أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - المنظورية والحواس في فهم















المزيد.....

المنظورية والحواس في فهم


صلاح نيازي

الحوار المتمدن-العدد: 4898 - 2015 / 8 / 16 - 19:41
المحور: الادب والفن
    


لاح نيازي
المنظورية والحواس في فهم
"خبز وخمر" لهولدرلين

ربما تتوضح أهمية المنظورية في الاقتراب من المعنى، لو تناولنا بعض النصوص المهمة التي ما يزال النقاد والمترجمون يختلفون على شرحها. من هذه النصوص، قصيدة: "خبز وخمر" للشاعر الألماني هولدرلين.
قام المرحوم عبد الرحمن بدوي بترجمة هذه القصيدة، ونشرها مع مقدمة في كتاب: "في الشعر الأوروبي المعاصر".
تعتبر هذه القصيدة من عيون الشعر الأوروبي. تُرْجمِتْ إلى اللغة الإنكليزية ثلاث مرّات في الأقل. ربّما أهمّها ترجمة أو ترجمات Michael Hamburger، لأنّه ترجمها ثلاث مرات: مرّتيْن شعراً ومرّة نثراً. ولكن حتى ترجمات هامبيرغر تختلف فيما بينها. لماذا ثلاث مرّات؟ ولماذا اختلفت عن بعضها؟
قصيدة: "خبز وخمر" معقّدة الرموز والإحالات والدلالات، ومن الطبيعي أنْ لا تُفْهم بكل أبعادها. ولكن مما يقرّبنا إلى مغازي هذا النص، وكلّ نصّ شبيه له، هو التعرّف على كيفية توظيف الكاتب للحواس، وما زاوية النظر أو المنظورية التي يمسرح بها القصيدة.
ولأنّ هولدرلين شاعر خاص، فلا بدّ للمترجم أنْ يُلِمّ: برموزه وما يعنيه بالموجودات من بشر وحيوان ونبات وما دلالات عناصر الطبيعة؟ فالعنوان: "خبز وخمر" مثلاً: " يُؤكّد تكافل أو تعايشSYMBIOSIS القوى الإغريقية والمسيحية وقد رمز لها هولدرلين ب "الخبز والخمر" كما يقول هامبيرغر.
عبد الرحمن بدوي ينتمي إلى ذلك الجيل من المترجمين السابقين الذين كانوا يُعنون بنقل المعنى، دون الالتفات إلى التقنية التي توسّلها الشاعر لتصوير المعنى. أكثر من ذلك قد يغمض المعنى أصلاً ويستغلق إذا أهملنا التقنية.
من البراعات التي تتمتّع بها قصيدة "خبز وخمر" قدرة الشاعر على توقيت الانتقال من حاسّة إلى حاسّة، وبهذه الوسيلة تتغيّر تبعاً لذلك، المشاهد الممسرحة للقصيدة.
قبل كلّ شئ، لفهم هذه القصيدة، لا بدّ من تعيين موقع الراوية من ميدان الحدث. أيْ أين كان يقف؟ وما زاوية نظره؟
مسرح القصيدة في المشهد الأوّل، ميدان سوقٍ صغيرة لبيع الأعناب والأزهار والمصنوعات اليدوية. ( أيْ لا وجود للمعامل، أو المدنية الصناعية). "العنب مقدّس لدى ديونيسوس، وهو يتكرر مرّات ومرات كأعمق رمز للحياة". إلاّ أنّ بدوي حذف البضائع المصنوعة باليد رغم دلالتها الريفية المهمة، وترجم الأعناب: "الثمر". كما ترجم And: "أو" بدلاً من: "و". واو العطف ضرورية هنا لأنها تُصوِّر السلع المعروضة جنباً إلى جنب.
تجري أحداث القصيدة في بداية انحسار النور عن السوق وبالتالي المدينة، حقيقة و مجازاً. حيث يعود الناس إلى منازلهم. (العودة إلى المنْزل بالنسبة إلى هولدرلين، تعني بداية فترة جديدة، وإلى بداية الأشياء لدى كلّ فرد.) عندها تتعتّم حاسّة البصر موقتاً. ولأنّ المدينة تركن إلى الهدوء بعد كدّ يوم، فإنّ الراوية يشرع في سماع أصوات بعيدة. بكلمات أخرى تصبح حاسة السمع مجسّ الاستشعار، وعن طريقها يرى ما لا يراه. بالإضافة إلى ذلك، يربط هولدرلين بواسطة حاسّة السمع، الماضي بالحاضر، و النهار بالليل وكلاهما رمزان أساسيان.
هكذا عمّ الليل، فكيف ينتقل هولدرلين، من حاسة السمع إلى حاسة البصر ثانية؟
ثمة معبد على جبل. " تُقرع نواقيسه برفق في الهواء الواهن الإضاءة". بالانتباه إلى مصدر الصوت تكون العين قد انتقلتْ إلى أعلى، فنابت عن السمع، فما الذي تراه؟
بهذه الإضاءة الواهنة، رأى الراوية أعراف الغابة، رأى القمر والسماء الممتلئة بالنجوم، رأى الليل على قمم الجبال يومض بحزن وروعة. بهذه الوسيلة بات الشاعر قاب قوسيْن أو أدنى من السماء وآلهتها. ولكن لماذا يومض الليل بحزن؟
كتب هولدرلين إلى صديقه هينْزه :"جئنا إلى هذا العالم متأخرين جدّاً، وأمجاد الإغريق انحسرت. الآلهة القديمة ما تزال تعيش، إلاّ أنّها تعيش فوقنا بعيداً، غير آبهة إن عشنا أمْ متنا. حياتنا ليست أكثر من الحلم بها."
لكنْ أين كان يقف راوية القصيدة؟
أوّلاً الراوية كما توحي به القصيدة ثابت في مكانه، وإنما كان يتنقل بحاستي السمع والبصر.
ربّما نستطيع أن نستدل على موقع الراوية، من الصور الاستشرافية الشاملة التي كان يصوَّر بها السوق والباعة. ولا يتسنى له ذلك ما لم يكنْ في مكان أعلى منها، بحيث يراها كلّها دفعة واحدة. ثُمّ إنه كان يرى العربات وهي تذهب إلى بيوتها في شتى الأزقة ويتابعها حتى تخفت أصواتها. فهل كان في شرفة، حقيقة؟ أم مجازاً، يتوسط الناس على الأرض والآلهة في السماء؟ هل هذا هو الدور الأزلي للشاعر؟
من الطريف أن ينشر الأستاذ حسن حلمي، في العدد الأخير من مجلة "بيت الشعر" (رقم7 خريف 2003)، ترجمة كاملة لهذه القصيدة الباذخة التعقيد والثراء. إذنْ بين أيدينا الآن،ربّما، أفضل ترجمة لها. كم كان من المفيد لو اطلع المترجم على العدد الثامن من مجلة الاغتراب الأدبي، وفيها مقارنة بين ترجمة بدوي والترجمات الإنكليزية لهذه القصيدة، بقلم كاتب هذه السطور.
ماذا لو التفت الأستاذ حلمي إلى التقنيتين الأساسيتين: الحواس والمنظورية. أو أنه ربّما شعر بهما ولكنهما لم يصبحا لديه مسباراً. إذنْ لنقارنْ هذه الترجمة، و هي المفروض أنها تُرْجِمتْ عن الألمانية، مع الترجمات الإنكليزبة المتوفرة بين يديّ.
جاءت ترجمة البيتين الأولين بالصيغة التالية:
"ضواحي المدينة ساكنة. الزقاق المنير يهدأ
والعربات،مزيّنة بالقناديل، تُسرع rustle.."
في الترجمة الإنكليزية: "كل ما حول المدينة يستكنّ"، وكأن راوية القصيدة كان يستعرض أطراف المدينة فرآها وهي في اتّون عملية الاستكنان. أما "تسرع" في الشطر الثاني فلا تتناسب مع ما في القصيدة من التأمّل الذي يرافقه البطء عادةً. الأفضل حسب الترجمة الإنكليزية :"العربات المزينة بالمشاعل تقعقع مبتعدة".
يقول المترجم في أبيات أخرى:
"السوق المكتظّة يسودها السكون،
إنها الآن خالية من الزهور، خالية من الأعناب، خالية مما صنعته الأيدي.
لكنّ أنغام الأوتار تتعالى في الحدائق البعيدة:
لعلّ العشاق هناك يمرحون"
أمّا ترجمة الأبيات في النسخ الإنكليزية، فهي:
"سكنت السوق الناشطة
وخلت من أعنابها وأزهارها ومصنوعاتها اليدوية
إلاّ أنّ موسيقى وتريّة تطفو برفق من الحدائق من بعد
قد يكون ثمة عاشق يعزف هناك"
في ترجمة الأستاذ حلمي لا دليل على انفضاض الناس من السوق. فالسوق ما تزال مكتظة ولكن لأمرٍ ما سادها السكون. أيْ أنّ ثقل البيت انتقل من الانفضاض، وهو الأصل، إلى السكون وهو شئ عارض. في الترجمة الإنكليزية قد يكون الفعل: "سكنتْ" يوحي بحالة جديدة، وهي حالة الاستكنان بعد النشاط. من ناحية أخرى، فإنّ صيغة ترجمة حلمي: "خالية، خالية، خالية"، توحي بالتأزم، بينما تنحو الترجمة الإنكليزية إلى جعل التعبير مجرد سرد محايد. أكثر من ذلك فإن كلمة: "تتعالى" صاخبة، والقصيدة استبطانية هامسة. فإذا أضيفت لها عبارة: "لعلّ العشاق هناك يمرحون" تبدو وكأنّ الشاعر يصوِّر مهرجاناً، وهذا عكس المقصود. هناك عاشق واحد وليس عشاقاً وهو يعزف ولا يمرح.
يقول المترجم في أشطر أخرى:
"والأجراس ترنّ ناعمة في أجواء الغسق، والمؤقّت، حريصاً
على الوقت يؤذن بالساعة.
تتعالى الآن نسمة وتلمس أعالي الأيكة."
أمّا الترجمة الإنكليزية فجاءت بالصيغة التالية:
"قرع النواقيس يدقّ برفق في الهواء الواهن الإضاءة
الخفير منتبه لمرور الزمن معلناً الوقت
والآن تهبّ نسمة وتنفش أعراف الغابة"
يحاول هولدرلين في الشطر الأوّل، أن ينتقل بعين القارئ من أسفل إلى أعلى، أوّلاً عن طريق حاسة السمع (قرع النواقيس) وبكلمة: "رفق" جعل القرع بعيداً، وثانياً عن طريق حاسة البصر "في الهواء الواهن الإضاءة".
يهيّئ الشاعر هنا بمهارة، إلى الإحساس بالآلهة، وقد مضى شطر طويل من الليل. يقول هامبيرغر: "أمّا عن فكرته عن "الشعاع الذابل" ووميض الآلهة غير المتحمّل، فتمتد جذوره في التراث الديني والرؤيوي والشعري. ففي "الفردوس المفقود" لملتون، صور مشابهة لتلك، وكذلك في شعر وليم بليك".
قرع النواقيس، يمثّل حاسة السمع. وببعد الصوت وخفوته، إنما يهيئ هولدرلين بحذقٍ شديدٍ، لخروج حاسة السمع من المشهد، ودخول حاسة البصر.
وهل هناك أفضل من هبوب النسمة ونفش أعراف الغابة من لفت انتباه العين؟ بالإضافة إلى ذلك فإنّ الهبوب يدلّ على انتقال من مشهد إلى مشهد، أيْ حركة، بعكس كلمة: "يلمس" الخالية من إمكانية رؤيتها، لأنها لا تلفت النظر لأنّها حركة خفيةّ. ينتهي الجزء الأوّل من ترجمة حلمي، بالبيتين التاليين:
"تشرق الليلة الباهرة، تشرقُ غريبة بين البشر،
تطلّ ببهائها حزينةً من أعالي الجبال".
إلاّ أنّ الترجمة الإنكليزية تختلف اختلافات أساسية. منها:
"الليل المدهش هناك، ذلك الغريب عن كلّ شئ إنساني
فوق قمم الجبل يومض بحزن وبهاء"
الليل وليس الليلة، لأن الليل في مفهوم هولدرلين هو: "زمان أو مكان التأمل"، ولا فرق هنا بين المكان والزمان. وهو(أي الليل)، والنهار: "جانبان رمزيّان لثيمة واحدة هي:الآلهة ووجودها بين البشر". إنّ ليل هولدرلين، كما قال أحد النقّاد: "له صلة بالفوضى بالمعنى الأسطوري، أيْ طوفان أشياء يسبق ظهور الأشكال والنماذج، وذو صلة بالمادة مقابل الروح، وذو صلة بالطبيعة حينما تُصوَّر على أنها الأرومة الحبلى للحياة… كما أنّ هولدرلين يرمز بالليل في التاريخ الإنساني إلى غياب الآلهة". ولماذا تكررتْ كلمة: "تشرق" مرّتين؟ ما الغاية من ذلك؟
"أعالي الجبال"، كما ترجمها حلمي، لا تفي بالغرض، كما تفي "قمم الجبل"، لأنّ القمم تعني التقاء العواصم الثقافية القديمة، لدى هولدرلين، بغضّ النظر عن جغرافيتها.



#صلاح_نيازي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تقنيات الترجمة
- عصفور من الشرق
- اللون الابيض يفترس مكبث
- قراءة في نص شيكسبيري
- عن ترجمة القرآن
- العين البريئة لهربرت ريد
- دور المنظورية في تضخيم الرعب
- ثلاث قصائد
- قلعتا المتنبي وشيكسبير
- اكبادنا تمشي على الارض
- من أفانين شيكسبير
- الوجه الثالث للعملة
- لا نهاية الكائن الحيّ
- الشعر وصغار العقارب
- مأساة الملك لير جنونه الذي لم يكتمل
- بعض وجوه استحالة الترجمة
- ثلاثة تحوّلات أدبية بعد عام 2003
- قصيدة الدائرة
- كلمات ثلجية
- المنظورية في تفسير النص


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح نيازي - المنظورية والحواس في فهم