والقلب يعشق سراً. ( الجزء العاشر )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4909 - 2015 / 8 / 30 - 13:07
المحور: الادب والفن
    

في الصباح تصطحب دعاء أخاها الصغير رضا إلى مدرسته، ثم تكمل الطريق إلى مدرستها. أما محمود فقد اعتاد أن يستيقظ بصعوبة كل يوم بمعركة وأمه تكيل له الشتائم:
⦁-;- قوم يا موكوس، قوم يا منيل يا فاشل يابن أبوك، قوم روح المدرسة يمكن تنفعك بدل ما تشحت فى الشوارع.. قوم يا صايع يا ضايع الدلع مش حينفعك.
كانت تـُلـَمِّح لما تفعله معه جدته، وحين تسمعها قادمة قبل خروجهما للعمل بينما شوقي يغط في نوم عميق تصمت، فتبادرها الست نبوية قائلة:
⦁-;- ماله الدلع غايظك فى إيه، هو ده مش ابنك ! قارشة ملحته ليه ؟ كفاية عليكي المحروسة.
فترد ناهد عليها بتعقل:
⦁-;- يا حاجة الواد هايبوظ من عمايلك معاه.. طب عالأقل البت بتذاكر لنفسها ولأخوها الصغير وبترجع من المدرسة تشتغل فى البيت وطفحانة الكوتة، غير أي عيلة فى سنَّها، ده غير العُلــَق اللى بتاكلها كل يوم من المحروس ابنك والا المنيل محمود.

محمود رغم عقوقه وعناده وأنانيته، إلا أنه كان يرى كل عيوب أبيه و يكره تشبيهه به ، وكثيراً ما كان يؤنبه على بطالته.
ففي عصر أحد الأيام كان شوقي جالساً على الأرض يدخن ويشاهد التليفزيون بخمول، وكانت ناهد عائدة لتوها من العمل بأحد البيوت، حاملة ثمرة كرنب، فدخلت إلى المطبخ مسرعة حتى تعد طعام الغداء لأبنائها.. فصاح شوقي بصوته الغليظ:
⦁-;- هاتي فلوس أجيب بنزين للمكنة ( يقصد الموتوسيكل)
فردت ناهد من المطبخ:
⦁-;- مافيش معايا خلاص ولا قرش.
فردّ بغلظة أكثر:
⦁-;- ليه هو انتي مش لسة راجعة من الشغل !! إنتي بتلعبي قمار!! بتودي الفلوس فين؟
أجابته ناهد بغيظ مكتوم:
⦁-;- اشتريت كرنبة وفرخة علشان نطفح وكل الباقي خمسة جنيه علشان المواصلات الصبح.
شخر شخرة عالية وصاح :
⦁-;- المفروض تيجي وتديني كل اللى بتكسبيه، لأن المفروض تقعدي فى البيت تخدميني بدل ما تشتغلي خدامة عند الأغراب وتفضحينا وكمان ببلاش.
تدخل محمود وكان جالساً على مقربة من هذا الحديث:
⦁-;- طب ما تشتغل إنت، يعني الحق عليها اللى بتشتغل علشان تأكلنا .. وانت نايم طول النهار في البيت.. وكمان بتعايرها!! عملت لك إيه؟
همّ شوقي واقفاً واتجه نحو ابنه ممسكاً بعصاة كانت ملقاة على الأرض، لينهال على الولد الذي قفز هارباً إلى غرفة جدته.
خرجت الست نبوية حاسرة أكمامها عن ذراعيها القويتين ثم قالت بتحفز:
⦁-;- جرى إيه ؟ بتضربه ليه؟ عملك إيه العيل الغلبان ده عشان تضربه..!
ثم استدارت إلى ناهد، التي انهمكت في عملها بالمطبخ دون أن ترد أو تخرج لترى ما يحدث، حيث اعتادت هذا الشجار اليومي فقالت لها الست نبوية والصبي واقف خلفها محتمياً بها:
⦁-;- عاجبــِك كده؟ عاوزاه يموته.. تعا ياواد، دول مافيش فايدة فيهم ما تبقاش تدافع عنها تاني وعيب ما تردش على أبوك.
ثم سحبت الصبي من يده إلى غرفتها، تاركة المعركة التي تعرف نتائجها مسبقاً، فشوقي سينقض على ناهد ضرباً، ويسلب من حافظة نقودها ما يجده ثم يخرج .
علاقة الست نبوية مع ناهد لم تكن دوماً في سلام، لكن حين يحل الوئام بينهما كانتا تصبحان كأمّ وابنتها بحق.


إذا ذكرتُ دعاء قفزتْ صورة شيرين إلى ذهني .. شيرين .. ماذا فعلتِ بنفسك؟ وأي تهور أوديتِ حياتك في طريقه؟
في ذلك الصباح مرت شيرين على استوديو الدكتور مختار، فقال لها الساعي إن الوقت مبكر والدكتور لا يأتي قبل الساعة الواحدة .
عادت مرة أخرى ظهر نفس اليوم، وجدت باب الاستوديو موارباً، دخلت بعد أن طرقت الباب طرقات خفيفة فدعاها، ثم دخلت.
كان الاستوديو المخصص له مفروشاً بطريقة غريبة. ألوان الطلاء والرسومات المرعبة على الحوائط، الإضاءة غير مباشرة خافتة، أغلبها مثبت أسفل الحوائط وليس في الأعلى كالمعتاد، مندس في أحواض الزهور، نباتات ظلّ بسيقان زاحفة على الأرض، صوت كنهر متدفق لمغنّ فرنسي شهير.
تعرفت شيرين على صاحب الصوت الذي ينبعث من جهاز موسيقى حديث، يصدح بأغنية فرنسية شهيرة تعود لزمن السبعينيات، بجواره مجموعة كبيرة من الأسطوانات المدمجة موضوعة بدون نظام، شال حريمي نبيذي اللون يتدلى من أطرافه خيوط متساوية الطول، مُلقـَىَ فوق أباجورة بجوار مقعد وثير، فيظهر الضوء من خلفه وكأنه آت من عالم مسحور.. لوحات موضوعة على حوامل، وأخرى ملقاة بجوار الحائط، جو خاص جداً لا يشبه باقي غرف الأساتذة بالكلية، لكنه في الغالب قد تم تأثيثه طبقاً لذوقه الشخصي وعلى نفقته الخاصة أيضاً. قالت برقة وبصوت هامس:
⦁-;- مساء الخير دكتور مختار.
لم يبد على وجهـه أي تعبير يدل على أنه يتذكرها، لكنه ردّ ولأول مرة بابتسامة خفيفة:
⦁-;- مساء النور.
قالت بتردد:
⦁-;- حضرتك فاكرني؟ أنا شيرين، جيت آخذ الكتاب اللى حضرتك قلت لي عليه إمبارح فى حفلة التخرج.. ثم استطردت: بتاع موتسارت.
قال بهدوء :
⦁-;- طبعا فاكرك، مش انتي البنت القمر اللى فى شعرها وردة حمرا وكانت بتعزف إمبارح!!
شعرت بخجل واندفع الدم إلى وجهها وردت محاولة أن تخفي ارتباكها:
⦁-;- متشكرة، أيوة انا اللى كنت بعزف إمبارح. ثم همست متسائلة:
⦁-;- ميشيل ساردو اللى بيغني ده!!
استدار بالمقعد وهز رأسه بالإيجاب بعد أن تأملها لبرهة، وابتسم، ثم قال:
⦁-;- أيوة، برافو عليكي.
ثم أدار لها ظهره وبحث مرة أخرى في المكتبة خلفه، وهو جالس، ثم عندما لم يجده نهض واقفاً وظل يبحث في الرفوف العليا، وهو يدندن مع الأغنية التي تسارعت نغماتها. وشيرين تتأمله .. شعره الأشيب المجعد الطويل المتروك بإهمال، عضلات ظهره المفتولة، وجسده العريض القوي، ثم أدارتْ عينيها في الغرفة تتأمل الرسومات، ولما عادت بناظريها إليه وجدته واقفاً يتمعن فيها من أعلى لأسفل، مادّاً يده بالكتاب إليها قائلاً:
⦁-;- عاوز أعرف رأيك، وخليني أشوفك قريب.
فهمت أنه ينهي اللقاء وأن عليها أن تمضي..
هكذا سريعاً ؟
كانت تتمنى أن تبقى وتدير حواراً معه، فقد باتت تعشق طريقته في الكلام، تلك العربية المكسورة قليلاً بسبب العمر الذي قضاه في فرنسا، وتلك النظرات المبهمة التي كانت تستشف منها إعجابه الصامت بها، رغم التحفظ الشديد الذي كان يغلف كل سلوكياته تجاهها.
شكرته وخرجت وهي في حالة من الانبهار بعالمه ككل، وشعور بالارتباك، ربما من تلك النظرات الفاحصة الجريئة، خرجت من عرينه والخدر يسري في أطرافها، وقلبها يخفق بقوة.
اتصلت بي في ذاك اليوم، وطلبت أن نلتقي في المقهى، في موعد أظن أنها تعمدت ألا يكون نديم متواجداً فيه، وحين التقينا حكت لي عن المشاعر التي تحسها تجاه أستاذها، الذي ظننته أحد المعيدين بالقسم حيث تدرس، خمّنتُ أن يكون أكبر منها ببضع سنوات، لكني حين عرفتُ عمره الحقيقي وأنه يكبرها بثلاثين عاماً على الأقل، حدّجتها بنظرة مشككة، وضربت كفاً بكف واتهمتها بأنها جنّت وبأنه يضحك عليها ويستغلها.
لكنها ردت بانفعال وهي تضرب بيدها على أصابع البيانو، فقفزت من مكاني بفزع :
⦁-;- سولي.. بليز قدَّري شعوري أنا ماليش حد أحكي له إلا إنتِ، وده إحساسي وبمنتهى الصدق فما تحاوليش تغيريه.. وإلا مش هاحكي لك حاجة تاني.
انتبهت أنها قد تكون جادة وقد لا تحكي لي في المستقبل أي شيء خوفاً من المعارضة، فتبدأ في إخفاء أشياء.. قد أستطيع أن أحميها لو ظللت بجانبها أستمع لها.. لذا حاولت تهدئة الحوار وابتسمت قائلة:
⦁-;- آه يا مجنونة، طيب أوصفي لي شكله!
أشرق وجهها كالبدر بابتسامة عريضة، وذهبت عيونها الزرقاء الصافية إلى أفق بعيد، وردت بصوت حالم:
⦁-;- قمر يا سولي قمر، شعره مكسر وطويل، عنده شعر أبيض في الجنبين.. وله عيون عميقة ولونها عسلي وهو أسمر سمار جميل، طويل وأكتافه عريضة.. يعني يعرف يحضن كويس. هههههههههههههه.
وجلجلت بضحكة مرحة عالية.. همستُ لنفسي قائلة:
⦁-;- استر يارب، نديم لو عرف حيموته.

انتهى اللقاء. وفضلت ألا أذكر أي شيء لنديم، خاصة وأنها طلبت مني ذلك، لكني قررت أن أبقى قريبة منها، فما زالت في سن المراهقة، أكملت عامها الثامن عشر لتوها، متهورة جداً وقد تفعل أي شيء لتحقق ما تريد. ومما زاد من شعوري بالمسؤولية، خشيتي أيضاً أن يحاول هذا الرجل استغلال سلطته كأستاذ في الكلية بهذا الشكل الفج، ليلعب بعقل فتاة صغيرة من سن أبنائه.
شيرين .. تلك التي تــُعامَل كنجمة وسط أصدقائها وعائلتها، ولا تعير الشباب اللاهثين وراءها أدنى التفاتة.. تلك الفراشة المدللة الناعمة رائعة الجمال المرهفة الإحساس ... بدأ ينمو داخلها شعور لم تعهده من قبل، شعور جارف نحو الدكتور مختار، الرجل الذي يكبرها بثلاثين عاماً على الأقل !!
تحول هذا الرجل إلى فارس لأحلامها في النوم واليقظة، تفتعل المواقف والمصادفات لتتحدث إليه.. تختلق الحجج لتتواجد في طريقه، تفعل أي شيء كي يراها .. تذهب إليه لطرح أسئلة تعرف الإجابة عنها مسبقاً، فتدَّعي الجهل بها حتى تلتقي به وتنصت إليه، تتصل به بعد أن حصلت على رقم هاتفه ولا تتكلم .. فقط لسماع صوته .. إنها تتصرف كمراهِقة بريئة !!
بقي شيء واحد ظلّ ينغّص عليها عالمها الرومانسي الجميل، شيء لم تجرؤ أبداً على فعله.. وهو أن تصارح نديم أو تواجهه بما يدور داخلها من مشاعر تجاه الدكتور مختار، الشعور الذي بات مسيطراً عليها، ربما لعلمها أن نديم يخاف عليها بشكل مرَضيّ، فجعلها ذلك تتجنب الإطالة في الحديث معه لئلا يشعر بما يدور بداخلها، فهو يجيد قراءتها كما لو كانت كتاباً مفتوحاً أمامه.
رغم أنها لم تصارحه إلا أن نديم لاحظ بسهولة ما ظهر عليها مؤخراً من تغيرات، لكن لم يفاتحها في الموضوع، متوقعاً أن تأتي إليه وتتحدث كما اعتادت دائماً.. أصبحت قليلة الكلام كثيرة الشرود، وهي التي كانت تملأ الدنيا مرحاً وبهجة، ولا تكفّ عن الحركة وعن الحديث أثناء تناول الطعام، فماذا حصل لها حتى اضطر أبوها من قلقه ، أن يسألها في أحد الأيام:

⦁-;- مالِك حبيبتي !! إنتِ عيانة ؟
فردّت باقتضاب:
⦁-;- انا بخير يا بابي ، عندي إمتحان ودماغي مشغولة.
نظر إليها نديم وعلى وجهه ابتسامة خبيثة وردّ قائلاً:
⦁-;- سلامتـَك يا قمر، آل إمتحان آل، هو إحنا بيهمنا، ده احنا شطــَّار جدا.
ابتسمت شيرين وأجابت في محاولة لتشتيت الموضوع:
⦁-;- آه على فكرة كويس إني افتكرت أونكل عصام إتصل بيك إمبارح بس انا نسيت أقولك، بيقولك إتصل بيه ضروري عاوزك فى موضوع مهم.

أصبحت شيرين تفضّل الوحدة، وتخلو إلى نفسها ساعات في غرفتها تستمع للموسيقى، تنتقل بين فراشها والشرفة بقلق كالقط المحبوس، أو تخرج لتعزف بملل لدقائق على البيانو القابع في أحد الأركان ينتظرها، بعد أن كانت لا تدع يوماً يمر دون أن تجلس إليه طويلاً .. لم تعد تدعو أصدقاءها للمنزل أو تخرج للقائهم.
وكلما زاد صمتها كلما ازداد أبوها قلقاً عليها، وثقل شعوره بالذنب تجاهها لحرمانها من أمها حين كانت طفلة، وظل إحساسه هذا يلاحقه، فيطيل فترات مكوثه في المنزل، ظناً منه أنه يخفف عنها شعورها بالوحدة، وإذا رآها غاضبة أو حزينة، أمطرها بالهدايا والنقود والاهتمام، حتى اتهمه نديم بأنه سيفسدها بتدليله الزائد لها.
حاولت لفْت نظرها إلى أن نديم لاحظ تغيُّر أحوالها وشرودها المستمر، وصارحني أنه في منتهى القلق لدرجة أنه من شدة الهمّ لا يستطيع التركيز في عمله. لم أستطع في هذا اليوم أن أسيطر على انفعالاتي فقلت لها بغضب وقد نفذ صبري:
⦁-;- بلاش لعب عيال يا شيري، ده أد أبوكي ، انتي بس شايفة فيه الأب اللى انتي مفتقداه علشان أبوكي كان دايما مشغول، ما تلعبيش بالنار يا شيرين، وخللى بالك نديم لا يمكن حيوافقك على كده، وجايز يمنعك من الكلية خالص.
ردت شيرين بعصبية :
⦁-;- انتي ما تعرفيش مختار ولا نديم يعرفه، يبقى مافيش داعي تحكمي عليه.
رددت والدهشة تعلو وجهي:
⦁-;- مختار؟ مختار حاف كده؟ إنتى واخدة عليه للدرجة دي؟
قالت مستعطفة وبضعف لم أر عليه شيرين من قبل:
⦁-;- بحبه يا سولي.. بقولك بحبه ومش ناوية أبعد عنه حتى لو الدنيا إنقلبت.
تملكني الغيظ وقلت:
⦁-;- إنتي أكيد مجنونة.. فكري فى الموضوع بعد عشر سنين، لما يبقى عندك تسعة وعشرين سنة وهو فوق الستين.. حتعملي بيه إيه ساعتها يا شاطرة.. شيرين، فوقي.
زادت كلماتي من حزنها، وقالت وكأنها فقدت سيطرتها على إقناعي:
⦁-;- بقولك انتي ما تعرفيهوش وعلشان كده شايفاه مجرد راجل عجوز، لكن أنا شايفاه الراجل اللى بحلم أرتبط بيه.

قلت بغيظ:
لااااااااا واضح ان مافيش فايدة في الكلام معاكي.. نفسي أفهم إيه اللي في راجل زي ده ممكن يعجب بنت في سنك وفي حيويتك وشبابك!!، إنتي عاوزة تجري وتلعبي مع شاب صغير، مش واحد خلاص بينهي حياته.. ده بيستغلك وعاوز يمتص شبابك زي النبات الطفيلي المتسلق اللي بيعيش على حساب حياة نبات آخر.
قالت بعصبية وهي ترفض سماع كلماتي وتعبير ألم على وجهها:
⦁-;- ما تقوليش على مختار كده من فضلك يا سلوى، وبعدين هو مش حاسس بي أصلا.
وسقطت دموعها.. فلم أحتمل أن أراها تبكي فاحتضنتها بقوة وقلت بأسى ويأس:

في تجارب بتبقى معروف نتائجها مسبقا، وعلشان كده بحذرك لكن واضح اني إتأخرت، بس أرجوكي يا شيري خدي بالك من نفسك، إنتي الوردة بتاعتنا ونخاف عليكي.
أطرقت برأسها لأسفل وأومأت بالإيجاب، فمددت أصابعي إلى وجهها الطفولي الناعم الرقيق لأمسح دموعها وقبلت جبينها وانصرفت.

الحوار الذي دار بيني وبين شيرين لم يغير من الأمر شيئاً، بل على العكس زادها إصراراً وتمسكاً بحبيبها، واشتعلت رغبتها أكثر في الاقتراب منه واكتشاف المزيد عن عالمه الغريب.. وحرصتْ على أن تحضر كل المعارض الخاصة به وتضع نفسها في طريقه كي يراها ..
ليته لم يرها.

كان ذلك في معرض له.. وتأخر الوقت، ولم يتبقّ سواها وعدد قليل من الضيوف .. حين دخلت القاعة فجأة سيدة تبدو في أواخر الثلاثينات، شعرها أسود قصير مقصوص بطريقة عصرية، ترتدي بلوزة بيضاء حريرية على جيب شورت لونه بيج وتطل من ياقتها الصغيرة سلسلة رفيعة ذهبية، معلق بها قلب ذهبي صغير، فأضْفتْ على جيدها نورا رقيقاً، وتنتعل حذاء بني اللون، وفي كتفها تعلق حقيبة يد صغيرة ذات حزام رفيع، وقفت من بعيد مبتسمة له، فذهب إليها بحماس في خطوات سريعة، وبوجه متهلل بالفرح، وصل إليها فالتقط يدها ورفعها إلى شفتيه بأناقة كي يقبلها، فتركتها له بنعومة وهي تنظر داخل عينيه بدلال..
تسمرت قدما شيرين في الأرض وهي ترقب المشهد عن بعد، لا تجرؤ على الاقتراب، والفضول يلتهمها.
منْ تكون هذه السيدة التي جعلته يتحمس فجأة، وهو الذي لا يهتم بأي شيء ؟!
خرج جميع زوار المعرض، فانزوى مع السيدة الغريبة في شرفة القاعة يتهامسان. فما كان من شيرين، إلا أن خرجت حزينة القلب وجلست في السيارة، طالبةً من السائق ألا يتحرك، وظلت عيناها معلقتين على الضوء الصادر من القاعة، حتى بدأ يخفت تدريجياً في أنحائها، ثم نزل الدكتور مختار تتأبط ذراعه السيدة الأنيقة، ويضحكان بصوت مسموع.
سقطت دموع حارقة لم تستطع شيرين السيطرة عليها.. وأمرت السائق أن يتحرك إلى المنزل.
بقيت في غرفتها أياماً لا تفعل شيئاً ، تنام تتسمر أمام التليفزيون بعقل شارد، ثم تعود للنوم مرة أخرى، تزدحم في عقلها التساؤلات التي لا ترغب في إيجاد إجابات عليها.
أتلك السيدة الأنيقة حبّه ؟! ملهمته؟! وإن لم تكن كذلك فلماذا إذن تعامل معها بكل لهفة واهتمام؟
هل تسأله ؟ ولكن .. بأي حق!! إنه يكاد لا يراها، ولا يعرف كم هي منشغلة به.. بل ربما هو غير مهتم بالمرة.. لابد من أن تفعل أي شيء لتلفت انتباهه.. كيف ؟؟ وفي حياته تلك الغادة الرائعة !
لا زميلة تسرّ لها بما في قلبها، ولا أنا أتعاطف مع عشقها الغريب أو أتفهّم حزنها، يقتلها الألم والغيرة والوحدة .. يا للتعاسة !
انتاب نديم قلق قاتل عليها، وحاول رغم عصبيته من الوضع التقرب إليها ومحاورتها، لكنها رجته أن يتركها وشأنها، وأصرّت أنها تحتاج للانفراد بنفسها.

وغلبها حزن شديد .. وبكاء مرّ.

توقفت شيرين عن الذهاب إلى الكلية، وأخبرت زملاءها أنها مريضة وتحتاج إلى الراحة. مر على غيابها ما يقرب من عشرة أيام. وفي صباح اليوم الحادي عشر رنّ جرس التليفون في المنزل :
⦁-;- شيري .. تليفون علشانك.
فردت شيرين على الست نبوية بعصبية:
⦁-;- مش عاوزة أكلم حد أنا مش قلت لك ما تجيبيليش التليفون.
فقالت الست نبوية:
⦁-;- ده واحد بيقول إنه بيدرس لك فى الكلية واسمه الدكتور مختار.
قفزت شيرين وفتحت الباب واختطفت التليفون من يد الست نبوية ثم أغلقت الباب مرة أخرى، وبصوت مرتعش أجابت على التليفون:
⦁-;- ألو؟ أيوة أنا شيرين.
فجاءها صوته من الجانب الآخر:
⦁-;- صباح الخير، سلامتك شيرين، أتمنى أن تكوني اتحسنتي.. ممكن أرسل لك المحاضرات للبيت مطبوعة وممكن كمان أبعت لك الامتحان، أصله بطريقة الكتاب المفتوح. مش عاوزك ترهقينفسك وما تجيش إلا لمَّا تتحسني
ظلت تنصت إليه وكأنها تستمع إلى أنغام عذبة، وقلبها ينبض بقوة، رغم اللهجة التي يغلب عليها الرسمية، وهي غير مصدقة أنه سأل عنها شخصياً . لاحظ غيابها إذن؟ واهتم أن يحصل على رقم تليفونها، للاستفسار عنها..
ردت وقد ازداد صوتها ارتعاشاً:
⦁-;- متشكرة دكتور مختار، أنا راجعة الكلية بكرة. متشكرة ، متشكرة أوي .. متشكرة.
وضعت سماعة التليفون. نسيت كل آلامها وتحولت كلها في لحظة إلى شيء تافه، صرخت وقفزت فوق الفراش الذي لم تترك يداً تمتدّ لترتيبه أو تغيير أغطيته على مدى عشرة أيام .. ثم خرجت من الغرفة متجهة إلى البيانو، وعزفت لحناً مرحاً مبهجاً، وحين التفتت وجدت أمامها الست نبوية تنظر إليها باندهاش، فاحتضنتها وقبلتها وتركتها مبهوتة تهمس لنفسها:
⦁-;- سبحان مغير الأحوال، طيب يا بنتي .. ربنا يهدي العاصي.

يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات