أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - امرأة القمر / قصة قصيرة















المزيد.....

امرأة القمر / قصة قصيرة


عبدالكريم الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 4891 - 2015 / 8 / 9 - 17:39
المحور: الادب والفن
    


امرأة القمر

لا أدري متى، وكيف أتيت إلى هذا الإسطبل؟ لكنّي أذكر جيداً أنّي كنت مختلفاً تماماً عمّا عليه الآن، من أكون؟ ولِمَ لا أذكر شيئاً عن حياتي الماضية؟. أسئلة محيّرة، لم تفارقه مذ أتى هنا، يحدّق في صفحة السماء كلّ ليلة، يبثّ شكواه لعلّه يجد طريقاً للجواب، لا يملك شيئاً سوى القلق والحيرة،
" من يهزّ ذاكرتي اللعينة فأمنحه ما تبقّى من عمري؟"
لا جواب سوى صدى الخواء، وسموم تجلد ملامحه الشائخة. لا يعرف شيئاً غير النهر، وشجرة الصفصاف التي توسّد ظلّها, وأحصنة تعرفهُ جيداً أكثر من أي شخص آخر، لا يعرف سوى أنّه سائس في إسطبل يقع في طرف أحد القرى النائية، يعشق النهر حدّ الجنون، يسهر وضفّته طول الليل، يتّخذ من نسيمه العليل أرجوحة، يحلّق بعيداً حيث النجوم والأقمار، ثم يهبط على مشارف الخواء، باسطاً كفّه لعزلته، وحيداً يلملم جراحه، يفزعه صمت الأشياء من حوله. لا أدري، كلّما استنشقت رائحة النهر أحسّني أطير في الفراغ، رائحة تمسّ أثر جرح أكاد أبصره، لكن سرعان ما يختفي في حلكة الليل، سأحتفظ بتلك الرائحة، علّها ترشدني إليّ. ما من أحد يعرف وحشة الوحدة مثلي، كانت جحيماً، حتى إن كثيراً من الناس الذين يأتون هنا لم أعد أراهم ثانية، يؤرقني أنّي لا أتذكّر ملامحهم، كلّما أحاول أن أستعيد صورهم، تبدو مشوّشة. ما أتمناه العثور على شخص يشاركني وحدتي، يهتمّ بي مثلما أهتمّ بهذه الأحصنة، أو أكون حصاناً بلا ذاكرة، لا أريد أن أكون سائساً بعد اليوم. منذ أكثر من عشرين سنة، أو ثلاثين، لا أدري، وأنا أنتظر قادماً من المجهول يطفئ حيرتي ويجفّف دمعي، يزيل الحجب عن رؤياي. حتى النهر الذي عشقته، كلّما أحدّق فيه أرى ظلّ رجل يشبهني، أطرح عليه السؤال نفسه، لا النهر ولا هو يردّان جوابي، لم يعرفا غير الصمت مذ فارقت اسمي. ذات ليلة قمراء، كنت أنقّب في وجه القمر، تراءت لي امرأة يُخيّل إليّ أنّي أعرفها، كان جوارها طفل يلثم نهدها، يا ترى من تكون؟. الأيام تمرّ سريعة، تنسج يأسي، أكاد لا أرى في هذه الحياة غير موتي، ربما هذه الكائنات التي تمرّ أمام ناظري كلّها أموات، من يدري؟ لعلّ هذا العالم مقبرة كبيرة، ليس فيها لآمالنا محلّ. بدأت تراودني فكرة الخلاص، حتى نضجت في البال، لولا ذلك الحلم الذي أخر موتي، حلم يكاد يتكرّر كلّ ليلة، قمر نصفه امرأة، ونصفه الآخر طفل، امرأة حزينة، تحدّق بي، عيناها يحملان عتباً، يضمران تساؤلاً. لم أترك أحداً إلّا وطلبت منه تأويل حلمي، الجواب يأتيني متشابهاً " أضغاث أحلام ". لم يدم الأمر طويلاً، ذات ليلة شتائية، تناهى لسمعي طرقات على باب الغرفة، ربما كانت جلبة أحدثتها الريح، يتكرّر الصوت، يبدو أن شخصاً ما خلف الباب، يا ترى من يكون؟.
- من الطارق؟.
- عابرة سبيل.
وكم كانت المفاجأة حين رأيت ذات المرأة التي تسكن القمر، التقت عيناي بعينيها، حدقّت فيها ملياً، نعم هي بلا شك، ذات الوجه الشحوب الحزين، كنت ألمح في عينيها بارقاً يعتصر قلبي:
- مَن؟ امرأة القمر!
لم تنبس ببنت شفة:
- أين الطفل؟
علتْ شفتيها ابتسامة شفيفة، استدارت إلى الوراء:
- أيّ طفل تتحدث عنه؟
- ومنْ تكوني...؟
- أنا عابرة سبيل. ثم ألقت مكامن سرّها:
- هناك من يروم قتلي، هل لك أن تأويني وتحفظ سرّي؟ وبلا تردد أجاب:
- نعم سآويك...
امرأة يشكّلها الحنان، عامرة بالأسى، قطنت أرضي اليباب، أحسّها شعاع ضوء يمتدّ من عينيها حتى شغاف قلبي، ضوء ينير عوالمي المظلمة، وكأنّي وجدت الطريق إلى التذكّر، نافذة أطلّ منها على تلك الأيام، لعلي أفتح باباً أوصده الزمان، هكذا كنت أظنّ، لكنّ الأمر بدأ يقلقني، حيث أرنو ببصري إليها من خلف النافذة، أراها تسند ظهرها إلى شجرة الصفصاف، شاردة العقلّ، وكلّما أسألها عن سرّها الدفين، تتنهد بلوعة، تجهش بالبكاء. كان دائماً يصغي لصمتها، مردّداً،
" يكفيني صمتك، وهذه الدموع، يا امرأة القمر ".
كانت تطعنه بسؤال لم يستطع أن يجيب عنه:
- أنا نور، لِمَ لا تحفظ اسمي، يا عاشق القمر؟
ذات يوم كنت وإيّاها في الإسطبل، الحيرة تكاد تفتك برأسي، أدور في متاهة لغز، أليس لها علاقة بسنيني الماضية؟، أنا مدرك تماماً أنّها ليست عابرة سبيل، أترجّل من صهوة الأحجيات، ألملم أوصال ذاكرتي المعمّدة بالنسيان، أرى في الروح مخاضاً يتسلّق أفق ذاكرتي، حينها كنت مسنداً ظهري إلى سياج الإسطبل، حمحمة الحصان الأدهم تقطع خيط الوصل، يحدّق بي، لم يطأطئ رأسه هذه المرة، لا أعرف السرّ لمَ أكره هذا الحصان دون بقية الأحصنة، فكرة رعناء حلّت في رأسه، سلّط سوطه عليه، حتى تعالى صهيله، الحصان يدور في مكان ضيق، يلوذ بزاوية الإسطبل، الضربات تنهال عليه من كلّ جانب، يرفسه بعنف، يسقط أرضاً مضرجاً بجنونه، المرأة هرعت إليه صارخة، أرادت أن تقول له شيئاً، أطبقت فمها، حين رأته فاقداً الوعي، شاخصاً بالغياب. عيناها ترنوان إلى المشفى، يسبقها اللهاث، تتعثر بتفاصيل الاحتمالات:
- ربما لا يبصر ثانية. قال الطبيب.
لحظة قلق، المكان محفوف بالصمت، انتظار لعين، طويل، المرأة تغرق في لجة المجهول، يتسوّرها رعب العتمة والنسيان، الجميع يترقّب اللحظة، يفتح عينيه ببطء شديد، لم يبصر سوى ضباب كثيف، عيناه تتسعان، صور مشوشة بدأت تتسلّق مشهداً يرتسم خلف الضباب، أغمضَ عينيه، فتحهما على اتساعهما، صفّ من أشخاص بلا ملامح، ارتدّ الطرف حائراً، إحساس موغل بالقلق متّشح بالخوف، نقّل طرفه بين الحاضرين، يتوقّف على صورة في طرف الصف الأيسر، تنبثق من خلف العتمة، مؤطّرة بالضباب، الصورة تتفتّح كما زهرة عباد الشمس، حيث مال النظر تميل، تتضح الرؤية، يبتسم:
- نور، امرأة القمر!. ألقت بنفسها فوق صدره، يضمّها بين ذراعيه، يقبّل جبينها:
- من أنا أيّها المجنون؟
- نور.
- هل تراني؟
- نعم، وبكلّ وضوح، لا تخشي شيئاً حتى لو لم أرك سيقودني أنفي إليك. سؤال قديم مازال يصهل بالحسرة:
- أين الطفل؟
- أ وَ تذكره؟
- نعم مثلما أراك الآن.
- لقد مات؟
- وأين أجد قبره؟
- هناك، تحت شجرة الصفصاف.



#عبدالكريم_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعبر
- لإيروس قصيدة مغنَّاة: قراءة مفاهيمية ورؤية في التجسيد الراسم ...
- الإيروس قصيدة مغنَّاة: قراءة مفاهيمية ورؤية في التجسيد الراس ...
- (( الواقع والشاعرية في ... هبوط عابر )) دراسة نقدية لقصة ( ه ...
- استفزاز الذاكرة في (ما بعد الخريف) دراسة نقدية للمجموعة القص ...
- غرائبية اللغة والحدث في نص ( ارتعاشة آخر ليلة ) للقاص عبدالك ...
- ( أنخاب ) / قصة قصيرة
- ( مرايا الشيب ) نص يؤسس لنمط مميز في السرد
- بلاغة الغموض في رسائل الموتى / دراسة نقدية - بقلم الناقد الم ...
- ( مدارج العتمة )
- ( الرفيق ديونيسوس )
- في قباء الكوابيس
- رفيف التجلي
- عند منعطف النسيان
- لمّا أوغلَ فيَّ الفراغ
- في مُقام التجلي
- بيادق محنّطة بالغياب
- للهذيان قامة
- حين أعياهُ العدّ
- ماذا بعد انتخابات 2014


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - امرأة القمر / قصة قصيرة