عليه رجال الدين.
إن التوفيقية بين السياسة والدين عطل آلية كلاهما, حركتهما, لعبا في الزمن ذاته, بالرغم من أن الزمن متحرك. صحيح أنهما يخدمان بعضهما, بيد أن ذلك يدخلهما في الرتابة والبقاء في الماضي, ويعطل المجتمع من قراءة الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وينتج واقعا مريضًا مصابًا بعقد الضعف والانحلال وعدم القدرة على أخذ المبادرة.
وتحول الدين المسيحي خلال عشرات القرون, منذ تبني قسطنيطين الكبير في العام 312 م المسيحية كايديولوجية للدولة, فقد هذا الدين التبشيري ثوريته, بله تحول إلى أداة في يد الطغاة يلونوه حسب توجهاتهم ومراميهم وأمراضهم. وكما أسلفنا, بما أن الدولة ولدت عاجزة فأنها تحتاج إلى ايديولوجية من خارجها لتخدمها وتسوق مصالحها ومصالح نخبها, كلاهما يوحيان الالتصاق بالمجتمع, بيد أنهما منفصلان عنه بالكامل.
في امتزاج التجارة, بالاقتصاد, بالسياسة, ومحاولة الاستفادة من العنصر المسيحي واليهودي في ربط العلاقة العلاقات التجارية بين السلطنة والدول الأوروبية من خلال الانخراط في التجارة العالمية عبر فتح وكلات تجارية, امتيازات عبر هذه العناصر, اليهود والأرمن واليونانيون, كوسطاء ثم يتحولون إلى شركاء في التجارة الدولية, ثم إلى ركيزة على المستوى المحلي, لما يتمتعون من نشاط وحيوية وثقة الخارج بهم يمكن الاستناد عليهم في مد نفوذهم السياسي والاقتصادي:
"من جهة أخرى, فإن تحفظ الاتراك تجاه الانخراط على نحو مباشر في التجارة الدولية قد شجع إنشاء وكلات تجارية أجنبية في الثغور, ومن ثم دور الوسطاء الأرمن واليهود واليونانيين, وهو ما استتبع قيام علاقات أوثق بين الأقليات والاجانب, على حساب الاتراك. وكانت هذه العلاقات أكثر فعالية بقدر ما أن عددا من الوظائف, في الجمارك مثلاً, كان يشغلها يونانيين ويهود, وكان التجار الأجانب وربابنة السفن يتعاملون معهم". / 49/
"وهكذا فإن التواجد الغربي في الثغور الرئيسية للأمبرطورية على ساحل البحر المتوسط سوف يصبح, شيئًا فشيئًا, عنصرًا تمتزج فيه التجارة والسياسة بشكل وثيق. والحال إن المسألة لا تعود مجرد مسألة حماية لمصالح التجار الأجانب في وجه الإدارة العثمانية, بل تصبح مسالة خلق ركيزة بشرية موالية, على المستوى المحلي, يمكن ممارسة نفوذ سياسي بالاستناد إليها". /50/
مع هذا فإن القرن السابع عشر لم يرق الاصلاح إلى المستوى الرئيسي, أي السياسي, بقي في حدود عادية, بيد أن التطورات الهائلة في أوروبا دفع السلطان والنخبة السياسية للأخذ بتجربتهم, ومع إطلالة القرن الثامن عشر يقتنعون بضرورة الأخذ بالاصلاح في الجانب السياسي, دون تغيير بينة السلطة أو النظام السياسي. أي العمل على إنتاج النظام القائم وتحسين أداه, وأداء الجيش في جميع قطاعاته, نتيجة الهزائم الثقيلة التي مني بها في أكثر من جبهة. وهذا الاصلاح جاء من خارجه, بمعنى لم يدخل في جوهر البنية, لم يحاولون الولوج إلى عمق الأمور في الجانب الاقتصادي والسياسي, لهذا فإن هذا الاصلاح جاء صدى, لصدى النجاحات التي تحققت في الضفة الأخرى من العالم, أوروبا. وبتوقيع معاهدة كوتشوك ـ كاينارجا في العام 1774, تكون القشة التي قصمت ظهر البعير, التي تكرس مكانة الروس وانحسار دور السلطنة في اكثر من موقع في الامبرطورية, تبين انحدارها بشكل واضح, وتتحول إلى قطعة لحم مهروس يغري الجيران في التهامها.
فالاصلاح لم يكن رغبة السلطنة بقدر ما هي جاءت تحت تاثير التطورات السياسية, وإدارك الجميع أن الخطر المحدق بهم ليس قليلا, ومع هذا بقي التقليد هو القائم, مس الشكليات, ولم يدخل في العمق, يقول روبير مانتران:
والحال أن المبعوث العثماني إلى باريس, محمد أفندي, الذي ترك تقريرًا مثيرًا عن رحلته إلى فرنسا, قد آثار حماسه إلى اقصى حد مما شاهده في ذلك البلد, ولدى عودته إلى استانبول, يصبح داعية الثقافة والمدنية والتقنيات الفرنسية, إلى درجة أن الصدر الأعظم, الشديد التأثر بما سمع, يدفع أوساط البلاط والحكومة إلى تبني أسلوب حياة جديدًا, يرمز إليه تشييد القصور, / كقصر سعد آباد على القون الذهبي/, والياليات/ المقامة على ضفاف البسفور/, وإنشاء الحدائق كحدائق مياه أوروبا العذبة, في قلب القرن الذهبي, وتنظيم الأعياد والأفراح. ويضيف:
" ويتبنى السلطان أحمد الثالث عن طيب خاطر هذه الحالة الذهنية ويدعو إلى استانبول عددا من الفنانين الأجانب, وينظم الكثير من أشكال اللهو المكلفة. وبدعوة منه, ينخرط أفراد الأوساط الحاكمة في أسلوب الحياة السار والمكلف هذا, والذي يشهد أيًا كان الأمر, على تغيير عميق في الأذهان".
هذا التغيير الترفي, جاء نتيجة احتكاك الأوساط الحاكمة والتجار بالغرب عبر التجارة والتعاون معًا.
المصادر
1 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 238
2 ـ المصدر ذاته. ص: 239
3 ـ المصدر ذاته. ص: 242
4 ـ المصدر ذاته. ص: 150
5 ـ المصدر نفسه. ص: 184
6 ـ المصدر نفسه. ص: 124
7 ـ المصدر نفسه. ص: 149
8 ـ المصدر نفسه. ص: 243
9 ـ المصدر ذاته. ص: 242
10 ـ المصدر ذاته. ص: 245
11 ـ المصدر ذاته. ص: 245
12 ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية, الدكتور محمد فريد. ص: 733
13 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 254
14 ـ المصدر ذاته. ص: 150
15 ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية, الدكتور محمد فريد. ص: 731
16 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 251
17 ـ المصدر ذاته. ص: 253
18 ـ المصدر ذاته. ص: 262
19 ـ المصدر ذاته
20 ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية, الدكتور محمد فريد. ص: 252
21 ـ المصدر ذاته. ص: 252
22 ـ المصدر ذاته. ص: 525
23 ـ المصدر ذاتهز ص: 731
24 ـ المصدر ذاته. ص: 732
25 ـ المصدر ذاته. ص: 252
26 ـ تاريخ الدولة العثمانية . النشأة ـ الأزدهار. تأليف الدكتور سيد محمد السيد محمود. ص: 192
27 ـ المصدر ذاته. ص: 192
28 ـ المصدر ذاته. ص: 443
29 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي.
30 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 319
31 ـ المصدر ذاته. ص: 329
32 ـ المصدر ذاته. ص: 330
33 ـ المصدر ذاته. ص: 336, 337
34 ـ المصدر ذاته. ص: 328.
35 ـ تاريخ الدولة العثمانية . النشأة ـ الأزدهار. تأليف الدكتور سيد محمد السيد محمود. ص: 342
36 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 340
37 ـ المصدر ذاته. ص: 341
38 ـ تاريخ الدولة العثمانية . النشأة ـ الأزدهار. تأليف الدكتور سيد محمد السيد محمود. ص: 338
39 ـ المصدر ذاته. ص: 221
40 ـ المصدر ذاته. ص: 248
41 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 343
42 ـ المصدر ذاته. ص: 360
43 ـ المصدر ذاته. ص: 365
44 ـ تاريخ الدولة العثمانية . النشأة ـ الأزدهار. تأليف الدكتور سيد محمد السيد محمود. ص: 372
45 ـ المصدر ذاته. ص: 373
46 ـ المصدر ذاته. ص: 390
47 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 311
48 ـ تاريخ الدولة العثمانية . النشأة ـ الأزدهار. تأليف الدكتور سيد محمد السيد محمود. ص: 377
49 ـ تاريخ الدولة العثمانية ـ الجزء الأول, , إشراف: روبير مانتران ـ ترجمة بشير السباعي. ص: 386
50 ـ الصدر ذاته. ص: 387



#آرام_كرابيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - آرام كرابيت - السلطمة العثمانية والجنوح نحو الغرب